تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



الصفحات : [1] 2 3 4

ابو وليد البحيرى
2018-02-06, 07:50 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الفاتحة - (1)
الحلقة (1)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
القرآن الكريم هو معجزة هذا الدين الكبرى، ولهذا اعتنى به علماء الإسلام أيما اعتناء، فقد ألفوا مئات بل الآلاف من الكتب في بيان كل ما يتعلق بهذا الكتاب، وكان مما بينوه: تقسيم القرآن إلى سور وأجزاء وأحزاب، وأول ما نزل وآخر ما نزل، وأطول آية وأقصر آية، بل إنهم عدوا آيات القرآن وكلماته بل لقد عدوا حروفه، ولأن الفاتحة هي أول سور القرآن فقد حازت على اهتمام كبير تفسيراً وبياناً، لكونها شاملة لمقاصد القرآن، ولأن صلاة المسلم لا تقبل ما لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب.
فوائد في التفسير
الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على عهدنا بسورة الفاتحة، فتح الله لنا ولكم أبواب الخير والهدى. آمين.
معنى كلمة سورة
هذه سورة الفاتحة. فما معنى سورة؟ ومن أين اشتق هذا اللفظ: (سورة)؟قالت العلماء: إما أن يكون مشتقاً من سؤر الماء أو الطعام، وهو ما فضل وتبقى من شراب أو طعام، وعليه فالهمزة حذفت للتخفيف، بدل سؤر (سورة).وقالوا: جائز أن تكون مأخوذة من سور البلد، إذ هو يحصن البلد ويحميها، أو من سؤر المنزلة وهو علوها وارتفاعها.والعل اء يتلمسون لمَ قيل فيها: (سورة)، ولهم الحق، ولا مانع، وإن لم يكن هناك كبير فائدة، وإذا عرفنا ما قيل في أول سورة تركنا هذا في كل القرآن الكريم.وقيل: هي مأخوذة من السورة التي هي علو الشأن وارتفاعه، واستشهدوا بقول القائل:ألم ترَ أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذبفقوله: (أعطاك سورة) أي: منزلة عالية، ومكانة رفيعة وشأناً، وهي حقاً السورة ذات شأن، وذات منزلة عالية، ومكان رفيع. كيف لا وهي تحوي كلام رب العالمين؟!وإن قلنا: مأخوذ من السؤر بمعنى: بقية من آيات الكتاب، والقطعة من تلك الآيات العظيمة يقال فيها: سورة، هذا من حيث كلمة (سورة).إذاً السورة: هي القطعة من القرآن، مسورة؛ إذ لها بداية ولها نهاية، ذات شأن ورفعة، ومنزلة عالية.
عدد سور القرآن الكريم
كم عدد السور في القرآن؟ إنها مائة وأربع عشرة سورة، أولها الفاتحة، وآخرها الناس.أرأيت إن سألك يهودي أو نصراني: كم سور كتابكم؟ تقول: ما أدري. لمَ ما تدري؟! ما سمعت أبداً من يقول: عدد سور القرآن كذا؟ لا يحق أن نقول: ما ندري. كتابنا، وما ندري كم سورة فيه؟! ينبغي أن ندري، سواء كنا عواماً أو طلبة علم، فلو سئلنا: كم سورة في القرآن؟ أجبنا: مائة وأربع عشرة سورة، متيقنين بذلك.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

أول سورة نزلت في القرآن الكريم
أنت تقول: إني من المسلمين، وعندنا كتاب عظيم، وسوره مائة وأربع عشرة سورة، فلو سألك يهودي: ما هي أول سورة نزلت؟ تقول: سورة العلق اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، وعندنا علم أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء يتحنث الليالي ذوات العدد، حتى فاجأه في ذلك الغار الملك الكريم عليه السلام، في صورة إنسان، والتزمه وقرأ عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1].
آخر سورة نزلت في القرآن الكريم
ما هي آخر سورة؟منهم من يقول: (إذا جاء نصر الله) سورة بكاملها، وهذا لم يثبت ثبوتاً حقيقياً. ومن الجائز أن تكون هي؛ لأنها تنعي لرسول صلى الله عليه وسلم حياته، وقد فهم هذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واسمع: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] وبعد فتح مكة: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:2] هذا عام الوفود، فقد كان في كل أسبوع تأتي وفود: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3]، وهذا فيه نعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بوفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
آخر آية نزلت في القرآن
أما آخر آية فهي قول الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281] هذه من سورة البقرة، لما نزلت قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ضعوها في مكان كذا..وقوله: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ هذا يوم القيامة ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أي: ما كسبته بيديها وعملته بجوارحها لا يُظْلَمُونَ .
أطول آية في القرآن الكريم
إذا سئلت عن أطول آية في القرآن، كأن يمتحنك يهودي أو نصراني، فأنت تقول: عندنا كتابنا، واليهود عندهم كتاب فيه ألف سورة في التوراة، يقول لك: ما هي أطول آية؟الجواب: هي آية الدين من سورة البقرة، وهي بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واسمع طولها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا .. [البقرة:282].إذاً: أطول آية في كتاب الله هي آية الدين، والدين معروف إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ [البقرة:282]، هذا أعطى وهذا أخذ، هذا دائن وهذا مدين، لِم سميت آية الدين؟ لأنها خاصة بالتداين، وطريقة الكتابة، والإشهاد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

فائدة
أقرأ لبعض المؤلفين المعاصرين يكتب في النهاية: وكتبه فلان. فأعجب وأقول: لِم هذه الواو؟ نحن نكتب نقول: كتبه فلان، لما ينهي التأليف يقول: ألفه أو كتبه. هذه الواو لا معنى لها، وإذا بي يأتيني اليوم خطاب، فيقول الكاتب: قاله وكتبه فلان. الحمد لله عرفنا العطف على ماذا؛ قاله وكتبه.الخلاصة أننا تعودنا أن نكتب في نهاية المؤلف: كتبه فلان. فجاء إخوان جدد يقولون: وكتبه فلان، هذه الواو لماذا؟ ما عرفنا لها معنى، فعثرنا اليوم على رسالة جاءت من أحد العلماء من الرياض قال: قاله وكتبه فلان. فتبين أن (كتبه) من الجائز أن يكون ما قاله، فقط نقله أو أملي عليه، لكن إذا قلت: (وكتبه) معناه: قاله وكتبه، خذها فائدة بلا شيء.المهم: يجب أن نفرح بالعلم، على الأقل كفرحنا بالطعام والشراب.
أقصر آية في القرآن الكريم
ما هي أقصر آية في القرآن الكريم؟ أقصر آية تقابل أطول آية.إنها قول الله تعالى من سورة الرحمن: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64]، أي: جنتان مدهامتان، فكلمة (مدهامتان) آية من كتاب الله.
أطول سورة وأقصر سورة في القرآن الكريم
ما هي أطول سورة وأقصر سورة؟الحمد لله العجائز يعرفن، أطول سورة في القرآن هي البقرة، فيها جزءان ونصف؛ خمسة أحزاب.أقصر سورة: سورة الكوثر، إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3].
عدد آيات القرآن الكريم
كم آية في القرآن؛ كتاب الله؟ستة آلاف ومائتان وكسر، منهم من يقول: أربع وعشرون .. ست وثلاثون .. إلى أربعين، وهذا مكتوب عندنا في التفسير.كم آي القرآن؟ كم آية فيه؟ ستة آلاف ومائتان وكسر، وهذا الكسر ما بين: (14- 40).المهم: عرفنا أن آي القرآن أو آيات القرآن: ستة آلاف آية ومائتان وزيادة.
معنى كلمة آية
لم قيل في الآية: آية؟ وما معنى آية؟الآية العلامة الدالة على الشيء، كأن تضع أعمدة في الطريق تدل الماشي على الطريق.الآية في القرآن علامة على أي شيء، تدل على ماذا؟ تدل على أنه: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.ما وجه الدلالة؟ هذه الآية كلمات، من أنزلها، من تكلم بها؟ الله، إذاً: الله موجود، الله عليم، الله حكيم، الله قدير، وقل ما شئت من صفات الكمال.هذه الآية علامة على وجود الله وعلمه وقدرته وإلوهيته، وأنه لا إله إلا هو، علامة واضحة، لو ما كان الله موجود، من أين يأتي كلامه؟! هل هناك غير موجود يتكلم. معقول عندكم وجود كلام بدون متكلم؟ مستحيل هذا، مستحيل أن يوجد كلام بدون متكلم، أليس كذلك؟ فهذا الكلام كلام الله.ومن أين لنا أنه كلام الله؟ الجواب: أنه لم يدعه إنس ولا جن ولا ملك، وقال: هذا كلامي. ولكن الله هو الذي قال: هذا كلامي، فهو دال على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته، وأنه لا إله إلا هو، ودال على أن محمداً رسول الله، لو ما كان رسول الله كيف يوحي إليه كلامه؟! كيف ينزل عليه إياه، لولا أنه رسوله؟! إذاً: فكل آية تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. إذاً: عندنا ستة آلاف ومائتان وأربعون شاهداً.الآية: العلامة الدالة على شيء، مثاله: لو قلت: يا فلان! اذهب إلى فلان وقل له: يعطيك ألف ريال، وإذا سألك وقال لك: ما آية ذلك؟ فقل له: لقاؤك معه في الدكان. فأنت هنا أعطيته آية أو هذه علامة، فهي تسمى آية، وتسمى علامة.إذاً: عرفنا أطول آية، وأقصر آية، وعرفنا معنى الآية، الحمد لله، هذا علم كثير، وخير كثير.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تقسيم القرآن إلى نصفين
ما هو نصف القرآن؟قالت العلماء: من الفاتحة إلى الفاء من وَلْيَتَلَطَّفْ من سورة الكهف هذا نصف القرآن، آية آية وحرفاً حرفاً.لا إله إلا الله، الحمد لله، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة .. سلسلة إلى الكهف، لما تقرأ من الكهف حوالي ثمن الحزب أو أكثر تجد وَلْيَتَلَطَّفْ فتفهم أن الفاء هي الفاصل بين النصف الأول والنصف الثاني، هذه ما هي صعبة، فالقرآن ينصف، وفي المصاحف يكتبون نصفه من الفاتحة إلى الكهف، والنصف الثاني يقولون: من الكهف إلى الناس، ومنهم من يجعل الكهف في النصف الأول، ومن مريم إلى الناس النصف الثاني، لكن بالدقة .. بالحساب .. بالكلمة .. نصفه من الفاتحة إلى قول الله تعالى: وَلْيَتَلَطَّفْ أي: إلى الفاء، الطاء من هنا، والفاء من هنا.إذاً لو قيل لك: ما نصف القرآن؟قلت: من البقرة إلى وَلْيَتَلَطَّفْ من سورة الكهف هذا النصف الأعلى، وبقية المصحف هو النصف الأسفل.
تقسيم القرآن إلى أثلاث
أما إذا أردنا تثليث القرآن، أي: قسمته إلى أثلاث، فإن العلماء قد قسموه وعرفوه، فقالوا: الثلث الأول من الفاتحة إلى الآية المائة من سورة التوبة: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:1].أما الثلث الثاني فمن الآية المائة من سورة التوبة إلى المائة والواحدة من سورة الشعراء.وأما الثلث الأخر فمن الشعراء إلى الناس، فقسموا القرآن ثلاثة أثلاث.
تقسيم القرآن إلى أرباع
أما الأرباع: الربع الأول، والثاني، والثالث، فكل خمسة عشر حزباً هي ربع، مثلاً من الفاتحة إلى الأعراف ربع، ومن الأعراف إلى الكهف ربع، ومن الكهف إلى يس ربع .. وهكذا، أربعة أرباع.
عدد كلمات القرآن الكريم
أما بالنسبة إلى كلمات القرآن فعدد كلمات القرآن سبع وسبعون ألفاً وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة. عرفتم عناية المسلمين بكتاب الله أو لا؟ عدوا كلماته، بعد أن عدوا آياته، بعد أن عدوا سوره، بعد أن عرفوا أنصافه وأثلاثه، وأجزاءه وأحزابه.
عدد حروف القرآن الكريم
كم حرفاً في القرآن؟ سهر عليه الرجال والنساء وعدوه حرفاً حرفاً حرفاً، وعرفوا عدد الحروف؟ قالوا: عددها ثلاثمائة وثلاثة وعشرون ألف حرف وخمسة عشر حرفاً، والحروف هي: (أ. ب. ت. ث. ج ..).هذه عناية عظيمة أو لا؟! كيف يعدون الحروف! الذي عرفهم بعدد السور، عرفهم بعدد الآيات، عرفهم بعدد الكلمات، عرفهم بعدد الحروف.
بين يدي سورة الفاتحة

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
سبب تسمية سورة الفاتحة
أولاً: لمَ سميت بالفاتحة؟الجواب : لأن الله افتتح بها كلامه وكتابه، فهي له كالمفتاح، فإذا أردت أن تدخل في القرآن تبدأ بالفاتحة، ومنها تنتقل إلى غيرها، فهي الفاتحة.
أسماء سورة الفاتحة
ثم هذه السورة لها عدة أسماء يجب أيضاً أن تعرف، فمن الأسماء الثابتة لها في السنة: الفاتحة، أم الكتاب، السبع المثاني، أم القرآن.وتسمى أيضاً بالصلاة، إذ لا تصح صلاة بدونها، وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين: إذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة:2]، قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، قال: أثنى عليّ عبدي. وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، قال: مجدني عبدي. وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل )، فسماها الله تعالى بالوحي إلى رسوله بالصلاة.وتسمى بأم القرآن لحديث: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ) ، وحديث: ( أيما صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ).وتسمى بالسبع المثاني لقول الله تعالى من سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، فلِمَ سميت بالسبع المثاني؟ لأنها سبع آيات، وهي تثنى دائماً في الصلاة وتقرأ، فالسبع المثاني هي سبع آيات تثنى في الصلاة، آية بعد آية بعد آية كالذي يثني ويطوي الشيء على نفسه.وتسمى أيضاً بالشافية، ودليل هذا الاسم: أن الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لجباية الزكاة نزلوا على حي من أحياء العرب، والأحياء عبارة عن خيام، واستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فباتوا جياعاً، وفجأة إذا بسيد أهل الحي قد لدغته عقرب، فجاءوا يصرخون: هل فيكم من يرقي؟ قالوا: نعم. قالوا: إن سيد الحي قد لدغته عقرب، قالوا: نعم نرقيه بشرط أن تجعلوا لنا قطيعاً من الغنم أربعين شاة؟ قالوا: لا بأس. فجيء به، فأخذ الصحابي رضي الله عنه يقرأ عليه الفاتحة، وينفث من ريقته الطاهرة على مكان اللدغة، فقرأ الفاتحة سبع مرات، فقام الرجل كأنما نشط من عقال، وأخذوا القطيع من الغنم، وأبوا أن يذبحوا ويأكلوا، قالوا: ما ندري أيجوز لنا أو لا يجوز حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسأل؟ وامتنعوا من الأكل وثبتوا، على الجوع.وأخذ علماء الشريعة من هذا أنه لا يحل لمسلم القدوم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، فهؤلاء ما دروا: أيحل لهم أو لا؟ فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وكلموه قال للراقي: ( بِمَ رقيته؟ قال: بالفاتحة. قال: وما يدريك أنها رقية؟ فابتسم صلى الله عليه وسلم وقال: خذوا الغنم واضربوا لي معكم بسهم )، أي: أعطونا معكم كبشاً أو نعجة، من باب تطييب خواطرهم، ووالله ما أخذ خروفاً ولا كبشاً.والشاهد عندنا: رقاه بِمَ؟ بسورة الفاتحة، فتسمى الشافية، وتسمى الرقية؛ لأنه رقى بها، وشفى الله بها، فهي الرقية والشافية.وتسمى الكافية، فلو قرأت القرآن من البقرة إلى الناس في صلاة العشاء أو المغرب أو الظهر ولم تقرأ الفاتحة ما يكفي، وصلاتك باطلة، ولو أنك قرأت الفاتحة وآية فقط، يكفيك، وصلاتك صحيحة، إذاً: هي الكافية.والعرب يقولون: كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى.إذاً: عرفنا سورة الفاتحة، كم اسماً لها؟ خمسة بالكتاب والسنة، وزيادة مشتقة ومستنبطة ذكرها أهل العلم.
عدد آيات الفاتحة
سورة الفاتحة كم عدد آيها أو كم عدد آياتها؟ سبع.ما هناك فرق بين الآيات والآي؟ اللفظ مختلف والمعنى واحد، الآي جمع آية، والآيات جمع آية كذلك، فهي سبع آيات.
حكم البسملة في الفاتحة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

هل (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من الفاتحة أو لا؟اختلف أهل العلم هل (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من سورة الفاتحة أو ليست آية؟ مع الإجماع أنها سبع آيات لقول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، فإن عددناها أصبحت ثمان آيات! فما المخرج؟هذا الموضوع كتب فيه العلماء عشرات الصفحات، لكن الخلاصة الذهبية والتي ستدخرونها في صدوركم لا في جيوبكم، هي: أن الفاتحة نزلت مرتين، مرة بمكة ومرة بالمدينة، فنزلت مرة مع (بسم الله الرحمن الرحيم) ومرة بدونها. فمن هنا من قال: هي آية، وقرأها في كل ما قرأ الفاتحة، هو على حق، ومن قال: ليست آية وما قرأها مع الفاتحة لا شيء عليه، وهو على حق، وصلاته صحيحة.يبقى العد، إذا قلنا: بسم الله آية، هيا نعد السبع الآيات: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:1-7]، سبع بالبسملة.إذا قلنا: نسقط البسملة، اسمع! الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1] هذه أولى، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:1-5] خمسة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6] سادسة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] السابعة، سبع آيات، ماذا تقولون؟ هذا علم محرر صحيح، لا تشكوا أبداً، لا نقدم لكم مشكوكاً فيه.فمن هنا: إذا قال الشافعي تلميذ محمد بن إدريس الشافعي: بسم الله الرحمن الرحيم جهراً، وقال المالكي: لا.. لا. لا تلم هذا ولا هذا، هذا يعتقد أن البسملة آية يجب أن يقرأها وإلا فإن صلاته باطلة. وذاك يعتقد أنها ليست بآية، قرأ أو لم يقرأ صلاته صحيحة.ومن ثَم اتحدنا ولم نختلف، واتفقنا ولم نتفرق أبداً، ولاحت أنوار علمنا ومعرفتنا، بخلاف لو كنا لا نعلم فإننا سنتقاتل.
معنى مكية أو مدنية
ما معنى مكية، وما معنى مدنية؟بعضهم يقول: المكية ما نزلت في مكة، والمدنية ما نزلت في المدينة.وهناك ما نزل لا في مكة ولا في المدينة: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] أين نزلت؟ في الطريق، نقول: مدنية أو مكية.إذاً: الذي عليه الإجماع الصحيح: أن ما نزل من القرآن قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني.لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة عام العمرة أو عام الفتح، ونزلت سورة، لا تقل: هذه مكية، قل: مدنية، لِم؟ لأنه أضبط للقضية: ما نزل قبل الهجرة في مكة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة بالمدينة فهو مدني، ولو نزل في الطريق أو مكة.
قراءة في مقدمة عن التفسير من كتاب أيسر التفاسير
قال المؤلف: [سورة الفاتحة وهي مكية وآياتها سبع]. بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:1-7].
شرح الكلمات
قال: [شرح الكلمات: التفسير لغة: الشرح والبيان. واصطلاحاً: شرح كلام الله ليفهم مراد الله تعالى منه، فيطاع في أمره ونهيه، ويؤخذ بهدايته وإرشاده، ويعتبر بقصصه، ويتعظ بمواعظه].تأملوا هذا الكلام، ما معنى التفسير؟ معناه في اللغة: الشرح والبيان. لكن في الاصطلاح القرآني ما التفسير؟ قال: شرح كلام الله. والتفسير لِمَ؟ قال: ليفهم مراد الله منه. ولِم يفهم مراد الله منه؟ من أجل أن يطاع في أمره وفي نهيه، ومن أجل أن يؤخذ بهدايته وإرشاده، إذ القرآن يحمل الهداية والإرشاد، ويعتبر بقصصه، فالقرآن ثلثه قصص، لِمَ القصص؟ للعبرة، ويتعظ بمواعظه، إذ القرآن يحمل المواعظ.قال: [السورة: السورة قطعة من كتاب الله تشتمل على ثلاث آيات فأكثر]، وهي سورة الكوثر، [وسور القرآن الكريم مائة وأربعة عشر سورة، أطولها البقرة، وأقصرها الكوثر].قال: [الفاتحة] ما معنى الفاتحة؟ قال: [فاتحة كل شيء بدايته، وفاتحة القرآن الكريم: الحمد لله رب العالمين، ولذا سميت الفاتحة ولها أسماء كثيرة منها: أم القرآن، والسبع المثاني، وأم الكتاب والصلاة] وكذلك تسمى بالشافية والكافية.قال: [مكية: المكي من السور ما نزل بمكة، والمدني منه ما نزل بالمدينة. والسور المكية غالبها يدور على بيان العقيدة، وتقريرها والاحتجاج بها، وضرب المثل لبيانها وتثبيتها. وأعظم أركان العقيدة: توحيد الله تعالى في عبادته، وإثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقرير مبدأ المعاد، والسور المدنية يكثر فيها التشريع وبيان الأحكام من حلال وحرام]، من تشريع في السياسة وفي الحرب وفي السلم كما علمتم.قال: [الآيات: جمع آية وهي لغة العلامة، وفي القرآن: جملة من كلام الله تعالى تحمل الهدى للناس بدلالتها على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه، وعلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وآيات القرآن الكريم: ستة آلاف ومائتا آية وزيادة، وآيات الفاتحة سبع بدون البسملة].إذاً: نكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-02-07, 10:40 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الفاتحة - (2)
الحلقة (2)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

الفاتحة هي السبع المثاني، ولهذا اتفق علماء الإسلام على كونها سبع آيات، لكنهم اختلفوا في كيفية هذا العد بسبب خلافهم في البسملة هل هي آية منها أو لا، كما اتفقوا على مشروعية الاستعاذة أول القراءة واختلفوا في مشروعية الاستعاذة عقب القراءة، وبعد الاستعاذة والبسملة تأتي آية الحمد المقررة بأن الحمد كله لا يستحقه إلا الله سبحانه وتعالى، لأنه سبحانه وحده من جمع صفات الكمال والجلال.
ذكر بعض أحكام البسملة
عرفنا -زادكم الله علماً ومعرفة- مسبقاً أن الفاتحة سميت بذلك لأنها فاتحة كتاب الله، وعرفنا أن عدد آيها سبع آيات. ‏
حكم البسملة في سورة الفاتحة
أما هل (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من سورة الفاتحة أو ليست آية منها؟ فقد عرفنا أن الخلاف فيها شديد، ونحن نخرج منه بإذن الله بأن لا نتمذهب فنتعصب لمذهبنا فنقول: نحن مالكية لا نقول بمشروعيتها، أو نقول: نحن شوافع يجب أن نقرأها، بل نحن نسلك مسلك الصحابة والتابعين، فإنها قضية اجتهادية، فنقول: نحن نقرأ بسم الله الرحمن الرحيم كلما قرأنا الفاتحة، فإن جهرنا بالقراءة كما في صلاة المغرب والعشاء والصبح، وكنا أئمة نصلي بالمؤمنين نسرها ولا نجهر بها، ولكن نقولها: بسم الله الرحمن الرحيم، فنوافق ما صح عن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم وصاحبيه الشيخين: أبو بكر وعمر، إذ قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ( صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووراء أبي بكر ووراء عمر فكانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين ) ونبسمل سراً؛ لما ثبت أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يوماً وجهر بالبسملة وسمعوها.ثم بهذا المسلك السليم لا توجد فرقة بيننا، ولقد اشتدت الفرقة في بعض الظروف، حتى إن فلاناً لا يصلي وراء فلان؛ لأنه يخالف مذهبه، وهذه النزغات سببها عدونا إبليس، فهو يريد أن يثير الفتن والمتاعب والشغب، ويفرق كلمة المسلمين.كما علمنا أنها -أي: الفاتحة- نزلت مرتين، مرة مصحوبة ببسم الله الرحمن الرحيم، ومرة بدونها، فمن هنا من قال: بسم الله الرحمن الرحيم آية من سورة الفاتحة، نقول له: صدقت يا أخاه، ومن قال: لا، افتتحت بها فقط كسائر السور وليست بآية، ولكن مشروع الافتتاح بها، قلنا: نعم؛ لأنها نزلت أيضاً بدونها، ومن ثم لا يكفر بعضنا بعضاً؛ لأن من يتعمد إسقاط آية من كتاب الله كفر بالإجماع، كما أن من يتعمد زيادة كلمة واحدة في كتاب الله كفر بالإجماع، فللخروج من هذا المضيق نقول بنزول الفاتحة مرتين، وقد ثبت أنها مرة نزلت مصحوبة ببسم الله الرحمن الرحيم، ومرة بدونها، فأصبحنا إخواناً على سرر العلم والمعرفة متقابلين، لا حقد، ولا حسد، ولا عجب، ولا كبر.وعرفنا -زادكم الله معرفة- إذا قلنا: بسم الله الرحمن الرحيم آية، فأين الآيات الست الباقية؟ فعددنا: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1] آية أولى الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] الآية الثانية، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] الآية الثالثة، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] الآية الرابعة، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] الآية الخامسة، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] السادسة، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] السابعة؛ لأن البسملة عددناها آية.هيا نسقط: بسم الله الرحمن الرحيم ولا نعدها آية، فنقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أولى، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثانية، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ثالثة، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ رابعة، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ خامسة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ سادسة، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ سابعة.في هذا العلم بركة أو لا؟ ما تفرحون؟! ذكرت لكم سابقاً فوائد استفدناها، ففرحنا أمسية كاملة، فكيف ما نفرح بهذا العلم، والله تعالى يقول: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، فكوننا نفرح بالدينار والدرهم، أو بالولد والزوجة، أو بالدار والبستان، هذا له قيمة؟! قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58] والعلم فضل الله ورحمته.
من أحكام الاستعاذة

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
المراد بالاستعاذة
ما المراد من الاستعاذة؟هي قولنا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يقال: استعذ بالله يا فلان من الشيطان الرجيم، أي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وفلان استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، كيف فعل؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.ومثل الاستعاذة البسملة. ما معنى بسمل؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم. ما معنى حوقل؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ما معنى استرجع؟ قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. ما معنى هلل؟ قال: لا إله إلا الله. ما معنى كبر؟ قال: الله أكبر .. فهذه اختزالات معروفة عند العرب، وموجودة قبل القرآن والإسلام، يحذفون بعض الحروف، ويربطون الكلمتين ببعضها البعض، كعبد شمس يقال في النسب إليه: عبشمي.
حكم الاستعاذة عند قراءة القرآن وموضعها
ما حكم الاستعاذة والله يقول وقوله الحق: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]؟ هذا خطاب موجه إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، إلى إمامنا وقائدنا وأسوتنا ومرشدنا وهادينا ونبينا ورسولنا .. قل ما شئت، ونحن إن صدقنا في اتباعه نتبعه، فما يطالب به هو، ويرشد إليه، ويؤمر به نحن معه، إلا ما دل الدليل على الخصوصية فقط، وهذا نادر.إذاً: قول ربنا تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] معناه أن من أراد أن يقرأ القرآن سواء سورة أو آيات أو آية من السنة أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن كان مع السورة أضاف: بسم الله الرحمن الرحيم، فإن كان بدون سورة: آيات من أول أو من آخر أو وسط السورة يكتفي بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ومن زاد بسم الله الرحمن الرحيم فلا تغضب وتحمر عينيك وتقول: ابتدعت، وتضيق على الناس ما وسع الله.إن الطريقة المسلوكة التي مشى عليها أكثر المؤمنين والمؤمنات: إن بدأت بالسورة قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم يس [يس:1]، وإن بدأت بآيات تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285] الآيات، وإن قال أخونا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي .. [الأعراف:54] لا تغضب؛ لأن الله تعالى قال لنا: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، قال: أنا أقرأ، لم تقل: لا تستعذ، عرفتم هذه أو لا؟ ذي ذات قيمة؛ لأننا ما نريد أن توجد أسباب الفرقة بيننا، نريد أن تتصافى قلوبنا، وتتعانق أرواحنا، ويعرف كل منا لأخيه حقه، في احترامه وإكباره وتقديره، أو ما أنتم مستعدون لهذا؟ لم إذاً ندرس كتاب الله؟! ما الفائدة من قراءة كتاب الله وتفسيره، أليس من أجل أن نعرف الطريق إلى الله، لنقرع باب دار السلام؛ وذلك بمعرفة محاب الله ومكاره الله، والاستعانة بالله على فعل المحاب، وعلى ترك المكاره.إذاً: اختلف العلماء هل الاستعاذة تكون أول القرآن أو بعد نهايته؟فقال بعضهم: تكون أول القرآن، تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: طس [النمل:1]، أو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي .. [الأعراف:54] الآيات.وقال بعضهم: الاستعاذة آخر الآيات. لم؟ قال: إن ربي تعالى قال: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [النحل:98]، أي: وفرغت منه: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] كيف لا والآية صريحة؟! فردوا عليهم بأن هذه الآية نظيرها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، وهل إذا قمنا للصلاة نتوضأ أو نتوضأ أولاً، وإذا قمنا للصلاة دخلنا فيها وصلينا؟قالوا: نتوضأ ثم نصلي، لكن هذه الآية لها مدلول غير هذا، الاستعاذة لمَ؟ تستعيذ أنت ممن تخاف؟ تفزع إلى ربك وتلجأ إليه من عدو، وهذا العدو كما يصرفك أولاً يصرفك آخراً، والصرف الأخير أصعب، فقد يحملك على أن تعجب بنفسك، فيفسد عملك كله.لو بت طول الليل تقرأ وختمت القرآن، ثم نفخ فيك روح الكبر والعجب، وأصبحت تشعر بأنك أفضل أهل البلد ذهب ذلك كله، وهو يتربص بك هذه المواقف، انتبه! فلهذا اصرفه عنك، فرغت من الآية: وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3] أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يحزن الشيطان أو لا؟ يكرب أو لا؟ يحزن ويكرب؛ لأنك ما فتحت له الباب، ما أذنت له أن يدخل وأغلقت الباب.وعلى منهجنا -أيها الأبناء- وطريقتنا أننا نرغب في الخير ونطلبه متى لاحت أنواره في الأفق ما عدلنا عنه ونحن قادرون على الأخذ به.فنقول: من الآن إذا قرأ أحدنا القرآن حزباً أو جزءاً أو سورة وفرغ أي مانع أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أما فيه خير؟ أما فيه وقاية؟إذاً: جمعنا بين المذاهب وأصبحنا جماعة واحدة، لكن أخشى من أحدٍ أن يقول: كيف أنت تبتدع؟ بدعة هذه تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟! ينظر إليه أنه منعه من الخير، وصرفه عنه، وأنه تكبر عليه وترفع، واستطاع العدو أن يجد مسلكاً لتفريق القلوب وتشتيتها، هل فهمتم هذه؟إذاً: ما دامت الآية صريحة: فَإِذَا قَرَأْتَ أي: الْقُرْآنَ وفرغت، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لمَ؟ لأنه يحملك على العجب فيبطل عملك، فيتركك تقرأ وتقرأ سليماً معافى، وهو منتظر، ما إن تفرغ حتى ينسف ما قرأته، إذاً: فلا تمكنه، فأي مانع أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟ وخاصة إذا شعرت بحركة وطاف حولك؛ لأنه كالطائرات المغيرة، فإذا كان هناك أجهزة رادار قوية ما يستطيع، وإذا كان لا أجهزة، ولا رادار، أو أجهزة فارغة ما تنفع يضرب.أين الآية التي أرشدتنا إلى هذا وعرفناها من قديم من سورة الأعراف، هي قول الله تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:200-202]، عجب هذا القرآن! آية من سورة الأعراف، فالمؤمن التقي يملك جهاز رادار، ووالله ما يملكه أحد على وجه الأرض إلا مؤمن تقي، والإنسان الكافر أو الفاجر -والله- ما يملك هذا الرادار أبداً، وليس من نصيبه ولا حقه، واقرءوا: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:200-201] اتقوا من؟ ربهم. إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ [الأعراف:201]، تعرف الطائف والطيف كيف يدور أو لا؟ حول الحمى، تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فيرحل، وإخوان الشيطان: يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الأعراف:202] فيغمسون وجوههم وأنوفهم في العذرة، أي عذرة يا شيخ؟ تدري ما هي؟ والله إن زنية، أو لقمة ربا، أو شتمة مؤمن، أو أخذ ريال باطل أفظع وأكثر خبثاً من أن تغمس وجهك في العذرة؛ لأن هذا يغسل ويزول، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202]، لا يقصرون بعد.وآية النور النوراني .. الرادار الرباني من سورة الأنفال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ هذا جزاء أو لا؟ هذا جواب الشرط: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ ماذا؟ فُرْقَانًا ما الفرقان هذا؟ نور تفرق به بين الحق والباطل والخير والشر، والصحيح والفاسد، والنافع والضار، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، وما إلى ذلك. هذا النور هو الفرقان، نصيب من هذا؟ أهل التقوى؛ لأن المتقين تجنبوا ما من شأنه أن يفسد القلوب والأرواح، ولأن ترك الواجبات معصية الله ورسوله فيما أمر به، ومن شأن هذه المعصية أن توجد مادة خبيثة منتنة عفنة تسمى السيئات، كما أن غشيان الذنوب بفعل المحرمات واعتقادها وقولها تجلب أيضاً تلك المادة العفنة المنتنة، فتسود النفس وتخبث، وحينئذ كيف يفرق بين الحق والباطل والخير والشر والنافع والضار، وهو كالأعمى لا نور له! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يعطيكم ماذا؟ يجعل لكم نوراً، وهذا النور هو الفرقان، وسمي فرقاناً لأنه كثير الفرق، وهو أعظم من (فارق)، فمن هنا عرفنا أن من يتقي الله في أي شيء يعطى الفرقان فيه، ما معنى هذا؟راعي غنم اتقى الله تعالى في غنمه؛ يرعى بها أماكن العشب والكلأ، وينتجع لها العشب الملائم، ويرعاها من الذئاب أن تأكلها، فهو محافظ عليها، يعطى فرقاناً، ويصبح أحسن راعي غنم، ويرغب الناس في إعطاء أغنامهم له. صاحب دكان يبيع البقول، يتقي الله تعالى في دكانه فيما يدخل وفيما يخرج، فيما يبيع وفيما يشتري، ويراقب الله فلا تزل له قدم، ولا يخرج عن طاعة الله في شيء، فلا يزال كذلك حتى يعطى الفرقان فيصبح أحسن بقال في المدينة، ويعطى النور.أتنزل معكم؛ مؤمنة تريد أن تطبخ الشاي الأخضر الذي يليق بالشرب، والراغبين فيه، تتقي الله عز وجل في ذلك وتراقب الله؛ تريد أن يكون هذا الشاي نافعاً محبوباً، ينفع الله به الشاربين، ويكون كرامة لهم، ترغب في ذلك فتأخذ تزن المقادير وتقدرها؛ الماء والشاي والسكر والنعناع المغربي، حتى تصبح ذات فرقان، تحسن طبخ الشاي.إذاً: فكيف بالجنرالات، وقادة الحروب، ورجالات السياسة والاقتصاد؟ إذا لم يكن لهم هذا الفرقان أنى لهم أن يفوزوا أو ينجحوا أو ينجحوا غيرهم، ومن أراد الدليل نظر إلى ساسة العروبة والإسلام كيف هم هابطون إلى الحضيض، فأين نتائج التقوى، وهل هم متقون؟ما هي التقوى؟ هي خوف من الله يملأ قلبك فيحملك على طاعة الله، ولو طلب منك بذل نفسك بذلتها طلباً لرضاه، ومن هنا اختلت موازين الحياة عند المسلمين؛ لعدم وجود أهل الفرقان، ومن وجد في بلد وهو ذو فرقان والله تتجلى آثار ذلك في بلده.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

حقيقة كون البسملة آية في سور القرآن كلها
هنا سؤال: هل بسم الله الرحمن الرحيم آية في كل سورة؟ الجواب: الذي عليه جمهور المؤمنين أن البسملة بعض آية قطعاً في سورة النمل فقط بالإجماع؛ لأنها جزء آية من سورة النمل، وهي في قول الله تعالى في كتاب سليمان عليه السلام إلى الملكة بلقيس ، إذ الكتاب هكذا: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:30-31] برقية هذه أو لا؟ عجب! برقية أدت العجب: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ لمَ ما قدم بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: هذه رسالة إلى كافرة، وممكن إذا سمعت بالله أن تهين اسم الله عز وجل، فجعل اسمه وقاية: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مضمونه: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ، وما قال: وائتوني خاضعين أذلاء منكسرين، فهو لا يريد إذلال البشر وإخضاعهم إلا لله، وأتوني مسلمي القلوب والوجوه لله.أما رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والرؤساء فنصها: ( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم )، فما خاف أن يهان اسم الله كما خاف سليمان، فلهذا قدم بسم الله الرحمن الرحيم، وهذه الآن سنتنا، اسمعوا: ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر )، أي: ناقص، تعرفون الأبتر؟ مقطوع الذنب كالكبش الأبتر.فعلينا معاشر المؤمنين والمؤمنات! أن نستفتح أعمالنا ببسم الله، فالآكل يقول: بسم الله، والشارب يقول: بسم الله، والكاتب يقول: بسم الله، والخطيب يقول: بسم الله .. وكل شئوننا نفتتحها ببسم الله، متبركين بذلك، ومستمدين القوة والقدرة على العمل وإنجازه بذلك بحسب الحال.أما هل بسم الله الرحمن الرحيم جزء من كل سورة في القرآن؟ فنقول: هي مفتتحة ببسم الله، والرسول هو الذي أمر أصحابه أن يجعلوها في بداية كل سورة كالمفتاح لها، وهنا القراء منهم من يقرأ ولا يفصل بين السورتين ببسم الله الرحمن الرحيم، فنقول: سواء كان ابن كثير أو أبو عمرو أو غيرهم فهذا شأنهم، فنحن ما ألزمناه؛ لأننا ما قلنا: آية في أول كل سورة، فإذا أرادوا اختصار الوقت، والرغبة في السورة لم يبسملوا، فيقرءون مثلاً: بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3]، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وهذا شأنهم.وبعض القراء يفصل، وبعضهم لا يفصل، وهم أمناء على هذا، ونحن لا نلوم الفاصل ولا الواصل، لكننا هل نحن نصل بأن نقرأ السورة ونصلها بالأخرى أو نفصل؟ الجواب: نحن نفصل هنا ولا نصل، نعم نصل المعروف وأهله، لكن هنا، في هذه القضية إذا قرأنا وانتهت السورة نفتتح الأخرى ببسم الله الرحمن الرحيم، ومن وصل هنا لا شيء أبداً عليه، ولا نلتفت إلى أنه فصل أو وصل.
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].وقرئ (الحمدَ لله ربَّ العالمين) قراءة لكن ليست مشهورة ولا مقروءة فنترك هذا، وقرئ (الرحمنَ الرحيمَ)، وقرئ (الرحمنِ الرحيمِ)، وقرئ (الرحمنُ الرحيمُ)، لكن ليس هناك حاجة إلى توسعة الدائرة؛ أما النعت عندهم فيجوز رفعه على الابتداء، ونصبه على المدح، وجره بحسب ما تقدم، ولكن لا ندخل هذا في نفوسنا، فقط من أجل لو قرأ قارئ: (الحمد لله ربَ العالمين) (الرحمنَ الرحيمَ) لا تقل: كفر! أو تقول بالهراوة: لم تفعل؟ أو قرأ (الرحمنُ الرحيم) لا تغضب؛ لأنه يجوز، النعت تقطعه ويكون خبراً، والمبتدأ: هو.ونحن لا نريد الخلاف، ولا نرغب فيه، ولا نشيعه أبداً، فإذا ذكرنا قضية كهذه ليس معناه أني أجزت لكم أن تقولوا هذا وتشوشوا على الناس، فقط إذا قرأ قارئ وقطع أو نصب على المدح لا تغضب وتقول: هذا حرام ولا يجوز وحرَّف كلام الله، هذا يقوله من لم يعلم، أما من علم مثلنا الآن ما يغضب ولا يعيب عليه، هل أدركتم هذه القضية؟إذاً: لو سمعنا قارئاً يقول: (الرحمنُ الرحيمُ) أو (ربُّ العالمين)، أو نصب على المدح: (ربَ العالمين) (الرحمنَ الرحيم) إذا كان من أهل العلم نقول: هذا من أهل العلم، هذا عرف أن هذا يجوز، أما العامي أنى له أن يعرف هذا؟على كل حال نحن -كما اتفقنا- إذا جاءت مسألة أفدنا بها طلبة العلم؛ لأنهم هم المسئولون من جهة، وهم الذين عليهم أن يحافظوا على وحدة المؤمنين ووحدة قلوبهم، فإذا عرفوا أسباب الخلاف استطاعوا أن يخرجوا منه، وإذا ما عرفوا يوقدون النار إذاً.
معنى الحمد
قوله: الْحَمْدُ أل هنا للاستغراق، فلا يبقى من حق إنسان كائن الحمد، فقد استغرق الله الحمد كله. وأل للاستحقاق فالله استحق الحمد كله، لمَ؟ لأنه رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، فكيف لا يستحق الحمد؟!إذاً الْحَمْدُ جميع المحامد المستحق لها هو الله.ويجوز أن نحمد أي شخص على صفة من صفاته، لكن لا نقول: لك الحمد، نقول: فلان شجاع، كريم، ذكي، تقي، شريف، طويل، جميل، أديب، هذه كلمات المدح، فمعنى المدح الوصف بالجميل، ومن وصف شيئاً بالجميل من الصفات مدحه وحمده، ومن وصف شخصاً بما يذم من صفات القبائح والرذائل يقال فيه: ذمه.ونحن هنا نسلك مسلكاً رشيداً نبوياً، فنوقن أن الحمد من حق الله تعالى، إذ هو المستحق له بجلاله، وكماله، وقدرته، وعلمه، وإرزاقه، وإفضاله، وإدارة الكون كله، فهو صاحب الحمد.وقد أذن الله تعالى لنا أن نحمد في حدود معينة:أولاً: أن نذكر الصفة الجميلة فيمن هي له وهو متصف بها، ولا نغالي ولا نبالغ، ولا نوسع الدائرة: فلان صالح تقي، جميل، كريم، ونحن على علم بما وصفناه به، ولو وصفناه بغير ما فيه كذبنا وافترينا على الله.ثانياً: أن لا نمدحه في وجهه، فلم يأذن لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نمدح المرء في حضرته، واذكروا دائماً قوله للذي مدح أخاه في حضرته، قال: ( لقد قطعت عنق أخيك )، ومدح آخرون أيضاً شخصاً في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ( لقد قصمتم ظهر أخيكم )، فإذا أردت أن تذكر مؤمناً بخير اذكره في غيبته، ولا تذكره في وجهه، وثبت أن المقداد كان في حضرة عثمان رضي الله عنه والأصحاب حوله، فمدحه رجل فقام المقداد وأخذ حفنة من تراب ورماها على وجهه، فصاحوا، قال: اتركوني لقد سمعت خليلي يقول: ( احثوا التراب في وجوه المداحين ).لكن ما هو السر في كراهية المدح في الوجه؟الجواب: لما يعلم من أن الإنسان بضعفه في فطرته وخلقه وتكوينه وتركيبه؛ من شأنه إذا مدح وإذا أثني عليه أن ينتفخ، وإذا انتفخ غطى ما حوله وارتفع وأصبح لا يرى إلا نفسه، فإذا عمي هذا العمى، وأصبح لا يرى إلا ذاته ماذا استفاد الناس منه؟ انقطعت صلة الخير منه.ومن الأمثلة على ذلك ما قد يقوم به مدير مدرسة ابتدائية مع الأساتذة بمدح أحد الطالب بأنه: ذكي .. حافظة .. كذا، وهؤلاء قد سمعناهم وعشنا معهم، والنتيجة أن ذاك الممدوح يأخذ في الانتفاش، وبعد أن كان يحفظ صار لا يحفظ، وبعد أن كان يعد الدرس صار لا يعده. فمن قتله؟ قتله الذين مدحوه، فاغترّ.وعندنا أيضاً مدح الغافلين والهابطين والجاهلين في ديارنا للمرأة: المرأة نصف المجتمع، وهي العامل الأول، وهي كذا وكذا. فانتفخت عليهم المرأة، وانتفشت وطارت، وأخذت الوظائف عليهم وأهانتهم، وأصبحت كل شيء في المدينة، بسبب ماذا؟ أنهم مدحوها ونفخوها بالكذب.والمدح بالباطل حرام من كبائر الذنوب، وهو شهادة الزور وقول الزور، تقول لأعمى: يا ذا البصر، تقول لشحيح: يا كريم، ويا سخي! أو تقول لجاهل: يا عالم. حرام هذا عندنا؛ لا يجوز.إذاً: هذا الموضوع موضوع اجتماعي، سياسي، روحاني، أدبي، لو نجلس أسبوعاً كاملاً علنا نكتسب هذا النور.من المستحق للمدح؟ الواهب المعطي، فهذا جميل مَنْ جمله؟ المدح لله، هذا ذكي؛ مَنْ أعطاه هذا الذكاء ووهبه إياه؟ الله. هذا غني، مَنْ أغناه؟ هذا عالم من علمه.. إذاً: الحمد لله فقط، وأذن لنا أن نقول: فلان كذا، وليس في حضرته وبين يديه، بل في غيبته، أما أن نمدحه في حضرته، لا، أسأنا إليه، ونخشى أن نكون قد مزقناه أو قصمنا ظهره.هذه آدابنا الرفيعة أخذت من هذه الآية: الْحَمْدُ لِلَّهِ .
العلاقة بين الحمد والشكر
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

الحمد يقابله الشكر، وبينهما عموم وخصوص، فالحمد: الثناء باللسان بصفات الجلال والجمال، وأما الشكر فهو باللسان وباليد وبالقلب كما قال الشاعر:أفادتكم النعماء مني ثلاثةيدي ولساني والضمير المحجباإذاً: المدح بآلة اللسان خاصة، والشكر بثلاثة: باللسان واليد والقلب.والشكر يكون فقط على النعم لا أقل ولا أكثر، والمدح يكون على النعم وعلى الصفات.
كلمة الحمد لله ينبغي أن لا تفارق المسلم في أحواله كلها
الحمد لله هذه الكلمة ينبغي أن لا تفارقنا في: أكلنا، شربنا، ركوبنا، نزولنا، دخولنا، خروجنا، تلاقينا.الحمد لله مثل بسم الله، نبدأ ببسم الله، ونختم بحمد الله؛ لأننا أمة سمت فوق العالم بأسره؛ وذلك بسبب هذه الكمالات التي كانت تعيش عليها. حتى أننا سمينا في الكتب السالفة بأمة الحمد، وفي بعض الآيات في التوراة والإنجيل الحمادون، فالحمادون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولمَ قيل فيهم: الحمادون؟ مريض في سكرات الموت: كيف حالك يا بني؟ الحمد لله. يقتله الظمأ ويكاد أن يموت، كيف حالك؟ الحمد لله، أنا عطشان! حتى إذا أردنا أن نركب الدابة والبهيمة نحمد الله عز وجل، وهذا لا يوجد عند اليهود والنصارى و.. و..وإذا حمدنا الله لابد وأن تتجلى لنا آلاؤه وأنعامه علينا؛ ليكون حمدنا على علم.
استحقاق الحمد
ومما يدل على أنه لابد لمن يُحمد أن يكون له ما يستحق به الحمد ما أرشدنا إليه ربنا فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ لم، ما مقتضي الحمد، ما موجبه؟ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، مالك الكون كله ومدبره والحاكم فيه ما يحمد؟ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الذي أغدق رحماته وصبها على أهل الأرض والسماء ما يحمد؟ وهكذا مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، فعرفنا أننا لا نحمد إلا من يستحق الحمد، فإن حمدنا من لا يستحق كذبنا، وقلنا الزور، وشهدنا به، وأثمنا.كذلك لا نبالغ، ولا نغالي، ولا نكثر، واذكروا قول حبيبكم صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وإنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا: عبد الله ورسوله )، ما تقولوا: مولانا محمد أبداً، أنا عبد الله، قولوا: عبد الله ورسوله، هكذا طالبهم، أما أن ننفخ فيما لا ينبغي، حتى قال القائل: لولاك ما كان كذا وكذا، فلا.المهم معاشر المستمعين والمستمعات! نحمد الله على كل حال، والحمد رأس الشكر، وأن العبد إذا أنعم الله عليه بنعمة، مهما كانت في عظمها وعلو شأنها وكثرة منافعها فقال: الحمد لله على تلك النعمة، والله إلا كان قوله: الحمد لله أفضل من تلك النعمة، وبهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-02-13, 02:00 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الفاتحة - (3)
الحلقة (3)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg


افتتحت الفاتحة بالبسملة للدلالة على مشروعيتها في بداية كل عمل مشروع، ثم كانت الآية الثانية بياناً لكون الله وحده هو من يستحق الحمد المطلق؛ لأنه واهب النعم ومعطيها، وهذا لا يمنع حمد المخلوق على صفة حميدة فيه، لأن هذا حمد مقيّد، واستحق الله الحمد المطلق لصفات كماله المطلقة التي منها أنه رب العالمين أي خالقهم وسيدهم ومربيهم، كما أنه الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء.
مراجعة لما سبق الكلام فيه من مراجعات في التفسير

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:1-7].هذه السورة عرفنا -وزادنا الله معرفة- أنها تسمى بأسماء كثيرة؛ وذلك لشرفها وعلو مكانتها، فتسمى الفاتحة، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والشافية، والكافية، وأم القرآن.كما عرفنا أنها نزلت مرتين: مرة بمكة وأخرى بالمدينة، ومرة معها بسم الله الرحمن الرحيم ومرة بدونها.ومن هنا عرفنا أنه لا خلاف بيننا؛ فمن بسمل على حق، ومن ترك البسملة على حق، فلا خلاف، ولا فرقة بيننا.ومن المعارف التي تتعلق بهذه السورة ما عرفناه عن الاستعاذة والبسملة، فالاستعاذة: هي قولنا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والبسملة: هي قولنا: بسم الله الرحمن الرحيم.ولهذا اللفظ نظائر كحوقل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكاسترجع إذا قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وكهلل إذا قال: لا إله إلا الله، وككبر إذا قال: الله أكبر.إذاً: الاستعاذة مشروعة عند بداية القراءة سواء كنت تقرأ آيات أو سورة، فإذا كانت أول السورة أضفت إليها بسم الله الرحمن الرحيم، فتقرأ هكذا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم طس [النمل:1]، وإن كنت تقرأ من داخل السورة وأثنائها فتكتفي بالاستعاذة، فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ [الملك:19] وتواصل قراءتك.ومما علمناه أنه يشرع أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم بعد فراغنا من التلاوة، فنستعيذ أول القراءة ليحفظنا الله من وساوس العدو وإملاءاته التي تذهب وتشرد بنا عن هذا النور الذي نعيشه تلك الساعة، ونستعيذ بالله -أيضاً- عند نهاية القراءة حتى لا يحملنا على الكبر والعجب؛ فيبطل عملنا، ومن هنا اتفقنا مع علماء الإسلام فلا نزاع ولا خلاف أبداً، وأمرنا واحد؛ إذ ليس لنا مبدأ التشدد: مذهبي .. طريقتي، هذا ما عندنا أبداً، فهل سمعتم منذ أن اجتمعنا على كتاب الله وسنة رسوله أن نقول: نحن الحنابلة، أو نحن الأحناف، أو المالكية؟ لا أبداً، نحن المسلمون عباد الله، نعيش على نور الله، ونسلك سبيل الله، صراطه المستقيم، قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم.ومن هنا لا توجد فرقة، والفرقة تسبب الضعف وتوجد آثاراً سيئة، بل توجد حتى البغضاء والعداء كما هي فطرة الإنسان.إذاً: عرفنا كيف نستعيذ؟ ولماذا نستعيذ؟ وعرفنا باسم من نبدأ: بسم الله الرحمن الرحيم، لا باسم السلطان، ولا باسم الشعب، ولا باسم الحزب، ولا باسم ليلى ولا سلمى .. وإنما باسم الله.
تفسير قوله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم)

الجار والمجرور في بسم الله

قوله: بِسْمِ اللَّهِ [الفاتحة:1] هذا الجار والمجرور فما معنى الجار والمجرور؟ عندما يقوم -مثلاً- عبد الله بجر منصور من رجله، فمن الجار ومن المجرور؟ المجرور منصور، والجار عبد الله.إذاً: عرفنا الجار والمجرور كما عرفه النحاة عملياً.والباء في قوله: بِسْمِ اللَّهِ حرف جر، والميم من (بسم) مجرورة، وحركة الجر كسرة من تحت، وأنت إذا جررت الشيء سحبته على الأرض وترك أثراً، وهذا معنى قولنا -من اليوم إلى أن نختم القرآن-: الجار والمجرور، وحروف الجر كثيرة، من أبرزها هذه الباء.وهذا الجار والمجرور له متعلق، ولا يوجد جار ومجرور بلا هدف، فلما قام عبد الله وجر منصوراً لأي شيء؟ لا بد لغرض؛ كأن يريد أن يبعده عنا.إذاً لا بد من تقدير شيء من أجله الجار والمجرور، والتقدير: باسم الله أفتتح قراءتي أو باسم الله أبتدئ قراءتي، كما تقول عند الأكل: باسم الله أبتدئ أكلي، باسم الله أركب دابتي، باسم الله أخاطبكم، أي: أبتدئ عملي بإذنه وبالتبرك باسمه؛ لأن اسم الله فيه بركة، بل هو مصدر كل بركة عرفها الكون ووجدت فيه.
الحكمة من قول: بسم الله

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
يبقى لمَ نقول: باسم الله؟الجواب: نقول ذلك لأننا بإذنه نشرب ونأكل، ونعطي ونمنع؛ ولأننا عبيده لا تصرف لنا إلا بإذنه، فما أذن فيه فعلنا وقلنا واعتقدنا، وما لم يأذن لا نقول ولا نفعل ولا نعتقد.ومن هنا هل يجوز لمن يشعل سيجارة أن يقول: باسم الله؟الجواب: هذا حرام عليه، وكذب على الله.وهل يجوز لمن يتناول كأس خمر أن يقول: باسم الله؟الجواب: هذا كذب على الله، بل يتضاعف الجرم؛ لارتكابه المحرم وفعله إياه، ثم الكذب على الله.ومن هنا تعرفون لماذا تقال كلمة باسم الله؟ أقول: باسم الله أبدأ قراءتي .. أبدأ صلاتي .. أبدأ أكلي .. أبدأ شربي .. لأنه أذن لي وأنا عبده، ولولا إذنه لي في الكلام والطعام ما قلت، ولا أكلت.لكن هل تقول: باسم الله ثم تأخذ في سبنا وشتمنا والتعيير بنا؟ آلله أذن لك؟ تكذب على الله؟لكن إذا قلت: باسم الله وأخذت تعظنا، تذكرنا .. نعم، أذن الله لك في ذلك، بل أمرك ودعاك إلى وعظنا وإرشادنا.
كثرة أسماء الله

قوله: بِسْمِ اللَّهِ [الفاتحة:1]، من هو الله؟ هو رب العالمين، ( إن لله تسعة وتسعين اسماًمائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة )، بهذا أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في بعض الروايات أن أسماء الله خمسة آلاف اسم، وهي بهذا العد قليلة! فالذي خلق الذر والكون من ملايين السنين كم اسماً له؟ فالذي يدعوه كل شيء ويناديه كل شيء، ويطلب كل كائن في السماوات والأرضين ما يبعد أن تكون له مئات الآلاف، لكن الذي بلغنا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم مائة اسم إلا واحداً، أي: تسعة وتسعين اسماً.ويجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف هذا العدد، ويجب أن يعرف أسماء مولاه، فأنت مفتقر ومحتاج إليه، إذا أردت أن تدعوه ماذا تقول: يا هو، كما يقول الغافلون؟ بل تقول: يا ألله! يا رحمن! يا رحيم! يا بديع السماوات والأرض! يا ذا الجلال! يا حي! يا قيوم! يا مالك الملك! يا عزيز! يا جبار! يا غفار! فادعه وناده بأسمائه واطلب؛ إذ أرشدنا إلى هذا في قوله من سورة الأعراف: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] أي: نادوه بها؛ ليجبكم ويقض حاجتكم.ومما يؤيد أن أسماء الله تعالى فوق تسعة وتسعين قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي )، فاسأل واطلب، ولا مانع أن تطلب ما شئت، والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في هذا الحديث أن لله أسماء استأثر بها وما علَّمها، بل هي في الغيب، فلهذا إن قيل: إن لله خمسة آلاف اسم فليس بكلام باطل أبداً، فقط لا نستطيع أن نطلق اسماً على الله لم نحفظه عن رسول الله، وإلا كنا مفترين كاذبين على الله، وقول بعض الغافلين: يا هو هو! أو يا هو! هذا خطأ، فليس من أسماء الله يا هو هو! أو يا هو! أو هو أبداً.وهذه الأسماء مفرقة في الكتاب والسنة النبوية، وقد جمعها السلف الصالح وهي محفوظة ومكتوبة، فلا نستطيع أن نقول: هو من أسماء الله تعالى، وهناك شبهة في قول الله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [الحشر:22-23] والأعجمي قد يلتبس عليه ويقول: هذا اسم، لكن العربي يعرف أن هذا ضمير يؤتى به للتبجيل والتعظيم، أو للتهويل والتكبير، فهو يذكر للغائب، كقولك: من أمركم بالجلوس هنا؟ فلان هو الذي أمركم؟ إي نعم، فـ(هو) هذه ضمير للغائب، ليست من أسماء الله؛ حتى بالغ بعضهم وأصبح يقول: يا هو! كيف أنتم الآن؟ تقولون: يا هو؟! هذه أعجمية عمياء، وما هي عربية قرآنية، فـ(هو) ضمير الشأن، وهو ضمير الغائب حتى لو كان يهودياً أو نصرانياً فقال: هو الذي قتل فلاناً، فهذا لا يدل على مجد، ولا على تشريف إلا في بعض السياقات تدل على الشأن نحو: هو الذي لا إله إلا هو.
اسم الله جامد أو مشتق

هل اسم الله جامد أو مشتق؟عمود الخشب جامد، والحليب كذلك جامد، لكنك إذا ضربته ومخضته وأزبد، فالزبدة هذه جامدة أو مشتقة؟ مشتقة من الحليب، فالجامد هكذا وجد، فما تبدل ولا تغير، والمشتق ما أُخذ من غيره كأخذنا الزبدة من الحليب.إذاً لمَ يقول الناس: اسم الله جامد أو مشتق؟الجواب: أطال الناس البحث والكلام في الإجابة عن هذا التساؤل، وفي الحقيقة ليس هناك من شيء كبير أن نفهم هل اسم الله جامد أو مشتق.ومما فتح الله تعالى به علي أن اسم الله جامد ومشتق، جامد لأن الله عز وجل هو الذي سمى نفسه الله قبل أن يكون الكون، وقبل أن يكون النحاة واللغويون والمتكلمون، وقبل أن توجد الخليقة سمى نفسه (الله)، إذاً هذا جامد.ولكن الله عز وجل سمى نفسه الله ليعلمنا أنه لا معبود إلا هو، وأن لفظ (الله) أصله (إله) ثم حذفت الهمزة وأدخل عليه (أل) فصار (الله) الذي لا معبود سواه، ومن هنا أطلق الخلق كلمة إله على كل معبود، فسمى الله تعالى قبل خلق الكون المعبود بحق الذي لا معبود بحق إلا هو.إذاً: فهو الذي سمى نفسه قبل أن تكون الاشتقاقات والجمادات.كذلك نظرنا إلى اسم الله فوجدناه كأنه مأخوذ من كلمة (إله) فصح إذاً أن نقول: اسم الله جامد بالنسبة إلى (الله) فهو الذي نطق به وعلمه خلقه، وليس نحن الذين اشتققناه من أنفسنا من مادة كذا أو كذا، كما اشتققنا الزبدة من اللبن، ولكن هو تعالى الذي سمى نفسه الله.
الحكمة من الاختلاف في الاسم الأعظم
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

هذا الاسم -معشر المستمعين والمستمعات- هو الاسم الأعظم، ونقول: هو الاسم الأعظم بالنسبة إلى باقي أسمائه، وأما ذلك الاسم الأعظم الذي ما دعي الله به تعالى إلا أجاب، ولا سئل به إلا أعطى، فشأنه شأن ليلة القدر، وشأن الساعة من يوم الجمعة، لم أخفيت؟ لحكمة، لو عرفنا الاسم الأعظم الذي ما سئل به الله إلا أعطى، ولا دعي به إلا أجاب لهجرنا باقي الأسماء الثمانية والتسعين، وتعلقنا بهذا الاسم، والله يريد أن ندعوه بكل أسمائه.ولو عرفنا الساعة التي يستجاب فيها للعبد يوم الجمعة وضبطناها -مثلاً- بأنها الساعة الواحدة أو الخامسة، لتركنا الانقطاع إلى الله والدعاء والضراعة طول النهار إلا تلك الساعة، وهذا فيه خسران كبير.ولو عرفنا ليلة القدر لتحيناها، وما قمنا ولا صلينا نافلة إلا تلك الليلة وفزنا بليلة القدر، ثم تتعطل تلك الليالي كلها.فهذا سر خفاء أو إخفاء هذه وأمثالها؛ لنبقى ندعو الله طول السنة وطول العمر بأسمائه: يا رحمن، يا رحيم، يا ألله، يا غفور .. ليس فقط يا حي يا قيوم.والحديث الذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو فقال له: ( يا فلان! لقد سألت الله تعالى باسمه الأعظم الذي ما سئل به إلا أعطى، ولا دعي به إلا أجاب ) ما كان دعاء السائل؟ قال: ( اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد أن تفعل بي كذا ).فمن هنا أحببت أن يفهم الأبناء أن إطلاق لفظ الاسم الأعظم على الله هو حق، أليس بأعظم الأسماء؟ ما دون الله إلا الرحمن، وما عدا ذلك لا يصل اسم إلى مستوى الرحمن بعد الله جل جلاله.هونوا على أنفسكم، أنتم مأجورون أو لا؟ الملائكة تستغفر لكم أو لا؟ أنتم في موطن لا أشرف منه، يبقى إذا ما فهمت لا تغضب، ولا تتأثر، فتحمل مشلحك وتقول: أنا ما فهمت، خليك معنا تفهم إن شاء الله، ما نستعجل.تسمعون بالاسم الأعظم أو لا؟ العجائز في القرى يفهمونه.ما هذا الاسم الأعظم؟ هل هو لفظ الله أو الرحمن أو الصمد أو الحي أو القيوم؟ خفي عنا.ما سر إخفائه أو خفائه؟ ما له علة، ما نفهم؟الجواب: لنبقى نسأل ربنا بكل أسمائه. وهذا فيه خير عظيم أو لا؟ نعم. بخلاف لو عرفنا الاسم الأعظم تركنا الأسماء كلها وتمسكنا بهذا، وفي ذلك ما فيه من الأذى والشر، فعطلنا أسماء الله التي يحب أن نمجده بذكرها ودعائه وسؤاله بها.ونظير هذا ليلة القدر، هي توجد في رمضان أو لا؟ لو عينها لنا الله تعالى بواسطة رسوله أتدري أن ثلاثة أرباع المقيمين للتراويح لا يشهدون إلا تلك الليلة، وعندنا مثال: في بلادنا العربية والإسلامية حيث الجهل خيم؛ تجد أكثر الأغنياء والمسئولين وأرباب الدنيا لا يحضرون إلا ليلة السابع والعشرين فقط، ليالي رمضان في الملاهي والمقاهي إلا ليلة سبعة وعشرين يحضرونها، أرأيتم وجه الإفلاس أو لا؟ ما يشهدون صلاة التراويح ليلة، ولا يسمعون دعاء ولا يؤمنون ولا يدعون، فيحرمون من ذلك كله إلا ليلة سبعة وعشرين؛ لأنها ليلة القدر.كذلك ساعة يوم الجمعة تجد حذاقنا وطلابنا يتربصون بها ويطلبونها، فأحدهم يدخل من صلاة الفجر إلى الضحى، وهو يصلي ويدعو، وفي الجمعة الآتية تجده من صلاة الضحى إلى أذان الجمعة، وهو جالس يصلي ويدعو، رجاء أن يمسكها ويظفر بها، وفي جمعة أخرى من صلاة الجمعة إلى العصر، وهو عاكف يصلي ويدعو، رجاء يأخذ هذه الساعة، وفي جمعة أخرى من العصر إلى المغرب يتلمس، فإذا قلنا له: إنها الساعة الواحدة أو الرابعة، فما صلى ولا حضر إلا تلك الساعة.والآن فهمتم لمَ اختلف في الاسم الأعظم أو لا؟إذا أردتم أن تظفروا فسلوا الله بكل أسمائه، مرة بالرحمن، ومرة بالرحيم، ومرة يا ألله، ومرة يا ذا الجلال، ومرة يا حي يا قيوم.. تظفر بهذا بإذن الله.إذاً: الله هو الإله المعبود بحق الذي ذل له كل شيء، وخضع له كل شيء، وتحير في جلاله وكماله كل شيء من المخلوقات.ومن معاني اسم الجلالة (الله) في قولك: (بسم الله) أن هذا الاسم نتبرك به، ونستأذن الله تعالى به، كيف نتبرك؟ نقول: بسم الله الرحمن الرحيم طسم [الشعراء:1] فهل تبركنا أو لا؟ نقول: بسم الله أشرب العسل والماء، بإذنه أو لا؟ لو لم يسمح لنا بشرب الماء هل نشرب؟ لما لم يسمح بشرب الخمر نشرب أو لا نشرب؟ الجواب: لا.إذاً: من جهة نتبرك ومن جهة نستأذن ونطلب الإذن.إذاً الحمد لله عرفنا علماً كثيراً عن بسم الله الرحمن الرحيم.
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)

عرفنا فيما سبق أن الحمد هو الوصف بالجميل، وإذا وصفت إنساناً بالجمال حمدته، فتقول: طويل القامة، جميل المنظر، لين العريكة، كريم النفس، فهذا هو الحمد.وعرفنا أن الحمد كله لله، فـ(أل) للاستغراق و(أل) للاستحقاق، فمن المستحق للحمد يا عباد الله؟ الله؛ إذ كل كمال وجمال هو مصدره، وجميع المحامد وألفاظها على تنوعها قد استغرقها الله، ولا ينالها سواه، فإذا قلنا: منصور ذكي فمن وهبه الذكاء؟ إذاً الحمد لله ليس لمنصور. قلنا: منصور كريم وسخي، فمدحناه بالكرم والسخاء، هل هو خالق كرمه وسخائه؟ لا، بل كرمه موهوب له ومعطى، والمعطي هو الله، إذاً الحمد لمنصور أو لله؟ وإذا قلنا: علي بطل شجاع؛ يختطف الفارس ويضرب به الأرض، فهذه القوة وهذه الشجاعة من خلقها، من وهبها، من أعطاها؟ أليس الله؟ إذاً الحمد لمن؟ لله أو لعلي؟ لله.فمن هنا عرفنا أن الحمد لله لا لسواه، ولا بأس أن نقول: فلان شجاع أو كريم أو عالم أو صالح أو تقي، فنصفه بهذا مع علمنا أن الذي أعطاه ذلك هو الله، فالمستحق للحمد هو الله، وأذن لنا أن نقول: فلان سخي أو كريم ولا حرج، ولكن ذلك في حدود أو مطلقاً؟ قد درسنا هذا وسبق.
ضوابط في مدح الآخرين والثناء عليهم

معاشر المستمعين والمستمعات! لقد نهينا أي: نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم إذا مدحنا أن نبالغ في المدح، وأن نكثر من الأوصاف، وحسبنا أن عرفنا أن المدح لله، فإذا امتدحنا غير الله فحمدناه يجب أن نقتصر .. أن نقتصد .. أن نعتدل .. فهذا الممدوح ليس الله ذي الأوصاف الجميلة الحميدة، ووصفه بالجميل منحة منحه الله إياها، فلم الغلو والمبالغة والكيل والوزن بلا حساب؟ وحسبنا أن نحفظ ذاك الخبر العظيم وهو قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وإنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله )، وبين يدي الله لما نؤدي الشهادة في كل حضور مع ربنا ماذا نقول؟ نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ونحن بين يدي الله في الصلاة، نشهد هذه الشهادة لله بالوحدانية، وللنبي بالرسالة والعبودية.فلهذا -معاشر المستمعين والمستمعات- نلتزم القصد القصد، لا إفراط ولا تفريط، لا غلو .. وإنما نقول الكلمة والكلمتين، هذا أولاً.وثانياً: علمنا أننا منهيون عن مدح الإنسان في حضرته، وهو جالس أو يسمع، لمَ؟ حتى لا نؤذيه ولا نضره؛ لأننا إذا مدحناه في وجهه قد يصاب بداء الكبر وبمرض العجب، فيفقد كماله وجماله، ويصبح حلساً من أحلاس المقاهي كما يقولون، بعد أن كان ذا خير وفضل، ومن الذي قتله؟ إنهم المداحون.اذكروا ولا تنسوا أنه ما ينبغي لنا أن نمدح أحدنا في وجهه؛ حتى لا نضر به ونؤذيه، وقد بينت لكم أمثلة، فالتلميذ يمدحه مدير المدرسة والمراقب والناظر بالذكاء والفطنة والفهم، ثم ينتكس، وما دام قد وصل إلى مستوى المدح يترك الحفظ والقراءة والفهم، ويصبح من أحط الطلاب.زعماء العرب .. زعماء العروبة بجلوا في الماضي أيام الاشتراكية والقومية: الزعيم الأوحد، لكنهم الآن انتهوا، فمن الذي أحرقهم؟ شعوبهم، يأخذون في مدح الزعيم امدح .. امدح .. امدح حتى يشعر أنه هو، وليس شيء فوقه.أحلف لكم بالله، لقد حطم وقضى على زعماء العرب المداحون، حملوهم على الكبر والطغيان والظلم والعدوان، ولمَ فعلوا هذا؟ لجهلهم، ما جالسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تلامذته ولا أصحابه، ولو حضروا مجلس عثمان لما قام ذاك الصاحب وأخذ حفنة من تراب وحثاها في وجه الذي يمدح الخليفة في وجهه، فلما صاحوا قال: اسكتوا، علمني رسول الله وأرشدني خليلي فقال: ( احثوا التراب في وجوه المداحين ) لأنه إنسان، ما هو زعيم، امدح وانفخ يطير في السماء بلا جناحين، هو صعلوك مثلي لا قيمة له، امدحه والعياذ بالله: هو أعلم الناس، ينتفخ فلا يقبل حقاً بعد الليلة، وعلى هذا فقيسوا.محنتنا ومصيبتنا جاءت من الجهل، فبعدنا عن الكتاب والحكمة، فأصابنا الذي أصابنا، والذين درسوا عن رسول الله فهموا، فهذا يمدح أخاه بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول له: ( يا فلان! لقد قطعت عنق أخيك ) أي: قتلته، فلا تفعل هذا مرة ثانية، وامتدح آخرون رجلاً بينهم فقال لهم: ( لقد قصمتم ظهر أخيكم )، ما معنى قصم الظهر؟ قطع الظهر. بم؟ بامتداحه والثناء عليه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم.فإن كان ولا بد فلا بأس أن تمدح أخاك في غيبته، أما وهو حاضر فإنك تضره، إلا إذا أيقنت أنه لا يتأثر أبداً، كيف لا يتأثر والشيطان يجري في عروقه مجرى الدم؟ من أين لك أن هذا الشخص لا يتأثر أبداً؟ ما تملك هذا.إذاً الحمد لله .. هذه الحقيقة، فكل جميل، كل ذي نعمة، كل ذي فضل .. كله من الله عز وجل، ولكن ليس معنى هذا أن تتصعلك، وتأخذ في ذم الصالحين، وتقبيح الزملاء وذوي الحسن والفضل .. لا، هذا حرام وظلم، شخص جميل تقول: دميم، يصح هذا؟ عالم تقول: جاهل. برّ تقول: فاجر، هذا لا يحل عندنا أبداً.
معنى رب العالمين

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
الحمد لمن؟ لله ربي. من هو الله؟ رب العالمين،كأن سائلاً يسأل: من هو الله الذي له الحمد خاصة؟الجواب: رب العالمين، أي: خالق كل مخلوق؛ إذ لفظ العالَم مشتق من العلامة، والعالَم اسم جمع لا مفرد له، فكل كائن يدل على وجود الله؛ إذ كل موجود لا بد له من موجد، هذه قررناها وفهمناها، وأصبحت من البدهيات، وما نستطيع نجد كأس شاي على الطاولة ونقول: هذا وجد بنفسه، من قال هذه الكلمة يقال عنه: مجنون. والشمس من علقها في السماء؟ من نفسها، أنت مجنون أهذا كلام.إذاً: فالذي استحق الحمد هو خالق كل شيء، ومربي كل شيء.وكلمة الرب هذه تدل على الخلق، وعلى التدبير، وعلى التربية، وعلى الكلأ والحفظ؛ إذ كل شيء مربوب مخلوق مدبر، وحياته محفوظة بحفظ الله تعالى؛ لأن لفظ العالَمين يشمل كل كائن، كل ذرة في الملكوت الأعلى والأسفل؛ إذ ما من شيء إلا وهو علامة على وجود الله وعلمه وحكمته، لما تشاهد عصفوراً يزغرد على غصن شجرة، فهذا العصفور يدل على وجود الله أو لا؟ وعلى وجود علمه وقدرته وحكمته أو لا؟إذاً: فالله تعالى هو رب العالمين، خالقهم، رازقهم، معبودهم، مدبر حياتهم، مغنيهم، مفقرهم .. إذ هذا كله تابع لحكمته، وعلمه، وقدرته، وتدبيره.
تفسير قوله تعالى: (الرحمن الرحيم)

هل تريد أن ترى الله؟ قال تعالى: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، فلاحظ لتتجلى لك هذه الحقيقة. ‏
مظاهر الرحمة لا حد لها

دائماً نقول: انظر إلى الدجاجة، هل تعرفون الدجاج أو لا؟ هل هناك دجاج صناعي أو بيض صناعي؟ لو اجتمع العالم بأسره على خلق كتكوت واحد ما استطاعوا، بل ريشة في ذلك العصفور، ومن المغالطات قولهم: العقل الصناعي! هل هناك من يخلق عقلاً؟ لا يوجد من يخلق نملة.إذاً شاهد هذه الدجاجة لما ترعى مع أبنائها، وانظر كيف توسع من طاقتها، وتدخل كل أفراخها تحتها، وتأخذ تعلمهم كيف يتغذون بنقر الحب، وتبين لهم كيف يضربونه بمناقيرهم، فهذا مظهر من مظاهر الرحمة أو لا؟ من أودع في هذه الدجاجة هذه الرحمة.وانظر أيضاً إلى العنزة -أم الجدي- فإذا كان لها ولدان أحياناً، انظر إليها كيف تأكل طعاماً؟ تتواطأ؛ لأنها إذا كانت واقفة ما يصل إليها الجدي حتى يرضع منها؛ لأنه صغير، فهي تنزل نزولاً بثديها وجسمها، ثم لما يأخذ يرضع تأخذ تناغيه بنغم خاص، من أودع هذه الرحمة في هذه العنزة؟ الله.وأقرب من هذا كله أمك أيها الفحل، من حول الدم القاني الأحمر في جسم المرأة إلى لبن أبيض؟ لمَ هذا؟ لمَ ما تصبه دماً أحمر يقتل؟ كيف يتحول إلى لبن أبيض سائغ لمن يشرب؟ فهذا من مظاهر الرحمة الإلهية أو لا؟!ويذكر الرازي في تفسيره عن إبراهيم بن أدهم قال: كنت جالساً مع أحد الإخوان، فجاءت المائدة، وهي سفرة عبارة عن خبز فيه زبدة أو غيرها، قال: وضعت المائدة وإذا بغراب يختطف قرصاً، قال: فاتبعته، أجري وراءه حتى وصل إلى تل ووضعه، فطلعت الجبل، فوجدت رجلاً مغلولاً؛ مكتوف اليدين والرجلين موضوعاً في تلك القمة، والغراب وضع القرص بين يديه .. لا إله إلا الله! هذا مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية، فمن بعث الغراب يختطف القرص ثم يتجه نحو هذا المكبل المغلل على رأس الجبل؟ الله، هنا تجلت رحمة الله أو لا؟ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3].ولو فكرنا قليلاً، ولو تدبرنا وتأملنا فإن مظاهر الرحمة لا حد لها.وها هنا خبر مسجل عندنا في القرآن بالحرف الواحد.كان سليمان عليه السلام يستعرض قواته البرية والجوية، وشأن الملوك والحكام يستعرضون قواتهم؛ لأنهم دائماً في غزو وجهاد، فمرت جحافل الجيش وإذا بنملة تصرخ وتقول: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]، فهذه نملة لما شاهدت الخيول والزحف قريباً صاحت في بنات جنسها تحثهم على أن يتخذوا لأنفسهم مهرباً وملجأ يلجئون فيه: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لمَ؟ حتى لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18] فأعجبت هذه الكلمة سليمان؛ لأنها نزهته من الظلم، وأبعدته عن الطغيان، فهل عرف هذا زعماء العرب الذين يذبحون بعضهم بعضاً؟ قالت: لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ والحال أنهم لا يَشْعُرُونَ [النمل:18] ولو كانوا يشعرون بكم لن يحطموكم بنعالهم، ولا بحوافر خيولهم، لكنهم لا يدرون؛ لأن قريتكم صغيرة وخفية، فسليمان سر سروراً عجباً من قولها: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا [النمل:18-19]، وبعد، لو كان من أمثالنا لطغى، حتى النمل يرهبنا، لكن سليمان ماذا فعل؟ فزع إلى الله رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [النمل:19] ادفعني لأن أشكر هذه النعمة، ما أنا ومن أنا حتى يرهبني النمل أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19] هذا سليمان عليه السلام.
الفرق بين الرحمن والرحيم
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ) فلفظ الرحمن يدل على الكثرة، فلهذا الرحمن رحمان الدنيا والآخرة.وقد تجلت لنا رحمته في كل ذرات الكون، ولا تخفى على ذي بصيرة أو عقل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله قسم الرحمة مائة قسم )، أي: جزأها مائة جزء، فأرسل جزءاً في الأرض، فالكون والخليقة تتراحم به، وتسعة وتسعين ادخرها لأوليائه في يوم القيامة، ومن ذلك الجزء المئوي الخليقة كلها تتراحم، وشاهد هذا في الحيوانات كلها، في العصافير، في النمل، في الذئاب، في الأسود .. فضلاً عن البشر، فالخليقة كلها تتراحم بذلك الجزء، وتسعة وتسعون مدخرة؛ فلهذا قالوا: الرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم بأوليائه يوم القيامة.معاشر المستمعين! ما يغنينا إن عرفنا؟الجواب: الذي يغنينا أن تتجلى الرحمة فينا، وبأن نكون رحماء.هل عرفتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( الراحمون يرحمهم الرحمن )؟! والقساة العصاة الغلاظ ليسوا أهلاً لرحمة الله في يوم القيامة، لا يرحمهم، بل يعذبهم في أتون الجحيم.وقال: ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) فمن هو الذي في العلو والكمال؟ الله، وقد عرف المؤمنون والمؤمنات الرحمة وعاشوها، ولكن بعد أن جهلوا معناها، وما دعا الله إليها، وما بينه رسوله فيها، قست القلوب، وجمدت النفوس، وأصبحنا كالحيوانات، بل الحيوانات أرحم منا والعياذ بالله.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-07-12, 01:06 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الفاتحة - (4)
الحلقة (4)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

(الرحمن الرحيم) اسمان من أسماء الله تعالى، فهو وحده المتصف بكمال الرحمة، وهو -أيضاً- مالك يوم الدين الذي هو يوم الجزاء، لأن ما في الدنيا من محن أو منح إنما هو من شؤم المعصية، أو بركة الحسنة، وبما أن الله مالك يوم الدين، فهو -إذاً- ملك يوم الدين؛ لأن كل مالك ملك على ما يملكه.

من الأحكام المتعلقة بسورة الفاتحة

تسمى هذه السورة بسورة الفاتحة؛ لأن الله تعالى افتتح بها كتابه القرآن العظيم، وآياتها سبع آيات.وهل البسملة آية؟ نعم آية، ونعم ليست آية، لمَ؟ لأنها نزلت مرتين: مرة ومعها البسملة، ومرة بدونها، فإن عددناها جعلنا: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] إلى آخر السورة آية واحدة، وإن قلنا: ليست آية، وإنما شأنها شأن بسم الله الرحمن الرحيم في فواتح السور كلها إلا التوبة؛ لأنها إعلان حرب، حينئذ عددنا: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] الآية السابعة، ومن هنا لا خلاف بيننا ولا فرقة، ولا شيء من شأنه أن يوغر صدور بعضنا على بعض.وهذه السورة مفتتحة ببسم الله الرحمن الرحيم، ومعنى هذا: باسم الله أقرأ، ولولا إذنه لي ما مسست كتابه ولا تصفحته فضلاً عن قراءته، فبإذنه نقرؤه، وباسمه نقرأ ونتبرك، ولهذا شرعت البسملة في كل سورة، لما تقول: بسم الله الرحمن الرحيم: الْحَاقَّةُ [الحاقة:1] معناه: أنك بإذنه قرأت كلامه، ولو لم يأذن لك من أين لك أن تقرأ؟ ثم لا تنسَ ما يحمل اسم الله من اليمن والبركة والخير، فما ذكر على شيء إلا بارك الله فيه، فلهذا نذكر اسم الله عند تناول الطعام والشراب .. متبركين، ومعلنين عن إذن ربنا لنا، إذ لولاه ما قلنا ولا فعلنا، ونحن مملوكون مربوبون، وهو رب العالمين، وما أذن لنا فيه قلناه واعتقدناه وعملناه، وما لم يأذن لا نستطيع أن نقول، ولا نعمل، ولا نعتقد أبداً؛ لأننا عبيد الله.

حكم قول: آمين بعد الانتهاء من قراءة سورة الفاتحة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تلاوة هذه السورة بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:1-7].لمَ ما قلت يا شيخ: آمين؟الجواب: هذه السورة عدد آياتها سبع آيات، قال الله: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [الحجر:87]، فإذا زدنا آية من عندنا أصبحت السورة ذات ثمان آيات، ويا ويلنا إن فعلنا، فـ (آمين) ليست من القرآن، ولا من هذه السورة أبداً، بل هي جملة دُعائية معناها: اللهم استجب لنا، فإذا قرأنا وسألنا ربنا الهداية إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، وأن يبعدنا من صراط المغضوب عليهم والضالين قلنا: يا ربنا استجب، ولهذا إذا قرأ الإمام وقال: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] نقول: آمين.وفي قولنا: (آمين) جائزة أعظم -والله- من جائزة نوبل سبعين مليون مرة، ولكن من يرغب فيها؟ ومن يطلبها؟ هل تدرون ما هذه الجائزة؟ تعطى صك الغفران، فما تقدم من ذنبك محي وأزيل، وكفر وستر، ولم تطالب بشيء.لكن كيف الحصول عليها؟ يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( إذا أمن الإمام فأمنوا )، يعني: قولوا: آمين، ولا بأس أن تقول: أمين، لكن الأفصح: آمين، ليتناسب مع وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].فقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أمن الإمام ) أي: إذا بلغ الإمام موضع التأمين، فليس شرطاً أن تنتظره حتى يؤمن وتقول بعده: آمين، وقد سبق لنا أن ذكرنا قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98] وقلنا: يجوز أن يستعيذ أولاً ثم يقرأ، ويجوز أن يختم القراءة بالاستعاذة، وقوله: ( إذا أمن الإمام ) معناه: إذا فرغ من التأمين، أما أن تؤمن قبله فلا يجوز، لكن يمكنك إذا قال: آمين أن تقولها معه، لكن المقصود من حديث: ( إذا أمن الإمام فأمنوا ) أي: إذا بلغ الإمام موضع التأمين، والإمام يؤمن عندما يفرغ من القراءة ويقول: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فقولوا: آمين.ثم قال في الحديث: ( فإن الملائكة تؤمن ) سبحان الله! إي نعم، والملائكة موجودون في المسجد، أنسيت أن معنا أكثر من عددنا؟ فمع كل واحد منا ملكان، فعددهم مضاعف.قال: ( من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) وهذه هي الجائزة، فنسأل الله تعالى ألا يحرمنا إياها، ونحن نبذل ما استطعنا، وكلما بلغ الإمام: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] نقول: آمين، ولا بد أن نصادفها مرة، كليلة القدر، وأحدنا لو صام رمضان عشرين، خمسين سنة وهو يشهد التراويح بإذن الله يحصل عليها، فكذلك نحن إذا بلغ الإمام مبلغ التأمين وقالها نقول: آمين، والملائكة قالت، فإن صادفنا بقضاء وقدر تأمينهم ووافقناه أخذنا صك الغفران.وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يجهر بآمين قالوا: هذا دعاء يكون في السر، والسر أولى، لكن رد عليهم بما صح من النقل الصحيح: أن الصحابة كانوا يقولونها، وأنه إذا أمن الرسول وأمن المصلون يسمعون للمسجد رجة، وهنا إفراط وتفريط، ونحن جماعة الوسط، عرفتم مذهبكم؟ لا مالكي ولا حنبلي ولا حنفي.المالكية والأحناف لا يرفعون أصواتهم، يقولونها سراً، ونحن نقول: الوسط الوسط، لا تقل كما يفعل بعض الإخوان: آمين بالعنترية، لا يجوز هذا، وأحد الأئمة في ديار المغرب يعلم الفتيان سنة الجهر بالتأمين، فكانوا يصيحون صيحة واحدة: آمين، فقال الإمام: والله ما أصلي، وخرج من المحراب.أين الخشوع، وأين الخضوع، وأين اللين، وأين السكينة؟ الصواب أن نقول: آمين، لأنها دعاء، أما: آمين بالعنترية فغير وارد، وليس من السنة، لكن لما أهل المسجد كلهم: آمين، نعم تسمع رجة للمسجد.

تابع تفسير قوله تعالى: (الرحمن الرحيم)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال ربنا: الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:3] سبق أن عرفنا أن رحماننا جل وعز هو رحمان الدنيا والآخرة، وهو رحيمهما، ومن هنا تطمئن النفوس، وتسكن القلوب لرحمة الله عز وجل، فيا عبد الله! لا تبك طول عمرك ولا تترك النوم وتقضي دهرك بالقيام، ولا تترك الطعام والشراب وتواصل الصيام، ولا ولا، اعلم أن ربك رحمان رحيم، فبهذا تهدأ النفوس، وتسكن القلوب.إن الرحمن الرحيم صفتان، فالرحمن اسم من أسمائه تعالى، ولهذا لا يجوز لأحد أن يسمي ولده الله أو الرحمن، وهذه تحفظ وحرام أن تنسى، وهذا بلا خلاف، لأن هذا استأثر الله به، فاسم الله لا يعرف إلا لله، والرحمن كذلك.والعرب في الجاهلية ما كانوا يعرفون الرحمن في الغالب، فلهذا لما سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو: ( يا رحمان يا رحيم ) قالوا: اسمعوا، ينهانا عن الشرك ويشرك، وينهانا عن أن نذكر آلهتنا ويقول: لا تذكروا إلا الله، لا تدعوا إلا الله، وهو عنده إله ثاني يقال له: الرحمن. فنزلت آيات سورة بني إسرائيل من آخر السورة، وهي قول الله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110] هذا في مكة، وجاء في سورة الفرقان: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا [الفرقان:60].وأما عفريت اليمامة وذليلها مسيلمة الكذاب فقد انتحل هذا الاسم وقال: أنا رحمان اليمامة. وقد عرفتم كيف لعنه الله، وكيف هزم، وقتل، ومزق، وإلى جهنم.إذاً لا نسمي الرحمن، ولا يحل أبداً بحال من الأحوال.وكذلك لا تسمِّ الرحيم، ولا بأس أن تقول: فلان رحيم، فيا رحيم أعطنا ماء، أو ابذل لنا كذا، أما بـ(أل) الدالة على الوصف وعراقته فيه فلا يصح أبداً.ولا تسمِّ أيضاً الغفار ولا الغفور ولا الجبار ولا ..، ولكن اسلبها (أل)، فيجوز أن تقول: فلان عظيم، فلان حليم.الخلاصة: حرام أن نسمي أحدنا بأسماء ربنا، وإن فعلنا كنا من الملحدين في أسمائه، والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا [فصلت:40] الآية.ومن ذلك الرب تعالى، هل يجوز أن تقول: الرب فلان؟ يجوز بالإضافة، تقول: من رب الدار؟ بمعنى: من مالك الدار؟ يقال: إبراهيم. من رب هذه السيارة؟ يعني: من مالكها؟ فهذا يجوز، أما أن تقول: الرب فلان، بمعنى: المالك فلان، هذا لا يحل أبداً، ولا عذر لك، لو قيل لك: لمن هذه الدار؟ تقول: الرب لها فلان، لا، تقول: رب الدار بالإضافة .. رب السيارة نعم يجوز.

تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين)

اختلاف القراء في قراءة (مالك) في قوله: (مالك يوم الدين)

قال تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، وقرئ في السبع وهي قراءة الجمهور: (ملك يوم الدين)، فلهذا من قرأ (ملك) كمن قرأ (مالك)؛ لأن المالك كالملك، فما دام مالكاً لكل شيء أصبح ملكاً عليه، ومن كان ملكاً أصبح مالكاً.أما العلماء فهناك من رجح (ملك) على (مالك)، وهناك من رجح (مالك) على (ملك)، ونحن نقول: كله لله؛ لأن الله تعالى سمى نفسه الملك والمالك لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4].الخلاصة: لا نرجح هذا على هذا، لم؟ لأن الله أنزل كتابه على سبعة أحرف، وقرئ (مالك) و(ملك)، فالله ملك، والله مالك، أليس كذلك؟ لما تقول: الله الملك؛ هل تكذب؟ هو الملك، وإذا قلت: مالك كذا، أليس هو المالك الحقيقي؟ وملكنا نحن إضافي فقط، فإن ملكت الدار هل ستدخلها في قبرك معك؟ لا، بل سوف تتركها.إذاً اعلموا أن هذه اللفظة قرئت بالوجهين: (مالك) وهي قراءة حفص ، و(ملك) وهي قراءة نافع أهل المدينة، واقرأ بأيهما شئت، فأنت تفهم معنى مالك ومعنى ملك، والله مالك ولكل شيء، والله ملك، وهو ملك العوالم كلها.

المراد من الدين في قوله تعالى: (مالك يوم الدين)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] ما المراد بالدين؟ الدين يطلق على عدة معان، والله ملك كل ذلك، وأول ما يتبادر أن الدين بمعنى الإسلام، أي: عبادة الله عز وجل، والدينونة والخضوع والذلة له بامتثال أمره واجتناب نهيه. ما الإسلام؟ إسلام القلوب والوجوه لله بالإذعان والطاعة له في أمره ونهيه.ويطلق الدين -أيضاً- على الجزاء، ومنه قول الشاعر:دِنّاهم كما دانواويوم القيامة هو يوم الدين ويوم الجزاء، فأعمالنا في هذه الدار تسجل لنا أو علينا ونجزى بها في يوم الدين، فهو يوم الجزاء على الكسب الدنيوي، أي: يوم القيامة، فيوم الدين يوم القيامة، يوم الجزاء، يوم البعث والنشور، يوم الحساب.لكن من الملك في ذلك اليوم؟ الله. لا فرعون، ولا هامان، ولا قارون، لا بريطانيا، ولا أمريكا، ولا إسرائيل.من الملك المتسلط، المطلق التسلط، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، يسعد من يشاء، ويشقي من يشاء؟ الله، إذ كل ما هناك لله عز وجل، وهو المالك للجنة وللنار، وللإنس والجن، يدخل من شاء الجنة، ويدخل من شاء النار، ومعنى هذا: أنك إذا عرفت أنه الملك في ذلك اليوم تحسب لذلك اليوم حسابه اللائق به، بمعنى: التزم الأدب مع الله، التزم طاعته وطاعة رسوله؛ لأن يوم القيامة يومٌ لا يملك غيره فيه شيئاً، بل الله وحده مالك كل شيء.إذاً: فتملق إليه من الآن وتزلف، وتغنَّ بذكره وتلاوة كتابه، ومرغ وجهك على التراب، وقم في الليل وأنت تتململ: سبحان ربي العظيم، لأن هناك يوماً لا يملكه سواه، ذاك يوم الجزاء، أما هذا اليوم فليس فيه جزاء، ولكن كما علمتم! الجزاء اليوم هو عبارة عن يُمن العمل الصالح وبركته، وعن شؤم العمل الباطل ونحسه، أما الجزاء فمتأخر. ولو أن كافراً يعذب سبعين مرة في اليوم على كفره هل هذا هو الجزاء؟ عذابه وجزاؤه يوم القيامة أن يعيش بلايين السنين، وهو في عذاب دائم متصل، فإن عذب الكافر بجوع، بمرض، بذُلّ، بكذا، بكذا، هذا هو الجزاء؟! لا؛ لأن هذا ما هو يوم الجزاء، هذا يوم العمل.إذاً: ما سبب هذا البلاء؟ سوء سلوكه، انحرافه، ارتكابه كبائر الذنوب والآثام، وناله هذا من بؤس وشؤم ونحس عمله.كذلك المؤمنون الصالحون يعيشون مطمئنين، طاهرين، أصفياء في رغد من العيش آمنين، لكن هل هذا جزاؤهم على الصيام والصلاة والجهاد والصبر؟ لا، لا، هذا من يُمن وبركة إيمانهم، وصالح أعمالهم.هل فهمتم هذه المسألة؟ حتى لا تقول يوم الدين: هو يوم القيامة، والجزاء -إذاً- لا يوجد اليوم؟ هناك جزاء، فتقطع يد السارق، ويرجم الزاني، ويقتل القاتل، ويسجن المجرم و.. و.. ويمرض، ويكرب، ويموت، كله موجود، لكن هل هذا هو يوم الجزاء الحق؟ دائماً نقول: هذا يوم العمل، اعملوا، أما الجزاء فمستقبل، وذلك في يوم القيامة، في يوم الدين لا اليوم. لما يقول القائل: أنا مستقيم طول العام، ودائماً فقير، ومريض، وصداع، ومحتاج، فما سبب هذا؟قد نقول: هناك سيئات ما علمتها، وما عرفتها، والرحمن ربك تعالى يريد تطهيرك، وتنقيتك، وتصفيتك، وكان بعض الصالحين يقول: إذا عثرت دابتي -وعثرة الدابة مزعج، يكاد الرجل يسقط بسببها- تذكرت سيئة من سيئاتي، وعلمت أنني أذنبت ذنباً.إذاً: فالكسب اليوم لا نجزى به، والجزاء متأخر، ولكن يكون شؤم للمعاصي والذنوب، ويمن للحسنات والسيئات. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] إذا كان الله هو الملك يوم الدين وهو المالك، لمن المفزع؟ لمن الملجأ؟ لا إلى أحد إلا الله فقط.

منزلة قراءة الفاتحة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله تبارك وتعالى: إذا قرأ العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال: أثنى عليَّ عبدي. وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي ) فنحن لما نقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] حمدنا الله تعالى، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] أثنينا عليه، مدح بعد مدح بعد مدح؛ ثلاثة، لم سميت السبع المثاني؟ لأنها تثنى.إذاً: أي مجد أعظم من الملك؟ هل هناك مجد، وسمو، وشرف أعظم من الملك؟ الجواب: لا.إذاً: الله يقول: حمدني عبدي، أثنى علي عبدي، مجدني عبدي.ثم قال: ( فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي )، ما وجه بينه وبين عبده؟ إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] العبادة لمن؟ لله. وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] العون لمن؟ للعبد.ثم قال: ( وإذا قرأ المؤمن: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) هذا لعبدي ولعبدي ما طلب، استجابة هذه أو لا؟ بشرى أو لا؟ أوليست ذات قيمة أن يهديك الصراط المستقيم لتقرع باب دار السلام؟ بله لتطهر وتصفو في هذه الأيام، فمن سلك طريق الله ما انكسر ولا تحطم ولا ولا، والذين يتكسرون ويتحطمون ويتمزقون هم أرباب المعاصي، والشهوات، والذنوب، والآثام اليوم في الدنيا.إذاً: ( هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) معناه: أعطاه طلبه فهداه الصراط المستقيم، فلهذا ينبغي إذا كنا نقرأ أن نذكر هذا، نذكر أننا نحمد الله، وأننا نثني عليه، وأننا نمجده بكلمة مالك يوم الدين، وأننا نقول له: إياك وحدك لا شريك معك إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] ولازمه: أننا لا نعبد سواك بانفراد أو بالمعية، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فلا نطلب عوناً من سواك؛ إذ لا يملك العون إلا أنت، حينئذ يقول لنا ربنا: هذا لكم، ولكم ما سألتم.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال المؤلف غفر الله له: [بسم الله الرحمن الرحيم.شرح الكلمات:التفسير لغة: الشرح والبيان. واصطلاحاً: شرح كلام الله ليفهم مراده تعالى منه، فيطاع في أمره ونهيه، ويؤخذ بهدايته وإرشاده، ويعتبر بقصصه ويتعظ بمواعظه].ثم قال: [السورة] ما معنى السورة؟ قال: [قطعة من كتاب الله تشتمل على ثلاث آيات فأكثر] إلى المائتين وأربع وثمانين كما في سورة البقرة. ثم قال: [وسور القرآن الكريم مائة وأربع عشرة سورة بالعد، أطولها البقرة، وأقصرها الكوثر].ثم قال: [الفاتحة] هذه الكلمة ما معناها؟ قال: [فاتحة كل شيء بدايته]، فبداية القرآن سورة الفاتحة.

أسماء سورة الفاتحة

قال المؤلف غفر الله له: [وفاتحة القرآن الكريم هي الحمد لله رب العالمين، ولذا سميت الفاتحة، ولها أسماء كثيرة منها: أم القرآن، والسبع المثاني، وأم الكتاب، والصلاة].سؤال طارئ: لم سميت أم القرآن وأم الكتاب؟الجواب: تعرفون أن الأم هي التي تنجب البنين والبنات، تجلس وحولها أولادها وأحفادها، كلهم تفرعوا عنها، فانظر إلى القرآن الكريم كله قد تفرع عن هذه السورة بجميع ما فيها، كما تولدنا نحن أيها الناس من حواء فأصبحنا بليارات، وأمنا واحدة.أولاً: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:2-3] هذه آيات التوحيد؛ توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، والقرآن من الفينة إلى الأخرى، من الآية إلى الآيات يأتي لتقرير هذه الأسماء والصفات، وتقرير ربوبية الله لكل شيء.ثانياً: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] والدين هو الجزاء ويوم القيامة، وأنت تجد في القرآن الكريم مئات الآيات في هذا الباب، فثلث القرآن يتكلم عن الدار الآخرة، ويدعو إلى الإيمان بها، ويبين ما فيها من نعيم مقيم، ومن شقاء وعذاب دائم، يبين صفاتها، وآثارها، وعلاماتها.ثالثا : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] والقرآن يحتوي جميع أنواع العبادات من: الصلاة، الزكاة، الذكر، الحج، الجهاد، وغيرها.رابعاً: القصص، من قصة آدم مع حواء في السماء .. مع إبليس في الأرض إلى قصة عيسى ابن مريم مع بني إسرائيل، والقصص ثلث القرآن، وكله تولد من كلمة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فلهذا سميت أم القرآن، كأن القرآن انحدر منها، وخرج من متنها، كذلك الأم أولادها يشبهونها، ولو كانوا مئات الأولاد والأم واحدة. وبذرة نواة التمر يتفرع عنها النخيل والثمار المختلف الأنواع، فلهذا سميت بأم القرآن، وأم الكتاب.وسميت صلاة، لم؟ لأن الله تعالى قال: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، إذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال: حمدني عبدي. إذا قال: الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:3] أثنى علي عبدي. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] مجدني عبدي ) هذا القسم لمن؟ لله. ( إذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي ) نصفه لي ونصفه لعبدي. ( إذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ). إذاً نصفان: النصف الأول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4] هذا كله لله. النصف الثاني: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] هل هذا لله في شيء؟ هذا للعبد كله. عرفنا إذاً ما لله وما للعبد؟وما هو المشترك بينهما؟ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قال: ( هذا بيني وبين عبدي ) العبادة لي والعون لعبدي، فلهذا سميت الصلاة.وهذا اللفظ يعطيها معنىً آخر: أنه لا صلاة بدونها، فأصبحت هي الصلاة؛ لأنها إذا خلت منها لا صلاة: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) .. ( أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج ) الخداج: لما تلد البقرة أو الناقة مولوداً أزرق، منتناً متعفناً، ما اكتمل الخلقة ماذا تقول له؟ هذا خداج، ناقص، ما يقبل، ما يرضى به.

الفرق بين المكي والمدني
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال المؤلف غفر الله له: [مكية: المكي من السور ما نزل بمكة، والمدني منه ما نزل بالمدينة].وهنا إضافة أخرى وهي أننا نقول: المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها، والمعنيان صحيحان.إذا قلت: بعض آيات السور نزلت في الطرقات وفي الغزوات لا هي في مكة، ولا في المدينة كيف نعمل إذاً؟هل نقول: كلها نزلت في بني كذا؟ كيف نجمع؟ قالوا: ما نزل قبل الهجرة يعتبر مكياً، وما نزل بعد الهجرة يعتبر مدنياً.وما المراد من الهجرة؟الجواب: خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من داره وبيت آبائه وأجداده، وتركه ما كان له فيها، والتحاقه بالمدينة، فهجر البلاد، وتركها بأمر الله، فسيد المهاجرين وأعظم مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أول من هاجر في سبيل الله، وسجلت له هجرة؟أول من هاجر في ذات الله هو إبراهيم الخليل عليه السلام.وهل بقيت الهجرة أو أغلق بابها؟ ما زالت، والمهاجرون يتفاوتون، وأطلقنا على أحدنا سيد المهاجرين المعاصرين، ولو قلنا: سيد المهاجرين نذبح؛ لأن سيد المهاجرين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من هذا القيد: المعاصرين، إذا لمحنا أو لمسنا فيه صفات المهاجرين شجعناه.وهذه الأيام صدرت فتيا وتنازعها العلماء وهي: هل يجب على الفلسطينيين أن يهجروا فلسطين، ويخرجوا منها أو لا يجوز؟الجواب: أيها الأبناء! اسمع العلم حتى لا تضل، أيما مؤمن يوجد في أرض .. في قرية .. في جبل .. في مكان ما .. في دار .. في بلد .. في إقليم .. في غرفة لا يستطيع أن يعبد الله تعالى؛ إذ منعوه، ولا يتمكن من أن يعبد الله فقد وجبت عليه الهجرة، ولا يحل له المقام أبداً في بلد أو أرض لا يعبد الله فيها، وهذه قضية إجماعية، ومن أجلها شرعت الهجرة، ولا يعذر إلا مرأة أو مريض أو شيخ كبار ما يستطيع فهذا أمره إلى الله، قال تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء:98-99] أما إنسان قادر أن يهرب، ويبقى في بلد ما يصلي، ولا يذكر الله، ويلزم بالكفر فيكفر لا يحل أبداً.والهجرة لا ينقطع -أبداً- أمرها، ولا يغلق بابها حتى تطلع الشمس من المغرب؛ لأن المؤمن يومها مؤمن، والكافر كافر، فقد أغلق باب التوبة، لو جاء كافر يركض: لا إله إلا الله محمد رسول الله خذوا مالي، أنا صائم، دلوني على بيت ربي فلا يقبل منه شيء واحد، فقد انتهى الأمر. لم؟ لأن الساعة دقت وآذنت، والعمل في الدنيا أو في الآخرة؟ العمل في الدنيا، وفي الآخرة الجزاء، وانفتح باب الآخرة، أعلن عن وصولها، بقي عمل؟ الجواب: لا، المؤمن مؤمن والكافر كافر.إذاً: هل الفلسطينيون ممنوعون من الأذان؟ من إقام الصلاة في ديارهم؟ من اجتناب ما حرم الله عليهم؟ من ستر نسائهم؟ من أكل الحلال؟الجواب: ما بلغنا إلا أنه مباح؛ من شاء يصلي، ومن شاء يغني كبلاد المسلمين الأخرى، فمن هنا لا تجب عليهم الهجرة أبداً، ولا تجب بحال أبداً، إلا إذا كان إمام المسلمين احتاج إلى المهاجرين، وأعلن على الساكنين القاطنين في كذا أن يزحفوا إلى ديار الإسلام، فخليفة المسلمين إذا أمر يطاع، لم؟ لأنه رأى أن يخرج هؤلاء المؤمنون من هنا حتى يضرب الباقين أو حتى يفعل شيئاً، لكن أين إمام المسلمين؟ هل هناك خليفة؟ هناك دويلات دويلات.ومن أراد أن يقف بالتفصيل فعليه برسالة: إعلام الأنام بحكم الهجرة في الإسلام، فهي رسالة -والله- قيمة ومع الأسف أعرضوا عنها، وما قرءوها، ما علموا، ويجب أن توزع في أمريكا، والصين، واليابان، وأوروبا الشرقية والغربية بكاملها وتترجم إلى عدة لغات؛ ليعرف أولئك المؤمنون هل يجوز لهم البقاء في فرنسا وإيطاليا وأمريكا أو لا يجوز؟ثم قال: [والسور المكية غالبها يدور على بيان العقيدة وتقريرها، والاحتجاج بها، وضرب المثل لبيانها وتثبيتها. وأعظم أركان العقيدة توحيد الله تعالى في عبادته ] أي: بأن يعبد الله بما شرع وحده دون سواه. [وإثبات نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة. والسور المدنية يكثر فيها التشريع وبيان الأحكام من حلال وحرام] ففيها السياسة المالية والاقتصادية والحربية والسلمية، وكل ما يتعلق بالمجتمع المسلم، والسر معروف، لأنه أيام كانوا في مكة من يقول: لا إله إلا الله بالقوة يضربونه، فكيف يصلون؟ إذاً التشريع بدأ بدخول الرسول والمؤمنين إلى المدينة، فالسور المدنية تحمل التشريع.ثم قال: [والآيات جمع آية وهي لغة: العلامة، وفي القرآن: جملة من كلام الله تعالى تحمل الهدى للناس بدلالاتها على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وعلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وآيات القرآن الكريم ست آلاف ومائتا آية وزيادة، وآيات الفاتحة سبع بدون البسملة] وإن قلنا بالبسملة نجعل الآيتين آية واحدة في آخرها.هذا والله تعالى أسأل أن ينفعني وإياكم دائماً بما ندرس ونقول ونسمع، وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-07-15, 01:54 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الفاتحة - (5)
الحلقة (5)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg


ابتدأت الفاتحة في ثاني آياتها بالحمدلة؛ تربية وتعليماً لنا بأن نقولها في شئوننا كلها، وكان من مظاهر التعليم -أيضاً- في سورة الفاتحة أن نتوجه بالعبادة -بمفومها الشامل لكل طاعة- لله وحده، وإذا صعب علينا أمر لا نستعين إلا بالله وحده، لأنه إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة الفاتحة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! تذكيراً للناسين، وتعليماً لغير العالمين نعيد القول فنقول: هذه السورة لم ينزل الله تعالى في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها، وبهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينزل الله مثل هذه السورة في كتبه التي أنزلها على رسله وأنبيائه.وهذه السورة سبع آيات، وهي المذكورة في قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]. ‏
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

نزول سورة الفاتحة مرتين

أما (بسم الله الرحمن الرحيم) فقد نزلت مع سورة الفاتحة مرة، فهي آية من تلك السورة الكريمة، ونزلت مرة بدونها، فمن قرأها على أنها آية فهو ذاك، ومن لم يقرأها على أنها ليست بآية فهو ذاك، أي: حق وصواب. ولكن الأولى أن لا نخلي قراءة الفاتحة من (بسم الله الرحمن الرحيم) ففي بداية صلاتنا في الركعة الأولى نقدم الاستعاذة، فنقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] وفي الركعات التي بعد ذلك، في الثانية والثالثة والرابعة نكتفي بـ(بسم الله الرحمن الرحيم).وإن كنا أئمة نصلي بالمؤمنين فلا نجهر بها، بل نقولها سراً، ونجهر بكلمة (الحمد لله رب العالمين) كما تسمعون أئمة المسجد النبوي، إذ أنس بن مالك رضي الله عنه كما في الصحيح قال: ( صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووراء أبي بكر ووراء عمر، فكانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين ) فحُمِل هذا على أنهم كانوا لا يجهرون بها، بل يسرونها ثم يجهرون بالفاتحة، وهذا هو المذهب الرشيد والطريق السديد، وهذا الجامع لأمة الإسلام حتى لا تختلف.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

الأمر بقراءة سورة الفاتحة

عرفنا فيما سبق أننا مأمورون أن نقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:2-7] فما معنى مأمورين؟أخرج ابن جرير إمام المفسرين في كتابه أن هذا معناه: قولوا: الحمد لله رب العالمين، قولوا: الرحمن الرحيم، فهي مما أمرنا الله تعالى تربية لنا وتهذيباً، وتعليماً لنا وهداية أن قال لنا: (قولوا).تأملوا! ما هي بداية السورة؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، من علمنا هذا؟ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:3-4]، تأمل تجد أننا مأمورون بأن نقول هذا، قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:2-6]، فهذا تعليم من الله لنا، ولسنا نحن الذين اخترعنا وابتكرنا، وحمدنا الله وأثنينا عليه ومجدناه، بل هو الذي علمنا كيف نحمده، وبمَ نثني عليه ونمجده ونتضرع إليه، ونعاهده بأن لا نعبد إلا إياه ولا نستعين إلا به، وأن نسأله أن يديم هدايتنا على الصراط المستقيم، هل فهمتم هذه؟ كأنما قائلٌ يقول لنا: قولوا. ماذا نقول؟ قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

سورة الفاتحة قسمت على قسمين

لقد علمنا سبحانه وتعالى كيف ندعوه ونتوسل إليه حتى يستجيب لنا، ويدل لهذا الحديث القدسي الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ) قسم لله وقسم لعبده، وقسم مشترك بينهما، فلنعرف هذا، فهو خير من الدنيا وما فيها.ما هو القسم الأول الذي لله وحده؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، هذا لمن؟ لله، حمدناه وأثنينا عليه، ومجدناه بأنه الملك يوم القيامة.( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي )، كيف؟ العبادة لمن؟ إِيَّاكَ نَعْبُدُ له، والاستعانة لمن؟ للعبد حتى يقوى على العبادة، هذا بيننا وبين الله. اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:3-7]، هذا لمن؟ للعبد.إذاً قوله تعالى: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال: أثنى عليّ عبدي. بالحمد، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي ). أما قلت له: أنت الملك الحاكم يوم الدين، هذا تمجيد أو لا؟ تمجيد.( وإذا قال العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] )، ماذا يقول الله؟ ( قال: هذا بيني وبين عبدي )، بيننا نصفين: لنا العبادة، وله العون عليها.( وإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل )، الله أكبر! أي نعمة أعظم من هذه النعمة! وإذا عندكم نعم أعظم دلوني عليها؟!ومع هذا تجدنا معرضين إعراضاً كاملاً، نبحث عن الملاهي والملاعب والمساخط والملاعن، كأننا لسنا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فلا إله إلا الله.

تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)
‏ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى كلمة (إياك)

قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].كلمة (إياك) هذا ضمير نصب، والضمائر في النحو: ضمائر رفع، ضمائر نصب. وضمائر النصب هي: إياك، إياكما، إياكم، والمؤنثة تقول لها: إياكِ، والمثنى: إياكما، وجماعة النسوة: إياكن، وهذا خطاب للحاضر، أما الغائب: إياه، إياهما، إياهم، نقول: إياهن دعوت للغيبة.فإياك ضمير نصب: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5].هل (إيا) هي الضمير أو الكاف: (ك)؟اختلفوا، والصحيح الذي لا نعدل عنه أن (إياك) هي الضمير للواحد، فلا نفصل (إيا) عن الكاف، والخلاف وسعوه لكن بدون طائل ولا فائدة.وقد سبق أن قلت لكم قال: قولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، (إياك) هذا الضمير يدل على أننا خصصنا الله تعالى وأفردناه بالعبادة، (إياك) وحدك لا شريك معك نعبد، أرأيتم لو قلنا: اللهم إنا نعبدك، جائز أن نقول بعده: ونعبد معك فلاناً وفلاناً؟ الباب مفتوح.لكن هذه الصيغة صيغة حصر وقصر، فإذا سمعها العربي: إياك أعني، يفهم أنه ما أراد غيره قط، ولم يخطر بباله سواه، لكن إذا قال: أريدك وعمك معك أو عبدك، هذه ليست صيغة حصر وقصر. إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] لم يقل: (إياك أعبد) بل قال: (نعبد) من أنت يا فلان حتى تقف هذا الموقف.إن لم تكن في جماعات المؤمنين من الأنبياء والمرسلين والصالحين كيف تخاطب الله وحدك! ما تقدر وما تستطيع، بل ذب في الجماعة، وتكلم باسم أمة الإسلام في الأولين والآخرين: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] نحن العبيد الأذلاء الأرقاء لك، نعبدك وحدك.وفي هذا: إعطاء عهد لله بأن لا نعبد سواه، كيفما كانت الأحوال والظروف، عاهدنا ربنا -وهو الذي علمنا هذا- أن لا نعبد سواه أبداً، ومن عبد غيره من المؤمنين خان عهده ونقضه، ويا ويله، فإياك وحدك نعبد -نحن العبيد المؤمنون- ولا نعبد غيرك.

مفهوم العبادة وأنواعها

ما معنى نعبدك؟قد تقول: نذل لك ونخضع؛ لأن هذا اللفظ يقال: مأخوذ من عبَّده يعبده تعبيداً إذا ذلـله، ومنه: تعبيد الطرق، كانت بالحجارة وكانت بالمنخفضات والمرتفعات، عبدوها بأن ذللوها بالآلات حتى أصبحت مستوية، فلا بأس أن نقول: إن لفظ العبادة مأخوذ من هذا المعنى، فنحن نعبدك، نذل لك، ونخضع وننكسر بين يديك، وهو كذلك.والعبادة أنواع، ويجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف هذه العبادات، وإلا كيف يعبد ربه، فاعرف ما تعبد الله تعالى به معرفة يقينية حتى تعبده به، وتذل بين يديه، وتخضع له بفعل ذلك الذي تعبده به أو بقوله أو باعتقاده.إذاً: العبادات أنواع، ومنها على سبيل الوضوح: الصلاة، فالصلاة عبادة تعبدنا الله بها، إذ قال: أقيموا الصلاة، فالعبد إذا دخل في الصلاة دخلها ذليلاً منكسراً بين يدي ربه، يؤدي ما عاهده عليه، وإياك يا عبد الله أن تسلب بعضها بالغفلة والإعراض والتفكر في الدنيا ولهوها، بل يجب أن تؤديها كاملة فما تنقصها، فمن دخلها ثم غفل عن موقفه مع ربه، وانتقل تفكيره إلى بيته .. إلى متجره، في كذا، فقد نقض العهد، وما عبد الله العبادة المطلوبة، فلهذا ورد: ( أن من المصلين لا يكتب له إلا ربع الصلاة ).وبمعنى واضح: إذا لم تكن حاضر القلب، وأنك بين يدي الرب تتكلم معه، وتغفل وتذهب بعيداً وإن كنت تنطق بالقراءة أو بالتكبير أو بالتسبيح ما يكتب لك، فما أنت مع الله، وهذا الموقف من أصعب المواقف، فإذا لم تروض نفسك رياضة خاصة لن تكسب هذا الميدان، وأنتم علمتم أنه لا يوجد في العبادات المتنوعة المتعددة عبادة من شأنها أن تولد طاقة النور في القلب أكثر من الصلاة أبداً، ولا توجد عبادة كالصلاة تولد النور المعبر عنه بالحسنات، ولِم سميت حسنات؟ لأن النفس البشرية تحسن بها وتجمل، وتطيب بها وتطهر، وما آلة التوليد؟ هي إقام الصلاة، فلابد من الخشوع: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، إذ لا يتم معنى العبادة إلا مع الخشوع والانكسار بين يدي الله.كذلك الصيام عبادة، فالصائم ممسك عن الطعام والشراب وعن الشهوة الجنسية -كما يقولون- من أجل من؟ من أجل الله، فهو في عبادة، فلا يفسدها باللهو والباطل، وبالغيبة والنميمة، وبالإساءة والذنب والظلم: ( الصيام جنة كجنة أحدكم في القتال، ما لم يخرقها، بِم يخرقها يا رسول الله؟ قال: بالغيبة والنميمة ).وكذلك الحج عبادة من أشرف العبادات، تغسل صاحبها غسلاً، وتخرجه كيوم ولدته أمه، لا ذنب عليه بالمرة، بل تحول ذنوبه إلى أنوار الحسنات، متى يتم له هذا؟ إذا ذلّ وانكسر، وعبد ربه بها عبادة الأذلاء الأرقاء بين يدي الله، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

علامات قبول العبادة

عندنا لطائف: كيف تعرف أنك طهرت يا بني؟ أي: ما الدليل على أنك خرجت من الحج كيوم ولدتك أمك؟تعرف ذلك:أولاً: بأنك عبدت الله بما شرع، فأديت الحج -وهي عبادة- على النحو الذي شرع الله على لسان رسوله، فما زدت ولا نقصت، ولا قدمت ولا أخرت، إذ التقديم والتأخير في أجزاء العبادة يفسدها، ويبطل عملها، فلا تنتج الطاقة، ولا تولدها، والدليل على ذلك سل الفقيه: يا فقيه! قد قدمت كذا على كذا، أو زدت كذا، سيقول لك: يا ولدي! حجك باطل. كيف باطل يا شيخ؟ سيقول: قالت العلماء: باطل، لكن عندنا نحن نقول: ما أنتج لك الطاقة، وما ولد لك النور، فما فائدة ذلك الحج! تعبت فقط، بلا أجر ولا مثوبة.إذاً: إذا أنت قصدت بهذه العبادة رضا ربك، تنفيذاً لوعدك له: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، فعبدته بها كما شرعها، مخلصاً صادقاً لا تلتفت إلى غيره، فهنا تعرف أنك نجحت.والبرهنة الحقيقية أنك إذا فرغت من الحج تجد نفسك غير ذاك الذي أقدم على الحج، حتى يصبح أهل القرية يسمونك الحاج: هذا الحاج فلان، لِم؟ ما أصبح يكذب، ولا يظلم، ولا يخون، ولا يتكبر، ولا يمنع خيراً، ولا يجحد معروفاً، ولا .. ولا، تغير رأساً على عقب، فطاب وطهر نتيجة تلك العملية القوية التي قضى فيها الشهر أو ما يقاربه وهو مع الله في الليل والنهار، فما بقي في قلبه ولا في نفسه دنس ولا ظلمة.أما أن ينهي هذه العبادة ويدخل في أودية الضلال فيكذب، ويحلف بالباطل، ويلعب بالورق، ويأكل كذا، ويتكلم كذا، فأين آثار تلك العبادة؟ لا أثر لها، لِم؟ لأنه ما أداها على النحو الذي شرع الله من أجل أن تثمر الزكاة وتطيب القلب والنفس.إذاً: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] أي: بما شرعت لنا من أنواع العبادة في كتابك القرآن العظيم، وعلى لسان النبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم.فإياك أن تكذب على الله وتقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] بالبدع والخرافات.هل هذه عبادة أن يجتمع أناس على بدعة أربعاً وعشرين ساعة ويخرجون أصفار اليدين، آلله تعبّدكم بهذه؟ قالوا: لا، إذاً: لِمَ؟ قالوا: نعبد الله. هذه عبادة باطلة، وكذبوا على الله.وافهموا: أن العبادة سواء كانت من أعمال القلوب، أو من أعمال الألسن أو الجوارح، هذه العبادة إذا لم تكن مما شرع الله وبيّن، وعلّم رسوله صلى الله عليه وسلم وفسر وشرح، وبينها للناس، فلن تكون عبادة تزكي النفس وترضي الله تعالى أبداً بحال من الأحوال.ثانياً: إذا لم تراعِ زمانها ومكانها الذي شرعت فيه، وكيفيتها بأن لا تزيد ولا تنقص، ولا تقدم ولا تؤخر، فإنها وإن كانت مشروعة ما تنتج لك الطاقة، ولا تولد لك الحسنات أبداً.أما إذا لم تكن مشروعة فأمرها واضح، فمن عبد الله بغير ما شرع، فهو إن لم يكن كافراً فهو مشرك أو ضال.العبادات أنواع يجب أن نعرفها من الكتاب والسنة ومن أفواه العالمين، إذ قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، أما أن يعيش الرجل والمرأة أربعين، وخمسين، وستين سنة، ما يعرف ما معنى العبادة، ولا أنواع العبادة، أين كان؟من يعلن فقره وحاجته إلى غير الله عز وجل فقد عبد غير الله، وخان أمانته، ونكث عهده عندما قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]. ومن الذي علمك هذا القول؟ الله هو الذي قال: قولوا كذا وكذا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]. علمنا التوحيد ثم نشرك؟ ننقض عهدنا؟!انتبهوا: الدعاء عبادة، والرسول هو الذي يقول صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، وورد: ( الدعاء مخ العبادة )، إذا نزعت المخ من رأس الحيوان هل بقيت حياة؟ انتهت، مات، فكذلك الدعاء عبادة، وإذا دعوت غير الله انتهى أمرك.العبادة تطلق ويراد بها الدعاء والصلاة وكل أنواعها، وإن كان معناها اللغوي: الذلة والمسكنة بين يدي الله، لكن كيف تذل وتتمسكن؟ الجواب: بقيامك بتلك العبادات القولية أو العملية.( الدعاء عبادة ) فالذين يدعون غير الله نقضوا عهدهم، وتعرضوا لنقمة الله وغضبه عليهم إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

طلب العون من الله على أداء العبادة

ثم -وإن علَّمنا هو فقال: قولوا هذا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] وقد هيأنا لذلك- هل في استطاعتنا أن نفي لله بأن نعبده؟الجواب: هل من عرف الحج أداه؟! هل من عرف الصلاة أقامها .. هل.. هل؟ لابد من الافتقار إلى الله، إن لم يكن عون لنا منه ما استطعنا، هو الذي علمنا أو لا؟ فهو يعلم: أننا إذا لم نطلب عونه في صدق، ويبذله لنا ويعيننا ما نحقق وعدنا له: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، أو تشكون في هذا؟ كم من مؤمن ما يصلي، أليس كذلك؟ كم من مؤمن لا يزكي، وكم.. وكم، فقدوا العون، وما طلبوا العون من الله فأعانهم.وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه الأنصاري الشاب، الفقيه، الوالي، القاضي، الذي بعث به إلى اليمن، قال له: ( يا معاذ والله إني لأحبك ) حلف له، آه لو كنت أنا، وكل واحد منكم يقول: آه لو كنت أنا، فوالله إنها لخير من الدنيا بما فيها، ويا ليتنا في النوم فقط نرى رؤيا، فنرى الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: والله إني لأحبك يا فلان، فكيف تصبحون بعد هذه الرؤيا؟ بعض المؤمنين يصبحون: الذبائح .. الطعام للفقراء والمساكين، والله العظيم فرحاً بنعمة الله .. أعظم عرس هذا، أي حفلة أعظم من هذه؟ فهذا أراه الله رؤيا وبشره بها قبل موته.وما من مؤمن صادق الإيمان، ولا مسلم حسن الإسلام إلا ويرى رؤيا يبشره الله تعالى فيها بالجنة قبل أن يموت، واقرءوا: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، كم شرط للولاية؟ شرطان: الإيمان الحق الصحيح، والتقوى الحق لله رب العالمين، بفعل الأمر واجتناب النهي، بهذا تتحقق الولاية.ثم قال تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:64]، انتبه! من يمحو ما كتب الله، ومن يبدل أو يغير ما كتب الله في كتاب المقادير: لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:64]، والله ما من مؤمن تقي ولا مؤمنة تقية إلا ويبشر بهذه الرؤيا قبل أن يموت في الدنيا.إذاً قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أي: لا أطلب عون أحد سواك؛ لأن الحصر واضح في إياك نعبد وإياك نستعين ما قال: إياك نعبد ونستعين بك، لأن معناه أنك فتحت الباب لأن تستعين بغير الله أيضاً، لكن صيغة الحصر وإياك نستعين تعني: لا أطلب عوناً ولا مساعدة من غيرك، وفي حديث معاذ : ( والله يا معاذ إني لأحبك فلا تدعن -أي: لا تتركن- أن تقول دبر كل صلاة ) وهل للصلاة من دبر؟ دبر الشيء مؤخره، أليس كذلك؟ فدبر الصلاة آخرها بعد السلام منها: ( أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )، وما الذكر ولا الشكر إلا جزءا العبادة، ولفظ العبادة عام، فكل ما أطعت به الله متذللاً بين يديه، ممتثلاً أمره، راغباً في إحسانه، هارباً خائفاً من عذابه، فهو العبادة.ولو سلمت وقمت هارباً لعملك في الطريق وأنت تمشي قل: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. فإنك إن عدمت عون الله، والله ما استطعت ولا قدرت على عملك، فتذلل لله عز وجل، واسأله أن يعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته، وحسن العبادة تأديتها على النحو الذي عرفت، مستوفاة الشروط والأركان والآداب، أي: كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك حسنها، فقد تؤدي الصلاة ولا تنتفع بها؛ لأنك أسأتها، وما أديت المطلوب، وما أحسنتها.(اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) هذه الدعوة بعد كل صلاة، إن شئت في الفرائض فقط، وإن عممت في النافلة أو السنة فهو خير، صليت قل فيها هكذا، أو قبل أن تسلم أيضاً، فدبرها يدخل فيها جزء من آخرها، وإن قلت بعد الصلاة فذاك.إذاً: هل يجوز لنا أن نستعين بإبراهيم أو عثمان بالتعاون على خشبة كبيرة: تعال من فضلك أعني؟ يجوز. لكن يجوز، وأين القلب؟ هنا، يجب أن يكون قلبك مع الله، إذ الله هو الذي خلق إبراهيم وأعطاه قوته البدنية، وقربه منك حتى رآك ورأيته، وأسمعه صوتك، وبعث به ليحمل معك، فمن الفاعل على الحقيقة؟ الله.فيجوز أن تستعين بما أذن لك أن تستعين به من عباد الله، ولكن لا يجوز أن تستعين به على المعصية، كأن يحمل معك برميل خمرة: تعال ادفعها معي، تستعين به على المعصية!إذاً نستعين بالله وبما أذن لنا من عبيده على عبادة الله، فإياك نعبد وإياك نستعين على العبادة، حتى نؤديها كاملة، وحتى نوفر بها لأنفسنا حاجتها من الزكاة والطهر.إذاً: فالذين يطلبون العون على معصية الله خانوا الله، وما فهموا: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أي: نطلب العون منه تعالى على العبادة، فنقوم بها ونؤديها على أكمل الوجوه.وإن قلت: يا شيخ! وهل كيس الرز عبادة حتى نستعين بالله على حمله إلى البيت؟الجواب: نعم، هذا عندنا عبادة، لأنك تريد أن تطعم به أم أولادك، وتطعم أولادك في ذلك البيت، وأنت المسئول عن قوتهم وتغذيتهم، فأنت مطيع في ذلك لله، فقد أمرك الله بالإنفاق عليهم، إذاً: هذا عبادة، فاستعن بالله تعالى على تحقيقها.ولو كان في يده مسحاة يضرب بها الأرض: بسم الله، طالباً العون من الله، فهل هذه عبادة؟إي عبادة، فهو يريد أن يحرث أرضه لينتج البر أو الشعير أو الفلفل والتوابل، من أجل -أيضاً- أن يتغذى ويغذي أهله، وما زاد باعه ليشتري به ثوباً يستر عورته، أو كساء يغطي به امرأته، فنحن ما خرجنا عن دائرة عبادة الله أبداً منذ أن عرفنا الله إلى أن نلقاه.فلهذا يا عبد الله! أنت تاجر أو فلاح أو صانع إياك أن تغش في عملك، أو تخدع فيه غيرك، أو تطلب له الحرام، هذه عبادة لا تنفعك أبداً إلا إذا أديتها كما بينها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-07-16, 03:30 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الفاتحة - (6)
الحلقة (6)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg


اشتملت سورة الفاتحة على مقاصد القرآن، ولهذا سميت بـ"أم القرآن" وكان مما اشتملت عليه تعليم المسلم الدعاء لله بأن يهديه الصراط المستقيم، أي الواضح وهو الإسلام، وبينت السورة أن هذا الصراط قد سبق إليه أناس وهم: النبيون والصديقون والشهداء والصالحون ممن أنعم الله عليهم بنعمة الإيمان، ويقابله الصراط غير المستقيم، وهو صراط المغضوب عليهم والضالين.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة الفاتحة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على عهدنا بسورة الفاتحة، فتح الله لنا ولكم أبواب الخير والهدى، آمين، وقد انتهى بنا الدرس إلى قول الله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].وأعيد بإيجاز ما سبق أن درسناه؛ تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

كيفية حمد الله والثناء عليه

لقد علمنا أن الله عز وجل امتن علينا وتفضل، فله الحمد والمنة إذ أنزل هذه السورة وعلمناها، وقال لنا: قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:2-7].إذاً: علمنا كيف نحمده ونثني عليه ونمجده؛ لأن الله أهل لذلك، كيف وهو رب العالمين، وهو الرحمن الرحيم، وهو المالك ليوم الدين. كما علَّمنا الله كيف نتملقه، ونتزلف إليه، ونقول في صدق: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، أي: لا نعبد إلا أنت، ونحن عابدون لك، ولا نعبد معك سواك، وبك نستعين فلا نطلب العون من غيرك؛ إذ لا يعين إلا أنت، فأنت وحدك المعين.وقد علمنا حديث معاذ كيف نسأله تعالى دبر كل صلاة: ( اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ). ومن لم يعنه الله ما وصل أبداً، ولا فاز، ولا عمل، ولا نجح، وإننا مفتقرون إلى عونه؛ إذ هو الذي يصرف الموانع، وهو الذي يسبب الأسباب، وهو الذي يهدي إليها، ويسوق عبده حتى يقوم بعمله على الوجه المطلوب، فينجح فيه، ويكسب زكاة نفسه، وطهارة روحه.

تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] علمنا كيف نطلبه أن يهدينا، يرشدنا، يدلنا، يصل بنا إلى الصراط المستقيم، الذي من سلكه واستقام عليه نجح، وفاز، ونجا من النار، ودخل الجنة، وقد عرفنا أنه الإسلام، فهو دين الأولين والآخرين؛ من آدم عليه السلام إلى يوم الدين، فلا صراط يسلكه السالكون فيفوزوا برضا الله وجواره إلا الإسلام.وما هو الإسلام؟الإسلام : أن نسلم -بمعنى نعطي- قلوبنا ووجوهنا لله، فتكون حياتنا كلها وقفاً على الله.وكثيراً ما بينت لكم: نصلي لله ونصوم، ونبني المنزل لنسكنه لله، ونهدمه إذا أراد أن ينهدم لله، ونتزوج، نطلق، نبيع، نشتري، نسافر، نقيم.. كل حياتنا لله. هذا هو الإسلام، فنسلم القلوب والوجوه لله، وقد جاء هذا في كتاب الله من سورة الأنعام قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163] أبقي شيء؟ دلوني على شيء يخرج عن الحياة؟هذا هو الصراط المستقيم: أن تكون كلك لله، فتنطق باسمه، وتسكت من أجله، تعطي له، وتمنع من أجله.. وهكذا، هذا هو نظام حياتك.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم)

قال تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] هنا بيان، وتفسير، وشرح للصراط المستقيم، هل سلكه سالكون قبلنا؟ نعم. هل اشترط رجالاً ونساءً قبلنا؟ نعم. من هم؟ هم الذين أنعم عليهم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7].وقد جاء بيان هؤلاء في قول الله تعالى من سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69] (ومَن) من ألفاظ العموم، يدخل فيها الذكر والأنثى، والأبيض والأصفر، والأول والآخر .. يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ محمداً صلى الله عليه وسلم فَأُوْلَئِكَ أي: المطيعون لله والرسول مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] وسنبين إن شاء الله هذه النعمة العظيمة التي أنعم بها عليهم.والآن من هم يا رب؟ قال: مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء:69] فمن هذه بيانية، مِنَ النَّبِيِّينَ جمع نبي، وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر أو خمسة عشر. وَالصِّدِّيقِين َ [النساء:69] وعلى رأسهم أبو بكر الصديق ، وكل من صدق في عمله وحديثه وقوله، وتحرى الصدق ولازمه حتى الموت صديق بين الصديقين. وَالشُّهَدَاءِ [النساء:69] جمع شهيد، ومن قتل في ساحة القتال لأجل إعلاء كلمة الله، ومن أجل أن يعبد الله وحده فهو الشهيد. وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] من هم الصالحون؟ الذين أدوا حقوق الله كاملة في حدود قدراتهم وطاقاتهم، وأدوا حقوق عباده كاملة لم ينقصوها، ولم يبخسوها.. أولئك هم الصالحون.فهؤلاء نسأل الله -وهو الذي علمنا- أن يهدينا صراطهم الذي سلكوه، ففازوا، ونجوا من عذاب الله، ودخلوا رضوانه في دار السلام.إذاً قوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] قد بينهم تعالى لنا في سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69-70].فعلمنا أن نسأله الهداية والثبات عليها في سلوكنا في هذا الصراط المستقيم الذي سلكه مَن قبلنا النبيون والصديقون والشهداء والصالحون.

النعم التي أنعم الله بها على عباده


لكن ما هي هذه النعمة التي أنعم بها عليهم؟أولاً: لفظ النعمة اسم جنس، تحته أفراد لا حد، ولا حصر لهم، كقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] فإن كانت نعمة واحدها كيف ما نحصيها؟ نعمة البصر معروفة، لكن المراد منها أفرادها بالمليارات كلفظ الإنسان واحد، فالإنسان اسم جنس تحته بليارات من الأفراد.هذه النعمة هنا فتح الله علينا فيها، وتكلمنا وبينا، ونحن إن شاء الله على علم وعلى حق، وهي أنها نعم وليست نعمة واحدة.

النعمة الأولى: نعمة الإيمان
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

النعمة الأولى: نعمة الإيمان، الذي هو ضد الكفر والعياذ بالله، وضد التكذيب والإنكار والجحود.والإيما هو: التصديق بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، وبكل ما أمرنا الله تعالى أن نصدق به سواء كان معقولاً أو غير معقول، وراء العقل أو فوقه أو أمامه. فإذا أمرنا الله تعالى أن نؤمن بشيء -بمعنى نصدق- آمنا به، وإن قالت المجانين: هذا وراء العقل.ونعمة الإيمان هي من أعز النعم، وأعظمها، وأجلها، وأفضلها، وأبركها، وهي بمثابة الروح للجسد، فهل تتم حياة بدون روح؟ لا والله، لن تكون، وما تكون.إذاً: الإيمان بمثابة الروح، والروح أغلى شيء وأنفسه وأعزه.إذاً الإيمان نعمة عظيمة، وهذه النعمة توهب ولا تطلب، فهناك فلاسفة، حكماء، علماء في الكون، في الذرة، في كل مجالات الحياة ما آمنوا، وماتوا وما نفعهم علمهم في الفلك، ولا في النبات، ولا في الإنسان، ولا في الذرة ولا .. ولا ..؛ لأن نعمة الإيمان توهب، وواهبها هو الله جل جلاله، ولما لم يهبها لـأبي طالب مات على الشرك، والرسول صلى الله عليه وسلم بين يديه يقول له: ( قل: (لا إله إلا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله )، لو كان الإيمان يكتسب لآمن أبو جهل عمرو بن هشام ، لآمن أبو لهب ، لآمن ولآمن .. الإيمان نعمة إلهية، وعطية ربانية، ومن أعطيها فليكثر من حمد الله والشكر لله على هذه النعمة؛ فإنها توهب ولا تطلب.وليس معنى هذا أننا نقول للناس: لا تتفكروا في خلق السماوات والأرض، ولا في الحياة والأكوان، لأن هذا كله يدعو إلى تقوية الإيمان وتثبيته في النفس، وتصديقه بالقلب، لكن كونك آمنت هذه نعمة الله.إذاً: النعمة الأولى هي نعمة الإيمان بكل ما أمرنا الله أن نؤمن به، أي: نصدق بوجوده وحقيقته. فهذه النعمة أنعم الله بها على أولئك المواكب أو لا؟

النعمة الثانية: نعمة معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته

النعمة الثانية: نعمة معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، هل بين أولئك المواكب من لا يعرف الله؟ مستحيل، كيف أطاعوه وهم لا يعرفونه؟! كيف أحبوه وهم لا يعرفون جماله ولا كماله؟! كيف خافوه ورهبوه وهم ما عرفوا قدرته ولا عمله ولا سلطانه؟ مستحيل.وهذه النعمة تطلب أو توهب؟ تطلب، فعليك أن تسأل أهلها، وتقرأ في كتبهم حتى توجد هذه النعمة في نفسك، وهي أن تعرف الله كما تعرف أباك وأمك، كما تعرف نفسك، كما تعرف الناس بين يديك، فتحفظ أسماءه، وتعرف صفاته كاملة، وبذلك تتجلى تلك المعرفة في قلبك فتثمر وتنتج لك، وتولد لك -يا عبد الله- فائدتين:الأولى: الخوف منه، فإذا أردت أن تتحرك حركة مما نهاك أو حرم عليك تخاف وترتعد فرائصك، وما تقدر. فالخوف من الله يتولد عن معرفة الله، ومن عرف سلطان الله وقدرة الله، وإحاطة الله بكل الكون، وأن بيده أرواح العباد، وبيده أرزاقهم، خافه وارتعد منه.الثانية: أن ينتج لك حبه تعالى، فتصبح تحب الله أكثر من نفسك، أكثر من أمك وأبيك، أكثر من مالك والناس أجمعين.فلهذا الذي لم يجد في قلبه خوفاً من الله، ولا حباً له فليس بمؤمن .. فليس بمؤمن.أما الخوف فقد قال تعالى من سورة فاطر: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فقصر خشيته عليهم بأداة القصر، فلا يخشى أحد الله إلا العلماء، والعلماء هم الذين عرفوا الله بأسمائه وصفاته معرفة يقينية كاملة تنتج لهم الخوف منه، فترتعد فرائصهم عند ذكره، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2].إذاً: النعمة الثانية: نعمة معرفة الله تعالى، وهذه النعمة تطلب، فلا تنام وتصبح تحب الله وتخشاه، بل لا بد أن تتعرف إلى الله، فتسأل فلاناً وفلاناً، وتنظر في الكون والذرة والكائنات؛ حتى يتجلى لك علم الله، وقدرته، وحكمته، وسلطانه ورحمته.. وبذلك تخافه وتحبه، وفي الحديث الصحيح: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ) فلا يبلغ أحدنا درجة الإيمان ويصدق عليه أنه المؤمن حتى يكون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما، لا امرأة، لا ولد، ولا وظيفة، لا دنيا ..، لا لا.فهذه النعمة اطلبوها، ومن أراد أن يطلبها في صدق فهناك كتاب الله تَعرَّف فيه إلينا حتى عرفناه، وهناك كتاب الكون، فانظر إلى الملكوت الأعلى وأدم النظر في السماء وكواكبها وأفلاكها، والرياح وعواصفها، والأمطار وآثارها، وانظر إلى الأرض وما فيها من أودية وأنهار وجبال وأبحار، وإنس وجن و.. و.. هذه المخلوقات تدل على خالق عظيم جليل كريم رحيم، يجب أن يحب، وأن يعظم ويبجل، وأن يخاف ويرهب؛ لهذه العظمة، إلا إذا كنا مجانين لا عقول لنا، فهذا شيء آخر.والمعهود بنا لو أن أحداً قدم لك كأساً من الشاي فإنك تحبه .. ولوأعطاك ريالاً أو عشرة ريالات وأنت محتاج إليها فإنك تجله، فما بالك تنسى الذي أعطاك كل شيء ولا تحبه ولا ترهبه ولا تخشاه.هذه هي الحقيقة وإن كانت مرة فلا بد منها.إن الجهل بالله تعالى هو الذي سبب الفسوق، والفجور، والعصيان، والكفران، والشرور، والمفاسد .. وأنواع الأخباث كلها ناتجة عن شيء واحد هو أنهم ما عرفوا الله، ولا يعرفونه، فما أرادوا وما طلبوا ذلك، وما بحثوا ولا استقصوا ولا سألوا، بل يعيشون في دنياهم كالبهائم أنى لهم أن يعرفوا الله، فهل الذي لا يسأل ويبحث يعرف؟!يا أبنائي! النعمة الثانية توهب أو تطلب؟ تطلب، ابحث، اسأل، وقد قلت لكم: هذا كتاب الله يتعرف فيه إلينا نحن الناس، اسمع في آيات البقرة الأولى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21] خطاب لنا أو لا؟ أبيضنا وأسودنا يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] من ربنا؟ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21] هل هناك من يقول: أنا لست مخلوقاً؟ إذاً والله ننهال عليه بالضرب، ما أنت مخلوق، ماذا أنت؟ حجر، أنت مخلوق، من خلقك؟ الله، اسأل وتعرف إليه، فأنت مخلوق الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].ثم قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22] هذه آية من آلاف الآيات، والذي لا يقرأ هذا الكتاب في خلوته، يضعه بين يديه أو يقول لأخيه: يا أخي! تعال اقرأ علي، اجلس معه في سارية من سواري المسجد، أو في زاوية من زوايا بيتك، أو تحت شجرة، أو في ظل جبل وقل: اقرأ عليَّ القرآن حتى أعرف ربي. لكن أنك لا تقرأ، ولا تطلب من يقرأ عليك، فكيف تعرف؟ ومن قال: وما الدليل على ذلك؟ أمة العالم هابطة، سببها: ما عرفت الله، فهي في متاهات الضلال والشر والفساد، حتى ولو انتسبوا إلى الإيمان.


النعمة الثالثة: نعمة معرفة ما يحب الله تعالى وما يكره

أما النعمة الثالثة فهي نعمة معرفة ما يحب الله تعالى وما يكره.فهل يعقل يا أبناء الإسلام أن عبداً آمن حق الإيمان وعرف الله بصفات الجلال والكمال، ثم لا يسأل عما يحب الله وما يكره؟ يعقل هذا؟! عرفت الله وعرفت جلاله وكماله لكن بدون أن تسأل عما يحب ولا ما يكره، بل تفعل ما تحب! فهذا أعلن الحرب على الله.لا بد -وهو من الضروريات- لمن آمن وعرف الله أن يعرف ما يحب الله وما يكره؛ حتى لا يقع في خصومة مع الله، الله يحب كذا وهو يحب كذا، الله يكره كذا وهو يكره .. كيف يعبده؟ كيف تتم ولايته؟معاشر المستمعين والمستمعات! من هنا كان طلب العلم فريضة، وهل هناك من ينقض هذا الكلام؟ الآن ما أصبحنا نقدر على نقضها، فلا بد من معرفة ما يحب الله وما يكره؛ حتى تأتي المحبوب وتقدمه له، وتطيعه فيه؛ لأنه يحبه وهو سيدك ومولاك، إلهك ومعبودك، مربيك وذو نعمتك .. كيف لا تعرف ما يحب حتى تقدم له المحبوب؟ويجب أن تعرف ما يكره حتى من نظرة أو كلمة من أجل أن تبتعد عنها وتتجنبها ولا تأتيها، حتى لا تغضبه عليك وتسخطه، فتخسر كل حياتك.وقد كررنا أن معرفة ما يحب الله وما يكره تعني ما يحب من الاعتقادات، والأقوال، والأعمال، والصفات والذوات، وهذا العلم قد عرفه الصالحون والصالحات، والذي ما عرف يجب ألا ينام الليلة أبداً، يقرع الأبواب من عالم إلى عالم: علموني ما يحب ربي، ومن اتقدت شعلة الإيمان في قلبه والله ما يقوى أن ينام الليلة وهو لا يعرف ما يحب الله ولا ما يكره، كيف أعيش؟ لعلي أفعل ما يكره، ولعلي أنا تارك ما يحب! يا ويلي.معاشر المستمعين والمستمعات! واقعنا شاهد على ما نقول، أكثر أهل لا إله إلا الله من المسلمين ما عرفوا محاب الله ولا مساخطه لا في الاعتقاد، ولا القول، ولا العمل، ولا الصفات، ولا الذوات، ولهذا يخبطون ويخلطون .. فهذه النعمة تطلب بالكد والجد والرحلة إلى الصين والشام والشرق والغرب؛ حتى تعرف ما يحب الله من الكلام والقول والعمل، وما يكره من ذلك.وأمرنا هذا لا يتطلب أبداً أكثر من أن يجلس أهل المسجد في القرية أو الحي كل ليلة، وطول حياتهم في بيت ربهم يتعلمون محاب الله، وكيف يقدمونها له، ويتعلمون مساخط الله وكيف يتجنبونها ويبتعدون عنها بتعاونهم، وهم أهل قرية واحدة أو حي واحد، وبدون هذا لن يعلموا، واسألوني، فهذا هو الطريق، لكنهم أعرضوا عنه، وأغلق الباب في وجوههم.أرأيتم هذه الحلقة؟ غمض عينيك وتصور أنها واجبة في كل مسجد في المدينة، سواء كانت لندن أو مدينة محمد صلى الله عليه وسلم، ففي كل مدينة فيها أحياء يجتمعون هذا الاجتماع بنسائهم وأطفالهم ورجالهم كل ليلة وطول العمر؛ حتى يعرفوا الله معرفة تكسبهم خشيته وحبه، وحتى يعرفوا ما يحب الله، وما يكره الله، وينهضون بالمحبوبات ويقدمونها، ويجتنبون المكروهات ويبتعدون عنها، وبذلك تتحقق لهم ولاية الله.يقولون: ما هو ممكن هذا، ما هو ممكن! كيف ما هو ممكن؟إن الذين اقتدينا بهم وقدسناهم من اليهود والنصارى والمشركين إذا فرغوا من العمل الساعة السادسة يذهبون إلى الملاهي والمقاهي والمراقص، يخففون على أنفسهم، ويتركون العمل، وأنتم لا! يقال: ما هو ممكن! لمَ ما هو ممكن؟ كيف ترقى السماء، وتنزل الملكوت الأعلى وما تبذل أرخص الأشياء؟ وما تجلس بين يدي ربك ساعة تتملقه بجلوسك في بيته فضلاً عن أنك تتعلم ما يجب أن تتعلم.هل هذا واقع المسلمين من أندونيسيا إلى موريتانيا يجتمعون في بيوت الله كل ليلة بنسائهم وأطفالهم ليعرفوا الله ما يحب وما يكره، أسألكم بالله موجود؟ لا. إذاً كيف يرجى لهم أن يفوزوا أو يسعدوا أو يكملوا؟ بالأوهام والظنون؟!فهذه النعمة تطلب بالكد والجد والعمل المتواصل، وأنت تسأل وتتعرف على الله حتى تعرفه، وتعرف ما يحب وما يكره، وكيف تأتي المحبوب، وكيف تتجنب المكروه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

النعمة الرابعة: نعمة التوفيق الإلهي لعبده المؤمن

النعمة الرابعة هي: نعمة التوفيق الإلهي لعبده المؤمن الذي عرف الله، وعرف محابه ومكاره، فلا تستغنِ عن الله وتقول: أنا ما كنت أعلم، والآن عرفت. والله إن لم يعنك ويمدك ما استطعت.بعضهم يعرف أن الخمر حرام ويشربه، أليس كذلك؟ ويعرف أن السرقة حرام وهو كاللص يترقب ليسرق، ويعرف أن الزنا حرام ويزني، ويعرف أن الربا حرام ويأكله ويبتلعه، ويعرف أن اغتياب المؤمن حرام ويغتاب ويمزق أعراض المؤمنين، يعرف.. يعرف.. يعرف، لمَ؟ لأنه حرم توفيق الله عز وجل، فهذه النعمة هي نعمة التوفيق لفعل المحبوب وترك المكروه، ومن خذله الله فلن يوفقه. وهذا ما نفعته تلك المعرفة لوجود خلل، ما هذا الخلل؟ أنه ما سأل الله أن يوفقه، وما تضرع بين يديه وطلب منه أن يسدده، وأن يصوبه، وأن يهديه الصراط المستقيم.ونعمة التوفيق لأي شيء؟ التوفيق للعمل بما عرف من محاب الله، ولترك ما عرف من مكاره الله ومساخطه.الخلاصة: أننا مفتقرون إلى الله، والنعم أربع: النعمة الأولى توهب، والنعمة الثانية تطلب، والنعمة الثالثة تطلب، والنعمة الرابعة توهب. فمن وهبه الله إياها؛ لأنه تملق وتزلف إليه فاز بها، ومعرفة هذه النعم الأربع خير من معرفة كيف تسوق (الميج) يا أبناء الدنيا، خير من أن تدير مصانع الهيدروجين في العالم.إذاً: هذا لنا، قال الله تعالى: ( هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) وهو اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7].أسألكم: من هم الذين أنعم الله عليهم ونحن نقول له: اهدنا صراطهم، الروس؟ الأمريكان؟ من هم يرحمكم الله؟ هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، والأول والآخر والآتي..أنعم عليهم بماذا؟ بالذرية؟ بالأموال؟ بالجاه والسلطان؟ بالرفعة والشأن؟ أنعم عليهم بأي شيء؟بأربع نعم: الأولى: نعمة الإيمان به تعالى، الثانية: نعمة معرفته جل جلاله وعظم سلطانه، الثالثة: نعمة معرفة ما يحب وما يكره من القول والاعتقاد والعمل، الرابعة: نعمة التوفيق لفعل المحبوب وترك المكروه لله.هذه أربع نسأل الله ألا يحرمنا إياها الليل والنهار.


تفسير قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)

قال تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] إذا قلنا: هذه آية سابعة، فتكون آية منفصلة، وإذا قلنا: هي تابعة صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] فهي الآية بكاملها. غَيْرِ [الفاتحة:7] نافية، تقول: جاء الطلاب غير إبراهيم ما جاء، فغير مثل إلا، وتقول: حضر التلامذة غير عيسى ما حضر.إذاً اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] أي: اهدنا صراط من أنعمت عليهم، لا صراط المغضوب عليهم، ولا صراط الضالين.فهناك إذاً ثلاثة صرط أو أصرطة:صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا سألنا الله وطلبناه في إلحاح أن يهدينا ويثبتنا في السير عليه حتى نخرج إلى دار السلام.وصراط قوم غضب عليهم، وهذا نسأل الله ألا يهدينا هذا الصراط، ولا يدلنا عليه، ولا يثبتنا عليه إذا وقعنا فيه.وصراط آخر أيضاً: صراط الضالين والعياذ بالله.نسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم، لا صراط المغضوب عليهم، ولا صراط الضالين.

صفة المغضوب عليهم

من هم المغضوب عليهم؟ هم اليهود وغير اليهود، ولهذا لم يقل: اليهود.المغضوب عليهم: هو الذي عرف الله، وعرف محابه ومساخطه، وآثر حب سلماه وليلاه وديناره ودرهمه، ومنصبه وجاهه، فهو على علم، وهذا غضب الله عليه.هذا علم وعرف وفسدت ملكته، وسيطرت عليه شهواته وهواه، فكان يعرف ما يحب الله ولا يأتيه؛ لأنه ينقص من ماله أو من درهمه أو من جاهه أو سلطانه، فهو على علم، يعرف ما يكره الله ويبغض ويأتيه؛ لأنه يحقق له ما له أو شهوته أو هواه، ويدخل في هذا من باب المثل اليهود، والله إنهم ليعرفون أن محمداً رسول الله كما يعرفون أولادهم، ولكن إذا قالوا: محمدٌ رسول الله يجب أن يتبعوه، وأن يدخلوا في دينه، وبعد ذلك سيحرمون مملكة بني إسرائيل، وشرف بني إسرائيل، ومجد بني إسرائيل، وأملهم وحلمهم في أن يسودوا العالم و.. و..، قالوا: إذاً لا .. لا .. لا، ما نؤمن، فهؤلاء كفروا على علم.هؤلاء عرفوا الربا وهو مما يغضب الله؛ لأنه يمنع القرض والسلفة بين المسلمين والمؤمنين، ويدفع إلى التكالب على الدنيا، وعرفوا أن الله حرمه، ويبغضه ويسخط على فاعله، ولكن آثروا المال وكثرته؛ ليتحقق حلمهم في سيادة العالم فاستباحوه علناً، واليهود هم أول من أكل الربا، والبنوك الموجودة -والله- لليهود، هم مؤسسوها وبانوها، والداعون إليها، والعاملون على نشرها وتحقيقها في العالم، من يتحداني؟ الغافل لا يعرف.يتحقق من طريق المال الربوي تمزيق الأواصر، وتقطيع الصلات، ويصبح المواطنون خصوماً وأعداء، لا سلفة ولا قرض، ولا إحسان، ولا معروف ولا .. ولا ..إذاً: لا أذهب بكم بعيداً فقد ورد في الحديث أن من المغضوب عليهم اليهود، ومن الضالين النصارى، ولكن لم غضب الله عليهم؟ هل فقط لأنهم بنو إسرائيل؟ حاشا لله، وهي أمة كانت أشرف الأمم وأسماها وأعلاها، وإنما غضب الله عليهم لأنهم عرفوا ما يحب وتركوه؛ لأجل مصالحهم وشهواتهم، وعرفوا ما يكره الله بالعلم اليقيني وارتكبوه؛ لأنه يحقق مصالحهم وشهواتهم، فكل من سلك هذا المسلك مغضوب عليه.وهنا قد يقول غافل: إذاً ما نتعلم أحسن! وقد قالوها لنا: لم ما تحضرون الحلقة الفلانية؟ قالوا: ما نريد؛ لأننا إذا علمنا وما عملنا نهلك، هذا فهم؟!اعلم عسى الله أن يهديك ويوفقك وتعمل، لكن إذا ما علمت فأنت ممزق هالك بالمرة الواحدة.إذاً: قد يقول الغافل: ما هناك حاجة إلى أن نعلم، ما دام أن العلم سبب لغضب الله علينا! هذا كلام يقبل؟ ما يقبل، لأنه مغضوب عليك إذا عملت أو لم تعمل.اعلم واعمل يرض عنك وترفع، أما تقول: لا، ما نعلم ما دمنا ما نعمل! هذا كلام باطل.

صفة الضالين
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

من هم الضالون؟هم الجهلة الذين يعملون ويكدحون بدون علم، فهم ضلال لم يرضَ الله عنهم.هذا السر في ذكر الضالين، لأنه قد يقول قائل: ما دام العلم يورث سخط الله علينا وغضبه، ونصبح كاليهود، ما نعلم أحسن! يعني: تبقى جاهلاً، أنت كالضالين، الجاهل ضال أو مهتدي؟ ضال. الذي ما يعرف الطريق يسلكه؟ لا يستطيع.إذاً فلا خيار: إما أن تستقيم على منهج الله، وإما تتمزق مع اليهود ومع النصارى.فالضالو وإن أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم النصارى، ولكن كل من عبد الله وبكى، وتمرغ في الأرض، وأخرج ماله ونفسه، وربط نفسه في صومعة، يعبد الليل والنهار بدون ما شرع الله فهو ممزق ضال.تعرفون الرهبان؟ ينقطعون في الصوامع عشرين سنة ما يعرف امرأة، ولا مال، ولا ولد، ومع هذا محترق ممزق؛ لأن هذه العبادة ما شرعها الله، بل وضعها القسس والرهبان، وما هي بشرع الله أبداً، هل تزكي النفس وتطهرها؟ ما تنفع.فمن هنا نقول: يجب أن نتعلم، وأن نعمل بما علمنا، حتى نكمل ونسعد، ولا نقول: ما دمنا ما نعمل لا نتعلم؛ لأن الذين لا يعلمون هالكون، ضالون الطريق، ما مشى في الطريق الموصل إلى رضا الله وجناته، فهم يتخبطون حيث تجدهم في المستشفيات والأموال يدفعونها، والانقطاع، والبكاء من خشية الله، وهم محترقون، يعبدون الله بالبدع والضلالات.وفي المسلمين أناس يبذلون الطعام والشراب، ويبكون، وهم يعيشون على البدع، ما يستفيدون شيئاً أبداً، قلوبهم منتنة عفنة؛ إذ لا بد من معرفة ما يحب الله وما يكره معرفة يقينية، وكيف تفعلها وتقدمها؛ إذ لها ظروف، أوقات، أمكنة، لها صفات، ذوات تؤديها كما هي، وإلا كيف ينفع هذا العلم.

سورة الفاتحة منبع لكل ما في القرآن من معانٍ

سورة الفاتحة هي السبع المثاني، هذه أم القرآن، فأسماء الله وصفاته، وعبادته، شرائعه وأحكامه، قصصه وأخباره .. كلها نبعت من هذه السورة. فقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3] يدل على توحيد الله في أسمائه، وصفاته، وجلاله، وكماله، وهو مذكور في آلاف الآيات من القرآن.وقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] عرض للعالم الثاني بما فيه من حساب وعقاب، وجنة ونار، وصنوف الشقاء وضروب السعادة بكاملها في كلمة يوم الدين، فتولد عنها آلاف الآيات.وقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] تفرعت عن هذه الكلمة جميع أنواع العبادات القلبية، والقولية، والعملية.وقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فجميع القصص في القرآن كله تفرع عن هذه الجملة، فلهذا سماها الله على لسان رسوله أم القرآن.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-07-18, 12:35 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الفاتحة - (7)
الحلقة (7)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

ثبت للفاتحة جملة أسماء منها: "أم القرآن" لكونها اشتملت على مقاصد القرآن، و"السبع المثاني" لأنها تثنى في الصلاة، و"الكافية" لأنها تكفي في الصلاة، وكان مما بُيّن في الفاتحة أننا أعطينا الله عهداً بأن نعبده وحده، ولا نشرك معه غيره، وأن ندعوه أن يهدينا طريق الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، فننعم بنعمة الإيمان والتوفيق.

تأملات في تفسير سورة الفاتحة


الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على عهدنا بسورة الفاتحة، فتح الله لنا ولكم أبواب الخير والهدى، آمين.وإننا ما زلنا مع فاتحة الكتاب الكريم، القرآن العظيم، وهذا آخر درس نلقيه ونتلقاه عن تلك السورة العظيمة، ومن هنا إليكم خلاصة ما سبق أن درسنا وعلمنا والحمد لله ربنا على ذلك.

من أسماء سورة الفاتحة: أم الكتاب وأم القرآن

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
أولاً: سميت هذه السورة بالفاتحة؛ لأن الله تعالى افتتح بها كتابه، فهي أول سورة من سور القرآن الكريم، التي هي مائة وأربع عشرة سورة.وتسمى بأم الكتاب وبأم القرآن؛ لأن جميع ما في القرآن متفرع عنها كالأم، فحواء تفرعت عنها بلايين البشر، فشملت الفاتحة:أولاً: توحيد الله عز وجل في ألوهيته، إذ قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة:2]، وربوبيته: رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وأسمائه وصفاته: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، وفي هذا ثلث القرآن أو أكثر.ثم: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] إشارة إلى الجزاء الأخروي، وفي ذلك بيان للحشر، والنشر، والحساب، والجزاء في الجنة أو النار، والقرآن الكريم بين هذا وفصله، وضرب له الأمثال في آلاف الكلمات.ثم: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، جميع أنواع العبادات، كالصلاة والصيام، والزكاة، والحج، والجهاد وما إلى ذلك مبينة في القرآن الكريم.ثم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]. أي: القصص الذي حواه القرآن للعظة والعبرة، وقد اشتمل عليه مئات الآيات بل آلاف الكلمات.إذاً: لهذا سموها بأم الكتاب وأم القرآن. من سماها بهذا؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من أسماء سورة الفاتحة: السبع المثاني


تسمى سورة الفاتحة بالسبع المثاني؛ لأن آياتها سبع وتثنى في الصلاة، وآية بعد آية وطول الحياة؛ ولهذا قال تعالى من سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87].وقد عرفتم أنها سبع آيات لا ثمان آيات ولا ست آيات، ومن زاد أو نقص كفر، ويكفي أن الله قال: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [الحجر:87].ومن هنا علمنا أنها نزلت مرتين، مرة معها بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1] فعدت آية، والآيات الست بعدها، ونزلت مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1]، فكانت الآيات سبع.وإليكم بيان السبع بالبسملة أولاً: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:1-7]. فهذه سبع بالبسملة.كما أنها نزلت بدونها: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:1-7]، فهذه سبع آيات.فمن قال كـالشافعي وتلامذته: الآيات سبع والبسملة هي الأولى، نقول له: أصبت؛ لأنها نزلت بـ بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1].وإن قال مالك أو أبو حنيفة أو أحمد أو غيرهم من تلاميذهم: الآيات سبع، ولكن البسملة ليست سابعة، فشأنها كما في أوائل السور في القرآن، إلا ما كان من سورة التوبة، فإنها ما افتتحت ببسم الله الرحمن الرحيم، والآيات سبع بدونها، والسابعة هي: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، نقول له: أصبت، واتحدت أمة الإسلام، ومشت مواكب النور بلا خلاف.

من أسماء سورة الفاتحة: الشافية
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

سميت الفاتحة بالشافية؛ لأن اللديغ الذي لسعته العقرب كاد أن يموت، فجاء موكب من مواكب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلوا بذلك الحي واستضافوا أهله، فشحوا، وضنوا عليهم، وفجأة جاءوا: إن سيد الحي قد لدغ هل فيكم من راق؟ من يرقي؟ قالوا: نعم، على أن تجعلوا لنا جعلاً؛ قطيعاً من الغنم، أربعين شاة، ووضع اللديغ بين يدي الصاحب الجليل، وأخذ يقرأ الفاتحة وينفث من ريقته الطاهرة على مكان اللدغة، وما زال يقرأ الفاتحة وينفث حتى قام الرجل كأنما نشط من عقال.

من أسماء سورة الفاتحة: الكافية


سميت الفاتحة بالكافية؛ لأنها تكفي في الصلاة، ولا يكفي عنها غيرها، فلو تقرأ البقرة كاملة في ركعة وبدون الفاتحة ما صحت صلاتك، بله لو تقرأ القرآن كله في صلاتك بدون الفاتحة صلاتك باطلة.إذاً: تكفي ولا يكفي غيرها عنها، ولهذا سميت بالكافية.

من أسماء سورة الفاتحة: الصلاة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

سميت الفاتحة بالصلاة، تقول: هذا الرجل يقرأ الصلاة، وهذا يقرأ في الصلاة، كيف تفسر؟ وهل بينهما فرق أو لا؟ فقولك: يقرأ الصلاة، أي: يقرأ الفاتحة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وقولك: رأيته يقرأ في الصلاة، أي: الفاتحة يقرأ فيها والسورة.إذاً: سميت بالصلاة لأنها لا تصح إلا بها، تكفي ولا يكفي عنها غيرها.وهل تدرون من سماها الصلاة؟الله ربنا جل جلاله وعظم سلطانه هو الذي سماها بالصلاة، إذ أخبرنا أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى قال وقوله الحق: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، إذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال العبد: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، قال تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي -هذا لله- وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي -العبادة لي والاستعانة لعبدي-. وإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، قال الله تعالى: هذا لبعدي ولعبدي ما سأل )، الله أكبر! هذا خير عظيم، والله لخير من ملء الأرض ذهباً.قسم الله تعالى الصلاة بيننا وبينه قسمين: قسم له وحده لا شريك له، وقسم لنا وحدنا لا شريك لنا، وقسم بيننا وبينه، فله العبادة الخالصة، ولنا العون منه على تلك العبادة.إذاً: سميت الفاتحة بالصلاة، سماها الله جل جلاله ومنزلها، نصفها لله ونصفها للعبد، إذا قيل لك ما هو الذي لله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4].وإن قيل لك: ما الذي بيننا وبين الله قسمين؟ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، العبادة لمن؟ له هو وحده. والاستعانة والعون لمن؟ لنا نحن؛ لأننا ما نستطيع أن ننهض بدون عونه تعالى.وإن قيل لك: وما الذي لنا وحدنا؟ الجواب: الهداية إلى الصراط المستقيم، لا صراط المغضوب عليهم ولا الضالين.

عهد العبودية لله تعالى وما ينقضه


عرفنا في الدرس الأخير أن من قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] فقد أعطى عهداً لله تعالى، أي: عاهد الله ألا يعبد غيره، فأنت يا عبد الله تناجي ربك بين يديه قائلاً: إياك وحدك أعبد. ثم إنك لا تعبده وتعبد معه غيره، فتكون قد كذبت عليه، واستهزأت به، وسخرت منه.احذر يا عبد الله! أن تتخلى عن عبادته أو تشرك معه فيها غيره وسواه، احذر وقد عرفت؛ فلهذا إذا كنت جاهلاً كما كنا، وكنت تدعو غير الله، وتقول: يا ألله! يا سيدي فلان! وسمعت من يقول لك: انتبه! قد انتحرت، إنك عبدت مع الله غيره؛ لأن الدعاء هو العبادة، والدعاء مخها، ولا عبادة بدون دعاء، فمن دعا غير الله فقد أشرك والعياذ بالله.الغافلون يحلفون بغير الله، ويظنون أن هذا من الدين، وهم في ذلك غالطون جاهلون، وقد نقضوا عهدهم وكذبوا على ربهم لما قالوا: إِيَّاكَ [الفاتحة:5] وحدك، نَعْبُدُ [الفاتحة:5] ويحلف بغير الله؛ لأن الحلف بغير الله صرف عبادة لغير الله، والحلف يا معشر السامعين والسامعات! تعظيم للمحلوف به، وليس بالأمر الهين.أصل الحلف لا يكون إلا بمن هو عظيم، وأجل، وأخبر، وقدوس، ولهذا يحلف الناس به، فمن حلف بغير الله سواء حلف بالنبي أو بالكعبة أو بـعبد القادر أو بالطعام أو بالملح أو باليوم والساعة كما هي أيمان أهل الجاهلية، يحلفون بالطعام يقول: والطعام الذي أكلنا، يحلفون باليوم: وهذا اليوم، يحلفون بالكعبة، يحلفون بسيدي عبد القادر ، بالنبي.. هذه الأيمان كلها أيمان باطلة محرمة، والحالف بها قد أشرك في تعظيم الله مخلوقاً من مخلوقاته.قد يقول قائل: كيف عرفنا أن الحلف بغير الله شرك؟نقول له: هل درست السنة؟ هل قرأت جامع الترمذي ؟ قال: لا.إذاً: ارجع إلى الكتاب العظيم، والذي كأنه نبي في بيتك يتكلم، فسوف تجد قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر )، وهو حديث صحيح، وبعد هذا تقول: ما هناك حديث يقول: إن الحلف بغير الله شرك؟!وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثاً وعشرين سنة، وهو يدعو إلى ربه، والوحي ينزل عليه، فهل ثبت أن مرة من المرات حلف بغير الله؟ ثلاثاً وعشرين سنة وهو يحلف، هل قال: بحق سيدي إبراهيم؟ بحق خليل الرحمن؟ كانت يمينه: بالله، وتالله، واليمين المفضلة عنده: ( والذي نفس محمد بيده )، من هو الذي نفس محمد بيده؟ الله، إذ هو القائل من سورة الزمر: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]، فأرواحنا بيد الله، وبمجرد ما تنام تفارقك روحك، ويعرج بها إلى الملكوت الأعلى، وإن كان القلب يخفق، والدماء تدور، وأنت تشخر وتظن أن روحك فيك، لا، هذه فقط محطة شغالة بأجهزتها، والروح في الملكوت الأعلى، إن شاء قبضها والله ما ترجع، ولن تجدك إلا ميتاً، وإن شاء أرسلها إلى أن تنتهي أيامك.معاشر المستمعين والمستمعات! الحلف بغير الله نقض للعهد الذي بيننا وبين الله.وهكذا كل أنواع العبادات من الصلاة إلى الزكاة، من الرباط إلى الجهاد، من الذكر إلى الدعاء، كل ما تعبدنا الله به صرفه إلى غير الله معناه نقض للعهد الذي بين العبد وبين الله، وهو يجدده كل يوم: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

معرفة الله
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

علينا أن نجتمع كل ليلة وطول الحياة في بيوت ربنا في مدننا وقرانا، نتعلم العلم، ونعرف محاب الله ومساخطه، وتترقى نفوسنا في الكمالات الروحية؛ حتى نتهيأ في ساعة ما للحاق بالمواكب الأربعة في الملكوت الأعلى، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، أما أن نكون كاليهود والنصارى والمشركين نهجر بيوت الله وكتابه ونوره، ونعيش في ظلام الشهوات والأهواء، وندعي أننا مؤمنون، فهذه دعوى لا تقبل، ولا تصح.وأكبر برهان وأقوى دليل أن ثلاثة أرباع المسلمين مشركون بالله تعالى وهم لا يشعرون، فهم ما درسوا، وما تعلموا، وما قرءوا كتاب الله، وما زاحموا العلماء كما زاحم جبريل رسول الله بركبتيه.كيف يعلمون؟ وكيف يعرفون؟ وأنى لهم أن يعرفوا محاب الله ومساخطه، أو كيف يتقون المساخط وينهضون بالتكاليف؟!إن العلة العظمى هي الجهل، فمن لم يعرف الله ما عبده.كيف نعرف ربنا معرفة تملأ قلوبنا بنوره، معرفة توجب لنا حبه والخشية منه، ونحن ما جلسنا يوماً نسأل ونتعرف على الله، كيف؟ حياة المسلمين كحياة الكافرين، يشتغلون في المصانع والمتاجر والمزارع و.. و.. وإذا دقت الساعة السادسة، ومالت الشمس إلى الغروب زحفوا إلى المقاهي والملاهي والملاعب، كأنهم غير مؤمنين، فنظام حياتنا غير نظام حياتهم، لكننا جرينا وراءهم وهبطنا أكثر من هبوطهم، فمتى نستيقظ؟ متى نعرف الطريق؟ ولعل من السامعين من يشك في هذه النظريات، هذه ما هي نظريات، هذه حقائق ثابتة علمية، فيوم أعرض المسلمون عن الوحي الإلهي، عن قال الله وقال رسوله، وابتعدوا عنه، إلى أين وصلوا؟ أما استعمروا، واستغلوا، وأهينوا، وذلوا وإلى اليوم؟ لكن أيام كانوا رجالاً ونساءً يقرءون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، والنور المحمدي يشع على ألسنتهم وفي سلوكهم ما فارقوا الكتاب والسنة، كيف كانوا؟ والله ما رأت الدنيا لهم مثيلاً قط منذ أن كان البشر في عزهم وطهرهم وكمالهم وسعادتهم في ثلاثة قرون كاملة؛ الصحابة وأولادهم وأولاد أولادهم؛ لأنهم كانوا هكذا: دقت ساعة نهاية العمل اقبلوا على ربهم في بيوته، يتلون كتابه، ويتدارسونه، ويتعلمون.

منازل الذين أنعم الله عليهم


قال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، وهنا أسألكم: من هم الذين أنعم الله عليهم، حتى تقول: رب اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم؟ ويجب أن تعرف من هم هؤلاء؟ وحرام ألا نعرف هذا، ندعو الله أن يجعلنا في صراط قوم أنعم عليهم ونحن ما نعرفهم، من هم؟ النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، هؤلاء أين هم الآن؟ في الملكوت الأعلى، في دار السلام، أرواحهم في الجنة.ما من مؤمن صالح زكي النفس تخرج روحه إلا التحقت بهم، ونزلت منازلهم في هذه الحياة.إذاً: لما تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] الذي هو الإسلام، صِرَاطَ [الفاتحة:7]، من؟ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، من هم يا رب؟! عرفناهم بتعريفك إيانا: النبيون، الصديقون، والشهداء، والصالحون.وهل نحن إن شاء الله صديقون؟ إن شاء الله. يجب أن نكون صديقين، يجب أن نكون صالحين، يجب أن نكون شهداء، لكن أنبياء؟ لا؛ لأن النبوة ختمت، فمن ادعى النبوة في يوم ما فقد كفر؛ لأنه كذب الله تعالى وكذب رسوله، والرسول يقول فيه الله تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، فلا مطمع أبداً في أن تكون نبياً، ولكن وجب أن تكون صديقاً، وشهيداً، وصالحاً في الصالحين.كيف نكون صديقين؟!الباب مفتوح والنور يتلألأ، اصدق في قولك وعملك واعتقادك، واطلب الصدق وتتبعه وتحرّه، فلا تزال كذلك حتى تعطى شهادة بأنك صديق.واسمعوا الرسول الكريم يقول صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بالصدق )، الزموه وحافظوا عليه وعيشوا عليه، ( فإن الصدق يهدي إلى البر )، قطعاً يهدي صاحبه إلى ساحة الخير والبر، ( وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً )، هذه الجائزة، دكتوراه هذه، ماجستير، ليسانس، ماذا هذه يا عشاق الشهادات؟ يكتب عند الله صديقاً، أصبح في الموكب الثاني؛ النبيون أولاً، والصديقون ثانياً: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33].من منكم طامع؟ كلنا طامع، وكلنا راج، وكلنا نتحرى الصدق ليل نهار، حتى نكتب مع الصديقين.قلت قل الحق، اعتقدت اعتقد الحق، عملت اعمل في صدق، لا تغش ولا تضلل ولا تخدع، واطلب هذا طول حياتك، فسيأتي -والله- يوم وأنت صديق، ومن الجائز أن تكون من أول يوم، من يوم ما بلغت وما عرفت الكذب أنت صديق.الشهداء خمسة، لكن إما أن تستشهد في ساحة المعركة، وإما أن تنوي الشهادة وتطلبها، وتسأل الله أن يرزقك إياها، ولكن حافظ على مالك فلا تنفقه في الحرام، ولا تنفقه في البذخ والسرف؛ لأن هذه وديعة استودعكها الله، فمالك لله.وحافظ على بدنك، لا تدخل عليه عللاً وأسقاماً وأوجاعاً؛ لأنك متهيئ للجهاد، فيوم يقول إمام المسلمين: أموالكم، تدفع المال، يوم يقول: رجالكم، تتقدم بنفسك، فلا بد من هذه النية، واقرءوا إن شككتم: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، بعنا أو لا؟ قولوا: ما بعنا أو بعنا؟ بعنا، إذاً: أموالكم وأبدانكم لله عز وجل، فالمال حافظ عليه؛ فلا تبذره، لا تسرف فيه، إياك أن تنفقه ضد صاحبه، إن سجارة تحرقها خنت الله عز وجل في ماله، وهو بضاعة عندك ووديعة.وبدنك لا تدخل عليه ألماً ولا أذى ولا ضرراً أبداً، إذا دعا داعي الجهاد يجدك قادراً على أن تحمل السلاح وتقاتل، لقد بعت، وهي أمانة عندك، فإذا طلبها صاحبها تقول: مع الأسف ضاعت، كيف تضيع؟ إذا ضاعت بقضاء وقدر نعم هو يعذرك، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111]، الثمن ما هو؟ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111]. إذاً: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، فلهذا المؤمنون من هذا النوع لا يدخلون على أبدانهم أذى ولا ضرراً أبداً، لا يأكلون السم، ولا يشربون حشيشاً، ولا خمراً ولا دخاناً، ولا يسهرون طول الليل ولا ولا.. يحافظون على أبدانهم؛ لأنها أمانة الله عندهم.أموالهم كثيرة أو قليلة ينفقونها على أنفسهم التي هي لله، ولا ينفقون فلساً واحداً في غير طلب الله ومرضاة الله، ولا يسرفون، ولا يبذخون، ولا يترفون أبداً؛ لأنها أموال لله، مودعة عندهم، باعوها من يوم أن قالوا: لا إله إلا الله محمداً رسول الله.معاشر المستمعين والمستمعات! هل المسلمون -وهم ألف مليون- عرفوا هذه الحقيقة؟ آه! والله ما عرفوا.إذاً: كيف تقام بهم الدولة الإسلامية، وترفع راية لا إله إلا الله في ديارهم وهم ما عرفوه؟من صرفهم عن المعرفة؟ العدو.من هذا العدو؟ الثالوث الأسود: اليهود، المجوس، النصارى. كيف عرفت يا شيخ أنهم العدو؟! عرفنا من يوم أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وانتصر المسلمون في بدر، فاليهود في المدينة استشاطوا غيضاً، وأصابهم كرب وهم وغم، فأعلن بنو قينقاع تمردهم، فأجلاهم رسول الله، وأبعدهم إلى أذرعات ببلاد الشام.بنو النظير تآمروا على قتله والقضاء عليه، إنهاءً للإسلام، فأرسلوا عليه رحى طاحونة ونجاه الله، وأجلاهم.وبنو قريظة تآمروا مع الأحزاب، وأرادوا أن يضربوه.إذاً العدو الأول للإسلام الذي بدأ هو اليهود؛ لأنهم قالوا: إذا دخلنا في الإسلام إن انتهى وجود بني إسرائيل لا حلم في مملكة ولا دولة ولا حكم ولا.. أبداً انتهوا وذابوا في نور الإسلام. فإن قيل: لا. يا شيخ! هذه أوهام تقولها؟قلنا: أليسوا الآن قد كونوا دولة في فلسطين؟ أليس هذا من حلمهم، وتحقق يقيناً؟ قلناها قبل أن توجد، وما بعد وجودها بقي كلام، وما زالوا يحلمون بإعادة مملكة بني إسرائيل من النيل إلى الفرات.العدو الثاني: المجوس، ما إن سقط عرش كسرى في الدولة الساسانية المجوسية عبدة النار حتى تكوّن حزب يعمل في الظلام لضرب الإسلام، وأول رصاصة أطلقوها: أن قتلوا عمرنا في بيت ربنا، وفي روضة نبيا، قتله أبو لؤلؤة المجوسي.والنصار : ما أن شعت نور الإسلام في غرب أوروبا وشمال أفريقيا حتى استشاطوا غيضاً وتآمروا، وبحثوا عمن يتعاونون معهم، فتعانقوا مع المجوس واليهود، فكونوا الثالوث، وهم الآن يعملون بانتظام.هل فهم المسلمون هذا؟يا شيخ! مشغولون بالبقلاوة، والوظائف، والمال، والمآكل، أنى لهم أن يعرفوا هذا؟ هذا الشيخ خيالي، خرافي يقول هذا الكلام.إذاً: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، عرفنا من هم. اللهم إننا على طريقهم، وفي سبيلهم سائرون، فلا تحرمنا لقاءهم يا رب العالمين!

النعم التي أنعم الله بها على عباده
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

ما هذه النعم التي أنعم الله بها عليهم، هل هي مال .. ذرية .. دولة .. شرف؟ ما هذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم؟ ما أنت تقول: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، لو قيل لك: بم أنعم عليهم؟ بساتين .. مصانع .. أموال .. زوجات صالحات؟!أنعم عليهم بما يلي:أولاً: نعمة الإيمان، وهي أعلى نعمة وأغلاها وأسماها، وعرفنا أنها توهب، عطية الله، ولن تستطع أن تؤمن إذا لم يرد الله أن يدخل الإيمان في قلبك، وكم من حكماء وفلاسفة وعلماء في الكون والذرة ما آمنوا، وما وهبهم الله ذلك.ثانياً: نعمة معرفة الله عز وجل، وهذه النعمة توهب، فهل إذا كنت نائماً ستصبح عالماً؟ إنها -والله- لتطلب بالكد والجد والسعي، وقد رحل طلابها -والله- من غرب أوروبا إلى هذه المدينة، سنة وهم في طريقهم، ويجلسون بين يدي مالك والشيخ ربيعة وفلان يتلقون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحدنا لا يستطيع أن يغلق باب الدكان بين المغرب والعشاء، فمن أين لك أن تعرف الله وكيف تعرف محابه ومساخطه؟! والذي لا يعرف محاب الله ومساخطه كيف يعرف الله؟ والذي لا يعرف الله ولا ما يحب ولا ما يكره مستحيل أن يكون من المؤمنين، أبداً ما يمكن؛ لأن معرفة الله تثمر وتنتج طاقة، وهذه الطاقة التي تنتجها هي حبه تعالى، فيصبح العبد يحب الله أكثر من أمه، تعرفون الأم أو لا؟ تريد أن تدخلها في جوفك لكن الله أحب إليك، فضلاً عن الولد والمال، حب الله يجعلك إذا طلب يهون أمامك كل طلب، ما دام الله قد طلب الشيء تبادر إليه، ويثمر لك الخوف منه، فلا تخاف سلطاناً ولا شيطاناً ولا جاناً ولا إنساناً، ولا موتاً ولا ولا .. لا تخاف إلا الله.إذاً: هذه المعرفة معرفة الله تعالى، ومعرفة محابه ومساخطه تنتج لك شيئين عظيمين: حبه والخوف منه، والدليل قال تعالى من سورة فاطر: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، احفظوا يا عوام مثلي! لم ما ننطق ونحفظ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ [فاطر:28]، من؟ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، لا تشك في هذا، فالخشية مقصورة عليهم، وهم أهلها، والذين ما علموا الله ولا عرفوه لا يخشونه، ودعواهم الخشية كذب وباطل، ويمتحنون فتظهر عيوبهم، ولابد من العلم فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، من الآمر (فَاعْلَمْ)، من المأمور؟ الله الآمر، والرسول المأمور، ونحن أتباعه، كيف نعلم؟ بالأدلة، بالبراهين، بطلب العلم؛ حتى تعرف أنه لا إله إلا الله. ثالثاً: نعمة معرفة ما يحب الله وما يكره من الاعتقاد والقول والعمل، وهذه تطلب ولا توهب، فلابد من السفر على أقصى الشرق والغرب، لابد من السهر، ولابد من قرع أبواب العلماء، لابد من مزاحمتهم، وعندنا مثل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقص على أولاد الصحابة بعد موتهم يقول لهم: كنت آتي إلى بيت أبي بكر أو عمر أو عثمان أو فلان وأجلس عند الباب أنتظر متى يخرج، فيغلبني النوم، فأنام على العتبة، وتأتي الرياح فتذروا التراب في وجهي، ما أستطيع أن أقرع الباب وأقول: يا عمر أسألك أو يا علي ، بل أنتظر خروجه، ونحن الآن سنة نبكي ندعو يا عباد الله! والله ما ينقذكم من وهدتكم هذه إلا العودة الصحيحة إلى الله، فاجتمعوا في بيوت ربكم بنسائكم وأطفالكم ورجالكم فقط من المغرب إلى العشاء وادرسوا كتاب الله وهدي رسول الله تتحد قلوبكم ووجهات نظركم، وتعرفون ربكم، وتتلاقون على حبه ولقائه.ما نستطيع يا شيخ! ما نقدر.. هذا هو الفشل، آه!كيف نعرف ما يحب الله من الاعتقادات، والأقوال، والأعمال، والصفات، والذوات إذا لم ندرس ونتعلم يومياً طول حياتنا، ما قلنا: أوقفوا المزارع ولا المصانع، ولا المتاجر ولا ولا ولا.. قلنا فقط: كما أن اليهود والنصارى إذا انتهى العمل الدنيوي أقبلوا على المراقص والمقاصف والملاهي، فأقبلوا أنتم على بيوت ربكم، احملوا نساءكم وأطفالكم وضعوهم في بيت الله، وابكوا معهم بين يدي الله.ما نستطيع؟ إذاً: ابقوا على الخلاف، والتناحر، والتطاحن، والفتن، تنتقل من بلد إلى بلد، والدماء، والبكاء، والأحزان، لا إله إلا الله، هل من منقذ؟ لا أحد إلا الله، الله قال: ما يريدون. رابعاً: نعمة التوفيق، فقد تعلم وتحرم التوفيق؛ لأنك ما طلبته، فتعلم المحاب ولا تأتيها، وتعرف المكاره وتأتيها، لأن التوفيق غير موجود، وسبب ذلك أنك ما صدقت الله عز وجل، فلابد من أن تتضرع كل ساعة، وكل ليلة وأنت في العبادة، وتسأل الله الثبات عليها، والتوفيق لما لا تعلم منها.هذه أربع نعم، أنعم الله بها عليهم، ونحن كذلك إن شاء الله منهم.

التحذير من سلوك طريق المغضوب عليهم والضالين
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الفاتحة:7] أي: غير صراط المغضوب عليهم، وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، عرفنا أن اليهود مغضوب عليهم، وعرفنا أن كل من عرف ما يحب الله وما يكره، وتعمد ترك المحبوب لله، وتعمد فعل المكروه -والله- لمغضوب عليه كاليهود.وعرفنا أن من الضالين النصارى، فقلنا: كل من يعبد الله بالبدع، والخرافات، والضلالات، ويعبد الله بغير الكتاب والسنة، والله إنه لضال في الضالين كالنصارى، إذ نحن ما عندنا قول أو حركة إلا على نور الكتاب والسنة، كيف نعبد الله بعبادات ما شرعها، وندعي أنها تزكينا وتطهرنا، وتجعلنا في مواكب الصالحين.

تنبيهان متعلقة بسورة الفاتحة


التنبيه الأول: كلمة آمين ليست من الفاتحة واستحباب مد الصوت والجهر بها
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم في آخر السورة: [تنبيه أول: كلمة آمين ليست من الفاتحة. ويستحب أن يقولها الإمام إذا قرأ الفاتحة يمد بها صوته -آمين- ويقولها المأموم، والمنفرد كذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا أمن الإمام فأمنوا أي: قولوا: آمين )]، إذا قال: آمين قولوا أنتم: آمين، ( فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه )، فهذه الجائزة أخذناها إن شاء الله، إذ كيف خمسون عاماً وأنت تصلي ولا تأخذها؟ لابد في يوم توافق، فإذا قال الإمام: آمين قالت الملائكة: آمين، فمن قالها ووافق تأمينه تأمين الملائكة أخذ جائزة بمغفرة ذنبه.قال: [بمعنى: اللهم استجب دعاءنا. ويستحب الجهر بها؛ لحديث ابن ماجه : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، قال: آمين حتى يسمعها أهل الصف الأول، فيرتج بها المسجد ) ]، ونبهت إلى فعل بعض الغافلين والشبان حيث يرفعون بها أصواتهم رفعاً منكراً، وبعضهم يفعل هذا عناداً، وهذا خطأ، فهي دعاء، والدعاء يحتاج إلى الخضوع، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16].إذاً: نقول: آمين، ولا نقولها في أنفسنا، فهي غلطة غلطها بعض أهل المذاهب، ولا نقول، المتعنترين: (آآمين)، وإنما دعاء رقيق الصوت، رخيم النغم: آمين، المسجد بكامله يرتج بصوت واحد.

التنبيه الثاني: قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال: [تنبيه ثان: قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة من الصلاة، أما المنفرد والإمام فلا خلاف في ذلك، وأما المأموم فإن الجمهور من الفقهاء على أنه يسن له قراءتها في السرية دون الجهرية، ويكون مخصصاً لعموم حديث: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )]. وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-07-21, 02:17 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (1)
الحلقة (8)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

اختلف المفسرون في المراد بالحروف المقطعة في القرآن والراجح أنها مما استأثر الله بعلمه، وهي تفيد بأن القرآن مكون من هذه الحروف ومع هذا عجز الكفار عن أن يأتوا بمثل سورة منه، ولذلك نفى الله سبحانه الشك عن كتابه، وبما أنه كلام الله ففيه الهدى والنور لمن اتقى ربه بأن تحقق بصفات المتقين من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بما أنزل الله من كتب، والإيمان بالدار الآخرة، وقد أخبر الله بأن من كان هذا شأنه أنه على أتم هداية، وأنه الفائز في الدنيا والآخرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

بين يدي سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن درسنا عن تفسير كلام الله رب العالمين، وها نحن بعد أن ختمنا تفسير سورة الفاتحة -ختم الله لنا ولكم بحسن الخاتمة- نشرع في دراسة وتفسير سورة البقرة.سورة البقرة سورة مدنية عدد آياتها مائتان وسبع وثمانون آية.قيل: إنها تحتوي على ألف خبر، وألف أمر، وألف نهي.وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا حفظ أحدهم سورة البقرة ولوه الأمر، أي: أسندوا إليه ولاية.هذه السورة ورد في فضلها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة ). أي: حفظها والحصول عليها بركة ، ( وتركها حسرة ). أي: من لم يرزقها ويحفظها أصيب بحسرة، ( ولا يستطيعها البطلة ). يعني: السحرة.وروى الترمذي أيضاً وصححه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سناً لحفظه سورة البقرة). بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً وكانوا عدداً من الرجال، وأمر عليهم أصغرهم سناً؛ وذلك لأنه يحفظ سورة البقرة، وقال له: ( اذهب فأنت أميرهم ). اذهب أيها الشاب الحدث السن فأنت أمير هؤلاء الكبار؛ كل ذلك لحفظه سورة البقرة.وروي أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تجعلوا بيوتكم مقابر ). لأن المقبرة لا يقرأ فيها القرآن، ولا يصلى فيها فريضة ولا نافلة، فصلوا في بيوتكم النوافل، واقرءوا فيها القرآن حتى لا تكون كالمقبرة والعياذ بالله.ثم قال: ( إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة ). الشيطان يهرب من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
تفسير قوله تعالى: (الم)

بسم الله الرحمن الرحيم.قال تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]. ويصلح هنا أن نقف على (ريب) فنقول: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ ثم نستأنف فنقول: فِيهِ هُدًى ، ويصلح أن نقف أيضاً عند لفظ (فيه) فنقول: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، فلهذا توضع علامات فوق الكلمة الأولى والثانية ليعرف القارئ أنه يجوز الوقف هنا وهنا، والذي يظهر أن الوقف على (لا ريب) أولى، فيكون الكلام فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]. ‏

كيفية قراءة (الم) وغيرها من الحروف المقطعة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قوله: (الم) هذه من الحروف المقطعة، تكتب هكذا (الم)، وتقرأ هكذا: ألِفْ لام مِّيمْ بإدغام الميم بالميم مع الغنة (الم)، وإن كان معها الصاد كالأعراف: ألف لام ميم صاد. وإن كان معها الميم والراء كالرعد: ألف لام ميم راء. وإن كان بدون ميم، الألف واللام والراء كإبراهيم، والحجر، ويوسف، وهود، ويونس نقرأ: ألف لام راء. وإن كانت الكاف والعين، والهاء، والصاد كما في سورة مريم نقرأ هكذا بسم الله الرحمن الرحيم: كاف هاء يا عين صاد. وهكذا آل حاء ميم (حم) و(عسق) وآل (طسم) والأحادية (ن) (ق) (ص).

سر الحروف المقطعة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

الحروف المقطعة تسعة وعشرون حرفاً، فما سرها؟ وكيف نؤولها ونفسرها؟الجواب: أولاً: الأخبار الواردة -والتي نقلها أهل التفاسير في الجملة- أن هذه الحروف تشير إلى مدد وزمان هذه الأمة منقولة عن بني إسرائيل، ولا يصح منها خبر أبداً.ومن فسرها بأنها إشارة إلى أسماء الله تعالى فهو تفسير بلا دليل.والقول بأنها أسماء للسور ليس بسليم، فلو كانت (الم) اسم سورة لما قلنا: البقرة، ولا قلنا: آل عمران.ويبقى القول الذي نحفظه ونحافظ عليه حتى نموت أنها سر الله في كتابه، وهذا هو الوارد عن ابن عباس وغيره: إن لله في كتبه أسراراً، وسر الله في القرآن هي هذه الحروف، فلهذا نقول: (الم) الله أعلم بمراده بذلك. وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وكذلك (طس) الله أعلم بمراده بذلك.وإذا كان سراً من أسرار الله فلا يجوز البحث عنها والتعرف عليها؛ لأنها كالغيب، فالغيب لله، ولا يصح لأحد أن يحاول أن يطلع على غيب الله، والذي يدعي الغيب إن لم يتب يموت كافراً والعياذ بالله، والله عز وجل قد أخفى غيوباً رحمةً بعباده، فلا يصح لمؤمن أن يبحث ليعرف ما أخفى الله تعالى وما غيب عن عباده، وقد لعنت الشياطين لأنها حاولت أن تتعرف على الغيب.إذاً القولة الصحيحة السليمة: (الم) الله أعلم بمراده به، ونفوض الأمر إلى الله. وقد ورد وصح أن هذه الحروف من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، إذ قال تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]. فالراسخون في العلم يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ أي: المحكم والمتشابه مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا .الخلاصة أن هذه الحروف المقطعة منها أحادية كـ(ص) و(ق) و(ن)، وثنائية كـ (يس) و(طه)، ثلاثية كـ (الر)، ورباعية كـ (طسم)، وخماسية كـ (كهيعص) هذه سر لله في كتابه، فإياك أن تبحث عن معناها، وإذا سئلت فقل: الله أعلم بمراده به، وهذا هو التفويض الحق.

فوائد الحروف المقطعة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

هنا فائدتان جليلتان أفادتهما الحروف المقطعة، وهذا استنباط لم يقل أهله: هذا مراد الله بل قالوا: هذه الحروف تفيد فائدتين جليلتين:الأولى: لما كان المشركون يحاولون أن يمنعوا الناس من سماع القرآن ويصرفوهم بكل وسيلة، وقد نفوا أبا بكر الصديق من مكة؛ لأنه كان يقرأ ويبكي، فتأثر الناس بقراءته وببكائه وأخرجوه من مكة، وقد صرح تعالى بهذا الفعل عنهم بقوله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، قالوا للشعب المكي: لا تسمعوا لهذا القرآن، وإذا كان أحدهم يقرأ القرآن الغوا أنتم فيه بالصياح والضجيج والكلام الباطل؛ حتى لا يتسرب هذا النور إلى آذان وقلوب السامعين من باب الوقاية التي لابد منها.فلما حاولوا صرف الناس عن سماع القرآن جاء الله تعالى بهذه الحروف التي تجعلهم ينصتون ويسمعون؛ لأنهم ما عهدوها ولا عرفوها، فعندما يأخذ القارئ يقرأ: (الم) وهذا النغم والصوت ما سمعوه، فيضطر إلى أن يصغي بأذنه ليسمع، وكذلك إذا قرأ: (طسم) فيصغي ويسمع.إذاً الحصار الذي ضربوه على سماع القرآن أزاله الله بهذه الحروف، وقد كان رؤساؤهم يأتون إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون القرآن في الظلام، ويتعاهدون أن لا يعودوا، وإذا أخذتهم المضاجع ما استطاعوا أن يناموا، فيأتون مرة أخرى في الظلام ويسمعون قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء هذا مبيناً في سورة الإسراء؛ لأن هذا القرآن الذي يعرف لغته يفعل فيه ما شاء الله، وكم من أعرابي يُلقى كالخرقة البالية، فعندما يقرأ عليه القرآن يغمى عليه.إذاً هذه الفائدة ذات شأن، وقد نفع الله بها؛ إذ فتحت الأبواب التي أغلقوها عن سماع القرآن.الفائدة الثانية: أن هذا القرآن الكريم ادعوا -كفار قريش- أنه ليس بوحي الله ولا بتنزيله، وإنما هو مما تلقاه محمد صلى الله عليه وسلم إما من أحد العلماء، وإما تلقاه من الشياطين والسحرة والجان، وقالوا: إنه شعر، وقالوا: إنه سحر، وقالوا: إنها أقوال كهنة، وأحياناً يقولون: أملاه عليه فلان الرومي، وهكذا يتخبطون.وقد تحداهم الله عز وجل بالإتيان بمثله فعجزوا، وتحداهم بسورة واحدة فعجزوا، فكأنما يقول لهم: إن هذه الحروف (المر) (حم) (عسق) منها تألف هذا الكتاب، وتركبت كلماته، فألفوا أنتم مثله إذ هذه الحروف لغتكم ومنطقكم، وتنطقون بها صغيراً وكبيراً. فإن عجزتم فقولوا: إنه كلام الله.ويقرر هذا ويشهد له أنه في الغالب ما تذكر هذه الحروف إلا ويذكر الكتاب بعدها: ص وَالْقُرْآنِ [ص:1]. يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]. طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [طه:1-2]. الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [يونس:1]. الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2]. حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ [غافر:1-2].أي: أن هذه الحروف المقطعة منها تألف كتاب الله، وهي حروفكم وتنطقون بها، فإن كان هذا ليس كلام الله، فألفوا نظيره، فأسكتهم وقطع أصواتهم، وعرفوا أنه كلام الله.الخلاصة: لم يقل أحد من أهل العلم: إن هذا مراد الله، الله أعلم. ولكن قالوا: إن الحروف المقطعة أفادت فائدتين عظيمتين:الأولى: فتحت الباب الذي أغلقه الكفار عن سماع القرآن، فلا يستطيع العربي يسمع (طسم) ولا يمد عنقه، فأصبحوا مضطرين إلى السماع، فإذا سمعوا دخلوا في النور، وعرفوا الطريق إلى الله.ثانياً: هذا الكتاب لو كان من وضع النبي صلى الله عليه وسلم أو من وضع البشر أو الإنس فإنه مؤلف من هذه الحروف فليأتوا بمثله، وقد تحداهم بقوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ [الإسراء:88] واتحدوا على قلب رجل واحد عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، وسكتوا، فتحداهم بعشر سور: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [هود:13] فما استطاعوا. وأخيراً تحداهم بسورة: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24]. وقالت العلماء في قوله: وَلَنْ تَفْعَلُوا : هذه لن يقولها إنسي ولا جني قط، لمَ؟ لأن الله هو الذي يملك الغيب.ولو قلت الآن: هل تستطيع أكبر دولة وهي اليابان أن تصنع آلة من الآلات وتقول: أتحدى البشرية في ظرف سبعين سنة أن توجدوا نظيرها؟ والله ما يقولون، ولا يستطيعون، والله عز وجل قال في القرآن: وَلَنْ تَفْعَلُوا ومضى على هذا التحدي ألف وأربعمائة عام فلم يستطيعوا، ولن يقول هذه الجملة إلا الله.وهذا الكتاب هو النور فلا هداية إلى الإسعاد والإكمال إلا عليه وبه، وهذا الكتاب روح، فوالله لا حياة بدونه، وهذا الكتاب شفاء، فوالله لا شفاء للأمراض والأسقام الباطنة إلا به، فالشح، والبخل، والكبر، والحسد، والغل، والغش، والشرك، والرياء، وغيرها من الأمراض لا تعالج بالسكر ولا بالعسل ولا .. إنما بالقرآن وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]. فهذا القرآن هدى وبشرى للمسلمين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال المؤلف غفر الله له: [شرح الكلمة: (الم) هذه من الحروف المقطعة، تكتب (الم)، وتقرأ هكذا: ألِفْ لام مِّيمْ. والسور المفتتحة بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة، أولها البقرة هذه، وآخرها القلم (ن)، ومنها الأحادية مثل (ص) و(ق) و(ن)، ومنها الثنائية مثل (طه)] وبعض الناس يقول: (طه) هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خطأ وكذب على الله والرسول.قال: [و(يس)] كذلك قالوا: (يس) هذه اسم الرسول، وهو خطأ فاحش أنكره علماء السلف.قال: [و(حم)] هذه ثنائية، [ومنها الثلاثية والرباعية والخماسية، ولم يثبت في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء]، فلا صح، ولا ورد، ولا ثبت حتى في حديث واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر (حم) ولا (يس) ولا (طه) ولا (ن) ولا (ص) ولا غيرها، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحاشى أن يقول فيها برأيه، فمن أين للآخرين أن يقولوا؟!قال: [وكونها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه أقرب إلى الصواب، ولذا يقال فيها: (الم) الله أعلم بمراده بذلك]، أي: كون هذه الحروف من المتشابه الذي استأثر الله وحده بفهمه وعلمه ومعرفته، هذا هو الأقرب إلى الحق، لأن الله قال في الآيات: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] فقسم القرآن إلى قسمين: المحكم الذي لم ينسخ وهو الذي يحمل الشرائع والقوانين والأحكام، ومعناه واضح جلي، يفهمه أهل القرآن، والمتشابه الذي يقف العبد دونه لا يعرف ما يقول، فيفوض أمره إلى الله ويقول: الله أعلم بمراده بهذا أو بذاك. قال المؤلف: [وقد استخرج منها بعض أهل العلم فائدتين: الأولى: أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن مخافة أن يؤثر في نفوس السامعين، كان النطق بهذه الحروف (حم) (طس) (ق) (كهيعص) وهو منطق غريب عنهم يستميلهم إلى سماع القرآن، فيسمعون فيتأثرون، وينجذبون فيؤمنون ويسمعون، وكفى بهذه الفائدة من فائدة]، فهذه فائدة عظيمة وكافية.والفائدة [الثانية: لما أنكر المشركون كون القرآن كلام الله أوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كانت هذه الحروف بمثابة المتحدي لهم، كأنها تقول لهم: إن هذا القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف فألفوا أنتم مثله. ويشهد بهذه الفائدة ذكر لفظ القرآن بعدها غالباً نحو: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2].. الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [يونس:1].. طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ [النمل:1]. كأنها تقول: إنه من مثل هذه الحروف تألف القرآن فألفوا أنتم نظيره، فإن عجزتم فسلموا أنه كلام الله ووحيه وآمنوا به تفلحوا]. قال المؤلف: [ شرح الكلمات: (ذلك): هذا] أي: هذا الكتاب الذي تسمعون [وإنما عُدل عن لفظ هذا] القريب [إلى ذاك] البعيد [ لما تفيده الإشارة بلام البعد من علو المنزلة وارتفاع القدر والشأن] تقول: هذا الرجل وذاك الرجل، وإذا زدت اللام كان الشأن أكبر. أي: (الم) من هذه الحروف تألف ذلك الكتاب الذي تحداكم به منزله فعجزتم.قال: [(الكتاب): القرآن الكريم] وهذا رد على من زعم أنه الإنجيل والتوراة، والكتب السابقة موجودة في تفاسير الناس، فالكتاب الفخم الجليل العظيم هو القرآن الكريم، ولا داعي أبداً إلى أن نشير إلى كتاب ما ينزل علينا ولا هو بين أيدينا.قال: [(الكتاب): القرآن الكريم الذي يقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس.(لا رَيْبَ): لا شك في أنه وحي الله وكلامه أوحاه إلى رسوله] محمد صلى الله عليه وسلم.وهنا كلمات لغوية في الهامش: لفظ (الكتاب) يطلق على عدة معان؛ لأن الكتاب بمعنى الكتب، فيطلق لفظ الكتاب على الفرض، ومنه كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] ومعنى كتب علينا: فرض علينا، والفرض الكتب، ويطلق على العقد بين العبد وسيده، لكن أين العبد وأين سيده؟ هذا أيام كان للرجال عبيد أيام الجهاد، فلما نجاهد الكفار ونأسر نساءهم وأطفالهم ماذا نصنع؟ نذبحهم! نصب عليهم الغاز! نقتلهم! لا، نأويهم ونربيهم وندخلهم نور الله، فهذه هي شريعة الله، وقد قدروا على تلويثها وتقبيحها، وجعلوا الجهاد سبة في العالم الإسلامي، وهم شر الخلق للحوم التي تمزقت في هذه الأيام في بلاد الروس ما عرفتها البشرية. الشاهد عندنا أن السيد يكون له عبد قد رباه ونماه، فصلح، يقول لسيده: اكتب بيني وبينك عقداً على أن أعطيك مبلغاً من المال خلال أربع سنوات، واتركني اذهب حيث أشاء وحررني، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] أما إذا كان أعمى فلا يستطيع أن يتركه أو أن يتخلص منه بل يبقى معه. ويطلق أيضاً على القضاء والقدر يقال: هذا كتبه الله علينا، أي: قدر وقضى، وهذا مما يدل عليه لفظ الكتاب، ولكن المقصود هنا القرآن الكريم.ثم قال: [ (لا رَيْبَ): لا شك في أنه وحي الله وكلامه أوحاه إلى رسوله] محمد صلى الله عليه وسلم.قال: [ (فِيهِ هُدًى): دلالة على الطريق الموصل إلى السعادة والكمال في الدارين]، فأنت تريد مثلاً مسجد قباء، وتحتاج إلى دليل فيعطيك أحدهم دلالة: إذا وجدت كذا، امش كذا، فهذه تسمى الدلالة، وهي الهداية إلى مسجد قباء، وفي القرآن دلالات هداية إلى السعادة والكمال بل هو كله هداية؛ دلالة على الطريق الموصل إلى السعادة والكمال في الدارين، فهذا الكتاب ليس مخصصاً لإسعاد البشرية في الآخرة فقط، لا والله، بل لإسعادها في الدنيا أولاً وفي الآخرة ثانياً.ومن قال: المسلمون أشقى الناس اليوم وقبل اليوم، قلنا: نعم؛ لأنهم حولوا القرآن إلى القبور وإلى الموتى فجازاهم الله بذلك.قال: [ (للمتقين): المتقين أي: عذاب الله بطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه] (هدىً) لمن؟ (للمتقين) من هم هؤلاء؟ بنو فلان وفلان! المتقون الذي يتقون عذاب الله بوقاية يجعلونها، ويتقى عذاب الله بطاعته، وهي: فعل ما أمر وترك ما نهى وحرم. ولا يتقى الله بشيء غير هذا، وهذه الوقاية تقينا من عذاب الدنيا وخزيها، وعذاب الآخرة وخزيها.

معنى الاية
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال المؤلف: [ معنى الآية: يخبر تعالى أن ما أنزله على عبده ورسوله من قرآن يمثل كتاباً فخماً عظيماً لا يحتمل الشك، ولا يتطرق إليه احتمال كونه غير وحي الله وكتابه بحال، وذلك لإعجازه وما يحمله من هدى ونور لأهل الإيمان والتقوى؛ يهتدون بهما إلى سبل السلام والسعادة والكمال].فالقرآن لا ريب فيه، وقد يقول قائل: هل الناس شاكون ومرتابون! نقول: هو ما قال: لا يشك فيه، إنما قال: هو في حد ذاته لا يتحمل الريب والشك، وعلى سبيل المثال: من منكم يشك في أن هذا المسجد هو مسجد الرسول؟ هذا لا يقبل الشك أبداً لمعرفة الناس به، وكذلك من يقول: هذه ليست بالشمس أو هذا ليس بالقمر، وكذلك هذا الكتاب هو في حد ذاته لا يحمل الريب أبداً، ولا يتطرق إليه الشك بحال، وإن شك فيه الناس فإنما هو لظلمة نفوسهم أو لأغراضهم المادية أو لأهوائهم، وهذا أمر آخر.

هداية الآية
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

في هذه الآية هداية تستفاد وتؤخذ، ويقتبس منها نور إلهي، فما هذه الهداية الموجودة في هذه الآية الكريمة؟ قال المؤلف غفر الله له: [ من هداية الآية: أولاً: تقوية الإيمان بالله تعالى وكتابه ورسوله. ثانياً: الحث على طلب الهداية من الكتاب الكريم]؛ لأن الله قال: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].قال: [ثالثاً: بيان فضيلة التقوى وأهلها] واستنبطنا هذا من قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] فما قال: للفاجرين أو الفاسقين؛ فهؤلاء لا يجدون فيه هداية، بل هذا النور خاص بالمتقين.

تفسير قوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ...)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5].فهذه الفضائل وهذه الأنوار القرآنية الكريمة حازها الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ هذه صفة أولى وَيُقِيمُونَ الصَّلاة صفة ثانية، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ صفة ثالثة، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ صفة رابعة، وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ صفة خامسة، أُوْلَئِكَ أي: الذين حققوا الإيمان بما سبق عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ أي: أهل الشرف، وأهل المراكز العالية، والمنازل الرفيعة، ولم يقل: (في هدى من ربهم) لأن (على) تدل على الاستعلاء والتمكن، كقولك: ركبت على الفرس، أي: متمكناً منه، فـ(على هدى من ربهم) أي: متمكنون من الهداية، وحسبهم أنهم هُمُ الْمُفْلِحُونَ . ‏

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال: [شرح الجمل: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يصدقون تصديقاً جازماً بكل ما هو غيب لا يدرك بالحواس كالرب تبارك وتعالى ذاتاً وصفاتٍ، والملائكة والبعث، والجنة ونعيمها والنار وعذابها. وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ : يُديمون أداء الصلوات الخمس في أوقاتها مع مراعاة شرائطها وأركانها وسننها ونوافلها الراتبة وغيرها. وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ : من بعض ما آتاهم الله من مال ينفقون، وذلك بإخراجهم لزكاة أموالهم وبإنفاقهم على أنفسهم وأزواجهم وأولادهم ووالديهم، وتصدقهم على الفقراء والمساكين]. و(من) في قوله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ تبعيضية. أي: لا ينفقون كل ما يملكون، ولكن ينفقون من بعض ما آتاهم الله من مال، وذلك بإخراجهم: أولاً لزكاة أموالهم، وثانياً بإنفاقهم على أنفسهم وأزواجهم وأولادهم ووالديهم؛ إذ النفقة هنا واجبة، وبتصدقهم على الفقراء والمساكين.ثم قال: [ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ : يصدقون بالوحي الذي أنزل إليك أيها الرسول وهو الكتاب والسنة]، لأن السنة وحي ثان، فأحكام الرسول صلى الله عليه وسلم وقضاياه كلها مستمدة من القرآن الكريم، وبعضها وحي خاص يوحى به إليه، فيلقيه الله تعالى في روعه، فلهذا الكتاب الوحي الأول والسنة الوحي الثاني، والسنة هي التي سماها الله الحكمة.قال: [ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ : ويصدقون بما أنزل الله تعالى من كتب على الرسل من قبلك كالتوراة والإنجيل والزبور. وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ : وبالحياة في الدار الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب، هم عالمون متيقنون، لا يشكون في شيء من ذلك، ولا يرتابون لكمال إيمانهم، وعظم اتقائهم. أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ : الإشارة إلى أصحاب الصفات الخمس السابقة] ما هي الصفات الخمس السابقة؟ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] وقبلها صفتان الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة[البقرة:3] فهذه خمس صفات. ثم قال: [والإخبار عنهم بأنهم بما هداهم الله تعالى إليه من الإيمان وصالح الأعمال هم متمكنون من الاستقامة على منهج الله المفضي بهم إلى الفلاح. وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ : الإشارة إلى أصحاب الهداية الكاملة، والإخبار عنهم بأنهم هم المفلحون الجديرون بالفوز الذي هو دخول الجنة بعد النجاة من النار].

معنى الآيات
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
قال المؤلف غفر الله له: [معنى الآيات: ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث صفات المتقين من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بما أنزل الله من كتب، والإيمان بالدار الآخرة، وأخبر عنهم بأنهم لذلك هم على أتم هداية من ربهم، وأنهم هم الفائزون في الدنيا بالطهر والطمأنينة وفي الآخرة بدخول الجنة بعد النجاة من النار].

هداية الآيات
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال المؤلف غفر الله له: [ من هداية الآيات: دعوة المؤمنين وترغيبهم في الاتصاف بصفات أهل الهداية والفلاح ليسلكوا سلوكهم فيهتدوا ويفلحوا في دنياهم وأخراهم]. والله تعالى أسأل أن يشرح صدورنا ويفقهنا في ديننا، ويتقبل منا إنه سميع عليم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-07-22, 10:46 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (2)
الحلقة (9)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (10)
من مظاهر البلاغة العربية أن يشتمل الخطاب على ضرب الأمثلة، لما فيها من بيان وتوضيح، ولفت للانتباه والتفكير، ولهذا اشتمل القرآن على الكثير من الأمثلة، وحين استنكر الكفار بعض أمثلة القرآن، أجاب سبحانه بأنه لا يستحيي من ضرب الأمثلة ولو بشيء صغير كالبعوضة فما فوقها، فمن كان مؤمناً فسيعلم أنه مثال حق، وأما الكافر فسيرده ويكفر به.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تابع تفسير قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإنا مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.وقراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:26-27] أعاذنا الله وإياكم من الخسران. ‏

الإيمان والعمل الصالح يوصلان إلى الجنة

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! في الآيات السابقة وهي قول ربنا تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25]. أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات أن الجنة بما فيها من ذلك النعيم المقيم إنما تورث بالإيمان وصالح الأعمال، فمن آمن وعمل صالحاً فقد اتقى سخط الله وعقابه، وبذلك أصبح من ورثة دار النعيم، إذ جاء التصريح الواضح بأن الجنة تورث، وأن سبب إرثها هو التقوى، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة مريم: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].إذاً: عرفنا الإيمان وهو التصديق الحق المشتمل على التصديق بوجود الله تعالى، وعلمه، وقدرته، ورحمته، وحكمته، كما هو التصديق بكتبه، ورسله، وبلقائه يوم القيامة، وما يوجد في ذلك اليوم من الحساب والجزاء بالنعيم المقيم أو بالعذاب الأليم.وهذا الإيمان عرفتم وأيقنتم أنه بمثابة الطاقة الدافعة، فإذا قوي دفع عبد الله أو أمة الله على أن يتقحم أصعب المشاق وأشدها، فمن ذلك أنه يجوع ولا يسرق، ويعيش أربعين سنة على العزوبية ولا يفكر أبداً في أن يقدم على الفجور فيزني، والعياذ بالله.وهذا الإيمان يحمل صاحبه على أن يهاجر في الله وفي سبيل الله، ويترك أهله وماله وولده، ويصبح غريباً في بلد ما؛ كما حصل لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.وهذا الإيمان الذي يحمل صاحبه على ألا ينطق بسوء أو ينظر إلى محرم .. هذا الإيمان هو الذي يثمر العمل الصالح.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

العمل الصالح هو ما شرعه الله ورسوله

الذي أحببت أن أعيد ذكره إليكم هو أن العمل الصالح هو ما شرعه الله لنا من أقوال وأعمال، فما لم يشرعه الله ويقننه ويأمر بالعمل به لن يكون عملاً صالحاً، والذي لم يشرعه الله في كتابه القرآن ولا على لسان النبي محمد صلى الله عليه وسلم لن يكون عملاً صالحاً.وعندما نعلم أنه مشروع مبين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن نراعي في أدائه.. في فعله: أولاً: الإخلاص فيه لله، فلا نلتفت بقلوبنا ولا بوجوهنا إلى غير الله ونحن نؤدي ذلك العمل؛ لأن العمل إذا خالطه الشرك والالتفات إلى غير الله فيه بطل مفعوله، لا ينتج الطاقة المطلوبة منه.ثانياً: ينبغي أن نفعله .. أن نؤديه .. أن نقوم به على النحو الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا زيادة ولا نقص، ولا تقديم ولا تأخير، فإن زدنا أو نقصنا، أو قدمنا أو أخرنا بطل مفعوله.ومن الأمثلة القريبة التي لا ينكرها أي عاقل أن صلاة المغرب شرعت ثلاث ركعات، فمن زاد فيها ركعة تقرباً إلى الله ورغبة في الأجر بطلت عليه، ولم يستفد منها.وكذلك صلاة الظهر شرعت أربع ركعات فلو أراد أن ينقص منها ركعة بل سجدة بإجماع أهل العلم أن صلاته باطلة فليعدها، لم؟ لأنها لا تولد الطاقة. تفهمون الطاقة، أتعرفونها في الكهرباء؟ نور أو لا؟ هذه الكهرباء من يولدها؟ أليست المكائن! فأنت لما تقول: الله أكبر مستقبلاً القبلة متطهراً، وتدخل في هذه المناجاة، هذه عملية -والله- لأشد إنتاجاً من طاقة الحديد، ولكن إذا اختلت بطل مفعولها كمكائن توليد الكهرباء إذا اختلت هل تولد .. تنتج الكهرباء؟ بالإجماع لا، أليس كذلك؟ومن شك أو ما عرف كم وكم وكم من مصلٍ يخرج من المسجد ليعصي الله ورسوله، فما السر؟ دلوني، هل هو كافر؟ لا والله، لم إذاً؟ لأن الصلاة ما أداها أداءً صحيحاً، وما ولَّدت له النور الذي به يعرف الحق والباطل والخير والشر، والطيب والخبيث، والمعصية والطاعة، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لو قلت: لم يا ألله؟ كان الجواب: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. وهنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ) يخبر بالواقع، والواقع أن الصلاة شرعت لتمنع عبد الله من غشيان الذنوب وارتكاب الآثام، فلما ما فعلت ما السر؟ إذاً ما صحت، سببها ما أخلص فيها، وما أداها خاشعاً، وما أدى أركانها، أنقص ونقص، وحصل الذي حصل.إذاً: لا بد للعمل الصالح أن يكون مما شرع الله ورسوله، فكل بدعة على الإطلاق اضرب بها عرض الحائط، ولا تضيع وقتك ولا قدرتك وطاقتك فيها، فإنها -والله- ما تولد لك نوراً ولا حسنة.والعامل بالبدعة كالذي يأكل التراب والحصى ليشبع أو ليسمن وليحفظ قوته، مستحيل. ومن هنا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) بمعنى: مردود، مصدر أريد به اسم المفعول: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا ) ما وقعنا عليه فهو مردود، أي: لا يولد الطاقة والحسنة. ويقول: ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، وقد أحببت أن أذكركم لأننا -لضيق الوقت بالأمس- ما تعرضنا للعمل الصالح.ولو يجتمع العلماء كلهم على إيجاد كلمة يضعونها للمسلمين إذا قالها المؤمن أنتجت له الحسنة والله ما قدروا ولا استطاعوا. كلمة فقط، أما عمل يقوم به المرء الساعة والساعتين فذلك مستحيل أن يوجد، ومن يوجده غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.إذاً: ما هو العمل الصالح؟ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:25] ما هذه الصالحات التي يبشر صاحبها بالنعيم المقيم في دار السلام؟إنها عبادات قننها الله، مركبة تركيب الكيماويات، ويضرها الزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير، وإذا كان لها وقت لو أديتها في غيره ما نفعت، ولو عين لها الشارع مكاناً فأديتها في غيره -والله- ما نفعت، ما معنى ما نفعت؟ ما ولدت الحسنة، إذ الجنة يا معاشر المستمعين والمستمعات! لا يدخلها إلا ذو النفس الزكية، ما معنى الزكية؟ الطيبة الطاهرة، والنفس تزكو بماذا؟ باللبن والحليب؟ بالماء والصابون؟!ما هي أدوات التزكية للنفس البشرية؟إنها هذه العبادات التي شرعها رب الأرض والسماوات لعباده المؤمنين والمؤمنات من أجل تزكية نفوسهم حتى يقبلهم في جواره في الملكوت الأعلى. هل فيكم من يشك؟ ما هو القضاء لله في هذه القضية؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. هذا حكم الله.

تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها ...)

نعود إلى آياتنا المباركات التي بين أيدينا، فهيا نتعلم كلام الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26] خبر هذا، ونِعْمَ الخبر. اسمع هذا الخبر العظيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26]. قرئ: (يستحي) و(يستحيي) بياءين وبياء واحدة وهي لغة بني تميم، فيجوز أن تقرأ: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً)، أو تقرأ: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا [البقرة:26].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

الحياء كله خير

الحياء خلق من أسمى الأخلاق وأشرفها، ومن فقده مات، ( الحياء كله خير )، والحياء من الإيمان، من فقده عربد، وتفحش، وتلطخ، وأصبح أخس الخلق.مر النبي صلى الله عليه وسلم برجلين من أهل المدينة في أزقة المدينة الضيقة وهو يعظ أخاه في الحياء: لا تستحي، أنت امرأة، ضاعت حقوقك، قال: ( دعه؛ فإن الحياء من الإيمان )، تريد أن تمسح الإيمان من قلبه؟! دعه في حيائه.وأعظم ما يكون الحياء تأثيراً في المرأة، فإذا فقدت المرأة الحياء انمسخت، ولم يبق فيها ما يصلح، ولكن الأساتذة والدكاترة وعلماء الدنيا يشجعونها على قلة الحياء: اكشفي وجهك .. شمري عن ساعديك .. افعلي .. زاحمي. موجود هذا أو لا؟ نعم، في العالم بأسره.يقول الحكماء: أجمل ما في الرجل الشجاعة. لا سواد العين، ولا القد، ولا الأنف. فأجمل ما في الذكر الشجاعة، وأجمل ما في المرأة الحياء، فإن كانت وقحة معربدة -والله- ولو كانت أجمل نساء العالم فإن المؤمن لا يحبها، ولا يرغب فيها.فلهذا أقول دائماً للمؤمنات لما تقول: الشعر في حاجبي، الشعر في كذا، أُلون شعري أصفر .. أبيض. أقول: يا هذه! إذا كان زوجكِ مؤمناً؛ براً؛ تقياً فإنه لا ينظر إلى جمال وجهك، ولكن ينظر إلى جمال نفسكِ، وإن كان مادياً هابطاً -والله- ما تسدين حاجته، اصبغي بالأصفر يحب الأبيض، بيضي يحب الأسود، جملي وجهكِ يحب كذا، وما ينفع! إذاً: اصبري فأنت مؤمنة، ولا تغيري شعرك أبداً، ولا تكوني كعواهر ألمانيا كل يوم تصبغ شعرها، والمؤمنة إذا جاء الشيب، وابيض شعرها ينبغي أن تصبغه بالحناء والكتم، أما أن تشاهد عاهرة في التلفاز ترقص وشعرها أصفر أو أبيض فتحاول أن تكون مثلها، هي مثلها، ( من تشبه بقوم فهو منهم ).ولو تجتمع البشرية بفلاسفتها وعلمائها وحكمائها على أن ينقضوا هذه الكلمة المحمدية -والله- ما قدروا، وأنى لهم ذلك، فأين علماء النفس؟ ( من تشبه بقوم فهو منهم ) وإذا أرادت المرأة أن تتشبه بهؤلاء العواهر في الفيديو والتلفاز فلا تزال تتشبه حتى تكون مثلهن، وهذه سنة الله؛ من أراد أن يتشبه بماجن أو فاسد، وأخذ يتشبه بمشيته، ومنطقه، ولباسه لم يلبث أن يكون هو، ومن أراد أن يتشبه بـابن أبي طالب في شجاعته، وعلمه، وبطولته لا يزال يتشبه به حتى كأنه علي بن أبي طالب . ( من تشبه بقوم فهو منهم ). وكلمة (تشبه) بمعنى تعمد ذلك وطلبه وحاول الوصول إليه، فلا بد من هذه الصيغة: ( من تشبه ).إذاً: الحياء كله خير، إلا أن الحياء لا يحملك على ألا تسأل أهل العلم وتتعلم، ولهذا يقولون: (لا ينال العلم مستح ولا متكبر). وهذه كلمة قالها أهل العلم وهي حكمة: (لا ينال العلم مستح ولا مستكبر) فالمستحي إذا لم يسأل فكيف يعرف! لا بد وأن يسأل: كيف أستنجي؟ كيف الغسل؟ كيف كذا، لا بد حتى يتعلم، والمتكبر هو الذي لا يريد أن يذل ويهون أمام المعلم ويسأله وهذا -والله- ما يتعلم، يتعلم في المنام! ألا إن ( الحياء كله خير ).

حياء الله ليس كحياء المخلوقات

هذا الله جل جلاله ذو الجلال والكمال يستحي، وإياك أن تؤول الاستحياء أو الحياء بشيء فلسفي كاذب باطل، فحياء الله ليس كحياء المخلوقات؛ لأن يد الله ليست كيد المخلوقات؛ ولأن ذات الله ليست كذات المخلوقات. إذاً آمن بأن الله يستحي، ولكن لا تفهم وتقس حياء الله على حياء المخلوقات.وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حيي كريم يستحي أن يرفع إليه عبده يديه أو كفيه فيردهما صفراً ). حيي، اسأل أهل الحياء لا يحرمونك، ولا يستطيعون، فالحياء خلق عظيم يمنعهم من أن يبخلوا أو يضنوا بشيء في أيديهم.والحياء يمنع صاحبه أن يتبجح أو يقول الباطل وينطق بالبذاء، فلا يقدر أبداً.إذاً: حياء الله يستحيل أن يكون كحياء عباده للفرق بين الخالق والمخلوق، فهل ذات الله كذوات المخلوقات؟ مستحيل، كيف وهو خالق الذوات! فحياؤه يتفق مع ذاته ومع صفاته، ولما نقول: لله تعالى يدان: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ [المائدة:64]، (بَلْ يَدَاهُ) تثنية يد، فلا تقل: لا لا، يد الله بمعنى قدرته فقط، أنت تكذب على الله؟ الله يقول: يداه، والرسول يقول كذلك، وأنت تقول: لا .. لا، ما قصد ذلك، لأنك توهمت أن يد الله كيد المخلوقات، إيه! هذا جهل عظيم، وضلال لا حد له، فالله ليس كمثله شيء، إذ كل شيء هو خالقه، فكيف يكون مثله؟! مستحيل.فآمن بصفات الله، واقرأها وارفع صوتك، ولا تخف، ولا ترتعد: ( إن الله حيي كريم، يستحي أن يرفع إليه عبده كفيه) سائلاً ضارعاً: يا رب! يا رب! ( ويردهما صفراً ) خاليتين.ولهذا ما من مؤمن يرفع كفيه إلى الله ضارعاً، سائلاً إلا أجابه ما لم يكن هناك موانع، فلا تسأل الله وأنت مملوء بالحرام فالمال في جيبك من حرام، أو خاتم الذهب في يديك وأنت تتحداه، فهذه الشروط لا بد منها، ولا تسأله وأنت غير موقن بالإجابة، ولا تسأله وأنت غافل ولاهٍ ساه، فمن توفرت له شروط القبول لن يرده الله تعالى، وهو بين واحدة من ثلاث: إن كان ما طلبه وسأله صالحاً له لا يضره؛ نافعاً له أعطاه، وإن كان الذي سأله لا ينفعه أيعطيه ويغشه؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.وعلى سبيل المثال: شخص أراد أن يخطب فتاة، وظل يسأل الله طول الليل: يا رب زوجنيها، يا رب أعطنيها، يا رب يسرها لي. والله يعلم أنه لو تزوجها لفضحته، ولفعلت فيه الأعاجيب، فهل يغشه سيده ومولاه؟ والله لا يصح هذا. فتقف العقبات والحوائل: اذهب، لا نزوجك يا صعلوك. فلا يصل إليها. عرفتم؟ إذاً ماذا يُصنع بدعائه؟ يعوض واحدة من اثنتين: إما يدفع عنه من البلاء مقابل دعائه، وإما يرفع درجات في دار السلام ما كان ليصل إليها إلا بهذا الدعاء، وفي هذا يقول تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] يكذبكم؟ أعوذ بالله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] أعطكم طلبكم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

الحكمة من ضرب الأمثال في القرآن

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [البقرة:26] شيئاً من الأمثال بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26] ودون البعوضة، لم هذا؟ لما تقدم المثلان الماء والنار قال المنافقون مع شياطينهم من اليهود: انظروا، انظروا، كيف هذا الكلام؟ هذا ما هو كلام الله، الله أجل من أن يضرب الأمثال، وأضافوا إلى ذلك أن الله قال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، قالوا: هذا ما فيه بلاغة، ولا فصاحة، ولا.. هذا ليس كلام الله حتى يشيعوا التكذيب بين الناس، فأفحمهم الله، وقطع دابرهم، وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [البقرة:26] أصغر مثل كبيضة نملة، أقل من البعوضة، وكلام العرب الفصيح البليغ البيان، فيه من هذه الأمثلة المئات.والشاهد عندنا: في هذا رد على مزاعم المبطلين من المنافقين وإخوانهم من اليهود، فإنه لما ضرب الله لهم مثلين احتاروا فجن جنونهم وتاهوا، وأصبحوا يكذبون ويقولون، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [البقرة:26] لأن ضرب الأمثال من أجل تقريب المعاني للأذهان، وضرب المثل معناه إيجاد صورة تشابه من أجل أن يفهم السامع معنى مراد الله وكلامه، ولغة العرب مليئة بهذا، فلا عجب ولا غرابة، ولكن المنافقين مرضى، واليهود المتفقين معهم هذا شأنهم يشيعون الشائعات والأباطيل، فيبطلها الله ويجتثها، وينتزعها من أذهانهم.

موقف الناس من أمثال القرآن

الآن من يرفع صوته؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26] أي: في الصغر كبيضة النملة.الناس أمام الأمثلة التي يضربها الله في كتابه الكريم صنفان: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:26] وعرفوا وأيقنوا، آمنوا إيماناً أصبح وصفاً لازماً لهم، وليس إيمان المنافقين، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:26] بحق وصدق، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:26] أي: هذا المثل الذي نزل به كتاب الله حق ثابت وجوباً يستحيل أن يتخلف من الله عز وجل، فيؤمنون، ويزدادون إيماناً ويقيناً. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:26] سواء كانوا يهوداً أو عرباً أو نصارى، كفروا بآيات الله .. برسوله .. بلقاء الله فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26] يقولون باستهزاء، وسخرية، وتهكم في بيوتهم .. في مجتمعاتهم، أمام المؤمنين الضعاف حتى يؤذوهم، أما لو قالوا أمام عمر لفقأ أعينهم، لكن في خلواتهم مع شياطينهم: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26].قال تعالى مبيناً مراده: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26]، المثل كالمطر، فهذا ينبت له الزرع والشجر والزيتون، وهذا يخرب بيته، ويعطل طريقه، فالله يضرب المثل: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:26] فيزداد إيمانهم ويقينهم، وتقوى معارفهم وتكثر. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26]؛ لأن المثل كان فيهم ومضروباً لهم؛ ليتقيهم المؤمنون، وليعرفوا واقعهم الهابط السافل. مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26]، قال تعالى: الجواب عند الله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26] من الناس وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26].نعم، أصحاب القلوب الصافية، والنفوس الطاهرة كلما تنزل آية يرتفع منسوب إيمانهم، وعلومهم،وآدابهم وأخلاقهم، والكافر المنكر المكذب كلما ينزل نور يزيده ظلمة، فيتألم ويهبط.وهذا تشاهده في الناس في مسائل دنياهم وآخرتهم، أحدهم كلما ظهر الحق ارتفع إيمانه وفرح، وآخر كلما ظهر الحق انكمش وانكسر.أضرب لكم مثلاً:أيما حاكم يعلن عن منع بيع الخمر، وعن إغلاق الحانات، وعن تصدير الخمر وصناعتها، كيف يكون ذلك المجتمع؟ فأما الذين آمنوا فيزدادون إيماناً، وأما الآخرون: ماذا أراد الحاكم بهذا؟ يريد أن يعطل! يريد أن يوقعنا في فقر، يريد كذا. ويكربون ويحزنون، والله العظيم؛ لأن القضية قضية حياة وموت، مؤمن حي، يدرك ويعلم، ويعي ويفهم، وميت هابط، هذا شأنه. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:26] ويسلمون، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26] يضرب المثل ليضل به كثير من الناس، ويهتدي به كثير من الناس؛ لأن الله حكيم، وكتابه حكيم، وتصرفاته كلها حكيمة، فلا يضرب المثال لا لشيء، بل لابد لتحقيق شيء، فالمؤمنون يزيدهم إيماناً، ويقيناً، وبصيرة، ونشاطاً، وانطلاقاً، وعملاً، والكافرون يهبطون به أيضاً هبوطاً عجباً، فاسمع: المؤمنون يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، والآخرون يستهزئون ويسخرون: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

سوء عاقبة الفاسقين

قال تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26] أو لا؟ وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26]، وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26]، أما المستقيمون، السالكون لمنهج الله، الضاربون في طريق الله المستقيم فحاشاهم أن يضلوا به أبداً، وإنما يضل ويخرج عن الطريق ويتهاوى ويسقط من هو؟ الفاسق.وكلمة (الفاسقين) دائماً نقول: هم المتوغلون في الفسق، فلهذا لو أن شخصاً شرب خمراً لا نقول: هذا الفاسق، إلا إذا شربها وأعادها وكررها، وانمحى الحياء من وجهه وتركه فهذا (الفاسق). أما من ارتكب المعصية لا تقول فيه: الفاسق، بل تقول: فاسق، أما ذاك الذي ضرب في هذا الطريق، وتوغل في هذه المعاصي فأصبح (الفاسق)، (أل) لكمال الوصف وقوته، ولا يجوز أن تقول في المؤمن: فلان الفاسق، بل تقول: فلان فاسق. لكن إذا انغمس في كل معصية، وارتكب كل كبيرة، تقول فيه: الفاسق فلان بن فلان. وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26]، ما معنى (الفاسقين) يا شيخ؟هذا مأخوذ من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، أحياناً لما ينزل المطر تخرج الرطبة من القشرة.ومأخوذ أيضاً: من فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، فلهذا تسمى بـ(الفويسقة). ما هي فاسقة كبيرة، بل فويسقة، وهي الفأرة التي تخرج من جحرها لتفسد علينا طعامنا أو سمننا.إذاً: هذا طريق الله الذي يسلكه أولياؤه ليصلوا به إلى رضاه، وإلى جواره، ومن خرج عنه فسق، فهو فاسق.إذاً: الفاسق هو الذي يترك الواجبات، ويرتكب المنهيات المحرمات.ألم تذكروا أنا نقول: إن الطريق هو عبارة عن فعل واجب وترك محرم، فافعل واجباً واترك محرماً، وامشِ إلى ساعة الوفاة، وأنت واصل إلى باب دار السلام، فمن ترك الواجبات وارتكب المحرمات فسق أو لا؟ خرج عن الطريق أو لا؟ كما تفسق الفأرة، وكما تخرج الرطبة، لكن إن تاب وعاد فهذا أمر طبيعي، لكن إذا فسق وواصل الفسق أصبح (الفاسق)، وهذا الفاسق يضله الله بهذا المثل، فيضل به الفاسقين، ويزدادون حيرة، وقلقاً، وعناداً، ومكابرة، وتكذيباً لله ولرسوله، وبعداً عن المؤمنين. انظر: كيف خرج؟ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26].معاشر المستمعين والمستمعات! تعرفون الفسق أو لا؟ فتاة مؤمنة كانت متحجبة، فقيل لها: ما هذا الحجاب، انزعيه عن وجهك، أظهري جمالك، لهذا خلقه الله. فنزعت الحجاب عن وجهها فسقت أو لا؟ فسقت كما تفسق الرطبة والفأرة.إذاً: من هم الذين يصابون بالضلال، ويزدادون ضلالاً إذا نزلت آية تحمل مثلاً؟ هم الكافرون .. الفاسقون.

تفسير قوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ...)

قال تعالى: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [البقرة:27] هذه صفة ثانية: الذين ينقضون عهد الله من بعد توثيقه وتأكيده.

أخذ الميثاق من ذرية آدم

عرفتم أنه ما من عبد أو أمة يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله إلا قد أعطى بذلك عهداً وميثاقاً لله أن يحيا ويعيش حتى الموت على طاعة الله وطاعة رسوله، فما دام يقول: أنا أشهد أن لا يعبد إلا لله وما يعبده، أو يعبده ويعبد معه غيره، فهذا نقض عهده أو لا؟ هو يقول: لا إله إلا الله، وإذا به يعترف بآلهة أخرى، هذا نقض قوله، ولهذا قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ متى؟ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، فمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أعطى العهد والميثاق، وينبغي أن يغتسل من جنابته، وأن يناجي ربه، ويستجيب لأمره ونهيه.ثم هناك عهد وميثاق أخذ علينا ونحن في ظهر أبينا آدم، واقرءوا لذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173].في أرض عرفات كان الوالد هناك عليه السلام، عرفتم عرفات أو لا؟ تعارف فيها الزوج وزوجه، حيث نزلا من الملكوت الأعلى، حواء نزلت في مكان ما ندري أين هو، وآدم كذلك، واجتمعا بتدبير الله في عرفة وتعارفا، وهل النزول من السماء سهل؟ثم مسح الله ظهر آدم واستخرج منه ذريته كلهم، ما تعجب! الآن يقول العلماء: لو جمعنا الحيوانات المنوية كلها والله ما تملأ كأساً ولا فنجاناً، فهذا الطب الجديد يقول: لو جمعنا الحيوانات المنوية التي في المني ومنها يتكون الإنسان لو جمعناها ما تملأ كأساً. آمنا بالله، ونحن عرفنا هذا قبل أن يعرفوا، فإن الله مسح ظهر آدم واستخرج ذريته، واستنطقهم فنطقوا، واستشهدهم فشهدوا، وأخذ عليهم العهد والميثاق. فكل كافر نقض عهد الله وميثاقه، وكل مشرك نقض عهده مع الله وميثاقه.أعيد الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ أي: اذكر إذ أخذ ربك: مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173]، حجج باطلة.إذاً: هذا عهد أيضاً.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

أخذ العهود والمواثيق من المنافقين وأهل الكتاب

هناك عهد آخر، فالمؤمنون من المنافقين أما أعلنوا عن إيمانهم؟! أما كان ابن أبي يقول: أشهد إنك لرسول الله، فأعطى العهد، كيف ينقضه.ثم أيضاً بالنسبة إلى اليهود والنصارى .. إلى أهل الكتاب بالذات، أخذت عليهم العهود والمواثيق: إذا ظهر نبي آخر الزمان آمنوا به كلكم وامشوا وراءه، نقضوا هذا أو لا؟ وأعلنوا الحرب عليه، والذي حملهم وقواهم وشجعهم على هذا فسقهم، فالعلة هي الفسق.اذهب إلى شخص ما توغل في الجرائم والفسق والفجور، واعرض عليه معصية يتمعر وجهه، يقول: لا، أنا أتحداك؟ فالذي ما توغل في الشر والفساد وإن عصى أو فسق يوماً تعرض عليه ما يقبل، فيه النور والإيمان، لكن الذي أصبح عربيداً فاسقاً ما ترك جريمة إلا غشيها، أيتردد إذا قلت له: من فضلك لا تشرب هذا الكأس؟ مستحيل.

موقف الجن من القرآن

عجب هذا القرآن! القرآن عجب أو لا؟سبقنا إخواننا الجن وعرفوا هذه الحقيقة وجهلناها، واقرءوا قول الله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا ماذا؟ قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]، ونحن ما عرفناه عجب، عجب: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن:2] رضي الله عنهم، هؤلاء صحابة الرسول من الجن، فقط وجدوه يصلي في بطن نخلة، بل في مكة والطائف، وهم تائهون، وجدوا الصفوف والرسول يقرأ فأصغوا واستمعوا، وعادوا رسلاً إلى قومهم: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:30-31]، ومن سجل لنا هذا الكلام؟ الله، والرسول صلى الله عليه وسلم ما سمع، وأصحابه في الصلاة ما عرفوا، لكن إخواننا نزلوا. الشاهد عندنا في أنهم عادوا إلى قومهم منذرين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

سعي الأعداء لتفسيق الأمة

قال تعالى: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [البقرة:27] وهم الفاسقون، بدأ أولاً بالفسق: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [البقرة:26-27].ثانياً: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27]، أرأيتم ما ينتج عن الفسق؟ نحن -يا شيخ- ما نعرف هذا.أما محتالو النصارى والماسونية واليهود فوالله إنهم ليعرفون أكثر من شيخكم، فلهذا يبدءون بتفسيق الأمة وتفجيرها بأنواع الفسق .. بكل وسيلة. المهم أن هذا الشعب أو أصحاب هذا الإقليم يفسقون، وإذا فسقوا فهنيئاً لهم.أو ما فهمتم، أعيد القول:خصومنا من اليهود والنصارى عرفوا هذا، ودرسوا، وفهموا: أن الشعب أو الأمة إذا أردت أن تستغلها أو تذلها أو تستعمرها أو تتخذها عمدة لك وسلاحاً يساعدك ففسَّقها. ما فهمتم هذه؟! هذه سياسة عجب! فسقهم فقط يجرون وراءك كالأغنام، يصبحون -والله- لكما تسمعون. كيف يفسقونهم؟ بالتدريج، ولو بعد خمسين سنة .. مائتي سنة، وبالتدريج: احلقوا وجوههم، اكشفوا وجوه نسائهم، أشيعوا بينهم المحرمات كالربا، ودور البغاء، والخمر وصناعته وإنتاجه، لا تؤاخذوا في القوانين الحكومية على أنه ترك الصلاة، أو أنه زنى، أو أنه كذا، مهدوا لهم الطريق، ونسوهم ذكر الله، وأبعدوهم عنه، افتحوا الحانات، افتحوا المراقص والسينمات، افتحوا كذا، ألهوهم عن ذكر الله، أبعدوهم عن المساجد .. قبحوا لهم سلوك العلماء، وقولوا: عملاء، وأذناب، وذيول، قولوا كذا ..كذا؛ حتى يفسق الشعب ويهبط، وحينئذٍ نركب على ظهورهم. هل فهمتم هذه؟ والله لكما قلنا.من أين هذا الكلام يا شيخ؟ فتح الرحمن؛ رب العالمين، ما نحن مع قول الله تعالى: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:26-27]، لو عرف حكام المسلمين هذا اجتمعوا من الغد على طاعة الله ورسوله، وكيف نبلغهم بأن خصومكم وأعداءكم يعملون الليل والنهار على تفسيق شعوبكم؟ أي: بإبعادهم عن ذكر الله وطاعته، والاستقامة على منهجه؛ لأنهم يريدون استعماركم واستغلالكم، والتحكم فيكم، إذاً: كيف يصلون إلى ذلك؟ بالدماء، ما هو ممكن دائماً، إذاً فسقوهم، فإذا فسق الشعب انتهى.والواقع شاهد أو لا؟ من إندونيسيا إلى موريتانيا غرباً واقع شاهد أو أننا نكذب عليكم؟ عوامل الفسق قائمة أو لا؟ في الصحيفة، في المجلة، في الفيديو، في توريد الحشيشة، كل هذه المضار ما تشاهدونها؟ آمنت بالله، آمنت بالله. الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [البقرة:27]، ثلاثة مواثيق عرفناها أو لا؟ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27]، ما الذي يريد الله أن يوصل وهم قطعوه؟ الإسلام، الإسلام دين الله منذ آدم إلى يوم القيامة، والخصوم من اليهود والنصارى يريدون قطعه، نعم، يكيدون للإسلام والمسلمين، يريدون أن يقطعوا دين الله.وللحديث بقية، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-07-24, 06:48 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (3)
الحلقة (10)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (100)

إن أعز شيئين على المرء في الحياة الدنيا نفسه وماله، وقد بين الله عز وجل ما يلزم المؤمن الصادق من حق في هذه النفس وهذا المال، فبين سبحانه ما يلزم المؤمن من النفقة على الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ويدخل في ذلك كل أنواع الخير والمنفعة، ثم بين سبحانه ما يلزم المؤمن من تقديم نفسه لله، مجاهداً في سبيله، رافعاً لراية دينه، وأن في ذلك الخير الكثير وإن بدا في ظاهره أنه شر وضر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله القرآن العظيم، رجاء أن نظفر بذلك الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، والحمد لله فقد فزنا بهذا المطلوب.والآيتا المباركتان اللتان ندرسهما إن شاء الله في هذه الليلة المباركة هما قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:215-216]. ‏

سبب نزول الآية الكريمة

في الآية الأولى يقول تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ [البقرة:215]، من السائل؟ من الجائز أن يكون عدد من السائلين، ومن الجائز أن يكون سائلاً واحداً، وهو كذلك، هذا هو عمرو بن الجموح رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكان ذا ثروة مالية، فجاء يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا ينفق وعلى من ينفق، وهذه النفقة قطعاً بعد الزكاة، الزكاة عرفها المؤمنون والمؤمنات بآيات القرآن العديدة، لكن هذه النفقة المستحبة الفاضلة التي ليست هي الواجبة.عمرو بن الجموح سأل، فقال: يا رسول الله! ماذا أنفق من مالي وعلى من أنفقه؟ فأجاب الله عز وجل بقوله: يَسْأَلُونَكَ [البقرة:215] يا رسولنا والمبلغ عنا يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ [البقرة:215] من المال وعلى من ينفقونه؟ أو يسأل: ماذا ينفق من ماله، فامتن الله عز وجل فبين له ما ينفقه وعلى من ينفقه.

منزلة السؤال عن العلم الشرعي

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
وهنا مما ينبغي أن نعلمه أن السائل الطالب العلم يظفر بنصف الأجر، قالوا: السؤال نصف العلم، السؤال عن أحكام الله وشرائعه، وعما عند الله لأوليائه، وما عنده لأعدائه، هذا السؤال نصف العلم، وقد علمنا واستقر عندنا -معشر أهل الحلقة- من أن طلب العلم فريضة على كل مؤمن ومؤمنة، سواء بطريق الكتابة والقراءة، أو بطريق سؤال أهل العلم، وبذلك لا يبقى في المؤمنين والمؤمنات جاهل ولا جاهلة، لأن الجاهل لا يصل إلى درجة الولاية ولا يكون ولياً لله تعالى، ومن لم يكن ولياً لله كان ولياً للشيطان عدو الله، ولا واسطة، إما أن توالي الله أو توالي عدو الله، فالعلم إذاً: ضروري، قال تعالى في آيتين من كتابه العزيز: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].هذا عمرو بن الجموح ما عرف ماذا ينفق وأين ينفق فجاء يسأل امتثالاً لأمر الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل:43] أي: القرآن إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فكل من لا يعلم وجب عليه أن يسأل حتى يعلم، وإلا فلا تتحقق له ولاية الله.وقد عرفتم سر ذلك وحكمته، فالله يوالي المؤمنين المتقين، لو سئلت من قبل يهودي، نصراني، بوذي: من أولياء الله؟ فالجواب: المؤمنون المتقون، فمن لم يكن مؤمناً وإن اتقى فلا ولاية له، ومن كان مؤمناً غير متقٍ لمساخط الله فما هو بالولي؛ وذلك لقوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]. وسر هذا: أن المؤمن المتقي تزكو نفسه وتطهر وتطيب؛ لأنه استعمل أدوات التزكية والتطهير والتطييب، فسنة الله فيها أنها تطيب وتطهر، فالذي يغسل ثيابه بالماء والصابون تطهر أو لا؟ إذاً: الذي يستعمل أدوات وضعها الله تعالى لتطييب النفس وتزكيتها والله! لتطيبن نفسه وتزكو ولا تتخلف، فإذا زكت نفس العبد وطابت وطهرت أحبه الله ووالاه، فإن أهملها ولم يعمل على تزكيتها وتطهيرها خبثت فكانت كأرواح الشياطين والكافرين، وهل يحبهم الله؟ بل هو عدوهم وهم أعداؤه. فالعلم، وما العلم؟ أن تعرف ما يحب ربك وما يكره، وتعرف كيف تستعمل ذلك المحبوب وتقدمه له، وتعرف كيف تبتعد عن ذلك المكروه وتتجنبه، هذه هي، فإن عجزت عن الجلوس بين يدي العلماء ومزاحمتهم ليل نهار، فقبل أن تتوضأ اسأل كيف تتوضأ، تريد أن تتصدق بصدقة فاسأل عالماً: عندي صدقة فكيف أتصدق؟ تريد أن تنام فاسأل كيف تنام وعلى أي جنب تنام، ماذا تقول عند النوم، ماذا تقول إذا استيقظت؟ تعلم واعمل وامش، أردت أن تأكل فاسأل: كيف نأكل أكلاً يحبه الله؟ فيبين لك العالم كيف تأكل وما لا تأكل، فإن علمتَ فاعمل، ولا تزال تسأل وتعلم وتعمل حتى تصبح عالماً.أما أن يعيش المرء الثلاثين والأربعين والخمسين من السنين وتسأله عما يكره الله فما يعرف، وتسأله عما يحب الله فيقول: ما أدري، إذاً: فكيف تعبده؟ إذ عبادته بأن تحب ما يحب وتكره ما يكره.

سر تسمية المال بالخير

والشاهد عندنا قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ [البقرة:215] هؤلاء أصحابه صلى الله عليه وسلم سألوه أو لا؟ سألوه مَاذَا يُنفِقُونَ [البقرة:215] فأجابهم تعالى: قل لهم يا رسولنا: قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة:215] والمراد بالخير هنا المال، وسمي المال خيراً لأنه خير للإنسان، به تتحقق مطاعمه ومشاربه، مراكبه، ملابسه، صدقاته، درجاته.والمال يكون صامتاً وناطقاً ليس دائماً ديناراً ودرهماً، قد يكون فولاً وشعيراً أو تمراً، قد يكون شاة ولبنها، والشاهد: إن المال ما يتمول؛ وعبر عنه بالخير لأنه خير، والإنسان بفطرته بغريزته يحب الخير، واقرءوا لذلك: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، وَإِنَّهُ [العاديات:8]، أي: الإنسان الآدمي لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8].

بيان جهات الإنفاق المستحبة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة:215] وهو المال، فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [البقرة:215]، المراد من الوالدين: الأب والأم، الأب وإن علا والأم وإن علت، كالجد والجدة، والأقربون: أقاربك بعد والديك كإخوانك وأخواتك، وأعمامك وأبناء عمك، وأخوالك وبني أخوالك، وعماتك وبنات عماتك، وخالاتك وأبناء خالاتك، الأقرب فالأقرب، هؤلاء الأقربون، فالعم مقدم على ابن العم، عنده صاع من تمر يعطيه لأخيه قبل ابن أخيه، الأقرب فالأقرب، إذ قد لا تتسع دائرة الإنفاق على الجميع، الأقرب فالأقرب، وسئل الرسول فقال: ( أمك وأباك ثم أختك أخاك ثم أدناك أدناك ). وَالْيَتَامَى [البقرة:215]: من فقدوا الآباء، وفاقد الأم لا يقال فيه: يتيم، وإنما يقال اليتيم لمن فقد أباه، لم؟ لأن الأب هو المنفق عليه، والذي تكفل بعيشه، وأما الأم فلا، وفي الحيوانات اليتيم منها فاقد الأم، هذا الجدي يتيم أمه ماتت، اطلب له مرضعة ترضعه، لكن أباه لا قيمة له؛ لأن الآباء في الحيوان لا تنفق على أبنائها، لكن في البشر اليتيم عندنا: من فقد والده، فإن ماتت أمه لا نقول فيه: يتيم، اليتيم من فقد أباه. وَالْمَسَاكِينِ [البقرة:215] جمع مسكين، وهم الفقراء، لكن بعض أهل العلم يقول: المسكين من أذلته الحاجة ومسكنته وألصقته بالأرض؛ لأن المسكنة بمعنى الذل والانكسار، وهذا الذي فقد المال يذل وينكسر، فلهذا سمي بالمسكين. وَابْنِ السَّبِيلِ [البقرة:215] هو الذي يأتي إلى القرية ماراً من بلد إلى بلد، من قرية إلى أخرى، فلما ينزل في القرية لا يعرف فيها أحداً، فمن يطعمه من يؤويه من يسقيه؟ المؤمنون، وهو عابر سبيل ما نعرفه، ابن الطريق، لا نعرف له أماً ولا أباً ولا جداً، هذا ابن السبيل، كأن الطريق هي التي أوجدته وهو ابنها لا يعرف ابن من، وفي الزمن الأول ما كانت فنادق ولا مطاعم ولا نزل، فحين يدخل الغريب في القرية وإن كان غنياً كيف يأكل، كيف يشرب، أين ينام، لا بد أن يقوم بهذا المسلمون، هذا ابن السبيل.إذاً: فبين تعالى ما ينفق وفيمن ينفق، جواباً لـعمرو بن الجموح السائل الذي سأل رسول الله ليسأل الله تعالى، والله عز وجل أجاب السائل: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [البقرة:215] خمسة.

دلالة حصر جهات الإنفاق على منع النفقة في الباطل

يروى أن ميمون بن مهران رحمه الله من سلفنا الصالح من التابعين أنه قال لما قرأ هذه الآية: لقد بين تعالى وجوه الإنفاق وطرق النفقة، فلم يذكر طبلاً ولا مزماراً ولا صورة من خشب ولا ستارة لجدار. هل عرفتم ما يقول؟ يقول: لقد بين تعالى طرق النفقة وسبلها، أي: بين لنا على من ننفق، فالأبوان ثم الأقرب فالأقرب واليتامى والمساكين وابن السبيل، فهل ذكر شراء الطبول والمزامير والصور الخشبية والستائر على الجدران؟ لأنهم كانوا يسترون جدرانهم بالحرير والأقمشة، ما ذكر هذا.إذاً: فهذه النفقة باطلة ما أذن الله فيها، لو أرادها لكان يجيب عنها، فأجاب عما أجاب وما سكت عنه لا ينفق فيه أبداً.إذاً: من الليلة ما بقي من يشتري تلفازاً ولا الفيديو ولا أشرطة غناء، ومن يفعل ذلك فقد أنفق في غير ما أذن الله، فهو عاصٍ خارج عن طاعة الله، أما بين لنا كيف ننفق أو لا؟ فإن أضفنا أشياء ما أذن فيها أسأنا وأخطأنا الطريق، لاسيما ونحن بصراء عارفون علماء، لسنا جهلة يا معشر المستمعين والمستمعات، نقول: حين تشتري هذا التلفاز وأنت عامل أو فلاح أو تاجر أو مزارع، أسألك بالله: ما هو الذي يرجع إليك من هذا التلفاز؟ يرتفع دخلك اليومي؟ لا، تأمن من الأمراض والعلل والأسقام؟ لا، تكتسب شرفاً وسمواً بين أهلك والقرية؟ الجواب: لا، ما الذي تستفيده؟ الفائدة معدومة -والله- انعداماً كاملاً، اللهم إلا مسئول حاكم سياسي مضطر إلى أن يطلع على أحداث العالم فهذا شأنه إذا نوى بذلك الحفاظ على أمة الإسلام ودولتها وبلادها وخيرها ودينها، يثاب ولا يأثم، لكن إذا ظهرت عاهرة تغني ضغط عليه وأسكته أو أغمض عينيه، فلا يسمع ولا يشاهد إلا ما يعود عليه بخير في مهمته التي هو لها، أما بقية النساء والرجال في العالم الإسلامي فوالله! ليخسرون أولاً الوقت، وهو أغلى شيء، فالذي يضيع الساعة والساعتين وهو يشاهد ويسمع ما لا يعود عليه بخير والله! لقد أنفق وقتاً الدقيقة منه لو يجتمع أهل الكرة الأرضية على أن يعطوكها ما استطاعوا، فالوقت أغلى من الذهب.ثانياً: لما تأخذ في المشاهدة سوف تتأثر نفسياً، وتتأثر بماذا؟ بالسوء والباطل لا محالة، فاكتسبت -إذاً- سيئات وما أنت في حاجة إليها.ثالثاً: لا يحل لمؤمن أن يوجد صور عاهرات في بيته، لو كانت صورة على ورقة فهي محرمة، فكيف بصورة واقعية؟رابعاً: إن أنت كنت عصامياً كما يدعون، فبناتك وأولادك ونساؤك ما عندهم هذه القدرة على أن يتحفظوا أبداً، ما يستطيعون، يصبح الأولاد يعملون نفس الأعمال التي يشاهدونها، تلك الحركات يعملونها، ووالله! لقد فعلوا، فربيت أسرتك على باطل وشر، وأنت المسئول عنها، فهل يصح بعد هذا أن ننفق أموالنا في شراء هذه الأباطيل؟أما آثارها السيئة فهي تظهر وكل يوم تتجلى الحقائق، نصبح نقلد الكافرين في مشيتهم وحركاتهم وأصواتهم وحتى نطقهم وكلامهم.فرحم الله هذا التابعي المؤمن القائل: لقد بين الله تعالى وجوه النفقة وحددها، فلم يذكر طبلاً ولا مزماراً ولا صورة من خشب ولا غيرها، ولا ستائر للجدران، فمن أوتي مالاً فلينفق حيث بين الله تعالى له الإنفاق.قد يقول قائل: لم هذا الشيخ دائماً معني بموضوع التلفاز والفيديو والأغاني؟ الجواب: لأنه ما أمامنا معصية مشاهدة إلا هذه، لو انتهت فلن نتكلم فيها، فكيف أرضى وأنا لا أرضى لنفسي ولا لأسرتي أن يوجد في بيوتهم هذا، ونرضى به للمؤمنين والمؤمنات؟!

معنى قوله تعالى: (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
ثم قال تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215]، وما تنفقوا من خير تجزوا به، وتثابوا عليه، وتعطوا أجركم، لم؟ لأن الله خبير وعليم، ومعنى هذا: إياك أن تفهم أو يخطر ببالك أنك تنفق نفقة وإن قلَّت -كدرهم- وتخشى أن الله ما يعلمها، وعلى ذلك لا يثيبك عليه؛ لأنه ما يدري، انزع هذا من ذهنك، وما تفعلوا من خير قل أو كثر، صغر أو كبر، مهما ما كان فلا بد أن يجزينا به لعلمه به، لو كان لا يدري ما أنفقنا -وخاصة النفقات الصغيرة، والنفقات في الظلام، والنفقات حيث لا يعلمها أحد- فقد يخطر ببالك أن الله ما اطلع عليها فلا يثيبك عليها، فنفى هذا نفياً كلياً: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215]، ولازم علمه أنه يثيب عليه ويجزي به.فهذه الآية الكريمة بينت لنا ماذا ننفق وعلى من ننفق، فلنطع الله عز وجل، فإن كان لنا مال نحتاج إلى إنفاقه فلننفق أولاً على أنفسنا وأبنائنا وبناتنا وأزواجنا، ثم ننتقل إلى آبائنا وأمهاتنا ثم الأقرب فالأقرب فالأقرب، ثم الفقراء والمساكين واليتامى وأبناء السبيل، هذا العلم تلقيناه عن الله عز وجل، فالحمد لله، والبشرية الكافرة ما عرفت هذا ولا سمعت به.

تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم ...)

الآية الثانية: هي قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:216]، كتب عليكم، أي: فرض، ولم يقل: فرض عليكم؛ لأن الفرض فرض، وكونه يكتب يكون أبلغ وأثبت وأكثر أصالة، كتب كتابة، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ كتاب المقادير، وكتبه علينا في القرآن الكريم، وفرضه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:216]، قتال من؟ قتال الكافرين والبغاة الظالمين، لم نقاتلهم؟ لأننا حملة رسالة، هذه الرسالة آثرنا الله بها، وفضلنا على سائل الخلق بها، ينبغي أن نحملها ونبلغها إلى أهلها، هذه الرسالة: هي إنقاذ البشرية من الجهل والظلم والخبث والشر والفساد في الدنيا، ثم إنقاذها من الشقاء الأبدي والخسران الكامل يوم القيامة، أعطانا الكتاب، وهو نوره، وبعث فينا رسوله، فبين لنا ما ينبغي أن نعرفه ونعلمه، فأسند إلينا هذه الرسالة فيجب أن نبلغها، فهل نبلغها ونحن عاجزون ضعفاء غير قادرين؟ هل نبلغها ونحن نخاف من القتل والقتال؟أولاً: لا بد من العدة والعتاد والطاقة بمعناها، وهذا فرض فرضه الله علينا نحن أولياءه وحاملي رسالته، ومن العدة والعتاد أن يكون أمرنا واحداً، لا خلاف بيننا ولا اختلاف، راية واحدة وإمام واحدة، فريضة الله، عرف العدو هذا فمزق دولتنا إلى نيف وأربعين دولة، فتركنا مختلفين متنازعين، وجعل الراية رايات، فهل نستطيع أن نقوم بهذا الواجب ونحن مفترقون متشتتون منقسمون على أنفسنا، من يقول: نستطيع؟ والله! ما نستطيع، ويدلنا على ذلك بوضوح: أن اليهود غزونا واستعمروا ديارنا وبنو دولتهم فيها، هل استطاع العالم الإسلامي أن يطرد اليهود من فلسطين؟ ما يستطيع؛ لأنه متفرق مختلف، ما هو بأمة واحدة ولا دولة واحدة أبداً، عشرات الدول، فأول عدة ينبغي أن تكون هي توحيد كلمة المسلمين، هل توحيد كلمتهم من الصعوبة بمكان؟ لا والله، متى آمنوا إيماناً حقيقياً أصبحوا أمة واحدة، والعدو عرف هذا ففتت وبدد طاقات الإيمان من قلوب المسلمين، فأصبحوا مؤمنين صورياً، لا حقيقة، إلا من رحم الله، إذ لو آمنوا إيماناً حقاً لأنفقوا كل شيء، فلم يبقوا يحافظون على التراب والطين والقبيلة والوطن والمال والنفس، لكن ما آمنا الإيمان الحقيقي. ‏

تميز الرجال عن النساء بوجوب القتال عليهم

إذاً: كتب علينا القتل فهيا، وقرئ (كتب عليكم القتل)، ولا فرق بين القتل والقتال؛ لأنه لا يقتل حتى يقاتل، وهنا بيت شعري لطيف: كتب القتل والقتال عليناوعلى الغانيات جر الذيول.من قال هذا؟ أولئك العرب الأقدمون، قالوا: كتب القتل والقتال علينا، نموت ونميت، نَقتُل ونقتَل.(وعلى الغانيات جر الذيول) من هن الغانيات؟ الغانيات: النساء المؤمنات، ماذا كتب عليهن؟ جر الثياب الطويلة، ما تجعل ثوبها إلى فخذيها كالمتحررات أو إلى نصف ساقيها أو كعبيها، ثوبها يمشي وراءها الشبر والشبرين والذراع، وقد سألت مؤمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نجاسته، فقال: لا شيء عليك، لأنك تجرينه على الأرض، فالطاهرة تطهر النجس.فمتى يعود نساؤنا على هذه الصورة؟ حين نؤمن وندخل في الإسلام بجد وصدق، وحينئذٍ فجأة وإذا بالمؤمنات مقصورات في الخيام كالحور العين، يربين البنين والبنات ويعبدن الرحمن، ويسعدن الأزواج في تلك البيوت، ومعنى هذا: أنه ما هناك وظيفة للبنت، هذه الوظيفة فتحت فاها فأصبحت كالأفعى، أشقت الرجال، وحطمت معانيهم وكراماتهم.الآن المرأة موظفة تأخذ كذا ألفاً، والفحل غير موظف فتزدريه، فتسخر منه! وما شعرنا، ما أحسسنا، ما فهمنا أبداً، كالمسحورين تماماً.لِم تخرج المؤمنة موظفة؟ هل هي في حاجة إلى ما تطعم نفسها به؟ الفحل هو المسئول عنها، الأب هو المسئول، الأخ هو المسئول، نساؤنا يعشن في ظل فحولنا، لا أنها هي التي تقوم بالعمل، ثم لو كانت تقوم بحلب الشاة أو البقرة، أو جمع كذا في بستانها الخاص بها فلا بأس، أما أن تتوظف مع الرجال وتصبح رجلاً في كل شيء فوالله! لهو المسئول تماماً؛ لأن الكفار.. المشركين .. اليهود.. النصارى لا دين ولا مروءة ولا رجولة ولا فحولة فيهم، حيوانات، فإذا انسلخ نساؤهم وخرجن كاسيات عاريات وتزاحمن على الوظيفة لأجل الدينار والدرهم فلا غرابة، ولا عجب، أما أهل الإيمان فهم هداة البشرية من يهدي الإنسانية سواهم؟ فحين يقلدون الآخرين ويصبحون مثلهم وأسوأ حالاً منهم كيف سيؤدون هذه الأمانة؟قد يقولون: إذا لم تترقوا، إذا لم تنتقلوا من حال إلى حال وبقيتم متخلفين سوف تداسون بالنعال، والله! إن هذا كله هراء، لا وزن له في الواقع أبداً، بل العكس، والله لو أسلمنا في أربع وعشرين ساعة فكانت كلمتنا واحدة، ونساؤنا في بيوتنا وفحولنا يأخذون ويعطون لارتج العالم واهتزت أركانه، ولا ينفع هيدروجين ولا ذرة ولا صاروخ.كتب القتل والقتال عليناوعلى الغانيات جر الذيولتغنى بهذا الشعر المسلم العربي.

تقديم المؤمن محبة الله تعالى على كراهة النفس للقتال
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، نعم مكروه، من منا من لا يكره القتال والقتل؟ ولكن إذا أمر الله السيد المالك عبده بأن يفعل أو يترك فينبغي أن ينفعل بذلك الأمر ويصبح ذلك المكروه محبوباً وذلك المحبوب مكروهاً، لما حرم الله على المؤمنين في هذه المدينة الخمر أما كانت محبوبة؟ أما كانت تعتق وتباع بأغلى الأثمان؟ أما كانوا يتباهون بها ويفتخرون؟ ولما كرهها الله وحرمها جرت بها أزقة المدينة في يوم واحد، ما إن نزلت: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] حتى أخذوا الدنان والقرب من عتبة الباب ويصبونها في الشارع، حتى جرت في أزقة المدينة.ولما أحب الله القتال والقتل في سبيله أحبوا ما أحب الله، وخرجوا إلى القتال فرحين مسرورين، بل كان أحدهم يطرب عند المعركة ويهلل ويكبر، والله عز وجل أخبر بواقع عباده، إذ هو غارز غرائزهم، وخالق طباعهم، طبعنا هو هذا، نكره القتل والقتال، لكن ما إن كتبه الله وفرضه على أوليائه حتى تغير الطبع وأصبح المحبوب مكروهاً والمكروه محبوباً، فهو يخبر بهذا تمهيداً لهم، لينتقلوا من حال إلى أخرى أعلمهم بأنه كتب عليهم القتال وهو كره لهم بالفطرة يكرهونه، الدخول في المعارك وإراقة الدماء وكسر الجماجم والسقوط في الميادين، هذا مكروه للإنسان بطبعه، لكن إذا كان الله قد أحبه فإنه يحبه أولياؤه.

معنى قوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم)

وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216]، (وعسى) هذا الفعل يفيد الترجي، رجاء وقوع هذا المحبوب أو المكروه، ولكن إذا كان منسوباً إلى الله فلا يفيد إلا الجزم والتحقيق؛ لأن الله يملك كل شيء، وقدرته على كل شيء، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة:216]، وفي هذا يقول الشاعر وقد جمع تفسير الآية في بيتين من الرجز: رب أمر تتقيهجر أمراً ترتضيه.(رب أمر تتقيه) كالقتال (جر أمراً ترتضيه) وتحبه وكم من أمر تتقيه وتخافه جر إليك أمراً ترتضيه وتحبه.خفي المحبوب منهوبدا المكروه فيه.فسر الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216] ببيتين من الشعر، فنحن نكره القتال وهو خير لنا، نحب الجبن والقعود في البيت وهو شر لنا، وهو كذلك.

خراب الأندلس أنموذج لأثر جبن المسلمين عن القتال

وهنا يقول القرطبي في تفسيره باكياً: لما قعد المؤمنون في الأندلس عن القتال وجبنوا وآثروا الدنيا وزخارفها وقعدوا عن الجهاد في سبيل الله ماذا حدث لهم؟ تسلط عليهم النصارى الصليبيون، فمزقوهم، شردوهم، قتلوهم، استعبدوهم، وحولوا تلك الجنة إلى جحيم، أين جنة الأندلس؟ السبب أنهم قعدوا عن القتال، أحبوا ما كره الله، وكرهوا ما أحب الله في هذه الآية، وهذا واقع، فالأندلس كانت تسمى جنة العالم الإسلامي.ومما يؤثر عنهم ونحفظه: أنهم لما ترقوا وتحضروا أدخلوا في المستشفيات الأغاني، قالوا: مما يساعد المرضى على النقاهة والترويح على أنفسهم أن تجعلوا لهم مغنيات! وهذا المطلب طلبه أحد كتابنا في جريدة المدينة أو البلاد منذ حوالي خمس وعشرين سنة، وطالب الحكومة بأن تدخل الأغاني للتسلية على المرضى! تحت عنوان: الموسيقى لا الدواء، كتب هذا ورددنا عليه وأدبناه، والحمد لله، وما وقع الذي طلب، قلنا له: على مهلك، فنحن ما عندنا أكثر من أربعين سنة تنفسنا فيها الصعداء وشممنا رائحة الخير في ديارنا هذه، فلم تستعجل البلاء؟ على الأقل بعد مائة وخمسين سنة، أراد أن يستعجلها، وذكرنا له الأندلس ديار الإسلام، جنة العالم الإسلامي، ديار العلم والعلماء والأبرار والأتقياء والكمال والعزة والسيادة، اهتزت لها أوروبا من شرقها ومن غربها، فلما آثروا الزخارف والأباطيل والملاهي والملاعب سلط الله عليهم النصارى، هي سنته، فاجتاحهم الغرب وفعل فيهم ما لا يحصى، رموهم بالمئات في البحر، مزقوهم.. صلبوهم.. شردوهم.. شتتوهم، حولوا المساجد إلى كنائس، أما في هذا عبرة أبداً؟!

انحصار الخير والشر فيما شرعه الله تعالى أو نهى عنه
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

يقول تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216] قطعاً وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216]، وكم من شيء نحبه وهو شر لنا، وآخر نكرهه وهو خير لنا، وبالجملة: كل ما أمر الله به فهو خير وإن كان أن تخرج من مالك أو تقدم دمك وكبدك، فهو والله خير، وكل ما نهى الله عنه وإن ظهر لك أنه خير فهو والله لشر، والأمر واقع مشاهد، إذ مولانا عز وجل لا يأمرنا وهو ولينا إلا بما فيه خيرنا وكمالنا وسعادتنا، حاشاه أن يفرض علينا ما يجلب لنا ذلاً أو هوناً أو دوناً، حاشاه أن يقع هذا منه أبداً، فجميع أوامر الله التي كلفنا بها هي خير، وجميع نواهيه التي نهانا عنها من اعتقاد أو قول أو زي أو لباس أو صورة أو تفكر هي شر لنا، والواقع شاهد.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآية في قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين...)

ولنستمع إلى تلاوة الآية في شرحها كما هي العادة في هذا الدرس.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة ] أي: الآية الأولى، وهي قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215].قال: [ سأل عمرو بن الجموح -وكان ذا مال- رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينفق وعلى من ينفق؟ فنزلت الآية جواباً لسؤاله، فبينت أن ما ينفق هو المال وسائر الخيرات، وأن الأحق بالإنفاق عليهم هم الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين، وأبناء السبيل، وأعلمهم تعالى أن ما يفعله العبد من خير يعلمه الله تعالى ويجزيه به، فرغب بذلك في فعل الخير مطلقاً ]، ليس المال فقط: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة:215]، صلاة .. صيام.. جهاد.. رباط كله خير.

هداية الآية

هذه الآية يؤخذ منها الهدايات الآتية:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية الكريمة:من هداية الآية: أولاً: سؤال من لا يعلم حتى يعلم، وهذا طريق العلم ]كما علمنا، سؤال من لا يعلم من يعلم، وهو واجب، وهذا هو الطريق للوصول إلى العلم، سؤالك عما لا تعلم أهل العلم وجوابهم لك هو العلم، انظر هداية هذه الآية.سؤال من لا يعلم حتى يعلم، يواصل السؤال وما ينقطع إلى أن يعلم، [ وهذا طريق العلم، ولهذا قالوا: السؤال نصف العلم.كما أن (الله أعلم) نصف العلم أيضاً، فالسؤال نصف العلم، إذا سأل علم أو لا؟ فالسؤال نصف، وقولك: (الله أعلم) نصف العلم، إذا سئلت عما لا تعلم وقلت: الله أعلم فهذا نصف العلم، فانحصر العلم في السؤال وفي التفويض إلى الله، أي: الله أعلم.[ ثانياً: أفضلية الإنفاق على المذكورين في الآية إن كان المنفق غنياً وهم فقراء محتاجون ]، من هداية هذه الآية بيان أفضلية الإنفاق على المذكورين في الآية: الأبوان، والأقرباء واليتامى والمساكين وابن السبيل، إذا كان المنفق غنياً وهم فقراء محتاجون إليه.[ ثالثاً: الترغيب في فعل الخير والوعد من الله تعالى بالجزاء الأوفى عليه ]، تضمنت هذه الآية هداية، وهي الترغيب في فعل الخير: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215]، أي ترغيب أعظم من هذا؟ فمن استطاع أن يفعل خيراً فليفعل ولو إزالة شوكة من الطريق، فإن الله به عليم، ولازمه: أنه يثيب عليه ويجزي به.

معنى الآية في قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم ...)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

أما الآية الثانية فلنستمع إلى شرحها بعدما علمناها:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآية الكريمة:يخبر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بأنه فرض عليهم قتال المشركين والكافرين، وهو يعلم أنه مكروه لهم بطبعهم لما فيه من الآلام والأتعاب وإضاعة المال والنفس، وأخبرهم أن ما يكرهونه قد يكون خيراً لهم، وإن ما يحبونه قد يكون شراً لهم، ومن ذلك الجهاد فإنه مكروه لهم وهو خير لهم لما فيه من عزتهم ونصرتهم ونصرة دينهم مع حسن الثواب وعظم الجزاء في الدار الآخرة، كما أن ترك الجهاد محبوب لهم، وهو شر لهم؛ لأنه يشجع عدوهم على قتالهم واستباحة بيضتهم، وانتهاك حرمات دينهم، مع سوء الجزاء في الدار الآخرة.وهذا الذي أخبرهم تعالى به من حبهم لأشياء وهي شر لهم، وكراهيتهم لأشياء وهي خير لهم هو كما أخبر لعلم الله به قبل خلقه، والله يعلم وهم لا يعلمون، فيجب التسليم لله تعالى في أمره وشرعه مع حب ما أمر به وما شرعه واعتقاد أنه خير لا شر فيه ].

هداية الآية

وفي هذه الآية أيضاً ثلاث هدايات:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية الكريمة:من هداية الآية: أولاً: وجوب الجهاد على أمة الإسلام ما بقيت فتنة في الأرض وشرك فيها ]، الجهاد فريضة الله على العالم الإسلامي ما بقي كافر ومشرك، ولا يسقط هذا الفرض أبداً حتى لا يبقى في الأرض من يعبد غير الله، ودليل ذلك قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193]، والآن كيف حال المسلمين؟ والله! إنهم لآثمون وغارقون في هذه المعصية حتى يوحدوا إمامهم وصفوفهم ويقاتلوا أعداء الله ليهدوهم ويصلحوهم ويجعلوهم من أهل الكمال والخير.ويوم القيامة نسأل عن الذين يدخلون النار؟ هؤلاء كفار فأين كنتم أنتم؟ لِم ما دعوتموهم؟ لِم ما بينتم لهم؟ ونحار في الجواب ونعجز.[ ثانياً: جهل الإنسان بالعواقب يجعله يحب المكروه ويكره المحبوب ] هذا هو السر، لو يعرف العاقبة وما يكون بعد فسيحب ما يُحب ويكره ما يُكره، لكن للجهل يحب المكروه ويكره المحبوب، لو علم ما يأتي بإزاء هذا العمل ما كان يحب إلا ما أحب الله، ولا يكره إلا ما يكره الله.[ ثالثاً: أوامر الله كلها خير، ونواهيه كلها شر، فلذا يجب فعل أوامره واجتناب نواهيه ]، بالله الذي لا إله غيره! إن أوامر الله لكلها خير، وإن نواهيه لكلها شر، ومن فعل المحبوب فاز بالخير، ومن ترك المكروه لله فاز بالنجاة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-07-25, 09:40 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (4)
الحلقة (11)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (101)

بعد أن استتب الأمر للمؤمنين في المدينة وأمنوا على أنفسهم من أذى الكفار كتب الله عليهم القتال في سبيله سبحانه، فأرسل النبي سرية بقيادة عبد الله بن جحش للاطلاع على أحوال المشركين، فرأى المسلمون عيراً لقريش وكان النبي لم يأمرهم بقتال؛ لأنهم كانوا في شهر من الأشهر الحرم، فقدر الله عز وجل أن يحصل بين الطرفين قتال، فأنكر كفار قريش ذلك من النبي والمؤمنين، فأنزل الله عز وجل عذره للمؤمنين مبيناً أن ما يفعله الكفار من كفر وصد للمؤمنين وإيذاء لهم أشد من إراقة الدماء في الأشهر الحرم، وأنزل سبحانه بشارته لأفراد السرية المؤمنة وبيان معذرته لهم وتجاوزه عنهم فعلتهم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. والآيات التي ندرسها بإذن الله هي قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:217-218]، هاتان آيتان من كتاب الله عز وجل من سورة البقرة.

سبب نزول الآية الكريمة

الآية الأولى لها سبب نزلت به، ومعرفة أسباب النزول تعين على فهم المقصود، يقول تعالى: يَسْأَلُونَكَ [البقرة:217] من المسئول؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسألونك يا رسولنا، من السائلون؟ الله أعلم، وهؤلاء السائلون منهم المنافقون، منهم اليهود، منهم ضعفة الإيمان؛ لأن حادثة وقعت بلبلت أفكارهم، ما هذه الحادثة؟ لما استقر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المدينة وقبل وقعة بدر حين أصبح قادراً على الجهاد بعد نزول آية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة:216]، فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم ينفذ مراد الله، فانتخب سرية من سرايا الإسلام على رأسها عبد الله بن جحش رضي الله عنه، هذا أخو أم المؤمنين زينب بنت جحش ، ومعه بعض أفراد، وقال باسم الله، ابحثوا عن قوافل قريش وتتبعوا تحركاتها، وتعرفوا أحوالها، فذهبوا إلى بطن نخلة، أو بطن وادي نخل بين الطائف ومكة، فعثروا على عير، والعير: القافلة من إبل وغيرها تحمل بضائع، وعلى رأسها عمرو بن الحضرمي ، فاشتبكوا معه، فقتلوا عمرو بن الحضرمي، وأسروا اثنين وأخذوا القافلة، وجاءوا بها إلى المدينة، متى كانت الوقعة؟ كانت آخر يوم من جمادى الثانية، وآخر يوم من جمادى ليس من الشهر الحرام، وأول ليلة هي ليلة رجب، وهو من الشهر الحرم، بل هو أعظم الأشهر الحرم، ما إن سمعت قريش بالحادثة حتى اختنقت وأخذت تصيح: انظروا إلى محمد يستبيح القتال في الشهر الحرام، أين الدين الذين يدعو إليه، وأين الإسلام كما يقول، كيف يستبيح القتال في الأشهر الحرم؟ وجاء الخبر إلى المدينة، وأوقف الرسول الأسرى، ما تصرف فيهم، والغنيمة كذلك، وأخذ المنافقون واليهود والمرضى في هيجان؛ لأن هذه أول سرية في الإسلام، وكثرت التساؤلات، وأبواق المجرمين والمنافقين لا تهدأ، فنزلت هذه الآية فيصلاً: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ[البقرة:217]، أي: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام؟ فـ(قتال) بدل، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ[البقرة:217] أي: عن القتال فيه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله)

قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة:217] إثم كبير، لكن عبد الله رئيس السرية ما قاتل في رجب، قاتل في آخر يوم من جمادى، وأنتم تشنعون وتقولون وهو في آخر يوم من جمادى وما هو في رجب، ثم قد نسلم بأنه: قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة:217] ولكن وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:217]، تتبجحون في قضية تافهة، وما تم القتال في الشهر الحرام، لكن نحن نعم نعترف بأن القتال في هذا الشهر الحرام حرام، لكن أنتم الآن خفتم من هذا الإثم، وهو إثم عظيم، ولكن تعالوا ندلكم على ذنوبكم:أولاً: صد عن سبيل الله، وصرف للناس عن الإسلام بالقتال وبالدعاية وبكل وسيلة، هذا الصد هل هو حلال؟ أي إثم أعظم من هذا؟ وَكُفْرٌ بِهِ [البقرة:217] أي: بالله، والشرك به، هل هذا أيضاً شيء قليل؟ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:217] أي: والصد عن المسجد الحرام ومنع المسلمين من دخوله، أهذا أيضاً لا بأس؟ هو أعظم ذنب. وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ [البقرة:217] أي: من المسجد الحرام بطرد المؤمنين حتى هاجروا، هذا أكبر عند الله من كون القتال وقع خطأ في آخر يوم. وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:217]، فتنة المؤمنين حتى يخرجوا من دينهم بالضرب والإحراق بالنار أكبر، هل عرفتم الآن المعنى؟ اسمع الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:217] فأسكتهم.

معنى قوله تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ...)

ثم قال تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ [البقرة:217] لن يفرغوا أبداً من قتالكم ولن ينتهوا حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ [البقرة:217] حسبما يرون وما يزعمون، وهذا كشف عن نيات الكفار، وما يدور في خلدهم، وما هم عليه إلى اليوم. وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ [البقرة:217] لعلة ماذا؟ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، وهذه الجملة تبشرنا بخير، أنهم لا يستطيعون، فقوله تعالى: إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] معناه: لا يستطيعون، لكن تصوراتهم ..فهومهم.. أعمالهم.. تدبيرهم كله على أن لا يبقى إسلام وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ...)

ثم قال تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ [البقرة:217]، وفي قراءة سبعية: (ومن يرتدّ) بدون فك، مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [البقرة:217] أي: الإسلام فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [البقرة:217] أي: لم يتب ولم يرجع؛ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، حتى لا يفكر مؤمن في أن يرتد، لا لدنيا ولا لغيرها؛ لأنه هبوط لا حد له، فانتبهوا. وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [البقرة:217]، أما إن ارتد وتاب ومات على الإسلام فقد نجا، لكن فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [البقرة:217].

حكم العمل الصالح قبل الردة إذا تاب المرتد

هنا مسألة فقهية: هل العبد إذا ارتد عن الإسلام ولم يمضِ عليه زمان طويل أو قصير حتى تاب، هل أعماله الصالحة التي عملها من الحج والعمرة والصالحات والجهاد تعود له أو يحرمها ويستأنف العمل من جديد؟أعيد القضية: فلان ارتد بعدما عاش عشرين سنة في الإسلام، أصبحت البرنيطة على رأسه والصليب في عنقه، قضى فترة من الزمان تطول أو تقصر ثم تراجع، وندم وعاد إلى الإسلام، هل أعماله الصالحة التي عملها أيام إسلامه تمسح وتنسخ وتحبط بكفره أو لا؟ الجمهور وأكثرية الأئمة على أن أعماله الصالحة لا تعود إليه، إلا الشافعي فإنه يقول: تعود إليه.الجمهور احتجوا بقول الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، والشافعي رحمه الله قال: هذا اللفظ عام، نقيده بقوله: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [البقرة:217].ونتيجة هذا أن هذا الذي كان قد حج واعتمر وارتد ثم عاد هل يجب عليه الحج مرة ثانية أو يعتبر حجه الأول عملاً صالحاً له؟ الجمهور يرون أن عليه أن يعيد الحج؛ لأن الشرك محبط للعمل مبطل، ما بقي له شيء. ورأي الجمهور أصوب، لقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وبالإجماع أن الشرك مبطل للأعمال محبط لها.يبقى إذا عاد إلى الإسلام، هل أعماله الأولى ترد له ويثاب عليها وقد محاها بكفره؟ الصواب: أنها لا تعود، يستأنف العمل من جديد، فيحج، ويعتمر.

حكم استتابة المرتد

وسؤال ثان في هذه القضية: هل المرتد يقتل فوراً أو يستتاب؟ هل من ارتد يستتاب ثلاثة أيام أو على الفور يساق إلى المشنقة؟ الجواب: يستتاب ثلاثة أيام، ففي الهيئة، أو في مركز الشرطة يعرضون عليه التوبة: تتوب أو لا؟ أتوا بالماء فقالوا: توضأ وصلّ. فقال: ما أنا بمصل، لن أزكي، وهكذا إلى اليوم الثالث، يقولون: ستتوضأ وتصلي أو لا؟ فإذا بقي على المغرب قدر ما يتوضأ ويصلي يقال له: صل. فإن قال: لا ضرب رأسه، ومات كافراً إلى جهنم، ارتد ومات كافراً، فإن هو رجع وقال: أتوب إلى الله وصلى ردوه إلى أهله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

حكم قتل المرأة المرتدة

وهنا سؤال آخر: هل المرأة تقتل بالردة أو لا؟الجمهور على أنها لا تقتل بالردة، تسجن وتعزر حتى تتوب، لِم؟ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم في قتاله ما قتل النساء ولا الأطفال، وحرم قتل النساء والأطفال في الحرب، لا يحل لمؤمن أن يقتل امرأة إلا إذا حملت السلاح ودخلت المعركة، فهذه مقاتلة، والأطفال كذلك.قالوا: إذاً: وهنا المرأة لِم تقتل؟ ما دام الرسول قد عفا عن قتلها وهي كافرة إذاً: يعفى عنها الآن وهي كافرة، لكن لا بد من تعزير، إن كانت متزوجة يفسخ نكاحها على الفور، فهي حرام لا تحل له.

حكم استتابة المرتد بسبِّ النبي صلى الله عليه وسلم

وهل هناك من يقتل إذا ارتد دون استتابة؟ مالك يقول: نعم، الذي يسب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل على الفور، لا تقبل له توبة ولا يستتاب. ما دليلك يا مالك ؟ قال: إن امرأة في المدينة لها خادم منافق يسب الرسول صلى الله عليه وسلم أمامها، فجاءت بالليل بحديدة وهو نائم، فاعتمدت عليه وقتلته، وذهبت إلى الرسول تخبره، فلم ينكر عليها فعلها، أقرها على ما فعلته؛ لأن سب الرسول صلى الله عليه وسلم ما يطاق، قد يسبون الله، نسبوا إليه العجز والولد، والله عز وجل شأنه عظيم، فيعفى عنهم إن تابوا، لكن سب الرسول معناه: خداع وغش وضرب الإسلام. والجمهور يقولون: يستتاب كغيره فإن تاب وإلا قتل. والأمر واسع، وكله خير.

حبوط أعمال الميت على الردة وخلوده في النار

فهذا دل عليه قوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ [البقرة:217] البعداء حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة:217] أي: بطلت فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، أهل جهنم، خالدون فيها لا يموتون ولا يخرجون، ملايين السنين، حياة غير قابلة للفناء، وهل للحياة غير القابلة للفناء صور أو لا؟ هذه الشمس كم سنة لها، هل طال عمرها أو لا؟ أهل النار يدخلون في النار ما يموتون، ولا تنتهي، فيها صنوف العذاب وألوان الشقاء وحياة لا تسأل عن مرارتها، ولا موت ولا خروج، أين يخرجون، أجسامهم غير قابلة للموت، فما يموتون.وأهل الجنة فوق أيضاً في عالم كامل، عالمنا هذا ليس قطرة من بحر، أهلها دائماً أحياء لا يموتون ولا يمرضون، هكذا خلقهم الله على صورة غير قابلة للفناء والتحلل والتبخر. وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، هذه الآية خير لكم من عشرين ألف ريال، أما الذين حفظوها وفهموها فوالله! لخير لهم من مائة ألف ريال، فمائة ألف ريال ممكن أن توقعك في البلاء والشقاء، ما تستفيد، في أكثر ما أن تأكل وتلبس؟ ثوب واحد وقرص عيشك لك طول حياتك.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ...)

الآية الثانية قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ [البقرة:218] السامون الأعلون يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ [البقرة:218] لهم رَحِيمٌ [البقرة:218] بهم. هذه نزلت أيضاً في عبد الله بن جحش صهر النبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو الذي قاد السرية أو لا؟ هو الذي قتل عمرو بن الحضرمي، وأصبح هو أيضاً الآن خائفاً مع أصحابه، والرسول صلى الله عليه وسلم ما بت في القضية، ما زال الأسرى على ما هم عليه والغنيمة كذلك حتى يجيء حكم الله، فكان في كرب مع أصحابه ينتظرون حكم الله فيهم، بل وحتى جيرانهم والناس كلهم، فقال تعالى مخبراً مؤكداً الخبر: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:218]، عبد الله بن جحش أما آمن ؟ ورفقته أما آمنوا من قبل؟ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا [البقرة:218] أما هاجروا من مكة إلى المدينة؟ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:218] لا في سبيل الدنيا ولا المال، أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [البقرة:218]، ورجاء الرحمة: انتظارها برغبة مع حسن الظن بأنها واقعة، ترقب للخير وانتظاره مع الظن للغالب، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218]، إذاً: غفر لهم ورحمهم فباتوا في هدوء وعاشوا سعداء.هكذا يعامل الله أولياءه من عباده المؤمنين، هذه الآية نزلت في عبد الله بن جحش تساوي الدنيا بما فيها، من هو أو أنا حتى ينزل القرآن فيه ويطمئنه ربه ويبشره بالمغفرة والرحمة؟ فالحمد لله. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:218] ويبقى هذا إلى يوم القيامة: كل من آمن أولاً ثم هاجر من بلاد الشرك والكفر، ثم جاهد مع المجاهدين في سبيل الله، فالكل يرجون رحمة الله، والله غفور رحيم، يغفر لهم ويرحمهم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

الآن تسمعون شرح الآيتين من الكتاب.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

حرمة دين الله وشرعه مقدمة على حرمة الزمان والمكان

[معنى الآيتين:لما أخبر تعالى أنه كتب على المؤمنين القتال أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة عبد الله بن جحش إلى بطن نخلة يتعرف على أحوال الكفار ]؛ لأن الكفار -كما سمعتم- أعطوا جائزة مائة بعير لمن يأتيهم برأس محمد، ما إن خرجوا حتى عرفوا أن الحالة تغيرت، فلا بد -إذاً- من تخطيط عمل وحركات، فأراد الحبيب صلى الله عليه وسلم أن يتعرف على أحوالهم، فبعث سرية بقيادة عبد الله بن جحش رضي الله عنه.قال: [ فشاء الله تعالى أن يلقى عبد الله ورجاله عيراً لقريش، فقاتلوهم، فقتلوا منهم رجلاً يدعى عمرو بن الحضرمي وأسروا اثنين، وأخذوا العير، وقفلوا راجعين إلى المدينة، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة، وهي أول ليلة من رجب، فثارت ثائرة قريش، وقالت: محمد يحل الشهر الحرام بالقتال فيه! وردد صوتها اليهود والمنافقون بالمدينة ]، كما تعرفون المغرضين وأهل الأهواء والأطماع، استجابوا.وهل بقي القتال في الشهر الحرام محرماً إلى اليوم أو نسخ؟ الجواب: نسخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ [التوبة:5]، فالشهر الحرام بقيت حرمته وجلاله وقدسيته، لكن إذا قاتلنا المشركون فالله تعالى يقول: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ [البقرة:194]، وإذا اضطررنا إلى قتالهم نقاتلهم في الشهر الحرام، إذ قاتل الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف في آخر شوال وأول العقدة، في غزوة حنين وثقيف.ثم لا تنسوا: أن الذي حرم هذه الأشهر هو الله، وقرر هذا، وألقاه في قلوب العرب في الجاهلية قروناً ليفسح لهم المجال لأن يتنقلوا في الجزيرة تجاراً وعمالاً ويتراحموا، عهود ربانية، والله! ما تستطيعها الأمم المتحدة، إذا دخل الشهر الحرام وقف السلاح فلا إغارات، لا غزو، لا سطو أبداً.فعل هذا من خلق القلوب وهو يقلبها، والعلة: أن يعيشوا في هذه الأشهر حتى يتمكنوا من حياتهم، قال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [المائدة:97]، لتقوم حياتهم على هذه الأشهر الآمنة التي لا قلق فيها ولا خوف. جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97]، (قياماً للناس) يعني: حياتهم تقوم على هذه الأشهر، يبيعون ويسافرون، ويعودون، كما قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5].إذاً: فلهذا تعجبت قريش بالفعل: كيف يقاتل الرسول صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام وهو رسول الله؟ ووجدوا فرصة للتشنيع والتهويل، واسمع ما قالوا.قال: [ وأخذوا العير وقفلوا راجعين، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الثانية، وهي أول ليلة من رجب، فثارت ثائرة قريش وقالت: محمد يحل الشهر الحرام بالقتال فيه، وردد صوتها اليهود بالمدينة والمنافقون بالمدينة؛ حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف العير والأسيرين ولم يقضِ فيهما بشيء حتى ينزل حكم الله، وتعرض عبد الله بن جحش ورفاقه لنقد ولوم عظيمين من أكثر الناس ] يلومونهم: لِم تقاتلون في الشهر الحرام؟قال: [ وما زال الأمر كذلك ] اللوم والعتاب والصياح والضجيج [ حتى أنزل الله تعالى هاتين الآيتين: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [البقرة:217] أي: أي عن القتال فيه، أجبهم يا رسولنا وقل لهم: القتال فيه وزر كبير، بيد أن الصد عن دين الله والكفر به تعالى، وكذا الصد عن المسجد الحرام، وكذا إخراج الرسول منه والمؤمنين وهم أهله وولاته بحق أعظم وزراً في حكم الله تعالى ].هناك مثل عامي يقول: يحرم الإبرة ويستبيح الجمل! يقول: أخذ الإبرة حرام، كيف تسرق إبرة مؤمن؟ والجمل لا بأس به؛ لأنه ربما يحتاج إليه! فهم يحرمون القتال في الشهر الحرام ويفعلون كل الأباطيل والشرور، من القتل والتهجير والكفر وما إلى ذلك.قال: [ أجبهم يا رسولنا، وقل لهم: القتال فيه وزر كبير ]، أي: إثم كبير، [ بيد أن الصد عن دين الله، والكفر به تعالى، وكذا الصد عن المسجد الحرام وإخراج الرسول منه والمؤمنين وهم أهله وولاته بحق أعظم وزراً في حكم الله تعالى، كما أن شرك المشركين في الحرم وفتنة المؤمنين فيه لإرجاعهم عن دينهم الحق إلى الكفر بشتى أنواع التعذيب أعظم من القتل في الشهر الحرام، مضافاً إلى كل ذلك عزمهم على قتال المؤمنين إلى أن يردوهم عن دينهم إن استطاعوا.ثم أخبر تعالى المؤمنين محذراً إياهم من الارتداد مهما كان العذاب ] يصب عليهم، يحذرهم [ أن من يرتد عن دينه ولم يتب بأن مات كافراً؛ فإن أعماله الصالحة كلها تبطل، ويصبح من أهل النار الخالدين فيها أبداً ].فلا ينبغي للمؤمن إذا عذب يسيراً أن يلبس برنيطة على الفور ويقول: أنا مسيحي، بل يصبر، لكن إذا كان العذاب شديداً بحيث يغمسونه في الماء أو يكوونه بالنار في تلك الحالة يعطيهم ما طلبوا منه، إذ كان عمار ووالده وأمه سمية يعذبون بالغمس في الماء، يجرونهم على الأرض الحارة، فيأتي عمار الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول له: أعطهم، هم يطالبون فيقولون: امدح آلهتنا وسب الرسول ودينه، أو نبقى نعذبك، ونزل في ذلك قول الله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ [النحل:106]، أي: على الكفر وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فلا حرج.قال: [ مضافاً إلى كل ذلك عزمهم على قتال المؤمنين إلى أن يردوهم عن دينهم إن استطاعوا، إذ قال تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].ثم أخبر تعالى المؤمنين محذراً إياهم من الارتداد مهما كان العذاب أن من يرتد عن دينه ولم يتب بأن مات كافراً فإن أعماله الصالحة كلها تبطل ]، سواء كانت جهاداً أو حجاً أو صلاة أو صياماً، [ ويصبح من أهل النار الخالدين فيها أبداً. هذا ما تضمنته الآية الأولى ] ما هي الآية الأولى؟ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، هذه هي الآية الأولى.
بشارة الله عز وجل لعبد الله بن جحش ومن معه وتجاوزه عنهم قتالهم في الشهر الحرام
[ أما الآية الثانية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا [البقرة:218] فقد نزلت في عبد الله بن جحش ]، من عبد الله بن جحش هذا؟ هذا صهر النبي صلى الله عليه وسلم، هذا أخو زينب ، أما تعرفون عن زينب شيئاً؟ لو جمعت نساء العالم اليوم والجامعيات على الخصوص فلا يصلحن حذاء لـزينب ، هذه زينب تولى الله تعالى عقد نكاحها لرسول صلى الله عليه وسلم في السماء، وكانت تفاخر نساء الرسول: ما منكن واحدة إلا وتولى عقد نكاحها أبوها أو أخوها، وأنا تولى الله تعالى عقد نكاحي. ما سبب هذا الفضل والشرف، كيف فازت به؟ من أجل اطراحها بين يدي الله ورسوله، لما نزل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]؛ لأن زينب بنت عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، زينب لما جاءت مهاجرة مع أخيها عبد الله أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يزوجها مولاه زيد بن حارثة الكلبي رضي الله عنه، فخطبها والرسول يستحيي، والله! لو جمعت حياء الأمة كلها ما بلغ حياء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يخاطب الشخص في وجهه هكذا من حيائه، فلما خطبها لـزيد فهمت أنه خطبها له هو لتصبح أم المؤمنين، وبعد ساعات أو ليل أو نهار قال لها النساء: ما لك! أنت مخطوبة لـزيد العبد؟! لن يكون هذا أبداً، فشرفنا قبل كل شيء! وأخوها عبد الله وقف إلى جنبها: كيف بشريفة قرشية تتزوج عبداً من العبيد مملوكاً، لن يكون هذا أبداً.ولكن الله أراد أن يكون هذا ليهدم به بناء بنته الأيدي الكافرة، وهو أن من تبنى ولداً يصبح كولده، لا ينكح ابنته، إذاً: وزيد كان متبنىً للنبي صلى الله عليه وسلم، اشترته خديجة ووهبته للرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول أعتقه وتبناه أيضاً، فكان يعرف بـزيد بن محمد، فأراد الله أن يبطل هذا التبني من أساسه، إذاً: فماذا صنع الجبار وهو ذو التدبير الحكيم؟ أمر رسوله أن يخطب زينب لمولاه، ففهمت أنها خطبت للرسول ففرحت وقرت عيناها، وبعد يوم أو ساعات تبين لها أنها مخطوبة لـزيد ، فقالت: لن يكون هذا، كيف يسمع الأشراف والدنيا أن فلانة تزوجها مولى؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية التي سنتلوها، ولو تليت في بلاد فيها محال تبيع الخمر فوالله! ما يبقى واحد يبيع الخمر، فيكيف بالذين على سطوحهم الدشوش، ويبيتون مع عواهر العالم ومجرميه يتفرجون، لو يحضرون ويفهمون فوالله! ما بات ذلك في بيوتهم.اسمع، يقول تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:36] وحكما أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36]، والله ما إن نزلت الآية وتليت في البيوت وعلى ألسنة النساء والرجال حتى اطرحت زينب بين يدي رسول الله: زوجني كما أمرك الله يا رسول الله، وتنازل عبد الله البطل قائد أول سرية في الإسلام، ورضي بقضاء الله، وتزوجت زينب المولى زيد بن حارثة ، وتمضي الأيام وزينب نفسها ما هي بمرتاحة لهذا الزوج، مرغمة مكرهة، فكان زيد يشاهد هذا منها، يرى كأنه يؤذيها، فيشكو إلى رسول الله مولاه: يا رسول الله! هذه آذيتها نريد أن نفارقها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: اصبر، كما قال تعالى: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:37] امسك يا زيد عليك زوجك، لِم لم يقل: (زوجتك)؟ الفصيح أن (الزوج) للذكر والأنثى، والعامة تقول: زوج للرجل للفصل بين الرجل والمرأة، وإلا فالزوج واحد، كلاهما زوج، أنت كنت فرداً فزوجناك فأصبحت زوجاً، والمرأة أصبحت زوجاً، لكن إذا خفت اللبس والاختلاط فقل: (الزوجة) بالهاء، ولا تقل: هذه زوجي، لأنهم ما يفهمون هذا.قال تعالى عن نبيه وهو يخاطب زيداً : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الأحزاب:37]، وتخفي يا رسول الله ما في نفسك ما الله سيظهره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خائف أن يطلقها زيد ويتزوجها هو ويقول الناس: انظروا إلى محمد يتزوج امرأة ابنه، من يطيق هذا؟ مع حيائه وكماله، فكان يخفي هذا، والله يعاتبه، فماذا قال له؟ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]. فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37] من زوجه إياها؟ الله، فكانت تفاخر فتقول: ما منكن يا نساء إلا وتولى عقد نكاحها وليها، وتولى عقد نكاحي ربي! وما إن نزلت الآية حتى أقام الرسول صلى الله عليه وسلم الاحتفال بالوليمة والناس يدخلون يأكلون، لا عقد في الأرض ولا شهود، تولى الله زواجها.أما زيد فقد خلد الله ذكره في الأرض والسماء، ولم يظفر بهذا أي واحد غير الرسول صلى الله عليه وسلم، أعطوني مؤمناً ذكر الله اسمه في القرآن سوى رسول الله وزيد. فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37] لِم؟ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37]، فالذي كنت تبنيته إذا طلق امرأته لك أن تتزوجها، ما هو بابنك حقيقة، بدعة جاهلية أبطلها الله، لكن من تحمل حملها الثقيل؟ رسول الله وزينب وزيد ، رضي الله عن صحابة رسول الله، وصلى الله وسلم على نبيه ومصطفاه.قال: [أما الآية الثانية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا [البقرة:218] فقد نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه، طمأنهم الله تعالى على أنهم غير آثمين لقتالهم في الشهر الحرام، كما شن عليهم الناس بذلك، وأنهم يرجون رحمة الله ] أي: الجنة [ وأنه تعالى غفور لذنوبهم رحيم بهم؛ وذلك لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم في سبيل الله، وقال تعالى فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218] ].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

هداية الآيات

هل لهاتين الآيتين من هداية وأنوار نقتبسها لنعيش عليها أياماً؟ وهل القرآن نور؟ والله! إنه لنور، أما قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]؟ هل يستطيع إنسان أن يمشي في حياته بغير القرآن ويستقيم؟ والله ما كان، أقسم بالله على أنه لا بد أن يتخبط في الذنوب، في الآثام، في الجهالات، يمشي في الظلام، وإن شككتم فافتحوا أعينكم على العالم الإسلامي، فمنذ كم قرناً وهو يتخبط، من يوم أن أعرضوا عن كتاب الله وحولوه إلى الموتى والقبور وهم يتخبطون، إذاً: للآيتين هداية.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيتين:من هداية الآيتين:[ حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام ]، يجب أن نحترم الشهر الحرام ومكة إلى يوم القيامة. [ ثانياً: نسخ القتال في الشهر الحرام ]، القتال في الشهر الحرام نسخ، فيجوز، إذا احتاج المسلمون إلى القتال فيه يقاتلون، ومع هذا فإذا أرادوا أن يغزوا فقال قائدهم: نترك هذا الشهر حتى يدخل الشهر الآخر فلا بأس، لكن إذا فوجئوا فلا ينتظرون.قال: [ نسخ القتال في الشهر الحرام بدليل قتال الرسول صلى الله عليه وسلم هوازن وثقيف في شوال وأول القعدة، وهما في الأشهر الحرم ].قاتل ثقيف وهوازن في الأشهر الحرم، ومعنى هذا أن القتال في الشهر الحرام جائز للمسلمين، لكن يبقى الشهر الحرام معظماً، لا يعصى فيه الجبار، يتقرب فيه إلى الله بالطاعات؛ لأنه أفضل الشهور وأعظمها.[ ثالثاً: الكشف عن نفسية الكافرين، وهي عزمهم الدائم على قتال المسلمين إلى أن يردوهم عن الإسلام ويخرجونهم منه ]، والآن هل فرغوا من هذه أو ما زالوا؟ الجواب: ما زالوا.[ رابعاً: الردة ]، وهي هيئة الارتداد، كان ماشياً مع الإسلام فرجع إلى الوراء، كان في طريقه إلى الله، إلى الجنة فانتكس ورجع إلى الوراء إلى جنهم، [ الردة محبطة للعمل ]، ناسخة له مبطلة، فما ينفع، [ فإن تاب المرتد يستأنف العمل ]كما علمتم، والله أعلم.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-07-27, 07:13 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (5)
الحلقة (12)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg


تفسير سورة البقرة (102)

كان العرب في الجاهلية يشربون الخمر ويقامرون، فلما جاء الإسلام وقامت دولته في المدينة بدأت الأحكام الشرعية تنزل شيئاً فشيئاً، ومن ذلك حكم الخمر حيث تدرج الحكم فيها حتى نزل تحريمها أخيراً، كما نزل الأمر بالإنفاق مطلقاً حتى تساءل الصحابة عن كيفية الإنفاق وأبوابه، فجاء التفصيل في ذلك ببيان النفقات الواجبة على كل مسلم، ثم ما يستحب له من النفقات في وجوه الخير والبر.

تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ...)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هاتين الآيتين الكريمتين: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:219-220].هاتان الآيتان المباركتان اشتملتا على ثلاثة أسئلة والإجابة عنها، فمن السائل ومن المسئول؟ لا بد من المعرفة، فالسائل: المؤمنون، والمسئول: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعلم بسؤالهم المخبر نبيه به: الله جل جلاله وعظم سلطانه.

تدرج الأحكام التشريعية
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

أول سؤال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، هل هما جائزان أو ممنوعان، ما حكم الله فيهما؟ اذكروا: أن الأحكام الشرعية نزلت تدريجياً حكماً بعد حكم، إذ أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة، في عشر سنين ما شرع شيء سوى الإيمان بالله ورسوله والدار الآخرة، ثم فرضت الصلاة في السنة العاشرة بعد الرحلة إلى السماء والملكوت الأعلى، فصلى المؤمنون ثلاث سنوات، ولم تكن أحكام تنزل، ولما حل صلى الله عليه وسلم بالمدينة النبوية أخذ التشريع ينزل يوماً فيوماً، وكلما نزل أمر نهضوا به، وكلما نزل نهي تركوا المنهي وابتعدوا عنه، وأخذوا يكملون ويصعدون في سلم الكمال حتى أصبحوا أفضل من وجد على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين.

اشتقاق اسم الخمر في اللغة

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
ها هم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر، أما الخمر فكل مسكر سمه خمراً ولا تبال، إذ هذا اللفظ مشتق من (خمرت الإناء): غطيته، وفي الحديث الصحيح: ( خمروا الآنية ) أي: غطوها بالليل خشية أن تقع فيها حشرة أو يشرب منها حيوان أو كذا، من عنده إناء فيه لبن أو عسل أو طعام أو ماء فليخمره بالليل، إرشاد الطبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم: ( خمروا الآنية ) يعني إناء فيه ما يطعم ويشرب. وسميت الخمر خمراً أيضاً من التغطية؛ لأن المؤمنة يقال لها: خمري وجهك، فالخمار ما هو؟ ما تغطي به رأسها ووجهها، والخمار يعرفه النساء، ما تستر به وتغطي رأسها ووجهها ذلكم الخمار.وأصل الخمر: العنب يطبخ ويستخرج منه المادة المسكرة، ثم أصبح يطلق على كل ما يخمر العقل ويستره فيصبح الرجل يهذي ويقول ما لا يعرف، وقد يغشى كبائر المعاصي؛ لأن عقله غطي واستتر، فلهذا كل مسكر خمر وحرام.

سبب السؤال عن الخمر والميسر

هذا السؤال في الآية الكريمة ما الدافع إليه؟لقد حصل أن حمزة بن عبد المطلب عم الحبيب صلى الله عليه وسلم شرب الخمر فقال كلاماً بذيئاً، ثم شربها غيره في نفر، وحضرت الصلاة فقام أحدهم ليصلي بهم فما أحسن القراءة فخلط، فنزلت الآية من سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]. فمن ثم أوقفوا عن شرب الخمر أوقات الصلاة، فلا يشربونها إلا في الوقت الواسع، من بعد صلاة العشاء إلى آخر الليل، أو من بعد صلاة الصبح إلى الظهر، لكن بعد العصر يكون المغرب، وبعد المغرب يكون العشاء، فأخذوا بتعاليم الله، لا يشربونها في الأوقات التي يبقى السكر معهم حتى يدخل وقت الصلاة، فمن هنا أخذت التساؤلات، ومن يسألون؟ رسول الله هو معلمهم وهاديهم، ومرشدهم، والواسطة بينهم وبين ربهم.

الإثم الكائن في الخمر والميسر

هنا قال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، أجبهم يا رسولنا، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، هذا الجواب الحكيم.والميسر ما هو؟ الميسر: يطلق على آلات القمار، سواء بالكعاب أو غيرها، كل ما يعلب به، والآن معروف الورق، وكانوا يلعبون بالكعاب والنردشير، فلم سمي هذا ميسراً؟ لأنه يحصل صاحبه على المال بيسر ولا كلفة، عاكف على رجليه جالس ويلعب، وإذا ظفر وفاز أخذ المال، مأخوذ من اليسر، من يسر ييسر العبد: إذا حصل على منفعة بدون كلفة ولا ضرر. قُلْ [البقرة:219] يا رسولنا صلى الله عليه وسلم فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة:219]، ما الإثم هذا؟ الإثم حقيقته: كل ضار مفسد، كل ما يضر بالعقل أو العرض أو المال أو الدين أو النسل فهو إثم؛ لأنه ضار، ومن حيث هو فاسد، فكل ما يضر العبد في عرضه، في ماله، في دينه، في عقله فهو إثم، والعرب كانوا يطلقون في الجاهلية على الخمر اسم: الإثم، يسمونها: الإثم، يقولون: هيا نشرب الإثم، قال شاعرهم:شربت الإثم حتى ضل عقليكذلك الإثم يذهب بالعقوليقول: (شربت الإثم حتى ضل عقلي) وتاه، (كذلك الإثم يذهب بالعقول)، عرفوا أنها ضارة وفاسدة، وسموها لذلك الإثم قبل التشريع وبيان الإثم وغيره.

المنافع المتحصلة من الخمر والميسر
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

إذاً: أجابهم الرحمن جل جلاله بهذه الجواب: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، ما هذه المنافع للناس؟ أولاً: الخمر كانوا يستوردونها من الشام بلاد العنب، وهم تجار، وخاصة أشراف مكة وساداتها، ويبيعونها فيكسبون أموالاً طائلة، إذ كانوا يعتقونها، وكانت لها منزلة، فهؤلاء التجار استفادوا، ربحوا، كذلك شاربها يجد تخفيفاً عن نفسه من الكآبة أو الحزن وينشرح صدره، ويحصل على سرور وفرح وبهجة بسكرته، هذه هي المنافع. وأما الميسر ففيه منافع، ما هي؟ كانوا يشترون الجمل وينيخونه عند الصفا ويلعبون، فالذين ينجحون لا شيء عليهم، والذين خابوا وخسروا في اللعبة يسددون قيمة الجمل، ويذبحونه للفقراء والمساكين فقط؛ لأنهم أشراف ما يأكلون هذا اللحم الذي أخذوا بالقمار، فيذبح ويوزع لحمه، هذا معنى: وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219].

معنى قوله تعالى: (وإثمهما أكبر من نفعهما)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، وما دام الإثم أكبر من النفع فمعناه: اتركوهما، لكن لا في صراحة، ومن هنا أخذ عمر يلح على الله: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً.. اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، يلح في الدعاء ليلاً ونهاراً؛ لأنه لما نزلت هذه الآية بعضهم كف عن القمار وعن شرب الخمر، وبعضهم قال: ما هناك نص صريح، ما قال: لا تشربوا أو لا تلعبوا، فعمر اضطرب فأخذ يدعو الله ويلح في دعائه، واستجاب الله له، فجاء نص التحريم من سورة المائدة بعد سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91]، ومن قال: لا فقد كفر، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، قال عمر : انتهينا ربنا! وهذه واحدة مما استجاب الله فيها لـعمر ، واحدة من أربع استجاب الله لـعمر فيها، من هذه الأربع: مقام إبراهيم، قال: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:125]، فقال: وافقت ربي في كذا، وعدها، وما ذلك إلا لصفاء روحه وطهارتها، إذا صفت روح العبد وزكت وطابت وطهرت؛ فيصبح قريباً من الملائكة، قريباً من الله.

مراحل تحريم الخمر
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

إذاً: فحرم الله الخمر بآية المائدة، وقبل آية النساء والبقرة نزلت آية تعلن جوازها، وامتن الله تعالى على الناس بها في سورة النحل المكية: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67]، هذه أصل الإباحة: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67].ثم لما حدث ما حدث في الصلاة وقال ما قال إمامهم حرم الله شربها عند الصلاة، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقربها وهو يصلي أو يريد الصلاة، فخف شربها واضطربوا، فأخذوا يتساءلون؛ فنزلت هذه الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، فكف من كف، وانقطع من انقطع عن شرب الخمر ولعب الميسر، حتى نزلت آية المائدة، بعد أن كان عمر يلح على الله: ربنا بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فلما نزلت: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، قال عمر : انتهينا ربنا، انتهينا يا ربنا. وأريقت من قلالها في أزقة المدينة حتى جرت كالمطر إذا سال في الأزقة الصغيرة، وما بقي مؤمن يشربها. هذا معنى قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، فهذه فيها الترغيب في البعد عن الخمر والميسر وفي تركهما، ولكن ليست نصاً في التحريم، وإنما حرمت بآية المائدة، السورة الآتية بعد النساء، حرمت بقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، هذه الصيغة للتهديد، فقالوا: انتهينا يا ربنا، وفي آية المائدة بين الله تعالى مضار الخمر والميسر، فقال: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90] أولاً، وسخ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:90-91]، عرفنا أن اللاعبين أحياناً -والله- يتسابون، وأحياناً يتضاربون، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المائدة:91]، والله! ما بلغنا أن جماعة يلعبون الكيرم وهم يذكرون الله عز وجل، وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة:91]، يؤذن المؤذن، ويدعو الداعي إلى الصلاة وهم مكبون على اللعبة حتى تنتهي وقد صلى الناس وانتهت الصلاة.إذاً: فنعود إلى الخمر، من الله على الناس بأنهم يستخدمونها ويستخرجونها من التمر والعنب، ثم نزلت حرمة شربها عند الصلاة، ثم بين تعالى مضارها، وأن إثمها أكبر من نفعها، ثم نزلت آية المائدة فحرمتها على الإطلاق، وأراقوها عند أبوابهم، والرسول صلى الله عليه وسلم جلد من شربها، وجلد المؤمنون مع رسول الله، ثم قرر علي باستنباطه: أن شاربها يجلد ثمانين جلدة، قياساً على القذف، فالقاذف الذي يقذف مؤمناً بالفاحشة، يقول: يا زاني أو يا كذا؛ إن لم يأت بأربعة شهود على صحة ما رمى به المؤمن فإنه يكشف عن ظهره ويجلد ثمانين جلدة، فـعلي قال: ما دام القاذف يجلد فشارب الخمر السكران يقول أسوأ من القذف، فأجمعت الأمة بعد علي على أن شارب الخمر إذا ثبت شربه يجلد ثمانين جلدة على ظهره. هذا السؤال الأول.

معنى قوله تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

الثاني: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ [البقرة:219]، لما نزل الأمر بالإنفاق: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:195]، قالوا: كيف؟ وكم؟ ومتى؟ وما الذي ننفق؟ بين لنا يا رسول الله، فجاءوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم وتساءلوا فأنزل الله تعالى: قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، أنفقوا العفو، أي: الفضل والزائد عن قوتكم وحاجتكم، أنفقوا في سبيل الله للجهاد، للفقراء، للمساكين، لليتامى، ما زاد عن حاجتكم، أما ما أنتم في حاجة إليه فأنتم أولى، هذا العفو الفضل الزائد عن الحاجة، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: ( أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى )، ما معنى: (غنى)؟ عن كفاية، ما أغناك الله به لتسد حاجتك أنت وأسرتك من الطعام والشراب واللباس، فالزائد هو الذي تنفق منه، أما أن تترك أسرتك جياعاً وتخرج طعامك فلا؛ تريد أن تسد جوعة شخص وفي بيتك جائع، تريد أن تستر عورة شخص ومن معك قد تبدو عوراتهم، فمن رحمة الله وإحسانه لأوليائه أن أجاب عن هذا بقوله: قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، قل لهم يا رسولنا: العفو هو الذي تنفقونه، ( أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى ).

معنى قوله تعالى: (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة)

قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ [البقرة:219]، أي: كما بين لكم هذه الأحكام الشرعية، ما زال القرآن ينزل يبين الآيات الحاوية للتشريع الإلهي من الذرة إلى المجرة، كل الحياة لها قوانينها وشرائعها، وما تتبعه، وما تتركه في هذا الكتاب الكريم، ما مات الرسول صلى الله عليه وسلم وبقي شيء ما عرفوا حكم الله فيه. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ [البقرة:219]، أي: رجاء أنكم تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:219]، فتذكروا وتعرفوا ما هو النافع وما هو الضار، ما ينفعكم في دنياكم الفانية، وما ينفعكم في آخرتكم الباقية، بهذا العلم يوماً بعد يوم والآيات تنزل بالأحكام والتشريع، به تصبحون متفكرين عقلاء، واعين، بصراء، فتعرفون ما ينفعكم في دنياكم الفانية، وما تتطلب هذه الدنيا الفانية، وما ينفعكم في الدار الآخرة الباقية، ومعنى هذا: إذا كانت الدنيا فانية والآخرة باقية فليكن عملكم للباقية أعظم وأكثر من عملكم للفانية، وهذا أمر معقول.
تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ...)

سبب نزول الآية الكريمة

السؤال الثالث في هاتين الآيتين: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى [البقرة:220]، هذا السؤال سببه قوله تعالى من سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، هذه دوختهم، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ [النساء:10] يوم القيامة أو بعد الموت سَعِيرًا [النساء:10] ملتهباً؛ من أجل أكلهم أموال اليتامى. لما نزلت هذه الآية ارتبك المؤمنون، واضطرب الصالحون، وبعضهم على الفور فصل يتيمه عنه، صارت المرأة تطبخ غداء ليتيمها وغداء لزوجها وأولادها، ولا تخلط طعام يتاماها مع طعام أولادها وزوجها، وفيه مشقة، حتى الماء، هذه القربة فيها ماء اليتامى؛ لأن الماء كان يشترى، ويأتي الخادم به من مكان بعيد، والطعام كالشراب، كاللباس، كالنوم، فوقعوا في ورطة عظيمة أتعبتهم، فالمرأة تطبخ مرتين، ومن أين يوجد القدران والثلاثة؟ كيف نفصل هذا؟ فبكوا لقوة إيمانهم وبصيرتهم، ومن هنا بدأت التساؤلات: كيف نفعل يا رسول الله؟ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى [البقرة:220]، أجبهم يا رسولنا، قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]، بدلاً من أن تفصلوا طعامهم وشرابهم وكل أمورهم عنكم، وفيه مشقة عظيمة، فالعبرة ما هي بالفصل، العبرة بالمنفعة، فخلطهم أنفع لهم من فصلهم، لم؟ إذا كان طعام الأسرة بسبعة ريالات، واليتيم بريال، فإذا طبخنا له وحده ما ينفع الريال، يحتاج إلى أكثر، فالفلفل والملح والخبز على حسابه، لكن إذا كان مع مجموعتنا، معنا يتيمان وأهل البيت عشرة أنفار، فلأن يكون معنا في القدر أخف عليه.

معنى قوله تعالى: (وإن تخالطوهم فإخوانكم)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220]، فهم إخوانكم، والأخ لا يفصل عن أخيه ولا يبتعد عنه، ما فيه غرابة ولا عجب.إذاً: المهم أن تحافظوا على أموالهم، فلا تأكلوها بالباطل، وهنا لطف الله بهم ورحمهم بهذه الكلمة، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ [البقرة:220] يا رسولنا: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ [البقرة:220] في الطعام والشراب، والكساء والمنزل؛ فهم إخوانكم، والأخ لا يطلب لأخيه إلا ما ينفعه، ويبعده عما يضره، فلا حرج، إذاً: فاخلطوا طعامكم مع طعامهم؛ لأن ذلك أرفق بكم من حيث التعب والمشقة، وأرفق بالمال لليتامى، فإذا كانت تطبخ طعامين: طعاماً لليتامى وآخر لأولادها وزوجها فهذا العمل شاق أو لا؟ ثم لو بقي اليتيم معهم فسيأكل كفايته بالريال إذا كان الثمن سبعة أو ثمانية، لكن إذا طبخ له طعام خاص فسيكلف طعام الأسرة كاملة، أو يقاربه أو يكاد.

معنى قوله تعالى: (والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم)

قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، أي: يا أولياء اليتامى! خالطوا يتامكم، والله عز وجل يعلم المصلح منكم لأموال اليتامى والمفسد لها، فاتقوا الله وخافوه واخشوه، فإياكم والإضرار بيتاماكم. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ [البقرة:220] إعناتكم لَأَعْنَتَكُمْ [البقرة:220]، لو شاء الله مشقتكم وإتعابكم لفعل، ولكن خفف عنكم ذلك، إذ لو فرض فصل أموال اليتامى عن أموال الأوصياء لكانت مشقة لا شك فيها، بدل أن نحرث قطعة أرض وهو معنا وله فيها على قدر نحرث له أرضاً خاصة به، فكيف نستطيع؟ نشتري شاة نحلبها لأهل البيت يشربون، إذاً: هو يحتاج إلى شاة أخرى، فدعه يشرب معنا كأسه، والنفقة جزء من سبعة مثلاً. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ [البقرة:220] قوي قادر لا يمانع فيما يريد، حَكِيمٌ [البقرة:220] في شرعه وتدبيره لعباده، فليتق الله وليحذر.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

هذه ثلاثة أسئلة في آيتين، هكذا يعلمهم يوماً بعد يوم، ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والإسلام وقد اكتمل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، ما ترك شيئاً يحتاج إليه المسلمون إلا بينه، في الأموال في الأعراض، في العقيدة في السلوك في التجارة وفي السياسية، في كل شئون الحياة، فإذا أقبل المؤمنون على كتاب الله وهدي رسوله فلن يضلوا أبداً، ومتى أدبروا وأعرضوا والتفتوا إلى غير الكتاب والسنة أكلتهم الطوام كما هو الواقع.اسمعوا الآية الأولى وتأملوا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، هذا الجواب، فمتى حرمت الخمر؟ بعد هذا التساؤل، وفيه إشارة إلى تركهما، لم؟ لأن الضر أكبر من النفع، إذاً: فاتركوهما، فتساءلوا فنزلت آية المائدة: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91].ثم يقول تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ [البقرة:219]، لما أمرهم الله بالإنفاق فقال: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:195]، فقالوا: ماذا ننفق؟ وكم ننفق؟ ففسر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقول الله تعالى له: قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، أنفقوا العفو أي: الزائد عن حاجتكم، فقال صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى )، والغنى ليس معناه: أن تملك الملايين، الغنى: ما أغناك عن سؤال الناس، ما سد حاجتك وحاجة أهل بيتك.وقوله تعالى في الآية الثانية: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى [البقرة:220]، كيف نتعامل معهم؟ ماذا نصنع؟ وقد هددهم الرحمن بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء:10]، أي: بغير حق، فما المصير؟ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، اضطربت المدينة وأهلها: ماذا نصنع؟ فنزل قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]، أما فصل طعامهم وشرابهم ومنامهم، فكل هذا فيه ضرر من جهتين: من جهة: أنه مشقة كبيرة على المرأة التي تقوم بهذا، ومن جهة أخرى: أننا إذا طبخنا لهم طعاماً خاصاً فإنه يكلفهم أكثر من أن يكونوا مختلطين مع الأسرة بما فيها، لكن راعوا دائماً الصالح لليتامى. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [البقرة:220]، أي: ولو شاء الله إعناتكم لأعنتكم، أي: أوقعكم في العنت، والعنت: المشقة الضارة القوية.إذاً: فسلموا لله قضاءه وحكمه وتدبيره فإنه (عَزِيزٌ) لا يمانع، إذا أراد الشيء كان، فلا تخرجوا عن طاعته، (حَكِيمٌ) يضع كل شيء في موضعه، الذي يتهيأ للصلاح ويطلبه يصلح، والذي يتهيأ للفساد ويريده يتركه وفساده حتى يهلك.أعيد تلاوة الآية مرة أخيرة، وسنقرأ شرحها إن شاء الله زيادة في الفهم.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، وهو ما زاد عن الحاجة، كَذَلِكَ [البقرة:219]، أي: كهذا التبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:219] في أمور دينكم ودنياكم، فتعملوا لدنياكم ولآخرتكم بحسب حالهما، الدنيا فانية والآخرة باقية، فلو أنفقنا نصف ما نملك على الآخرة أفضل من أن ننفق نصفه على الدنيا الفانية.وقوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]، لا فصلهم، القضية قضية الحفاظ على أموالهم وتنميتها لهم، حتى إذا بلغوا رشدهم وامتحنوا ونجحوا يجدون أموالهم وافية محفوظة لهم، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220]، لا حرج، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]. ‏

ما يصنعه الوصي العاجز لتنمية مال اليتيم

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
وقد يقول قائل: إذا كنت عاجزاً ولا أستطيع أن أنمي مال اليتيم وهو خمسة آلاف ريال، فماذا نصنع؟ الجواب: تأخذ من تلك الخمسة آلاف على قدر حاجة اليتيم، وإنما إذا كان المال أكثر من خمسة آلاف فهو صالح للعمل، فعمر كان يقول: اتجروا في أموال يتاماكم حتى لا تأكلها الزكاة، فهذه الخمسة الآلاف لا تضعها في بنك ربا تنميها لليتامى فتحرقهم وتحرق نفسك، انظر إلى تاجر صادق أمين كما كنا قبل، وقل: هذه خمسة آلاف اتجر بها وأعطنا ربحها ليتيمنا، وفي كل شهر توفر له شيئاً، وبعد أربع سنين بلغ هذا اليتيم فتعطيه ماله هكذا.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيتين:كان العرب في الجاهلية ]، ما معنى: في الجاهلية؟ في عهد الجاهلية، والجاهلية هي ظلمة الكفر والشرك والجهل، [ كان العرب في الجاهلية يشربون الخمور، ويقامرون ]، يلعبون القمار بأي شكل كان، [ وجاء الإسلام فبدأ دعوتهم إلى التوحيد والإيمان بالبعث الآخر، إذ هما الباعث القوي على الاستقامة في الحياة ]، بم بدأ الإسلام؟ بالإيمان بالله واليوم الآخر، عشر سنين لا عبادة، وفي السنة العاشرة فرض الله الصلوات الخمس.قال: [ ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم والعديد من أصحابه ] من مكة إلى المدينة، [ وأصبحت المدينة تمثل مجتمعاً إسلامياً ]؛ لكثرة المسلمين فيها، [ وأخذت الأحكام تنزل شيئاً فشيئاً، فحدث يوماً أن صلى أحد الصحابة بجماعة وهو ثملان ]، سكران، عقله ملتبس عليه مغطى، [ فخلط في القراءة ] فيما يقرأه، وقدم وأخر، بل قال كلمة أخرى، [ فنزلت آية النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، فكانوا لا يشربونها إلا في أوقات معينة، وهنا كثرت التساؤلات حول شرب الخمر فنزلت هذه الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، فترك الكثير كلاً من شرب الخمر ولعب القمار؛ لهذه الآية الكريمة، وبقي آخرون على ما كانوا عليه، فكان عمر يتطلع إلى منعهما منعاً باتاً ويقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ]، أي: لقلوبنا. [ فاستجاب الله تعالى له، ونزلت آية المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة:90] إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] ]، هذه الآية هل فهمها الذين يلعبون الكيرم ويقضون الساعة والساعتين ويقولون: نحن ما بيننا ميسر ولا مال، وإنما للتسلية؟ نحن نقول: وإن كنتم لا تتقاضون شيئاً، بل لو كان هناك من يعطيكم المال لتلعبوا فوالله! لا يحل، لم؟ لقوله تعالى في بيان العلة: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ [المائدة:91] من لعبكم وقماركم وشربكم الخمر، يريد ماذا؟ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة:91]، هل يصح أن يتعادى المؤمنون، أو يبغض بعضهم بعضاً؟ الشيطان هنا وجد طريقاً لإيقاعكم في العداوة والبغضاء، وبذلك يفرح، مزق شملكم واجتماعكم، وقال تعالى: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المائدة:91]، فأي عمل يصد المؤمن عن ذكر الله ليقضي الساعة والساعتين لا يذكر الله فهو حرام، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة:91] أيضاً، وأخيراً: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، قالوا: انتهينا ربنا.قال: [ فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، فترك الكثير كلاً من شرب الخمر ولعب القمار؛ لهذه الآية الكريمة، وبقي آخرون ] أي: يشربون ويعلبون، [ فكان عمر يتطلع إلى منعهما منعاً باتاً ويقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فاستجاب الله تعالى له، ونزلت آية المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة:90] إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، فقال عمر : انتهينا ربنا، وبذلك حرمت الخمر وحرم الميسر تحريماً قطعياً كاملاً، ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم حد الخمر وهو الجلد، وحذر من شربها وسماها أم الخبائث وقال: ( مدمن الخمر لا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه )، في ثلاثة نفر وهم: العاق لوالديه ] لا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه، [ ومسبل إزاره ] للخيلاء والفخر لا يكلمه الله ولا يزكيه، ومدمن شرب الخمر المواصل لها.[ وقوله تعالى: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، فهو كما قال تعالى، فقد بين في سورة المائدة منشأ الإثم، وهو أنهما يسببان العداوة والبغضاء بين المسلمين ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، وأي إثم أكبر في زرع العداوة والبغضاء بين أفراد المسلمين، والإعراض عن ذكر الله، وتضييع الصلاة؟ حقاً إن فيهما لإثماً كبيراً، وأما المنافع فهي إلى جانب هذا الإثم قليلة، ومنها: الربح في تجارة الخمر وصنعها، وما تكسب شاربها من النشوة والفرح والسخاء والشجاعة، وأما الميسر فمن منافعه الحصول على المال بلا كد ولا تعب، وانتفاع بعض الفقراء، إذ كانوا يقامرون على الجزور من الإبل ثم يذبح ويعطى للفقراء والمساكين.أما قوله تعالى في الآية: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ [البقرة:215]، فهو سؤال نشأ عن استجابتهم لقول الله تعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:195]، فأرادوا أن يعرفوا الجزء الذي ينفقونه من أموالهم في سبيل الله، فأجابهم الله تبارك وتعالى بقوله: قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، أي: ما زاد على حاجتكم وفضل عن نفقتكم على أنفسكم، ومن هنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى )، رواه البخاري . وقوله: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:219-220]، أي: مثل هذا البيان يبين الله لكم الشرائع والأحكام والحلال ليعدكم بذلك إلى التفكير الواعي البصير في أمر الدنيا والآخرة، فتعملون لدنياكم على حسب حاجتكم إليها وتعملون لآخرتكم التي مردكم إليها وبقاؤكم فيها على حسب ذلك. هذا ما تضمنته الآية الأولى.أما الآية الثانية: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى [البقرة:220]، فإنه لما نزل قوله تعالى من سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] خاف المؤمنون والمؤمنات من هذا الوعيد الشديد، وفصل من كان في بيته يتيم يكفله، فصل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، وحصل بذلك عنت ومشقة كبيرة، وتساءلوا عن المخرج، فنزلت هذه الآية، وبينت لهم أن المقصود هو إصلاح مال اليتامى وليس هو فصله أو خلطه، فقال تعالى: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ [البقرة:220] مع الخلط خير من الفصل مع عدم الإصلاح، ودفع الحرج في الخلط فقال تعالى: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220]، والأخ يخالط أخاه في ماله، وأعلمهم أنه تعالى يعلم المفسد لمال اليتيم من المصلح له؛ ليكونوا دائماً على حذر، وكل هذا حماية لمال اليتيم الذي فقد والده، ثم زاد الله في منته عليهم برفع الحرج في المخالطة فقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [البقرة:220]، أي: أبقاكم في المشقة المترتبة على فصل أموالكم عن أموال يتاماكم. وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:220]، أي: غالب على ما يريده، حكيم فيما يفعله ويقضي به ].وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-07-29, 10:44 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (6)
الحلقة (13)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (103)

نهى الله عز وجل عباده المؤمنين عن أن يتزوجوا المشركات حتى يؤمنّ بالله ورسوله، وبين سبحانه أن الأمة المؤمنة خير من الحرة المشركة، فضلاً عن كون الحرة المؤمنة خير من المشركة، حتى لو كانت المشركة ذات حسن وجمال ومال، كما نهاهم عز وجل عن أن يزوجوا المؤمنات من مشركين، وبين أن العبد المؤمن خير من الحر المشرك، فضلاً عن كون الحر المؤمن خير من المشرك، والسبب في ذلك أن مخالطتهم مضرة ومفسدة للمؤمن وعقيدته، فما بالك إذا كانت العلاقة بهم علاقة زواج.

تفسير قوله تعالى: (ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).ولا ننس تلك العطية الإلهية التي بينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال وقوله حق: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )، من أتى هذا المسجد النبوي الشريف، لا يأتيه إلا لخير يعلمه غيره أو يتعلمه من غيره، كان في الأجر كالمجاهد في سبيل الله، فالحمد لله الذي وهبناه وحرم منه غيرنا، والله ذو فضل عظيم.وها نحن مع هذه الآية الكريمة من سورة البقرة، سورة الأحكام: يقول تعالى: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221] أي: ولا تتزوجوا أيها المؤمنون المشركات اللائي يعبدن مع الله غيره إلى غاية أن يؤمن بالله رباً لا رب غيره، وإلهاً لا إله سواه، ويعبدنه بما شرع من العبادات، هذه الغاية: حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]. ‏
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم)

ثم قال تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ [البقرة:221]، أمة غير حرة مؤمنة خير من حرة مشركة، أمة مؤمنة بالله ولقائه، مملوكة، رقيقة، خير من حرة جميلة حسناء وهي مشركة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221]، الأمة الرمصاء.. العمشاء.. قل ما شئت، أمة خير من حرة حسناء جميلة مشركة كيف ما كانت، لم؟ أولاً: لقد أغلق الباب، لا يحل لمؤمن أن يتزوج كافرة مشركة، ومع هذا زيادة في البيان والتوضيح، يقول تعالى: وَلَأَمَةٌ [البقرة:221]، والله! لأمة مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221] لحسنها وجمالها أو ثرائها أو ما شاء الله.

معنى قوله تعالى: (ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم)

ثم قال تعالى: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221]، أي: لا تزوجوا بناتكم، أخواتكم المؤمنات من مشرك حتى يؤمن، فإن آمن فعلى الرحب والسعة، فإذا كان مشركاً وإن كان ابن عم أو ابن أخ أو كان من كان لا يزوج بمؤمنة، وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221].ومن باب الترغيب: وَلَعَبْدٌ [البقرة:221]، وعزة الله وجلاله! لعبد مؤمن خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، عبد رقيق مملوك أسود مؤمن خير من مشرك ولو أعجبك شرفه، ماله، جماله، قل ما شئت.

معنى قوله تعالى: (أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ...)

ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [البقرة:221]، أي: الكفار، المشركون، الذين حذرناكم من إنكاحهم ونكاحهم، أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [البقرة:221]، يدعون من؟ يدعونكم، الذي يتزوج مشركة سوف ينغمس في بؤرة الشرك ويدخل جهنم، أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [البقرة:221]، إلى دخولها، يدعون من أجابهم وحقق رغباتهم. وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، شتان ما بين دعاة الشرك والكفر ودعوة الله عز وجل إلى الجنة لتدخلوها، وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، بأن يتوب عليكم ويدخلكم الجنة. وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة:221]، فيتعظون ويفهمون ويعملون.
ذكر الأحكام المضمنة في الآية الكريمة

حرمة نكاح المشركة

هيا الآن أسمعكم الآية: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة:221]، هذه آية احتوت على هذه الأحكام:أولاً: حرام على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتزوج مشركة، ويمتنع من التزوج بها إلى أن تسلم، فإذا أسلمت قلبها ووجها لله، وأصبحت من المؤمنات فتزوج بها إن شئت، أما وهي مشركة تؤله غير الله مع الله، وتعبد مع الله سواه؛ فلا يحل الاتصال بها بحال من الأحوال.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

جواز نكاح الأمة بشروطه

وقوله: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ [البقرة:221]، فيه إذن بأن يتزوج المؤمن الحر الأمة للضرورة إذا كانت مؤمنة، إذ قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25]، بهذا القيد: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [النساء:25] قدرة على المال ليتزوج حرة بتكاليف كثيرة، فلا بأس أن يتزوج أمة مؤمنة، هذه رخصة من الله عز وجل مبينة في سورة النساء، وعرفها المؤمنون؛ ولهذا قال هنا: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221]، وهذا أيضاً يدخل فيه امتلاك وشراء أمة مؤمنة، فهي خير من أمة مشركة، لا للنكاح، بل للعمل والخدمة، هذه علموها إخوانكم الذين بلغني أنهم يستقدمون العَمَلة الكافرين؛ لأنهم أرخص من العملة المؤمنين من الفلبين وغيرها، ويصرحون: المؤمن يطلب كذا والكافر كذا! والله! لو عرفوا هذا لما أقدموا على ذلك، ما دمت مضطراً إلى عامل، والمؤمنون متوافرون، فكيف ترضى بأن تأتي بكافر، ويعاشرك ويجالسك، وتظل وتمسي معه، لو كان هناك بصيرة؟! من أين تأتي البصيرة وهم لا يشهدون هذه الحلق، ولا يجلسون فيها ولا يفكرون في العلم والعمل به، هذا توجيه الله أو لا؟ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221].

حرمة تزويج المسلمة بكافر

وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221]، أي: لا تزوجوا مشركاً بناتكم وأخواتكم حتى يؤمن، أما وهو مشرك فلا يمكن أن نزوجه، ولهذا إجماع الأمة المسلمة على أن المؤمنة لا يتزوجها كافر، سواء كان كتابياً أو مشركاً، ولو علم المسلمون بأن امرأة مؤمنة تزوجها كافر وجب عليهم أن يغزو تلك البلاد، ويخلصوا تلك المؤمنة من ذلك الكافر، مؤمنة تؤمن بالله ولقائه يتزوجها كافر؟! كيف تعبد الله وتطيع هذا الزوج؟ تعارضت مهمتها، هي مأمورة بعبادة الله، كيف تعبد الله وهو لا يؤمن بالله؟! لا يسمح لها حتى أن تغتسل، فيكف يسمح لها أن تصوم وتصلي؟! لا يحل للمؤمنين عامة أن يروا مؤمنة يتزوجها كافر ولو كان كتابياً من اليهود والنصارى فضلاً عن المشركين؛ لتعارض حقين: حق الله، وحق الزوج، فكيف تعبد الله؟! ويجوز للمؤمن أن يتزوج كتابية؛ لأنه سلطانها وقاهر لها، لا تستطيع أن تمنعه من شيء وهو يمعنها، أما أن المرأة المؤمنة توضع تحت كافر كتابياً كان أو مشركاً فلا يمكنها أن تعبد الله عز وجل.فلهذا كان الإجماع -ولا خلاف- أنه إذا بلغنا أن مؤمنة تزوجت كافراً يجب أن نفصلها عنه وأن نبعدها، هل يفعل المسلمون هذا؟ أيام كانوا إعزة نعم، قد يغزون ذلك البلد لتخليص هذه المؤمنة، أما الآن فالمؤمنات يتزوج بهن البريطاني والفرنسي والإيطالي والأسباني ولا يتكلم أحد. وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ [البقرة:221] بناتكم أو أخواتكم أو أمهاتكم؛ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221]، حتى يدخلوا في الإسلام بالإعلان عن الشهادتين، ثم بالصلاة والاستعداد لأداء الواجبات كالزكاة الصيام والحج.

حكم نكاح الكتابية

أما الكتابية فإذا كان بيننا وبين قومها معاهدة وسلم، وعدم اعتداء وحرب، أو كانت في ذمتنا؛ فلا بأس للحاجة، للضرورة أيضاً، كيف أترك مؤمنة بلا زواج وأتزوج كافرة؟ من أحق برحمتك وإحسانك: الكافرة أو المؤمنة؟ ولكن إذا وجدت ذمية أو معاهدة فليتزوجها المؤمن بإذن الله تعالى؛ إذ قال عز وجل: وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [المائدة:5] الآية، أي: وأذن لكم بنكاح المحصنات من أهل الكتاب، والمحصنة ليست العاهرة الزانية المعروفة بالعهر، لا يمكن أن يتزوجها إلا أن تكون عفيفة محصنة.إذاً: لا تقل: لم أذن لنا في نكاح الكتابية ولم يأذن في نكاح المشركة؟ للفرق الموجود بين المشركة والكتابية، فالمشركة تعبد غير الله، لا تعرف الله أبداً، والكتابية تؤمن بالله ولقائه والدار الآخرة، وتؤمن بالكتب الإلهية والوحي، وإن كانت كافرة؛ لأنها ما آمنت بالرسول الخاتم، ولا بالكتاب الناسخ لغيره.أما الحربية إذا كان بيننا وبين النصارى -بريطانيا أو إيطاليا أو فرنسا- حرب، ولا معاهدة؛ فلا يحل نكاح الحربية وإن كانت كتابية؛ لأنها تخونك وتخون بلادك والدولة، وتنقل ما شاءت أن تنقل إلى دولتها، بل وتريد أن تقتلك أيضاً؛ لأنك عدو، الحرب معلنة بيننا وبينهم والنار مشتعلة، كيف ترضى وأنت تقتل آباءها وإخوانها؟!فالحر ية الكتابية لا يحل نكاحها كالمشركة، فإن كانت من أهل الذمة تحت رايتنا أو بيننا وبين قومها عهود طويلة المدى لا حرب ولا قتال، في هذه الحالة يجوز نكاحها، ما هو بمستحب أو فاضل، بل للحاجة، أما أن تترك المؤمنة الربانية وتتزوج يهودية أو نصرانية فهذا لا يليق بمؤمن أبداً، إلا في حالة عدم وجود المؤمنة، أو اضطرته الظروف إلى هذه الكافرة فلا حرج. وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221]، هنا مسألة نحوية، فقد قرأ أحد الطلبة على الشيخ: (ولا تَنكحوا المشركين حتى يؤمنوا)، فقال الشيخ: لا والله ولو آمنوا! لأن (نكح) بمعنى: تزوج، (ولا تَنكحوا): لا تتزوجوا، فلحن هو، ما فرق بين الفعل الثلاثي والرباعي، قرأ: (ولا تَنكحوا المشركين حتى يؤمنوا)، فقال: لا والله ولو آمنوا! وهل يجوز نكاح الذكور؟ حتى في الحيوانات ما يجوز، ولا وجود له. فهناك فرق بين (نكح) بمعنى: تزوج، و(أنكح) بمعنى: زوج، لا تزوجوا المشركين من إخوانكم أو أقربائكم حتى يؤمنوا، أما وهو مشرك فلا تزوجه، ولا تحضر عقد نكاحه، ولا تسمح لمؤمنة أن يتزوجها.

خلاصة أحكام الآية الكريمة

إذاً: هذه الأحكام خلاصتها -معاشر المستمعين والمستمعات- أن نكاح المشركة الكافرة لا يحل أبداً بحال من الأحوال، وأن نكاح الكتابية من يهود أو نصارى يجوز عند الحاجة إليه والضرورة.ثانياً: الكتابية إذا كانت محاربة، دولتها معلنة بيننا وبينها الحرب، كاليهودية الآن في فلسطين، والله! لا يحل أبداً نكاحها؛ لأن الحرب قائمة ما هناك سلم ولا معاهدة، المحاربة لا يحل نكاحها وإن كانت كتابية، فتلحق إذاً بالمشركة في المنع.والكافر لا يحل أن نزوجه مؤمنة أبداً، الكافر كتابياً أو مشركاً لا يحل له أن يتزوج مؤمنة، وإن بلغ ذلك المسلمين وجب أن يقوموا كلهم لتخليص هذه المؤمنة، ما هي العلة في ذلك؟ ما السر؟ العلة: أنها إذا كانت تحت كافر وله السلطة عليها -سلطة الزواج- يمنعها أن تذكر الله وتعبده وتشكره، وهي ما خلقت إلا للذكر والشكر والعبادة، فلما تعارض الحقان بطل حقه وثبت حق الله، فلا يحل للمؤمن أن يزوج ابنته كافراً كتابياً كان أو مشركاً لا فرق بينهما؛ لأن للزوج سلطة على الزوجة شرعاً، فهي تحته يأمرها وينهاها، فإذا قامت تصلي قال: لا تصلي؛ فحق الزوج أولاً، فلما تعارض حق الله وحق الزوج منع الله نكاحها للكافر.

حكم نكاح تارك الصلاة

وتاركة الصلاة هل نزوجها بالمؤمن أو نزوج المؤمنة بتارك الصلاة؟ الجواب: ما عندنا تارك صلاة أبداً، لم؟ تارك الصلاة يعدم، يؤخر من أول النهار إلى صلاة المغرب، فإن بقي لأذان المغرب القدر الذي يمكن أن يغتسل إن كان جنباً أو يتوضأ فأبى أن يصلي فإنه يعدم، يقطع رأسه، فلا يوجد في ديار المسلمين تارك للصلاة ولا تاركة، فلهذا لم يذكر هذا في الفقه أبداً؛ لأن تارك الصلاة كافر، وما دام أنه كفر فكيف إذاً نزوجه؟ كيف نبقي على حياته؟ هو مرتد، خرج من حلقة الإسلام ودائرته، فيعدم، فمن هنا ما عندنا فتيا في هذا، تارك الصلاة لا وجود له بين المسلمين، فإن وجد فلا يزوج أبداً، ولا تبقى تحته امرأة مؤمنة ولا يحل أبداً، وتاركة الصلاة ما توجد، وإن وجدت فلا يمكن أن نزوجها على مؤمن. وإن اعترض إنسان قلنا له: ما هي التكاليف التي يعجز عنها العبد في الصلاة ويحاول أن يتخلص منها؟هل كونه يغسل أطرافه ويتنظف؟ هذا كل أطباء الدنيا يأمرون به، النظافة ضرورية لبقاء الإنسان، هل كونه يقف بين يدي ربه يتكلم معه يطلب حاجاته ويسأله؟ هل هذه حال تجعله لا يستطيع، والله! إنه حينئذ لكافر، أما يريد أن يتكلم مع الله، ولا أن يجلس بين يديه، أي إيمان أو إسلام هذا؟!وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم: ( العهد بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر )، ما هي مظاهر العبادة والصلاة؟ كيف نعرف أنك مسلم؟ من العام إلى العام نقول: صام؟ وما يدرينا أنك تفطر في بيتك وتقول: أنا صائم؟ الزكاة ما هي؟ أكثر الناس لا يملكون نصابها، فما هي مظاهر الإيمان والإسلام سوى الصلاة؟ كل يوم وكل ليلة تدخل بيت الرب مع أوليائه وتناجيه وتركع وتسجد بين يديه طالباً عفوه ومغفرته، فإن رفضت هذا رفضت الإيمان بالله، ولكن لما عم الجهل، وغطى أمة الإسلام فأشركت بربها وخرجت من دينها وقع هذا، يوجد تارك صلاة، فالجيوش الإسلامية لا يكاد ربعها يصلي، باستثناء هذا الجيش السعودي، وسائر الجيوش من شاء أن يصلي ومن شاء لم يصل، نسبة المصلين عدد محدود.فلهذا إذا بلغك أن فلاناً لا يصلي فأعلم الهيئة على الفور: فلان لا يصلي، كيف نبقى ساكتين عنه؟ لا يحل لمؤمن في هذه البلاد تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله أن يرضى بامرأته لا تصلي أو بولده أو بأخيه أو عمه أو جاره، لينصح له مرة ومرتين ويوماً ويومين، فإن أبى فليعلم الهيئة أو المحكمة.أنا قلت: بلغ أنت، فإن رد عليك: لا أصلي، فامش أنت برجليك حافياً إلى الهيئة وقل: يوجد شخص كافر بيننا في المنزل أو في الدكان أو في العمل، فسكوتنا هو الذي شجع هذه الظاهرة. أنا أقول: لا يحل لك أن يترك ابنك الصلاة أو امرأتك وتسكت، المرأة ما يكفي فيها الطلاق، لا بد أن تسجن حتى تصلي، ولهذا لا يحل لك أن تنكح ابنتك كافراً تاركاً للصلاة، ولا أن تخطب لك أو لابنك امرأة كافرة لا تصلي.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات: وَلا تَنكِحُوا [البقرة:221]: لا تزوجوا ]، فالأولى: وَلا تَنكِحُوا [البقرة:221]، والثانية: وَلا تُنكِحُوا [البقرة:221]، إذا قرأنا: وَلا تَنكِحُوا [البقرة:221] أي: لا تتزوجوا، وَلا تُنكِحُوا [البقرة:221]: لا تزوجوا، وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ [البقرة:221]، أي: لا تتزوجوهن، وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ [البقرة:221]، أي: لا تزوجهم بنسائكم وبناتكم.[الأمة: خلاف الحرة ]، ضدها، هذه أمة وهذه حرة، ما معنى: أمة؟ كل امرأة أمة لله تعالى مملوكة له، لكن في الاصطلاح الأمة: المرأة التي تشترى وتباع، ملكت باليمين، فهي ملك لسيدها، هذه هي الأمة.[ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221]، أي: أعجبكم حسنها وجمالها. يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [البقرة:221] بحالهم ومقالهم وأفعالهم ]، أما قال تعالى: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [البقرة:221]، بأقوالهم بأحوالهم بأفعالهم، كيف نتزوج منهم أو نزوجهم؟[ آيَاتِهِ [البقرة:221]: أحكام دينه ومسائل شرعه]، في قوله تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ [البقرة:221].

معنى الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة: ينهى الله تعالى المؤمنين أن يتزوجوا المشركات ] الكافرات اللائي يؤلهن غير الله مع الله، [ إلا أن يؤمنَّ بالله ورسوله، فإن آمنَّ ] بالله ورسوله فلا بأس، كأن الشيخ يشير إلى الجهل العام في ديار المسلمين، مؤمنة تصلي ولكن حين تريد أن تقوم تقول: يا ألله ويا سيدي عبد القادر ، حين يسقط الإناء من يدها تقول: يا رجال البلاد! فما تقولون في هذه؟ في صنف تصنفونها؟هذه مشركة، إما أن تتوب أو لا نتزوجها، إن تابت من شركها وضلالها فلا بأس، وإن استمرت على ذلك فلا تحل أبداً. وقد يقول قائل: هذا شرك أصغر؟ ونقول: أي شرك أصغر هذا؟! تقول: يا رجال البلاد، تدعوهم وتناديهم، وتنذر لسيدي عبد القادر وفلان، هذا شرك أعظم لا أعظم منه، أكثر من شرك المشركين.إذاً: هذه الظاهرة موجودة، إذا خطبت زوجة في بلد ما فاسأل عن دينها، فإن وجدتها سلفية موحدة فلا بأس، وإن قالوا: هذه جاهلة، وتنذر للأولياء، وتزور القبور وتعكف عليها؛ فلا تتزوجها أبداً، وإن وجدت كذلك فحلاً من عباد الأهواء يقول: يا سيدي عبد القادر ، ويا رسول الله ويا كذا؛ فلا تزوجه ابنتك، حرام عليك، وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، وإنما من باب الدعوة، فإذا خطب إليك ابنتك فقلت: بلغني أنك تؤمن بكذا وكذا، وتقول كذا وكذا، أحق هذا أو باطل؟ فإن قال: كلا أبداً، أنا أقول: لا إله إلا الله، كيف أدعو غير الله؟ كيف أنذر أو أذبح لغير الله؟ إذاً: هذا مؤمن فزوجه، وإذا قال: اسكتوا، أنتم وهابيون وأنتم كذا فوالله! ما زوجناه أبداً حتى يتوب إلى الله.ألستم تعرفون الشرك؟ إن الرجل يذكر الله: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، وحين تسقط المسبحة من يده للنوم يقول: يا سيدي فلان! لا يفزع إلى الله، يفزع إلى ولي من الأولياء، أهذا موحد؟ والله! إنه مشرك، وكونه ما عرف كالمشركين يجب عليه أن يتعلم ويسأل، ولكن كثيرين يعلمون هذا ويضحكون منكم، ويقولون: أنت لا تقول بالأولياء، وكل هذه الحقائق ستتجلى لنا يوم القيامة في عرصات الفصل والقضاء.قال: [ ينهى الله تعالى المؤمنين أن يتزوجوا المشركات إلا أن يؤمنَّ بالله ورسوله، فإذا آمنَّ جاز نكاحهن، وأعلمهم منفراً عن نكاح المشركات مرغباً في نكاح المؤمنات؛ فقال: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221] ]، هذا من باب الترغيب في المؤمنات والترهيب من المشركات.[ فقال: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ [البقرة:221] فضلاً عن حرة خير من حرة مشركة ]، يعني: مؤمنة أفضل من حرة مشركة، وخير منها.[ ولو أعجبتكم المشركة لحسنها وجمالها، كما نهاهم محرماً عليهم أن يزوجوا المؤمنات بالمشركين حتى يؤمنوا، فإن آمنوا جاز لهم أن ينكحوهم بناتهم ونساءهم، فقال تعالى: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، وقال منفراً مرغباً: ولعبد مؤمن خير من حرٍ مشرك ولو أعجبهم المشرك؛ لشرفه أو ماله أو سلطانه، وعلل لذلك بقوله: أُوْلَئِكَ [البقرة:221]، أي: المشركات والمشركون يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [البقرة:221]، فمخالطتهم مضرة ومفسدة لاسيما بالتزوج منهم ]، المخالطة بالكفار والمشركين فيها مفسدة وضرر، فكيف بالزواج؟ وتصبح تحتك، أو تصبح المؤمنة تحته.قال: [ فمخالطتهم مضرة ومفسدة لاسيما بالتزوج منهم، والله عز وجل يدعو إلى الجنة بالإيمان والعمل الصالح، وإلى المغفرة بالتوبة الصادقة، فاستجيبوا ]، وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ [البقرة:221]، هيا آمن واعمل صالحاً، زك نفسك وطهرها، ويدعو إلى مغفرة ذنوبنا بالتوبة إليه الصادقة، والرجعة الكاملة، حيث نتخلى عن أوضار الذنوب والآثام. قال: [ فاستجيبوا له وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه ]، ومن جملة ما نهانا عنه الآن: أن نزوج بناتنا المشركين، أو تتزوج المشركات، حرم هذا علينا، فلنطعه.قال: [ كما أنه تعالى يبين آياته للناس ليعدهم للتذكر والاتعاظ فيقبلون على طاعته الموصلة إلى رضاه وإلى الجنة ويبعدون عن معصيته تعالى المؤدية إلى سخط الله تعالى وعذابه في النار ]. هذا معنى هذه الآية الكريمة فاسمعوها: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة:221]، علمنا الآن، فلنتذكر، لنتعظ، والله! لا نفعل ما نهانا عنه ولا نقبل عليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

هداية الآية

الآن مع هداية الآية، ما تضمنت هذه الآية وما احتوت عليه من الأحكام الشرعية والهداية الربانية، إذ كل آية كالنور، لا بد أن تهدي من طلب الهداية، كل آية تهدي إلى النور، إي والله، عرفنا بيان ذلك، فالآية إذا آمنت بها فمن أنزلها؟ الله، وعلى من نزلت؟ على رسول الله. إذاً: اهتديت إلى لا إله إلا الله، محمد رسول الله، دخلت في الإسلام، كل آية من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية في كتاب الله، كل آية تهدي إلى الإيمان بالله ورسوله.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[هداية الآية الكريمة: من هداية الآية:أولاً: حرمة نكاح المشركات، أما الكتابيات ] من يهوديات أو نصرانيات [ فقد أباحهن الله تعالى بآية المائدة، إذ قال -تعالى-: وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5] ]، من هم الذين أوتوا الكتاب من قبلنا؟ اليهود والنصارى، وإن كان النصارى مشركين، أما عبدوا مع الله سواه؟ أما كذبوا وافتروا على الله؟ ولكن الكتاب عندهم، والإيمان بلقاء الله موجود، والإنجيل بأيدهم.وإذا كانت تعتقد أن المسيح ابن الله فالله قد علم هذا منها قبل أن يقوله أحدنا، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، وهو الذي أنزل هذه الرخصة وقد بينها غير ما مرة، وقلنا: المشركون في مكة تعصبوا للفرس المشركين، والمؤمنون تعصبوا للروم في حربهم مع المشركين، فهناك تقارب كبير بين اليهود والنصارى والمسلمين، وبعد كما بين السماء والأرض بينهم وبين الشيوعيين ومن لا يؤمن بالله ولقائه.قال: [ حرمة نكاح المشركات، أما الكتابيات فقد أباحهن الله تعالى بآية المائدة إذ قال: وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5] ]، في الإذن بنكاحهن، وقد قلنا ما قال أهل العلم: تتزوج كتابية بشرط ألا تكون حربية والحرب دائرة.[ ثانياً: حرمة نكاح المؤمنة الكافر مطلقاً مشركاً كان أو كتابياً ]، حرمة نكاح المرأة المؤمنة كافراً، سواء كان مشركاً أو بلشفياً شيوعياً لا يؤمن بالله، أو كتابياً من يهود أو نصارى مطلقاً.وقد عرفنا أننا لو كنا كما كنا، وبلغنا أن مؤمنة تزوجها كافر فإنا نغزوا تلك الديار حتى نخلصها، ولا نسمح أبداً أن يعلو كافر على مؤمنة، ولكن لما هبطنا من علياء سمائنا فالآن المؤمنات في أمريكا وأوروبا متزوجات باليهود والنصارى، من يحرك رأسه؟ ما الطريق إلى أن نسموا ونعود ونسود؟ هل ننتج الذرة؟ هل نملك الهيدروجين؟ والله! ما هو إلا أن نعود إلى حيث بدأ رسول الله والمؤمنون، فما هو؟هو أن أهل القرية أعلموهم أنه من الليلة لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا ولد من الساعة السادسة إلى صلاة العشاء، الكل في بيوت الله في القرى، المدن، العالم الإسلامي كله سجد بين يدي الله، يطلبه أن يعزه ويسوده، كل ليلة يتعلمون الكتاب والحكمة، لم يبق جهل ولا فسق ولا ظلم ولا شر، ارتفعت الأمة إلى مستواها اللائق في أربع وعشرين ساعة، والعالم يموج لا يعرف كيف يصنع مع هذه القوة العظيمة، يعودون إلى المسجد فقط.في المسجد النبوي كم في حلقتنا هذه؟ مائتا مستمع، فأين الأمة؟ أين سكان المدينة ستمائة ألف؟ كان المفروض أنه ما يجد إنسان مكاناً، وهكذا الذل، إذاً: هذا نصيبنا.[ ثالثاً: شرط الولاية في نكاح المرأة ]، لا يصح نكاح بدون ولي لهذه الآية، أما قال تعالى: وَلا تُنكِحُوا [البقرة:221] أي: لا تزوجوا، فمن يزوج: هل الولي أم لا؟ والرسول بين هذا فقال: ( أيما امرأة تزوجت بغير ولي فنكاحها باطل .. باطل .. باطل )، وإذا قلنا: ما هناك حاجة لولي فهو الدعارة والزنا، تخرج وتتزوج من أحبت وشاءت، لا بد من ولي، ومن عدمت الولي فالسلطان ولي من لا ولي لها.الآية دلت على هذا والحديث بينه، شرط الولاية في نكاح المرأة؛ لقوله تعالى: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ [البقرة:221] أي: لا تزوجوهم بناتكم، هذه الولاية أو لا؟ [ فهو هنا يخاطب أولياء النساء المؤمنات، ولذلك لا يصح نكاح إلا بولي ].والولي: الأب، الابن، الأخ، ابن الأخ، العم، الأقرباء العصبة، فإن فقدوا وما هناك سلطان ولا محكمة فذو الرأي -كما قال عمر- من عشيرتها، الرجل التقي المؤمن البصير من القبيلة يزوجها، فإن وجد سلطان ومحكمة فلا، السلطان ولي من لا ولي لها. [ رابعاً: التنفير من مخالطة المشركين والترغيب في البعد عنهم؛ لأنهم يدعون إلى الكفر بحالهم ومقالهم وأعمالهم، وبذلك هم يدعون إلى النار].البعد عن الكفار والمشركين أسلم حتى في المجاورة، حتى في العمل، حتى في البلاد، لم؟ أما قال تعالى: يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [البقرة:221] أو لا؟ فلا خير في القرب منهم، فكيف بأن يتزوج منهم أو يزوجهم؟[ خامساً: وجوب موالاة أهل الإيمان ومعاداة أهل الكفر والضلال؛ لأن الأولين يدعون إلى الجنة، والآخرين يدعون إلى النار ].استفدنا أنه يجب أن نوالي أهل الإيمان بالمودة والحب والنصح، ومعاداة أهل الكفر والضلال؛ لم؟ لأن الأولين يدعون إلى الجنة والآخرين يدعون إلى النار.اللهم قنا عذابك، وارض عنا كما رضيت عن صالح عبادك، آمين.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-07-30, 10:49 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (7)
الحلقة (14)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (104)

كان من عادة اليهود وبعض المشركين في الجاهلية أنهم إذا حاضت فيهم المرأة هجروها بالكلية، وكان بعض المشركين يطئون المرأة حتى في حيضتها، فجاء الإسلام مبيناً كيفية معاملة الحائض، وهو أن يمتنع الرجل عن وطء المرأة في حيضتها، ويستمتع بها فيما دون ذلك، ويؤاكلها ويشاربها وتقوم على خدمته، ثم إذا انقضت حيضتها وطهرت فله أن يأتيها كيف شاء في موضع الحرث الذي شرعه الله عز وجل له.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الموعود يا رب العالمين.ها نحن مع هاتين الآيتين الكريمتين من سورة البقرة، من سورة الأحكام الإلهية.وقد كنا مع الآية التي درسناها وعرفنا فيها حرمة نكاح المشركات، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتزوج مشركة بالإجماع؛ لقوله عز وجل: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221].

ثانياً: حرمة إنكاح المشركين، لا نزوج مشركاً بمؤمنة أبداً، ولو علمنا أن مؤمنة تزوجها مشرك لغزونا تلك الديار وخلصنا تلك المؤمنة؛ لأن الزوج الكافر له حق -كالمؤمن- على الزوجة، فيتعارض حق الله الذي من أجله خلقت المرأة وحق الزوج، فلذا لا يحل السكوت أبداً عن مؤمنة يتزوجها مشرك كافر، وسواء كان كتابياً أو مشركاً.وعرفنا شرط الولاية في النكاح؛ لأن قوله تعالى: وَلا تُنكِحُوا [البقرة:221] أي: لا تزوجوا، هذا مسند إلى الولي، وفي الحديث: ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل )، و( أيما امرأة نكحت بدون إذن وليها فنكاحها باطل.. باطل.. باطل ).وفي الآية من هدايتها: التنفير من مخالطة المشركين، من استطاع ألا يخالط مشركاً فليفعل، البعد أنجح، البعد أسلم؛ إذ قال تعالى: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]. هذه أنوار الآية السابقة.

تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً ...)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

والآن مع الآيتين الآتيتين، وإليكم تلاوتهما: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:222-223] اللهم اجعلنا منهم حتى يبشرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.هل هذا القرآن يقرأ على الموتى ليتعلموا الأحكام الإلهية؟ كيف يقرءونه على الموتى؟ وما زالوا إلى الآن يحفظون القرآن من ألفه إلى يائه من أجل أن يقرءوه على الموتى، أماتنا الثالوث أماتهم الله، سلبونا روحنا وأبعدونا عنها فمتنا، فسادونا وساسونا وتحكموا فينا.عرفوا أن حياة هذه الأمة متوقفة على هذا القرآن العظيم حفظاً وتعبداً، واستخراجاً للأحكام والشرائع، وعملاً وتطبيقاً، القرآن روح ولا حياة لفرد أو جماعة أو أمة بدون روح، فهذه الأحكام كيف نُسمعها الميت؟

المراد بالسؤال عن المحيض وسببه

قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222] ما المراد من المحيض؟ الحيض، أو زمن الحيض.هل يصح للفحل المؤمن أن يجامع امرأته وهي حائض؟ الجواب: لا، فلفظ المحيض يطلق على زمن الحيض ومكان الحيض، الفرج مكان الحيض، ويطلق على الحيض نفسه؛ فهو مصدر، حاضت تحيض حيضاً.أي: هل يجوز للرجل أن يطأ امرأته أو جاريته وهي حائض؟ سأل المؤمنون طلاب العلم والهداية، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى المعارف من الله، لما سألوه أجابهم الله فعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فالأسئلة الشرعية ممدوحة محمودة، لكن لا أسئلة التنطع والإحراج، من أراد أن يعبد الله فليسأل كيف يعبده وبم يعبده، وإذا ارتبك في شيء هل هو حلال أو حرام فليوقف عمله حتى يسأل ويعلم. وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222] لأن الأسئلة تقدمت: يسألونك عن القتال، يسألونك عن الإنفاق، يسألونك عن اليتامى، إذاً: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ [البقرة:222] يا رسولنا والمبلغ عنا صلى الله عليك وسلم، قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222] و(أذى) نكرة، والأذى ما يؤذي الإنسان في بدنه، في عرضه، في ماله، إذاً: فنكاح المرأة وهي حائض فيه أذى يؤذي الفحل بالمرض.إذاً: فبناء على هذا فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222] اعتزلوا النساء، ابتعدوا عنهن في حال الحيض. والسبب في السؤال: أن اليهود -عليهم لعائن الله- جيران الأنصار والمهاجرين عندهم في بدعتهم التي يسمونها ديناً، وأي دين لهم؟ فقد مسخوه، عندهم أن المرأة إذا حاضت لا ينام الزوج في فراشها، يطردها كالكلبة، لا تقرب منه ولا يقرب منها، فلما جاء التشريع بدأت طلائع الإيمان والإسلام، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم: اليهود شأنهم كذا، ونحن هل نعتزل النساء كما اعتزل اليهود نساءهم أم لا؟ كان هذا سبب السؤال.

معنى قوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن)

فقال تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222] أي: بانقطاع حيضهن، اعتزلوا النساء، ليس الاعتزال بأن يربطها في غرفة ويغلق عليها، أو يقول: ما دمت في حيض فلا تأتي إلى جنبي ولا أراكِ، بل يعتزلها بألا يطأها فقط، وينام إلى جنبها وتنام إلى جنبه، ويؤاكلها ويشاربها وتؤاكله، لا يطأها، وإن احتاج إليها فقد أذن له أن يقول لها: استذفري أو شدي بشيء على فرجك ويتلذذ بكافة جسمها ولا حرج.قال: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ [البقرة:222] أي: بالجماع إلى غاية ماذا؟ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، كيف يطهرن؟أولاً: بانقطاع دم الحيض، ودم الحيض هو الدم الأسود الغليظ المتخثر، هذا الدم سنة الله عز وجل في خلقه أن الأنثى من المؤمنات تحيض إذا كانت غير حبلى، فإن حملت فالدم الزائد هو غذاء الجنين، فإذا ما كان ببطنها حمل ففي كل شهر تفرز هذا الدم الذي يتجمع بحكمة الله وإرادته في خلقه حتى تحمل، إذا حملت انقطع الدم، ونادراً ما يخرج دم وليس بحيض.والمدة أقلها يوم وليلة، وأكثرها خمسة عشر يوماً، أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً، ما دام مستمراً فلا صلاة ولا صيام ولا وطء حتى ينقطع فتغتسل، فإذا بلغت خمسة عشر يوماً وما انقطع فإنها تغتسل وتصوم وتصلي وتوطأ إن شاء بعلها؛ لأن الحيض انتهى وجاء داء ومرض يسمى الاستحاضة، وقد ينقطع الحيض في اليومين، في الثلاثة، وأغلبه سبعة أيام وستة عند النساء.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
معنى قوله تعالى: (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله)

إذاً: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222] أي: ينقطع دم الحيض منهن، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222] أي: اغتسلن، فالدم مانع من الجماع، وإذا انقطع يبقى المنع كذلك حتى تغتسل كغسل الجنابة، وإذا لم تجد ماء تتيمم وتصلي.قال: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222] أي: اغتسلن فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] ائتها يا بعلها يا فحلها من حيث أذن الله لك، وهو من فرجها، لا من دبرها؛ إذ هذا الفرج -كما سيأتي- عبارة عن أرض للحراثة والزراعة للإنبات.سبحان الله! نحرث الأرض، نبذر فيها الحب، نستره بالتراب، نسقيه بالماء وإذا بالزروع يكون، كذلك البشر كيف ينبتون؟ هل في الأرض؟ لا، الطريق الوحيد الذي لا نظير له هو أن يأتي الرجل امرأته ويبذر ماءه بويضاته حيواناته في تلك الأرض وإذا بها متى شاء الله تتفاعل ويخرج الولد. فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، ومن هنا لنعلم أن نكاح المرأة من دبرها هو اللواط، وقد جاء التعبير عنه باللوطية، وهو محرم بالإجماع، الذي يطأ امرأته في دبرها كالذي يطأ الفحل في دبره والعياذ بالله، نبرأ إلى الله ونعوذ به من هذه الحالة.ولذا قال تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] إذاً: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] وهو إتيانهن من قبلهن لا من دبرهن.

حكم من أتى زوجته في دبرها

وهذه القضايا ترفع إلينا، أهلها يستفتون: هل تحرم عليه المرأة وتبين بينونة كاملة أو لا تحرم؟ الجواب: لا تحرم، ولكنه ارتكب إثماً عظيماً كالقتل تقريباً، وإن حصل هذا فعلى الفاعل أن يتوب، هذه التوبة أولاً: يواصل البكاء والندم والاستغفار والصدقات حتى تمضي فترة ويشعر بطهارة روحه؛ لأنه يلوث الروح ويلطخها، لا تزول تلك التلوثات وذلك العفن إلا بالتوبة النصوح، البكاء بالدموع، الاستغفار، الندم، الصدقات حتى تمضي فترة فيشعر بأنه طاب وطهر، والصدقة على الأقل نصف دينار، وهي إن وافقت وكانت راضية فهي مثله في البكاء والصراخ والندم والتوبة والصدقة، وإن كان أكرهها فلا شيء عليها والإثم عليه، وإن أراد أن يعاودها فلتطالب بالطلاق وتشنع وتخرج، ولا ترض بهذا المنكر.

معنى قوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ [البقرة:222] اللهم اجعلنا منهم، يجب أولاً أن نتوب إلى الله وأن نتطهر من أدراننا، من أوساخنا، من ذنوبنا، من سيئاتنا، فالله طيب لا يحب إلا طيباً، من أراد أن يحبه الله فليكن من التوابين، فإن وقعت منه نظرة فقط قال: أستغفر الله وأتوب إليه، أو كلمة فقط قال: أستغفر الله وأتوب إليه، أو تأخير الصلاة عن وقتها أو عن الجماعة فقط قال: أستغفر الله وأتوب إليه. هذا التواب كثير الرجعة إلى الله، كلما زلت القدم عاد إلى الله، وهذا يحتفظ بطهارة روحه، ما يسمح للنفس أن تخبث أبداً، دائماً الماء والصابون في يديه. وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ [البقرة:222] الذين يتكلفون الطهارة، يطلبونها ويعملون على تحقيقها.

تفسير قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ...)

وقوله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] النساء: جمع لا مفرد له، واحد النساء امرأة، بعضهم يقولون: إنسانة، ولكن النساء لا مفرد له. نِسَاؤُكُمْ [البقرة:223] أي: زوجاتكم حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] هل تعرفون الحرث؟ قطعة أرض تبذر فيها البذر وتسقيها فتنبت لك بإذن الله البر والشعير والذرة، وما إلى ذلك، فنساؤنا جعلهن الله للرجال حرثاً، أرض حراثة، ولكن لا تنبت البر والبصل والثوم، تنبت الرجال والنساء!لو كان عندك أرض تحرث فيها فتنبت لك الأولاد من بنين أو بنات فهذه الأرض ما تباع أبداً ولا تساوم بقيمة، فالحمد لله! هذا كلام الله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] إذاً: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] في أي وقت، وكيف شئتم. ‏

حكم إتيان المرأة من دبرها في الفرج وحال الحيض والنفاس
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وهنا مسألة أخرى أيضاً: بعض الرجال يأتي امرأته من ورائها، لكن لا يولج إحليله -ذكره- في دبرها، يطؤها في فرجها حيث الحرث، ولكن يطؤها وهي مدبرة، وهذا كان يفعله بعض المؤمنين، فكره بعضهم هذا النوع، تحدث بعض النساء، بمعنى أنه يأتيها من ورائها ولا يطؤها في دبرها، لكن يطؤها في فرجها الذي هو طريق الحراثة والزرع، فلما تململ بعض الناس من سماع هذا أفتاهم الله عز وجل: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] وهي قائمة، وهي قاعدة، مقبلة، مدبرة، شأنك يا عبد الله، لا إله إلا الله! فأتوا حرثكم كيف شئتم. وهل يأتي الحرث وهي حائض؟ لا، وهي نفساء؟ لا. فقوله: أنَّى بمعنى: كيف، لا بمعنى: أي وقت، نعم في أي وقت أيضاً على شرط أن تكون طاهراً ليست بحائض ولا نفساء.

معنى قوله تعالى: (وقدموا لأنفسكم)

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223] لا إله إلا الله! قدموا للدار الآخرة، هذه أيام معدودة ومحدودة وأنتم ماشون، والله! لراحلون، قدموا للدار التي تنزلون بها شيكات، احجزوا في فنادق السماء قبل ضياع الوقت.ويدخل في هذا اللفظ: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223] أن تنوي ببعالك ونكاحك وإتيانك زوجك أن تنجب أولاداً وبنين يعبدون الله عز وجل.هل يستطيع إنسان أو العالم بأسره أن يوجد لنا رجلاً أو امرأة؟ مستحيل! روسيا جمعت أطباءها وصناعها وعلماء الذرة، وقالوا: لتعملوا على إنتاج الإنسان، حتى إذا استطعنا أن نوجد جيوشاً آلية فسنضع أرجلنا على العالم بأسره، ولا يأسف أحد ولا يحزن، اصنعوا من البلاستيك رجالاً وانفخوا فيهم الروح ليصبحوا كالبشر ونوجههم لفتح العالم، قالت الأخبار الصحيحة: عملوا ثمانية عشر عاماً، وهم يعملون الليل والنهار على إيجاد جيش من الآلات، بمعنى أن هناك ناساً يضعونهم في الطرقات الآن في أوروبا، إنسان واقف بهيكل كامل، فقط تنفخ فيه الروح، عملوا ثمانية عشر عاماً، ثم أعلنوا عن فشلهم، وقالوا بعد البحث المتواصل في الكون: الروح من عالم أعلى لا توجد في العالم الأسفل، قلنا: عجائزنا في القرية تخبر بهذا، ما يحتاج إلى ثمانية عشر عاماً، والله! أيما عجوز مسلمة تقول: الروح تأتي من الله، من السماء، الملك ينفخها، وهم في ثماني عشرة سنة يعملون، والرواتب ضخمة، يريدون أن يوجدوا جيشاً غير بشري يحكمون به العالم.إذاً: فيا فحل! انو بوطئك وجماعك إنتاج إنسان يذكر الله ويشكره، قدم لنفسك، ولهذا على الرجل إذا كان يملك النفقة والسكن أن يتزوج، ما يضيع الوقت، من أجل ماذا؟ من أجل أن ينتج بنين وبنات يعبدون الله عز وجل بالذكر والشكر، ماذا يكلفك؟ إنها أربعة آلاف ريال: ألفان مهر وألفان لتدبير شأنك، وسيضحك مني القوم؛ لأنهم يسمعون المهر خمسين ألفاً، ستين ألفاً، فاللهم إن هذا منكر، لم هذا؟ أبيع هذا وشراء؟ المهم أنه ما دمت قادراً على أن تنتج رجلاً وامرأة فأي فرح أعظم من هذا الفرح، لا صناعة ولا كلفة، فتح الله لك الباب، علمك، وضع بين يديك الحرث فاحرث وأنتج يا عبد الله، قدم لنفسك: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223] تشمل إنجاب البنين والبنات، وتشمل كل عمل صالح قدم، مساعدتك على الزواج -والله- تقديم، مؤمن يريد أن يتزوج فساعدته بمائة ريال أو ألف فأنت شريك في هذا الأجر، لك أجر.فقوله جل وعز: (قدموا) شامل لهذا ولكل عمل صالح تقدمه إلى الآخرة لتظفر به وتفوز، هذه وصية الله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] من أعطانا هذا؟ الله هو الذي أذن.

ذكر بعض الأحاديث الواردة في حرمة إتيان المرأة في دبرها

إذاً: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] كيف شئتم: من قيام، من قعود، عن اليمين، عن الشمال، من وراء، من أمام، مع الاحتراز الكامل من أن يطأ في دبرها، هذا هو الموت والدمار.أسمعكم الأحاديث الواردة في هذا الباب:قال المؤلف غفر الله له ولكم في الحاشية: [ وذلك لتحريم وطء المرأة في دبرها للآية الكريمة وللأحاديث الصحاح وما أكثرها، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ( يا أيها الناس! إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن ) أي: أدبارهن، وقوله: ( من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) ]، ووردت أحاديث كثيرة، لكن هذا يكفي، فهذه خطبة خطبها الرسول صلى الله عليه وسلم: ( يا أيها الناس! إن الله لا يستحي من الحق ) لذا أقول لكم هذا، ( فلا تأتوا النساء في أعجازهن )، ( من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله إليه يوم القيامة )، ومن غضب الله عليه ولم ينظر إليه هل يدخل الجنة؟
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين)

قال تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:223] من إتمام الوصية قال: اتقوا الله، لا تخرجوا عن طاعته فتأتوا النساء في حيضهن قبل الطهر، أو بعد الطهر وقبل الاغتسال، أو تأتوهن في أدبارهن، كل هذا داخل في قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [البقرة:223] اتقوا الله، ولو كان لا يأتي يوم تقف بين يديه فاضحك، قل: أمرنا بأن نتقيه فلن نتقيه، لكن اعلم أنك ستقف بين يديه، إذا حدثتك نفسك أو سولت لك باستمرارك على المعصية فاعلم أنك لست طليقاً حيث شئت، سيأتي يوم تقف بين يدي الله، تلاقيه وجهاً لوجه، ماذا تقول؟ أعوذ بالله! لو قال الله له: فعلت كذا في امرأتك فسيذوب ويتحطم. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223] وأخيراً يا رسولنا بشر المؤمنين، أصحاب هذه العقائد والآداب والأخلاق والعبادات والمعاملات، لم قال: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223]؟ لأنه -والله- لا يمتثل هذه الأوامر إلا مؤمن، لا يتقيد بهذه القيود ولا يتأدب بهذه الآداب إلا مؤمن، أما الكافر فلا، فلهذا ختم بهذا: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223]، هم الذين يمتثلون أمر الله ويجتنبون نهيه، والذي تراه بين الناس من عدم الطاعة والله! لنتيجة عدم الإيمان أو ضعفه، أما أهل الإيمان اليقيني الكامل فهيهات هيهات أن يتلوثوا بهذه الأوساخ والقاذورات!

الإعجاز القرآني في انتظام الأحكام المضمنة في الآية الكريمة

والآن نسمعكم الآيتين وتفكروا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:222-223]، والله! لو تكتب صحيفة بعشرين صفحة ما تأتي بهذا الكمال في هذه الآية، لا إله إلا الله!ّ لو تملأ عشرين صفحة ما يمكن أن تتسع لهذه، عجب هذا القرآن أو لا؟ إخواننا من الجن عرفوا هذا ونطقوا به، وصاحوا: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1] والمؤمنون (95%) منهم ما يفهمون أنه عجب، ما تذوقوه، ما جلسوا عليه، ما فهموه، كيف يعرفون أنه عجب؟ الجن ما إن سمعوا الرسول يقرأ في صلاة الصبح حتى التفوا حوله وكادوا يكونون عليه لبداً، وقالوا: أنصتوا.. أنصتوا، ما إن سمعوه حتى قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً، وعادوا إلى ديارهم يبلغون دعوة الله. فالمفروض أن المستمعين يبلغون هذه الآية، يحدثون بها الليلة جلساءهم حتى تستقر في نفوسهم، بلغ ولو آية، ويوم يفتح الله وننطلق فسيحدث هذا، ولكن إلى الآن مازلنا خاملين.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيتين:يخبر تعالى رسوله بأن بعض المؤمنين سألوا عن المحيض: هل تساكن المرأة معه وتؤاكل وتشارب أو تهجر بالكلية حتى تطهر؟ إذ كان هذا من عادة أهل الجاهلية ]، وحتى اليهود أيضاً، بل اليهود هم الذين كانوا يعتزلون المرأة نهائياً.قال: [ وأمره أن يقول لهم: الحيض أذى يضر بالرجل المواقع فيه، وعليه فليعتزلوا النساء الحُيَّض في الجماع فقط لا في المعاشرة والمؤاكلة والمشاربة ] والمبيت، لا، [ وإنما في الجماع فقط أيام سيلان الدم، بل لا بأس بمباشرة الحائض في غير ما بين السرة والركبة، للحديث الصحيح بذلك في هذا، كما أكد هذا المنع بقوله تعالى لهم: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ [البقرة:222] أي: لا تجامعوهن حتى يطهرن بانقطاع دمهن والاغتسال بعده لقوله: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222] أي: اغتسلن فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] بإتيانهن، وهو القبل لا الدبر ]، القبل: الأمام، والدبر: الوراء، [ فإنه محرم، وأعلمهم تعالى أنه يحب التوابين من الذنوب المتطهرين من النجاسات والأقذار، فليتوبوا وليتطهروا ليفوزوا بحب مولاهم عز وجل. هذا معنى الآية الأولى ]، هل هناك أغلى من حب الله؟ لو يأتيني هاتف يهتف على شرط أن يكون ملكاً، يقول: اعلم أن الله يحبك واخرج من بيتك ومالك؛ فوالله لفرحت وخرجت، وإن قالوا: الشيخ جن، لكن نتوسل ونعمل، وكلنا رجاء أن يحبنا، من أحبه الله فلينم، من أحبه الله لا يذله، لا يخزيه، لا يهينه، لا يكله إلى غيره.والخطوة الأولى: أحبه أنت، أما أنك غير مستعد لحبه وتطلب منه أن يحبك فهذا خطأ فاحش، ويقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم، وأحبوني بحبه )، هذه إذا ذكرتها وكنت في خلوة وذكرت ثيابك النظيفة أو طعامك بين يديك، أو إنقاذك يوم كذا في حادثة كذا، فعلى الفور ترتعد فرائصك وتبكي وتحب الله أكثر من حبك لنفسك، والذي ما يذكر هذا لا يحب الله، أمر مفروغ منه، ( أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم ) اذكر نعمه تحبه، اذكر إحسانه إليك تحبه.أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمفطالما استعبد الإنسان إحسان.والذي يأكل ويشرب كالحمار ولا يفكر ولا يذكر الله كيف يحب الله؟قال: [ أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] فهي تضمنت جواب سؤال وهو: هل يجوز جماع المرأة مدبرة بأن يأتيها الرجل من ورائها؟ إذ حصل هذا السؤال من بعضهم فعلاً، فأخبر تعالى أنه لا مانع من ذلك إذا كان في القبل لا في الدبر، وكانت المرأة أيضاً طاهرة من دمي الحيض والنفاس، وسمى المرأة حرثاً لأن رحمها ينبت فيه الولد كما ينبت الزرع في الأرض الطيبة، وما دام الأمر كذلك فيأت الرجل امرأته كما شاء مقبلة أو مدبرة؛ إذ المقصود حاصل وهو الإحصان وطلب الولد ]، ما معنى الإحصان؟الحفظ من الوقوع في الزنا، الإحصان حاصل بهذا الوطء سواء من أمام أو من وراء، والولد كذلك ينبت بإذن الله.[ فقوله تعالى: أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] يريد: على أي حال من إقبال أو إدبار شئتم شرط أن يكون ذلك في القبل لا في الدبر، ثم وعظ تعالى عباده المؤمنين بقوله: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223] من الخير ما ينفعكم في آخرتكم، واعلموا أنكم ملاقوا الله تعالى فلا تغفلوا عن ذكره وطاعته؛ إذ هذا هو الزاد الذي ينفعكم يوم تقفون بين يدي ربكم ] ويسائلك: هل فعلت؟ هل فعلت؟[ وأخيراً أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشر المؤمنين بخير الدنيا والآخرة وسعادتهما من كان إيمانه صحيحاً مثمراً التقوى مولداً العمل الصالح ].

هداية الآيات
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيتين:من هداية الآيتين:

أولاً: حرمة الجماع أثناء الحيض والنفاس؛ لما فيه من الضرر، ولقوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222].

ثانياً: حرمة وطء المرأة إذا انقطع دم حيضها أو نفاسها ولم تغتسل بعد، لقوله تعالى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] .

ثالثاً: حرمة نكاح المرأة في دبرها؛ لقوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] ] أي: أذن لكم، [ وهو القبل.

رابعاً: وجوب التطهير من الذنوب بالتوبة، والتطهير من الأقذار والنجاسات بالماء ]، تطهير النفس بالتوبة والاستغفار، وتطهير البدن بالماء العذب الصافي الطهور، فالماء الطاهر تشربه، تغسل به إناء، أما الطهور فهو الذي ترفع به الأحداث، هو الذي يتم به الغسل والوضوء.

[ خامساً: وجوب تقديم ما أمكن من العمل الصالح ليكون زاد المسلم إلى الدار الآخرة؛ لقوله تعالى: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223].

سادساً: وجوب تقوى الله تعالى بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه وزجر ]، أما قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:223] هذا أمر أو لا؟ أيعصى الله إذا قال: افعل أو لا تفعل؟[ سابعاً: بشرى الله تعالى على لسان رسوله لكل مؤمن ومؤمنة ]، وبشر يا رسولنا المؤمنين والمؤمنات.فالحم لله.. الحمد لله، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، يا ولي المؤمنين ويا رب العالمين.رب إن بيننا من يشكو آلاماً وأمراضاً في بيته، في مستشفاه، اللهم اشف أولئك المرضى من المؤمنين والمؤمنات، اللهم شفاءك العاجل يا رب العالمين.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2018-08-02, 01:34 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (8)
الحلقة (15)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (105)

نهى الله عز وجل عباده المؤمنين عن الإكثار من الأيمان؛ لأن ذلك مفض إلى أن يمنع المرء عن فعل بعض الطاعات وإتيان بعض الخيرات، أما ما يجري على ألسنة الناس من الأيمان التي لا يقصد بها الحلف، وإنما تجري مجرى الكلام فهي مما لا يؤاخذ بها الإنسان، أما ما انعقد عليه القلب فيحاسب عليه المرء، ومن ذلك الإيلاء من الزوجة، فقد أمهل الله صاحبه أربعة أشهر فإما أن يرجع إلى وطء زوجه أو يطلقها فتحرم عليه.

تفسير قوله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له إلا الله.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا إنك ربنا وولينا، ولا رب ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع هذه الآيات الأربع من سورة البقرة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:224-227].هذه الآيات اشتملت على أحكام جليلة، من ظفر بها الآن وعاد إلى بيته وجلس على فراشه واسترجعها ووجدها كما هي؛ فهي -والله- لأكبر غنيمة غنمها في هذه الليلة، والله! لخير من خمسين ألف ريال؛ لأن ما عندكم ينفد أو لا؟ وما عند الله باق، فالباقي خير من الفاني، فهل مستعدون لأن نحفظ ونفهم، لأننا أخذنا أعظم جائزة: الله يذكرنا في الملكوت الأعلى، أبعد هذا شيء؟! من نحن وما نحن حتى يذكرنا الله بين ملائكته؟ بفضل هذا العطاء الإلهي: نتلو كتابه في بيته، ونتدارسه، هذا هو السر.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

سبب نزول الآية الكريمة

أولاً: لهذه الآية في نزولها سبب: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:224] هذه الآية لها سبب في نزولها، قيل: إنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لما حدثت حادثة الإفك وكرب رسول الله والصديق والمؤمنون بتلك الشائعة التي ما أكثرها اليوم، فـالصديق حلف بالله ألا يطعم ابن خالته مسطحاً ، كان الصديق يطعم ابن خالته مسطحاً صباح مساء، يأكل مع الأسرة؛ لأنه فقير، فلما ولغ في هذه الفتنة حلف ألا يطعمه في بيته، فنزلت الآية: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:224]، فما كان من الصديق إلا أن أرجعه وعاد به إلى بيته وكفر عن يمينه.وفيها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ) قاعدة عامة: ما من مؤمن يحلف بالله ألا يفعل كذا، ويكون قد حُرم ذلك الخير بيمينه؛ إذ جعلها عرضة في الطريق فامتنع بها، فعليه أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك الذي حلف ألا يفعله، وليأت الذي هو خير.من حلف على شيء ثم رأى أن غيره خير منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه. وقيل: نزلت في عبد الله بن رواحة ، فمن عبد الله بن رواحة هذا؟ شهيد مؤتة، هذا كان له ختن فغاضبه، حلف ألا يكلمه، والختن إما أخو زوجته أو أبوها، وجائز أن يكون زوج ابنته، والجمع: أختان، أقارب زوجتك هم أختانك، زوج ابنتك ختن لك أيضاً.

النهي عن جعل اليمين مانعاً من فعل الخيرات

إذاً: فكانت الآية: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224]، أي: ولا تجعلوا الحلف بالله، أما الله فما يكون عرضة، وإنما الحلف به تعالى لا تجعلوه عرضة في الطريق فيحول بينكم وبين طاعة الله وفعل الخيرات والصالحات، كأن يقول: والله لا أصلح بين اثنين بعد اليوم؛ لأنه صلح بينهما فلحقه سب أو عتاب أو آلام، ويمنع نفسه عن فعل الخير؛ إذ الإصلاح بين اثنين حسنة لا تقابلها حسنة. أو حلف ألا يكلم فلاناً، وفي تكليمه والحديث معه خير كثير، كيف يحرم نفسه من أخوة أخيه؟ إذاً: فليكفر وليفعل الذي هو خير، أو حلف ألا يعطي بعد اليوم فلساً لفلان أو فلان، فالعطاء خير من الحرمان، فليكفر وليأت الذي هو خير.وافهموا من قوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ [البقرة:224] أن هناك محذوفاً: ولا تجعلوا الحلف بالله عرضة في الطريق يمنعكم من الوصول إلى الخير. وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224] لأن هذه مواطن الخير: فالبر فعل خير، والتقوى بترك فعل شر وفعل واجب أو مندوب خير، وتصلحوا بين الناس، هذه مواطن الخير والبر، لا تجعلوا اليمين بالله واقفة في الطريق كحجر عثرة كما يقولون، لا تجعلوا أيها المؤمنون الحلف بالله تعالى مانعاً لكم من فعل الخير، سواء كان تصدقاً، سواء كان مجالسة الصالح، أو دخول بيته.. وهكذا من أنواع البر والإحسان.

سبب تسمية الحلف يميناً

وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] يقال: فلان عرضة للسب، فلان عرضة لكذا، المرأة عرضة للخطبة والنكاح، فالعرضة: ما يعترض الشيء ويكون في طريقه، وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] والأيمان: جمع يمين وهو الحلف، لم سمي الحلف يميناً؟ لأن العرب كانوا إذا أراد أن يحلف يضع يمينه على يمين الثاني، وضع اليمين على اليمين، من هنا سمي الحلف يميناً، توثيقاً وتأكيداً ليحلف له ويمينه على يمينه، فهذا الحلف يقال له: يمين، لهذه الملاحظة؛ لأنهم يضعون أيمانهم على بعضها تقوية للحلف وتأكيداً له.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

حكم الحلف بغير الله تعالى

(( وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ))[البقرة:224] ما قال: لإيمانكم، فالإيمان: التصديق، والأيمان: جمع يمين وهي الحلف، والحلف -كما عرفتم وبلغوا- لا يجوز إلا بالله، بأسمائه وصفاته، لا بالكعبة ولا بالأمانة ولا بالنبي ولا بفلان ولا فلان، ومن حلف بغير الله متعمداً فقد أشرك، وهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) كيف أشرك؟ بينا هذا، العادة أن الإنسان يحلف بما هو عظيم عنده، فالذي تحلف به جعلت له جزءاً من عظمة الله؛ لأن الله أكبر؛ لأن الله هو العظيم، فلما حلفت بفلان وفلان أعطيته نصيباً من عظمة الله، معناه: أشركته في عظمة الله.فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) أشرك المحلوف به في عظمة الله عز وجل، وأين إخواننا المصريون الذين يقولون: والنبي.. والنبي، دائماً على ألسنتهم، وحين تنبهه في الموسم يقول: والنبي ما نزيد بعدها، قلت له: يا بني! لا تقل: والنبي، لا تحلف، انتبه، حتى ولو جرت على لسانك، جاهد نفسك، فيقول لي: والنبي ما نزيد بعدها! ولهذا لما شاهد أبو القاسم هذه الظاهرة في المؤمنين الذين عاشوا سنين يحلفون بالعزى، أو باللات أو مناة، فكونه أسلم منذ عامين لا يستطيع، تجري على لسانه، فما يقدر على التخلص منها، فقال صلى الله عليه وسلم: ( من حلف باللات أو العزى فليقل: لا إله إلا الله ) فهذه مادة الإصلاح، أيما مؤمن جرى على لسانه: وحق فلان، ورأس فلان، بدون قصد، فحين يعرف أنه وقع يقول: لا إله إلا الله، ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها )، هذا علاج لمن تعود من فطرته وصغره أن يحلف بغير الله، لا يريد أن يعظم ذلك الشيء، فما هو العلاج؟ لا إله إلا الله تمحو تلك السيئة.إذاً: (( وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ))[البقرة:224] لأقوالكم (( عَلِيمٌ ))[البقرة:224] بنياتكم وأفعالكم، إذاً: فاحذروا، لا تجعلوا اليمين مانعة من الخير، فإذا قلت: مع الأسف؛ أنا حلفت ألا أحضر الحلقة الفلانية، فكفر عن يمينك واحضر، حيث امتنعت من الخير.

تفسير قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ...)

ثم قال تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225] ما هو اللغو في الأيمان؟ اللغو: الباطل وما لا فائدة فيه، والمؤمنون من أمثالكم عن اللغو معرضون، لا يستقبلون اللغو بل يعطونه ظهورهم، أتدرون ما ضابط اللغو؟ كل قول أو عمل أو تفكير لا ينتج لك ريالاً لمعاشك ولا حسنة لمعادك فهو لغو، ضابط عجب هذا، امرؤ يفكر، فيم تفكر؟ إذا كان ما تفكر فيه ينتج لك حسنة لأنك تفكر في عظمة الله وجلاله، أو تفكر في ذنوبك وما أصابك، هذا لا بأس، أما أن تفكر في شيء ما ينتج لك ريالاً ولا حسنة فباطل هذا التفكير، أغمض عينيك ونم أو قم فصل. وحين تتكلم بالكلمة والكلمات طيب الكلام وقصره، هل تحصل على حسنة به تدخرها ليوم القيامة؟ قال: لا، هل تحصل على ريال أو فائدة مالية؟ قال: لا. إذاً: كلامك باطل، لغو، أعرض عنه واذكر الله عز وجل.يعمل بجهد، هذا العمل يا عبد الله هل ينتج لك ريالاً أو لا لأولادك وزوجتك؟ قال: لا، هل ينتج لك حسنات عند الله؟ قال: لا، إذاً: لا تلعب، هذا لغو، كالذين يلعبون الكيرم والكرة. ‏

المراد بلغو اليمين

إذاً: يمين اللغو هي التي تحلف على شيء تظنه كذا، ويظهر بعد ذلك خلاف ما ظننت، هذه لغو يمين، مثالها: أن يقول لك أخوك: من فضلك أسلفني مائة ريال، فتقول: والله! ما عندي ولا شيء؛ لأنك تعتقد أنه ليس في جيبك شيء، بعدما رجعت البيت وجدت في جيبك ألف ريال أو مائة، فهذا لغو يمين لا تؤاخذ عليها. أو قيل لك: أين إبراهيم؟ فقلت: والله لقد سافر، وبعد أن رجعت البيت وجدته ما سافر، هل حنثت أو لا؟ لكن هذه لغو يمين، ما أنت بمتعمد، هذه صورة من لغو اليمين، أن تحلف على شيء تظنه كذا لغالب على ظنك، فيظهر خلاف ذلك، والإنسان ضعيف، فهذه اليمين التي تسمى بلغو اليمين لا إثم فيها ولا كفارة أبداً.الصورة الثانية: أن يجري على لسانك ما لا تقصده من أيمان، يقال لك: تعال: فتقول: لا والله. هيا بنا، لا والله، وهو لا يريد اليمين، تجري على لسانه فقط، فهذه هي لغو اليمين لا يؤاخذنا الله بها: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225].إذاً: لغو اليمين لها صورتان: الأولى: أن تظن الشيء كذا فتحلف عليه فيتبين خلاف ما حلفت، لا إثم فيها ولا كفارة، لقول الله تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225].الصورة الثانية: أن يجري على لسانه اليمين بدون قصد، كقول: بلى والله كذا وكذا.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

أنواع اليمين المكفَّرة

واليمين المكفَّرة لها صورتان أيضاً: الأولى: أن يقول: والله! لا أمشي معك، عزم على ألا يمشي، والله! لأضربن رأسه، عازم أو لا؟ ثم لم يستطع، اضطر لأن يمشي، حلف فقال: والله! لا أسافر معك بعد اليوم أبداً، وبعد فترة اضطر إلى أن يسافر، هذه اليمين يؤاخذ عليها العبد. والثانية: أن يقول: والله! لأفعلن، ينسب القدرة إلى نفسه، والله لأضربن، والله لأعطين.. ويعجز، هنا نفسه تتلوث، تخبث، تحتاج إلى آلة تمسحها، لم تلوثت؟ لأنه نسي أنه عبد مملوك لله، لا يستطيع أن يتحرك ولا أن يسكن إلا بإذن الله، فنسي الله فقال: والله لا أفعل، هل أنت تملك هذا؟ عندك قدرة؟ أو يقول: والله لأفعلن، هل أنت قادر على أن تفعل ما تريد؟ أما تقرأ: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] فلما نسي جلالة وعظمة الله وملك الله ارتكب إثماً بهذا النسيان، فتلطخت نفسه بالإثم، فلا يزول إلا بما عين الحكيم مما تزول بهذه الآثام، اللهم إلا إذا اعترف فقال: والله! لا أسافر معك بعد اليوم إلا أن شاء الله، أو قال: والله! لأضربن رأسك إلا أن يشاء الله، ما دام أنه اعترف فلا إثم، وهذا ما يسمى بالاستثناء؛ لأنه أول مرة وقع في محنة حيث نسي الله، قال: والله لا أذهب، هل أنت تملك ألا تذهب؟ الذي يملك هو الله، فلما أصر وما استثنى وعجز واضطر إلى أن يفعل ما حلف عليه تلطخت نفسه بأوضار الذنب والإثم، فلا تمحى ولا يزول أثرها إلا بالمادة التي وضعها الله.ما هي المادة التي وضعها الله؟ عتق رقبة، أو كسوة عشرة مساكين، فإذا ما استطاع فصوم ثلاثة أيام، مخير، فإذا أعتق رقبة استراح، أو أن يكسو عشرة بثوب وطاقية لكل واحد، وإذا كانت لامرأة فملاءة وخمار، بحيث تصح صلاتها فيها، فإذا ما استطاع الكسوة يطعم عشرة مساكين، يجمعهم على غداء وعشاء أو يعطي كل واحد كيلو دقيق أو كيلو ونصفاً، كله واسع، فإذا ما استطاع صام ثلاثة أيام.من هو هذا الذي يكفر؟ يكفر عن ماذا؟ عن الذنب الذي علق بنفسه لما ادعى أنه يفعل، هل تملك أن تفعل أنت؟ قل: إن شاء الله أنك تفعل، أو يقول: لا أفعل ويحلف، قل: إن شاء الله؛ إنك قد تعجز فما تستطيع، استثن، فالله تعالى يقول في بيان الكفارة: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89].

اليمين الغموس وحكم الكفارة فيها

بقيت يمين تسمى الغموس، هذه تغمس صاحبها في الإثم من رأسه إلى قدميه، وتغمسه في جهنم، سماها أبو القاسم الغموس، فعول، كثيرة الغمس في الذنوب والآثام ثم في جهنم، ما هي اليمين الغموس؟ هذه التي جاءت في هذه الآية: بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225] اليمين الغموس: أن يحلف بالله كاذباً ليحصل على فائدة دنيوية، يحلف بالله كاذباً لأجل ماذا؟ ليحصل على ريال أو طعام أو منصب أو حاجة، يقول: والله! ما رأيت فلاناً، وهو كان معه، من أجل غرض يحصل عليه.هذه اليمين الغموس فقهاء الإسلام منهم من يقول: لا كفارة لها أبداً، لو تصوم ألف عام ما ينفع، إلا أن تتوب، فتقول: إني حلفت كاذباً، وخذوا ما أخذته منكم، فترد الحقوق إلى أصحابها، وتفضح نفسك أمامهم، وتستغفر الله وتتوب إليه، هذه هي الكفارة.أما أن تحلف كاذباً لفائدة دنيوية وتقول: أنا أكفر، فما ينفع ولو تصوم الدهر كله، حتى ترد الحق الذي أخذته باليمين الكاذبة. ومن أهل العلم من يقول: دعه يكفر، فهو تخفيف على الأقل، يكفر كالكفارة عن اليمين الأخرى، وإن كان هذا ما يكفي، لكن شيء خير من لا شيء.والأولون من أهل العلم من علماء الإسلام يقولون: اليمين الغموس ما فيها كفارة، بمعنى: ما تنفع حتى تعلن عن توبتك وتقول لفلان: أنا كذبت عليك لآخذ مالك أو لآخذ كذا وكذا، خذ مالك، أو: هذه رقبتي اضربها، هذا الذي يكفرها. ومع هذا فإذا ما فعل ماذا يصنع؟ على الأقل يكفر كفارة يمين: إطعام عشرة مساكين، أو عتق رقبة، أو كسوة، أو صيام.

إجمال أنواع الأيمان الأربع

فهذه هي الأيمان الأربع:أولاً: قلنا: يا عباد الله! لا تجعلوا اليمين بالله مانعة لكم عن الخير، فإذا حلفت ألا تصلح بين اثنين أو ألا تعتمر أو لا تسافر مع فلان أو لا تتصدق أو كذا، فكفر عن يمينك وافعل الخير، أخذاً بقول ربنا: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:224]، هذه اليمين فرغنا منها. ثم جئنا إلى لغو اليمين: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225] ما هو لغو اليمين؟ اليمين التي تحلف بالله على شيء تظنه أو موقن بأنه كذا ويتبين خلاف ذلك، فلا شيء، لا يؤاخذك الله عليها، ولا كفارة فيها؛ لأن النفس ما تلطخت، تحلف على شيء تظنه، تعتقد أنه كذا ويتبين خلاف ذلك، كما لو قيل لك: من فضلك أقرضني مائة ريال، فتقول: والله! ما في جيبي شيء، فلما فتشت بعد ذلك وجدت، هذه لغو يمين لا كفارة فيها ولا إثم؛ لأنك لما حلفت كنت تعتقد أنه ما يوجد عندك شيء في جيبك، هذه صورة أولى.الصورة الثانية: أن يجري على لسانك دائماً اليمين: لا والله، بلى والله. دائماً في أحاديثك، هذه لغو أيضاً، ألغها وأبطلها لا تلتفت إليها.ثم اليمين التي ينفع فيها الاستثناء، وهي: أن تقول: والله! لا أفعل، وتنسى أنك مملوك لله ضعيف، قل: إن شاء الله! فإن هو حلف ألا يفعل ثم فعل فليكفر عن يمينه، أو يقول: والله! لا أفعل، ينسب القدرة لنفسه: والله! لأفعلن كذا ثم يعجز، فليكفر عن يمينه؛ لأنه نسي الله أو لا؟ لما قال: والله! لا أقوم بينكم أو لا أفعل كذا، وعجز، لو قال: إن شاء الله كان خيراً له، لكن لما نسب القدرة لنفسه هو ونسي الله وما ذكره تلطخت نفسه بالإثم، فليكفر عن يمينه، أو يقول: والله! لأفعلن، كأنه يفعل ما يريد! ما تستطيع، قل: إلا أن يشاء الله، قل: إن شاء الله، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، فمن استثنى فلا شيء عليه، ومن أصر وحلف بدون استثناء ونسب القدرة لنفسه بالفعل أو الترك، ثم حنث فعليه الكفارة التي يغسل بها ما تلطخت به نفسه من أوضار الذنب والإثم. والكفارة عرفناها، إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة، مخير في ذلك، فإذا ما استطعت فالإطعام هو الأخير: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة:89]. وبقيت يمين واحدة سوداء مظلمة، ما هذه؟ الغموس، غمسه يغمسه في الماء، والغموس: الذي يكثر الغمس ويقدر عليه، هذه تغمس في الإثم أولاً، ثم تغمسه في جهنم، وهي اليمين الكاذبة، أقرضه ألفاً أو خمسة فقال: والله! ما أقرضتني شيئاً، والله ما أعطاني شيئاً، وهو كاذب؛ حتى يأخذ هذه الألف، هذه اليمين عرفتم رأي العلماء فيها، منهم من يقول: ما تكفر هذه أبداً إلا بالتوبة والاعتراف بكذبه ورد المال والحق لأصحابه، هذا الذي ينفع، أما أن يكفر فما ينفعه ذلك، وبذلك قال مالك رحمه الله تعالى.وآخرون يقولون: دعه يكفر على الأقل، فحسنة خير من عدمها، لكن ليس معناه: أن يصر على الباطل، ويأخذ حقوق الناس بالأيمان الكاذبة، ويكفي أنه يصوم، والله ما يكفي أبداً. فهذه الأيمان في الشريعة الإسلامية بكاملها في آيتين من كتاب الله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير قوله تعالى: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم)

بقيت مسألة في الآية الأخيرة، وهذه ذات شأن، وهي قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226] ما دام أنه ذكر الأيمان ذكر بالمناسبة أن يحلف الرجل فيقول لزوجه: والله لا أطؤك كذا شهراً، فهل هذا جائز أم لا؟ يحلف الفحل لأنثاه فلانة: والله! لا أجامعك شهراً كاملاً، شهرين، ثلاثة، وفي الحقيقة هو يتألم أكثر منها، لكن العنترية. إذاً: إذا كان يحب أن يكفر عن يمينه ويرجع فالباب مفتوح، وإذا أصر فقد أذن الله له في ثلاثة أشهر، فإذا كان نهاية الشهر الرابع فإما أن يطلق وإما أن يكفر عن يمينه ويرجع.هنا عمر رضي الله عنه سأل النساء، سأل حفصة : كم تصبر المرأة عن زوجها؟ ما هي المدة التي يمكن أن تصبر؟ قالت: تصبر شهرين ولا تبالي، وفي الشهر الثالث يقل صبرها، وفي الشهر الرابع ينفد صبرها! فأصدر عمر إلى قادة الجيوش ألا يبقوا الجندي أكثر من أربعة أشهر، ويبعثوا به إلى أهله، من أين أخذ عمر هذا؟ من حفصة ، كلهم صدق وعلم ومعرفة. فالله تعالى يقول في الآية الكريمة: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226] انتظار أربعة أشهر، إذا وصل الشهر الرابع فإما أن يكفر عن يمينه ويرجع إلى امرأته، أو يطلق، فإن لم يطلق فالقاضي يطلقها رغم أنفه، امرأة حلف زوجها على ألا يطأها ستة أشهر، أو عاماً، أو خمسة أشهر؛ فإذا وصلت تمام الشهر الرابع ترفع أمرها إلى القاضي، فإما أن يرجع وإما أن يطلقها، واسمع الآية: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [البقرة:226] أزواجهم تَرَبُّصُ [البقرة:226] لهم تربص أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226] أي: رجعوا إلى وطء نسائهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ [البقرة:226] لهم رَحِيمٌ [البقرة:226]، ولكن يكفرون أم لا؟ يكفر عن يمينه ويرجع إلى زوجته.وإذا حلف ألا يطأها أسبوعاً يجب أن يكفر إذا أراد أن يطأ قبله، كما قدمنا أنه إذا حلف على شيء فرأى خيراً منه فليكفر وليأت الذي هو خير، فإن حلف ألا يطأ لشهرين فإن شاء كفر ويعود إلى زوجته، ما هو بملزم، وإن حلف على فوق أربعة فهنا إما أن يفيء ويرجع إلى امرأته، وإلا فالقاضي يطلقها رغم أنفه. اسمع الآية: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226] ينتظرون أربعة أشهر، الزوجة تنتظر، أو أبوها أو القاضي، فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226] فاء يفيء الظل: رجع، فإن فاءوا بمعنى: رجعوا إلى وطء أزواجهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:226] يغفر لهم ويرحمهم.

تفسير قوله تعالى: (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم)

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [البقرة:227] فما الذي يحصل؟ وجب الطلاق، ما دام لم يطأها أربعة أشهر، كملت الأربعة أشهر فأبى أن يطأ ويكفر؛ إذاً: فالطلاق، المرأة تطالب بالطلاق، والقاضي ينفذه، لقوله: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [البقرة:227] فليطلقوا فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:227]، أما ألا يطلق ولا يطأ بعد أربعة أشهر فهذه مؤمنة، ما يرضى الله بأذية أمته.وإذا كانت هي ما تريد الوطء، هي التي هربت، فحينئذ يدعوها أن: تعالي، فإن لم تستجب منع عنها الطعام والشراب، لا يبعث لها لا بكساء ولا بطعام، شاردة، نافرة منه؛ حتى تعود، أما أنه هو يعرض عنها ويتركها فما يجوز، يدعوها أن: تعالي ارجعي، فإن أصرت فحينئذ هي كالمعلقة لا مزوجة ولا مطلقة.وإن حلف على أسبوع فقال: والله! لا أطؤك سبعة أيام ولم يطأ فلا ما يكفر، ما حنث، لكن إذا انهزم قبل أن يكمل أسبوعاً ورجع إليها كفر، أو حلف على شهر، ثم ما استطاع أن يصبر، ماذا يصنع؟ يكفر وليفعل الذي هو خير، لكن إذا وفى شهره فلا شيء عليه، لا كفارة ولا حنث.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

ما يلزم الزوج في حال غيابه عن زوجه مدة طويلة

إذا كان هناك شخص يغيب عن زوجه أربع سنوات وهو مسافر في المغرب أو في المشرق؛ فهذا الأمر يعود إلى الزوجة، إذا ترك لها نفقة تكفيها، وترك لها من يتولى أمرها أو يرعاها وهي راضية بسفره لعمله؛ فلا حرج، وإن تركها بلا نفقة فإنها تشتكيه إلى القاضي، ترفع القضية إلى المحكمة والقاضي يطلقها. وإن كانت النفقة موجودة وما أطاقت هي، ما استطاعت أن تبقى بغير زوج، ما قدرت على العزوبة؛ فإما أن يجيء أو يطلق، فقط إذا كانت راضية عنه بالبقاء في عمله خارج البلاد لعامين أو ثلاثة فشأنها، أما إذا انقطعت النفقة فمن ينفق عليها؟ يطلقها القاضي وتتزوج، وإن كانت النفقة موجودة ولكن ما أطاقت البعد عن زوجها، فليس له إلا واحدة من اثنتين: إما أن يرجع أو يطلق، إذ ( لا ضرر ولا ضرار )، ( كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه ).وقوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] العرضة: ما يوضع مانعاً من شيء، واليمين يحلفها المؤمن ألا يفعل خيراً.نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-08-04, 05:12 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (9)
الحلقة (16)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (106)


شرع الله لعباده الطلاق عند استحالة استمرار الحياة بين الزوجين، وبين سبحانه وتعالى أحكامه وضبطها، حتى أنه أنزل سورة كاملة في القرآن سميت بسورة الطلاق، وذلك لأهمية هذا الموضوع وما يترتب عليه من التزامات، وقد بين سبحانه هنا أن المطلقة تعتد لنفسها بثلاثة قروء، فإن انقضت هذه العدة دون أن يقربها زوجها في الطلاق الرجعي انفسخ العقد، وحرمت عليه، أما إن طلقها في حمل فأجلها أن تضع حملها وبه ينفسخ العقد.

تابع تفسير قوله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين المباركة- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلك الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي، وصلى الله عليه وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). وأخرى: إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه؛ كان كالمجاهد في سبيل الله ).وها نحن مع هذه الآيات التي أتلوها وسبقت دراستها، وتأملوا ما فهمتم منها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:224-227].

صور لغو اليمين
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

أولاً: ما الذي أرشدت إليه ودلت إليه هذه الآية: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224] ؟ أي: ولا تجعلوا لله عرضة لأيمانكم حتى لا تتقوا ولا تبروا ولا تصلحوا بين الناس. فدلت على أن الأيمان منها لغو اليمين، ولها صورتان: الأولى: أن يجري على لسانك ما لا تقصد، كقولك: لا والله، أو بلى والله كذا. والصورة الثانية: أن تحلف على شيء تعتقد أو تظن ويغلب على ظنك أنه كما أخبرت، ويتبين خلاف ذلك، أين فلان؟! قال: فلان سافر، قيل: ما سافر، فقال: والله! لقد سافر، وبعد ذلك يتبين أنه ما سافر، هذه لغو يمين: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225].

النهي عن اتخاذ اليمين مانعاً من أعمال البر

أما هذه الفاتحة: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] فهذه تنهانا أن نمتنع من فعل الخير بالحلف، فنمتنع من فعل الخير أو من فعل طاعة، أو من إصلاح بين اثنين، بحجة أننا حلفنا، فيقال: يا فلان! من فضلك أقرضني كذا، تقول: لقد حلفت بالله ألا أقرض أحداً؛ حتى تمنع هذه القرض، يا فلان! إخوانك يتقاتلون، تقدم أصلح بينهم، تقول: مع الأسف؛ حلفت أن لا أصلح بين اثنين بعد حادثة معينة.يا فلان! ساعدني على فعل كذا، على بناء مسجد أو مصرف خير. يقول: لا، حلفت ألا أفعل بعد هذا! فتجعل اليمين بالله عرضة كالحجر في الطريق حتى ما يمر الناس، فتضع اليمين بالله حاجزاً عن فعل البر والخير والتقوى.وما عرفناه عن الصديق وعن ابن رواحة بذلك تتضح به هذه القضية.فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه لما شارك ابن خالته مسطح في تلك الفتنة شارك بلسانه؛ فحلف أبو بكر ألا يطعم في بيته بعد اليوم، مع أنه كان يأكل ويشرب عنده ليلاً ونهاراً!وعبد الله بن رواحة كان له ختن -أخو زوجته- فتنازع معه، فحلف بالله ألا يكلمه.إذاً: فنزلت هذه الآية تربينا وتؤدبهم: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ [البقرة:224] أيها المؤمنون وأيتها المؤمنات عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224]، أي: لا تجعلوا الحلف بالله حاجزاً عن فعل الخير والهدى والصلاح.

الندب إلى فعل الخير وتكفير يمين تركه
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وهنا من حلف ألا يطعم فقيراً، حلف ألا يصوم يوم الإثنين، حلف ألا يعتمر هذا العام؛ فماذا يجب عليه؟ عليه أن يكفر ويفعل الذي منع نفسه من الخير، حلف ألا يشهد الصلاة مع أهل القرية وأن يصلي في بيته، لا ينبغي أن يبقى علي يمينه، جعل الحلف بالله مانعاً له من الخير، من التقوى، إذاً: كفر عن يمينك وصل مع إخوانك؟ وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ [البقرة:224] أي: لا تجعلوا الحلف بالله. والعرضة: ما يقطع الطريق. أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ [البقرة:224] لأقوالكم، عَلِيمٌ [البقرة:224] بنياتكم وما في قلوبكم، فاخشوه واتقوه.والحديث الذي يقرر هذا ويوضحه: ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه )، افعل ذاك الذي هو خير من الأول، وكفر عن يمينك، ومن ثم كفر الصديق ورد مسطحاً إلى البيت كما كان، وعبد الله بن رواحة عاد إلى ختنه يكلمه ويسلم عليه، لا سيما وقد ختمت الآية في سورة النور بقوله تعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] فقال: ومن ذا الذي لا يحب أن يغفر الله له؟!

اليمين الغموس

وقوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225] عرفنا لغو اليمين بالصورتين، وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225] ما هذه؟ هذه اليمين الغموس، هذه ما هي بغامسة مرة واحدة، هذه تغمس أولاً في الإثم، ثم في نار جهنم! وهذه أعيذكم بالله أن تحلفوها، هذه يحلفها بالله كاذباً؛ ليحصل على منفعة، يعرف أنه ما أخذ ويقول: والله الذي لا إله غيره! لقد أخذت، أو أنه أخذ ويقول: والله! ما أخذت من تلك. هذه اليمين الغموس، لأن صاحبها يتعمد الكذب والحلف على الباطل؛ لمنفعة تعود عليه مالية أو بدنية، أو غير ذلك، هذه اليمين الغموس التي تغمس في الإثم ثم في النار، والعياذ بالله!

الأيمان المكفَّرة

بعد هذا بقيت اليمين المكفرة، وهي: والله لا أفعل، أو: والله لأفعلن رغم أنفك يا فلان! فهنا تأمل، حين يقول: والله! لا أفعل هذا، فهل هو حقيقة يقدر على أن يفعل أو لا يفعل؟ هذا معناه: أنه نسب القدرة لنفسه، سلبها من الله وادعى أنه قادر على أنه يفعل أو لا يفعل، هنا إذا حنث؛ حيث قال: والله! لا آتيكم بعد اليوم، واضطر بعد يومين وجاء، فهذا يكفر عن يمينه؛ لأن نفسه تلوثت بالإثم لما نسي الله أنه هو الذي يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير، فلما تلطخت نفسه بالإثم وضع الله لها مادة التطهير يستعملها، وإلا فما تطهر أبداً. أو قال: والله! لأفعلن، ونسي أن الله إذا لم يرد شيئاً لا يكون، ثم عاد إليه؛ فتلطخت نفسه؛ لأنه نسي الله، نسي قدرة الله، نسي أن الأمر لله، فعليه -إذاً- أن يغسل أوضار إثمه بما وضع الحكيم من مادة التطهير. فاليمين المكفرة هي أن تقول: والله! لا أفعل، وتعجز وتفعل، أو تقول: والله! لأفعلن، وتعجز وما تستطيع، هنا تجب الكفارة؛ لم سميت كفارة؟ لأنها تغطي ذاك الإثم، تكفره، تزيله.هذه الكفارة جاءت مبينة في سورة المائدة، قال تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [المائدة:89] عقدتم: حلفتم على علم ويقين ألا تفعلوا أو أن تفعلوا. فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة:89]، أي: وحنثتم، أما الذي حلف وما حنث فلا كفارة عليه.

الندب إلى الاستثناء في اليمين
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وما هو المطلوب حتى لا نقع في مثل هذه؟ المطلوب: أن نستثني، بأن تقول: والله! لأضربنك إلا أن يشاء الله، والله! لا أجلس معكم بعد اليوم إلا أن يشاء الله! فما دمت استثنيت فما عليك شيء، عرفت الحق لمن، وأنت عاجز، إلا أن يشاء الله ذلك فتفعله ولو لم ترده.إذاً: ما ننسى كلمة: (إن شاء الله) التي حصلت بسببها قصة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقريش وعلى رأسها حاكمها وملكها أبو سفيان كانت في اضطراب، فقبل أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم لما بدأ الإسلام ينتشر في مكة بعثوا وفداً إلى علماء اليهود في المدينة وأحبارهم، فقالوا: أعطونا ما عندكم من علم عن هذا الرجل، هذا الذي كفرنا وفعل وفعل، إن كان نبياً ورسولاً كما يقول دخلنا في دينه، وإن كان مفترياً وكذاباً ودجالاً فها نحن معه في حرب وفتنة! فقال لهم علماء اليهود بالمدينة: سلوه عن ثلاث مسائل، فإن أجابكم عنها فهو نبي، إذ لا يعرفها إلا نبي، وإن فشل وما استطاع فهو دجال يكذب، وإن أجاب عن البعض وعجز عن البعض فكذلك.وجاء الوفد، فقالوا لهم: سلوه أولاً عن الروح: ما الروح؟ كيف هي؟ كيف تستقر في الجسم؟ ما شأنها؟ ثانياً: سلوه عن فتية في الزمان الأول: ما شأنهم؟ وهم أصحاب الكهف في الشام.ثالثاً: سلوه عن رجل حكم الدنيا من المشرق إلى المغرب من هو هذا الرجل؟ ورجع الوفد، لما وصل إلى مكة اجتمعوا في ناديهم فقالوا: الآن نبدأ، فسألوه صلى الله عليه وسلم: ما تقول في الروح؟ ما هي الروح؟ من هم الفتية الذين كانوا في كذا وكذا؟ من هو هذا الرجل الذي حكم الأرض وساد البشر؟ فقال لهم ببشريته وفطرته: سأجيبكم غداً، وما قال: إن شاء الله، هو على نية أنه يأتيه الوحي ولا يتخلى عنه، قال: سأجيبكم غداً، ما قال: إن شاء الله، فنسي؛ حتى نتعلم نحن.وطلع النهار فجاءوا: هات ما عندك، فماذا يقول؟ جاءوا في المساء: أعندك شيء؟ فما كان عنده شيء، فقالوا: انكشف الستار، تدجيل وكذب! وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كرب لا يعرفه إلا من أصابه، حتى إن أم جميل هرولت تغني في الشوارع، تقول: تركه ربه وتخلى عنه، هذه أمرأة أبي لهب متعاونة مع زوجها تغني في الشوارع.وبعد خمسة عشر يوماً نزلت سورة الضحى: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3] كما تقول الحمقاء، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:6-8]، الله أكبر! فكبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يستحب لمن يقرأ القرآن إذا وصل إلى هذه السورة أن يكبر بتكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت الإجابة عن الأسئلة الثلاثة، عن الروح في سورة بني إسرائيل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] ما هو شأني ولا شأنكم.وأما أصحاب الكهف فجاءت الآيات مفصلة مبينة، وكذلك ذو القرنين: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:83] فاندهشوا.وعاتب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] إلا أن تقول: إن شاء الله، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قال بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء: سأفعل كذا إلا قال: إن شاء الله، ما قال في شيء: سأفعل، سأعطيك، سأمشي؛ إلا قال: إن شاء الله.فهل عرفتم هذه؟ فلا يفارقكم الاستثناء، فإنه خير كبير، وهل عرفتم سر الاستثناء أم لا؟ إذا قلت: أفعل، وما ذكرت أن الله أولى به فإنه يخذلك، أو يعجزك ويتركك لا تقدر، فأين عقيدتك في الله عز وجل؟ فمن الخير أن تقول: سنسافر غداً إن شاء الله، سنجيب عن هذه الأسئلة غداً إن شاء الله، سنقول كذا إن شاء الله. ودعك من مسلك العوام فما هو بمحمود، يقولون: صلينا المغرب إن شاء الله! هذا ما هو بمعقول، العوام يخبطون، يقال لأحدهم: زوجت ولدك؟ يقول: زوجته إن شاء الله! كيف تقول: إن شاء الله! لأن العوام ما علموا، تقول: إن شاء الله في المستقبل، أما الذي وقع فقد شاءه الله، لولا أن الله شاء فهل سنصلي؟ والله! ما نصلي، فلا حاجة إلى أن تقول: صلينا المغرب إن شاء الله. قل: سنصلي العشاء إن شاء الله.

حكم الإيلاء

بقيت المسألة الثانية: وهي الإيلاء، يقال: آلى يؤلي: حلف، وقالوا: تألى، يتألى بمعنى: حلف.إذاً: إذا قال الزوج صاحب الزوجة: والله! لا أطؤك أو لا أجتمع معك في فراش ثلاثة أشهر تأديباً لها؛ لأنها تمردت عليه، فأراد أن يؤدبها بشهرين أو ثلاثة، فله أن يكفر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير إذا رأى فيه خيراً، وإذا رأى الخير في منعها حتى تتوب أو تتراجع، وأصر وما جاءها فله ذلك حتى يبلغ الأجل الذي حدده ويأتي امرأته ولا كفارة عليه.وإن أراد أن يكفر ويرجع فذاك المطلوب، لكن إذا حلف لأربعة أشهر، أو خمسة أو ستة، فلا يصح، فإذا استوفى الأربعة إما أن يطلق وإما أن يرجع ويفيء، يعود إلى زوجته.قال تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226] أي: رجعوا إلى أزواجهم ووطئوهن فذاك، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [البقرة:227] فالطلاق نافذ. وتذكرون أن عمر سأل حفصة : ما القدر الذي يمكن للمرأة أن تصبر على فراق زوجها؟ قالت: تصبر شهرين، وفي الثالث يقل صبرها، وفي الرابع ينفد صبرها، ما تطيق، فأرسل عمر إلى رجاله قادة الحروب في العالم الغزاة الفاتحين: على كل قائد ألا يبقي الجندي أكثر من أربعة أشهر، ويبعث به إلى بلاده. لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [البقرة:226] لهم الحق أن يتربصوا -يعني: ينتظرون- أربعة أشهر، إذا انتهى الشهر الرابع إما أن يعود إلى امرأته، وإلا طلقت عليه رغم أنفه.

ما يلزم الغائب عن زوجه

إذاً: بالإضافة إلى ما علمنا: الذي يسافر عن امرأته تاجراً كان أو عاملاً، ويتركها في بلده ماذا حكمه؟ الجواب: الأربعة أشهر لا حق لها أن تتكلم فيها، تصبر وتسكت، فإذا تجاوزت المدة الأربعة أشهر فإن نفدت نفقتها وما استطاعت فيجب أن يرجع أو ينفق عليها، وإن كانت النفقة موجودة لكن ما أطاقت فراقه، فإما أن يرضيها حتى ترضى وتطمئن وتسمح وتعفو عنه، وإما أن يأتي أو يطلق. فإذا كانت النفقة معدومة فترفع أمرها إلى المحكمة ويطلقها القاضي، إذ من ينفق عليها؟! لكن إذا كانت النفقة موجودة فهي بالخيار، إن شاءت أن تصبر حتى يعود زوجها بعد عامين أو عشرة؛ لأنه يكسب على أولادها، فلها ذلك، وإن لم تطق فإما أن يأتي أو يطلق، ولا حق له أن يقول: لا؛ لأنها لها حق كما أن له حقاً.والغالب أن الناس يسترضون نساءهم، ويطمئنونهن على أننا من أجلكن نعمل، فالمؤمنة تصبر وتتقي الله حتى يعود زوجها، وهذا ليس إيلاء، الإيلاء هو الحلف، يحلف بالله ألا يطأها وهو معها.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير
‏ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

هداية الآيات

إليكم هداية الآيات تذكركم بما علمتم، وهي مأخوذة مستقاة من الآيات الثلاث.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:من هداية الآيات:أولاً: كراهية منع الخير بسبب اليمين ]، (( وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ))[البقرة:224] [ فمن حلف ألا يفعل خيراً فليكفر عن يمينه وليفعل الخير ] الذي امتنع بسبب اليمين، وذلك [ لحديث الصحيح: ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير ).[ ثانياً: لغو اليمين معفو عنها، ولها صورتان: الأولى: أن يجري على لسانه لفظ اليمين وهو لا يريد أن يحلف، نحو: لا والله، بلى والله. والثانية: أن يحلف على شيء يظنه كذا فيتبين خلافه، مثل: أن يقول: والله! ما في جيبي درهم ولا دينار، وهو ظان أو جازم أنه ليس بجيبه شيء من ذلك ثم يجده، فهذه صورة لغو اليمين.ثالثاً: اليمين المؤاخذ عليها العبد: هي أن يحلف متعمداً الكذب قاصداً له؛ من أجل الحصول على منفعة دنيوية، وهي المقصودة بقوله تعالى: (( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ))[البقرة:225]، وتسمى باليمين الغموس، وباليمين الفاجرة ]، اليمين الفاجرة واليمين الغموس واحدة، لم سميت فاجرة؟ لأنها فجرت به عن الحق إلى الباطل.[ رابعاً: اليمين التي يجب فيها الكفارة هي التي يحلف فيها العبد أن يفعل كذا، ويعجز فلا يفعل، أو يحلف ألا يفعل كذا ثم يضطر ويفعل، ولم يقل أثناء حلفه: إن شاء الله ]، أما إذا قال: إن شاء فما فيه إشكال.قال: [ والكفارة مبينة في آيات المائدة، وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام متتابعة أو متفرقة ]، ما نص الله تعالى على تتابعها.[ خامساً: بيان حكم الإيلاء ]، الإيلاء: الحلف، [ وهو أن يحلف الرجل ألا يطأ امرأته مدة، فإن كانت أقل من أربعة أشهر فله ألا يحنث نفسه، ويستمر ممتنعاً عن الوطء إلى أن تنتهي مدة الحلف، إلا أن الأفضل أن يطأ ويكفر عن يمينه ]، هو غاضب وحلف، لكن يطأ ويكفر فذلك أفضل، لا يبقى الشهر والشهرين، [ وإن كانت أكثر من أربعة أشهر فإن عليه أن يفيء إلى زوجته أو تطلق عليه ]، المحكمة تطلقها [ وإن كان ساخطاً غير راض ] فلا قيمة لسخطه.وتطلق طلاق السنة، طلقة واحدة إذا كانت طاهراً، وإذا كانت حائضاً لا يطلقها حتى تنتهي الحيضة وتطهر.

تفسير قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ...)

والآن مع هذه الآية الكريمة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228].وَالْمُطَلَّقَ تُ [البقرة:228] جمع مطلقة، والمطلقة: من انحلت عقدة النكاح معها، الرباط ذاك الذي كان انحل، وهو قوله: زوجتك على مهر كذا، انحل فانطلقت.إذاً: والمطلقات ما عليهن؟ ما لهن؟ قال تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] إذا انتهت يتزوجن، المطلقات عليهن وجوباً أن يتربصن، والتربص ما هو؟ الانتظار.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

المراد بالقروء في الآية الكريمة

وما المراد بثلاثة قروء؟هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، ويبدو أن الأصح أن القرء بمعنى: الطهر لا بمعنى الحيض، الطهر يسمى قرءاً، والحيضة تسمى قرءاً، من أين اشتق هذا الاسم؟ اشتق من القرء الذي هو الجمع، القرء الذي هو الجمع، قرأ الماء: جمعه.إذاً: فالحائض لا تحيض كل يوم، تحيض في الشهر مرة خمسة أيام أو سبعة أيام، فهي ذات الجمع، ذاك الدم الذي كان في بطنها يتجمع، فإذا كان الوقت أو امتلأ الحوض يفيض، يخرج الحيض؛ لأن القرء بمعنى: الجمع، ومنه القرآن لأنه مجموع السور.هذه المسألة عالية بعض الشيء، لكن لا مانع أن نصل إليها بإذن الله تعالى، فالدم الذي في بطن المرأة هو عبارة عن غذاء الولد الذي يتكون في رحمها، إذ بمجرد أن يصبح الجنين ينمو يتغذى بذلك الدم، فالتي هي حامل وفي بطنها ولد ما تحيض، ما هناك دم، الولد يأكله، يأتي ويتغذى من سرته بتدبير العليم الحكيم.إذاً: إذا كان القرء مأخوذاً من القرء الذي هو الجمع فإذا قلنا: ثلاثة أقراء أي: ثلاثة أطهار، فالوقت الذي يأخذه الدم ليتجمع ما يسيل ولا يفيض، فإذا كان متجمعاً فتلك الأيام هي أيام الطهر، فإذا فاض وسال فهذا حيض أم لا؟ فلهذا فالأقرب -وهو أرحم بالمؤمنين- أن نعتبر الأقراء بمعنى: الأطهار، واستشهد أهل العلم بقول الله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] أي: لأول العدة، ما هو أول العدة؟ هذه يا ليتنا نعمل بها، حرام على المؤمن أن يطلق امرأته وهي حائض، فذلك طلاق محرم وبدعي، وحرام أن يطلقها في طهر جامعها فيه، فممكن أنها حملت في تلك الليلة، فتبقى مربوطة تسعة أشهر برباطه.الطلاق الذي شرعه الله في كتابه وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم إذا كنت تريد أن تطلق امرأتك فانتظرها حتى تحيض ثم تطهر، فإذا طهرت واغتسلت وصلت فحينئذ قبل أن تجامعها أشهد اثنين وطلقها، هذا هو الطلاق، أما أن تطلقها وهي حائض أو تطلقها بعدما طهرت وجامعتها فهذا طلاق بدعي محرم، وكثير من الصحابة والتابعين وأتباع مالك وأحمد -وهو خلاف قول الجمهور- يقولون: أيما طلاق وقع في حيض فهو باطل، لا يعد طلاقاً، أو طلاق جامعها فيه لا يعد طلاقاً.والدليل -والكل أخذ من وجه الحديث- أنه لما طلق عبد الله بن عمر أخبر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبد الله طلق وهي حائض، فقال له: ( مره فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض حيضة أخرى، فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها أو يمسكها؛ فإنها العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء )، أمره أن يراجعها، هنا الجمهور يقولون: معناه: أنها طلقة وراجعها، ومن خالف الجمهور يقول: أرجعها إلى بيتها، ما طلقت؛ لأنه أوقع الطلاق وهي حائض، فهذا هو الخلاف.والشاهد عندنا في هذه القضية أن نرى ما هو الأخف والأرحم بالمؤمن؟ فإذا طلقها في طهر لم يمسها فيه فهذا طهر، ثم حاضت، فهذه حيضة، ثم طهرت فهذا طهر ثان، ثم حاضت فهذه حيضة ثانية، ثم طهرت فحلت، فإن قلنا: حيضة ثالثة طالت العدة بشهر آخر. فإذا طلقها في طهر ما جامعها فيه فهذا الطلاق شرعي وهو السنة، فيحسب من العدة؛ لأن الله قال: طلقوهن لعدتهن، ثم حاضت وأنهت الحيضة فدخل طهر ثان، فهذان طهران وحيضة واحدة، ثم جاءت حيضة ثانية، وجاء بعدها طهر حلت فيه، فلو أخذنا بالحيض لبقي شهر آخر. والحاصل أن ذلك كله خير، إن أخذت بالأطهار أو الأقراء فكل هذا صحيح، لكن الأرحم الأطهار.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

ما يلزم الرجل والمرأة حال العدة في الطلاق الرجعي

قال تعال: وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ [البقرة:228] كم؟ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] أي: فلا يتزوجن ولا يتعرضن لخطبة ثلاثة قروء وهن في بيوتهن مرتبطات بأزواجهن والنفقة على الأزواج، وللزوج الحق أن يقول: راجعتك ويبيت معها، هذا تدبير الله، تبقى في البيت، فممكن أن يندم، ممكن أن تثور شهوته فيضطر إلى أن يراجع، لا إله إلا الله! وهي في بيت زوجها لا تخرج، ولا يحل إخراجها إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ [الطلاق:1] لا يخلو بها ويتحدث معها، فهي أجنبية الآن، ولا يجامعها، وإن جامعها وهو قد طلقها فإنه يؤدب؛ إلا إذا نوى مراجعتها. فإذا انتهت الأقراء -الأطهار أو الحيض- فمع السلامة، تعطيها متاعها وتذهب إلى أهلها، فإن راجعها في العقدة فهنيئاً له، وإن قالت: لا أرجع فلا حق لها، فلو مات ورثته، ولو ماتت ورثها، ما زالت في عصمته، حتى تنتهي الأطهار الثلاثة، هذا إذا كانت تحيض. وإذا كانت صغيرة ما تحيض بنت عشرة سنين، أو كانت عجوزاً بنت سبعين سنة فكيف تعمل؟ هذه تعتد بثلاثة أشهر: وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]كذلك، التي لا تحيض لكبر سن أو صغر فعدتها محدودة بثلاثة أشهر.

معنى قوله تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر)

ثم قال تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228] هذه مسائل عالية، يا مطلقة! انتبهي، أنت تؤمنين بالله واليوم الآخر أم لا؟ إياك أن تجحدي الحيض أو الحمل، تجحد الحمل فتقول: والله! لأحرمن هذا الكلب من الولد، هذا كلام النساء، فتتزوج وتنسب هذا الولد للزوج الثاني! هذا موقف خطير لا تفعله مؤمنة، أو تعجل فتقول: أنا حضت ثلاث حيضات في الشهر الماضي وهي تكذب؛ كتمت ما في رحمها.أو حاضت وتقول: ما حضت إلا حيضتين؛ حتى ترجع، المهم: بلغوهن أنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تجحد حيضها أو حملها لمصلحتها الخاصة، يا ويلها! واسمع الآية: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ [البقرة:228] يجحدن مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228] أي: من حيض أو ولد إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228].

أثر التجرد عن الإيمان بالله واليوم الآخر

وقد كررنا القول هنا فقلنا: لأن تنام إلى ثعبان تتوسده فمن الجائز ألا يأكلك، أما أن تنام إلى جنب شخص لا يؤمن بلقاء الله؛ فوالله إن احتاج إليك لانقض عليك، ما في الأرض شر من شخص لا يؤمن بلقاء الله يوم القيامة، هذه قضية كررناها مرات، فحيوان قد تسلم منه، والذي لا يؤمن بلقاء الله لا تسلم منه، إن احتاج إليك أخذ دمك، فلا تأمنه أبداً.ولهذا تجد قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [الطلاق:2]، إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228]، أما الكافر الملحد الذي لا يؤمن بالله ولا بلقائه فوالله ما يؤمن على رأس بصلة أبداً، ولا خير فيه بالمرة، شر من الثعالب والذئاب، بل من السباع والكلاب! قد تقول: يا شيخ! بالغت. فأقول: أما قال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] ؟ حكم من هذا؟ حكم خالقهم، شر الخليقة على الإطلاق! وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-08-05, 08:08 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (10)
الحلقة (17)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (107)

من أحكام الطلاق التي شرعها الله عز وجل أن المرأة تتربص بنفسها ثلاثة قروء، فإن كان طلاقها رجعياً وراجعها الزوج خلال هذه المدة فيبقى بينهما حكم الزوجية ويستمر العقد، وإن لم يراجعها انفسخ عقده واحتاج لمراجعتها إلى عقد جديد، أما إذا طلقها في مدة الحمل فإن مدتها هي وضعها لحملها، فإن راجعها في مدة الحمل وإلا انفسخ عقده كما في السابق.

تابع تفسير قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء...)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة )، وها أنتم تشاهدونها، ( وغشيتهم الرحمة )، وهي مشاهدة، ( وحفتهم الملائكة ) وحقاً إنهم يحفون بهذه الحلقة، ( وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله! ولنذكر أيضاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )، فالحمد لله .. الحمد لله!
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وجوب الفيء أو الطلاق بعد تمام الأربعة أشهر

معشر المستمعين والمستمعات! بعد الآيات التي عرفنا بها ومنها حكم الإيلاء في الإسلام، وهو قول الله عز وجل: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227]؛ علمنا أن من حلف ألا يجامع امرأته فإن جامعها وكفر عن يمينه فخير له، وإن أصر على يمينه الشهر والشهرين والثلاثة والأربعة، فعندما يكتمل الشهر الرابع إما أن يرجع إلى زوجته يجامعها ويكفر عن يمينه، وإما تطلق عن طريق القاضي رغم أنفه.واسمع النص: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [البقرة:226] أي: يحلفون ألا يطئوهن، تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226] والمرأة صابرة، فإن تمت الأربعة فإما أن يفيء إليها ويرجع أو يطلق، لا تبقى أمة الله محرومة معذبة، فمن رحمها؟ الله مولاها ومولى المؤمنين والمؤمنات. لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226] أي: رجعوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227].وتذكرون أن عمر رضي الله عنه سأل حفصة : ما هي المدة التي يمكن للمرأة أن تصبر عن زوجها؟ قالت: تصبر شهرين، وفي الثالث يقل صبرها ويضعف، وفي الرابع ينفد صبرها؛ فأصدر أمره إلى قادة الجيوش الغزاة الفاتحين في الشرق والغرب أن من أقام في المعسكر أربعة أشهر يجب أن يعود إلى أهله.هل عرفت الدنيا هذا؟! من بقي في الجهاد بعيداً عن أهله أربعة أشهر يعطى رخصة رسمية بأن يعود إلى أهله، هذه هي عدالة عمر ! سأل ابنته وأمه، وهل هي ابنته وأمه؟ حفصة بنت عمر زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، أليست أم المؤمنين؟ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6]، وكانت من العلم بمكان، كيف لا وجبريل يتردد على بيتها، والرسول يتكلم عندها، فكيف لا تعلم؟ فأعطته هذه الحقيقة، أن المرأة تصبر عن زوجها شهرين بلا تأزم، وفي الشهر الثالث يقل صبرها، وفي الرابع ينتهي وينفد، ومن ثم شرعها عمر وسن وقنن بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ).

وجوب اعتداد المطلقة ثلاثة قروء

بعد هذا قال تعالى: وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228].كلام من هذا؟ من يقوى ومن يقدر على أن يقول هذا؟ هذا كلام الله رب العالمين، لو تجتمع البشرية كلها على أن تقول هذه الجمل فوالله ما استطاعت، ولا وصلت إليها، فآمنا بالله! هذا هو القرآن الكريم.اسمع: وَالْمُطَلَّقَا تُ [البقرة:228] صيغة خبرية ومعناها الإنشاء، والمطلقات: جمع مطلقة، كانت مربوطة بعهد وميثاق، بعقد، فمن طلقها؟ المطلقة طلقها الفحل، الزوج، أو طلقها القاضي، إذا غاب الزوج غاب أو حرمها حقوقها وآذاها فالقاضي يطلق. يَتَرَبَّصْنَ [البقرة:228] التربص: الانتظار، كم تنتظر؟ قال: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، وهنا خذ هذه الفائدة وحافظ عليها، وجل السامعين لا إخالهم يعترضون. ففد عرفنا من الدرس السابق معنى القرء، فالقرء: مأخوذ من القرء الذي هو الجمع، فالدم يتجمع في الرحم إذا كانت المرأة غير حامل، ثم يفيض ويخرج بتدبير الله عز وجل، إذ هذا الدم تفرزه تلك الشرايين والأعضاء من أجل غذاء الجنين في رحم أمه، فإذا انعدم الجنين يتجمع الدم ويخرج في الشهر مرة.فلفظ القرء اختلف العلماء في حقيقته: هل هو الطهر أو الحيض؟ فـمالك رحمه الله ومن تابعه يرون أن الأقراء هي الأطهار، وغير مالك كـأحمد وغيره يرون أنها الحيض؛ فلفظ القرء صالح للطهر والحيض فترة معينة، فمن الفقهاء من قال: المطلقة تعتد بثلاثة أطهار.

أنموذج الطلاق الشرعي

مثلاً: حين يطلق الرجل امرأته عندما يعلم أنه آذاها وهي مؤمنة، ولا يحل لمؤمن أن يؤذي مؤمنة، أو علم بمرور الأيام أن بقاءها فيه أذى لها وضرر يصيب هذه المؤمنة وهي أخته في الإسلام، أو رأى أن بقاءها معه أدخل عليه ضرراً وأذىً ما أطاقه، وهو عبد الله ووليه ما يرضى الله له الأذى ولا الضرر، عندما يتأكد من وجود الضرر وأنه لا يدفع إلا بالطلاق فإنه يطلق. وهل المؤمنون اليوم يشعرون بهذا الشعور؟ ولا واحد في المليون! لم؟ لأننا ما ربينا في مثل هذه الحلق النورانية، لا نساؤنا ولا رجالنا، فمن أين يأتينا هذا النور ونحن مبعدون عن ساحاته إبعاداً كاملاً، يعيش الرجل ستين سنة ما يجلس جلسة كهذه ولا يعرفها! من أين يعلم؟ أيوحى إليه؟ لا والله، فقد ختمت النبوات بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.هل في الإمكان أن تعيش مع تلك المؤمنة -سواء من أقربائك أو من غيرهم- على أنها أختك في الإيمان والإسلام، وأن أذاها حرام، وأن أذاك أنت محرم، والرسول يقول: ( لا ضرر ولا ضرار )، تعيش معها، فإذا شاهدت منها الأذى قد أصابك، أضر بك، أضاع حياتك؛ فاصبر وعظها، علمها، خوفها، بين لها، فإذا وجدتها لا تدفع الضرر عنك؛ فأنت عبد الله ووليه ما يحملك مولاك على أن تبقى محروماً في أذى وضرر أبداً.إذاً: تريد أن تطلقها، انتظرها حتى تحيض، فإذا حاضت وانتهت الحيضة واغتسلت أخذت تصلي وتصوم فقبل أن تطأها قبل أن تجامعها أشهد اثنين وائت بهما إلى المنزل: أشهدكما أني طلقت فلانة. فهذه الطلقة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

لزوم بقاء المطلقة الرجعية في بيت الزوجية

وتبقى في بيتها لا تخرجها، لأن المطلقة طلاقاً رجعياً كالزوجة، بحيث لو ماتت ورثتها، لو مت أنت ورثتك، ولا يحل خطبتها ولا التزوج بها إجماعاً، هي في حكم الزوجة، تنتظر أمر الله، فإن تراجع الزوج وندم وأقبل على إرجاعها فحسبه أن يقول: يا فلان وفلان! أشهدكما أني راجعت زوجتي. لا عقد ولا مهر ولا وليمة.فإن أبى أن يراجعها فهي في بيته تنام وتأكل وتشرب وتصلي، ولا ينظر إليها، ولا يكلمها إلا بما لا بد منه، لأنها أصبحت أجنبية مطلقة، أما لو جامعها بدون نية المراجعة فلا يقام عليه الحد للشبهة، وهو آثم، إلا إذا جامعها بنية إرجاعها فلا حرج.فإن آذت أمه إخوانه أولاده أو أحدثت حدثاً سيئاً فأتت بفاحشة؛ فلا بأس أن يذهب بها إلى أهلها؛ لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19] حينئذ يقول: امشي إلى أهلك فأكملي عدتك في بيت أبيك أو أمك، فإذا انقضت عدتها انتهت وبانت منه، ولو أراد أن يتزوجها فيحتاج إلى خطبة ومهر جديد ورضاها وموافقتها، نكاح كأنه أول مرة.فلم طلقها؟ دفعاً للضرر الذي أصابه ولحقه منها، أذن له مولاه في طلاقها، وإذا كانت هي المتأذية المحرومة المكروبة لما في نفسها، ما أطاقت الحياة؛ فالفحل المؤمن إذا نظر إلى ذلك وتأكد منه قال: كيف تعيش هذه المؤمنة في كرب؟ ما لي ولها؟! فيشهد اثنين على طلاقها ويطلقها؛ حتى لا تكرب ولا تحزن وهي مؤمنة تؤمن بالله ولقائه.

نظرة في المصالح المترتبة على الخلاف في معنى القرء

نعود إلى مالك حيث رأى أن تعتد بالأطهار، قال: لأن المدة تصبح قصيرة، فإذا طلقها في طهر لم يمسها فيه فهذا طهر الآن، ثم حاضت حيضة جديدة وطهرت، فهنا طهران، ثم حاضت، فهذه الحيضة الثانية، ثم طهرت، فحلت وانتهت، في ثلاثة أطهار، وبالحيض تصبح أربعة أطهار.إذا قلنا: يطلقها بالحيض فإذا أكملت ثلاث حيض طلقها، أولاً: يطلقها في طهر وهذه الفترة غير محسوبة، بعد الطهر تحيض حيضة أولى ويأتي طهر ثان، ثم تحيض حيضة ثانية، ثم يأتي طهر ثالث، ثم تحيض حيضة ثالثة وتنتهي، فهذه المدة أطول أم لا؟ والذي فتح الله به علينا أنه لا فرق بين ما رآه مالك ولا الشافعي ولا أحمد ؛ لم؟ لأن الزوج أيضاً في صالحه أن تطول المدة، ينتفع بها، قد يندم ويراجعها، فطول المدة أيضاً في صالح الزوج.والآخر رأى أن قصرها في صالح الزوجة حتى تتزوج؛ لأنه إذا تمت عدتها تتزوج من غد، فنقول: النظريتان صالحتان، ولهذا إن شئت اعتدت زوجتك بالأطهار أو بالحيض، سبحان الله العظيم! فكلام الله حمال الوجوه كما قال علي رضي الله عنه.

حرمة كتمان المطلقة ما في رحمها من حيض أو حمل

إذاً: اسمعوا الآية: وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] ثلاثة حيض، ثلاثة أطهار، الكل صالح، وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228] حرام على المؤمنة المطلقة أن تجحد الحيضة الحمل في بطنها، وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ [البقرة:228] أي: يجحدن مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228] قد تكتم الحيض أم لا؟ قد تقول: حضت أربع مرات، أنا أريد أن أراجعها فقالت: انتهت العدة؛ حضت ثلاث مرات، حتى تتخلص منه، ما تعطيه فرصة، فجائز أن تكتم هذا أم لا؟ أو ما حاضت وأراد أن يراجعها فتقول: حضت أربع حيضات أو ثلاثاً. أو يكون في بطنها جنين ابن شهرين أو ثلاثة فتطلق فتجحده وتقول: ما عندها حمل، وإنها قد اعتدت بالحيض، وتتزوج وتنسب الولد إلى غير أبيه! قد تكون على اتفاق مع رجل فاسق.فقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228] من الحيض والحمل، حرام أن تكتم عدد الحيضات، أو تكتم الحمل وهو في بطنها.واللطيفة هي في قوله تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228] لأن هذا غيب لا يعلمه إلا الله، تستطيع أن تقول: أنا حضت أربع مرات، ومن يعرف؟! الطبيب ما له شأن في هذا، قد تقول: ما عندي حمل، ومن يدري؟ لكن الله تعالى يدري، فمن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر لا تكتم وتجحد هذا الحق لصالحها وهواها، فهذه موعظة ربانية: إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر. فقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ [البقرة:228] أي: للمطلقات أَنْ يَكْتُمْنَ [البقرة:228] أي: يجحدن ما في بطونهن، إما الحيض فتدعي أنها حاضت ثلاثاً، أو تدعي أنها ما حاضت، أو ما في بطنها من حمل شعرت به، وتنقله إلى زوج آخر والعياذ بالله!

معنى قوله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
وقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] بقيد إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] الله أكبر! والبعولة: جمع بعل، أزواجهن أحق بردهن وإرجاعهن في العدة، وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] أي: في ذلك الزمن زمن الطلاق، وكلمة (أحق) معناه: أن لها هي حقاً أيضاً، لكن هو حقه أعظم، فإذا كانت مظلومة حيث أساء إليها ودمرها وأشقاها في حياتها فإنها تريد ألا ترجع إليه، وتطالب بعدم الرجعة؛ لأن لها حقاً، لكن حقه هو مقدم على حقها.فقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ [البقرة:228] بماذا؟ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] الانتظار بالحيض أو الأطهار، والقيد العجيب: إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، أما أن تردها فقط لتعذبها فحرام هذا، أو تريد هي أن ترجع إليك أيضاً لتكيد لك وتمكر بك فحرام هذا، لا بد عند الرجعة أن يكون الزوج يريد الخير، وهي تريد الخير أيضاً لها ولزوجها، فلا إله إلا الله! وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، أما إن أرادوا الأذى والضرر لبعضهم فلا يحل، لا ترجع إليه ولا ترد إليه.

معنى قوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)

ثم قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، أي: للزوج على زوجته حق بالمعروف، وللزوجة على زوجها حق بالمعروف، من أبرز ذلك: أنك تحب من زوجتك أن تتزين لك أم لا؟ فهي أيضاً تحب أن تتزين لها، فتزين أنت لها، لا أن تكون أشعث أغبر وتريد أن تكون هي كالحور العين، فأنت اغتسل وتنظف وتطيب والبس ثوباً نظيفاً وكن ذا رائحته طيبة كما تحب منها أن تفعل ذلك. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، تحب أن تقول لك: يا سيد! كيف أصبحت؟ فقل لها: يا سيدة! كيف أصبحت؟ تريد أن توقظك للصلاة، فأيقظها هي أيضاً للصلاة، المعروف الذي تحبه منها أعطها مثله أنت أيضاً، بالعدالة: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، والمعروف: ضد المنكر، ما أذن الله فيه وأباحه من الخير هو المعروف.

معنى قوله تعالى: (وللرجال عليهن درجة)

وأخيراً تختم الآية بقوله تعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، فالذي يطالب بالمساواة بين المرأة والرجل كافر لم يبق له حظ في الإسلام، كيف؟! الله يقول: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228] سامية وعالية، أليس هو الذي يحميها؟ أليس الذي هو يكسوها؟ أليس الذي يداويها؟ أليس الذي يطعمها ويسقيها؟ وهي ماذا قدمت؟ ارتفعت درجته أم لا؟ أليس هو الذي يجاهد وهي في البيت؟ أليس هو الذي يحضر الجمعة والجماعة وهي في بيتها؟ درجة ظاهرة كالشمس. وفي نفس الخَلق والخُلق أيضاً، فخَلق الرجل الفحل أقوى من خلق المرأة، قل للمرأة: ارفعي قنطاراً على رأسك أو على كتفيك فستتحطم في الأرض، والفحل يرفع القنطار، قل لها: امشي خمسين كيلو على رجليك فستعجز في الطريق، والفحل يمشي مائة كيلو، ففرق بينهما في الذات.فالذي يقول: المساواة ديوث، يهودي أو نصراني، وسبحان الله! قرأنا سورة التحريم من الطفولة منذ سبعين سنة وزيادة، ونحن نسمع قول الله عز وجل: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا [التحريم:10] الآية، فما فكرنا ولا وقع في نفوسنا شيء حتى صلى إمام المسجد الشيخ إبراهيم صلاة الصبح، فلما قال: كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ [التحريم:10] اندهشت؛ فهل قال: (تحت) أم (فوق)؟ هل تحت عبدين أو مساويتين لهما؟ فمن ثم صرخنا وقلنا: الذي يطالب بمساواة المرأة مع الرجل كافر؛ كذب الله عز وجل ورد قانونه وشرعه من أجل الهوى وتقليد الملاحدة والذين لا دين لهم ولا عقول. فالله تعالى يقول: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، فمن أعطاهم إياها؟ الله ربهم ورب النساء، ما أخذوها بالقوة.

معنى قوله تعالى: (والله عزيز حكيم)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

واسمع ختام الآية: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]، طأطئ رأسك يا عبد الله، فالله تعالى الواهب هذا الخير عَزِيزٌ [البقرة:228] لا يغالب ولا يُغلب أبداً، فانتبه، حَكِيمٌ [البقرة:228] في تشريعه، والله! لا يخطئ، ولن يخرج من تشريعه أبداً سوى الصلاح والخير والرحمة والهدى، هذا ما هو تشريع أحمق أو جاهل، بل تشريع حكيم يضع كل شيء في موضعه.وقد قلنا ونقول آلاف المرات: أعطونا قضية من قضايا الإسلام ثبتت بالكتاب والسنة، ثم اجمع علماء البشر كلهم بفلاسفتهم لينقضوها، والله! ما تنقض، أقسم بالله! ما تنقض على مرور الزمان، فقد نزلت الآيات منذ ألف وأربعمائة سنة، وانتظر أربعة آلاف سنة، فوالله! ما ينقض كمالها ولا مراد الله منها، فقولوا: آمنا بالله.
تربص العدو بالمسلمين وسعيه في إبعادهم عن القرآن
هذا هو القرآن العظيم، هذا القرآن تعليم تشريع سياسة آداب أخلاق، فلم يقرؤه المسلمون على الموتى؟ لأنهم ماتوا، هذا القرآن هل يقرأ على الموتى؟ لا يجوز، هذا عبث، هذا كتاب هداية وتعليم تقرؤه على ميت! هل الميت يقوم يصلي ويتوب؟! عق أمه هل يقوم يقبل رأسها؟! انتهى أمره، فماذا تقرأ عليه أنت؟! من مكر بالمسلمين هذه المكرة؟الثالوث الأسود، هل تدرون أن هذا الثالوث مكون من ثلاث طوام أو عفاريت؟ أولهم: اليهود، ثانيهم: المجوس، ثالثهم: النصارى، اجتمعوا وأنتم ما تعرفون عنهم، نحلف لكم بالله، والله العظيم! لهم الذين ضربوا هذه الأمة وأنزلوها من علياء سمائها إلى الحضيض من الأرض، وما زالوا متعاونين إلى اليوم، نظروا بعد حروب خاضوها أنهم يفشلون، وبعد مكر وكيد ومؤامرات ما استطاعوا أن يفلحوا، فبحثوا عن السر، ما سر هذه العصمة والقوة التي لا تقهر؟ قالوا: السر هو القرآن، ووالله! لقد صدقوا؛ القرآن روح ولا حياة بدون الروح، أما سمعت الله تعالى يقول: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] ين أو مساويتين َبْدَيْنِ ُم، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [غافر:15]، فالقرآن روح.كانت هذه الأمة في ديارها ميتة فأحياها الله بالقرآن فعزت وكملت وسادت وطهرت، فقالوا: إذاً: هيا نسلب القرآن منها لتموت، فعملوا في مؤتمرات سرية على إسقاط كلمة (قل) فما استطاعوا، القرآن يحفظه النساء والرجال في البادية والحاضرة، كيف نسقط منه كلمة؟ فعجزوا.فقالوا: نحتال عليهم ونبعد القرآن من بينهم ونحوله إلى الموتى. ونجحوا، فمن إندونيسيا إلى موريتانيا قبل هذه الإفاقة الجديدة منذ خمسين سنة إذا مررت بزقاق أو شارع ضيق وسمعت القرآن يقرأ فاعلم أن الميت هناك، على طول الخط، حتى إن نقابة في بلد إسلامي كانت مختصة بهذه، تقول: يا سيد! توفي الوالد اليوم فنريد عشرة من طلبة القرآن، فيقول: من فئة المائة ليرة أو الخمسين؟ إذا كان فقيراً فمن فئة خمسين، والغني من فئة المائة! وأبعدت هذه الأمة عن القرآن بعداً كاملاً، لا يدرّس ولا يجتمع عليه، وحولوه إلى الموتى في المقابر وفي البيوت، وقبل هذه الدولة المباركة كان في الروضة يجتمع القراء يقرءون ختمة على سيدي فلان بألف ريال للواحد!وقالوا: القرآن تفسيره صوابه خطأ وخطؤه كفر، فألجموا العلماء وما أصبح من يقول: قال الله، إياك أن تقول: قال الله؛ فالقرآن فيه الناسخ والمنسوخ، وفيه الخاص والعام فلا تتكلم، فألجموا العالم الإسلامي بحيث لا يقول الرجل مستشهداً بأمر أو نهي: قال الله أبداً، ومن أراد أن يقف على هذه فعند أصحاب الفقه المالكي في حاشية الحطاب على خليل سيجدها، قالوا: التفسير صوابه خطأ، إن فسرت القرآن وأصبت فأنت مخطئ، وإن أخطأت كفرت، إذاً: من يقول قال الله؟! من يقدم على هذا؟!وأخيراً: نجحوا، وما الدليل؟ أما استعمرتنا هولندا في إندونيسيا ونحن مائة مليون؟ أما استعمرت ممالك الهند العظيمة الطويلة بريطانيا؟ والشرق الأوسط شمال أفريقيا أما استعمرته بريطانيا وفرنسا وإيطاليا؟ كيف تم هذا؟ بعدما قتلونا وسلبوا الروح، فإنا لله وإنا إليه راجعون! هل من إفاقة؟من منكم إذا فرغ من العمل مع إخوانه في المصنع في الدائرة وتوضئوا وأرادوا أن يصلوا يقول لأخيه: أسمعني شيئاً من القرآن؟ لا أحد، أو يجلس في المسجد ينتظر الصلاة فيمر به المؤمن فيقول له: أنت تحسن القرآن؟ قال: نعم، قال: من فضلك اقرأ علي شيئاً من القرآن؛ فنسمع ونبكي؟ لا أحد.ما زالت تلك الصفعة قائمة، كل ما في الأمر أنه أصبح يوجد من يفسر القرآن لا أقل ولا أكثر، يقول: قال الله وقال رسوله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

ملخص لما جاء في تفسير الآية

أعيد تلاوة الآية وننتقل إلى غيرها، فاسمع: وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض، كله صالح بإذن الله، وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228] من حيض أو ولد؛ إذ الخالق هو الله، هل هناك من يخلق الجنين غير الله؟! إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228]، فالذي لا يؤمن بالله ولقائه شر الخليقة؛ لأن تأوي إلى ثعبان وتتوسده وتنام فقد تسلم منه، وإن أنت نمت إلى جنب رجل لا يؤمن بالله ولقائه فلا تسلم منه، إذا احتاج إلى دمك فإنه يمتصه، إلى عينك فإنه يفقؤها، أما عن نزع ساعتك من يدك أو نقودك من جيبك فلا تسل، فالذي لا يؤمن بالله ولقائه هبط وأصبح شر الخليقة وإن كان أبيض أو ما كان، واسمعوا قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، من أخبر بهذا الخبر؟ الله تعالى. ومن أعلم من الله؟ لا أحد، فشر الخليقة هم الكفار والمشركون. وقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228]، من طلق امرأته وما زالت في عدتها هل هناك من هو أحق بها منه؟ لا أحد، لا يحل خطبتها حتى بالإشارة.وقوله تعالى: إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، إذا كنت تريد أن تردها فيجب أن تكون على نية وعزم صادق أنك تردها لتسعد معك وتسعد بها، لا أن تشقيها بالأذى والسب والشتم والتعذيب، وهي كذلك إذا أرادت أن ترجع وطالبت بالرجوع فيجب أن تكون تريد الإصلاح والخير لزوجها وأولادها، هذا شأن المؤمنين والمؤمنات إن أرادوا إصلاحاً.وقوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، لهن على أزواجهن مثل الذي للأزواج عليهن، عدالة، وقد بينا مظاهرها، منها: أنك تحب أن تتجمل لك، فتجمل أنت لها. وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، من رفعهم هذه الدرجة؟ مولاهم خالقهم. وَاللَّهُ عَزِيزٌ [البقرة:228]، فخافوا ارهبوا لا تخرجوا عن طاعته وتتمردوا على قوانينيه؛ فإنه قادر على أن يشقي ويعذب، وكم فعل. حَكِيمٌ [البقرة:228] في كل ما يضع، والله! ما أباح شيئاً إلا لفائدة، ولا حرّم شيئاً إلا لنقصان وخسران، احلف بالله مليون مرة! ما فرض الله فريضة إلا لصالح الإنسان، ولا حرم حراماً إلا لصالح الإنسان في كل جزئيات الحياة.

وقفة مع قوله تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ...)

ثم قال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، كم طلقة يطلق الفحل امرأته؟ طلقتان فقط، يطلقها المرة الأولى ثم يراجعها فهذه طلقها، ثم يطلقها الثانية ويراجعها فهذه طلقتان، وفي الأخيرة الفصل، حتى إن أحد الأصحاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: الله يقول: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، فأين الطلقة الثالثة؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، هي الطلقة الثالثة، في الطلقة الأولى يراجعها قبل نهاية العدة وله ذلك، راجعها وعاش معها شهراً أو سنين وطلقها طلقة ثانية، فإنه يراجعها، ثم إذا راجعها وعاش معها ينتبه إن هو طلقها لا تحل له أبداً حتى تنكح زوجاً غيره.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-08-07, 12:55 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (11)
الحلقة (18)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (108)


من أحكام الطلاق التي شرعها الله أن من طلق زوجه طلقة أو طلقتين فله أن يراجعها في العدة، وهو أحق بها من غيره، أما إذا انقضت عدتها دون أن يراجعها فينفسخ عده، ويجوز له كسائر الرجال أن يتزوجها بعقد جديد مستوف للشروط، أما إن طلقها طلقة ثالثة فإنها لا تحل له حتى تتزوج برجل آخر، فإن طلقها الثاني جاز للأول الزواج بها بعقد جديد مستوف للشروط.

تفسير قوله تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيها المؤمنات المتسمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا المأمول يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.وها نحن مع هذه الآية المباركة الكريمة، ولعلنا نضيف إليها أختها.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [البقرة:229-230]، اللهم اجعلنا منهم.
دلالة القرآن على عظمة الله تعالى وبيان تنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من القائل: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ ؟ إنه الله تعالى الذي خلقنا ورزقنا ودبر حياتنا، الذي وهبنا عقولنا وأسماعنا وأبصارنا، الذي أوجدنا من العدم فأحيانا وغداً يميتنا وبعده يحيينا، الذي رفع السماوات الطباق وبسط الأرض ونصب عليها الجبال وأجرى فيها المياه والأنهار، هذا الذي خلق كل شيء من النملة إلى المجرة، هذا هو الله ربنا ورب العالمين، وهذا كلامه، فهو خالق الكلام فكيف لا يتكلم؟! لولاه لما تكلم متكلم أو نطق ناطق.فهذا كلامه أنزله على الرسول صلى الله عليه وسلم، أنزله على مصطفاه ومجتباه ومن اختاره وكمّله وأعده لأن يتلقى وحيه، هذا الذي أنزل عليه كتابه الحاوي لهاتين الآيتين هو محمد صلى الله عليه وسلم، أين كان يوجد هذا النبي؟ في جزيرة العرب، ما هي البلدة التي كان ولد فيها؟ مكة، وانتقل منها إلى مدينة أخرى هي المدينة النبوية، وأين هو الآن؟ هناك والله في الحجرة الشريفة، ومن أراد أن يشرف بالسلام عليه فليتفضل فيدنو من حجرته ويقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، وينصرف، فإن فعل فإنه -والله- يسمعه.والحمد لله؛ فنحن معه لا نفارقه، عندما نصلي النافلة أو الفريضة ونجلس بين يدي الله ونقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فتبلغه فيسمعها فوراً، والحمد لله؛ كان أسلافنا يؤمنون بهذا، لكن لا يدركون كيف، أنت في الشرق أو الغرب وهو في السموات العلا ويبلغه سلامك، ولما توفي صلى الله عليه وسلم قال بعض الصحابة: الآن لا نقول: السلام عليك يا أيها النبي، كنا نقول: أيها النبي ما دام بين أيدينا، الآن لا معنى لهذا، نقول: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، فقال كبار العلماء: اسكتوا! ما هو بشأنكم هذا، فقد قال لنا: قولوا، فيجب أن نقول. وتمضي الأيام ولياليها والقرون والآن أصبح الذي يكذّب هذا أحمق، بدليل أننا في بيوتنا نتكلم مع الصين واليابان ومع كندا والأمريكان وهم يسمعونك وأنت تسمعهم، فهل تكذّب؟! ما هي الخيوط هذه؟ كيف وصل هذا؟! قولوا: آمنا بالله. فاسمعوا وبلغوا: إنها -والله- لفرصة ضيقة وعما قريب لا تقبل توبة تائب؛ لأن الإيمان يكون بالغيب، أما بالشهادة فليس بإيمان، هل تقول: أنا مؤمن بأننا في المسجد النبوي؟ الذي يقول هذا مجنون، فالإيمان بما غاب عنك، فالآن -والله- إنها لفرصة ضيّقة، وسيأتي يوم المؤمن مؤمن والكافر كافر، ما تقبل توبة ولا رجوع، انتهى الأمر وختم على الكتاب؛ إذ قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ [الأنعام:158]، هؤلاء المتباطئون الذين يترددون، يقال: ادخلوا في الإسلام فيقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى، ما ينتظرون؟ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنعام:158] فيؤمنوا، أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام:158] فيؤمنوا، أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158] فيؤمنوا، يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، هذه من سورة الأنعام: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام:158]، فكم مضى على هذه الآية؟ ألف وأربعمائة سنة، والغيوب تتكشف.إذاً: معشر المستمعين! الآن الذي يكفر لا قيمة له، ما له وزن، بأي شيء تكذب؟

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
معنى كون الطلاق مرتين

فهيا مع الآيتين الكريمتين، يقول تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229] لا ثالثة لهما، كيف يتم هذا؟ المؤمن الفحل الواعي البصير المسلم بحق إذا تأذت منه امرأته وما طاقت وعرف أن حياتها كدر لا صفو فيها وشقاء فلا سعادة لها؛ فإنه يقول: يا مؤمنة! ما أريد لك البلاء والشقاء، وأنت أختي وأنا أخوك، فلكي ترتاح وتسعد يأتي باثنين يقول: اجلسا واشربا الشاي أو القهوة، ثم يقول: اسمعا: يا أم فلان! لقد طلقتك، واشهد يا فلان ويا فلان، وابقي في بيتك ثلاثة أقراء، فإذا فرغت فالتحقي بأهلك، وداعاً يا مؤمنة، هل عرفتم هذا الطلاق؟أو هو يتأذى من هذه المؤمنة لسوء خلقها، لفساد عشرتها، ما أطاق، كل يوم في أذى وهو ولي الله وعبده ما يرضى مولاه له بالأذى والشقاء، فحاول وحاول في عام أو عامين فما استطاع، رأى أن خلاصه من هذا البلاء والفتنة في طلاق هذه المؤمنة، لا يسيء إليها ولا يضرب ولا يكسّر رأسها، يشهد اثنين ويقول: لقد طلقت فلانة، فالزمي بيتك يا فلانة حتى تنتهي عدتك ثلاثة أقراء، فإن انتهت فما عليك إلا الذهاب إلى أهلك. فهل عرفتم الطلاق؟ هل المسلمون يفعلون هذا؟ وا حر قلباه؛ لأننا ما جلسنا هذه المجالس ولا رُبينا في حجور الصالحين، مشغولون باللهو والباطل، لو كنا مشغولين في المصانع والمزارع والإنتاج الليل والنهار لهان الأمر، لكن أوقاتنا كلها في الفراغ، مجالس الليل في اللهو، وما نستطيع أن نجلس جلسة كهذه؛ لأن الشيطان يدفع، فما يستطيع.فإذا طلق قلنا: طلقتها يا عبد الله؟ قال: نعم، هل انتهت العدة أو ما زالت؟ قال: ما زالت، هل تريد أن تراجعها حيث ندمت فما رأيت خيراً في طلاقها؟ إذاً ائت باثنين وقل: أشهدكما أني راجعت فلانة، طلقتها وراجعتها، فتبقى معك، فإن ما أطقت العذاب أو الشقاء لك أو لها بعد ذلك أيضاً وما صبرت فطلقها طلقة ثانية وانتهى الأمر.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
الأمر بإمساك المطلقة الرجعية بالمعروف أو تسريحها بإحسان

الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، وبعد المرتين فإما أن تمسكها بمعروف أو تطلقها بإحسان ومع السلامة إلى يوم القيامة. الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، فبعد المرتين أمسكها بإحسان لا بإساءة لك ولا لها؛ لأن مولاكما ما يرضى بالإساءة لكما، ألستما من أوليائه؟ إذاً: أمسكها بالمعروف، الإحسان في المعاشرة، بالأدب، بالرحمة، بالأخلاق، بالتعاون أنت وهي كذلك، وإلا فتسريح بإحسان، سرّحها بإحسان ما فيه إساءة: يا فلانة! مع السلامة، خذي متاعك وبقية مهرك وخذي أثاثك في البيت، وأستودعك الله عز وجل.وأما الإساءة فكقوله: يا كلبة! يا منتنة! يا فاجرة! وإذا سئل عنها قال: هي خبيثة. أعوذ بالله.. أعوذ بالله! أيجوز هذا من مؤمن ومؤمنة؟ وهو واقع، لأنهم ما عرفوا، فالسبب الجهل، ومتى نتعلم؟ في سنة واحدة، هيا إلى دورة تدوم سنة فقط ندرس فيها كتاب الله وهدي الرسول بنسائنا وأطفالنا، فسنة واحدة وكلنا ربانيون، ولكن ما عندنا قدرة على هذا، ما نستطيع.فالطلاق مرتان، وبعد ذلك أمسكها؛ لأنك رجعت بعد الثانية فأمسكها بمعروف لا بمنكر وباطل وشر، أو سرحها بإحسان لا بإساءة بالسب والشتم وأخذ حقها وما إلى ذلك، هكذا يقول تعالى مقرراً هذه الحقيقة في تشريعه الحكيم: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229].

معنى قوله تعالى: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ...)

ثم يقول تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [البقرة:229]، أيها المطلقون! أيها الفحول! إذا طلقت المرأة فحرام عليك أن تأخذ مما أعطيتها شيئاً ولو قل، تسلم لها مهرها كاملاً، وما كان من أثاث لها تأخذه كاملاً، وما وهبتها من ذهب أو حرير تأخذه كاملاً، وَلا يَحِلُّ لَكُمْ [البقرة:229] أيها المطلقون أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [البقرة:229] وإن كان إبرة؛ لأن التنكير في صيغة النهي يدل على العموم.ثم قال تعالى: إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:229]، إلا أن يخاف الزوج وزوجه، المرأة وبعلها خافا ألا يقيما حدود الله، أي: بأن يسقطاها ويتعداها ويهلكا، فذاك شيء آخر، قال في بيانه: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، هذه المؤمنة أنت تحبها وأنت تحسن إليها وما أسأت إليها أبداً وهي كارهتك، ما أطاعتك ما أطاقت البقاء معك يا فحل، خافت من الله أن تقصر في حقك وأن تسيء عشرتك، فتقول: يا سيد! من فضلك خذ ما أعطيتنيه كاملاً وسرحني؛ لأني أخشى أن أؤذيك أن أعكر صفو حياتك، أن أنغص عيشك، ما أطيق، أنا مؤمنة وأنت أخي، إذاً: أنت أنفقت علي ما أنفقت فخذه واتركني، فهذا تشريع من هذا؟ تشريع الله، فسبحان الله العظيم!

معنى قوله تعالى: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به)

اسمع: فَإِنْ خِفْتُمْ [البقرة:229] أيها القضاة، أيها الأولياء، أيها المسئولون، أيها العلماء، أَلَّا يُقِيمَا [البقرة:229] أي: الزوج والزوجة حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:229] بأن يتعدياها أو يسقطاها -والله ما يريد ذلك- فعندكم رخصة من الله فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [البقرة:229] يعني: الزوجين، فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229] تفدي نفسها، الزوج يريدها وراغب فيها وأحسن إليها وما أساء وهي كرهت وما أطاقت، ماذا تصنع؟ إذاً: تفدي نفسها بأن تقول: خذ ما أعطيتني من مهر أو ما أنفقت علي وسرحني لوجه الله حتى ما أؤذيك أو أبقى شقية معك وأنت ما تريد هذا؛ لأنني مؤمنة وأنت مؤمن، فيستلم منها ذاك المبلغ ومع السلامة، هذا يسمى بالخلع، خلعها منه وفصلها، هي التي طالبت وليس هو، هو يبكي ما يريد غيرها، ولكن هي -بقضاء الله وقدره- أرادت أن تنهي هذا النكاح، وما ذنب الرجل؟ لا ذنب له، ما آذاها، لو آذاها لتطالب بالفداء فحرام عليه أن يأكل ريالاً واحداً، فالآن هذا الزوج ما آذاها أحسن إليها أكرمها فرح بها، لكن هي انصرف قلبها فما أطاقته، فتطالب بالفداء، أذن الله لها ذلك، فتأخذ منها ما أنفقت عليها وسرحها واخلعها وافصلها عنك.

حكم عدة المختلعة

فإذا خرجت من بيتك فالخلاف بين أئمة الإسلام: هل تعتد أو لا تعتد؟ بعضهم يقول: الخلع هذا انفصال لا تعتد معه، والذي هو أقرب إلى الرحمة أنها تعتد ثلاث حيض وتتزوج بعد ذلك إن شاءت؛ إذ من الجائز أن يكون في بطنها جنين.ثم هناك شيء ثان، فلو قلنا بالخلع بلا عدة لخرجت الليلة وتزوجت غداً، فأنت تموت بالهم، تقول: هذه كرهتني لهذا، فهذا الذي أفسدها علي، فخرجت مني فتزوجت به، فكيف يصبح المجتمع؟ والإسلام يعمل على أن لا تختلف كلمة المؤمنين، لا في القرية ولا العاصمة ولا في أي بلد، أمرهم واحد وشأنهم واحد، فمن هنا فالاعتداد أولى.أعيد السياق الكريم: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [البقرة:229]، عرفنا هذا، حرام عليك أن تأخذ فلساً مما أعطيت هذه المرأة حين طلقتها، اللهم إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، افتدت نفسها، أعطتك المهر الذي أعطيت والنفقة التي أنفقت ومع السلامة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (تلك حدود الله فلا تعتدوها)

ثم قال تعالى: تِلْكَ [البقرة:229]، هذه التعاليم هذه الشرائع حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:229]، قوانين الله فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]، فالطلاق مرتان لا عشر، كيف يقول: أنت طالق طالق طالق سبعين مرة، أنت طالق بالثلاث؟ أتلعب أنت أو تلهو؟! أعاقل أم مجنون؟ الله يقول: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، وتقول: لا يا رب، الطلاق سبعين! أعوذ بالله.لا تلومونا؛ لأننا جهلاء ما ربينا في حجور الصالحين، ما جلسنا مجالس العلم والنور، هذا الذي ورطنا في هذه الورطة، أنقذونا إن كنتم صادقين، هيا بنا يا أهل القرية، فمن غد لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا ولد عن الحضور في هذا المسجد، من صلاة المغرب إلى العشاء ونحن نتعلم ونتلقى الكتاب والحكمة، وطول حياتنا، فهذا وقت فراغ، فيا فلاح! ألق المسحاة! يا نجار! ألق المنشار، وهيا إلى بيت الرب الجليل، النساء وراء الستارة والفحول جالسون والأولاد بينهم وهم يتعلمون الكتاب والحكمة، وينمون ويصفون، ويرتفعون كل يوم درجة، يوماً بعد يوم وقد أصبحت القرية كالملائكة، لا كذب، لا خيانة، لا حسد، لا غش، لا باطل، لا منطق بذيء، لا سوء، أصبحوا أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لو رفعوا أكفهم إلى الله ما ردها خائبة، هل من طريق الأموال؟ لا والله، من طريق ماذا؟ لقد أسلمنا، أعط لله قلبك ووجهك، فتقبل ما يأمرك به وينهاك عنه في صدق، هذا هو الحل وإلا فالطلاق بالثلاث.

حكم طلاق الثلاث

وهنا مسألة فقهية علمية: اعلموا أن الأئمة الأربعة أئمة أهل السنة والجماعة -أما الخوارج والروافض والخارجون عن الإسلام فما لنا بهم علاقة-، الأئمة الأربعة على أن من قال لامرأته: أنت طالق بالثلاث فقد طلقت ثلاث طلقات، ومن شك فليمش إلى المحكمة حيث المذهب حنبلي ويسألهم: طلقت امرأتي بالثلاث؟ فسيقولون: انتهت أخذاً بقول الجمهور، وتذهب إلى المغرب حيث مذهب مالك فيقولون: مع الأسف انتهى أمرك، وفي تركيا مذهب أبي حنيفة ، فإن قلت: أنت طالق بالثلاث فقد انتهى، أبت طلاقك.وعلى خلاف الجمهور من الصحابة ومن التابعين وتابعيهم ومن الأئمة وإلى اليوم يوجد من أهل العلم من يقول: هذا الطلاق بدعي، ولا يعد هذا إلا طلقة واحدة؛ لأن الله تعالى قال: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، وهذا فسق وخرج عن طاعة الله وقال: طلقتك ثلاثاً، فلا قيمة لكلامه، وتعد طلقة واحدة، لأن الله بيّن ورسول الله بيّن، ولم يعرف المؤمنون إيقاع الطلاق بالثلاث إلا على عهد عمر ، أما على عهد الرسول وعهد أبي بكر وشطر من عهد عمر فكان الطلاق مرة؛ ولما كثر الجهل ومات الصحابة وجاء أولادهم سأل عمر من حوله: ما ترون؟ أنمضيه عليهم ثلاثاً تأديباً لهم؟ فقالوا: أمضة، فأمضاه ثلاثاً؛ ليؤدبهم، فما تأدبوا.فالآن الذي يقول: أنت طالق بالثلاث؛ فالذي يتفق مع الكتاب والسنة أنها طلقة واحدة، والأئمة الأربعة يوجد من تلامذتهم من هو على خلاف آرائهم، الأئمة الأربعة على جلالتهم يوجد من تلامذتهم من لا يقول برأيهم في هذا، ويقول بهذا الرأي؛ لأن الله قال: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، فكيف أنت تقول: ثلاث، هل تكذب على الله؟ لأن الزوج يطلق وينتظر العدة، قد يراجعها قبل أن تنتهي العدة، يحصل ندم فيبيت يتململ، كان يعتاد زوجته فخرجت منه، فيراجعها، فهذه فرصة أم لا؟ ثم عاد إليها وطلقها مرة ثانية، فممكن أن يتململ ويتضجر ويبكي الأطفال ويمكن أن يرجعها، وهذا من رحمة الله عز وجل، فإذا أرجعها فهو بين خيارين: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، هذا الذي أراده الله عز وجل، ولا نؤاخذ الناس بجهلهم، ونأخذ بالكتاب والسنة.

حكم طلاق الحائض والموطوءة في الطهر

هنا مسألة أخرى: أن الذي يطلق امرأته وهي حائض، أو يطلقها وهي غير حبلى فيجامعها ويطلقها، هذا الطلاق سبق أن قلت لكم: إن الجمهور على أنه نافذ وأنه بدعة وحرام، ويعاقب صاحبه، وخلاف الجمهور من أئمة العلم والبصيرة من الصحابة والتابعين وغيرهم إلى اليوم يرون هذا الطلاق بدعة ولا يعتبر طلاقاً، إذا طلقها وهي حائض أو طلقها بعد انتهاء الحيض وجامعها فممكن أن تكون حملت في تلك الليلة، فلم تطول عليها العدة تسعة أشهر؟والأصل في هذه القضية: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: يا أبت! طلقت امرأتي وهي حائض. فأخبر عمر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد الله طلق امرأته وهي حائض، فقال له: ( مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخرى، فإذا طهرت فليطلقها إن شاء قبل أن يجامعها أو يمسكها؛ فإنها العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء )، إذاً: فإذا أراد أن يطلق فليصبر حتى ينتهي حيضها وحتى تطهر، وعند ذلك إذا أراد الطلاق طلق، وإن كان لا يريد الطلاق أتى امرأته وانتهى الإشكال.قالوا: فالطلاق في الحيض أو في طهر جامع فيه بدعة ما شرعه الله ولا أذن به، والفقهاء يعاقبونه، قالوا: هو حرام وبدعة، ولكن نؤاخذه به حين يفعل هذا الباطل ليتأدب. وعلى خلافهم عدد من أهل البصيرة والعلم كلهم يقولون: هذا الطلاق بدعي لا يعد طلاقاً، فإذا أراد أن يطلق تركها حتى تطهر ولا يجامعها ويطلق، هذا هو الطريق، وأما إذا كانت حاملاً فيجوز أن يطلقها.والحاصل هنا أنه لا يحل لك أن تطلق امرأتك بدون رفع الضرر، حرام عليك أن تطلق بدون رفع الضرر عنك أو عنها، هذا أولاً.ثانياً: إن كنت تريد أن تطلقها فاتركها حتى تحيض وتطهر من حيضها وتصلي، وقبل أن تجامعها طلقها، هذا هو الطريق، تفعل هذا مرتين: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، فالثالثة إن طلقتها لن تعود إليك كما سيأتي.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)

ثم قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229]، هذا إخبار الله تعالى، وتسجيل علامة: أولئك هم الظالمون، الذين يعبثون بشرع الله ويستهزئون به ويطلقون كما يشاءون، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:229] حدّها، فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229]، وأنتم تعرفون جزاء الظالم.

تفسير قوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ...)

الآية الأخيرة: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230] بعد الاثنتين؛ فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، إذا طلق الثالثة انتهى أمرها، لا يرجع إليها ولا يتزوجها إلا بعد أن يهان ويذل ويكسر أنفه، ذلك أن زوجته ينكحها فلان ويبيت يطؤها، فهل عنده قلب أن يراها مرة أخرى؟ لا إله إلا الله! هذا تشريع الحكيم العليم.إذاً: أنت تعديت وتجاوزت الحد فهذا تأديب لك، لا يحل أن تراجعها بعقد جديد حتى ينكحها زوج آخر ثم يموت عنها أو يطلقها، وإياك أن تعمل حيلة بألف ريال تقول: هيا تزوج فلانة، قلبي معها وأنا نادم وهي كذلك، فخذ عشرة آلاف ريال واخطبها وتزوجها يومين أو ثلاثة، فهذا ديوث، عرف هذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وقال: ( لعن الله المحلل والمحلل له )، وسماه التيس المستعار، وهو ذكر المعز، نطلبه ليلقح عنزنا، هذا هو المحلل، هذا التيس المستعار، فهذا أراد الله أن يذله ويكسر أنفه؛ لأنه تعدى حدود الله وظلم وطلق بدون علم وتزوج بدون علم، هنا لا يستطيع أن يراجعها إلا بعد أن ينكحها زوج آخر ويموت عنها أو يطلقها، آمنت بالله. ‏

معنى قوله تعالى: (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله ...)

واسمع النص: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230] ذلك الزوج فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا [البقرة:230] بشرط: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:230]، أما إذا ما كان عنده جزم في القلب أنه يحسن إليها مرة ثانية وتحسن إليه فما يجوز ذلك، إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [البقرة:230]، فهيا نعلم، هل ندخل المدارس؟ ما نفعت، فماذا نصنع حتى نعلم؟ ما هو الطريق؟الطريق هو أن نراجع التاريخ لننظر إلى الأيام التي كان يعيشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذه المدينة لمدة عشر سنين، كيف كانوا يعيشون؟ كان صلى الله عليه وسلم يجمعهم ويجلس لهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، واقرءوا قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، أقسم بالله الذي لا إله غيره! لا تتم ألفة بين المسلمين ولا محبة ولا تعاون ولا صدق ولا طهارة في أية قرية في أية مدينة في العالم بأسره، لن يتم الكمال إلا على ذلك المنهج المحمدي فقط، أن نتعلم نساءً ورجالاً بدون قلم وبدون قرطاس وورق، بدون فيديو ولا شريط، أهل القرية إذا دقت الساعة السادسة توضئوا وحملوا نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، صلوا المغرب وجلسوا كلهم جلوسنا هذا، النساء وراء الستارة والرجال أمامها، وليلة آية وأخرى حديثاً، ليلة آية من كتاب الله تحفظ وتفهم ونوطن النفس على أن نعمل بما دعت إليه وفرضته طول الحياة، هذا الطريق الوحيد وبدونه -والله- ما اجتمعت كلمة المسلمين في القرية ولا في البيت، فالخلاف والغل والغش والحسد والكبر، لا تسأل عن الخبث. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، من يقول: ما البرهنة يا شيخ، ما الدليل؟الدليل: كيف كان أهل القرون الثلاثة الأولى؟ هل سادوا الدنيا أم لا؟ قادوا البشرية ثلاثة قرون أم لا؟ ماذا كانوا يعلمون؟ هل فلسفة الإغريق واليونان أو الكلام الباطل؟ لا، بل قال الله وقال رسوله، لما جهل المسلمون وخرجوا من هذه المدارس هبطوا إلى الأرض فاستعمروا واستذلوا وأهينوا من العالم، وإلى الآن هم فقراء محتاجون إلى الكفار.ودليل آخر: والله الذي لا إله غيره! لأعلمنا بالله أتقانا وأصلحنا، في أي بلد، أهل القرية أعلمهم بالله وبمحابه ومساخطه هو أتقى أهل القرية وأقلهم ظلماً أو خبثاً أو شراً، وأكثر الناس خبثاً وشراً هم الجهال. ونحن ما نعني بالعالم صاحب الدكتوراه والماجستير، ولا صاحب القلم، إنما المؤمن يجلس بين يدي أهل العلم يتعلم لعام وعامين ثلاثة بالسماع والتطبيق فيصبح من أعلم الناس، ما يحتاج إلى كتاب ولا قلم، هل كان أصحاب الرسول يكتبون ويقرءون؟أربعة أخماسهم لا يعرفون الكتابة ولا القراءة، إذ هذا العلم ما يحتاج إلا إلى أن يدخل في القلب ويطبقه في جوارحه، فعلم الصناعة والمادة والسياسة المادية اطلبه في المدارس، أما علم التربية الروحية وتهذيب الأخلاق وتزكية النفوس فهذا لن يتم إلا عن طريق قال الله.. قال رسوله صلى الله عليه وسلم. فلم لا نعمل؟ كأننا مسحورون تماماً، هيا نبدأ بالقرى والمدن، كل حي فيه جامع يتسع لأهل الحي، فأهل الحي يقولون: هيا نتعاهد من الليلة ألا نفارق مسجدنا بنسائنا وأطفالنا، نتعلم الكتاب والحكمة، قال الله وقال رسوله، فتنتهي المذهبية والفوارق والعصبيات والأحزاب، وكل هذا يمحى، فنحن مسلمون مؤمنون.اللهم اشهد فقد بلغنا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-08-08, 05:20 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (12)
الحلقة (19)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (109)

من شرع الله عز وجل في الطلاق أن من طلق زوجه دون الثالثة فإن عليها أن تعتد، وله أن يراجعها خلال فترة عدتها، فإن علم الزوج من نفسه استقامة أمره معها راجعها وأمسكها، وإن ظن في نفسه ألا يستقيم حاله معها طلقها وسرحها سراحاً جميلاً، ولا يجوز له وهذه حاله أن يراجعها؛ لما في ذلك من الإضرار بها والاعتداء على حقها، ومن فعل ذلك فقد ظلم نفسه، وعرض نفسه لسخط الله وعقابه.

تفسير قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء يا ربنا.وها نحن مع هذه الآية المباركة الكريمة من سورة البقرة، سورة الأحكام الشرعية: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنّ َ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231].هذا كلام من؟ كلام الله عز وجل، ما ادعاه أحد من الناس فقال: كلامي، لا والله، إذاً: آمنا بالله، وقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه آية من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية تشهد أنه لا إله إلا الذي أنزلها، وأن الذي نزلت عليه يستحيل أن يكون غير عبد الله ورسوله، فمنزل هذه الآية أخبر عن نفسه أنه الله الذي لا إله إلا هو، وأنزلها على عبده فناداه بعنوان الرسالة: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]، كل آية تشهد بواقعها أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.فماذا تحمل هذه الآية من الأحكام الإلهية التي حرمها العالم بأسره فشقي وخسر إلا من رحم الله عز وجل؟ ماذا يقول لنا عز وجل؟

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
ذكر ما عطفت عليه الجملة من أحكام الإيلاء

يقول تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة:231]، هذه الجملة معطوفة على سابقاتها، إذ تقدم بيان الإيلاء، وهو أن يحلف الرجل ألا يطأ امرأته شهراً أو شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو عاماً ويأبى أن يحنث ويريد أن يستمر في يمينه، فأعطاه الله عز وجل مهلة أربعة أشهر ثم إما أن يفيء -أي: يرجع إلى فراشه ليطأ امرأته- أو تطلق عليه رغم أنفه، لا يرضى الله لأمته أن تهان وتحرم وتذل وهي تعبده وتذكره صباح مساء، فيقال له: إما أن تفيء وترجع وإما أن تطلق، والآية الحاملة لهذا الحكم هي قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227].ولا ننس سؤال عمر ابنته حفصة رضي الله تعالى عنهما، ومن عمر هذا؟ هذا ابن الخطاب ، هذا صاحب الحبيب صلى الله عليه وسلم وخليفته، عمر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه )، ما يقوى الشيطان أن يماشي عمر ؛ يحترق، وقال فيه: ( لو كان في أمتي محدثون ) ، أي: من تحدثهم الملائكة، ( لكان منهم عمر ، ولكن لا نبي بعدي )، فـعمر كيف بلغ هذا الكمال وانتهى إلى هذا المستوى؟ عندنا قصة ثابتة: دعاه أحد ولاته على طعام بليل أو نهار وقدم الطعام فإذا به ألواناً -ولن تصل إلى ألوان طعامنا اليوم حتى طعام فقرائنا ومساكيننا- فنظر إليه عمر نظرة الأسد وفزع واضطرب وقام، فصاح الوالي: ما لك يا أمير المؤمنين؟ اجلس، اطعم، فقال: خشيت أن أكون مثل من قال الله تعالى فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20]، هذا عمر صفت نفسه زكت روحه أصبحت أشبه بأرواح الملائكة، يحدث عنه ولده عبد الله ويقول: ما قال أبي في شيء: أظنه كذا إلا كان كما ظن.هذه الفراسة سببها أكل الطيبات، سببها الصيام في الهواجر، القيام في الليالي الطوال، التضحية في سبيل الله بالغالي والرخيص، هذا عمر .سأل ابنته حفصة ، ومن حفصة هذه يا جماعة؟ هذه أمنا، أم المؤمنين، هذه زوج الحبيب صلى الله عليه وسلم، توفي رسول الله وهي في عصمته، سألها عمر : أي بنيتي! كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: تصبر شهرين، وإذا دخل الثالث قل صبرها، وإذا دخل الرابع نفذ صبرها، فأصدر أمره إلى رجال جيوشه الإسلامية الغازية الفاتحة: على القادة أن يرسلوا كل مجاهد إلى أهله إذا استغرق أربعة أشهر، إذا أكمل أربعة أشهر في الجهاد أرجعه إلى أهله، من فعل هذا؟ هذا عمر ، فهذا شاهد هذه الآية الكريمة: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226] رجعوا وكفروا عن أيمانهم فذاك، وإلا فالطلاق.

ذكر ما عطفت عليه الجملة من أحكام الطلاق والرجعة

ثانياً: عدة المطلقة كم هي؟ أي: ما هي المدة التي تنتظر المرأة زوجها عله يراجعها؟ طلق الفحل الليلة امرأته، فكيف طلقها يا شيخ؟ طلاقنا نحن أيها الصعاليك ما جاء في القرآن ولا حدث به الرسول صلى الله عليه وسلم، كقوله: أنت حرام علي وكذا، والله! ما هذا هو الطلاق.الطلاق الذي شرعه الله لرحمته بأوليائه: أن الرجل إذا رأى أن أخته المؤمنة في تعب في ألم ما استراحت أبداً، فشفقة عليها ورحمة بها ينتظر علها ترتاح، ينتظر الشهر والشهرين والعام والعامين، فإن وجد ألمها ما ينقضي عنها وهي تحته فإنه يشهد اثنين في البيت: أشهدكما أني طلقت أم فلان أو فلانة، وهي تسمع، ويعطيها الله فترة من الزمن عله يندم، علها هي تبكي وما تستطيع الفراق، ثلاثة قروء: ثلاثة حيض أو ثلاثة أطهار، الكل صالح، فإن راجعها في هذه الفترة فبها ونعمت، وإذا ما راجعها وانتهت هذه الأقراء فحينئذٍ يعطيها ما لها من حق، إذا كان لها مؤخر صداق أعطاها، ثم يذهب بها إلى أهلها: ابقي مع أهلك وأستودعك الله عز وجل يا أمة الله.أو هو عبد الله المؤمن ولي الله أتعبته هذه الأمة وضايقته، أساءت إليه، فصبر العام والعامين فما أطاق، حياته كلها عذاب، والله ما يرضى لوليه أن يعذب، فسمح له أن يطلقها، حيث عرف أنه لا يمكن أن يستريح أبداً مع هذه المؤمنة، إذاً: فيشهد اثنين ويقول: فلانة! قد طلقتك، فتتربص وتنتظر هذه الفترة من الزمن، إن كانت تحيض فثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار، الكل واسع، فإن انقضت أعطاها ما لها من حق وحملها إلى بيت أهلها واستودعها الله عز وجل، ولا يذكرها بسوء قط، هذا هو الطلاق الرباني، هذا هو طلاق المسلمين، هل يجري هذا الطلاق الآن؟أهكذا يطلق الفحول؟ ولا واحد في الألف، لماذا؟ ما عرفوا، ما تربوا في حجور الصالحين، ما درسوا كتاب الله ولا اجتمعوا عليه، فكيف يعرفون؟ أيوحى إليهم؟ ما هم بأنبياء ولا مرسلين، فكيف يعرفون؟ مستحيل أن نعلم إذا لم نطلب العلم، حولونا من قرون إلى المقاهي والملاهي والأباطيل والخرافات والضلالات، فكيف نتعلم؟هذا هو الطلاق، فإن طلقها وانتهت عدتها ثم تزوجها بعد أن رغب في العودة ثم طلقها مرة ثانية هنا لم يبق إلا أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان، فإن طلق بعد ذلك فإنها لا تحل له أبداً حتى تنكح زوجاً غيره؛ لقوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، ما قال: الطلاق طلقتان، قال: مرتان، لو قلت: أنت طالق طالق طالق بالثلاث فكل هذا هراء وباطل ومنكر، ما أراد الله هذا. الطلاق: أن تريد أن ترفع الأذى عنك أيها المؤمن أو عن امرأتك المؤمنة الطاهرة، فحين تعزم عليه تأتي إلى بيتك بمن يشهد وتقول: أشهدكما أني طلقت فلانة، فإن أردت أن تراجعها وهي في العدة ما انتهت فإنك تشهد اثنين وتقول: أشهدكما أني راجعت امرأتي، هكذا الطلاق والمراجعة، فإذا طلقها مرتين ثم راجعها أو عقد عليها بعد العدة لم يبق إلا أن يستمر بإحسانه إليها، وإن طلقها بانت بينونة كبرى لا تحل له حتى يذل ويهون وينكسر أنفه ويطأ تلك المرأة فحل غيره، فإن طلقها أو مات عنها فلا جناح عليهما أن يتراجعا بشرط: إن ظنا أن يقيما حدود الله، لا بالعنت والسب والشتم والسخرية، الرجل يسب امرأته ويسخر منها كما يفعل الجهلة في الشوارع مع الناس، أهذا مؤمن هذا؟ وهي أيضاً تفعل هذا، والله! إنه يبلغنا أنها تسب وتشتم وتسخر من الزوج،و لا لوم، فهي جاهلة وهو أشد جهلاً، ماذا تريد من جاهلة أو جاهل؟

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
لطيفة في قوله تعالى: (فبلغن أجلهن)

الآن قال تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة:231] الطلاق الذي بيناه لكم، إذا طلقتم هذا الطلاق فَبَلَغْنَ [البقرة:231] أي: المطلقات أَجَلَهُنَّ [البقرة:231] ما أجلهن؟ انتهاء العدة. وهنا لطيفة: قوله: بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:231] ليس معناه أن الحيضات الثلاثة أو الأطهار تمت، معناه: قاربن نهاية العدة، أما إذا بلغت حقاً وانتهت العدة فما بقي إمكان لأن يراجعها، انتهى أمرها، إلا أن يعقد عليها إذا رضيت ورضي أولياؤها.

ما يجب على مراجع مطلقته المعتدة من الإمساك أو التسريح بالمعروف

فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:231] أي: أشرفن، بقي يوم أو يومان أو ثلاثة، حينئذ إن أردت إمساكها وإبقاءها فأمسكها بمعروف لا بمنكر، بعض الجهلة يمسكها ليشقيها ويهينها ويعذبها ثم يطلقها، فإذا كادت العدة تنتهي راجعها لينكل بها، كان هذا في الجاهلية، ولما عادت الجاهلية عاد هو أيضاً، هذا كان في الجاهلية، يطلق الرجل امرأته ويتركها في العدة، وقبل أن تنتهي العدة يراجعها، ويبقى يسب ويشتم ويركل ويهين، ثم يطلقها وينتظر، فيستريح منها ثلاثة أشهر، فإذا قاربت راجعها، فأبطل الله العادة الجاهلية، فقال جل جلاله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:231] أي: قاربن نهاية العدة؛ لأن المعتدة التي لا تحيض لصغر سنها أو كبر سنها عدتها ثلاثة أشهر تسعون يوماً، فإذا أشرفن على نهاية العدة فما هو الواجب؟ أمسكها يا فحل بمعروف أو فارقها وسرحها بمعروف، أمسكها وأرجعها إلى عصمتك بالإحسان والمعاشرة الطيبة والود والتحاب والتعاون، أو سرحها أيضاً بمعروف، أعطها كامل حقوقها وأثن عليها خيراً، ولا تشوه سمعتها، ولا تسب أهلها؛ لأنك مسلم ولي الله، ما أنت بيهودي ولا نصراني ولا مجوسي، أنت رباني من أولياء الله.

معنى قوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا)

قال تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231] يا عباد الله، لا تمسكها بالمراجعة من أجل الإضرار بها، إما بإهانتها، وإما بتنغيص راحتها، وإما بحال من الأحوال، أو حتى بمنعها من الفراش، إياك أن تمسكها لتضر بها، أمسكها قبل أن تنتهي العدة إن كنت تعلم أنك تحسن إليها وتعاشرها بالمعروف، أما أن تمكر بها فترجعها ثم تهينها وتذلها،كلما أوشكت العدة أن تنتهي راجعتها من أجل أن تذلها وتضرها فهذا لن يكون بين المسلمين، كان في الجاهلية. وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231] على حدود الله وشرائعه، لا تفهم أن هذه المؤمنة صعلوكة أبوها ميت وأهلها فقراء، أو أنها غريبة في بلاد بعيدة.اسمع: يقول الله تعالى: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) تعلن الحرب على الله، ويعلن الله الحرب عليك، فهل ستنجح؟ أيربح من يدخل في حرب مع الله؟ والله! لا يفلح، فلم يذبح بعضكم بعضاً؟ لم يسرق بعضكم بعضاً؟ لم يزني بعضنا بنساء بعض؟ لم نغش بعضنا؟ لم نؤذي المؤمنين والمؤمنات؟ أواقع هذا أو هراء؟ هذا هو الواقع، فما سببه؟ هل كفرنا؟ لا، ما السبب؟ الجهل، ما علمونا، ما تربينا في حجور الصالحين، بل في الشوارع والمقاهي والملاعب، أو في مدارس كـ(لامدارس)، حتى قال بعضهم: هي مدانس، فالطلبة يلعبون أمام المدرسة ويدخنون.

التربية المسجدية طريق تهذيب أخلاق الأسر المسلمة

فإلى أين المفر؟ كيف نطبق هذا الشرع؟ ما تأهلنا له، فهيا نراجع الحياة من جديد.وقد يقال: يا شيخ! ما نستطيع، فات الزمانما نقدر؟ فأقول: وهل أنتم مطالبون ببذل أموالكم؟ بالخروج من دياركم؟ بقتل أنفسكم وأولادكم؟ لا، ما هو إلا أن تعلن عن أنك مسلم، وحينئذ أهل القرية المسلمة كأهل الحي في المدينة يلتزمون بأن لا يفارق أحدهم بيت الله هو وامرأته وأطفاله، من المغرب إلى العشاء، يجلسون كجلوسنا هذا، النساء وراءنا والفحول أمامنا، نتلقى الكتاب والحكمة، يوماً آية وآخر حديثاً، يوماً آية ويوماً حكمة، العام بعد العام، أسألكم بالله: كيف تصبح تلك المدينة في أحيائها؟ كيف تصبح تلك القرى؟ قد تقول: يا شيخ! أنت واهم. فأنا أقول: بعينيك انظر في قريتك في بلادك في مجلس في الطائرة لترى أن أعلمنا بالله أتقانا له، هل من يرد عليّ؟ في هذه الحلقة أعلمنا بالله أتقانا له، حتى لا نظن أن هذا هراء كما يقوله الغافلون الهابطون، والله! لن يستقيم أمر أمة الإسلام حتى في البيت في الأسرة إلا على نور الله، إما أن نقبل في صدق على الله نتعلم الكتاب والحكمة، ونقوي إيماننا، ونزيد في طاقة أنوارنا؛ فنسعد ونكمل، وإلا فالهبوط حتى التمزق والتلاشي والخلود في جهنم.فإذا دقت الساعة السادسة وقف دولاب العمل، أغلق الدكان، أوقف السيارة، إلى أين؟ إلى بيت الرب، أي بيت للرب هذا؟ المسجد، إنه بيت الله، ويأتي أهل القرية أو أهل الحي كلهم إلى المسجد، يصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون كما نحن جالسون، فليلة آية وأخرى حديثاً، هذا الكتاب وهذه الحكمة، يوماً بعد يوم طول العام، والله! في السنة الأولى ستتغير حالة أهل القرية أو الحي تغيراً عجباً، فيصبحون أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.ولا تسألني، فما بقي غش ولا خداع ولا كبر ولا حسد ولا تلصص ولا فجور ولا زناً، طهر كامل، وفوق ذلك المودة والإخاء والحب والتعاون، ما يبقى بينهم عار ولا جائع ولا مظلوم ولا مريض، جسم واحد: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) من قرر هذا؟ من قعد هذه القاعدة؟ من لا يكذب ولا يمكن أن يخطئ كلامه أبداً، فلم ما نفعل هذا؟ بلغوهم، وخاصة الذين يسخرون من هذا الكلام يستهزئون، قلنا لهم: في اليهود، النصارى، أمريكا، روسيا، أوروبا، الشرق والغرب إذا دقت الساعة السادسة وقف العمل.نزلنا بالطائرة في جبل طارق الساعة الخامسة والنصف، وإذ بي أسمع رفاقي: عجل.. عجل. لماذا؟ لنشتري العشاء، فإنه إذا دقت السادسة ما يبقى دكان مفتوح ولا مطعم، لم؟ قالوا: يستريحون، فالكفار يستريحون والمسلمون ما يستريحون؟! يتمزق القلب، عجيب والله، إن لم نعد إلى هذا المنهج المحمدي فلن نتعلم، ما أجدتنا ولا نفعتنا مدارسنا؛ لأن التربية شيء والتعليم شيء.أنا أقول: إذا بعثت الطالب أمه ليدرس من أجل الوظيفة فلن ينتفع بعلمه، يقول الرجل لابنه: تعلم لتكون كذا وكذا، والله! ما سمعتهم يقولون: تعلم لتعرف الله وتحبه ويحبك، تعلم كيف تعبد الله عز وجل، وزادت المحنة فأتوا إلى البنات الآن، يقولون: تعلمي لتكوني كذا وكذا، وقد عرفنا المستقبل يا بابا! أعوذ بالله من هذا الهبوط، هذا فحل قال لابنته: درست الابتدائية فيكفيك، عودي إلى أمك أعينيها واعملي معها، فقالت: مستقبلي يا بابا! لا تمنعني، غداً أصبح مدرسة راتبي عشرة آلاف ريال، فقلت لها: اسمعي: هذه أمك تسمع وراء الستارة، من أمك هذه إلى جانب فاطمة الزهراء؟ وأكثر من ألف جدة والله! ما توظفت واحدة منهن، وعشن ومتن سعيدات، وأنت تقولين: الوظيفة للمستقبل يا بابا! لا لوم ولا عتاب؛ ما عرفنا رب الأرباب، ما أوجدنا في قلوبنا حبه، ولا الخوف منه، فكيف نستقيم؟ مستحيل.فالطريق: أن يصدر رئيس الحكومة أو وزير الداخلية قراراً: ألا يبقى بعد الآن رجل ولا امرأة خارج المسجد مع أذان المغرب، يأتون كارهين، ولكن لا يزال النور الإلهي يسري في قلوبهم يوماً بعد يوم بعد يوم، بعد أربعين يوماً لو قال لهم: لا تعودوا لقالوا: والله! لنعودن، ولا نستطيع أن ننقطع عن هذا النور.

تابع معنى قوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه)

قال تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا [البقرة:231] (ضراراً) حال من الإمساك أو مفعول لأجله، أي: للإضرار بهن، لِتَعْتَدُوا [البقرة:231]. قال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231]، عرضها للبلاء الإلهي والنقمة الربانية، هذا الذي يراجع المرأة ليضر بها ويهلكها، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231].

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
معنى قوله تعالى: (ولا تتخذوا آيات الله هزواً واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به)

وأخيراً قال لنا: وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة:231] تسخرون منها وتضحكون، ولا تعلمون منها شيئاً ولا تعملون، ولا تطبقون، تقرءونها على الموتى، أي سخرية أكثر من هذه؟ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [البقرة:231] أنتم مؤمنون مسلمون، الرسول كأنه بين أيديكم، والله عز وجل أنزل كتابه عليكم؛ فسموتم وارتفعتم، وعبدتم الله وحده، وغيركم في الضلال والعمى والفسق والفجور والباطل، لا تنسوا هذه النعمة: أن شرع الله عندكم، والأمم الأخرى الكافرة لا تملك من هذا شيئاً، أية نعمة أعظم من هذه النعمة؟وأزيد الأمر توضيحاً فأقول: بالله الذي لا إله غيره! لو وضع مؤمن في كفة ميزان ووضع كل الكافرين من أمريكا إلى اليابان في كفة لما بالى الله بهم من أجل عبده هذا، كل الكفار بالمليارات لا يعدلون مؤمناً واحداً في قضاء الله وحكمه، ما سر هذا الكمال، كيف حصل على هذا؟ بإيمانه بالله وتقواه له. واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [البقرة:231] كنتم عبدة أوثان وأصنام، وكنتم في حالة جاهلية عمياء من شن الغارات وسفك الدماء، فرفعكم الله إلى هذا المستوى، فأنزل شرعه ووحيه وبعث رسوله، فلا تنسوا هذه النعمة، فكيف تسخرون من آيات الله ولا تطبقون أحكامه ولا شرعه؟ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ [البقرة:231]، لو كان لا كتاب ولا شرع عندنا ولا حكمة فنحن همج، فماذا نصنع؟ هذه حياتنا، أما وقد هدانا إلى الإيمان وأنزل علينا كتابه وبعث رسوله فكيف لا نهتدي؟ فكل كلمات الرسول حكمة لا يمكن أن يتخلف نتاجها ولا أثرها على طول الحياة.ولكن القرآن يقرأ على الموتى، والسنة النبوية تقرأ للبركة فقط، كثير من بلاد العالم حتى في المدينة يجتمعون على البخاري في رمضان، لم تقرءون البخاري ؟ قالوا: للبركة، هل الرسول يشرع ويقنن للبركة؟! القرآن يقرأ ليلة الموت في المقبرة وفي المنزل، أمن أجل هذا أنزله الله ليقرأ على الموتى؟ الأحياء يغلقون آذانهم فما يسمعونه، إذا قلت: قال الله غضبوا، والميت الهالك تقرأ عليه القرآن، سخرية هذه أم ماذا؟! فهذه أسباب هبوطنا من علياء السماء إلى هذه الدركات السفلى.واسمع كيف يمتن الله علينا: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [البقرة:231] نعمة الإيمان والإسلام، وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231] يأمر وينهى ويربي ويحلم ويعظم من شأننا.

معنى قوله تعالى: (واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم)

وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:231] هذا التوقيع الأخير، اتقوا الله قبل أن تنزل نقمه، وقد نزلت؛ أصبح المسلمون أذل الخلق وأفقرهم وأعجزهم وأكثرهم فسوقاً وباطلاً وشراً، نزل حكم الله، ما اتقينا الله، ما خفناه، ما عرفناه حتى نخافه ونرهبه، أو نحبه ونتملقه ونتقرب إليه؛ أبعدونا عن كتابه وهدي نبيه فجهلنا، وبقيت بركة فقط لتقوم بها الحجة لله يوم القيامة، لا بد أن يبقى شيء من الدين لتقوم الحجة به لله يوم القيامة.على سبيل المثال: هبط العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى موريتانيا، فالشرك والضلال والخرافات، فسلط الله عليهم الاستعمار الغربي، فأذلوهم وأهانوهم، فقد يقولون يوم القيامة: يا رب! ما عرفنا دينك، ما ظننا أن القرآن يسعد أو يحقق طهراً أو أمناً! فأبى الله إلا أن يوجد دولة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في صحراء قاحلة، لا زيتون ولا رمان ولا عنب، صحراء واسعة، والناس يسيرون على الجمال، لا سيارة يومها ولا طيارة، وحكم كتاب الله في هذه الأمة الموزعة هنا وهناك في ظرف محدود، وإذا بها دولة واحدة لم تكتحل عين الوجود -والله- بمثلها في الأمن والطهر إلا أيام القرون الذهبية فقط، تحققت هذه الطهارة، والله! لبيوتنا كانت مفتوحة بالليل، يمشي الرجل من نجد إلى جدة لا يخاف إلا الله، ما سبب ذلك؟ العودة إلى كتاب الله وحكمة رسوله، لا سحر ولا صواريخ.فالهيئة في القرية تأمر وتنهى، والذي يتخلف عن صلاة الصبح قد يتعرض للعقاب، ها هو الدكتور عبد الله العقيد يقول: والله! لقد أحرقوا لي عمامتي حين تخلفت عن صلاة الصبح فقط، الهيئة أحرقت العمامة، وما يحصل على العمامة في ذلك الوقت إلا بمبلغ من المال، ومن أين يجيء المال؟ ما هو إلا الشعير والمعز، فساد أمن وطهر والله ما وجد إلا في هذه البلاد بتحكيم شرع الله، لم فعل الله هذا؟ لتكون له الحجة يوم القيامة، وإلا قال الناس: يا رب! ما نفعنا كتابك. فهل تحقق الأمن والطهر أو لا؟ اشهد -يا رب- أنه تحقق، بسبب ماذا؟ لا خرافة ولا قبر يعبد ولا وثنية، بل لا إله إلا الله، بالتوحيد فقط، ثم بإقامة حدود الله، الزاني يرجم أو يجلد، والسارق تقطع يده، والقاتل يقتل، لا أقل ولا أكثر، وتجبى الزكاة وتقام الصلاة إجبارياً، فلم العالم الإسلامي ما يفعل هذا؟قد نقول في أيام الاستعمار: ما نستطيع يا رب فنحن مملوكون، محكومون، وبعد أن استقللتم بإذننا وتحررت دياركم وحكمتم بأنفسكم لم ما أقمتم الصلاة إجبارياً في الجيش وفي الأمة؟ لم ما أوجدتم جماعات يأمرون في البلاد بالمعروف وينهون عن المنكر؟ لم ما جبيتم الزكاة وعوضتموها بالضرائب الفادحة؟ ولهذا قولوا: آمنا بالله. إن مستقبلاً مظلماً ينتظر هذه الأمة، إلا أن يفرج الله عنها، فقد أعرضت عن كتاب الله، واسمع ماذا يقول: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231]، لا يخفى عليه باطلنا ولا فسادنا ولا ظلمنا ولا شرنا ولا إعراضنا عن ذكره وكتابه، والله! إننا لتحت النظارة، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14].

خلاصة ما أرشدت إليه الآية الكريمة

هذه الآية الكريمة من كلام الله ماذا تعلمنا منها؟ تعلمنا أنه إذا طلقت زوجتك يا عبد الله وأردت أن تراجعها فقبل أن تنتهي العدة راجعها، لكن إياك أن تراجعها لتنكل بها وتعذبها، هذه أمة الله، قال تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنّ َ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة:231] وهي حاملة لهذا النور وهذه الأحكام والهداية. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [البقرة:231] واشكروه، قولوا: الحمد لله أننا مؤمنون، وإضافة إلى ذلك وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ [البقرة:231] هذا مفقود عند العالم بأسره إلا عندكم معشر المسلمين، كتاب الله وسنة رسوله، وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:231] فإن لويتم رءوسكم فاعلموا أن الله بكل شيء عليم، وينزل نقمته، عياذاً بالله .. عياذاً بالله، رحماك يا ألله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-08-10, 02:20 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (13)
الحلقة (20)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (110)

من الأحكام المتعلقة بالطلاق أنه إذا أراد زوجها نكاحها بعقد جديد بعد بينونتها منه بطلاق رجعي فإنه لا يجوز لوليها منعها عنه إذا هي رضيت به، كما أن من الأحكام المرتبطة بالطلاق أحكام الرضاع، فمن كان له رضيع عند مطلقته فعليه نفقتها بالمعروف مقابل إرضاعها لابنه، وإن فقد الأب لزم الوارث للرضيع نفقة مرضعته، وإن أراد الأب استرضاع ابنه عند امرأة أخرى فله ذلك، وإن اتفق الأب والأم على فطام الرضيع قبل الحولين بما لا يضر به فلهما ذلك.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل.وقد سبق لنا أن درسنا قول الله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنّ َ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231]. ‏

وجوب الإمساك أو التسريح بالمعروف للمطلقة الرجعية قبل تمام العدة

وقلنا في قوله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:231]: إنهن ما بلغن الأجل، ولكن قاربن بلوغ الأجل؛ لأنها إذا بلغت الأجل المحدود ثلاثة أقراء فلا حق له أن يمسكها، انتهى أمرها، لكن هي في عدتها فأشرفت العدة على أن تنتهي، هنا إما أن تمسكها يا عبد الله، بمعنى: تراجعها بمعروف، لا أن تمسكها وتراجعها لتعذبها وتنكل بها وتنتقم منها أيضاً، أو تسرح بالمعروف، انتهت عدتك فمع السلامة يا أختاه. وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231]، ولا تمسكوهن لأجل الإضرار بهن لِتَعْتَدُوا [البقرة:231]: كان أحدهم في الجاهلية يطلقها حتى إذا أوشكت العدة أن تنتهي يراجعها لينكل بها وينغص حياتها، ثم يطلقها وهي في عدتها، فإذا أوشكت أن تنتهي العدة يراجعها، فأبطل الله هذا القانون الجاهلي، فأنزل هذه الآية فيصلاً في القضية.اسمع: يقول الله جل جلاله مخاطباً عباده المؤمنين والمؤمنات: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة:231] أيها الفحول فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:231] أي: أشرفن على نهاية العدة؛ فَأَمْسِكُوهُنّ َ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231]، لا تمسكها لتنكل بها وتضايقها وتؤذيها وهي في عصمتك، أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231]: لا سب ولا شتم ولا أخذ لحق من حقوقها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

حرمة إمساك المطلقة الرجعية بقصد الضرار والعدوان

وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231]، إياك أن تمسك المطلقة وتراجعها قبل أن تنتهي عدتها من أجل الإضرار بها، هذه أمة الله لا يرضى سيدها ومولاها أن تؤذيها أنت يا عبد الله. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231] أي: تعرض لنقمة الله وعذابه، وقد عرفنا أن الله لا يرضى أن يؤذى عبده ولا يرضى أن تؤذى أمته كذلك. وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة:231] وسخرية وضحكاً ولعباً، فلا تطبقوها ولا تنفذوها في حياتكم، هذا موقف لا يقفه إلا من تعرض لنقم الله وسخطه.

تذكير المؤمنين وعظتهم بإحاطة علم الله تعالى بكل شيء

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [البقرة:231] البشرية كلها محرومة من هذا النور، مبعدة عن هذه الهداية، تعيش في ظلام الجهل والكفر، وأنتم أنعم الله عليكم؛ بعث فيكم رسوله وأنزل كتابه وشرعه، ثم تستهزئون به، من لم يشكر نعمة الله عرضها للسلب بعد العطاء، وإن شئتم حلفت لكم، من لم يشكر نعمة الله فلينتظر زوالها طال الزمان أو قصر: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].يقول الحكماء: نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، بعدما كنا في عز وطهر وصفاء نصبح أذلة مهانين مساقين كالأنعام، أما سلط علينا أوروبا؟ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ [البقرة:231] المراد بالحكمة السنة. يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231] آمراً وناهياً، وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:231] قبل كل شيء، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231] اتقوه، التزموا ما أمركم بالتزامه، أحلوا ما أحل وحرموا ما حرم، أدوا ما أوجب واتركوا ما نهى عنه، بهذا يتقى، لا يتقى بالسلاح ولا بالرجال، وَاعْلَمُوا [البقرة:231] زيادة على ذلك أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231].يا من يريد أن يحتال على هذه المؤمنة ويراجعها لينكل بها ويضر بها! لا تحسبن أنك وحدك، إن الله معك، يراك ويعلم حالك ظاهرك وباطنك، فهذه توجد المهابة في قلب المؤمنين والمؤمنة، ولهذا أهل الإيمان والتقوى هم أقرب الناس إلى الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ...)

والآن نسمع قوله تعالى يخاطب المؤمنين والمؤمنات؛ لأن الكافرين والكافرات أموات، ما هم بأهل لأن يخاطبوا؛ لأنهم لا يفقهون ولا يعملون، هذا الخطاب لأهل الإيمان: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:232] نهاية العدة، فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232] أي: تمنعوهن أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]. ‏

سبب نزول الآية الكريمة

لهذه الآية قصة أو حادثة نزلت بسببها، فهناك رجل يقال له: معقل بن يسار من أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم، وله صهر يقال له: أبو البداح ، فأخت معقل هي زوجة أبي البداح ، فطلقها في المرة الأولى وراجعها، وطلقها في المرة الثانية وبانت منه، ورغبت الزوجة في أن تعود إلى زوجها، والزوج رغب في أن يعود إلى زوجته، أبو البداح راغب وهي أيضاً راغبة، فبلغ ذلك أخاها معقل بن يسار فقال: وجهي من وجهك حرام إن تزوجته، كيف يهزأ بي ويسخر ويفعل هكذا، لن تعودي إليه.فنزلت هذه الآية فيصلاً، فربنا يسمع ويعلم ويرى حادثة وقعت في ظلام هذه الدنيا بين رجل وامرأة، يعلم وهو فوق السماوات السبع، فوق العرش، فوق الملكوت كله، كأنه معهم؟! آمنا بالله، نزلت هذه الآية لتحل هذا المشكلة وأمثالها مما قد يحدث في أمة الإسلام، فنزل قوله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:232] انتهت العدة، فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232]، العضل: المنع، أمسكها بعضلته لئلا تتزوج، فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232].ففي الآية السابقة أراد المطلق أن يراجعها لينكل بها، يتركها حتى تكاد العدة تنتهي ثم يراجعها؛ ليبقى يسب ويشتم وينكل بها، فهذه حرمها الله.ولكن هنا على خلاف تلك، فهنا تزوج الرجل هذه المؤمنة وشاء الله أن طلقها، وقبل أن تنتهي العدة راجعها، عاش معها زمناً ثم طلقها، وانتهت عدتها، فرغب أن يعود إليها ورغبت أن تعود إليه، فأخوها معقل بن يسار قال: لن يكون هذا، ما نرضى بمثل هذا الشخص يطلق مرتين ويراجع، فقال لأخته: وجهي من وجهك حرام إن تزوجته، فمن يفصل الآن؟ الله تعالى، فنزل قوله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:232] وانتهت العدة، فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232] تمنعوهن أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، إذا كانت هي راضية وكان هو راضياً وبالإحسان والمعروف لا بالحيل والمكر.فماذا قال الحبيب صلى الله عليه وسلم لـمعقل بن يسار ؟ قال له: ( إن كنت مؤمناً فلا تمنع أختك من أبي البداح ، فقال: آمنت بالله، وردها إلى أبي البداح ).
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

دلالة الآية الكريمة على شرطية الولي في عقد النكاح

وفي هذا دليل على شرطية الولي في النكاح، فالآية تدل على أن الولي في النكاح شرط في صحته، ولا التفات إلى من يرى أن للمرأة أن تزوج نفسها، من زوجت نفسها ولها ولي فهي زانية.. زانية.. زانية.لأن هذه أخت معقل ومنعها لأنه ولي، ففي هذه الآية دليل على شرطية الولاية في النكاح، فولي المرأة أبوها، فإن مات أبوها فأخوها الراشد الرشيد، فإن مات أخوها فابن أخيها الرشيد، فعمها، فابن عمها، فإن لم يكن ولي فالقاضي وليها؛ القاضي ولي من لا ولي له، فإن عدم القاضي أفتانا عمر فقال: فوليها ذو الرأي من عشيرتها، فعشيرتها وقبيلتها إذا كان فيهم رجل فحل ذو رأي وبصيرة ووعي فهو الذي يتولى عقد نكاحها؛ فإذا كانت قرى ما فيها قضاة أبداً، فماذا يصنعون؟ هل يسافرون على الجمال عشرة أيام؟ ذو الرأي من عشيرتها يتولى عقد نكاحها.

نهي الأولياء عن عضل مولياتهم

إذاً: يقول تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة:232]، ما معنى بلغن أجلهن؟ انتهت العدة، فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232] والعضل معروف، ومنه عضلة الإنسان التي في يديه، أي: لا تمنعها كما منع معقل بن يسار أخته. فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232] عن أي شيء؟ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232] بشرط أو بدون شرط؟ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، ذَلِكَ [البقرة:232] هذا الحكم المذكور يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232] فماذا قال معقل ؟ قال: آمنت بالله. ورد أخته إلى زوجها، أما الذي لا يؤمن بالله ولقائه فهو ميت، سبحان الله! فهيا نعمل على تقوية إيماننا بالله ولقائه.

مقصد التذكير بالإيمان بالله واليوم الآخر

وكثيراً ما أردد والله يشهد: أن الذي لا يؤمن بالله ولقائه ينبغي أن لا يوثق فيه، ولا يسند إليه أمر، ولا يعول عليه في قضية، بل نقول: لو أنك تنام متوسداً ثعباناً فمن الجائز أن تسلم ولا يأكلك، لكن لو تنام إلى كافر بالله ولقائه فوالله! لا تسلم إذا احتاج إليك، ما عنده مانع أبداً أن يفتك بك، وأي وازع له؟ هؤلاء هم شر الخليقة، ليس شر الخليقة القردة والخنازير والثعابين، شر الخليقة الكافرون والمشركون، لسنا الذين نسبهم بذلك، فالذي حكم بهذا الحكم عليهم هو مولاهم خالقهم سيدهم ربهم، واقرءوا لذلك قوله تعالى من سورة البينة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:6] اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] والبريئة: الخليقة، من برأ النسمة: خلقها، وقرئت (البرية)، لا تفهم أن البرية الصحراء، فتلك البرِّية، فالبريئة استثقلت فيها الهمزة مع الياء فاستبدلت الهمزة بياء وأدغمت فيها، فصارت: البرِيَّة، بمعنى: الخليقة، فعيلة بمعنى مفعولة.من شر الخليقة؟ الكفار والمشركون، ما وجه كونهم شر الخلق؟ لأن سيدهم أوجدهم خلقهم جملهم حسنهم، خلق كل شيء من أجلهم، فصاروا يكفرونه ويعبدون غيره؟ والله! إنهم لشر الخليقة بقضائك العقلي.مثاله: كريم من الكرماء يعالجك يا مريض فتشفى، ويكسوك فتجمل بكسوتك، وينزلك في قصرٍ، ويرسل لك خدماً يخدمونك يقدمون الطعام والشراب ليل نهار طول عمرك، ثم لا تقول: جزاه الله خيراً؟! هذا شر الخلق.صدق الله العظيم: أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، يقولون: لم نحن شر البرية؟ فبصرهم فقل: أيخلقكم الله جل جلاله، ويخلق أمهاتكم وآباءكم، ويخلق الأرض والسماء لكم، وكل المخلوقات من أجلكم، ثم لا تعترفون به، وتعبدون أصناماً وأوثاناً أو فروجاً وشهوات، أي عقول عندكم؟ فإن قالوا: مع الأسف: ما عرفنا؟ فقل: لم ما تسألون عنه وتعرفونه؟ ولهذا فعذابهم أبدي لا ينتهي أبداً.قال تعالى: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ [البقرة:232] أيها المؤمنون يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232] يصدق بوجود الله رباً وإلهاً، ذا جلال وكمال، لا إله إلا هو ولا رب سواه، ويؤمن بلقائه بعد باليوم الآخر من أيام الدنيا التي سوف تنتهي، ذلك هو اليوم الآخر، وننتقل إلى اليوم الخالد الأبدي.

معنى قوله تعالى: (ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون)

ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ [البقرة:232]؛ لأن هذا الزوج إذا أحب أن يعود إلى زوجته، وأحبت أن تعود إليه، ومنعتموهما وحلتم بينهما فقد ينساقان إلى الجريمة، أو يشرد بها إلى عالم آخر، ما دام يريد ابنتك أو أختك وهي تريده، وأنت تقول: لا، وجهي من وجهك حرام، فقد يترتب على هذا مفسدة عظيمة، فلهذا قال الحق عز وجل: ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:232] هو العالم بالنفسيات والضمائر والغرائز والأحوال وما يأتي به المستقبل، وأنتم لا تعلمون، إذاً: فسلموا.إذا تزوجت ابنتك وطلقها زوجها وبعد سنة أو سنوات ردها، ثم طلقها، فلا تقل: والله! لا ترجع، بل انظر هل هي راغبة في الرجوع؟ وهل هو راغب أيضاً؟ هل استوت الرغبتان؟ هل صلحت حالهما؟ هل تعاهدا بالطهر والصفا، فإن تم ذلك فزوجها، ردها عليه بعقد جديد قطعاً.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تذكير بأثر تلاوة الآيات القرآنية في المنع من الكفر

ما أجل هذه الآية وما أعظمها! هذا كلام الله، كيف نكفر بالله ونحن نتلوا آياته وفينا رسوله صلى الله عليه وسلم؟اسمع هذا النداء الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، من يرد على الله؟ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100] خاصة من اليهود والنصارى يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وقد نبهنا وبكينا وصرخنا، وقلنا: نبعث بفلذات أكبادنا، بأعضادنا وسواعدنا ونضعهم بين يدي المعلمين من اليهود والنصارى في بلاد الكفر والشرك والباطل، فيتخرجون يحبون أساتذتهم ومربيهم ومعلميهم، ويأتوننا وقلوبهم ممسوحة، لا إيمان بالله ولا بلقائه، ثم نوليهم مناصب البلاد ومراكزها، فكيف نأمنهم؟ ويا من يريدون البرهنة والتدليل بالعقل! لقد استقلت ديارنا إقليماً بعد إقليم من إندونيسيا إلى موريتانيا، ما استطاع إقليم واحد وقد قامت فيه دولة البلاد الوطنية أن يفرضوا الصلاة فقط على الأمة، مع أن الصلاة هي عمود الدين، لو أقاموا الصلاة فوالله الذي لا إله غيره! لكان نصف البلاء كله يختفي بإقامة الصلاة، لم ما أقاموا الصلاة؟ هل طالبوا بالزكاة وفرضوا على مواطنيهم وجبوها برجالهم؟ لا، إذاً: أليسوا في حاجة إلى المال؟ هم في حاجة، ولكن استبدلوا بها الضرائب، وقالوا: لا تقولوا الزكاة فتحيوا في قلوبهم الإيمان والإسلام، قولوا: الضريبة! هل وجد في بلد من تلك البلاد من أسند إليه أمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمشي في الشوارع إذا رأى منكراً يغيره، وإن رأى معروفاً ضاع أمر به؟ والله! ما كان، فقط البوليس بالكرباج والصفارة، يسمع هذا يسب الله ورسوله فما يبالي، ما سر هذا؟ لأن الذين أسندت إليهم قيادة البلاد والأمة ما تخرجوا من مثل هذه المجالس، درسوا وتخرجوا من تحت أساتذة روسيا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا ووليناهم، فكيف يقودوننا؟ ولا نلومهم؛ فقد أعموهم أصموهم قلبوا عقولهم وقلوبهم، جاءوا إلى بلدة وجدوها منتكسة، فلا من يغضب لله ولا لرسوله، فحصل هذا الذي حصل، وأيام الاستعمار كثير من البلاد -والله- أفضل منها اليوم.من القائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]؟ الله. ثم قال تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] من أين يأتيكم الكفر وتأتونه والمناعة قائمة والحصانة ثابتة، وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]؟نريد علماء النفس يكونون حاضرين معنا، علماء السياسة، علماء الكون والحياة، هل ينقضون هذه؟ والله! لأن يعقدوا بين شعيرتين أيسر من أن يقضوها، والله! لمن السهل أن يبنوا قصراً بين السماء والأرض، ولن يستطيعوا أن ينقضوا كلام الله.وأين بيت القصيد؟ في قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، فلو كان المسلمون منذ أن كانوا ومن اليوم إلى غد يجتمعون بنسائهم ورجالهم وأطفالهم كل ليلة في بيوت ربهم اجتماعنا هذا، يتلقون الكتاب والحكمة، فوالله! ما طرأ الذي طرأ، ولا حصل الذي حصل؛ لأن هذا الشاب ترعرع في أنوار الله ورسوله، لما بعثناه إلى بريطانيا يدرس وقد تجاوز العشرين أو الخامسة والعشرين فهو سيهديهم، ولا يضلونه، هو سيؤثر عليهم، وقلنا لهم: إن أردتم أن تبتعثوا بعثة فاختاروا الطلبة الصالحين، لا الحشاشين ولا المدخنين، اختاروا الأذكياء الأبرار من آباء وأمهات طيبين صالحين، وألزموهم بلباسهم الذي يلبسونه، وابعثوا إماماً ومربياً، واتخذوا لهم فندقاً خاصاً أو شقة، فيدرسون دراستهم ويعودون إلى مسجدهم وبيت ربهم يتلقون الكتاب والحكمة ويقيمون الصلاة، أمثال هؤلاء هل يؤثر فيهم؟ والله! ما يستطيعون، هم الذين يؤثرون، أما أن نسلخهم فنجعلهم كالبريطانيين، نقول له: احلق وجوهك فحلقه، واعمل الكرفتات واعمل كذا وكن بريطانياً، وندمجه في أسرة بنسائها العواهر وأطفالها؛ فهل سيرجع مسلماً؟ مستحيل، إلا أن يشاء الله.يقول تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232]، أما الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر فما يمكن أن ينهض بتكاليف كهذه أو يرغب فيها؛ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:232].

تفسير قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ...)

الآن مع هذه الآية الجليلة العظيمة وهي من طوال الآيات، فاسمعوها، يقول ربي جل جلاله في كتابه العزيز القرآن العظيم من سورة البقرة؛ هذه السورة كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حفظها الشاب ولوه القضاء، ولوه ولاية في إقليم إذا حفظ سورة البقرة، هذه سورة الأحكام الشرعية، يقول تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:233].لا إله إلا الله! هل هذا القرآن يقرأ على الموتى فيتوبون ويستغفرون الله؟ ماذا يصنعون؟ مضت قرون والمسلمون لا يقرءون القرآن هكذا أبداً، ولا يجتمعون عليه إلا ليلة الموت فقط لسماعه.قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ [البقرة:233] جمع والدة، وهي المرأة التي تلد، ويقال فيها: والدة. يُرْضِعْنَ [البقرة:233] الإرضاع معروف، ذاك اللبن الأبيض الحلو الذي تحول برحمة الله التي أوجدت عاطفة أم هذا الولد، يتحول من حمرة الدم إلى بياض اللبن وعسله، يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة:233] كم؟ حَوْلَيْنِ [البقرة:233] ما الحول؟ العام، من حال يحول: إذا تبدل، حال الحول: رجع هذا اليوم في ذاته، هذا الحول. حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233] لا تقل: عاماً وعشرة أشهر، أو سنة وأحد عشر شهراً، حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233] هذا لمن؟ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، فإذا أراد يكتفي بعام، أو بعام ونصف فشأنه. ‏

معنى قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)

إذاً: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ [البقرة:233] من هو المولود له؟ الرجل، إذاً: هي ولدت له، ما ولدت لها، هل سمعتم من يقول: إبراهيم بن زليخة، أو سعيد بن ليلى، أو إبراهيم بن خديجة؟ بل إبراهيم بن إسماعيل خالد بن كذا، فسبحان الله! لطائف القرآن فيها العجب. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ [البقرة:233] هذه الأمة من إماء الله ولدت لك أنت إبراهيم، أنت زرعت وحصدت وهي جزاها الله خيراً. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] هذا إذا كانت ما طلقت فلا بد من كسوتها وإطعامها بالمعروف، لا يكلف ما لا يطيق، فلا يقال: لا بد من البقلاوة والدجاج المقلي! بل حسب حالته، بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] لا ما يخالف العرف. وإن كانت مطلقة وولدت فمن يرضع هذا الولد؟ ترضعه هي إذا اتفقت مع زوجها حولين، وبعد الحولين ما بقي شيء: ( لا رضاع بعد الحولين، ولا يتم بعد الاحتلام ).إذاً: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] إذا كان ولدت وهي مطلقة قد انتهت عدتها بالوضع، فالمطلقة إذا كانت حبلى تنتهي عدتها إذا وضعت، واقرءوا لذلك قوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فلما وضعت حملها بانت من زوجها، إن شاء قال: أعطني ولدي، لكن لا بد أن ترضعه اللبأ، لا يسمح لها الشرع بأن تعطيه لأول ساعة، فإنه ما يعيش، لا بد من اللبأ يرضعه من ثديها، وبعد ذلك إذا اختصما وما اتفقا فليرضعه عند من شاء، وإن اتفقا وأرضعته فعليه كسوتها وإطعامها ونفقتها بالمعروف.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده)

لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:233] من قال هذا القول؟ الله. لم قال هذا؟ لأن خديجة تقول: إذا لم تعطنا خمسة آلاف ريال في الشهر فلن نرضع هذا الولد، طلقتني وكرهتني وأنا كذلك، فادفع خمسة آلاف ريال في الشهر وإلا فلن نرضعه، يقول الفحل: أنا راتبي ألف وخمسمائة ريال، فمن أين آتي بخمسة آلاف؟ كيف تكلفونني ما لا أطيق وربي يقول: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:233] ويقول: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة:233]! الكل عبيد الله؛ الأطفال النساء الرجال الكل مالكهم واحد مولاهم واحد، الراحم لهم واحد، سبحان الله العظيم! اسمع كيف يسوي بينهم: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا [البقرة:233]، لا يضر الوالدة بولدها فيلزمها أن ترضعه مجاناً وهي عاجزة، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة:233] ولا هي تقول: أعطنا خمسة آلاف وإلا فلن نرضعه، لا هي تتأذى ولا هو يتأذى، والمولى هو الحاكم. لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة:233] فهو مولود له أو لا؟ ولهذا ما نقول: سليمان بن فاطمة، بل سليمان بن داود؛ لأنها هي ولدت له لا لها هي، سبحان الله!

معنى قوله تعالى: (وعلى الوارث مثل ذلك)

قال تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]، مات الوالد وهذه المرضعة ترضع، فمن يتولى النفقة؟ هذا اللفظ صالح لعدة معان، فالقرآن حمال الوجوه، فمن فقه وعرف يجد رحمة الله متجلية، لا إله إلا الله!الوارث يتناول الورثة الذين مات والدهم، أبناؤه الكبار، إخوانه، أعمامه ورثة أو لا؟ هم الذين يعطون هذه المرضعة المطلقة نفقتها.والوارث الطفل نفسه، فهو وارث، أصبح له مال، عنده الربع أو النصف في التركة، أو كل التركة له، إذاً: ينفق على المرضع من ماله هو، لأنه هو الوارث.إذاً: حق هذه المرضعة المسكينة ما دامت ترضعه عامين أو عاماً ونصفاً يؤخذ من هذا المال الصغير؛ لأنه وارث، فإن لم يكن له مال فحينئذ ينفق عليها الأقرباء الورثة لأصالتهم، وإن لم يكن ترك الميت مالاً، والكل يدل عليه قوله تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233].

معنى قوله تعالى: (فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما)

قال تعالى: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا [البقرة:233] أي: فطاماً للولد، بعد سنة قالت: يكفي، خذ ولدك، أو هو قال: يكفي، فالآن الولد لا بأس به والحمد لله، أعطونا ولدنا. فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ [البقرة:233]، وهذا يشمل أيضاً المرأة غير المطلقة هي وزوجها، قالت: يا أبا فلان! يكفني الإرضاع، لنفطم الولد، فإن رضي الزوج وقال: لا بأس فإنه يفطم، وإذا قال: لا، ما زال صغيراً، أرضعيه؛ فلا بد أن تطيع. فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ [البقرة:233] لا تستبد برأيها وتفطمه، وهو كذلك لا يقل: يكفي، فقد آذانا، فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [البقرة:233] أذن المولى لهما، لا تضييق ولا حرج ولا إثم، سبحان الله!

معنى قوله تعالى: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف)

ثم قال تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ [البقرة:233]، تريد أن ترضعه عند امرأة أخرى ولا تريد تركه مع أمه، أمه طلقت، حتى ولو لم تطلق، كان العرب يرضعون أولادهم عند النساء الحسناوات أو القويات ليخرج قوياً. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ [البقرة:233] عند نساء أخريات غير أمهات الأولاد فلا جناح عليكم، لا إثم ولا حرج، بشرط إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] أعطها حقها الذي لها وخذ الولد، هي أرضعته خمسة أشهر وما أعطيتها ريالاً، والآن تقول: أعطيني ولدي ورديه إلي يا فلانة، فأد حقها أولاً، سبحان الله! وإن كانت أمه هي، لكن أرضعته بمقابل وهو ماطلها وما أعطاها، ثم لما كثر الحق عليه قال: أعطينا ولدنا، وجدنا عمته ترضعه، يقول تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:233] بشرط إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] لا بالمماطلة، إذا سلمتم ما وجب عليكم أداؤه للمرضعة وبالمعروف؛ لأن بعض الصعاليك -كما تعرفون- يقولون: يا عمياء .. يا كذا! أعطينا ولدنا؛ لأنهم ما تربوا في حجور الصالحين، يقولون البذاءة والباطل، فلهذا قال: بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] لا بالمنكر.

معنى قوله تعالى: (واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير)

وأخيراً يقول تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:233] إياكم أن تخرجوا عن هذه التعاليم، أو تعبثوا بها وتستهينوا بها. أي يا رب قد تركها المسلمون من قرون، ما سمعوا بها ولا درسوا ولا اجتمعوا عليها، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:233].معاشر المستمعين! قد نعود إلى الآية إن شاء الله مرة أخرى، لكن اسمعوا: والله الذي لا إله غيره! لن نكمُل ولن نسعد، ولن نطيب ولن نطهر، ولن نسود ولن نقود البشرية إلا إذا عدنا إلى كتاب الله وحكمة رسوله. والطريقة سهلة ميسرة، وقد بلغنا وصحنا وأنتم ما بلغتم، وخاصة طلبة العلم، بل ينتقدون.أقول: أي مانع من أن نغير وضعنا بفجأة، يا أهل المسجد! يقول إمامكم: من الآن إن شاء الله إذا مالت الشمس إلى الغروب نأتي بأطفالنا ونسائنا إلى بيت ربنا، ونجلس بعد صلاة المغرب نتعلم الكتاب والحكمة، ونزكي أنفسنا، ونهذب أرواحنا، ونسموا بآدابنا، ومصدر الآداب هو قال الله وقال رسوله.تأتي القرية أو الحي بعد آذان المغرب فلا تجد أحداً، أين ذهب الناس؟ في بيت ربهم، أسألكم بالله: هل الذي يجلس في بيت مولاه مؤمناً موقناً يتلقى الكتاب والحكمة يفسق أو يفجر، أو يسيء إلى الناس أو يؤذيهم، هل يبخل أو يضن بما عنده وهم في حاجة إليه؟ والله! ما كان. أما اشتراكية، ديمقراطية، علمانية فخبط وهبوط، والله! ما يرفعكم إلا هذا الطريق السهل الميسر بلا صعوبة ولا كلفة، فقط نعلن لله أنا رجعنا إليك وتبنا إليك، وها نحن بين يديك كل ليلة نبكي. فهل عرفتم هذه؟ وستذكرونها إن شاء الله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-08-12, 04:31 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (14)
الحلقة (21)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (111)

إن عقد النكاح بين الرجل والمرأة قد ينتهي بالطلاق أو بموت أحد الزوجين، من أجل ذلك فقد شرع للمرأة التي يموت عنها زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشراً، فلا تتزين ولا تخرج من بيتها، فإذا انتهت عدتها جاز لها أن تتزين وأن تمس الطيب وأن تخرج من بيتها، ومتى ما كانت المرأة في عدتها فلا يجوز الحديث معها أو عنها في النكاح، إلا أن يكون الكلام من قبيل التلميح والتعريض دون التصريح، فإذا انتهت العدة جاز لها أن تخطب وتُنكح.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:فهيا بنا نتلو الآية التي درسناها بالأمس:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:233].

حكم إرضاع الزوجة والمطلقة ولدها

أولاً: هل يجب على المؤمنة أن ترضع ولدها؟الجواب: نعم. وإن كانت مطلقة فإنه يجب عليها إرضاعه اللبأ فقط، فإذا أرضعته الرضعات الأولى لا يجب عليها بعد ذلك، إن شاءت أرضعته أو أخذه والده وأرضعه حيث يشاء، فإن اتفقت مع زوجها على إرضاعه بنفقة معينة أرضعته، وإلا سلمت له ولده، أما إن كانت تحته فيجب أن ترضعه كما تطبخ وتكنس البيت، فذلك خاص بالمطلقات.والحد الأعلى لمدة الإرضاع حولان كاملان، وهما عامان تامان.فإن بلغ العامين وأرضعته مرضعة شهرين أو ثلاثة فهل هذا الإرضاع بعد العامين يحرم النكاح؟الجواب: لا، فلا قيمة له، لحديث: ( لا رضاع بعد فصال، ولا يتم بعد احتلام )، إذا احتلم الولد هل يبقى يتيماً؟ هو يتيم قبل احتلامه، فإن احتلم وبلغ فما أصبح يتيماً، أصبح رجلاً.أما إذا أرضعت الولد قبل نهاية العامين فتصبح المرضعة أمه وبناتها أخواته، وأولادها وإخوانه، وزوجها كأبيه.. وهكذا، لكن الرضاع بعد انتهاء الحولين لا يضر.فقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ [البقرة:233] صيغة مضارع مستقبل ولكن معناها الأمر، يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، إن كانت تحت الزوج فهذا الإرضاع واجب، وإن كانت مطلقة فالرضاع الواجب هو اللبأ الذي في اليوم الأول والثاني، وبعد ذلك تتفق مع زوجها المطلق لها على النفقة وترضع.

مدة الرضاعة وحكم أخذ الأجرة عليها ومن تجب عليه
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وحد الرضاع حولان؛ لقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، وإذا قال: يكفي يا أم فلان، يكفيه سنة فأعطينيه فله ذلك، وممكن لسنة ونصف، أو عشرين شهراً، فيأخذ ولده إذا ما أراد أن يتم الرضاعة.ويجوز للمرضع الأجنبية التي ترضع هذا العبد أن تأخذ الأجرة، وإذا اختلف الأب مع المرأة في النفقة، فهي قالت: ألف ريال في الشهر، وهو قال: خمسمائة؛ فإنه يرجع إلى حال الرجل: إذا كان غنياً له مال وراتب فلا بأس، وإذا كان لا يملك ذلك فينظر إلى حاله؛ نظراً إلى قول الله تعالى: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:233]. وأفاد قوله تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233] أنه تجب نفقة الأقارب على بعضهم في حال الفقر. كما أفادت الآية الكريمة أنه يجوز للوالد أن يرضع ولده من مرضعة غير والدته، لقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233]، أعطها أجرتها للأيام الماضية، وخذ ولدك وأرضعه حيث شئت.

تفسير قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ...)

والآن مع الآية الآتية:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234]، يوفون أيامهم، من الذي يوفيهم؟ الله، الله الذي يوفيهم أعمارهم وأيامهم وما كتب لهم، كما قال لعيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55]. وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234]، ما المراد بالأزواج؟ الزوجات؛ لأن الزوجة بالتاء الأنثى والزوج بدون تاء ذكر، لكن الأصل أن الزوج الذكر والأنثى، الرجل زوج إذا كانت معه امرأة، وهي زوج أيضاً إذا كان معها رجل، فكل واحد منهما هو زوج، إذا خفت اللبس والإيهام بين الناس قلت: زوجة بالهاء، لتفرق بين الرجل والمرأة، فقوله تعالى: وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234] يعني: زوجات، مات الرجل وترك امرأة أو امرأتين أو أكثر. ‏

حكمة زيادة العشر الليالي في العدة

قال تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، ما معنى: (يتربصن)؟ ينتظرن، لا يستعجلن النكاح، يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ [البقرة:234]، لا يتزوجن أو يعرضن أنفسهن للزواج أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، عشر ليال، فلم العشر الليالي هذه؟ فالشارع حكيم، فلم زاد عشر ليال؟قالت العلماء: الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: النطفة حين يصبها الرجل في الرحم تبقى أربعين يوماً نطفة، وأربعين يوماً علقة، وأربعين يوماً مضغة، فهذه أربعة أشهر، فزاد الله العشر الليالي إذ هي التي ينفخ فيها الروح، ويكون ذكراً أو أنثى.

لطائف في قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً)

قال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [البقرة:234]، منكم أيها المؤمنون والمؤمنات، فهذا ما يدخل فيه كافر ولا كافرة، أنتم يا أهل القرآن. وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234]، ومعنى يذرون: يتركون، وهذا الفعل -يا طلبة العلم- لا ماضي له، الفعل المضارع منه والأمر موجودان، والماضي لا وجود له، لا يقال: وَذَر، فـ(ذر): اترك، ومنه قوله تعالى: ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91]، فعل لا ماضي له؛ لثقله على اللسان هجره العرب، فأصبح منه مضارع وأمر دون الماضي، فيذرون بمعنى: يتركون، يذر بمعنى: يترك، ذره: اتركه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف)

وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، أي: عشر ليال، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234] هذه الآية الأولى.الآن عرفتم ما فرض الله علينا أيها المؤمنون أو لا؟قال لنا: والذين يتوفاهم ربهم منكم ويتركون نساء تحتهم على هؤلاء النسوة أن يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً، فإذا بلغن أجلهن وانتهت الأربعة أشهر وعشر ليال فما الواجب؟قال: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:234]، ماذا يفعلن بأنفسهن؟ هل ينتحرن، أو يخرجن عاريات؟إن التربص الذي سبق ذكره معناه: الانتظار، ينتظرن فلا يتعرضن للخطبة ولا للزواج ولا يتزين أو يتجملن لا بالكحل ولا بالعطر ولا بالحلي ولا بالثياب الفاخرة أبداً، يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً، هذا هو الإحداد، أحدت فلانة لموت زوجها فهي محدة، أحدت بمعنى: منعت نفسها عن التفكير في الزواج، وعن كل ما يريده منها ذلك.لو قالت لها امرأة: يا فلانة! هل تتزوجين؟ فإنها تغلق أذنيها فلا تسمع، أو تقوم من المجلس، ولا تكتحل ولا تستعمل زينة مهما كانت، حتى الحلي تسقطه، حتى تستكمل أربعة أشهر وعشر ليال. فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:234] أيها المؤمنون فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:234]، وهذا أسنده إلينا نحن الفحول، فالمرأة بهلولة ضائعة، لكن أباها أو أخاها أو عمها إذا شاهدها تتعرض للرجال أو تتزين فإنه يؤدبها، ولهذا قال تعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:234] أيها الرجال، ابنتك مات زوجها فهي في عدتها محدة، لا تسمح لها أن تمس طيباً أو تتجمل أو تسمع الأغاني، فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234] إذا تآمرتم معها وسكتم فعرفتموها تطل على النافذة وترغب في الزواج فيا ويلكم.

حكم الحداد على الزوج وغيره

واسمعوا هذا الحديث النبوي الشريف، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً )، والحديث مجمع على صحته.( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر )، أما إذا كانت يهودية أو نصرانية كافرة فشأنها، ( أن تحد ): أن تمتنع من الزينة والتعرض للرجال فوق ثلاث ليال؛ مات أبوها أخوها عمها ولدها فلا بأس لثلاث ليالٍ فهي في كرب، لا تلبس جميلاً ولا تكتحل، فهي معذورة في هذه الثلاث الليالي، وفوق الثلاث ليال حرام عليها، ( إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً )، أي: عشر ليالٍ.فالسنة بينت معنى الآية، الآية مجملة؛ لأن الله تعالى قال: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] كيف يتربصن؟الرسول بين بأنه: ينتظرن حتى تنقضي هذه المدة وبعد ذلك يتطيبن، يكتحلن، يلبسن الحرير، يلبسن الحلي، ويسمحن لمن يريد أن يخطبهن، ولا يحل لمؤمن أن يخطب امرأة وهي في العدة كما سيأتي في الآية بعد هذه. إذاً: نعيد تلاوة الآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] هذا هو الإحداد، ثم فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234] لا تخرج لترقص، فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234]، وغير المعروف أن تفعل المنكر، فتخرج تغني في الشارع.فإذا انتهت المدة فلا بأس أن تكتحل، أن تلبس سواراً، أن تلبس ثوباً جديداً، هذا هو المعروف، ولكن إذا جمعت مغنيات لترقص، تقول: انتهينا الآن من الإحداد! فهل يجوز هذا؟ ما هو بمعروف، هذا منكر.أو تخرج في الشوارع تغني وتقول: أنا انتهت عدتي فتزوجوني، فهل نسكت على هذا؟ سبحان الله العظيم! إنما قال تعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234] لا جناح عليكم يا فحول فيما فعل هؤلاء النسوة بالمعروف، أما مع المنكر فلا، لا حق لهن.

تفسير قوله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ...)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

ثم يقول تعالى -والكلام كله حلقات متصلة-: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:235] أيها الفحول فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة:235]، اللهم إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا [البقرة:235]، عجب هذا القرآن!اسمع هذا الإعلان: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:235]، أيها المؤمنون، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:235] في أي شيء؟ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [البقرة:235]، التعريض غير اللفظ الصريح، يا أم فلانة! لنا رغبة عندكم، يا أم عبد الله! لنا حاجة عندكم، فأي حاجة هذه؟ هل دجاجة أو بقرة؟ لا ندري، هذا التعريض، يقول: يا فلان! أنا مسافر إن شاء الله وسأعود بعد خمسة أشهر أو ستة، وإن شاء الله سوف نتقابل، فما مراده بالمقابلة؟ ممكن أنه يريد خطبة ابنتك، هذا التعريض، رفع الله الحرج فيه لعلمه بحرصنا ورغبتنا في المرأة الصالحة، هذه كانت امرأة سيدي فلان العالم الرباني أو الغني الثري، وأموالها كثيرة، كل واحد يطمع أن يتزوجها، علم الله هذا. وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235]، حتى ما تنطق به يعرفه، لا إله إلا الله! فالذي عرض نطق، وهناك من لا يعرض، لكن في نفسه إنه إذا انتهت عدة فلانة فسأخطبها، عرفه الله، ونهاه أن يقول كلمة غير التعريض. ‏

معنى قوله تعالى: (علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سراً إلا أن تقولوا قولاً معروفاً)

وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ [البقرة:235] الله هو خالق الغرائز وطابع الطبائع؛ عرف ما يجري في نفوس البشر، فقال: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ [البقرة:235]، فلهذا منع وحرم أن تقول: زوجني فلانة. وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة:235]، اللهم إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا [البقرة:235]، لا تواعدها بالسر أنك ستتزوجها إلا أن تقول القول المعروف كما قدمنا، كأن نقول: لنا عندكم حاجة، نحن كذا، نحن نحترمكم، نعرف كمالكم، فيفهم ذلك باللحن.

معنى قوله تعالى: (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله)

قال تعالى: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا [البقرة:235] وهو التعريض المعروف، ثم ختم الآية بقوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، أنت عرضت ولوحت، ولكن إياك أن تعقد عليها وقد وافقت ووافق أهلها قبل نهاية العدة: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235] والأجل كم؟ أربعة أشهر وعشر ليال، هذه إذا كانت مات زوجها، وإذا كانت مطلقة فقط فكذلك لا يحل أن تعزم عقدة النكاح قبل نهاية العدة.

خلاف العلماء في عقوبة العاقد على المعتدة

الإمام مالك يقول: يفرق بينهما ولا يتزوجها حتى الموت عقوبة لهما، والجمهور يقولون: يفرق بينهما، فإذا انتهت العدة فله أن يتزوجها من جديد.مالك قال: لا تحل له بعد ذلك عقوبة له؛ لتعدي حدود الله، امرأة ما زالت في حكم ذات الزوج وما انتهت عدتها وأنت تعقد عليها وتبني بها؟! إذاً: عقوبة له أولاً فإنه يتم الفصل بينهما، لا يمكن أن يرضى مؤمن بالبقاء عنده، هي حرام عليه، لكن بعد الانفصال وذهاب المدة الجمهور يقولون: لا بأس أن يتزوجها من جديد، ومالك يقول: لا، عقوبة له حتى لا يفعلها واحد آخر، يُحرم منها.

معنى قوله تعالى: (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ...)

قال تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، وأخيراً: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:235] ما هذه التعاليم؟ هل يمكن أن يكون كلام بشر؟ مستحيل، فليقنن صاحب التقنين ما يقنن، فإنه لا يعرف هذا السلوك.هل يستطيع أن يقول: إن الدولة عالمة بما في قلوبكم، فالذي يخرج عن القانون ليعبث فسوف نفعل به ونفعل؟ من يدريه ومن يطلعه؟ لكن هذا الله جل جلاله، فلهذا لن يكون هذا الكلام إلا كلام الله، مستحيل أن يكون كلام بشر.يقول تعالى: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، حتى تنتهي عدة المطلقة أو عدة المتوفى عنها زوجها، وإذا وسوس لها وعقد عليها قبل نهاية العدة فيجب أن يفرق بينهما، وتذهب إلى أهلها ويذهب إلى أهله مع اللوم والعتاب والتأديب، وإن رفعت القضية فلا يعاودها أبداً، ما دام عصى الله وفسق وخرج عن طاعته وعقد عليها وهي ما انتهت عدتها ليحزن أهل الميت، فهذا لا تعود إليه عقوبة له؛ لأن سر كون العدة أربعة أشهر وعشراً يؤكد هذا، فإذا مات ابني أو أخي وترك هذه المرأة، فهل يسرني أن تتزوج بعد سبعة أيام أو ثمانية، هل أستطيع أن أنظر إلى وجهها، بل أعتبرها خائنة لي ولأهلي، فبرحمة الرحيم جعلها تعتد أربعة أشهر ثلث السنة، فما يبقى في الغالب حزن ولا كرب ولا هم، فحزن الموت يدوم شهراً أو شهرين ويزول.أنا حزنت على أمي أكثر من سنتين، وحزنت أيضاً على صديق لنا كذا سنة، وحزنت على صهري وعمي الذي مات في البقيع، ومنذ سنتين أو ثلاث وأنا دائماً معه في المنام، ولكن هذا عواطف خاصة، لكن الأمر العام أنه كيف يموت الرجل وتذهب امرأته تتزوج بعد شهر أو بعد عشرين يوم؟! نحن في كرب وهم وهي تزغرد وأهلها يطعمون الطعام ويزغردون، أيجوز هذا؟إذاً: قولوا: آمنا بالله، هذه الشريعة الإلهية ما أعرضت عنها أمة إلا هبطت، ولا نسيتها أو تناستها وأعرضت عنها إلا هلكت، والواقع شاهد، لا تطالبني بالدليل يا عبد الله، أين أمة الإسلام السائدة الرائدة قائدة البشرية؟ أصبحت تحت نعال اليهود والنصارى.أعرضوا عن نور الله، فماذا يصيبهم؟ ولولا أن الله وعد رسوله بأن لا يهلك أمته لكنا استوجبنا العذاب الدائم منذ سنين، ومنذ قرون، لكن لطف الله ورحمته وبركة هذا النبي صلى الله عليه وسلم.أمة أعرضت عن كتابها بالمرة لا تفقه ولا تدرس ولا تعلم، ومن يتعلمه يتعلمه ليقرأه على الموتى، وما زلنا إلى الآن نقول: كيف لا تجوز القراءة على الميت؟ يجب أن نقرأه على الأحياء لتنمو حياتهم وتزدهر، ويعرفوا ربهم والطريق إليه، لا ليدخل الميت الجنة بقراءتنا.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

سأتلوا الآيتين مرة أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234]، ما الذي يفعلنه في أنفسهن؟ التحلي والكحل والزينة.. وما إلى ذلك، ولكن بالمعروف، مسموح لها أن تكتحل وتلبس الجديد النظيف وتلبس الحلي في يديها، لكن إذا قالت: نغني الآن؛ فهذا ما هو بمعروف عندنا هذا، أو تكشف عن رأسها وتقول: أنا خرجت من العدة! فنقول: ولكن هذا غير معروف عندنا. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234] وخبير بما يعملن أيضاً، لكن الله دائماً يذكر الرجال ويغفل شأن النساء لأن الفحول ما يرضون أن يذكر نساؤهم بينهم، عرف الله هذه الغريزة التي غرزها في فحول الرجال، والذين هبطوا يجلس نساؤهم معهم، تجده في دار السينما وزوجته إلى جنبه، لكن أولئك أموات غير أحياء، فالله عز وجل ما يذكر النساء إلا من ضرورة، يخاطب الأمة في فحولها: (يا أيها الذين آمنوا)، ما يقول: (ويا أيتها المؤمنات)، إذ النساء تابعات للرجال.فالإسلام الحق والإيمان الصدق رجاله فحول ما يسمحون أن تذكر نساؤهم بينهم أبداً، فمن هنا يقول تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ [البقرة:234] ومن يعمل؟ من يتزين ويكتحل؟ هل الرجال أو النساء؟ وما قال: (والله بما تعملن يا مؤمنات خبير)، بل قال: (بما تعملون)، ونحن مسئولون كما قلنا، أبو البنت أو أخوها يجب أن يرعاها، ما يسمح لها أن تتعرض للنكاح وهي في العدة.والآية الثانية: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235]؛ لعلمه تعالى بغرائزنا وطباعنا، فأحدنا قد يعلم أن فلانة امرأة كذا مات زوجها فيبدأ يتطلع، ويكن ذلك في نفسه، قطعاً هذا موجود، ولهذا قال: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ [البقرة:235]، والتعريض غير المواجهة والمصارحة، مثاله: يا فلان! إننا نرغب في صحبتكم أو في جواركم. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ [البقرة:235]، ما تخفون على الله، والله! لقد علم أنكم ستذكرونهن، وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا [البقرة:235] كرر هذه القضية مرتين، فلا إله إلا الله! لأن هذا عام في المحدة والمطلقة.فأنت طلقت زوجتك يا إبراهيم، فهي ما زالت في عدتها، وما طلقتها إلا لتأديبها، وتريد قبل نهاية العدة أن ترجعها، فيأتي الآخر ويتزوجها، كيف تنظر إليه؟ ترويع المسلم حرام، فكيف بأن تأخذ فلذة كبده، المطلقة تكون في عدة، وكثير من الفحول يطلقون تأديباً لها لشهر أو شهرين، وقبل أن تنتهي العدة يراجعها، فتكون قد تأدبت، فإذا كان المؤمن لا يحترم هذا ويخطبها ويتزوجها وهي في عدتها فذلك جرم كبير، بل حتى لو خطبها وهي في العدة، ولو ما تزوجها في العدة، حرام عليه أن يخطبها في عدتها حتى بالتعريض، التعريض يجوز للمرأة المتوفى عنها زوجها. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، كتاب من؟ كتاب الله، كتاب العقد، كتاب الطلاق، كتاب النكاح؛ الأجل المحدد الذي هو أربعة أشهر وعشر ليالٍ أو انقضاء العدة إن كانت مطلقة. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235] في كل شيء، مادام يعلم ما في أنفسنا فكيف لا نحذره، فلا نقول الكلمة حتى نعلم أنها من رضاه، لا نمشي المشية حتى نعرف أنه أذن فيها، لا ننام النومة ولا نستيقظ حتى نعلم رضاه، هذا هو الحذر، هذه هي المراقبة، ما نعيش وكأنه لا رب لنا ولا ولي لنا ونتصرف بأهوائنا وعقولنا.كيف وهو يقول: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:235]، فمن زلت قدمه وتاب إلى الله تاب عليه وغفر له ورحمه. لهذه الجملة أثرها، فمن الجائز أن يقع الإنسان في ورطة بأن يتصل بذوي المرأة ويقول: نريد نتزوج بفلانة إذا انتهت عدتها، فإذا عرف هذا وندم واستغفر الله عز وجل فالله تعالى يغفر له، والله غفور رحيم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-08-13, 04:54 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (15)
الحلقة (22)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (112)

من الأحكام التي تنبني على عقد النكاح أن من تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول بها وقبل أن يفرض لها مهراً فله أن ينفق عليها بالمعروف حتى تتزوج، وهذا من قبيل الإحسان والمعروف، كما أن من طلق زوجه قبل الدخول بها وبعد أن حدد لها مهراً فإن لها نصف ذلك المهر، وأما إن طلقها بعد الدخول بها فإن لها كامل المهر المسمى بينهما، ولهما أن يتعافيا كل بحقه عند الآخر، فللزوج التنازل عن كامل المهر ولو لم يدخل بها، وللزوجة التنازل عن نصف المهر عند عدم الدخول، أو بالمهر كاملاً عند الدخول بها.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع سورة البقرة، وها نحن مع هذه الآيات الكريمات، إنها ثلاث آيات، وقبل الشروع فيها نستذكر ما درسناه بالأمس حول قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:234-235].

وجوب إحداد زوجة المتوفى وحكمة مشروعيته

قد ذكرنا الإحداد: وهو ملازمة المرأة البيت الذي توفي فيه الزوج، فلا تخرج إلا من ضرورة، ولا تبيت إلا فيه، وإن خافت أو ما وجدت عائلاً فلتنتقل إلى بيت آخر، وتلازمه حتى تنتهي عدتها، وتمتنع عن الخِطبة، فلا تسمح أن يخطبها رجل كائناً من كان، وعن التزين والتجمل حتى بكحل العينين وأحمر الخدين، والخضاب في الكفين، والسوار في العنق، والأسوار في اليدين، هذا الإحداد، يقال فيها: محدة؛ أحدت على زوجها.ما هي العلة، ما السر، ما الحكمة؟ لمشاركة أهل الميت في مصابهم، عاشت مع ابنهم أو أبيهم دهراً طويلاً، وما إن فقدته وأغمضوا عينيه حتى هرولت لتتزوج وتغني؟! أهذه هي الصحبة؟! فهذا تدبير الله عز وجل، تشارك الأسرة بكاملها في همها وكربها وحزنها.وهل يجوز للمؤمنة أن تحد على أخيها أو على أبيها أو على ابنها؟نعم يجوز، ولكن ثلاث ليال فقط، فإن زادت ليلة رابعة فملعونة، أما الزوج فأربعة أشهر وعشراً، لمَ العشر هذه؟ ما السر يا علماء الأسرار؟لأن في العشر هذه ينفخ روح الولد، ويكتب عمله وأجله، وشقي أو سعيد، فقولوا: آمنا بالله.

حكم خطبة المعتدة من طلاق

وهل تجوز خطبة المعتدة من طلاق؟ الجواب: لا تجوز، فإذا كانت في العدة وهي مطلقة فحرام أن يخطبها الخاطب؛ لأنها في حكم الزوجة، بدليل أنه لو مات زوجها ورثته مع أولاده، ولو ماتت ورثها زوجها مع أولادها.ولو أن أحمق أو جاهلاً أعمى خطبها وتزوجها قبل أن نهاية العدة، فبعد شهر أو شهرين تزوجها؛ فإنه يفرق بينهما، ثم بعد ذلك يرى مالك ألا يجتمعا أبداً، لم يا مالك ؟ قال: عقوبة وتأديباً له وزجراً لغيره، هذا الذي خرم الشريعة ومزقها نحرمه من هذه، نقول: اذهب، لا تتزوجها أبداً، وهذا كلام معقول جداً.وغيره قال: إذا انتهت العدة وفصلنا بينهما ومضت فترة فممكن أن يعود إليها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وجوب مراقبة الله تعالى والحذر من نقمته

وقوله تعالى في ختام الآية الكريمة: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235]، ماذا تفيدنا هذه الجملة العظيمة؟ تفيدنا مراقبة الله تعالى، يا ابن الإسلام! إياك أن تغفل ساعة وأنت بين يدي الله في كل حالاتك، فراقب الله عز وجل؛ فارهبه وخفه، كلما حاولت نفسك أو شيطانك أن يبعدك عن رضا الله فانتبه واستغفر الله؛ لأنك لست وحدك، الله معك: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تغوط خرج إلى الصحراء ولا يكشف عن جسمه حتى يصل إلى الأرض حياء من الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ...)
والآن مع هذه الآية الكريمة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] هذه آية، تأملوا لعلكم تفهمون كلام الله، هو أفصح من كلامنا وأوضح من كلامنا.قوله تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]، مثلاً: عقد عليها، وقالوا: البناء إن شاء الله سيكون بعد الحج، وفي شوال طلق، وما مسها، فهل حرام عليه هذا؟ كلا، بل جائز: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]. وكيف نفرض لها فريضة؟ المراد المهر تفرضه أنت، تقول: علينا لك عشرة آلاف ريال، فهنا فرض لها، أو أنهم عندما عقدوا قالوا: المهر ثلاثون ألفاً تسلم عند البناء، وأحياناً لا يفرضون لها، يعقدون ويقولون: إن شاء الله سيكون المهر عند البناء.

معنى قوله تعالى: (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين)

وقوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236]، الموسع صاحب السعة في المال، والمقتر صاحب الضيق في المال، هذه المتعة الواجبة لامرأة تزوجها رجل وطلقها ولم يسم لها مهراً، يجب أن يمتعها بمتعة بحسب حاله: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا [البقرة:236] واجباً عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236].هنا القرآن حمال الوجوه، فإذا كانت المطلقة قبل البناء مسمى لها مهر فسيأتي أن الله أعطاها النصف، فتأخذ النصف وترد النصف؛ أو تستلم النصف لأنها ما استلمت بعد، فإن طُلقت قبل البناء ولم يسم لها مهر فما الواجب؟ الواجب: المتعة، يقدرها القاضي أو الجماعة؛ ينظرون إلى دخله من زراعته، من تجارته، من وظيفته، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا [البقرة:236] أي: المتعة بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:236]، ما هناك إهانة ولا عنترية ولا: يا كلبة، ولا يا كذا من ألفاظ السوء والمنكر، بل بالمعروف، ولا يعطيها كيس شعير فيه نخالة أكلها السوس أيضاً، أو يعطيها عشرين ألفاً محالة فيها على أحد في لندن، لا بد من شيء معروف، لا يخرج عن الآداب الإسلامية: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236]. لكن أكثر المسلمين لا يعملون بهذا، دلوني على رجل طلق امرأته ولا حقوق لها عليه، ثم بعث لها بجارية تخدمها، أو بعث لها بشيك فيه عشرة آلاف ريال تستأنس بها ما دامت ما تزوجت، أو حتى بتيس أو كبش، هذا معدوم، لم؟ ما عرفنا، ما قرأنا، ما فهمنا قوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] المحسن لا يكون الشيء واجباً عليه ويفعله وكأنه واجب، فمن الآن أسأل الله أن لا تطلقوا نساءكم، ومن طلق فليطبق هذه الآية، فحين تنتهي العدة يعطيها شيئاً يقول: هذه المتعة متعناك بها، فتسجل له، ويكون قد امتثل أمر الله عز وجل.نعيد الآية: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:236] أيها المؤمنون الربانيون، أهل القرآن والإيمان إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236].

تفسير قوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ...)

ثم قال تعالى في الآية الثانية: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237] ما معنى المس؟ هل باليد، هل المراد: مس رأسها أو كتفها؟المراد به الوطء، والقرآن كلام الله كلام عالٍ، تستطيع البنت البكر في خدرها التي لا تستطيع أن تتكلم مع الرجال أن تقرأه على أبيها وتسمعه، إذ ما فيه أبداً كلام فاحش، سبحان الله العظيم! أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237]، المراد بالمس الوطء، لمَ قال: المس والمسيس؟ تأدباً، حتى لا نلفظ بألفاظ السوء.فالفتاة البكر العذراء لا أحد أكثر حياء منها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أشد حياءً من البكر في خدرها، هذه البكر قالت العلماء: لو تقرأ القرآن على أبيها أو أمها فلن تستحي؛ لأن هذه ألفاظ ما تثير في نفسها شيئاً، فلا إله إلا الله! فهل هذا القرآن نقرؤه على الموتى نوبخهم به؟! لا حول ولا قوة إلا بالله! وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ [البقرة:237]، أي: الأزواج، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:237]، ألفاً أو عشرة أو مائة، فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237] إذاً: فعليكم نصف ما فرضتم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى)

قال تعالى: إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]، فبعض الفحول ما يسترجع منها شيئاً، أمهرها عشرة آلاف وطلقها قبل البناء والمسيس، فمع السلامة، لا يقول لها: ردي علينا نصف الصداق، ويجوز له ذلك، ولكن أراد أن يتكرم، وخاصة إذا كان ما هو في حاجة إلى هذا المبلغ. كما أن قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237] يعني أن الأب أيضاً يقول: ما نحن في حاجة إلى مالك، خذه كله، ابنتنا ما زالت عندنا، ما مسها أحد، فخذه كله، فهذا يجوز، لا يمنع الله تعالى الإحسان بين المؤمنين، فأحسنوا، والحمد لله.وأخيراً: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، ولي الزوجة، الزوج، كلكم من يعفو منكم أحسن، كيف يدعونا الله إلى العفو؟ وأن تعفوا خير لكم، أقرب للتقوى.

معنى قوله تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير)

وأخيراً: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237] عجب هذا! يعني أن فلاناً صديقنا ومحبنا زوجنا ابنته، وشاء الله فطلقناها، فلا عداوة ولا بغضاء، سبحان الله العظيم!أما العامة عندنا فإذا طلقوا بنتهم فذاك البيت لا ينظرون إليه ولا يكلمونه، هذا واقع أو لا؟ يصبح عدواً، والله يقول: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، قبل أن يزوج بعضكم بعضاً أما كنتم تتوادون وتتحابون وتتقاربون حتى زوجتم؟ فهذا الفضل كيف ينسونه؟!وهذا أيضاً له علة، وهي أن الفحول منا من يوم هبطنا من علياء السماء لا يحسنون الطلاق، ولا يعرفون كيف يطلقون، هذه علة هذا، الطلاق الذي شرعه الله وقال فيه: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229] هو أن الرجل يعيش مع المرأة العام والأعوام، فإن وجد نفسه متأذياً منها، ما أطاق الحياة معها، ما استطاع، وهو ولي الله، والله ما يرضى لوليه أن يؤذى، فحينئذ أذن الله تعالى في أن يطلقها لأجل رفع الضرر عنه، وقد تكون هي متضررة، هي التي تبكي وتتألم، ولم تصبر، فيطلقها لوجه الله، لأنها أمة الله ووليته، فما يرضى أن تعيش متألمة وهي أخته في الله والإسلام، فيعطيها حقوقها ويمتعها ويطلقها، هذا الطلاق على هذه الصورة ما يوجد عداوة بين البيتين أبداً، العداوة توجد بين البيتين حين يطلقها عناداً وظلماً، أو تطلق هي كذلك، وهكذا سلسلة الكمال حلقة حلقة، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، وهل الحية تلد غير الحية؟ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36].
تفسير قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين)

مناسبة الآية الكريمة لما قبلها

يقول تعالى وقوله الحق: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238].يا عباد الله، أيها الفحول، أيها المؤمنون والمؤمنات! ما السر في الأمر الآن بالمحافظة على الصلوات؟ الجواب: لأن المحافظة على الصلوات هي التي تهذب الأخلاق وتروض النفوس وتوجد الطمأنينة والذكاء والطهر والصفاء في الإنسان، أما تارك صلاة والمتهاون بالصلاة فوالله! لا خير يرجى منه. فهو تعالى وضع أيدينا على مصدر الكمال والطهر، وإلا فما علاقة هذه الآية بسابقتها؟فإذا أردتم أن يكون مجتمعكم طاهراً نقياً متحاباً متعاوناً فحافظوا على الصلوات عامة والصلاة الوسطى خاصة؛ لأن الصلاة تنهى فاعلها عن الفحشاء في القول والفعل، وعن المنكر في ذلك، وإذا انعدم الفحش والمنكر حل محلهما الطهر والصفاء والمودة والإخاء، فحافظوا يا عباد الله على الصلوات بصورة عامة، والصلاة الوسطى بصورة خاصة.

المراد بالصلاة الوسطى

وما هي الصلاة الوسطى؟منهم من يقول: الصبح، ومنهم من يقول: العصر، ولكن نقول: الوسطى هي بين اثنين فالظهر بين الصبح وبين العصر، والعصر بين الظهر وبين المغرب، والعشاء بين المغرب وبين الصبح، إذاً: كلها وسطى، إذاً: فحافظوا عليها كلها، وورد في الحديث: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر )، في حرب الخندق، حيث المناوشة بالسهام وكذا، فما صلى العصر إلا بعد المغرب برجاله، هذا قبل أن تنزل كيفية الصلاة في الحرب، فقال صلى الله عليه وسلم: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر )، ومالك يقول: إنها صلاة الصبح، والمخرج النفيس: أننا نحافظ عليها كلها، أخذاً بقوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ [البقرة:238]، وكل صلاة هي وسطى؛ ولأنها خمسة أوقات فلا بد من واحدة وسط، لكن لفظ الوسطى أيضاً يدل على الفضلى لا بمعنى الوسط، على الفضلى ذات الفضل والكمال.ومن هنا تدور الأقوال على العصر والصبح؛ لحديث: ( من صلى البردين دخل الجنة )؛ لأنكم أيها العمال تتغدون الساعة الثانية والنصف، والعصر في الثالثة، فيقول أحدكم: ننام ساعة وبعدها نصلي، فما حافظ على الصلاة، وصلاة الصبح وقت لذيذ النوم، فكيف يستيقظ، فلذا قال صلى الله عليه وسلم: ( من صلى البردين دخل الجنة )، ضمانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تقل: كيف؟ وقد تقول: إذاً: يزني ويفجر ويكذب ويصلي البردين! فأقول: والله! ما يستطيع، لو صلى الصلوات الخمس موقناً مؤمناً فهل سيرضى بالفجور والباطل؟ مستحيل.فلهذا اعرفوا ماذا يقول الحكيم صلى الله عليه وسلم: ( من صلى البردين ) حافظ عليهما طول عمره ( دخل الجنة )، إي والله؛ لأن هذا الذي يحافظ على هاتين الصلاتين إيماناً واحتساباً وقد حافظ على غيرهما زكت نفسه وطابت وطهرت، فأنى له أن يرضى بالتلوث بالذنوب والآثام؟ وإن سقط مرة اغتسل وتنظف عشرة أعوام، فآمنا بالله وبرسوله!

معنى قوله تعالى: (وقوموا لله قانتين)

يقول تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، أين نقوم لله قانتين؟ في الصلاة، وهل يصح أن نصلي صلاة الفريضة جلوساً؟ لا يصح، إلا المريض، أما الصحيح فلو صلى الفريضة جالساً فصلاته باطلة بالإجماع، ومعنى باطلة أنها لا تولد الطاقة، ما تنتج النور في النفس، وجودها كعدمها، بطل مفعولها فهي فاسدة لا تنتج.إذاً: وقوموا لله في الصلاة قانتين، والمراد من القنوت هنا السكوت، إذ كانوا قبل هذه الآية يتكلمون في الصلاة، يسلم عليه فيقول: وعليكم السلام، تقول: أين الدابة؟ فيقول: عند الباب، تقول: تعشيتم؟ فيقول: لا أو نعم، يتكلمون بالضرورة، فلما نزلت هذه الآية سكتوا، فمن تكلم بأمور الدنيا الخارجة عن الصلاة فصلاته باطلة بالإجماع فاسدة، كيف فسدت؟ ما تنتج وما تولد له الطاقة النورانية، اختل أداؤها وبطل مفعولها.فأصبح بهذا أنه لا يصح الكلام في الصلاة إلا إذا كان لإصلاحها، كما لو أن الإمام قام للخامسة فقلنا: سبحان الله، سبحان الله، فما عرف، فنقول: هذه خامسة، ويجوز هذا؛ لأن هذا الكلام لصالح الصلاة، فإن كان لصالح الصلاة فلا بأس وعلى قدر الحاجة أيضاً.أما الضحك مطلقاً والكلام لغير الصلاة فمبطل للصلاة بالإجماع، وجاز التبسم، إذا ابتسم المؤمن فلا حرج أن يظهر أسنانه بين شفتيه، لا يقول: هاه هاه أو يقهقه، فحينئذ تبطل الصلاة بالإجماع، وبعض أهل العلم يقول: وضوؤه باطل أيضاً، والصحيح أن وضوءه لا يبطل. حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] واقفين ساكتين، لا بيع ولا شراء ولا كلام في أمور الدنيا أبداً.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير قوله تعالى: (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً ...)

ثم قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ [البقرة:239] هذه صلاة الخوف: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، صلوا على أرجلكم أو أنتم راكبون على الخيول والدبابات والطائرات إن خفتم من العدو، وصلاة الخوف مفسرة في سورة النساء، كيف؟ يقسم القائد الجيش فرقتين، فرقة تصلي، والأخرى تحرس، فتصلي هذه ركعة وتذهب تحل محل تلك، وتأتي الطائفة الثانية فتصلي ركعة وتعود، وتأتي الأخرى فتصلي مع الإمام ركعة وتسلم.ولها صور عدة، وإذا ما أمكن ذلك فإنهم يصلون وهم على الدبابات والخيول، أو يصلي وهو يجري على الأرض يطارد العدو والرمح بيده وهو يصلي، فعل هذا أصحاب رسول الله.وهل هذا يفعله المؤمنون؟ تستطيع أن تقول: إن (55%) من العالم الإسلامي ما يصلون أبداً، وما الدليل؟ الدليل الهبوط، كيف هبطنا من علياء السماء بعدما كنا قادة الدنيا وسادتها ومربيها ومعلميها؟ أصبحنا تحتهم، ما سبب هذا؟ انطفأت تلك الأنوار من قلوبنا، أضعنا الصلاة ومنعنا الزكاة. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، معنى (رجالاً): على أرجلكم، ليس المعنى: ضد النساء، (رجال) تمشون وتصلون، (أو ركباناً) على أية دابة أو على أي مركوب.

معنى قوله تعالى: (فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون)

فَإِذَا أَمِنتُمْ [البقرة:239] زال الخوف واستقرت الحال؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:239].فابتداءً صلوا كما علمكم الله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، بتلك الصورة الخاشعة الباكية الدامعة، ثم مع ذلك اذكروه بألسنتكم وقلوبكم، اشكروه على نعمة أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذا العلم ما هو بهين، فبكم تقدرون هذا العلم؟ والله! لا يقدر بشيء، لو قيل لك: انس الفاتحة وسنعطيك مليار دولار فوالله لا تقبل، الفاتحة أغلى، فكيف بمعرفتك الله والملكوت الأعلى والدار الآخرة وما فيها، ومحاب الله ما هي، ومكارهه ما هي، وأولياءه من هم وأعداءه من هم، فهذه العلوم هل كانت أمك أو أبوك يعرفانها في الجاهلية؟ إذاً: علمكها الله، فاشكروا الله عز وجل على ما علمكم: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:239].
ملخص لما جاء في تفسير الآيات

الأحكام المتعلقة بالمطلقة قبل المسيس

هيا نقرأ الآيات، وتأملوا ما فهمتم:قال تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236]، هذه الآية الأولى، فماذا تحمل هذه الآية؟هذه الآية متعلقة بالمطلقة التي لم تمس، وقد بين تعالى في آية أخرى أنه لا عدة عليها، وهي آية الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ [الأحزاب:49]، فالمتعة واجبة هنا، وقلنا: المتعة للتي لم يسم لها فرض، والتي سمي لها فرض لها نصف الفرض، إن شاءت فلتأخذه كله أو تعفو.الآية الثانية: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237]، في هذا اللفظ تدخل المطلقة قبل المسيس، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:237] أي: سميتم لهن مهراً، فالواجب ما هو؟ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237]، إن كان عشرة آلاف فأعطها خمسة آلاف وخمسة لك، وإن أخذت هي العشرة فقل: ردي علينا خمسة آلاف؛ لأنك عدت كما كنت ما مسسناك، فهاتي الخمسة الآلاف، إلا أن يعفو الفحل الكريم، فيقول: ما نحن في حاجة إلى هذا. أو هي كذلك أو أبوها ووليها يقولون: ما نقبل منك هذا، خذه كاملاً، ما ترد علينا شيئاً، ابنتنا عندنا ما مسها شيء.من فتح هذا الباب الرحماني؟ الله، هل هذا من وضع البشر؟ مستحيل، هذا أكرم من البشر، ومع هذا ما يقرءون الكتاب، إلى الآن أود أن يقول أحدنا: يا شيخ! أنا دائماً إذا جلست في المسجد قبل الصلاة أقول لأي مؤمن: من فضلك تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن، أو يقول: نحن في البيت نتغدى أو نتعشى فنقول لأحدنا: يا سيد! من فضلك أسمعنا شيئاً من القرآن. أو يقرأ القرآن ويأتي إلى الشيخ يبحث عنه في اليابان أو في الصين، يقول له: ما فهمت مراد الله من هذه الآية، علمني ما يريد الله منا؟ لكن فهذا لا وجود له.ودعنا من هذا، لم ما يجتمع أهل المدينة في مساجدهم بين مغرب وعشاء كل ليلة يدرسون كتاب الله؟ أم أنه ليس فيه أجر؟ حسبهم أن يذكرهم الله في الملكوت الأعلى، ومن يذكره الله هل يشقيه أو يسلط أعداءه عليه؟ فكم خلا من قرن ونحن هاربون من القرآن! ثمانية قرون أو أكثر، وقد وضعوا لنا قاعدة فقالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ، فإذا الشيخ أصاب فهو مخطئ، إذاً: حرام عليه أن يفسر كلام الله، وإن أخطأ فقد كفر! فمن يستطيع أن يقول: قال الله، فألجمونا بلجام من حديد.إذاً: ماذا نصنع بالقرآن؟ الجواب: نقرؤه في المقبرة، ما دام أننا لا نفسره ولا نفهم ما قال الله، ولا ما أمر به ولا ما نهى عنه، إذاً: ماذا نصنع بالقرآن؟ قالوا: اقرءوه على الموتى ليدخلوا الجنة، فختمة بعشرة آلاف ريال، يجمع عشرين طالباً يختمون المصحف، ويعطيهم ألفاً ألفاً حتى يدخل ميتهم الجنة، ولو كان تارك صلاة، وأيام كانت دور البغاء في العالم العربي إذا ماتت البغي فإنهم -والله- يأتون بالطلبة يقرءون القرآن عليها في بيت الزنا!لأن الأمة هبطت، كيف نقر عاهرة على الزنا ونسكت ونغمض أعيننا؟ وفوق ذلك نأتي بالقرآن يقرأ في بيت العهر! ما الدليل على هذا؟ الدليل بالبرهنة القاطعة: ألم تستعمرنا هولندا في إندونيسيا وبريطانيا في الشرق الأوسط والشرق الأقصى وممالك الهند وفرنسا في شمال إفريقيا؟ كيف لكفار يحكموننا؟ كفار حكموا العالم الإسلامي، كيف يتم هذا؟ لأن الأنوار الإلهية انطفأت من نفوسهم.أولاً: احتالوا عليهم قروناً فأبعدوهم عن هداية الله وأنواره، فلما عموا وضلوا أمسكوهم كالدجاج، فمن يطلب دليلاً بعد هذا الدليل؟ لا إله إلا الله.يقول تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]، فإن مسها أو جامعها فما الحكم؟ عليها العدة ولها المهر بكامله، لكن هنا ما جامعها ولا فرض لها فريضة، فما الحكم؟قال: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236]، ما قال: متعوهن خمسة آلاف أو ألفاً، وما قال: ألف دينار في وقت ليس فيه الدنانير، قال: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236]، ويقرر هذا القضاة إن كانوا موجودين أو جماعة المسلمين يقررون هذا.الآية الثالثة: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:237]، والحال أنكم قد فرضتم لهن فريضة، فما الحكم يا رب؟ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237]، وإذا أحببت أن تترك لها ذلك، أو أحببت هي فلا بأس: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237].وأخيراً: وأن تعفو خير لكم، تزداد المحبة والاتصال بينكم: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، هذا الذي انعدم في العالم الإسلامي، دلوني على رجل صاهركم وطلق ابنتكم، وتبقى المودة كما كانت يزوركم وتزورنه وتهدونه الفواكه، بل تنقطع العلاقة، ويصيرون أعداء. ولهذه علة، هي أن الطلاق ما هو الطلاق المرضي لله عز وجل والمشروع، طلاق جهل وظلام، فلهذا ما ينتج عنه الإحسان ولا البر، وهل عرفتم الطلاق المحبوب لله؟ هل قوله لها: أنت طالق بالثلاث، لا تدخلي البيت، هل هذا الطلاق الذي شرعه الله؟ إن الله تعالى يقول: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، يطلقها ويتركها في عدتها، فإن ندمت أو ندم رجع إليها، فإن انتهت العدة فإنه يستطيع أن يتزوجها من جديد، فإن طلقها أصبح لها طلقتان، فإن زاد الثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

ما يهدمه الزواج بالثاني من طلاق الأول

وهنا لطيفة: رجل طلق امرأته طلقتين، طلقها الأولى ثم راجعها وعاش عاماً أو عامين ثم طلقها الثانية وانتهت عدتها وتزوجت، ولما تزوجت تطلقت أو مات زوجها، فهل للزوج الأول أن يتزوجها؟ الجواب: نعم له أن يتزوجها، ولكن هل تبقى الطلقتان أو يستأنف؟الجواب: تحتسب الطلقتان، فلو زاد واحدة بانت منه بينونة كبرى، لا يقل: الحمد لله، جدد العهد الآن من جديد؟ لا، ما زلت مطالباً بالأوليين، لم تطلق مرتين تؤذي هذه المؤمنة؟ إذاً: إذا طلقت الثالثة ينكسر أنفك ولا تحل لك حتى ينكحها زوج غيرك. فالعقد الثاني يهدم الطلقات إذا كان طلقها ثلاث مرات وتزوجت بعده، لكن إذا طلقها مرة أو مرتين وتزوجت وأراد أن يتزوجها فإنه يحسب عليه الطلقة أو الطلقتان؛ لأنها في ذمته.

الأمر بالمحافظة على الصلوات وبيان كونها عصمة للمجتمع

وقوله تعالى: حَافِظُوا [البقرة:238] أيها المؤمنون والمؤمنات عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وعصمة المجتمع من الخلط والخبط، والفجور والكفر، والفساد والشر هو في إقام الصلاة.والبرهان على ذلك أنه استقل لنا ثلاث وأربعون دولة من إندونيسيا إلى موريتانيا، فهل لما تشكلت الحكومة قالوا: الصلاة فريضة الله يجب أن نفرضها على المواطنين سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، فلا يحل لمواطن ألا يقيم الصلاة، هل حصل هذا؟ فما السر؟إنها أصابع الماسونية وجماعات التنصير الموجهة القائدة للعالم تنسي هذا من قلوب المؤمنين، ومن خطر بباله ذلك فإنها تمسحه؛ لأنهم إذا أقاموا الصلاة عادوا من جديد لقيادة البشرية وسيادتها، على الأقل سادهم الأمن والطهر والصفاء.أنا أقول: لنمش في أي بلد إلى محافظ المدينة أو مدير الشرطة، ونقول: أعطنا قائمة بالجرائم التي ارتكبت في هذا الشهر، فهذا سرق، هذا سب فلاناً، هذا ضرب فلاناً، أقسم بالله! لن نجد في مرتكبي تلك الذنوب والآثام نسبة أكثر من (5%) من المقيمين للصلاة؛ والباقي من المصلين ومن تاركي الصلاة؛ لأنني أشاهد الذي يحافظ على الصلوات في أوقاتها في جماعة المسلمين خمس مرات ما يزني، ما يفجر، ما يأكل أموال الناس بالباطل، ما يسب ولا يشتم، مؤمن ملأ قلبه الإيمان، فما يقع في المهاوي والمهالك.والذي لا يصلي يركب حتى الذئاب، ويأكل حتى الكلاب، أو يصلي ويخرج من المسجد وليس له من النور جرام واحد، صلاته باطلة، ما أنتجت النور ولا ولدته أبداً، يخرج من المسجد عند الباب يسب الدين، يخرج من المسجد يلعب بالكيرم والورق ويلعب الدمنة، أين آثار الصلاة؟وصدق من قال: لو صلى ما غنى، يصلي العشاء ويمشي ليجلس أمام تلفاز، فعاهرة تغني وتلوح بيديها وهو يضحك، فهل صلى هذا؟ أين آثار الصلاة؟وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-08-14, 11:59 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (16)
الحلقة (23)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (113)

شرع الله عز وجل لمن مات عنها زوجها أن تعتد في بيته أربعة أشهر وعشر ليال، وإن أوصى لها الزوج أن تتم الحول في بيته فلها ذلك، وهذا من الإحسان والمعروف، فيكون لها عند ذلك أن تقتصر على العدة وتخرج بعدها أو تتم الحول كما أراد لها الزوج، وأما المطلقة فإن لها متاعاً بالمعروف حسب حالها من الدخول بها أو عدمه، ومن تسمية المهر وعدمه، وكل هذا بينته الشريعة أكمل بيان.

تفسير قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على عهدنا مع تفسير كتاب الله عز وجل في مثل هذه الليلة.والآيات المباركة التي ندرسها معاً إن شاء الله هي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلِلْمُطَلَّقَ اتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:240-242].أذكركم بالموعود على لسان سيد كل مولود؛ لتستبشروا خيراً، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله أن جعلنا من أهل هذا الموعود على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

توفي الله تعالى عباده وبعثهم بعد الموت

قول ربنا جل ذكره: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [البقرة:240]، أي: يموتون، من يتوفاهم؟ الله، إذ قال تعالى وقوله الحق من سورة الزمر: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42]، والذي يباشر إخراج الروح من الجسد هو ملك الموت، ويستلمها ملائكة معه، فإن كانت النفس تقية طاهرة زكية عرج بها إلى الملكوت الأعلى، وسجل اسمها في كتاب يسمى: عليين، وينزل بها الملائكة في موكب عظيم لمحنة القبر، فحين يتم نجاحها تعود الروح على الملكوت الأعلى؛ لتسرح في الجنان ساكنة مطمئنة إلى أن تنتهي هذه الدورة، ويخلق الله تعالى البشر خلقاً جديداً، فحين تكتمل أجسامهم ترسل تلك الأرواح ولها دوي، فما من روح إلا وتدخل جسدها، ذلك أنه تنبت الأجساد كما ينبت البقل، والبقل كالبصل، والثوم، والخردل، فحين تكتمل الأجساد وتنبت نباتاً يرسل الله تعالى الأرواح، أرواح السعداء من عليين، وأرواح الأشقياء من سجين، فلا تخطئ روح جسداً، فينفخ إسرافيل النفخة الثانية فإذا هم كالجراد المنتشر.والشاهد في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ [البقرة:240]، أي: يموتون، ولكن من يتوفاهم ويوفي آجالهم وأعمارهم؟ الله عز وجل، قال تعالى: مِنْكُمْ [البقرة:240] يا معشر المؤمنين لا من غيركم من الكافرين والمشركين، هؤلاء ما هم بأهل للتشريع والبيان؛ لأنهم كفروا الله وجحدوه، وكفروا رسوله وأنكروه، وكذبوا بكتابه ورفضوه، ما هم بأهل لهذا، مِنْكُمْ [البقرة:240] معشر المؤمنين، فالحمد لله أن كنا أهل شأن عند الله، ينزل كتابه علينا ويبين لنا الطريق ويهدينا السبيل؛ لنكمل ونسعد، فالحمد لله.

معنى قوله تعالى: (وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج)

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:240]: يتركون زوجاتهم، ماتوا عنهن، والأزواج هنا: النساء، بمعنى: الزوجات؛ لأن الخطاب للفحول، فإذا مات الفحل فما لزوجته؟قال تعالى: وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ [البقرة:240]، يوصون وصية لأزواجهم، قبل أن يموت يوصي أبناءه، إخوانه، أعمامه، أقاربه: إن فلانة تبقى في البيت سنة كاملة إن رغبت في ذلك، لا تزعجوها، لا تقلقوها، هي زوجي وأنا زوجها، أوصيكم أن تبقى بعدي أربعة أشهر وعشرة أيام أو تبقى فوقها سبعة أشهر وعشرين يوماً، إلا إذا أحبت أن تخرج فمع السلامة. وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240]، وتأكل وتشرب كما كانت، وتنام، هذا إحسان عظيم، فهل عرفه الناس؟ تعتد بأربعة أشهر وعشر ليال، وتكمل السنة في بيت زوجها مع أولاده، مع بناته، مع أولادها، لا تزعجوها سنة، وإذا أرادت أن تخرج قبل السنة إذا أكملت أربعة أشهر وعشر ليال فشأنها، لكن من باب مراعاة الإحسان الذي يعيشه المسلمون، وهو شعارهم، فدعوها في بيت زوجها حتى تكمل السنة ثم مع السلامة.

خلاف أهل العلم في نسخ الآية بسابقتها

ومن أهل العلم من يقول: إن هذه الآية منسوخة، وناسختها الآية السابقة. وقد يقال: كيف تنسخ اللاحقة بالسابقة؟! نقول: لا حرج، أما قال تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [البقرة:142] وقد قال تعالى في الآية بعدها: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] إلى آخر الآيات، فهذه الأخيرة مقررة للأولى، فقد قالوا ذلك بالفعل بعدما نزلت، ولا حاجة إلى هذا. والذي ذهب إليه إمام المفسرين ابن جرير الطبري أن الآية ليست منسوخة، وتوجيهها كما علمت، ورجح هذا ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ولم يفصح ابن القيم تلميذه.إذاً: لا بأس أيضاً أن تنزل آية ثم تنزل أخرى، والأولى تنسخ الثانية؛ لأن كتابتها يأذن جبريل فيها للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول له: اكتب الآية الفلانية في الموضع الفلاني، وتنزل الآية وتبقى سنة وسنتين ثم تنزل الآية الأخرى وتكتب معها بعدها، إلى أن نزلت آخر آية من كتاب الله: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281] هي آخر آية من كتاب الله، وآخر سورة نزلت هي سورة النصر.إذاً: نعود إلى السياق الكريم، وتهيئوا لتعملوا إن شاء الله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً [البقرة:240]، يوصون لزوجاتهم، ويمتعونهن بهذا الوصية متاعاً، بحيث تبقى المرأة مع أولادها، أو أولاد زوجها من زوجة أخرى، أو مع أبيه حتى تكمل أربعة أشهر وعشر ليال، ولا تخرج أبداً من البيت إلا لضرورة، ولا تبيت إلا في بيتها؛ مراعاة لمصيبة أهلها، هم حزينون متألمون، وهي تخرج وتتعرض للزواج؟! لا يتلاقى هذا أبداً مع المروآت والكمالات، وإنما تمكث أربعة أشهر وعشر ليال وهي في بيت زوجها مع أولادها إن كان له أولاد، فإن انتهت الأربعة أشهر والعشر فلا بأس بأن تكتحل، أن تتجمل، أن تقبل من يخطبها للزواج. ثم قال تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:240]، لا يضع الشيء إلا في موضعه، فهذا التبيين أثره، فالله تعالى عزيز قوي، لا يمانع في شيء يريده، حكيم يضع كل شيء في موضعه.إذاً قوله تعالى: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240]، أي: إلى العام، غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، أي: لا تخرجوهن، فإذا انتهت السنة فإن شئتم أخرجتموها، وإن شاءت خرجت هي.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف)

فَإِنْ خَرَجْنَ [البقرة:240] أثناء المدة؛ فلا حرج، إن خرجت فيها المرأة فلا بأس، لكن من الإحسان إلى هذه المؤمنة أن تبقوها في بيتكم لتكمل السنة وتخرج إن شاءت، فإن أرادت أن تخرج بعد نهاية العدة التي هي أربعة أشهر وعشر ليال فلها ذلك، فقد أذن لها سيدها: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:240] من التجمل، والتحسين، والتعرض للخطاب للتزوج.وقوله: فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ [البقرة:240]، هذا القيد دائم، أذن لها في أن تتحسن، وتتزين، لكن في حدود معقولة، لا تخرج إلى الشوارع وهي متطيبة لتفتن الناس، بل بالمعروف، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:240].فهذه الآية الأولى اعلموا أن القول الراجح فيها أنها ليست منسوخة، لا بآيات المواريث ولا بالآية التي تقدمت، وإنما هي محكمة.

إرشاد الآية الكريمة إلى الإحسان بين المؤمنين

وما فائدتها؟ الإحسان بين المؤمنين والمؤمنات، لا أن تنتهي أربعة أشهر وعشر فيقال لها: اخرجي عنا، نريد أن نؤجر الغرفة، فهنا الإرشاد: أعطوها فرصة أخرى، هذه أمكم، هذه امرأة أبيكم، امرأة أخيكم، امرأة عمكم، أعطوها فرصة حتى تكمل سنة وهي تتناول الطعام والشراب معكم، فإن تمت السنة فمع السلامة إذا أرادت أن تخرج، وإن هي رغبت بأن تخرج قبل السنة فالباب مفتوح حيث أذن لها سيدها، فإن خرجن فلا جناح، لا إثم ولا حرج.ومعنى هذا: إذا أوشك الفحل أن يموت فإنه يوصي أبناءه أو إخوانه: فلانة أتركوها معكم سنة، لا تزعجوها، وإذا أرادت أن تخرج فلتخرج، فهل هذا يتنافى مع الأدب؟ مع العلم؟ مع الرحمة؟ مع الحكمة؟ هذا مظهر من مظاهر الدعوة الإسلامية ومنهجها السليم.واسمعوا الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240] في الأربعة الأشهر والعشر الليالي، هذه فريضة واجبة من أنكرها كفر، ومن أهملها يؤدب حتى يتوب، لكن في الزيادة على أربعة أشهر وعشر ليال، أراد الله تعالى للمؤمنين أن يعيشوا على المعروف والإحسان، إذ قد توجد امرأة غريبة، جاءت من ديار بعيدة فمات زوجها وما عندها أولاد، فيقول إخوان الزوج أو أعمامه: عودي إلى بلادك، فهنا يقول الهدي القرآني: ارحموها، لتجلس سبعة أشهر أخرى وعشرين ليلة حتى يفرج الله عنها، فإن أكملت السنة فلكم ذلك، وقبله تأكل وتشرب معكم، أما كانت مع أخيكم أو أبيكم؟ فلم تطردونها إذاً؟ وإن هي آثرت ورغبت في الخروج فلا بأس، فالآية -إذاً- محكمة، وأدت فضيلة عظيمة.

تفسير قوله تعالى: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين)

ثم قال تعالى في الآية الثانية: وَلِلْمُطَلَّقَ اتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:241]، ما هناك عنترية، مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:241] المعتاد بين الناس، لا أن تقول هي: لا بد أن تشتري لي فلة في لندن، أو تشتري لي سيارة بمائتي ألف، بل بحسب الحال، فإذا كان ذا مال فقد يمتعها بخادمة تخدمها، بسيارة تركبها، بشقة من شقق المنزل تسكنها إحساناً إليها.

ما يجب للمطلقة قبل الدخول بها دون تسمية المهر

وهنا نعود إلى جملة المطلقات: المطلقة الأولى: هي التي لم يبن بها الفحل، أي: الرجل، عقد عليها وما أعطاها المهر بعد ولا سماه، وشاء الله أن يطلقها قبل الدخول عليها وقبل البناء بها، حيث ندم، أو هي غضبت وصاحت على أبيها أنها ما تريد أن تتزوج، يحدث هذا، ونحن -كما تعرفون- نعيش على البر والإحسان، فما دامت قد صرخت وقالت: دعني يا أبي، لن أتزوج، طلقني، فيقول: يا فلان! هذه البنت متأثرة، حزينة، ستؤلمك، فطلقها، فيقول الزوج: مرحباً، ويطلقها، وذو الإحسان والبر يفرح، يقول: كيف نزعج هذه المؤمنة؟! ما دام أنها ما أرادتني وكرهتني فإني أطلقها، فإن طلقها قبل البناء، ولم يكن قد سمى لها مهراً ولا أعطاها، إذاً: ما لها إلا المتعة، يجب أن يمتعها بسيارة، طيارة، فلة، ثياب، خاتم من ذهب، سوار، متعة واجبة، والشارع حكيم، إذاً: لا حق لي أن أقول: لم؟ لأن الله تعالى هو العليم الحكيم، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:49]، جربوا هذا يا معشر المؤمنين.فهذه المتعة بالمعروف لا بد منها هنا؛ لأنها طلقت وما أخذت مهراً ولا نصفه، ولا عدة عليها، لا شهر، ولا حيضة، ولا ثلاثة أقراء؛ لأن العدة خشية أن يكون في رحمها جنين، وهذه ما مسها الزوج، فتعتد لماذا؟ هذه الآية من سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:49] بالعقد، ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، من قبل أن يطأها ويجامعها، وعبر بالمسيس عن الجماع لأن الآداب الرفيعة تأبى ذلك، تأبى أن يقول: من قبل أن تجامعوهن. لا ينبغي هذا، وفي الحديث: ( الحياء كله خير )، ( الحياء من الإيمان )، لا خير فيمن لا حياء له، إذا رحل الحياء رحل الإيمان، فقووا الحياء ونموه في أبنائكم وبناتكم، وابدءوا بأنفسكم فإنه لا خير فيمن لا حياء له.والذين يجلسون أمام شاشة التلفاز وعاهرة تغني، وقرينها شيطان يقبلها ويحتضنها، وأهل البيت يضحكون هل يبقى فيهم حياء؟ أعوذ بالله! يرحل الحياء ويتبعه الإيمان، انظر إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم لشدة حيائه رأى رجلاً أمامه يدعو: يا رب .. يا رب .. يا رب، بدون أن يتوسل إلى الله بحمده والثناء عليه وتمجيده والصلاة على نبيه، يقول مباشرة: رب أعطني كأنه هو السيد، فاستحى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: يا عبد الله لا تقل هكذا، افعل كذا وكذا، غلبه الحياء، فالتفت إلى أصحابه عن يمينه أو عن شماله وقال: ( لقد عجل هذا ) يعني: استعجل، ( إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه جل وعز والثناء عليه ثم يصلى على النبى صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء )، أما أن يقول مباشرة: رب أعطني؛ فهذا سوء أدب.وكان صلى الله عليه وسلم إذا بلغه شيء عن أصحابه يرقى المنبر ويخطب الناس ويقول: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا )، أما نحن فنقول: يا كذاب! يا كذا! ولا لوم ولا عتاب؛ فما ربينا في حجور الصالحين، ما تربينا في بيوت الله، تربينا في بيوت الشياطين المقاهي والأسواق والملاهي والسينما، فماذا ترجو منا؟ لا تلمنا يا هذا، ولكن نبكي لحالنا.والمهم أن ذلك هو حكم المطلقة قبل البناء، لا عدة تجب عليها، لا يوم ولا عشرة، من يومها تتزوج، ويجب لها المتعة بحسب يساره وإعساره، ولا بد من المتعة لهذه المطلقة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

ما يجب للمطلقة قبل الدخول بها بعد تسمية المهر

المطلقة الثانية: طلقت قبل البناء، ولكن سمى لها مهراً، أمهرها عشرين ألف ريال، وقبل الدخول حصل ما حصل فطلقها، أو هي طلبت الطلاق، أو هو ندم، فما الحكم؟هذه لها نصف المهر، ولا متعة لها، يكفيها أنها أخذت عشرة آلاف ريال وما مسها الزوج، ولا عدة؛ لأنه ما بنى بها، فمن عقد عليها الرجل وأمهرها مهراً وسماه أو أعطاها إياه، وأراد الله ألا يتزوجها فطالبت بالطلاق، أو طلق هو لأسباب، فما الحكم؟ يعطيها نصف المهر، إلا أن تتنازل وتقول: هو لك بكامله يا فحل، أو يقول: هو لك يا فلانة، وهذا يقع من المؤمنين والمؤمنات ممن يعيشون على هذه الكمالات، لا يزعجها، لا سيما إذا كان هو ما رغب فيها، إذا لم يرغب في هذه المؤمنة فمن الأدب ألا يسترد منها شيئاً، وكذلك هي من أدبها إذا كانت هي التي رغبت عنه أن ترد إليه ما أعطاها، فسبحان الله! آمنا بالله، فهذا تشريع من؟ هل تشريع نابليون ؟ هذا تشريع الله. والمسلمون اليوم يدرسون القوانين الكافرة الملحدة البلشفية، ولا يدرسون كتاب الله، فكيف نسمو؟ كيف نرقى؟ كيف نخرج من ذلنا وهواننا ودوننا؟ ونحن مفارقون تمام المفارقة لأصول الكمال وسلالمه، لم لا يعرف المسلمون هذا؟قال تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237]، اللهم إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، وقد فتح الله علينا الآن بما لم يفتح به على غيرنا، وقلنا: إذا كان هو الذي رغب عنها وما أرادها؛ فهو الذي يقول: المهر لك كاملاً، وإذا كانت هي التي رغبت عنه وما أرادته، بكت أمام أبيها وأمها تقول: ما أريده يا أبي؛ إذاً نقول لها: تنازلي عن نصف المهر له.

ما يجب للمطلقة بعد الدخول بها

المطلقة الثالثة: هي التي معنا في الآية الكريمة، بنى بها وصارت أم أولاده، وأخذت مهرها وانتهت من عشرين عاماً مثلاً، قال تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَ اتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241].

فائدة قوله تعالى: (حقاً على المتقين) ونحوه

وقوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] استنبط منه فقهاء الملة الذين أوتوا فقهاً في كتاب الله، قالوا: هذا يدل على أن المتعة ليست واجبة لهذه، وإنما هي مستحبة، والسر من أين؟ من قوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، وغير المتقي قد لا يفعل، فما هي بحق عليه، ما عنده عواطف ولا أحاسيس ولا شعور، وهو يتخبط بالمعاصي، ما نلزمه بهذا فهو في أمور أعظم، لكن المتقي والمحسن ذاك الذي يرغب في أن يحب ويبجل ولا يهان، ولا يذل، فيتنازل عن المال وقشوره؛ لتبقى له كرامته بين الناس.هذه المطلقة حين تنتهي عدتها يمتعها بخادم كما يقولون، أو بثياب جديدة، بشيء من الذهب، بشيء من الفلوس حسب حاله، ومع السلامة يا فلانة، ونلتقي إن شاء الله في الجنة.

هبوط المسلمين بعد إعراضهم عن آداب القرآن الرافعة لهم

هل نستطيع أن نفعل ذلك الذي ذكر؟ كلا. بل حالنا: يا فاعلة! يا كذا! ونحوه من السب والشتم والتعيير، فلا إله إلا الله! أين نحن؟ هبطنا وقد كنا في علياء السماء، أيام كان نور الله يغمرنا، وحكمة محمد تقودنا سدنا وارتفعنا، وحين تخلينا عن الكتاب والسنة هبطنا، فمن يرفعنا؟ وهل القرآن يرفع؟اسمعوا الآية التي فيها الرافعة، الرافعة عندنا الآن هذه ترفع الصخور والسيارات من الباخرة، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الأعراف:175] يا رسولنا نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175]، هل تعرفون الحية حين تنسلخ من جلدها، تتركه أبيض نقياً وتخرج منه بزفرتها وسمومها.إذاً: الانسلاخ من القرآن وضعه على الرفوف فقط، أما المحاكم فلا يوجد فيها مصحف، فهل هذا انسلاخ أو لا؟ تركناه وراءنا. فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175]، أي: من الآيات، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175]، لم؟ لأن المناعة زالت، كان في صيانة وحصانة بكتاب الله ووحيه، ولما تركه وراءه سهل على الشيطان أن يجري وراءه ويمسكه. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175]، عبارة عجيبة هذه! فهل تعرفون الغي والغواية؟ إنها أوساخ، فكان من الوسخين في أرواحهم ونفوسهم وسلوكهم.قال الله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176]، بالآيات؛ إذ هي الرافعة، وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176]، لصق بها، ما يرفع رأسه إلى السماء، كحالنا الآن: الدولة الإسلامية فيها عشر وزارات كلها تتكلم عن الدنيا، ما هناك من يتكلم عن الآخرة أبداً، فهذا خلود إلى الأرض أو لا؟ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176]، وهل الهوى يتبع؟ إنما يتبع هواه الهالك، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176] هذا كلام الله، هذا قرآن من سورة الأعراف: كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176]، في ماذا؟ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ [الأعراف:176] وتجري وراءه يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176]، الماء في الحوض، والظل ظل الشجرة، والكلب تحته وهو يلهث.فمنذ انسلخ المسلمون من كتاب الله بمكر أعدائهم وكيدهم وتركوه وهم يلهثون، والله! لن يستريحوا، فقولوا: صدق الله العظيم، قولوا: آمنا بالله!إذاً: المطلقة الثالثة: هي التي يكون قد بنى بها زوجها وطلقها، هذه لها مهرها كاملاً؛ وإن بقي منه شيء فلا بد منه وجوباً، ويمتعها بحدود سعته وضيقه، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]. وإن كان صعلوكاً فقال لها: اذهبي عنا، وما أعطاها، فماذا تعمل؟ لا تحاكمه عند القاضي؛ لأن هذه من السنن والآداب، لا يحاكم عليها الشخص، لكن المتقين والمحسنين يوبخون فقط، يلقاه مؤمن فيقول له: كيف تخرج فلانة بيديها عارية، حتى الكسوة ما كسوتها؟ فيذوب من الحرج، فمثل هذا يعلم ويعطي المتعة.

صفات المتقين وحقيقة التقوى
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

ذلك معنى قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَ اتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، فمن هم المتقون يرحمكم الله؟ أشيروا إليهم؟ أين يوجدون؟ ما سماتهم؟ ما صفاتهم؟المتقون: هم الذين آمنوا بالله إيماناً يقينياً؛ حتى أثمر لهم ذلك الإيمان حبه تعالى في قلوبهم فأصبحوا يحبون الله أكثر مما يحبون أنفسهم وأموالهم وأهليهم والناس أجمعين، وأثمر لهم شيئاً آخر وهو الخوف منه، أنتج لهم الخوف منه فلا يستطيعون أن يعصوه ولا أن يخرجوا عن طاعته، بل إذا ذكر الله تعالى بين أيديهم اضطربت نفوسهم وتحركت قلوبهم، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الحج:35]، هؤلاء المؤمنون الذين آمنوا إيماناً حقيقاً يقينياً صادقا، من شأن هذا الإيمان أن ينتج لهم الخوف والحب، ومعنى هذا: أن المؤمن الصادق الإيمان ليحب الله أكثر من كل شيء، ووالله! إنه ليخاف الله، حتى الكلمة يخاف أن يقولها وهي تغضب الله، لقوة الإيمان.ثانياً: التقوى: هي معرفة محاب الله ما هي من الاعتقادات والأقوال والأعمال، يبقى طول حياته يسأل: ماذا يحب ربي؟ حتى يعرف محاب الله من أجل أن يفعلها له ويقدمها له، ثم يسأل عن مكاره الله: ماذا يكره ربي؟ فيقال: يكره كذا، كذا، كذا فيعرف ما يكره، ولا يأتيه إلا مكرهاً، ذلكم المتقي، وهؤلاء هم المتقون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهم أولياء الله تعالى.

أثر قصر الولاية على الأموات دون الأحياء

وقد عاشت أمتنا في دورها وبلادها قروناً لا يعرفون ولياً لله إلا من مات، منذ القرن السابع تقريباً لا نعرف ولياً إلا من مات وبني على قبره قبة، ووضع على قبره تابوت من خشب ووضع عليه الحرير على اختلاف ألوانه، وكان عليه السادن، هذا الولي، وقد انتشرت دعوتنا اليوم فاختلف الحال، ولكن قبل خمسين سنة لو تدخل أعظم مدينة في العالم الإسلامي، وتنزل من الطائرة أو الباخرة، وتدخل البلاد، وتستقبل أي واحد من البلاد وتقول له: يا سيد! أنا جئت زائراً لهذه البلاد، فمن فضلك دلني على ولي من أولياء هذه البلاد لأزوره، فوالله! ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن في القاهرة أو دمشق أو مكة أولياء أحياء أبداً! فما هو سر هذا؟ حجبوا الولاية عن الأحياء حتى يزني بعضهم بنساء بعض، ويأكلوا أموال بعضهم، ويضربوا وجوه بعضهم، ويغش بعضهم بعضاً كأنهم غير مسلمين، في حين أنه إذا وقف على قبر يرتعد، ويا ويحك إذا قلت: الولي الفلاني كذا، يبجلون ويعظمون الأموات تعظيماً عجيباً، حسبك أنهم ينقلون إليهم المرضى، ويعكفون حولهم بالزيارات كأنهم آلهة، وأما المؤمنون منهم فمن استطاع أن يذبح جاء يذبح من أجل الريالات.ثم قالوا -كما في حاشية الحطاب على خليل -: من قال: أنا ولي فإنه يخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة، إذاً: قل: أنا عدو الله لتسلم! أعوذ بالله، أعوذ بالله! إذاً: ماذا نقول يا شيخنا؟ قل: أنا عدو الله، فمن لم يكن ولياً فماذا يكون؟ يكون عدواً.فكل المؤمنين أولياء ولكن بينهم تفاوت كبير، وعندنا مثال حي، وهو الرتب العسكرية، فهي كثيرة، فأول ذلك الجندي، ومنها عريف، ملازم، ملازم ثان، كذا كذا.. إلى جنرال، فكذلك أولياء الله بقدر حبهم لله وخشيتهم منه يتفاوتون، والمثل الواقع: أبو بكر الصديق سيد الأولياء على الإطلاق، والناس من دونه واحداً بعد واحد إلينا، فمستوانا ليس بواحد، ونحن في الحلقة لسنا كلنا على رتبة واحد، بل نتفاوت، هذا يصوم الخميس والإثنين، ونحن نصوم ثلاثة أيام من الشهر مثلاً، هذا يزكي فقط، وهذا كل يوم يده في الريالات يوزع، فهل هم على مرتبة واحدة؟ هذا يصلي ثلاثين ركعة في اليوم، هذا يصلي سبعين ركعة، يتفاوتون، لكن اسم الولاية حق، فكل مؤمن تقي هو لله ولي.فلهذا ما نستطيع أن نسب مؤمناً أو نشتمه أو نغشه أو نخدعه أو نأخذ ماله بحيلة أو بقوة أو نضربه، لأننا أولياء الله، كيف نزني بابنته ونفسدها عليه؟! ولكن المسلمين ما عرفوا، ما بلغهم قول الله تعالى: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، لو عرف المسلمون هذه لسادهم الطهر والصفاء، وعمتهم المودة والإخاء والمحبة والولاء، وأصبحوا حقاً أولياء الله كجسم واحد، فمن يبلغهم هذا؟ أين العلماء؟ أين طلاب العلم، أين المسئولون والحكام والبصراء؟ هيا بالمؤمنين إلى سعادتهم.

طريق الوصول إلى ولاية الله تعالى

والطريق الذي نكرره حتى الموت أو نمنع ونلجم بلجام، ونقول: إنه -والله- لا طريق إلا هذا، هو أن أهل القرية إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف دولاب العمل، رمى الفلاح مسحاته من يده، والمنجل من يساره، وأغلق باب الدكان التاجر، وتوضئوا وجاءوا بنسائهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، ويوسعونه بالخشب والحطب؛ حتى يتسع لأهل القرية كلهم، وأهل المدن ذات المناطق العديدة والأحياء المتعددة، أهل كل حي لهم شيخ الحارة أو الحي، فيوسعون مسجدهم، وإذا دقت الساعة السادسة مساءً أغلقت الحياة أبوابها، وتطهر الرجال والنساء، وجاءوا بنسائهم وأطفالهم إلى بيوت ربهم، ويجلسون جلوسنا هذا، ما هناك كراسي، ولا شراب ولا أغان، يجلسون في بيوت ربهم، يجلس لهم عالم بكتاب الله وحكمة رسوله، ويلقنهم المعرفة، فليلة آية يتغنون بها، يرددونها حتى تحفظ، وتنشرح لها صدروهم، فتجد أنوارها في قلوبهم وأبصارهم، ثم تشرح لهم، يبين لهم ما أراد الله من هذه الآية، توضع أيديهم على المطلوب، يقول لهم: هل سمعتم يا أبنائي وإخواني وأخواتي؟ فعودوا بعد الصلاة إلى بيوتكم واذكروا هذا ولا تنسوه، واعملوا به ولا تهملوه. وغداً حديث من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، يتغنون به، يحفظونه، يعلمون مراد الرسول منه، وينوون العمل ويطبقون، وهكذا يوماً آية ويوم حديثاً، فبعد عام كيف يصبحون؟ ما يبقى فيهم زان ولا عاهر، ولا كذاب ولا دجال ولا لص، يصبحون أولياء الله. هذا هو الطريق، والله! لا طريق سوى هذا إن أردنا أن نكمل وأن نعود إلى كمالاتنا، أما سائر الأنظمة والقوانين والتوجيهات فهراء لا تنفع.قد تقول: يا شيخ! كيف عرفت هذا؟ فأقول: أنا قرأت ما دعا به إبراهيم وإسماعيل ربهما وهما يبنيان البيت: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، واستجاب الله، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، فالذين تخرجوا على هذه الدراسة أمثال الصديق والفاروق وذي النورين وفلان وفلان لم تكتحل عين وجود برجال مثلهم من عهد آدم إلا من كان من الأنبياء والمرسلين، فاقرأ كمالاتهم وانظر إليها كيف هي.فأين العلماء؟ أين الدعاة؟ أين المبلغون؟ لقد كتبوا وقالوا: هذا هراء، كيف نجتمع من المغرب إلى العشاء؟ فقلت: لم يجتمع اليهود والنصارى من المغرب إلى نصف الليل في المقاهي والملاهي ودور الباطل والمنكر، وأنتم ما تستطيعون أن تجلسوا ساعة ونصفاً؟ثم قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ [البقرة:242]، أي: كهذا التبيين، فهل هناك أعظم من هذا؟ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:242]، تنمو عقولكم وتصبحون أهلاً لأن تعرفوا عن الله عز وجل، يوماً فيوماً حتى نصبح نعرف أحكام الله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-08-27, 07:20 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (17)
الحلقة (24)
ترجمة العالم الواعظ المعمَّر أبو بكر الجزائري (رحمه الله تعالى ) (http://majles.alukah.net/t167489/)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (114)

ضرب الله عز وجل مثلاً بمن خرجوا من ديارهم من بني إسرائيل فراراً من الموت فأماتهم الله عز وجل ثم أحياهم، فكان ضرب هذا المثل في هذا السياق توطئة للأمر الإلهي للمؤمنين بالجهاد في سبيله من أجل أن يعبد وحده سبحانه، ومن أجل رفع الظلم عن المظلومين، ثم أمرهم سبحانه وتعالى أن يقرضوه قرضاً حسناً لأجل إعداد العدة والإنفاق على الجيوش التي تخرج مجاهدة في سبيل الله.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في دراسة كتاب الله في هذه الليلة؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا الرجاء، فأنت ربنا وولينا، ولا رب لنا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:243-245].

ذكر حادثة إماتة الفارين من بني إسرائيل من الطاعون

معاشر المستمعين والمستمعات! هذا الاستفهام: أَلَمْ تَرَ [البقرة:243] موجه إلى من؟ إلى من أنزل الله عليه كتابه، واصطفاه ليبلغ عنه شرعه ودينه، هذا الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أي: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا حادثة مضت في التاريخ؟ هذه الحادثة كانت في بني إسرائيل على عهد حزقيل عليه السلام، ولعلهم طولبوا بالجهاد، فجبنوا وآثروا الدنيا على الآخرة، فأصابهم الله بوباء طاعون، عافانا الله وإياكم وسائر المؤمنين، ففروا هاربين من تلك المدينة، وهذه المدينة في شرق واسط، يقال لها: داوردان، عاصمة مدينة كبيرة يسمونها في الزمان الأول بالقرية، ففروا هاربين وكانوا ثلاثين ألفاً أو يزيدون، إذا قال تعالى: وَهُمْ أُلُوفٌ [البقرة:243].إذاً: فأماتهم الله عز وجل موتة واحدة، ثم سأله عبده ونبيه حزقيل إحياءهم فأحياهم أجمعين، حادثة من أحداث التاريخ، والله! لكما تسمعون: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ [البقرة:243]، خرجوا حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ [البقرة:243] بأمر التكوين: مُوتُوا [البقرة:243]، فماتوا عن آخرهم، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243].

دلالة الآية الكريمة على تعرض القاعدين عن الجهاد للبلاء
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وهذا المثل الصالح لكل أمة تجبن وتقعد عن الجهاد في سبيل الله، قد يصيبها الله بوباء، قد يصيبها بجدب وقحط، قد يصبها بمحنة مقابل عصيانها، والحامل عليه هو الخوف من الموت، مع أن الموت كتبه الله على كل نفس، وله ساعة محدودة لا تتقدم ولا تتأخر.وهذه الآية نزلت أيام كان المؤمنون يدعون إلى الجهاد، حيث أعلنت الحرب على الإسلام والمسلمين من كل جهات الدنيا، ولا بد من أن يقاتلوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ ليعلمهم ما ينبغي أن يكونوا عليه، ألا وهو الصبر والجهاد، فإن الفرار من الموت لا يقي من الموت، يفرون منه وهو ملاقيهم، فر الرجل من الموت هارباً وإذا الموت يلاقيه في طريقه، فلم إذاً؟

معنى قوله تعالى: (إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [البقرة:243] فماتوا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]، حقاً وصدقاً إن الله لصاحب فضل عظيم على الناس: أولاً: وهبهم حياتهم، وأوجد وجودهم.ثانياً: أوجد لهم هذا الكون بكامله، ومقومات الحياة من الهواء والغذاء والماء، ثم يحيي ويميت، يعطي ويمنع، يعز ويذل، هذه العطايا الإلهية لم لا تشكر؟ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [البقرة:243] فضل عظيم، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]، ولم لا يشكرون؟ لأن الشياطين تمنعهم من أن يشكروا، تصرف قلوبهم وألسنتهم وجوارحهم عن طاعة الله عز وجل، وشكر الله كما يكون باللسان بأن نقول: الحمد لله معترفين بنعمه علينا؛ نشكره أيضاً بطاعته بفعل ما يأمرنا بفعله، وترك ما يأمرنا بتركه، ويكون أيضاً بصرف النعمة فيما من أجله أنعم الله تعالى بها على العبد، صرف النعم فيما وهبها الله لعبده أن تصرف فيه، هذا هو الشكر. ولهذا تقرر وبيننا وعلمنا أن الشكر أولاً يكون بالاعتراف بالقلب، اعترف بالنعمة لله عز وجل، ثم ترجم ذلك بلسانك، وقل: الحمد لله، ثم اصرف تلك النعمة فيما من أجله أنعم الله تعالى بها عليك، وإياك أن تصرفها فيما يغضبه ولا يرضيه عنك.

الإرشاد النبوي بشأن دخول أرض الطاعون والخروج منها

وهنا يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الطاعون الذي يوجد الآن في هذه الأزمنة؛ ذكر أن سببه بقية من بقايا أصيب بها طائفة من بني إسرائيل، مضى زمان على البشرية وما وجد هذا المرض، وأول ما وجد في بني إسرائيل في طائفة منهم، قد تكون هذه الجماعة التي فرت من الوباء.إذاً: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا وقع بأرض وأنتم لستم بها فلا تقدموا عليها )، وهذا ما يعرف الآن بالحجر الصحي، أي: المنع الصحي؛ حتى لا ينتشر الوباء، هكذا يقرر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عن الطاعون: إنه بقية مرض أو رجس أصاب طائفة من بني إسرائيل بذنوبهم عقوبة من الله تعالى لهم. وبناء على هذا أيها المؤمنون: إذا نزل هذا الوباء في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه، فقد خرج هؤلاء فأماتهم الله، خرجوا هاربين، إذاً: فأنزل الله بهم الموت فماتوا، ثم أحياهم للعظة والعبرة، وإذا نزل ببلاد وأنتم خارجها فلا تدخلوا عليهم.

تفسير قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم)

ثم قال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:244]؛ لأن الآيات في الحث ودفع وتهييج المؤمنين ليقاتلوا في سبيل الله، فلا يمنعهم الجبن والخوف والخور من القتال، فها هي ذي أمة سبقتكم، أهل مدينة بالألوف، لما جبنوا عن القتال وخافوا من الموت أماتهم ثم أحياهم، فالآجال محدودة لا تزيد ولا تنقص، فما على المؤمنين إلا أن يطيعوا ربهم، فإذا قال إمامهم أو قال رسولهم: هلم إلى الجهاد لا يمنعهم الخوف من الموت أن يطيعوا رسولهم أو إمامهم ويجاهدوا معه.فمن هنا قال تعالى: وَقَاتِلُوا [البقرة:244] أيها المؤمنون، قاتلوا الكافرين، المشركين، والظالمين، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:244]، ما هي سبيل الله؟ نقاتل من أجل إعلاء كلمة الله، أي: من أجل أن يعبد الله تعالى وحده، فالقتال الشرعي الواجب المفروض فرض كفاية أو عين هو ما كان لإعلاء كلمة الله، وهذا يظهر في أن يعبد الله تعالى وحده، وأن يرفع الظلم عن المظلومين، فالمظلومون إذا كانوا مؤمنين أولياء لله عز وجل فعلى إمام المسلمين أن يقاتل الظالمين حتى يخلص المؤمنين من اضطهادهم وعذابهم.ويشهد لهذا قول الله تعالى من سورة الأنفال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، قاتلوا المشركين الكافرين، وليستمر قتالكم لهم إلى غاية، وهي ألا يبقى فتنة، أي: لا يبقى من يفتن في دينه وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ [الأنفال:39]. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:244]، سميع لأقوالكم، عليم بأحوالكم، فلا يخفى عليه أمركم، فمن جبن أو خاف أو تأخر فلا يظن أن الله لا يعلمه، فهو يعلم حاله، ومن قال كلمة تثبط عن الجهاد، أو توجد فشلاً في المجاهدين فالله سميع لقوله، عليم بحاله، أي: فراقبوا الله عز وجل؛ راقبوه حتى تتمكنوا من طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه، هذه تعاليم علمها الله المؤمنين، فعملوا وفازوا وسادوا وطهروا وكملوا، وهم كذلك إلى اليوم وإلى يوم القيامة، متى وجد مؤمنون صادقون في إيمانهم فهذه الآية تتلى عليهم فينتفعون بها، وترفع من شأنهم، وتعلي من مكانتهم.

تفسير قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة ...)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

ثم يقول تعالى لهم: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، تهييج وإثارة، من هذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً؟ لأن الجهاد متوقف ابتداء على المال، ولهذا ما ذكر الأمر بالجهاد إلا وقدم المال على النفس، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:10-11]؛ لأن المال به تعد العدد ويحضر السلاح، وتسير به السرايا والمجاهدون، فليس من المعقول أن يخرج المجاهدون بلا مال ولا طعام ولا سلاح، فكيف يجاهدون؟ فالخطوة الأولى: هي الجهاد بالمال، ولهذا يقول تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، الحسنة هنا بسبعمائة، الدرهم بسبعمائة درهم، بخلاف الصدقات الأخرى فهي بعشر حسنات، لكن درهم الجهاد بسبعمائة، ومن هذه السورة في آخرها جاء قول الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، أي: إلى ألف ألف.إذاً: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ [البقرة:245] تعالى لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، وقد بينها في آية في هذه السورة، ضرب لذلك مثلاً ليفهم ويفهمه الكبير والصغير: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261]، حبة بر غرزها في الأرض فأنبتت سبع سنابل، كل سنبلة فيها مائة حبة، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].إذاً: هنا تعالى يقول بعدما حذر من الخور والجبن والتخلف عن الجهاد بما بين للرسول بقوله تعالى: ألم ينته إلى علمك حادثة كذا وكذا المتعلقة بأولئك الذين هربوا فارين من الموت فأنزله الله بهم؟

معنى قوله تعالى: (والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون)

ثم يقول تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ [البقرة:245]، يقبض عن العبد المال امتحاناً له وابتلاءً له أيصبر أو لا يصبر؟! فلذا لنعلم أنه ما أصاب عبداً فقر وقلة ذات يد إلا وقد ابتلي هل يصبر أو لا يصبر، فإن هو لم يصبر فسرق، وفجر، وكذب؛ فهذا في عداد الهالكين الهابطين، فإن هو صبر وثبت على عقيدته وإيمانه وصلاح نفسه وخلقه وآدابه؛ فسوف يفرج الله ما به بعد عام أو أعوام، وعد الله لا يتخلف، المهم أنها فترة يبتلى فيها هل يصبر على قضاء الله وحكمه أو يسخط ويضجر ويخرج عن آدابه وعن دينه وعقيدته. ومن أعطاه ووسع عليه رزقه وماله فوالله! إنه لممتحن هل يشكر أو يكفر؟ فإن اعترف بالنعمة للمنعم، وحمده وأثنى عليه وواصل ذلك، وأنفق المال في مرضاته ولم ينفقه ضده ولا في معصيته؛ فهذا نجح وفاز، وإن هو -والعياذ بالله- كفر تلك النعمة وصرفها ضد الله عز وجل وما شكر الله فإنه يسلبها إن شاء ويعذبه في الدنيا والأخرى.هذه قاعدة لا تتخلف: ما رأيت فقيراً إلا علمت أنه مبتلى هل يصبر أو يفجر ويسخط، فهو تحت الامتحان، فإما أن ينجح في هذه المحنة، وإما أن يخسر خسراناً كاملاً، وما رأيت غنياً ذا مال وسعة في رزقه وإلا علمت -وإن شئت أقسمت بالله- أنه متحن أيشكر المنعم فيزيده أو يكفر فيسلبه ويعذبه، وقد تدوم مدة الامتحان والابتلاء، ليست يوماً أو أسابيع، قد تدوم سنوات. وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]، العودة إلى الله، إذاً: فيا لخيبة عبد يبتلى فلا يصبر، يا لخيبة عبد يمتحن فلا يشكر وهو عائد إلى الله، فالصابر والضجر، والشاكر والكافر، الكل عائدون إلى الله بعد موتهم، هذه الآيات التي رفع الله بها قدر المؤمنين والمؤمنات أيام كانوا يدرسونها ويعملون بما فيها.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات

خبر بني إسرائيل الفارين من الموت
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:243]، هذه الرؤية ليست بصرية، بمعنى: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، ولو قال: آلاف لكان جمع قلة، لكن قال: ألوف، جمع كثرة، حتى قيل: إنهم ثلاثون ألفاً، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]. ولا ننس أن سبعين رجلاً من بني إسرائيل خرجوا مع موسى إلى جبل الطور؛ ليعلنوا عن توبتهم للمصيبة التي فعلوها، وهي شركهم -والعياذ بالله تعالى- وعبادة العجل، فأماتهم الله عن آخرهم وهم في الجبل، وبكى موسى فأحياهم الله عز وجل، والذي يميت السبعين يميت الآلاف، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].إذاً: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [البقرة:243]، عرفنا فضله في إحيائنا وإماتتنا، في إيجادنا وإعدامنا، ما منا إلا وهو يعيش في نعمة الله، فكيف ننسى هذا الفضل وننكره ونتنكر لخالقه وواهبه ومعطيه؟! فلو ذكر هؤلاء هذه الفضائل والإنعامات لما كانوا يفرون من القتال، ولما كانوا يهربون من الوباء، بل كانوا سيصبرون.

أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله تعالى

إذاً: ثم وجه الله الأمر إلى المؤمنين الذين نزلت فيهم هذه الآيات لتعلمهم وتربيهم فقال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:244] أيها المؤمنون.فالقتا في سبيل الله، لا في سبيل الوطن والمال والدنيا والتراب والمنصب والجاه والمراكب والسفن، لا يقاتل المؤمنون إلا من أجل أن يعبد الله تعالى وحده، وأن يرفع الظلم عن أوليائه، فإذا ظلم أولياء الله واعتدي عليهم فعلى المسلمين أن يقاتلوا الظلمة المعتدين من أجل تخليص إخوانهم أولياء الله من عذاب الكافرين والمشركين.ثم معاشر المؤمنين! هذا القتال يجب أن يكون تحت إمرة إمام بايعه المؤمنون، وأعطوه زمامهم وقادهم، هو الذي يدير هذه المعارك ويقود إليها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما كان خلفاؤه خليفة بعد خليفة، ينبغي ألا يكون القتال فوضى كل جماعة تقاتل وتدعي أنها تقاتل لإعلاء كلمة الله، أو لرفع الظلم، هذا لا يرضاه الله عز وجل؛ لأن نتاجه وثماره ما هو إلا خسران، لم لا يبايع المسلمون إمامهم على طاعة الله وطاعة رسوله؟ وحينئذٍ يجب عليه إذا أتيحت الفرصة وتهيأ الظرف للقتال أن يقاتل بهم في سبيل الله، ومن تأخر تليت عليه هذه الآية الكريمة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ [البقرة:243] خرجوا حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:243]، الوباء والطاعون أنزله الله بهم عقوبة لهم ففروا، ابتلاهم بالطاعون؛ لأنهم دعوا إلى الجهاد فجبنوا وخافوا، وأبوا أن يقاتلوا مع رسولهم ونبيهم، فلما أصابهم الله بالوباء هربوا خارجين، ظنوا أنهم ينجون من ذلك، فأماتهم الله، آية من آياته لعباده، ثم أحياهم بعد ذلك، وهذا من فضل الله وإنعامه عليهم، وإلا لكان يميتهم ولا يحييهم.ومن هنا قال تعالى للمسلمين المحمديين: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:244]، كيف تحاولون أن تهربوا من الجهاد وتتكلموا بضده أو تفكروا في غيره وهو سميع لأقوالكم، عليم بأحوالكم؟

الحث على الإنفاق في سبيل الله تعالى

وبعد هذا فتح باب الاكتتاب: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، إذ ما كان عند الرسول بيت مال، كان الجهاد على حساب المؤمنين، يتنافسون ويتسابقون، وحسبنا أن عثمان رضي الله عنه جهز ألف مقاتل، حسبنا أن الصديق في غزوة تبوك أخرج من كل ماله، وأن عمر خرج بنصف ماله، ما كانت الأموال كما هي الآن في دار تسمى مال الدولة، بل ينفقون من جيوبهم، فنصروا الجهاد حتى طهروا هذه الجزيرة من الشرك والمشركين، ما مات الرسول حتى لم يبق على سطح هذه الجزيرة مشرك أو كافر، ببذلهم وإنفاقهم وقتالهم.

بطلان القتال بغير بيعة إمام

أقول: لا يصح لجماعة في بلد ما بدون بيعة إمام تبايعه أمتهم أو في إقليم أن يقاتلوا في سبيل الله، هذا القتال لا يصح شرعاً، وباطل وعواقبه خسران واضح وبين، إن أردتم أن تقاتلوا في سبيل الله لإنقاذ البشرية من الشرك والكفر فبايعوا إمامكم، والتفوا حوله، فيربيكم وينمي طاقاتكم، فإذا أصبح قادراً على القتال فإنه يعسكر على حدود إقليم الكفار ويراسلهم، يقول: هل تدخلون في الإسلام؟ فإن قالوا: نعم ومرحباً بدين الله دخلوا في دين الله بلا قتال، وحكمنا شرع الله فيهم وبينهم، وسادهم الطهر والصفاء، فإن هم رفضوا الدخول في الإسلام طالبناهم بالانضمام إلينا والدخول تحت ذمتنا؛ ليسمحوا لنا أن ننشر دين الله بين أفرادهم؛ لأن الذي يمانع هو الحاكم وجيشه، والأمة المسكينة لم تبقى محرومة من دين الله؟ افتحوا لنا المجال، ادخلوا في ذمتنا وفي حمايتنا، ونحن نحميكم ونقاتل دونكم، ونحفظ أموالكم وأعراضكم ودماءكم وعقائدكم أيضاً، فإن رفضوا فلم يبق -إذاً- إلا إعلان القتال والدخول في المعركة، والله ناصر أوليائه وهازم أعدائه، هذا هو القتال الشرعي الذي ينبغي أن يكون.أما أن تخرج جماعة في أقاليمنا التي لا تحكم بالإسلام ويكفروا الحكام ثم يدخلوا في معارك فيقتل المؤمن المؤمن والمسلم المسلم؛ فهذا -والله- ما أذن الله فيه ولا هو بجهاد أبداً.الجهاد: أن نبايع إماماً بيعة شرعية على أن يسوسنا بشرع الله، ويقودنا بكتاب الله وسنة رسوله، هذه الإمام هو الذي يجاهد برجاله إن كانت الفرص متاحة، إذا رأى نفسه قادراً على أن يجاهد في سبيل الله زحف بسفنه أو دباباته أو سياراته، ويطالب أهل الإقليم المجاور لهم أن يدخلوا في الإسلام أو يدخلوا في ذمة المسلمين؛ لينشر الإسلام بينهم، أو يقاتلوا، والآية المبينة لهذه من سورة التوبة من آخر ما نزل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، هذا نظام الإسلام الرباني، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، وهكذا في ظرف خمس وعشرين سنة بلغ الإسلام إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب تحت هذا النظام.أما جماعة تقوم على الحاكم بعد أن تعلن عن كفره وما بايعت إماماً ولا التفت الأمة حولها، ولا وافق عليها أهل الإقليم؛ فهذه هي الفتن بعينها.فالمفروض: أن نطالب الحكام بتحكيم الشريعة بالموعظة والكلمة الطيبة الحسنة، من باب تنبيههم، تعليمهم، أما أن نعلن الحرب ولا إمام ولا قيادة، ويقتل المؤمنون بعضهم بعضاً؛ فهذا ظلم وفسق وخروج عن طاعة الله ورسوله، وعواقبه لا تساوي إلا الدمار والخراب.يقول تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9]، أي: قاتل بعضهم بعضاً؛ فما هو موقف المسلمين؟ بينه الله تعالى فقال: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]، على إمام المسلمين أن يتدخل في هذا القتال بين طائفتين، فإن كانت إحداهما ظالمة قاتلها حتى ترجع إلى الصواب وتعود إليه بالمفاوضات وبيان الحق، وبيان الهدى، وإذا كانت مظلومة رفع الظلم، وإذا كانت مضطهدة رفع اضطهادها، فإن أبت طائفة إلا القتال فليقاتلها المسلمون مجتمعين؛ حتى ترجع إلى الحق وتقول به. وأخيراً سأتلو هذه الآية الكريمة وتأملوها: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243] بعد أن ماتوا، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]، وَقَاتِلُوا [البقرة:244] أيها المؤمنون فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:244] أي: من أجل أن يعبد الله تعالى وحده، ولا يعبد معه سواه، ومن أجل رفع الظلم عن المظلومين، إذا أمة ظلمت واعتدت فعلى المسلمين أن يرفعوا هذا الظلم بقتالها، وهو في سبيل الله؛ لأن المظلومين من المؤمنين المتقين أولياء الله، فكيف يسكت المؤمنون ويرضون بالعدو الكافر أن يضطهدهم أو يعذبهم، والظالمون أنفسهم لا نرضى بظلمهم، بل نرفعه. ودعا الله تعالى المؤمنين إلى البذل والعطاء، إلى الإنفاق لأجل إعداد العدة وتسيير السرايا التي تقاتل في سبيل الله، فقال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، والله! ما هو في حاجة إلى أموالنا، ولكن هذه الأموال من أجل إعلاء كلمة الله ورفع الظلم عن المظلومين.فالمؤ نون يبذلون أموالهم وينفقونها، وقد يخرج أحدهم من ماله كاملاً ولا حرج، وقد يخرج من نصف ماله؛ لأن الله يعوضه ويضاعف له أضعافاً كبيرة، وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245].
أحكام متعلقة بالمعتدات والمطلقات

أقسام المعتدات
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

نتناول هنا مراجعة وبياناً لأحكام المعتدات من النساء، وذلك أن المعتدات على أقسام:أولاً: معتدة تحيض، فعدتها ثلاثة قروء، سواء قلنا بالأطهار أو بالحيض، الكل خير، إلا أن الاعتداد بالأطهار أخف على المعتدة، فزمنها أقل، حتى تستريح وتتزوج، لكن الاعتداد بالحيض في صالح الزوج أيضاً، تبقى المدة أمامه طويلة عله يراجع، ففي ذلك فائدة لهذا ولهذا؛ ولهذا لا فرق بين أن نقول: بالأطهار أو بالحيض. هذه واحدة.الثانية: التي لا تحيض لكبر أو صغر، إما عجوز فوق الخمسين ما تحيض، أو صغيرة بنت تسع أو عشر سنوات ما تحيض، فعدتها ثلاثة أشهر: وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، تسعون يوماً، ثم هي حرة تتزوج بمن شاءت إذا ما راجعها زوجها فيها.الثالثة: المتوفى عنها زوجها، تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام، بعدها لها أن تلبس الحرير وتكتحل وتتعرض للخطبة والزواج، لكن في الأربعة أشهر وعشرة أيام تلزم بيتها لا تخرج منه إلا من ضرورة قصوى. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، هذه الآية من أهل العلم من قال بنسخها، وأنها منسوخة بآية سبقت: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، وآثرنا القول بعدم النسخ، وقد رغب فيه كثير من الصحابة والتابعين والأئمة، فقلنا: لبثها في بيت الزوج أربعة أشهر وعشر ليال هذا هو الواجب، وبعدها يستحب لأهل الميت أن يبقوا هذه المؤمنة التي مات زوجها تأكل وتشرب حتى تكمل السنة إذا أرادوا أن يحسنوا ويعملوا بهذه الوصية الإحسانية: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240]، فتزيد سبعة أشهر وعشرين يوماً وهي في بيت زوجها الذي توفي، فإذا انتهت السنة تخرج حيث شاءت، وإن أرادت أن تخرج بعد الأربعة أشهر وعشر ليال فلها ذلك، لكن إن قالت: أنا ألفت هذا المنزل وهؤلاء أبنائي أو إخواني سنبقى معكم حتى يفرج الله، فيقال حينئذ: أكملوا لها السنة، وتبقى الآية ليست منسوخة بل محكمة، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، تبقى في بيتها أربعة أشهر وعشر ليال لا تختضب ولا تكتحل ولا تتعرض للزواج أبداً، وإن فعلت فهي آثمة وفاسقة ويجب عليها أن تتوب؛ لأن الله قال: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]. فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:234] من التعرض للزواج أو التزوج، لكن تبقى مدة إكمال السنة من باب الإحسان، فإذا ما رغبت أن تخرج من هذا البيت، وقالت: سأبقى معكم حتى تكتمل السنة وبعد ذلك يفرج الله عني؛ فمن الإحسان أن نبقيها، تأكل مع الأسرة وتشرب وتنام حتى تكمل السنة، فهذا إحسان أمر الله به ووصى به: وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:240]، ما دامت قد أكملت أربعة أشهر وعشرة أيام فلها أن تخرج، لكن إن قالت: سأبقى معكم حتى أكمل سنة ويفرج الله عني، أليس من الإحسان والرحمة والمودة أن تبقى هذه؟ فالآية -إذاً- محكمة وليس بمنسوخة.المعتدة الرابعة: المرتابة، من الريب، هذه ليست كبيرة في السن، وما هي بصغيرة، ولكن مع الأسف ما حاضت.قال أهل العلم: تتربص وتنتظر تسعة أشهر، فإن كان هناك حمل فبها ونعمت؛ لأن عدم الحيض سببه الحمل، فإذا ما حاضت في الشهر الأول، ولا في الشهر الثاني، ولا في الثالث ولا في الرابع فلعله حمل، فإن مضت تسعة أشهر وما حملت فلا حيض ولا حمل، إذاً: حين تستوفي تسعة أشهر مدة الحمل تعتد بثلاثة أشهر، فتكمل سنة وبعد ذلك تتزوج، هذه المرتابة الشاكة، انقطع حيضها لأي شيء، أو لعلها حبلى في بطنها جنين ماكث، فما تحيض مع الجنين أبداً، وقد يتأخر الجنين سنتين، يستقر وما ينمو ويبقى في الرحم.إذاً: قالت الفقهاء -رحمة الله عليهم-: هذه هي المرتابة الشاكة، عدتها سنة، تمكث تسعة أشهر عسى أن تكون حاملاً في بطنها جنين، وبعد تسعة أشهر إذا ظهر أنه ما هناك حمل فإنها تأخذ في العدة، تعتد بثلاثة أشهر كالآيس من الحيض، فهنا أربع معتدات.

أقسام المطلقات من حيث ما يجب لهن

والمطلقات أقسام:أولاً: المطلقة إذا طلقت قبل المسيس، قبل أن يمسها زوجها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:49]، إذا تزوج الرجل المرأة وطلق قبل الدخول عليها فلا عدة عليها، فإن لم يسم لها صداقاً فلا صداق لها؛ لأنه ما سمى لها شيئاً، إذاً: فماذا تعطى؟ تعطى المتعة، يمتعها الزوج الذي طلقها بحسب حاله فقراً وغنى، إعساراً ويساراً.ثانياً: مطلقة طلقها قبل أن يمسها وقد سمى لها مهراً، فلها نصف المهر، إلا أن تتنازل عنه كله، أو يتنازل هو عنه كله، وقد ذكرنا اللطيفة أمس: وهي أنه إذا كانت هي التي طالبت بالطلاق فمن الخير أن تقول: تنازلنا عنه، ما دمت أنا نجوت بنفسي، فمن الخير أن تكون هي التي تعفو، وإذا كان الزوج هو الذي أراد طلاقها وما رغب وأخزاها وأذلها بين النساء فمن الخير أن يترك المهر كله لها، أما الآية فالله تعالى يقول: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، ففتح الله علينا وقلنا: يعفو الرجل إذا كان هو الذي رغب في طلاقها، أليست هي تشعر بمهانة؟ يعقد عليها وقبل أن يدخل بها يطلقها، فمن الخير أن يتنازل عن النصف، وإذا كانت هي كرهته وما أرادت أن تتزوج، وهو يكرب لهذا ويحزن؛ فمن الخير أن تتنازل هي عن النصف.ثالثاً: مطلقة كان قد بنى بها ودخل عليها وطلقها، فهذه إن سمى لها مهراً فلها مهرها كاملاً، وإن لم يسمّ لها مهراً فلها مهر مثيلاتها من الشريفات والوضيعات والغنيات والفقيرات، هذه تزوجها وما سمى لها المهر لا مليون ولا ألف، ثم طلقها بعد الدخول بها والبناء حتى بعد الولادة، فما الحكم؟ تعطى مهر مثيلاتها، القاضي ينظر إلى هذه الأسرة: هل هي أسرة فقيرة، أو غنية شريفة، أو وضيعة، فيعطيها مهر مثيلاتها من جنسها، هذه هي الرابعة.فهذه خلاصة هذه الآيات، وهذا فقهها، والله تعالى أسأل أن يحفظنا وإياكم وأن يراعانا وإياكم ما حيينا.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-08-28, 09:27 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (18)
الحلقة (25)
ترجمة العالم الواعظ المعمَّر أبو بكر الجزائري (رحمه الله تعالى ) (http://majles.alukah.net/t167489/)


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (115)

يذكر الله عز وجل قصة بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام، وأنهم طلبوا من نبيهم أن يختار لهم ملكاً من بينهم ليقاتلوا تحت لوائه العمالقة، وبينوا له سبب استعدادهم للقتال وذلك لاسترداد أوطانهم وما سلب منهم، فلما عين لهم رجلاً منهم ليكون ملكاً عليهم بدءوا بالتلكؤ والتساؤل، إذ كيف يكون لطالوت الملك عليهم وليس صاحب مال وافر فيهم، فبين لهم نبيهم أن الله عز وجل هو الذي اختار لهم طالوت وميزه عليهم بمزيد من العلم والقوة.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على عادتنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع هاتين الآيتين المباركتين، وإليكم تلاوتهما:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:246-247].

حث المسلمين على الجهاد بتذكيرهم بإماتة الله تعالى الفارين من الموت

أعيد إلى أذهان المستمعين من المؤمنين والمستمعات من المؤمنات ما جاء في الآيات الثلاث في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ [البقرة:243] وما بعده، فقد عرفنا -زادنا الله معرفة- أن هذه الآيات نزلت في بداية الجهاد الإسلامي، فسورة البقرة من أوائل ما نزل بالمدينة، وهي قطعاً مدنية، والجهاد يتطلب المال والنفس، وإذا لم يكن مال ولا رجال فكيف يكون الجهاد؟ والنفس قد يعتريها الخور والخوف والضعف، وتعجز عن القتال، والجهاد قتال، والأمة مقبلة على قتال الأبيض والأصفر، وهذا الذي تم.إذاً: فقال الله تعالى لرسوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [البقرة:243] فماتوا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243] لِم خرجوا من ديارهم؟ لأن الوباء الطاعون -عافانا الله وإياكم والمسلمين منه- وقع، فخرجوا هاربين من الموت يظنون أنهم إذا خرجوا من مدينتهم نجوا من الموت، ولا أشك أن هذا مسبوق بطلب رفضوه، وإن لم يذكر، فلعل أحد أنبيائهم طلب منهم أمراً فرفضوا فأصابهم الله تعالى بهذا المرض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عنه: إنه رجس أصيب به طائفة من بني إسرائيل، فهذا هو مرض الوباء، فلما جبنوا ابتلاهم الله بهذا الوباء ففروا هاربين منه يظنون أنهم ينجون، وما إن خرجوا حتى قال لهم: (موتوا) بكلمة التكوين فماتوا وأنبيائهم يشاهدون، ثم قال لهم: (قوموا) فحيوا عن آخرهم.فهل نفعكم الفرار من الموت؟ ما نفع، هل امتناعكم عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والجهاد كان له عاقبة حميدة؟ لقد كانت من أسوأ العواقب، إذاً: هذا من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)!هذا حدث في بني إسرائيل وقصه الله للعبرة، يقول تعالى: ألم ينتهِ إلى علمك يا رسولنا كذا وكذا؟ ليفهم هذا المؤمنون وليعرفوا مركزهم وموقفهم.

عظيم فضل الله تعالى على الناس
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]، وتجلى فضل الله عز وجل في خلقه لهم، وفي إنجائهم وإحيائهم بعدم موتهم، أليس هذا أعظم فضل، ماتوا فأحياهم عن آخرهم، لو شاء لتركهم إلى الأبد. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [البقرة:243] أبيضهم وأصفرهم، إذ ما منا إلا وهو يتقلب في نعم الله، من استطاع منا أن يوجد لنفسه عيناً أو أذناً، أو شفة من الشفتين، أو لساناً ينطق به، أو هواء يتنفسه، فضلاً عن الطعام والشراب؟ ففضل الله علينا عظيم، والمطلوب أننا لا نبكي بل نحمد الله عز وجل، وذكرتكم وما انتفعتم ولا انتفعنا؛ لأن قلوبنا مصابة بالغفلة، قلت: منذ فترة تغدينا مع رجل مؤمن في مدينة بريدة، فمن ساعة أن وضع الطعام والرجل يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله؛ حتى فرغ الأكلة من طعامهم، ولا يقل لنا قائل: هذا تنطع أو هذا ابتداع، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما فعل هذا! فهذا كلام ليس بصحيح، بل نحن مأمورون بذكر الله وشكره، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن أنه يتوب إلى الله ويستغفره في اليوم مائة مرة. والشاهد عندنا: أننا لو ننظر في صدق إلى ما نحن فيه من نعم ما وسعنا أن نسكت أبداً، بل لن نقول إلا: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.فماذا أراد الله بقوله: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243] أليست دعوة إلى الذكر وإلى الشكر؟

أمر المسلمين بالجهاد لعبادة الله تعالى وحده

ثم قال بعد هذه التوجيهات: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190]، هل المراد بنو إسرائيل؟ لا، بل المسلمون، إذ نزلت الآيات لهدايتهم وتربيتهم، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190] أيها المؤمنون.وعرفنا أن القتال في سبيل الله هو من أجل أن يعبد الله تعالى في الأرض وحده، يعبد بما شرع من عبادات، من أجل أن ينتقل أهل الأرض إلى السماوات؛ لأن أهل الأرض إذا لم يعبدوا الله تعالى بما شرع لهم فإنهم ينزلون إلى الدركات السفلى، ويخلدون في العذاب الأبدي في الطبقات السفلى من الكون، فإذا هم عبدوا الله تعالى عبادة شرعية حقيقية زكت أنفسهم وطابت أرواحهم، وحينئذٍ يرفعهم الله إليه إلى الملكوت الأعلى، فهذا سر العبادة، مع ما تفيضه على العابدين من مودة وإخاء وطهر وصفاء، وعدل ورحمة، وتنتهي مظاهر الخبث والظلم والشر والفساد، ولا يبقى لها أثر.
إحاطة علم الله تعالى وسمعه أقوال المرجفين
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا [البقرة:244] أيها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:244]، إذ هذه الآيات الأولى في الجهاد، ولا تسأل عن الطابور الخامس وعن الإعلام في المدينة، اليهود يقولون كذا، والمشركون يقولون كذا، يقولون: هذا جاء لإيقاع الفتنة بينكم، هذا كذا، يريدكم كذا، فقال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ [البقرة:244] لأقوالكم الهابطة أقوال السوء، عَلِيمٌ [البقرة:244] بما تكنونه من مكر برسولنا وكيد لعبادنا المؤمنين، فهذه تلصقهم بالأرض، فما دام تعالى سميعاً لأقوالهم، عليماً بأعمالهم؛ فسوف ينزل بهم نقمه، أو يكشف الستار عنهم ويفضحهم؛ لأن الآيات في بداية المعركة بعد معركة بدر مباشرة.

الحث على الإنفاق في سبيل الله تعالى

ثم حثهم وحضهم وهيجهم على الإنفاق في سبيل الله، فبِم يقاتل رسول الله وهو ما يملك ديناراً ولا درهماً، فإذا قال المهاجرون: هيا يا رسولنا قال: أين طعامكم وشرابكم وسلاحكم؟ فلهذا قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، الدينار بسبعمائة دينار، بل بألف، وبالفعل أخرجوا أموالهم وأنفقوها في سبيل الله، وكم من مؤمن كان يأتي ويقول: يا رسول الله! أجاهد معك، فيقول: لا أستطيع حملك: لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التوبة:92]، فيرجعون وهم يبكون من الحزن لأنهم ما استطاعوا أن ينفقوا.إذاً: مَنْ ذَا الَّذِي [البقرة:245]، هذا الاستفهام للتهييج والإثارة، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، والمال ماله وهبه لنا، وقال: أقرضوني أضاعف لكم القرض، وإلا فالمال -والله- ماله، ومن رحمته وإحسانه أنه يعطينا ويستقرض منا، فالناس الآن قد يفعلون هذا، يعطي لأخيه مالاً ويحتاج إليه، فيقول له: أقرضني، لكن الله عز وجل واسع الفضل عظيم، فالدينار بسبعمائة وبألف: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] مع أن أنفسهم وأموالهم منه وله، وهبهم واشترى منهم لغناه ولفقرهم، بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111]، لا أحد، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، هل عرف المسلمون هذه الآية؟ ما سمعوا بها؛ لأن هذه السورة ما تقرأ على الموتى أبداً، ما هي مثل يس، والواقعة، والملك، ولذا ما عرفوها، ولو عرفوا هذه ما صح لأحدهم أن يحتسي شراباً يضعف عقله أو بدنه، ولما استطاع مؤمن أن يدخل أي ضرر على نفسه؛ لأن النفس هذه ليست له، حيث باعها، وهي أمانة في عهدته لله عز وجل؛ فلهذا لا يحل لمؤمن أن يدخل على نفسه أذى، لا على عقله ولا على جسمه بعظامه ولحمه؛ لأنها أمانة مودعة عنده، ويوم يطلبها المؤتمن تقدم له.والذين يحتسون السموم ويشربون المخدرات ويهدمون بنيانهم في المعاصي والجرائم والسهرات وما إلى ذلك، هؤلاء أضاعوا أمانة الله أو لا؟ لو نادى إمام المسلمين: (حي على الجهاد)؛ قال أحدهم: مع الأسف؛ أنا مريض! لماذا تمرض، لم تدخل المرض على نفسك، أليست أمانة لله، أما بعت نفسك واشتراها الله، فكيف إذاً تعمل هذا بجسمك؟ أما المال فلا تسأل، فالذي ينفق درهماً ريالاً قرشاً في معصية الله أعوذ بالله منه، هو شر الخلق، أيعطيه مولاه ويشتري منه ثم ينفق ضده؟ فتأمل: وهبك مالك ونفسك، ثم اشتراهما منك وتركهما أمانة عندك، فحين يطلبهما تعطيه، وإذا بك تنفق ماله ضده فيما يكره، وتتحداه، والله! لو يشعر العبد المؤمن بهذا الشعور لأغمي عليه.فلهذا كل من ينفق ديناراً ودرهماً في معصية الله وقف هذا الموقف الشائن الذي هو أسوأ موقف، ونبدأ بالذين يشربون الدخان والشيشة والكوكائين والهروين، والذين ينفقون أموالهم على الزنا والعهر والباطل، والذين ينفقون أموالهم في القمار واللهو والباطل، حتى الإسراف في الأكل والشرب لا ينبغي، فالقصد.. القصد، هذا مال الله، ما هو بمالك، فلا تسرف.إذاً: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، وبينتها سورة البقرة، إذ قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، قال ابن عباس : إلى ألف ألف، وألف الألف مليون.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
ابتلاء الله تعالى عباده بقبض الرزق وبسطه

ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]، أيها المؤمنون! اعلموا أن الله يقبض الرزق على من يشاء ويقلل ماله وطعامه وشرابه ابتلاءً له هل يصبر أو يسخط، ويبسط ويوسع على من يشاء امتحاناً أيشكر أم يكفر، ومن هنا: إذا طلب منك مولاك فأعطِ، فإنَّ منْعك العطاء لا يغنيك ولا يدفع الفقر عنك أبداً؛ لأن الإغناء والإفقار هو الذي يديرهما ابتلاءً وامتحاناً، وبهذا تشجع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفتم كيف كان ينفقون، فاللهم اجعلنا من محبيهم.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله ...)
بعد هذا جاء السياق الآتي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246]: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا الحادثة الآتية والقصة الآتية، وهي عبرة يعبر بها المؤمنون بحور الضلال والشقاء والخسران. ثم من أين لرسول الله أن يقص هذا القصص ويأتي بهذه الأحداث كأنها الآن تقع بينهم، هذه علامة أنه رسول الله، ومن أنكر رسالته فهو أحمق مجنون لا قيمة له.هل استطاع اليهود أن يردوا كلمة واحدة من هذا؟ الآية تنزل واليهود بطوائفهم الثلاث، وهم علماء والعرب جهال، هل استطاعوا أن يردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة؟ ما استطاعوا؛ لأنه يتلقاه غضاً طرياً من الملكوت الأعلى. أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ [البقرة:246]، ما المراد بـ(الملأ)؟ الملأ: الجماعة الذين يملئون عينيك وقلبك بالمهابة، وهم أشراف الناس وساداتهم وأغنياؤهم وأهل الحل والعقد منهم، الذين يملئون العين والقلب. مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:246] أي: من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246]، أي: من بعد وفاة موسى بقرون، متى؟ لما أغناهم الله بعبادتهم وطاعتهم وصلاحهم واستقامتهم على دين الله عز وجل، ثم دخلهم الربا والزنا والكعب العالي، كالمجتمع الإسلامي اليوم، وهو يتهيأ للنقمة الإلهية.إذاً: سلط الله عليهم البابليين، فشردوهم.. مزقوهم.. طردوهم من بلادهم.. ساموهم الخسف، لِم يا ربّ تفعل بهم هذا؟ أليسو أبناء أنبيائك؟ الجواب: نعم، ولكن عصوني وفسقوا عن أمري، خرجوا عن طاعتي وحاربوني، فأذقتهم هذا البلاء، وإن كانوا أبناء الأنبياء. أما أذاق الله أمة محمد أطهر الأمم وأصفاها البلاء والعذاب والشقاء؟ أين الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي؟ حولوهم إلى شر الخلق، أين الأندلس جنة الإسلام الخضراء؟ تحولت إلى صلبان وشياطين.وأخيراً: أما استعمرتنا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وبلجيكا، أين ممالك الهند الإسلامية؟ وضعتها بريطانيا تحت حوافرها، لما فسقنا عن أمر ربنا، وخرجنا عن طاعته أمضى الله تعالى فينا سننه، ولله سنن لا تتبدل ولا تتحول، ما نحن بأشرف من بني إسرائيل، بنو إسرائيل أبناء الأنبياء سلط الله عليهم البابليين من جهة العراق وهم في فلسطين وما حواليها، فشردوهم، فعلوا بهم كما يفعل اليهود اليوم بالمسلمين في فلسطين سواء بسواء، أهذه خيالات أو حقائق؟ أما شرد إخواننا الفلسطينيون فنزلوا في كل مكان؟ بسبب ماذا؟ بسبب الخروج عن منهج الحق ومنهج الطاعة لله ورسوله، فمن أكل السم مات أحب أم كره، أليس كذلك؟قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246] عليه السلام إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، أخذوا يتحمسون، طالت مدة الاستعمار، وأخذوا يفكرون، ونبتت نابتة قوية شجاعة، فقالوا لنبيهم: ابعث لنا ملكاً، وهذا النبي قيل هو: شمويل أو شمعون، والعبرة ما هي بالاسم، حسبنا أنه لو كان الاسم فيه فائدة لذكره الله تعالى، فهو نبي من أنبيائهم، الأول حزقيل الذي كان في عهد الوباء، وهذا شمويل. ‏

أهمية بيعة الإمام في الجهاد

وهنا تأمل قوله تعالى: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، ولا تقولوا: الشيخ جنّ! أقول: لو عرف هذا إخواننا الفلسطينيون معرفة يقينية وإيمانية فوالله! لأخرجوا اليهود منذ أربعين سنة، فكيف؟ يبحثون عن ملك يملكونه وإماماً يقودهم ويطيعونه، فإذا قال: صوموا صاموا، وإذا قال: هلِّلوا هلَّلوا، وإذا قال: اجلسوا جلسوا، لا يزال يترقى بهم حتى يصبح له قوة لا تقهر، لكن ما فعلنا، فما هي النتيجة؟ لا نجاح ولا فوز.وأوضح من هذا أنا قاتلنا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وبلجيكا وأخرجناهم من بلادنا، فهل أقمنا دولة إسلامية؟ ما السر؟ ما بايعنا إماماً ربانياً يقودنا إلى حياض الكمال في الدنيا والجنة في الآخرة، كل يريد أن يكون هو الملك الحاكم، وحين لا يتعين إمام فالفوضى، ينجح الشعب ويستقل ويرفضون كلمة إمام وملك، بل يبحثون عن أي ملك يريدون ذبحه، حتى لا يقيموا دين الله، والهروب من بيعة إمام هو الهروب من أن يعبد الله عز وجل، ما يريدون أن تقام الصلاة ولا تجبى الزكاة، ولا يحجب النساء ولا يمنع الربا، ولا يفرض الجهاد أبداً، فيموت النساء والرجال والأطفال ويستقل الشعب من فرنسا أو إيطاليا وهم يتنكرون للإسلام.فأسألكم بالله: هل سعدوا في أي بلد؟ هل طابوا وطهروا، وتآخوا وتلاقوا؟ كلا، بل كان الخزي والعار والشنار والحرب، وما أفقنا، وآخر رمية أيام الجهاد الأفغاني، وأقول: إنه جهاد فيه دخن وتغضبون أنتم، وتقولون: ماذا فيه؟ فقولوا ما شئتم، فوالله! إن فيه لدخناً، وعاقبته عاقبة السوء، ونتائجه مرة.كنت أقول: لا يحل لمؤمن أن لا يراه الله في ذلك الجهاد، إما بنفسه إن كان أهلاً لذلك، أو بماله إن كان له مال، أو بدعوة إخوانه إلى أن يساعدوا وينفقوا، أو بدعائه صباح مساء لإخوانه، ومع هذا ذهبنا إليهم وبينا لهم، وانتدبنا شيخنا الباز حفظه الله وأطال الله عمره، وذهبنا إليهم ودخلنا معسكراتهم وقلنا: اجتمعوا على إمام وبايعوه، وحدوا كلمتكم وصفوفكم، فقال أحدهم: هذه الجبهة الفلانية صاحبها جعلها مصيدة للفلوس! ما إن سمعنا هذه الكلمة من قائد من قوادهم حتى انهارت قوانا، وعرفنا مصيرنا.وبعد أن انهزمت روسيا وتحطمت بجهاد المؤمنين والمؤمنات بالدعاء وبالإنفاق في سبيل الله، وأعظم بلاد أنفقت هي هذه البلاد، وهزم الله روسيا، بعد ذلك هل استطاع إخواننا أن يقيموا دولة إسلامية؟ هل أقيمت بينهم الصلاة؟ هل حطمت مشاهد الشرك والباطل والخرافات؟ كلا، لِم؟ ما بايعوا إماماً على قيادتهم إلى رضوان الله عز وجل.فهذه الآية عجب أو لا؟ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا [البقرة:246] لا نقاتل بدون إمام، ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] من أجل أن يعبد الله ويحكم شرعه في عباده.

معنى قوله تعالى: (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

فقال لهم النبي عليه السلام: (هل عَسِيتُمْ) كما في قراءة سبعية، هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]، ومعنى هذا أنه يقول: أنا أتوقع أنكم إذا كتب عليكم القتال لا تقاتلون، عرف ظاهرهم وباطنهم، و(عسى) للترجي، وقد صدق، فقد فرض الله عليهم القتال وانهزموا، آلاف رجعوا منهزمين وما قاتل إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدة أصحاب بدر كما سيأتي بيان ذلك في الآيات.فهل عرفتم الآن أنهم يطالبون بإمام يقودهم؟ في إمكانهم أن هذا يولي هذا وهذا يبايع هذا، وتظهر الفوضى والهزيمة من أول يوم، ولكن عرفوا أنه لا بد من بيعة إمام، وهذه الانتفاضات التي يسمونها في بلاد العرب والمسلمين جماعة كذا وتطالب بالحكم وبدون بيعة أمتهم لهم؛ مآلهم التمزق والتشريد والدمار والخراب، لا بد من بيعة إمام، لِم هذه البيعة؟ ليأمر فيطاع وينهى فيطاع، لتجتمع كلمة الأمة، إذا قال: الله أكبر كبروا جميعاً، أما أنه يقول: الله أكبر وهذا يغني فكيف يقودون أمة؟

معنى قوله تعالى: (قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا)

فهؤلاء قال لنبيهم: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، فقال: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] والحال أنا أخرجنا من ديارنا وأبنائنا، ما لك يا نبي الله؟ كيف لا نقاتل؟ وهو يعرفهم ظاهراً وباطناً، فما هم بأهل لأن يقاتلوا.وصح هذا، فقد خرج يقودهم طالوت فانهزموا ورجعوا إلى ديارهم يصعقون، وما استمر مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر.والآن هؤلاء الذين يطالبون بالجهاد والله العظيم! ما هم بأهل، لِم؟ ما ربوا في حجور الصالحين؟ ما تكونوا تكويناً ربانياً سليماً صحيحاً، فما ينقادون، فثلاثة أنفار منا يطعن كل واحد منهم في الآخر، يسب ويشتم ويعير، ولو سمعتم ما يقال في هذا الشيخ الذي يحدثكم لسمعتم عجباً، يقولون: ذَنَب وعميل وكذا، لا إله إلا الله! والله! ما أنا بذنب، ولا بعميل إلا لله عز وجل، ويقولون كذلك، قالوا: السعودية بنت له عمارات، والله العظيم! ما بنت لي لبنة واحدة، لكن أمة هابطة هذا شأنها، ما يستحي المؤمن أن يتكلم وهو لا يعلم، وهذا سبب فتنتنا: نتكلم بدون علم، قيل وقال، وقد حرم الله هذا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.فهل عرفتم سر الإمامة أو لا؟ لتكون الكلمة واحدة والطاقة واحدة، لا أن كل واحد يقول ويعمل كما يشاء، فما نستطيع أن نجاهد حينئذ. قال تعالى: قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246].

معنى قوله تعالى: (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين)

قال تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا [البقرة:246]، رجعوا إلى الوراء هاربين إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة:246]، أربعمائة من ثلاثين ألفاً أو أربعين ألفاً، وامتحنهم -كما سيأتي- بنهر الأردن، قال لهم: نحن في زمن عطش في الصيف، سوف نمر بنهر، وقد منعكم الله من الشرب منه فلا تشربوا إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249]، غرفة فقط ليبرد قلبه؛ امتحاناً لهم، وما إن وصلوا إلى نهر الأردن حتى كبوا عليه كالبهائم وما نجا إلا ثلاثمائة وأربعة عشر، هذه عدة قوم طالوت وكانت عدة أهل بدر، والباقون انهزموا، وهؤلاء المؤمنون الصابرون بقيادة هذا البطل الكريم طالوت نجحوا ومزقوا جيش البابليين وهزموهم.

تفسير قوله تعالى: (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ...)

قال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [البقرة:247] بعث لكم طالوت ملكاً عليكم يسوسكم ويقودكم حيث تقاتلون وتنتصرون، وتستردون دياركم ومركزكم في العالم، قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247]، قالوا: طالوت هذا لا يصلح، ما هو من أولاد لاوي ولا من أولاد يهوذا، هذا من أولاد بنيامين ، نريد ملكاً من أصالة وجدارة كأولاد يهوذا الملك فيهم، أو من أولاد الأنبياء كبني لاوي ، أما بنو بنيامين فلا.ولو كان لهم عقول فهل سيقولون هذا الكلام لنبي؟ هل يعترضون على نبي طالبوه بأن يسأل الله لهم وأعطاهم فيقولون: لا، كيف يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه، نحن أبناء يهوذا وأبناء لاوي، كيف نقبل هذا؟وهل المسلمون اليوم يختلفون؟ لو كانوا مؤمنين صادقين -كما قررنا هذا منذ أربعين سنة- لاجتمعوا في هذه الروضة وبايعوا إماماً لهم وأخذوا القرآن دستوراً لهم، وأصبح العالم الإسلامي تحت راية واحدة ولا يكلفهم شيئاً أبداً.فهل بعد ذلك سيمرضون، أو يفتقرون، أو يصابون بماذا؟ والله! لترتفعن راية لا إله إلا الله في العالم، وخاصة في هذه الظروف، فما المانع أن يجتمع أربعون نفراً أو خمسون من الحكام ويقولوا: بايعنا فلاناً على كتاب الله وسنة رسوله، أنت إمام المسلمين ونحن ولاة وقادة الجيوش في العالم الإسلامي، لِم ما يفعلون؟ ما يستطيعون، فإذا كان هناك أحزاب وجماعات في كل بلد ما اتفقوا؛ فكيف تتفق الدول؟ ما السر إذاً؟ ما ربينا في حجور الصالحين، ظلم الجهل هو الذي هبط بنا. قال تعالى: قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247]، قالوا: هذا فقير ما عنده ثروة ولا مال، وما هو من أبناء الملوك ولا أبناء الأنبياء، ما هو بمعقول يا حزقيل أو يا شمعون!

معنى قوله تعالى: (قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم)

قال تعالى: قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:247]، المفروض أنه ما دام أن الله اختاره فهل يبقى لنا كلام؟ وإنما تكلموا لأنهم فساق وظلمة، لأنهم في وقت هبوطهم، أبعد أن يقول: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ [البقرة:247] يبقى واحد يتردد؟ آمنا بالله. قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247]، كان أطولهم قامة، وقيل: هو ابن عجوز، وهذه العجوز لما بلغت ستين سنة سألت الله أن يرزقها ولداً، فرزقها الله هذا الولد طالوت، ولعل طالوت مأخوذ من الطول باللغة العبرية، حيث كان أطولهم؛ لأن الله قال: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247]، كان أعلمهم وأقواهم بدناً، وهذا اختيار الله عز وجل للملك، فيجب أن يكون من العلماء من الأفاضل من أهل القوة البدنية والعقلية، أما ذو مناكب ضعيفة ونوليه فإنه يعجز ويشتت الأمة، هذا تدبير الله عز وجل.

لطيفة في الدلالة على جواز حب الوطن

وأذكر هنا لطيفة في قولهم: وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، قالت العلماء: حب الوطن فطري في الإنسان، واسمع هؤلاء لما قالوا: أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا [البقرة:246] يعني: الشوق إلى ديارهم والعودة إليها، ويقوي هذا ويبلوره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان خارجاً من مكة مهاجراً وغادرها استقبلها وقال: ( إنك لأحب البلاد إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ).وأما حديث العامة: (حب الوطن من الإيمان) فهذا حديث باطل، يكتبونه في اللوحات وكذا، وما هو بحديث، ليس بحديث أبداً، ولكن حب الوطن فطري غريزي، فالإنسان حيث وجد يتوق ويشتاق إلى ذلك المكان، أما أنه من الإيمان فليس من الإيمان.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-08-29, 11:59 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (19)
الحلقة (26)
ترجمة العالم الواعظ المعمَّر أبو بكر الجزائري (رحمه الله تعالى ) (http://majles.alukah.net/t167489/)


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (116)

بعد أن تبين لبني إسرائيل اصطفاء الله عز وجل لطالوت وتمليكه عليهم، وما أنزل عليه من التابوت الذي فيه ميراث موسى وهارون عليهما السلام، والسكينة التي وعدهم الله إياها، بعد ذلك خرج طالوت بجنوده حتى وصلوا إلى نهر، فابتلاهم الله عز وجل بالشرب منه، فشربوا منه جميعاً سوى نفر قليل أطاعوا أمر ملكهم ولم يشربوا، وهم الذين واجهوا العمالقة بقيادة جالوت، فهيأ الله داود عليه السلام لملاقاة جالوت فقتله ونصر الله عز وجل عباده المؤمنين على قلتهم، وهزم أعداءهم على كثرتهم وقوتهم.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في دراسة كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) اللهم حقق لنا هذا الموعود.

ذكر ما كان من خبر بني إسرائيل بعد وفاة موسى عليه السلام
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

أعيد تلاوة الآيات السابقة التي درسناها فتفكروا وتذكروا، فلها ارتباط بالآيات الآتية: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246] ملأ بني إسرائيل: أشرافهم -كما عرفنا- من علماء وأخيار، مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246] أي: بعد وفاة موسى بقرون، إذ يعقوب عليه السلام كان بأرض فلسطين، ثم لما أخذ ولده يوسف عليه السلام وبيع كما علمتم، واشتراه العزيز بالديار المصرية، وشاء الله عز وجل أن يجمع بين يوسف وإخوته ويعقوب، ثم كانت فترة نورانية ما غشيها ظلام الفسق والفجور والخروج عن طاعة الله ورسله، ثم بعث الله موسى عليه السلام وطالب فرعون بأن يخرج ببني إسرائيل من الديار المصرية، وامتنع فرعون وأراه الله الآيات التسع، وكسر الله فرعون وهزمه وخرج موسى ببني إسرائيل، ولما خرج بهم كان الذي وقع؛ لأنهم ما تربوا تربية إسلامية في حجور الصالحين، فكانوا جبناء وخرافيين، ما إن شاهدوا قوماً على ساحل البحر الأحمر يعبدون العجل حتى قالوا: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، وحصل أن الله حرمهم من دخول الديار الفلسطينية وكتب عليهم التيه أربعين سنة لعصيانهم، لعدم طاعتهم لله ولرسوله، ومات موسى وهارون عليهما السلام في زمن التيه، وتولى بني إسرائيل يوشع بن نون، هذا تلميذ موسى عليه السلام.وقادهم ودخل والحمد لله الديار المقدسة، وأدب العمالقة وانتصر وكانت الدولة، فمضت فترة والناس في رخاء وطهر وصفاء، فجاءت الشهوات والأهواء والأطماع ففسقوا عن أمر الله، وخرجوا عن طاعته، وأعرضوا عن ذكره وكتابه كما هي حال المسلمين في فترات من الزمان معروفة، فسلط الله عليهم العمالقة، فشردوهم، شتتوهم، مزقوهم، أذلوهم، أهانوهم، ولما نبتت نابتة جديدة قالوا: إلى متى ونحن مشردون؟ هيا بنا نطالب نبينا شمويل بأن يعين لنا ملكاً ونقاتل تحت رايته ونسترد ديارنا وبلادنا.

طلب بني إسرائيل من نبيهم تولية ملك عليهم للقتال

اسمع القصة كما ذكرها تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] اختره لنا، وقدمه لنا وابعثه لنشاهده.قال تعالى: قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]، قال: أتوقع أنه متى فرض الله عليكم القتال لا تقاتلون؛ لعلمه بضعفهم وخورهم واختلافهم وهبوطهم، وكان حكيماً، وكيف لا وهو نبي الله؟فردوا عليه قائلين: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، قال تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا [البقرة:246] مهزومين معرضين إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة:246] ثلاثون ألفاً أو خمسون ألفاً ما صبر ولا رضي بالقتال منهم سوى ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، هذا الواقع. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا [البقرة:246] هاربين معرضين عن المواجهة إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة:246].

إخبار بني إسرائيل بتولية الله تعالى طالوت الملك عليهم

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [البقرة:247]، طالوت هذا بعض الروايات تقول: إنه ابن عجوز، ويلقب بابن العجوز؛ لأن والدته كانت كبيرة السن وشاخت وما ولدت، وتوسلت إلى الله بأسمائه وصفاته فرزقها الله هذا الولد، فكان يعرف بابن العجوز، وكان طويل القامة؛ بحيث إذا وقفت تريد أن تمس رأسه فإنك ترفع يدك حتى تضعها على رأسه، فسمي (طالوت) من الطول، وقوله: (ملكاً) أي: إماماً يقودكم إلى الجهاد.ولا ننس أنه لا بد من قيادة رشيدة، لا بد من إمامة، لا يصح للمسلمين أن يقاتلوا متفرقين مختلفين، فينهزمون وينكسرون، لا بد من إمامة تظللهم رايتها فيأتمرون بأمرها وينتهون بنهيها، هذا الذي شاءه الله، وقد قلنا لكم: لما قاتل المسلمون من إندونيسيا إلى موريتانيا المستعمرين الغربيين ما قاتلوهم تحت قيادة ربانية شرعية، فلما انتصروا على العدو الكافر ما أقاموا لله دولة ولا سلطاناً، ما أقاموا حتى الصلاة ولا جبوا الزكاة، ولا حرموا أدنى شيء مما حرم الله، لِم؟ ما السر؟ ما هناك إمام قائد رباني يأمر وينهى، بل جماعات وأحزاب ونعرات، فما استطاعوا أن يقيموا دولة إسلامية، والحبيب صلى الله عليه وسلم يعلمنا: ( إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم )، أيما جماعة لا بد لهم من أمير حتى لا يختلفوا ويلعن بعضهم بعضاً، فكلمة المسلمين يجب أن تكون واحدة؛ لأنهم يحملون راية الإنس والجن كلهم أعداء لها، ما يريدون أن يعبد الله وحده، أو تقوم شريعته أبداً، فلا بد أن تكون تلك الأمة متحدة الكلمة، متحدة الرأي، متحدة الشريعة، فالخلاف شر كله، فانظر: ما قاتل بنو إسرائيل جماعات جماعات ومنظمات كما هو الحال الآن، قالوا: ابعث لنا ملكاً نقاتل تحت رايته.فنظر نبي الله شمويل إلى ضعفهم وعدم تربيتهم وخورهم فقال: ما أنتم بقادرين. فقالوا: كيف؟! وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، وصدق الله وصدق عبده ونبيه. قال تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة:246]، فلهذا يجب أن يتربى المؤمنون في حجور الصالحين على الكتاب والسنة، على النور الإلهي، وإلا فهم غثاء كغثاء السيل، فأنى يقودون العالم ويسودون البشرية؟

ترفع الملأ من بني إسرائيل واعتراضهم على تمليك طالوت

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا [البقرة:247]، كان المفروض أن يقولوا: آمنا بالله، مرحباً، الحمد لله، فنبيهم ما قال: أنا بعثته، بل قال: إن الله بعثه بوحيه، قال: عين لهم فلاناً يقودهم.فلما كانوا في ذلك الهبوط الخلقي والروحي والعلمي قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا [البقرة:247]، ما هو من أبناء يهوذا الذين فيهم الملك ولا من أبناء لاوي الذين فيهم النبوة، بل هو من أولاد بنيامين أخي يوسف، فلن نقبل هذا! فهل هذا الكلام يقوله مؤمن؟ يردون على رسول الله ونبيه، لأنهم جهلة بعداء عن الأنوار الإلهية، فواجهوا نبي الله بهذه الكلمات. قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247]، نحن أحق بالملك منه؛ لأننا أبناء الملوك أو أبناء الأنبياء، وليس هو من هؤلاء ولا من هؤلاء، ولم يعطَ المال الكافي.

اصطفاء الله تعالى لطالوت وبيان ما حباه به من الشمائل

فقال نبي الله شمويل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247]، وهنا: من أراد أن يأمر أميراً فلا بد أن ينظر إلى بدنه وقوته وإلى علمه وإدراكه، العلم الذي نعني غير الثقافة الغربية الأوروبية، فتلك أوساخ، المراد العلم الرباني: العلم بالله تعالى وبمحابه ومكارهه، وكيف تؤدى تلك المحاب، وكيف تجتنب تلك المكاره، العلم بما عند الله لأوليائه، وما لدى الله لأعدائه، هذا العلم مع قوة البدن، يكون قادراً على البيان والكلام والمشي والقيام، أما المريض والضعيف فما ينفع في هذا الباب. قال: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:247] لا تعترضوا على الله، الله يعطي ملكه من يشاء، العبيد عبيده وهو الذي يملِّك من شاء من عبيده، وقد اصطفى طالوت واختاره من بينكم لأهليته للقيام بهذه المهمة: قيادة الجيش لإنقاذ البلاد من المستعمرين. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247]، واسع العلم والمعرفة والقدرة، عليم بكل ما يحدث في الكون قبل أن يكون، فليسلم له، فإذا اختار الله زيداً أو إبراهيم لم يبق للجهلة الحق في أن يقولوا: لا، وهو سبحانه الواسع القدرة والعلم والإحاطة بكل شيء، العليم بخفايا الأمور، والظاهر والباطن عنده سواء، فما ينبغي أن يردوا هذا عليه.

تفسير قوله تعالى: (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم ...)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

الآن مع قوله تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ [البقرة:248] من نبيهم؟ شمويل، ماذا قال لهم؟ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [البقرة:248] العلامة الدالة على أن الله اختاره واصطفاه وملكه أمركم ليقودكم، آية ذلك وعلامته: أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248].التابوت: صندوق خشب من نوع راقٍ، وقد يكون مطلياً بالذهب في بعض جوانبه لرفعته، هذا التابوت ماذا فيه؟ قال: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:248]، ما هي السكينة؟ذهب بعض أهل التفسير -ولعلهم ينقلون عن بني إسرائيل- فقالوا في السكينة: إنها حيوان كالهر له جناحان وذنب كالهر، ولعينيه شعاع .. إلى آخر ما وصفوا في هذا، وهذا مروي عن بعض المفسرين كـمجاهد ، ومجاهد أهل لذلك، لكن ما دام أنه مروي عن بني إسرائيل فقد يكون خرافة.وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم السكينة، أما قال للذي كان يقرأ سورة الكهف وقد ربط فرسه في شجرة، وإذا بسحابة تتغشاه، فجعلت الفرس تنفر منها، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه حصل له كذا وكذا، فقال: ( تلك السكينة تنزلت للقرآن ) ، أي: ملائكة.وفي حديثنا الذي نعيده قال صلى الله عليه وسلم: ( إلا نزلت عليهم السكينة )، فأسكنتنا وجعلتنا هادئين ساكنين، إذاً: السكينة الهدوء والطمأنينة والاستقرار، وعدم الاضطراب وعدم الخوف، وعدم القلق.فهذا التابوت ماذا قال تعالى عنه؟ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:248] أي: لقلوبكم، بمجرد أن يوجد هذا التابوت بينكم تهدأ نفوسكم وتسكن وتطمئن بسبب هذا التابوت الذي يحوي من الآثار كذا وكذا وكذا. وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى [البقرة:248]، فيه عصا موسى، فيه نعاله، فيه التوراة التي أخذت منهم، فيه آثار من هارون، هذه كانت مجموعة في صندوق مطلي بالذهب وكانوا يعتزون بها، إذا وجدت فيهم سكنت نفوسهم، هذا التابوت لما استولى عليهم العمالقة أخذوه إلى ديارهم، وبقي عندهم في معرض التحف، ومن تدبير الله عز وجل أنهم -والعياذ بالله تعالى- أصابهم داء البواسير وأصابهم قحط، فتساءلوا فقالوا: هذا بسبب تابوت بني إسرائيل، فهيا نرده عليهم، هكذا تقول الرواية، فوضعوه في عربة تجرها الخيل أو البغال، ووجهوها نحو بني إسرائيل، فساقتها الملائكة حتى وصلت بها إلى مجتمع بني إسرائيل، إذ قال تعالى: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248]، ولا مانع أن تكون الملائكة تقود العربة وتوجهها، وإلا فكيف لحيوان أن يعرف الطريق من منطقة إلى منطقة؟ ولا مانع أيضاً أن الملائكة تأخذ الصندوق بما فيه وتضعه بين أيديهم، ولا منافاة بين هذا وذاك، إذ هذا فعل الله وتدبيره. فهذه آية: أن الله تعالى ملك عليهم طالوت، هذه أعظم آية، ففجأة يجدون التابوت بين أيديهم، فلا يبقى شك واضطراب في نفوسهم، هذه أكبر آية وعلامة على أن الله قد ملك طالوت عليهم حقاً: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [البقرة:248] عليكم أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ [البقرة:248] من أين يأتي؟ من عند العدو من بلاد بعيدة، فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:248] بمجرد أن يقع بينكم تسكن نفوسكم، وتهدأ القلوب وتنتهي المخاوف وتنتهي الهزائم المعنوية لوجود هذه البركة؛ لأن هذا التابوت فيه آثار موسى وهارون، منها: العصا، منها نعل من نعالهما، وثوب من ثيابهما.قال: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248]، فما قالوا: كيف؟ المهم أنه وضع بين أيديكم، وصل بإذن الله عز وجل وتدبيره. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:248]، وإذا كنتم كافرين لا تؤمنون بالله وبآياته فماذا نصنع؟ وهذه والله لأكبر آية تدل على أن الله قد ملك هذا العبد الصالح طالوت عليهم، لماذا؟ ليجمع كلمتهم ويقودهم إلى الجهاد لإنقاذ ديارهم وأهلهم.

تفسير قوله تعالى: (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر ...)

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ [البقرة:249] انفصل وقاد الجنود، قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [البقرة:249] مختبركم، ممتحنكم؛ لأنكم أخلاط، امتحان بنهر في شدة القيظ وشدة العطش، قيل: هذا النهر هو نهر الأردن، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة:249] اللهم إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249] أطفأ بها لهب العطش. ومشى الجيش بقيادة الملك طالوت عليه السلام، وبعد يوم أو يومين وصلوا إلى دائرة الامتحان، وكانوا عطاشاً، ما إن وصلوا إلى النهر حتى أكبوا عليه يكرعون، ونسوا ما أخذ عليهم من العهد، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة:249]، بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذا القليل أنه ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو وأربعة عشر على خلاف، على عدة أصحاب بدر الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عير أبي سفيان ، وكتب الله القتال وجمع بينهم في بدر، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنكم على عدة قوم طالوت )، وبينهم قرون عديدة. قال تعالى: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249]، لما جاوزوا النهر وشربوا وقربت المواجهة قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249] ما نستطيع، وهذه هي الهزيمة، قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ [البقرة:249] هم المؤمنون الموقنون، وعبر بـ(الظن) عن (اليقين) لأنه غيب، ما هو بمشاهدة، فيعبر عنه بالظن والمراد به اليقين. قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ [البقرة:249]، هم الذين يؤمنون بلقاء الله بعد الموت ويوم البعث والنشور، أي: المؤمنون بلقاء الله وباليوم الآخر، ما هم بملاحدة ولا كفار ولا مشركين، فماذا قالوا؟ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، علماء حلماء، ولهذا عبروا بهذا التعبير لنور إيمانهم ومعرفتهم، ليسوا كأولئك الرعاع السفلة، بل ثبتوا وقالوا: سنقاتل، كم من فئة قليلة في التاريخ غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين الذين يثبتون على طاعته وطاعة القيادة، ويقاتلون من أجل الله ومن أجل إعلاء كلمته.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

نسرد الآن ما جاء في التفسير بما فيه من العلم الكثير.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيات: لقد فرض الله تعالى على المؤمنين القتال، ودارت رحى المعارك بداية من معركة بدر، وكان لا بد من المال والرجال الأبطال الشجعان، فاقتضى هذا الموقف شحذ الهمم وإلهاب المشاعر لتقوى الجماعة المسلمة بالمدينة على مواجهة حرب العرب والعجم معاً، ومن هنا -لمطاردة الجبن والخوف وهما من شر الصفات في الرجال- ذكر تعالى حادثة الفارين من الموت ] في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:243] [ التاركين ديارهم لغيرهم، كيف أماتهم الله ولم ينجهم فرارهم، ثم أحياهم ليكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم، فالفرار من الموت لا يجدي، وإنما يجدي الصبر والصمود حتى النصر.ثم أمر تعالى المؤمنين بعد أن أخذ ذلك المنظر من نفوسهم مأخذه فقال: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:244]، ولما كان المال المقدم في القتال فتح الله لهم اكتتاباً مالياً وضاعف لهم الربح في القرض بشرط خلوصه وطيب النفس به، ثم قدم لهم هذا العرض التفصيلي لحادثة أخرى تحمل في ثناياها العظات والعبر لمن هو في موقف المسلمين الذين يحاربهم الأبيض والأحمر وبلا هوادة وعلى طول الزمن، فقال تعالى وهو يخاطبهم في شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، يريد: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا بإخبارنا إياك قول أشراف بني إسرائيل بعد وفاة موسى لنبي لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله؛ فنطرد أعداءنا من بلادنا ونسترد سيادتنا ونحكم شريعة ربنا؟ونظراً إلى ضعفهم الروحي والبدني والمالي تخوف النبي أن لا يكونوا صادقين فيما طالبوه به فقال: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:246] بتعيين الملك القائد أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]؟! فدفعتهم الحمية فقالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله والحال أنا قد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ وذلك أن العدو وهم البابليون لما غزوا فلسطين بعد أن فسق بنو إسرائيل فتبرجت نساؤهم واستباحوا الزنا والربا، وعطلوا الكتاب، وأعرضوا عن هدي أنبيائهم؛ سلط الله عليهم هذا العدو الجبار فشردهم فأصبحوا لاجئين.وما كان من نبي الله شمويل إلا أن بعث من تلك الجماعات الميتة موتاً معنوياً رجلاً منهم هو طالوت وقادهم، فلما دنوا من المعركة جبنوا وتولى أكثرهم منهزمين قبل القتال، وصدق نبيهم في فراسته إذ قال لهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]. هذا ما تضمنته الآية الأولى من هذا القصص. أما الآية الثانية فقد تضمنت اعتراض ملأ بني إسرائيل على تعيين طالوت ملكاً عليهم؛ بحجة أنه فقير من أسرة غير شريفة، وأنهم أحق بهذا المنصب منه، ورد عليهم نبيهم حجتهم الباطلة بقوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247]، كان هذا رد شمويل على قول الملأ: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247]. وكأنهم لما دمغتهم الحجة، وهي أن الله تعالى قد اختار طالوت وفضله عليهم بهذا الاختيار، وأهله للولاية بما أعطاه وزاده من العلم وقوة الجسم، والقيادات القتالية تعتمد على غزارة العلم وقوة البدن بسلامة الحواس وشجاعة العقل والقلب، أقول: كأنهم لما بطل اعتراضهم ورضوا بـطالوت طالبوا -على عادة بني إسرائيل في التعنت- طالبوا بآية تدل على أن الله حقاً اختاره لقيادتهم، فقال لهم .. إلى آخره، وهي الآية الآتية ]. قال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:248].قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة:قد أصبح بشرح الكلمات معنى الآية واضحاً، وخلاصته أن شمويل النبي أعلمهم أن آية تمليك الله تعالى لـطالوت عليهم أن يأتيهم التابوت المغصوب منهم، وهو ] أي: التابوت [ رمز تجمعهم واتحادهم ومصدر استمداد قوة معنوياتهم؛ لما حواه من آثار آل موسى وآل هارون؛ كرضاض الألواح ] التي تكسرت لما غضب موسى ورمى بها فتحطمت، [وعصا موسى ونعله، وعمامة هارون، وشيء من المن الذي كان ينزل عليهم في التيه، فكان هذا التابوت بمثابة الراية يقاتلون تحتها، فإنهم إذا خرجوا للقتال حملوه معهم إلى داخل المعركة ولا يزالون يقاتلون ما بقي التابوت بأيديهم لم يغلبهم عليه عدوهم.ومن هنا وهم يتحفزون للقتال جعل الله تعالى لهم إتيان التابوت آية على تمليك طالوت عليهم، وفي نفس الوقت يحملونه معهم في قتالهم فتسكن به قلوبهم وتهدأ نفوسهم، فيقاتلون وينتصرون بإذن الله تعالى.أما كيفية حمل الملائكة للتابوت فإن الأخبار تقول: إن العمالقة تشاءموا بالتابوت عندهم إذ ابتلوا بمرض البواسير وبآفات زراعية وغيرها، ففكروا في أن يردوا هذا التابوت لبني إسرائيل، وساق الله أقداراً لأقدار، فجعلوه في عربة يجرها بقرتان أو فرسان ووجهوها إلى جهة منازل بني إسرائيل، فمشت العربة فساقتها الملائكة حتى وصلت بها إلى منازل بني إسرائيل، فكانت آية وأعظم آية، وقبل بنو إسرائيل بقيادة طالوت ، وباسم الله تعالى قادهم، وفي الآية التالية بيان السير إلى ساحات القتال ].قال تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية:إنه لما خرج طالوت بالجيش أخبرهم أن الله تعالى مختبرهم في سيرهم هذا إلى قتال عدوهم بنهر ينتهون إليه، وهم في حر شديد وعطش شديد، ولم يأذن لهم في الشرب منه إلا ما كان من غرفة واحدة، فمن أطاع ولم يشرب فهو المؤمن، ومن عصى وشرب بغير المأذون به فهو الكافر، ولما وصلوا إلى النهر شربوا منه يكرعون كالبهائم إلا قليلاً منهم. وواصل طالوت السير فجاوز النهر هو ومن معه، ولما كانوا على مقربة من جيش العدو -وكان قرابة مائة ألف- قال الكافرون والمنافقون: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249] فأعلنوا انهزامهم، وانصرفوا فارين هاربين، وقال المؤمنون الصادقون وهم الذين قال الله فيهم: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، كانت هذه الآية في بيان سير طالوت إلى العدو، وفي الآيتين التاليتين بيان المعركة وما انتهت إليه من نصر حاسم للمؤمنين الصادقين ].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قراءة في تفسير قوله تعالى: (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً ...) من كتاب أيسر التفاسير

يقول تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250]، دعاء صادق وهم صادقون، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:251-252].

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيات: لما التقى الجيشان: جيش الإيمان وجيش الكفر والطغيان؛ طالب جالوت ] جالوت الكافر طالب جيش طالوت بالمبارزة، قال: من يبارزنا؟ وكانوا إذا اصطفت الصفوف يخرج بطل يقول: من يقاتلني، وهذا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان شائعاً، والآن انتهى؛ لأن الحرب بالرصاص والصاروخ، ولهذا فالجيوش الآن كلهم جبناء، ما هناك مواجهة.قال: [ طالب جالوت بالمبارزة، فخرج له داود من جيش طالوت ]، داود هذا هو أبو سليمان الذي ملكه الله، [ فقتله، والتحم الجيشان ]، إذا انتهت المبارزة بقتل أحد المبارزين الآخر تلتقي الفئتان، وهذا البراز علته التهييج والإثارة، وأنتم تعرفون هذا من كرة القدم على شاشة التلفاز والناس يتمايلون، فهذا سر المبارزة، فالصفوف من هنا وهناك، والمبارزة قائمة وهم يتحمسون، ما إن يسقط أحدهما حتى يندفع بعضهم على بعض بتدبير الله عز وجل.قال: [ فنصر الله جيش طالوت ، وكان عدد أفراده ثلاثمائة وأربعة عشر مقاتلاً لا غير ]، التحم الجيشان فنصر الله جيش طالوت الملك على بني إسرائيل، وكان عدد أفراد جيشه ثلاثمائة وأربعة عشر مقاتلاً لا غير؛ [ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل بدر: ( إنكم على عدة أصحاب طالوت )] بوحي الله الذي يتلقاه، [ وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، فهزم الله جيش الباطل على كثرته، ونصر جيش الحق على قلته. وهنا ظهر كوكب داود في الأفق بقتله رأس الشر جالوت ، فمن الله عليه بالنبوة والملك بعد موت كل من النبي شمويل والملك طالوت ] عليهم السلام، [ قال تعالى: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة:251].وختم الله القصة ] اللطيفة الظريفة، هذه التي ينبغي أن تدرس في كليات الحرب، وما يعرفونها، ويدرسون ضلالات أوروبا وأوساخ روسيا في أغلب كليات الحرب.[ وختم الله القصة ذات العبر والعظات العظيمة بقوله: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة:251] بالجهاد والقتال؛ لاستولى أهل الكفر وأفسدوا الأرض بالظلم والشرك والمعاصي ] أليس كذلك؟ إي والله العظيم، حتى لا تقول: لم يأمر الله المؤمنين أن يقاتلوا؟ فقتالهم هذا لرفع الظلم وإحقاق الحق، لولا أنه يدفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، واستولى عليها أهل الكفر والشرك والباطل ودمروها. [ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة:251] بالجهاد والقتال؛ لاستولى أهل الكفر وأفسدوا الأرض بالظلم والشرك والمعاصي، ولكن الله تعالى بتدبيره الحكيم يسلط بعضاً على بعض، ويدفع بعضاً ببعض منة منه وفضلاً، كما قال عز وجل: وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251] ] أبيضهم وأسودهم، كافرهم ومؤمنهم.[ ثم التفت ] الله تعالى [ إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقال له تقريراً لنبوته وعلو مكانته: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ [البقرة:252] التي تقدمت في هذا السياق نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:252] ] الله أكبر.. الله أكبر، والحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-08-31, 05:08 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (20)
الحلقة (27)
ترجمة العالم الواعظ المعمَّر أبو بكر الجزائري (رحمه الله تعالى ) (http://majles.alukah.net/t167489/)


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (117)

من سنة الله عز وجل في خلقه أنه فضل بعض مخلوقاته على بعض، ومن ذلك أنه فضل بعض النبيين على بعض، ففضل الرسل عامة على النبيين، وفضل أولي العزم على سائر الرسل، فمنهم من كلمه تعالى كفاحاً كموسى عليه السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من آتاه الآيات الباهرات ورفعه إليه فوق السماوات كعيسى عليه السلام، ثم ختم سبحانه وتعالى الرسل بأفضلهم وواسطة عقدهم محمد صلى الله عليه وسلم.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليالي الأربع ندرس كتاب الله عز وجل، وكلنا رجاء في أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات تلك القصة العجيبة التي قصها الله تعالى علينا في كتابه القرآن العظيم، تلك القصة التي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ إذ رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب يقص قصصاً عجباً تم في بني إسرائيل مختلف الأحداث متنوعها، ولا يستطيع يهودي ولا مسيحي أن يرد كلمة واحدة أو ينقضها، فكيف لا يكون رسولَ الله يتلقى الوحي والعلم من الله عز وجل؟والقصة أتلوها: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:243-245].ثم تبدأ القصة مفصلة؛ إذ قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:246-252].

هداية الآيات

فإلى هداية هذه الآيات في ستة أرقام تذكرنا بهذه الحادثة العظيمة:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات:[ أولاً: الجهاد الشرعي يشترط له الإمام المبايع بيعة شرعية ].الجهاد الشرعي الذي أذن الله فيه وأمر به وشرعه لعباده المؤمنين يشترط لصحته وجوازه والقيام به الإمام المبايع بيعة شرعية، وقتال بدون بيعة وإمام باطل، وأهله ظالمون، ولن يثمر إلا البلاء والشر والفساد.من أين أخذنا هذا؟ إذ قال بنو إسرائيل لنبيهم شمويل: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، لم ما قاتلوا جماعات وأحزاباً؟ لعلمهم أن الجهاد الذي يثمر العز والكمال والطهر والصفاء يكون مما رضيه الله فأذن به وعلم عباده، فقالوا: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، فمأخذها هذه الهداية من قولهم: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا [البقرة:246].[ ثانياً: يشترط للولاية الكفاءة ]، الذي نوليه ونبايعه لا بد أن تكون فيه كفاية لمهمته، [ وأهم خصائصها العلم، وسلامة العقل والبدن ].من أين أخذنا هذا؟ ذلك أنهم قالوا: كيف تولي علينا هذا الرجل الفقير؟ فرد الله تعالى فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:247] أولاً، وما دام أنه اصطفاه فلا كلام، وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] وبهذا يتأهل لقيادة الجيوش وهزيمة العدو.[ ثالثاً: جواز التبرك بآثار الأنبياء كعمامة النبي صلى الله عليه وسلم أو ثوبه أو نعله ]، بل حتى بصاقه؛ ذلك أنهم قالوا: اجعل لنا آية تدل على أن الله اختار هذا، فقال: الآية موجودة، أن يأتيكم تابوت بني إسرائيل، وفيه آثار موسى وهارون. وبالفعل جاء التابوت وكان بأيدي العمالقة في أرض بابل، فإنهم لما احتلوا ديارهم مزقوهم وشردوهم، وأخذوا هذا التابوت وهو صندوق مطلي بالذهب طوله حوالي ثلاثة أذرع، والعرض كذلك، وفيه آثار أنبياء بني إسرائيل، عصا موسى، وكذلك ثياب ونعال مما كان لموسى وهارون، وهذا بمثابة الراية يقاتلون تحتها، كانوا إذا خرجوا للقتال يحملون هذا التابوت، ويرضون بأن يمزقوا كلهم ولا يسقط هذا.إذاً: فجاءهم الله بالتابوت من أرض العراق إلى فلسطين، ففيه جواز التبرك بآثار الأنبياء، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا بصق لا يقع بصاقه على الأرض، يتلقفه أصحابه ويتمسحون به، أما بردته فإلى عهد قريب وهي في المتحف في بلاد العثمانيين، البردة لبسها الرسول صلى الله عليه وسلم، وخرج بها فاندهش الناس لجمالها، فجاءه أحدهم فقال: يا رسول الله! أعطني إياها، فعاد إلى حجرته ونزعها وقدمها له، فصاح الأصحاب: كيف تفعل هذا؟ الرسول ما يرد سائلاً لأنه حيي. فقال: أردت أن تمس جلدي كما مست جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوارثها الأصحاب وأبناؤهم، وبيعت بالآلاف، فآثار الأنبياء لها قيمتها، أما آثار الصعاليك من أمثالنا فخطأ، لا بصاق ولا ثوب ولا نعل. من أين أخذنا هذا؟ من قوله: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [البقرة:248].[ رابعاً: جواز اختبار أفراد الجيش لمعرفة مدى استعدادهم للقتال والصبر عليه ]، من أين أخذنا هذا؟ من كونه امتحنهم، قال: اسمعوا: سنصل إلى النهر غداً في الساعة كذا، وممنوع أن تشربوا منه. امتحاناً لهم، ما إن وصلوا إلى النهر وهم عطاش حتى انكبوا عليه يكرعون كالإبل، ما هم بأهل للقتال، فما خلص منهم إلا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، هؤلاء قادهم طالوت وقاتل بهم جالوت وانتصر عليه، وتلك الألوف كلها انهزمت، هذا اختبار أو لا؟ يريد أن يقاتل جيشاً عرمرمياً قوياً وأفراده قليلون، فاختار الصادقين، أما الانهزاميون أو الشهوانيون أصحاب الأطماع فما يصلحون للقتال، يهربون عند أدنى شيء، فمن أين أخذنا هذا؟ من قوله: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي [البقرة:249] لا يمش معنا، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة:249] اللهم إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249] ليطفئ لهب العطش، فخلص من ثلاثين أو أربعين ألفا ثلاثمائة، وقاتلوا وانتصروا.[ خامساً: فضيلة الإيمان بلقاء الله، وفضيلة الصبر على طاعة الله خاصة في معارك الجهاد في سبيل الله ].من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249] الذين لا يتزعزعون أبداً، يعطون صدورهم للعدو ولا يعطونهم أدبارهم.[ سادساً: بيان الحكمة في مشروعية الجهاد، وهي دفع أهل الكفر والظلم بأهل الإيمان والعدل، لتنتظم الحياة ويعمر الكون ]. من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251].وختاماً قال تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ وعزتنا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:252] فصلى الله عليه وسلم.فالذي يشك في رسالة محمد أحمق، مجنون، لا قيمة له أبداً، فمن أين يأتي هذا البيان؟ بلغ أربعين سنة وهو ما يعرف الألف ولا الباء، ما جلس بين يدي معلم أو مرب، فهل استطاع اليهود -وهم ثلاث طوائف كما علمتم- بعلمائهم أن يردوا كلمة؟

تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ...)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

والآن مع هاتين الآيتين الكريمتين:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [البقرة:253] ومن ثم اقتتلوا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:253-254].قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ [البقرة:253]: تلك الجماعات التي تقدم ذكرها -جماعات الرسل- فضلنا بعضهم على بعض، ومن الذي يفضل؟ الله تعالى.

فضل نبينا على جميع الأنبياء

وهنا لنعلم أن الرسل ليسوا في مستوى واحد في المكانة عند الله عز وجل، بل متفاضلون، لكن ليس من حقنا نحن أن نفضل فلاناً على فلان، نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: لا تفضلوا بين الأنبياء، لا تفضلوني على موسى، لا تفضلوني على يونس ابن متى، ما هو شأنكم أنتم؟ فقط علمنا الله بهذه الآية أنه فضل بين الرسل وهو كذلك، فمن أفضل الرسل؟ محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو نبي البشرية والجن، وإذا توهم متوهم فقال: فضلتموه على أنبياء بني إسرائيل لأنه نبيكم؛ قلنا: محمد صلى الله عليه وسلم نبي العرب ونبي العجم، ونبي الإنس والجن.إذاً: فضله الله عز وجل بما آتاه من الكمالات، لو تجتمع البشرية كلها وتصوغ آدابها وأخلاقها في صورة واحد فوالله! ما كانت كأخلاق أو آداب رسول الله. وفضّله الله تعالى بما يأتي:أولاً: بكون رسالته عامة للإنس والجن.ثانياً: بكونه ختم الله برسالته عامة الرسالات، أعلن عن هذا القرآن فقال: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، ومضى ألف وأربعمائة عام، فهل جاء نبي؟ هذه وحدها كافية، وقد كان الأنبياء يتواردون كل عامين، أو ثلاثة، ولكن هذه ألف وأربعمائة سنة، فهل جاء نبي؟ لأن الله قال: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40].وقد فتح الله علينا وعرفنا السر، حيث علم الله أن الأرض ستكون كأرض واحدة والعالم كمدينة واحدة، أصوات البشر تنتقل من الشرق إلى الغرب، الناس يطيرون في السماء، إذاً: ما هناك حاجة إلى تعدد الأنبياء، فقد كانت البلاد متباعدة، فكانت رحمة الله تقتضي أن كل إقليم فيه نبي، ولكن علم تعالى أن البشرية ستصبح في يوم من الأيام وكأنها أمة واحدة وبلد واحد، فالآن القرآن يقرأ في موسكو والعالم يسمعه في إذاعتها، فهل عرفتم السر أو لا؟ إنه لعلم الله تعالى بما سيوجده في المستقبل من أن العالم سيصبح كمدينة واحدة.وفضله صلى الله عليه وسلم بأن أمته أفضل الأمم، وفضله بالشفاعة في المقام المحمود؛ حيث يتخلى عنها عامة الرسل ولا يطلبها أحد، وهو يقول: أنا لها، إذ بشره الله بها في سورة بني إسرائيل: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] و(عسى) تفيد التحقيق من الله، وفضّله بأنه أول من يدخل الجنة، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة.

فضل أولي العزم من الرسل

وأعظم الرسل هم أولوا العزم، جاء ذكرهم في بعض آية من سورة الأحزاب؛ إذ قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7] من أولهم ذكراً؟ ضمير المخاطب عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم في الترتيب هكذا: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، وفي عرصات القيامة كما حفظتم وعلمتم حين تهيج البشرية في تلك الساحة العظمى يبحثون عمن يكلم الله في شأنهم ليفصل بينهم ويحكم، طال الموقف في يوم مقداره خمسون ألف سنة، فيأتون آدم فيحولهم إلى نوح، يأتون نوحاً فيحولهم إلى إبراهيم، يأتونه فيحولهم إلى موسى، يأتون موسى فيحولهم إلى عيسى، يأتون عيسى فيحولهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

فضل موسى الكليم عليه السلام

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، فهل هذا تفضيل أو لا؟ فموسى عليه السلام كلمه الله كفاحاً وجهاً لوجه بلا واسطة، ما تم هذا لكائن على الأرض إلا لموسى ابن عمران نبي ورسول بني إسرائيل، كلمه في مكان معروف عندنا بالضرورة في جبل الطور بسيناء، إذ ناداه ربه بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:12-14] يسمع كلامه، ولما جاء للمناجاة للميعاد وترك بني إسرائيل وعلى رأسهم هارون أخاه غرر بهم الشيطان وعبدوا العجل وزين لهم الشيطان عبادته، وهارون ماذا يصنع وهو وحده؟ فرجع فوجدهم قد هلكوا يعبدون غير الله مع الآيات التي شاهدوها وهي تسع، فأخذ من خيارهم سبعين ليتوبوا أمام الله عز وجل، فلما انتهوا إلى جبل الطور وسمعوا كلاماً قالوا: نريد أن نرى وجه الله، فأخذتهم صاعقة فماتوا عن آخرهم، فبكى موسى خشية أن يقال: قتل بني إسرائيل، فأحياهم الله.والشاهد عندنا: في كونه تعالى كلم موسى عدة مرات فوق عرشه وموسى على جبل الطور، كلاماً كفاحاً، هذه أفضلية عظيمة أو لا؟

فضل نبينا على موسى في تكليم الله تعالى له

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
وأفضل من هذا ما كان لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ كلمه الله في الملكوت الأعلى، استدعاه وجاءه جبريل يرافقه على البراق فعرج به واجتاز مسافة سبعة آلاف وخمسمائة سنة، وتجاوزها ودخل الجنة ووطئت أقدامه قدسيتها وطهرها، وشاهد أنهارها وأنوارها وقصورها مشاهدة عيان يقظة لا مناماً، وارتفع حتى انتهى إلى مكان فتأخر جبريل، وقال: ما منا إلا له مقام معلوم، ما عندي إذن أن أتقدم، فتقدم هو صلى الله عليه وسلم حتى سمع صرير الأقلام، أقلام القضاء والقدر، ثم كلمه الله كفاحاً وجهاً لوجه، وفرض عليه الصلوات الخمس في تلك الحادثة، فلهذا تكليم الله لموسى كان في الأرض، وتكليم الله لمحمد صلى الله عليه وسلم كان فوق السماوات السبع.

عظمة كلام الله تعالى وحاجتنا إلى تعلمه في المساجد

قال تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:253] من القائل: وآتينا عيسى ابن مريم؟ الله سبحانه وتعالى. فكيف يكفر الكافرون؟ هذا كلامه، فيكف يكون غير موجود؟ هل ممكن أن يوجد كلام بدون متكلم؟ مستحيل. وهنا لطيفة -لطف الله بنا وبكم- نكررها، نقول: إذا أردت يا صاحب البيت والقرية ويا أمير المدينة، إذا أردت هداية قومك وجماعتك فاجمعهم على قال الله وقال رسوله فقط، ولهذا كم نقول: والله! لن ينجو أهل إقليم ولا قطر ولا دولة ولا مملكة في العالم نجاة حقيقية من الذل والهون والدون، من الشر والفساد والظلم والخبث، من الناس وعذابها؛ إلا إذا عادوا إلى الكتاب والسنة، وكيف يعودون إليهما؟ الطريق: إذا دقت الساعة السادسة مساء أخذ أهل البلاد، أهل القرية، أهل المدينة، أهل الأحياء أخذوا يتطهرون ويلبسون أحسن لباسهم وثيابهم، ويحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، وليوسعوه وينظفوه حتى يتسع لهم، ويصلون المغرب كما صلينا، ويجتمعون كاجتماعنا هذا: النساء وراء والفحول أمام والأطفال بينهم، ويجلس لهم عالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يعلمهم ليلة آية وأخرى حديثاً على مدى السنة، وعلى طول الحياة، فهل يبقى بينهم جاهل أو جاهلة؟ والله! ما يبقى، وإذا انتفى الجهل وحل محله العلم هل سيبقى ظلم، خبث، شر، فساد، فقر؟ والله! ما يبقى.فإن قلت: دلل يا شيخ وبرهن؟ فأنا أقول: أيما أهل قرية، أهل مدينة، أهل مملكة أعلمهم أتقاهم لله عز وجل، من يرد هذا الكلام؟ أعلمهم بكتاب الله وبسنة رسوله أتقاهم، لا يسرق، لا يزني، لا يفجر، لا يحسد، لا يكذب، لا يخون؛ لعلمه، وأجهلهم أفجرهم، ولا يوثق في الجاهل أن يسند إليه شيء، تعبث به الأهواء والشياطين، فهو أعمى ما له نور، فلم ما نفعل هذا؟ فإن قلنا: ما نستطيع؛ فلم واليهود والنصارى قدوتنا وأسوتنا إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل وهرعوا إلى السينما والملاهي والمقاصف بنسائهم وأطفالهم، ونحن لا نستطيع؛ لأننا نذهب إلى بيوت الله، والشياطين ما ترضى بهذا لنبقى فسقة، فجرة، هابطين، جهالاً بربنا وما عنده فنهلك.فهذه لم لا تبلغونها؟ لم لا تعملون على إيجادها، إذا كنت إماماً في قرية ففي يوم الجمعة أعلم أهل القرية، قل لهم: من الليلة لا نصلي المغرب إلا مجتمعين، لا يتأخر امرأة ولا رجل إلا مريض، نتعلم الكتاب والحكمة، وهكذا، وما يتوقف عمل، ولا مصنع، ولا تجارة.

أثر سماع القرآن في الكف عن الزيغ والكفر

ثم قلت لكم: كيف يكفر الإنسان وهو يسمع كلام الله؟ دليله قوله تعالى من سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] من يرد على الله؟ فمن أطاعوا أساتذتهم ومعلميهم فهل هم مؤمنون؟ ما دخل الزيغ في القلوب وهبطت الأمة إلا بعد أن تتلمذنا لليهود والنصارى، نتعلم عنهم، وحتى النساء أيضاً، يبعث امرأته لتتعلم في إيطاليا، أو في أوروبا.أهل الزيغ والهبوط في أمة الإسلام هم مسئولون عن إدارتها في العالم، أكثرهم تعلموا على اليهود والنصارى، فيأتون وقلوبهم خاوية، ففي بلاد إسلامية كهذه يتظاهر بالإسلام، وفي بلاد أخرى يسخر من المسلمين ويستهزئ بهم، فما السبب؟ أما قال تعالى: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100] كالأساتذة والمعلمين يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، فيا رب! ما قلته حصل وتم.ثم قال تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] من أين يأتيكم الكفر وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] هذا هو السر، لو كنا نجتمع كل ليلة في ديارنا في العالم بأسره، حتى اللاجئين والجماعات في أوروبا وغيرها يجتمعون كل مساء يتعلمون الكتاب والحكمة؛ فوالله! ما ضل منا ضال ولا كفر كافر ولا هلك هالك، لوعد الله الصادق: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] وفينا حديثه وسنته وبيانه وعلمه.وكثيراً ما نقول -وقد أسمعت لو ناديت حياً-: هيا نبعث بعثة من سبعين شاباً يدرسون في ألمانيا أو يوغسلافيا، ونبعث معهم عالماً بالكتاب والسنة، ونطلب إليهم أن يطيعوه كما يطيعون الإمام الحاكم، فيسكنون في عمارة واحدة، ويجتمعون بعد الدراسة في دارهم، ويقيمون الصلاة، ويتلون كتاب الله، ثم هم بلباسهم الإسلامي، لحاهم، عمائمهم، فينظر إليهم الناظر فيقول: من هؤلاء؟ فيقال: مسلمون، ويدرسون سبع سنين أو أربع ويعودون، والله! ما يحصل -إلا نادراً- أن يفسق منهم أحد، أو يتغير في دينه وعقيدته. ثم نبعث سبعين رءوسهم عارية وببرانيط ولحاهم محلوقة ولباسهم بريطاني أو إيطالي، ونتركهم وحدهم، فوالله! ما يسلم (5%) من الفجور والباطل والشر والفساد، ويأتون كالعميان يضحكون من أمهاتهم وآبائهم.فهذا حصل، وليس بكلام غريب؛ لأن الله الخالق العليم الحكيم المدبر يقول: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:100-101]، فكيف تجهل الأمة وينتشر فيها الزنا والبغاء والشر والباطل والفساد، وينتهي الأمن وهي تجتمع كل ليلة على الكتاب والسنة؟ مستحيل أن ينتشر فيها الظلم والخبث والشر والفساد. أما يوجد في العالم الإسلامي خبث وشر وفساد؟ والله! إنهم ليزنون بنساء بعضهم، كيف بمؤمن يحطم كرامة أخيه المؤمن ويزني بامرأته! أيقع هذا؟ لا تسأل، مؤمن يقتل مؤمناً ليأخذ ماله! كيف يتم هذا؟ يستحيل مع الإيمان، لكن ما هو الإيمان؟ كيف ينمو الإيمان ويبقى في النفوس إذا لم نجتمع على نور الله ونغترف منه يومياً لأبصارنا وقلوبنا وأسماعنا؟ ولولا الصلوات الخمس لانتهى وجودنا بالمرة، وما بقي فينا خير.فاجمع بناتك وأولادك في بيتك، فليلة آية وأخرى حديثاً، وتغنوا بالآية واشرحها، وبين لهم ما فيها، وأوصهم بتطبيقها وانظر إلى بيتك كيف يكون؟ لا تسمع كلمة سوء، ولا بذاء، ولا عنف، ولا سخرية.. كأنهم ملائكة؛ لأنهم عرفوا، أما أن تفتح بيتك للعواهر في التلفاز يرقصن، ويتعلم بناتك هذا، ويشاهد أولادك الذكور فينجذبون إلى الخنا والشر؛ فاعلم أن بيتك قد يخبث وينتهي، والله! إنه لكما تسمعون، فطهروا بيوتكم أيها المسلمون. فإن قلت: ما نستطيع؛ فما أنت برجل؟ اتفق مع امرأتك على التطهير.

معنى قوله تعالى: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

ونعود إلى الآية الكريمة: يقول تعالى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:253] من هو روح القدس، روح الطهر؟ هذا جبريل، أفضل الملائكة، هذا السفير بين الله وبين رسله، هذا الذي كان يتردد على حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، كان يدخل الروضة والمسلمون مجتمعون ويشاهدونه في صورة رجل كريم من الأنصار هو دحية بن خليفة الكلبي ، هذا جبريل رفيق الرسول الحبيب إلى الملكوت الأعلى، كان مع عيسى لا يفارقه، يؤيده، يبين له، دائماً إلى جنبه بفضل الله على عيسى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:253].وعيسى أظهر الله على يديه معجزات خارقة للعادة، فميت على النعش جاءت أمه تبكي: يا روح الله! ولدي مات، وهي في كرب وهم، فقال: قفوا. يا فلان ابن فلانة، قال: لبيك يا روح الله. قال: قم. فوضعوا النعش ولف كفنه ومشى مع أمه.فقال الملاحدة والزائغون والعلمانيون: هذه مؤامرة تمت بينه وبين هذه العجوز، ادعت أن ابنها مات وأنها غسلته وكفنته ونادت الرجال فحملوه، وهو ما مات، وجاءت تقول: يا روح الله! يا روح الله! ولدي، فناداه. وهذا لتعرفوا أن البشرية هي هي إلى الآن وإلى يوم القيامة، والعقل البشري هو هو، والمكر والكيد هو هو، فردوا هذه الآية من آيات الله، والله يقول: يحيي الموتى بإذن الله، أقول هذا حتى لا تثقوا في آراء الناس وما يقولون إذا لاح نور الحق من كتاب الله وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأعمى والأبرص بإذن الله.

كيد اليهود لعيسى عليه السلام ليقتلوه

فماذا فعل به بنو إسرائيل؟ حفروا له في بيته ليقتلوه، ودخل الشرطي عليه فألقى الله على الشرطي شبه عيسى، وهذه آية أخرى، وعيسى رفع من الروزنة، ولما أبطأ الشرطي هاجموا البيت ودخلوا بالقوة، فألقوا القبض على شرطيهم فقالوا: هذا عيسى وصلبوه، وقالوا: تعالوا لتشاهدوا هذا الساحر الدجال أرحناكم منه، والله يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] والقرآن يكذب هذا، والنصارى مصرون على أن اليهود قتلوا روح الله عيسى وصلبوه، ومن شدة ذلك يعلقون الصليب في أعناقهم ويبيعونه بأثمان غالية حباً في عيسى المصلوب.يا عميان، يا جهال، يا ضلال! إذا كان عيسى ابن الله فكيف يصلب؟ إذاً: الله عاجز. إذا كان عيسى هو الله فكيف يقتل؟ أرأيتم العمى؟! وتمضي القرون والقرآن يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] ثم منذ حوالي عشرين سنة أعلن بولس الثامن بأن اليهود برآء من دم السيد المسيح، والقرآن من ألف وأربعمائة سنة يصرح، وأنت الآن تقول هذا؛ لأنهم خدعوك أو غشوك أو ملئوا الجيوب بالمال، فتقول: اليهود برآء من دم السيد المسيح، وما قتلوه؟! وهذه فضيحة من شر الفضائح، كيف تعيش أمتكم قروناً على هذا المعتقد والآن تنفيه أنت؟ بأية حجة؟ ولكن من هبط هبط، فمن يرفعه؟ وما زالوا يعلقون الصليب ويبيعونه، فنقول: كيف يقتل ابن الله؟ أعوذ بالله! قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، خالق الكون كله، فهل يحتاج إلى ولد؟ أن يذهب بعقول المجانين؟ الذي يقول للشيء: كن فيكون هل يحتاج إلى ولد؟ والولد يحتاج فيه إلى زوجة؟ والجن قالوا: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:3].
معنى قوله تعالى: (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات …)
قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ [البقرة:253] أي: من بعد تلك الرسل مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:253] حجج، براهين سواطع، أنوار في كتب الله وحكم على ألسنة رسله، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا [البقرة:253] فتقاتلوا، لا توجد حرب إلا بخلاف، لا توجد فتنة إلا بالاختلاف، هذه خذوها قاعدة: ما يطلق الرجل امرأته إلا إذا اختلفا، ما يغلق فلان دكانه مع شريكه إلا إذا اختلفا، ما تكون الحرب إلا بسبب الاختلاف، بهذه الآية: وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا [البقرة:253] فتقاتلوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة:253] ولكن لله سنن تمضي في البشرية.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآية الكريمة

إليكم شرح هذه الآية من التفسير:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة: بعد أن قص الله تبارك وتعالى على رسوله قصة ملأ بني إسرائيل في طلبهم نبيهم شمويل بأن يعين لهم ملكاً يقودهم إلى الجهاد، وكانت القصة تحمل في ثناياها أحداثاً من غير الممكن أن يعلمها أمي مثل محمد صلى الله عليه وسلم بدون ما يتلقاها وحياً يوحيه الله تعالى إليه، وختم القصة بتقرير نبوته ورسالته بقوله: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:252]؛ أخبر الله تعالى أن أولئك الرسل فضل بعضهم على بعض، منهم من فضله بتكليمه كموسى عليه السلام، ومنهم من فضله بالخلة ] ما الخلة؟ فوق الحب، الحب حين يتخلل القلب يقال فيه: خلة، [ كإبراهيم عليه السلام، ومنهم من رفعه إليه وأدناه وناجاه وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من آتاه الملك والحكمة وعلمه صنعة الدروع كداود عليه السلام، ومنهم من آتاه الملك والحكمة، وسخر له الجن، وعلمه منطق الطير كسليمان عليه السلام ]، سليمان كان إذا تكلم العصفور يعرفه، قال: عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [النمل:16]، وإن صاح الديك عرف ما أراد، سبحان الله! قد تقول: كيف هذا؟ فقل لي: وكيف تنطق أنت وتتكلم؟ فالله المعلم، وعندنا عبرة: فإنه يؤثر أن الصرد الطائر المعروف الذي يوجد في بعض البلدان ويغيب في بعض الفصول لما صاح قال سليمان: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب. وهذا الكلام -والله- حق وصدق. يا بني الناس! لدوا للموت، فلو ما ولدنا بنين أو بنات فمن يموت؟ فنحن نلد لأجل الموت، وابنوا للخراب، إذاً: ارتفعوا بمستوياتكم عن هذه المستويات الهابطة، أنتم تلدون فقط للموت وتبنون للخراب، فلا يشغلكم طلب الولد والزوجة عن عبادة الله وحبه ورضاه، لا تلهكم دنياكم عن ذكر الله وعبادة الله، إنكم تبنون للخراب فقط، ما هو للخلود والبقاء. فسليمان قال تعالى عنه: عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ [النمل:16-17].وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-03, 05:05 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (21)
الحلقة (28)
ترجمة العالم الواعظ المعمَّر أبو بكر الجزائري (رحمه الله تعالى ) (http://majles.alukah.net/t167489/)


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (118)


إن من حكمة الله عز وجل أن هدى من شاء من عباده للإيمان بالرسل، وكتب الضلالة على من لم يقبل ما جاءت به رسل الله، فنتج عن ذلك أن اقتتل الناس مؤمنهم مع كافرهم، ولو شاء الله ما فعلوه ولكن ليقضى أمر الله عز وجل وتتحقق حكمته في خلقه، فينزل أهل الإيمان المنازل التي يستحقونها، من القبول والرضوان، وسكنى الجنان، وينزل أهل الجحود والكفران دركات الجحيم والنيران.

فضل الجلوس في حلق الذكر في المساجد

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).ومن أراد أن ينظر إلى السكينة فها هي أمامه، لا فوضى ولا ضوضاء ولا صخب ولا صياح، ولا أكل ولا شرب، ومن أراد أن ينظر إلى الرحمة وقد غشيتنا فها هي ظاهرة ظهوراً كاملاً، لا أذى ولا ضرر ولا بلاء ولا تعب ولا شقاء، هذه هي الرحمة.ومن أراد أن ينظر إلى الملائكة فهو قاصر لا قدرة له على رؤيتهم، لكنهم يحفون بهذه الحلقة، وأما ذكر الله تعالى لنا في الملكوت الأعلى فهو الجائزة التي لا تعادلها أخرى، من نحن وما نحن حتى يذكرنا رب السماوات والأرض وما بينهما في ملائكته المقربين؟ هذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.وحرم إخوان لنا بالملايين لا يجلسون هذه الجلسة، ولا يجتمعون على كتاب الله وهدي رسوله، فجهلوا ثم زاغوا وانحرفوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فما المانع أن نفرغ من أعمالنا الدنيوية وما عندنا أعمال دنيوية، فالتاجر، والصانع، والفلاح، وكناس الشارع.. الكل يعملون لأجل الله، المسلمون بحق موقوفون على الله، حياتهم كلها وقف على الله، لو سألته وهو يبيع ويشتري ولا يغش ولا يكذب ولا يخدع ولا يضر: لم تفعل؟ فسيقول: من أجل أن نعبد الله عز وجل، أوفر طعامي وشرابي مع أسرتي حتى تستمر حياتنا بعبادة الله عز وجل وطاعته، تمر بالبناء يبني: لم تبني؟ يقول: أبني هذا البيت من أجل أن أستر فيه نفسي وأسرتي عن أعين الناس، أو من أجل أن نقيهم الحر والبرد؛ لأننا عبيد الله، خلقنا لعبادته فأمرنا بالمحافظة على أبداننا لنعبد ربنا.لو وجدته يأكل: لم تأكل يا عبد الله؟ فسيقول: من أجل الله، تأكل من أجل الله؟ أي نعم، إذا لم آكل فلن أستطيع أن أسبح ولا أن أذكر فضلاً عن أن أصلي أو أجاهد وأرابط.ولا ننس كلمة أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: إنني أحتسب نومتي وقومتي على الله. إن نمت نمت لله، وإن قمت قمت لله، والحساب جار بيني وبين ربي.

تابع تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض...)

المفاضلة بين الأنبياء وأدب المؤمنين فيها

معاشر المستمعين! ما أتممنا دراسة الآيتين السابقتين، وهما قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:253-254].الآية الكريمة الأولى درسناها، فلنذكر منها أن الله عز وجل فاضل بين رسله، وله ذلك ولا اعتراض عليه، ونحن أدبنا رسولنا صلى الله عليه وسلم فنهانا عن أن نفاضل بين الأنبياء والمرسلين، ما ينبغي أن نقول: عيسى أفضل من موسى، ولا موسى أفضل من هارون، ولا داود أفضل من سليمان، ليس الشأن شأننا، وحتى هو صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفضلوني على يونس بن متى) لعلمهم من طريق كتاب الله أن يونس ما صبر، وما أطاق.

فضل نبينا بالشفاعة الكبرى يوم القيامة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وفي عرصات القيامة تأتي من البشرية جماعات إلى آدم أبي البشر عليه السلام، فيقولون له: يا آدم! أنت خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته -وهذه فضائل- فاشفع لنا عند ربك أن يقضي بيننا، طال وقوفنا. فيعتذر بهذه الكلمات التي رددها الأربعة، قال: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولن يغضب بعده مثله، فعليكم بنوح، ائتوا نوحاً واطلبوا منه أن يشفع لكم. وهل يشفع لهم في دخول الجنة أو النار؟ لا، يشفع أن يحكم الله بينهم، فالسعداء يسعدون، والأشقياء يشقون، أما أن يبقوا وقوفاً هكذا حفاة عراة والشمس تدنو من رءوسهم والعرق يلجم بعضهم ويصل إلى سرة البعض وأقدام البعض فإلى متى؟ يريدون فصل القضاء بما لهم وما عليهم، فيعتذر نوح ويقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولن يغضب بعده مثله، ويذكر خطيئة من خطاياه كما ذكر آدم، فآدم سبق له أن أخطأ مرة في الملكوت الأعلى، أكل من الشجرة، فذكر هذه الخطيئة وقال: ما أستطيع، اذهبوا إلى نوح، ونوح مكث تسعمائة وخمسين عاماً وهو يدعو إلى الله، وعاش بعد الطوفان كذا سنة، وقبل البعثة عاش أربعين سنة، فاعتذر بخطيئة واحدة في نظره وما هي بخطيئة، وهي أنه قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]، وعلل أيضاً: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27] بما جرب، فأجيال يوصي بعضهم بعضاً: إياكم وهذا الرجل، فإنه يفسد عليكم عقائدكم ودينكم! ومع هذا اعتبرها زلة، قال: كيف أواجه ربي وأنا قد أخطأت؟ عليكم بإبراهيم، فيأتون إبراهيم الخليل فيعتذر ويقول ما قاله من قبله: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ويذكر ثلاث كذبات، وكثيراً ما نقول: إنها أفضل من صدقنا نحن، يقول: ما أستطيع أن أكلم ربي وأنا قد كذبت ثلاث كذبات، وكذبها من أجل الله: الأولى: قال لسارة في الديار المصرية: إنه ليس على الأرض من يعبد الله إلا أنا وأنتِ، فأنتِ أختي وأنا أخوكِ، فإذا سألكِ الطاغية عني فقولي: أخي ولا تقولي: زوجي، عد هذه كذبة. الثانية: لما كان احتفال قومه بعيد في الربيع مروا به خارجين يحملون البقلاوة والحلويات، فقالوا: هيا إبراهيم! فنظر نظرة في النجوم يوهمهم؛ لأنهم يعبدون الكواكب، وقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] ما أستطيع أن أخرج، أنا مريض، فذهبوا وتركوه وحده، ومن ثَمَّ أتيحت له الفرصة للانتقام من الأصنام فكسرها، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ [الأنبياء:58]، قال تعالى: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:59-63] فأوهمهم بيده واعتبر هذه كذبة، وهي الثالثة. هذه الكذبات الثلاثة ما استطاع أن يواجه بها الله ويطلب منه هذا الطلب، فقال: عليكم بموسى كليم الله، كلمه كفاحاً في جبل الطور، فأتوا موسى فاعتذر وذكر خطيئة، ما هذه الخطيئة؟ وكزة وكز بها قبطياً فقتله، وما أراد قتله، كان القبطي يتقاتل مع الإسرائيلي، فاشتكى وصرخ الإسرائيلي، فوجد القبطي ضاغطاً على ذاك الإسرائيلي فوكزه في صدره فمات، واستغفر موسى وتاب كما هو مبين في سورة القصص: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16] فهذه ما استطاع معها أن يواجه الله ويطلب منه. معاشر المستمعين! كم خطايانا؟ دعنا من الخطايا، كم كذبة كذبنا يا أصحاب الستين عاماً والسبعين عاماً؟ قد تكون بالآلاف، لم؟ ما عرفنا الله، لو عرفناه لخفناه ورهبناه وأحببناه فلم نخرج عن طاعته أبداً، هذا هو التعليل السليم والحقيقي، أهل معرفة الله لا يخرجون عن طاعته ولا يفسقون عن أمره، لأنهم يعيشون معه، كيف تزني وأنت مع الله؟ أما تستحي؟ كيف تكذب والله معك يسمع كلامك؟ لن تقدر، تحاول أن تفتح عينيك في امرأة فتستحي منه وهو ينظر إليك، ولكن الذين ما عرفوا وقعوا في هذه الذنوب والمصائب.إذاً: قال: عليكم بعيسى ابن مريم، فيأتون عيسى، ولم يذكر عيسى خطيئة قط، لم يذنب ذنباً قط؛ لأن روح القدس معه لا يفارقه، ولكن يقول: عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، هو أهل لها، فيأتون أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها، أنا لها؛ لعلمه السابق بهذا، إذ جاء من سورة الإسراء قول الله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] يحمده عليه أهل الموقف أجمعون، لأنه فرج كربهم، فقد طال قيامهم ووقوفهم فجاء من سأل الله واستجاب له، ومع هذا لا يتعنتر فيقول: رب وعدتني فأعطني. بل قال: ( فآتي فأخر ساجداً تحت العرش ويلهمني ربي محامد -أي: ألفاظ حمد- فأحمده بها، ولا أزال أحمده حتى يقول: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع ). فاز بها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فقد بذل ما لم نبذله نحن بملايين، ثلاث وعشرون سنة وهو في حرب دائرة، لا تسأل عن طعامه وشرابه، فاز بأخلاق لم تحلم بها الدنيا وآداب ما سمى إليها آدمي قط، وفضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

تفضيل نبينا وموسى عليهما السلام بتكليم الله تعالى لهما

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253] كموسى عليه الصلاة والسلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم، كلم محمد صلى الله عليه وسلم ربه في الملكوت الأعلى. والصواب ألا نقول: كلم محمد ربه، بل نقول: أين كلم الله محمداً؟ وإلا فنحن كلنا نكلم الله ونحن ساجدون، فموسى كلمه ربه في جبل الطور من أرض سيناء، ومحمد صلى الله عليه وسلم كلمه ربه تحت العرش في الملكوت الأعلى، وفرض عليه الصلوات الخمس. وهناك آية تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرج به وتكلم مع الله: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1]، هذا قسم: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2] من صاحبهم؟ محمد صلى الله عليه وسلم. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:4-5] جبريل، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَه ُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:6-13] أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:13-18]، شاهد جبريل في الأرض وشاهده في الجنة عند سدرة المنتهى صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253] سامية عالية بحسب ما قاموا به وبذلوه، ولكن فضل الله عظيم، المهم أن تؤمن موقناً أن الله فضل بعض الرسل والأنبياء على بعض كما فضلنا نحن بعضنا على بعض في الطول والقصر، والفهم والذكاء والعلم، والفقر والغنى، والصحة والمرض، يفعل ما يشاء، لكن هذا التفضيل في رفع الدرجات وعلو المقامات.

عظيم قدرة الله تعالى في خلق عيسى من غير أب

وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:253] عيسى ابن مريم ليس له أب، وهنا حكاية تذكر عن الهابطين يقولون: إذا وضع الإنسان في قبره فالملكان يسألانه فيقول: أنا عبد الله بن فلانة! لم ما يقول: أنا عبد الله بن فلان؟ قالوا: لأن الأب مشكوك فيه، والأم رسمية ما فيها خطأ، واستشهدوا بآية الإسراء: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71] قالوا: بأمهاتهم، فينادي الله: يا فلان ابن فلانة! لأن الأب مشكوك فيه! وكل هذه ضلالات. فعيسى هو ابن مريم لأنه لم يكن ابن رجل وطئ أمه فأنجبته، عيسى كان بكلمة التكوين، كما كان آدم، فآدم من ولده؟ ما اسم أمه؟ من أبوه؟ لا أب ولا أم، كيف كان؟ بكلمة (كن) فكان، فلهذا فالبشر أربعة أصناف: الصنف الأول: من لا أب له ولا أم، وهو آدم، وصنف آخر: من له أب ولا أم له، وهو حواء، والصنف الثالث: من له أم ولا أب له، وهو عيسى عليه السلام، فعيسى عليه السلام بعث الله جبريل إلى أمه كما في كتاب الله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:16-18] إن كنت تقياً تخاف الله فابتعد عني، أما إذا كنت فاجراً فما ينفع معنا هذا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ [مريم:19-22] نفخ في كمها فسرت النفخة في بطنها فكان عيسى بكلمة التكوين: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59].وأعظم آية: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:22-26] لا أكلم أحداً، اتركوني، إني نذرت للرحمن ألا أكلم إنسياً، إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26] يعني: امتناعاً من الكلام. فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:26-29] أن: كلموه. قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29] فنطق: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] ما هو بإله ولا ابن الله، أول كلمة قالها: إني عبد الله، ومع هذا قالوا: هو ابن الله، وذلك هو الجهل والعمى كما نعرفه بيننا. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [مريم:30-34].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

بعض بينات عيسى عليه السلام

قال تعالى: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:253] وهي المعجزات، منها: أنه يحيي الموتى، كما في تلك القصة التي أعلمناكم لتعرفوا أذواق البشر وأحوالهم؛ فقد مات أحد الأبناء وغسل وكفن وحمله الناس إلى المقبرة، وإذا بالعجوز أمه تبكي، فمر عيسى فقالت: يا روح الله! ولدي مات، ادع الله أن يحييه لي، فدعا الله وقال: يا فلان! قال: لبيك يا روح الله. قال: قم. فلف كفنه وعاد مع أمه، فقال المغرضون والهابطون: هذه مؤامرة، هذا اتفاق تم مع عيسى ومع هذه العجوز؛ ليظهر أنه نبي ورسول ويدعوكم إلى طاعته وخدمته.والآن يحدث مثل هذا وأسوأ من هذا، فالعقول البشرية هي هي، والشياطين ما تبدلوا ولا تغيروا، يوحون ويلقون بالمعاني ويزخرفون الكلام في أذهان وقلوب وإخوانهم، وحسبنا قول الله تعالى له: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي [المائدة:110]، فكل هذه آيات.

كيد اليهود لعيسى عليه السلام وتحريفهم النصرانية بعده

ومع الأسف قال اليهود: هو ابن زنا، وعزموا على قتله وصلبه وفعلوا ما فعلوا، والذين اتبعوا عيسى بعد سبعين سنة حولهم اليهود إلى وثنيين مشركين، ما انتفع اليهود بعيسى ولا سمحوا للآخرين أن ينتفعوا به، فهذا بولس شيطان اليهود دخل على أحد الملوك الذين تنصروا ودخلوا في دين عيسى واستطاع أن يقلب الصفحة وحولهم إلى وثنيين، والإنجيل حوله إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً، كيف بكتاب الله يصبح خمسة وثلاثين كتاباً؟ ولما انكشفت عورتهم وفضحوهم اجتمعوا وقاموا وقعدوا وجمعوها وحولوها إلى خمسة أناجيل، أما تستحون! كتاب الله يصبح خمسة كتب؟ وإنجيل من الخمسة فيه التوحيد، فهو ككتب الوهابيين، هذا الكتاب ما يقرأ لأنه كتاب وهابي في التوحيد إلى الآن.إذاً: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:253] نصرناه على اليهود بروح القدس جبريل عليه السلام، وقد عرفتم حادثة محاصرة منزله بالشرطة اليهودية، ودخل رئيس الشرطة عليه فألقى الله الشبه عليه ورفع عيسى من الروزنة من السقف، فدخلوا فوجدوا رئيس الشرطة فقالوا: هذا هو، فاحتضنوه والحديد في يديه ونقلوه إلى الساحة الكبرى ليصلب وصلبوه، فلهذا نعرف أن اليهود ما قتلوا عيسى، لكن بالنسبة إلى القضاء قتلوه؛ لأنهم قتلوا من تشبه به، فالجريمة فعلوها بالفعل، لكن المحنة هي: كيف يقتلون نبي الله ورسوله وهو منهم وأمه إسرائيلية؟ لأي شيء؟ لأنه اعترض عليهم في الربا والزنا والغش والكعب العالي والهبوط المادي، ما أطاقوا الاعتراض، هذا هو السبب، جاء ضد شهواتهم وأطماعهم، وأمرهم بالعفو والإحسان فما أطاقوا، فكادوا له والعياذ بالله، فأيده الله بروح القدس جبريل عليه السلام حتى رفعه إليه.

الواجب على النصارى في معرفة حقيقة الدين

وكان المفروض على النصارى أنهم يأتون إلينا ويتعرفون إلى إلههم الذي يعبدونه، هذا كتاب الله، ما إن قرأ جعفر بن أبي طالب سورة مريم على أصحمة النجاشي وسمعها حتى قال: والله! ما زاد ولا نقص مثل هذه، وأسلم النجاشي . فهم محرومون، نقول لهم: تعالوا لتعرفوا عن دينكم وعن نبيكم وعن دعوتكم، فيخافون على المراكز والمناصب والأموال ويخافون من الغسل والصلاة والصدقات. وعندنا أيضاً من المسلمين جهال ضلال كاليهود والنصارى، ما يريدون أن يسألوا ولا يتعلموا، فلا إله إلا الله! المؤمن بمجرد أن يشك أو يعرف أو يبلغه أن هذا باطل يذهب إلى الشرق والغرب يسأل أهل العلم، يقول: لعلي أنا هالك وأنا لا أدري، لا أنه يسمع من يقول: هذا كفر، هذا باطل، هذا حرام ويغني هو ويسكت، ما هذا؟ أهذا مؤمن؟ المؤمن بمجرد أن يشعر بخطئه لو استطاع أن يمشي إلى أقصى الأرض ليسأل أهل العلم عن هذا الخطأ فإنه يمشي، ما يسمع كلمة (كافر) ويقول: لا بأس، كيف هذا؟ هذا حال النصارى واليهود.

الخلاف بين اليهود والنصارى

وقوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:253] اقتتل اليهود والنصارى بعد نزول عيسى وآيات القرآن والإنجيل. وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ [البقرة:253] يبتلي عباده ويمتحنهم لينزلهم منازل يستحقونها، فمن آمن وعمل صالحاً رفعه إليه، ومن كفر وعمل سوءاً أبعده وأهبطه في الحياة السفلى.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ...)
‏ http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

موقف المؤمن من نداء الله تعالى أهل الإيمان

انتهينا في الدرس السابق إلى هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:254] لبيك اللهم لبيك. هل ناداكم معشر المؤمنين أم لا؟ ما يشعر المؤمنون أبداً حين يسمعون: (يا أيها الذين آمنوا) أنهم مؤمنون. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك. فأنت منادى أم لا؟ كيف يناديك مالكك، سيدك، أميرك، أستاذك وما تلتفت؟ أنت ميت إذاً، فهم أماتونا، والله! ما هناك من يسمع من الملايين من المسلمين، يسمع القارئ يقرأ: (يا أيها الذين آمنوا) فما يقول: أنا مؤمن يقول الله لي.يقول ابن مسعود : إذا سمعت الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمرك بفعله، أو شر يحذرك منه. وقد تتبعنا -والحمد لله- نداءات الرحمن للمؤمنين والمؤمنات فوجدناها تسعين نداء، ينادينا إما ليأمرنا بما يسعدنا في الدنيا والآخرة، وينجينا من البلاء والشقاء في الحياتين، أو ينادينا لينهانا عما يفسدنا ويضعفنا ويشقينا ويردينا في الدنيا والآخرة، أو ينهانا ليبشرنا ليزداد إيماننا وأعمالنا الصالحة وسمو أرواحنا، أو ينادينا ليحذرنا من خطر يداهمنا يفسد علينا حياتنا، أو ينادينا ليعلمنا ما به نكمل ونسعد، ما نادانا لغير هذا قط.والشاهد عندنا: أنه إذا سمعت من يقرأ في الإذاعة أو في الشريط: (يا أيها الذين آمنوا) فقف، اسمع ما يقول الله، فإن كنت فاعلاً فاحمد الله، وإذا كنت تاركاً لما نهى فاحمد الله، وإذا كنت غير عامل فاستغفر الله واعزم على أن تفعل أو تترك، وإلا فلم ينادينا بهذه النداءات؟ لأننا أولياؤه والمؤمنون به وبرسوله وبكتابه، لأننا أحياء.

الحث على المسارعة في الإنفاق

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] فرض الله الزكاة وفرض الصدقات، منها ما هو واجب، منها ما هو مستحب ومندوب، وحرم البخل، وحرم الإمساك، وهذا من مبادئ المجتمع الطاهر، الجهاد لا يقوم إلا بالمال، والرسول صلى الله عليه وسلم ما عنده ميزانية ولا عنده مال، والجهاد قائم؛ فأنفقوا، وتقدم السياق: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245] هذا اكتتاب رباني فتحه لعباده المؤمنين: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245] الدرهم بسبعمائة، وبألف. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] سبحان الله! ما قال: أنفقوا ما رزقناكم ولا تبقوا شيئاً، ردوا علينا ما أعطيناكم، بل قال: من بعض ما أعطيناكم. وهو ماله، فطلب منا أن نعطي منه لصالحنا من أجل الجهاد وحمل راية الحق والدعوة، من أجل سد جوع الفقير وكسوة عورته، لا من أجله هو تعالى. أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] عجلوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ [البقرة:254] ويا له من يوم لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]. استعجلنا: عجلوا بالإنفاق مما رزقناكم، فصاحب العلم يجب أن ينفق من علمه بتعليم غيره أو إرشاد سواه، أو بيان الحق له، والذي رزقه الله جاهاً ينبغي أن ينفق من هذا الجاه بأن يرفع حاجات الضعفة والمساكين حيث تسد خلتهم أو تقضى حوائجهم، والذي أعطي قوة بدنية يجب أن ينفق منها ولو أن يكنس شوارع المدينة، أرأيتم بطلاً يكنس؟ وإذا ما كان هناك بلدية فمن يكنس؟ المؤمنون، ففارغ الشغل ما عنده عمل يكنس أزقة المدينة، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق )، المؤمن كلما شاهد حجرة، روثة، شيئاً في الطريق شمر عن ساعديه ونظف.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-05, 12:30 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (22)
الحلقة (29)
ترجمة العالم الواعظ المعمَّر أبو بكر الجزائري (رحمه الله تعالى ) (http://majles.alukah.net/t167489/)


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (119)

آية الكرسي هي أعظم آية في كتاب الله، وهي تعدل ربع القرآن، وقد ذكر الله عز وجل فيها كرسيه فسميت به، وكرسي الرحمن من دلائل عظمته سبحانه وتعالى، فقد ثبت أن هذا الكرسي قائم على العرش، ورغم أن الكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في فلاة، إلا أنه لو جيء بالسماوات والأرض لضاقت بهذا الكرسي.

تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل القرآن العظيم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله أن جعلنا منهم، فاحشرنا يا ربنا في زمرتهم وارض عنا كما رضيت عنهم، يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.معنا آيتان: الأولى: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254].والآية الثانية: آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255].

سبب نداء المؤمنين بعنوان الإيمان

في الآية الأولى يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:254] لبيك اللهم لبيك، الحمد لله أن نادانا ربنا، أتدرون كيف تأهلنا حتى أصبحنا ينادينا الجبار عز وجل؟ هل لأننا بنو هاشم؟ بنو تميم؟ أتراك؟ كيف تأهلنا حتى أصبحنا ينادينا ربنا؟ تأهلنا لذلك بالإيمان به وبكتابه ورسوله ولقائه، لأن المؤمن بحق حي يسمع النداء ويجيب، والكافر ميت لا يسمع نداءً ولا يجيب، إن أمر أن يفعل ما فعل، وإن نهي ألا يفعل ما انتهى؛ لأنه في عداد الموتى، هل فيكم من يرد علي هذه النظرية؟ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80].الروح هي الإيمان، إن وجدت الروح في الجسم كان حياً، الأذن تسمع، العين تبصر، اللسان ينطق، اليد تأخذ وتعطي، الرجل تمشي وتسعى، وإن خرجت الروح فلا العين تبصر ولا الأذن تسمع، أليس كذلك؟ والبرهان أن أهل الذمة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى وما قيس عليهم من المجوس يعيشون تحت رايتنا وفي ظل دولتنا الإسلامية ونحن نصلي وهم لا يصلون، ونحن نزكي وهم لا يزكون، ونحن نصوم وهم لا يصومون، ونحن نرابط وهم لا يرابطون، ونحن نجاهد وهم لا يجاهدون، ولا نأمرهم أبداً وإن كنا حاكمين لهم قادرين على الأمر والنهي، لم ما أمرنا الله بأمرهم ونهيهم؟ لأنهم أموات، فانفخ الروح فيه، فإذا حيي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فحينئذ كلفه فإنه قادر على أن ينهض بكل تكليف.

عدد نداءت الإيمان في القرآن ومقاصدها

وكم نادانا ربنا في كتابه بعنوان الإيمان؟ تسعين مرة، فهل أمرنا الله تعالى فيها بمنكر؟ بقطيعة رحم؟ بظلم؟ بشر؟ بفساد؟ بخبث؟ الجواب: والله! لا، أمرنا بفعل ما من شأنه أن يزكي نفوسنا ويطهر أرواحنا لتصبح أهلاً لأن تنزل الملكوت الأعلى، ونهانا عن أشياء من شأنها تخبيث نفوسنا وتدسيتها وتلويثها، فتقعد عن العروج إلى السماء وتنزل إلى الدركات السفلى في عالم الشقاء، بشرنا بما يزيد في طاقاتنا وقدراتنا على فعل الصالحات وترك المحرمات، أنذرنا في بعض النداءات عواقب سوء مدمرة، وأمرنا في نداءات أخرى بأن نتعلم العلم، بأن نعلم بأن العلم نور، فالجهال هم الذين يقعون في أودية الخبث والشر والفساد؛ لأنهم ما يبصرون، يمشون في الظلام، أما العالمون أصحاب النور فهل رأيتم مبصراً ذا بصيرة يمشي ثم يغمس نفسه في بركة فيها الخرء والعذرة والبول والغائط؟ والذي لا يبصر يقع فيها، فالعلم نور، واقرءوا: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8] أي نور أنزله الله؟ القرآن الكريم، واقرءوا: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

أهمية الاجتماع على مدارسة الكتاب والسنة

يا شيخ! لم ملايين المسلمين ما تعلموا ولا اهتدوا ولا استقاموا ولا طابوا ولا طهروا؟ الجواب: والله! ما اجتمعوا على تلاوة كتاب الله ودراسته، ولو أن أهل القرية في قريتهم، أهل الحي في حيهم إذا مالت الشمس إلى الغروب تركوا العمل وحملوا نساءهم وأطفالهم إلى بيوت ربهم يجلسون كما نحن الآن جالسون، فليلة آية وأخرى حديثاً من الكتاب والحكمة طول الحياة فهل سيبقى بينهم جاهل أو جاهلة؟ والله! ما يبقى؛ لأن الله أعلمنا أنه يهدي بهذا الكتاب، وإذا انتفى الجهل فما الذي يحل محله؟ العلم. هل رأيتم أعلم رجل في بلادكم يزني؟ يلوط؟ يشتغل في بنك ربوي؟ يسب المسلمين ويشتمهم؟ يختلس أموالهم؟ لم؟ لأنه أصبح ذا نور، فكل الذي تشكوه البشرية جمعاء من الظلم والشر والفساد والخبث مرده إلى جهلها، ما عرفت ربها، فما أحبته ولا خافته، وإذا لم يحب العبد ربه ولم يخفه فهل سيستقيم؟ ترميه شهوته حتى يفجر بأمه. فمن منعنا أن نجتمع على كتاب ربنا ونتدارسه بيننا؟ ما الذي يصيبنا؟ قف وانظر إلى هذه الجلسة: هل ترى فيها ظلمة أو شراً أو فساداً؟ ألم تر السكون والرحمة كيف غشيتنا والملائكة تحوطنا، والله جل جلاله يذكرنا بين أولئك المقربين.مضى على المسلمين أكثر من سبعمائة سنة وهم لا يجتمعون إلا في المقاهي والملاهي والأباطيل والأضاحيك، تدخل بيوت الله فتجدها خاوية خالية، تنتهي الصلاة فلا يبقى في المسجد أحد، إلى أين يفرون؟ حيث تريد الشياطين، لا نكثر من البكاء، ولنعد إلى الآية الكريمة.

أهمية الإنفاق في الإسلام

بم أمر الله عباده المؤمنين؟ بالإنفاق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا [البقرة:254] أخرجوا من جيبوكم وصناديقكم بعض الذي رزقكم وأعطاكم ووهبكم، لم؟ لأن الزكاة قاعدة الإسلام، فلا إسلام بدون زكاة، الذي يملك مالاً تجب فيه الزكاة بأن بلغ النصاب المحدد وحال عليه الحول إن كان مما يحتاج إلى حول ولم يخرج زكاته فقد كفر والعياذ بالله، وإذا قال: أنا مؤمن ولم يزك فيجب أن يقاتل حتى يخضع ويزكي، وإذا قال: لا أؤمن بهذا؛ فإنه يقتل كافراً مرتداً والعياذ بالله.فمن هنا ما من مؤمن ولا مؤمنة يعرف عن الله عز وجل أن الزكاة واجبة وجوباً عينياً على كل من يملك نصاباً إلا وهم يخرجون زكاة أموالهم طيبة بها نفوسهم، والذين لا يزكون مرضى وقلوبهم عفنة، ولا تعجب إذا ارتكبوا كبائر الذنوب والآثام والفواحش، إذ ما هناك ما يزكي النفس ويطهرها حتى تشرق أنوارها ويميز بين الحق والباطل والخير والشر. أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] هذه النفقة العينية، ونفقة أخرى إذا أمر إمام المؤمنين بالإنفاق لإرسال السرايا وبعث الجيوش، لإعداد العدة وإحضار السلاح والطعام، كل من في جيبه أو صندوقه مال يجب أن ينفق، هل بلغكم أن نداءً أعلنه رسول الله القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات في تلك الروضة، فخرج أبو بكر الصديق بكل ماله، وخرج عمر رضي الله عنه بنصف ماله، أما عثمان فجهز جيشاً كاملاً. والحمد لله؛ فإنه لما بدأ الجهاد في ديارنا الجزائرية لطرد فرنسا والكافرين أصبحنا نجمع الأموال في هذا المسجد كل جمعة، حتى أبناء المدارس فرضنا عليهم أن كل واحد يأتي بريال، في الابتدائية وغيرها، يومها خرجنا بنصف ما عندنا، والله! لقد قسمته نصفين. فلو أن إمام المسلمين قال: هلم إلى الجهاد وبدأ بالمال لما حل لواحد منا أن يكون لديه مال ولا يخرج منه بعضه، لأن الله عز وجل قال: مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] أي: من بعض الذي رزقناكم، والمال مال الله، هو الواهب وهو المعطي، وطلب منا فقال: ردوا علينا بعض الشيء، فهل نقول: لا؟ هذه وقاحة وأسوأ خلق، كيف أعطيك وفي جيبك عطائي ثم أقول: رد علي كذا لأن فلاناً مريض إلى جنبك فتقول: لا؟ أهذه هي الأخلاق البشرية؟ كيف يقول: لا؟ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] وهذا الإنفاق يكون للجهاد في سبيل الله، ويكون لسد جوع الجائعين، وستر عورة العراة، ومداواة مرضى المؤمنين، ولإقامة الحصون والأسوار، وإعداد العدة للجهاد.

مقترح بإنشاء صندوق خيري في مسجد القرية والحي

وأخيراً اسمعوا: لو أن أهل القرية الإسلامية في بلد إسلامي -سواء كانوا عرباً أو عجماً- ينشئون صندوقاً في مسجدهم، وألاحظ بعض أهل الغفلة انتقدونا في هذا الكلام وقالوا: هذه خيالات، ولا يضرنا ذلك، والله! لولا علمي بأن هذا مما شرع الله بل وأوجب، وأنه لا خلاص من الفقر والذل والهون والدون إلا به لما قلت هذا، فهل هو مستحيل أو صعب؟ إمام أهل القرية يقول هذا وهو على المنبر يوم الجمعة، وأهل القرية كلهم حاضرون، يقول: من الليلة لا يتخلفن رجل عن صلاة المغرب في هذا المسجد، وائتوا بنسائكم الطاهرات من الحيض والنفاس وبأولادكم لنتلقى الكتاب والحكمة. فإن قالت امرأة: أنا غير طاهرة، فكيف؟ قلنا: اجعلوا لها ستارة وراء الجدر وضعوا مكبر صوت عندها لتسمع وتعي، فنحن مؤمنون، والمؤمن شعاره الصدق والوفاء. إذاً: الليلة إن شاء الله نبتدئ دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، قد تقول: من أين لنا هذا الكلام؟ أقول: أما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، وإبراهيم الخليل هو الذي دعا بهذه الدعوة واستجاب الله له منذ أربعة آلاف سنة، أليس إبراهيم القائل وهو يبني البيت مع إسماعيل: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129] هات يا إسماعيل الطين والحجارة، يتقاولان هذا الكلام وهما يبنيان البيت، واستجاب الله فبعث في ذرية إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان يجلس لهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويطهرهم صلى الله عليه وسلم.إذاً: فحين يحضرون يجلسون كجلوسنا هذا، فيبدءون باسم الله بآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254] ويتغنون بها كلهم بصوت منخفض واحد عشر مرات، عشرين، ثلاثين مرة، العجائز والنساء والأطفال والرجال كلهم حفظ هذه الآية ورتلها، فهذا أمر عظيم، والله! لخير من مليون دولار، وحين يحفظونها يأخذ يبين لهم مراد الله منها، ماذا طلب منهم؟ أن تفهموا أو تعملوا أو تقولوا، فيفهمون، ومن الغد حضروا كلهم، فإن دخلت القرية مع غروب الشمس لم تجد إلا من هو ذاهب إلى المسجد بأطفاله ونسائه. وفي الليلة الثانية حديث، وهو قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، ويتغنون به ربع ساعة أو عشرين دقيقة ليحفظوه، ويشرح ويبين ويفسر، فيقول: ما معنى (مثل المؤمنين)؟ ما التواد؟ ما التراحم؟ ما التعاطف؟ ما معنى الجسد الواحد؟ فيفهمون، وفي الليلة الثالثة آية، وفي الرابعة حديث يحفظونه حفظاً عن ظهر قلب ويفهمون معناه أكثر من فهمي أنا وأنتم، ويطبقون من الغد، فتلوح أنوار العمل في بيوتهم وأزقتهم وشوارعهم، والله! ما تمضي سنة إلا وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وحين يصبحون بهذه المثابة هل سيعجزون عن فتح صندوق من حديد في المحراب؟ والواعظ أو المربي أو الكاتب أو الإمام والمؤذن في لجنة المسجد، فيقول: معاشر المؤمنين والمؤمنات! لقد فتح الله علينا هذا الصندوق، فمن زاد على قوت يومه درهم واحد فليأت به يودعه في هذا الصندوق، وباسم الله، واعلموا أنكم آمنون وسوف تعود أرباح هذا الصندوق عليكم، لا تخافوا فإن الله صادق الوعد لا يخلف وعده، فيأخذون يضعون في ذلك الصندوق، كل من يأتي بريال، بعشرة، يسجل اسمه ويأخذ ورقة، وفي ستة أشهر يمتلئ هذا الصندوق، فإن كانوا في أرض زراعية أنشئوا مزرعة خارقة، تنتج ما شاء الله من الزروع، أو ينشئون مصنعاً لصنع المسابح مثلاً أو النظارات، وينتظم ذلك العمل ويباركه الله عز وجل، فما تمضي سنة وإلا وقد امتلأ ذاك الصندوق.واللجنة الخاصة بالمسجد تعرف أهل الحي أو القرية، تعرف المريض والأرملة واليتيم والعاجز والمحتاج وتزورهم في بيوتهم وخيامهم وتغدق عليهم تلك الفضلات المالية، فيشعرون بالسعادة، هذا هو الإسلام، يقولون: هذا من إخوانكم، فكيف تصبح قلوبهم؟ ما يبقى حسد ولا بغض ولا رياء ولا كذب ولا باطل أبداً. فإن قالوا: أما يسرق هذا الصندوق؟ قلنا: في هذه القرية التي تفعل هكذا أيوجد سارق؟ أمجانين أنتم؟ وإن فرضنا ذلك فهل هذا المسجد سيخلو ساعة من ليل أو نهار؟ لن يخلو، فعزابنا من شبيبتنا يبيتون في المسجد ركعاً وسجداً، فكيف يفرغ المسجد؟ فكيف -إذاً- يختلس هذا الصندوق أو يؤخذ؟ هذا تصور خاطئ وليس بصحيح. أسألكم بالله: كيف تصبح تلك القرية أو ذلك الحي؟ لا يوجد من يتأخر عن صلاة، ولا يوجد من يرتكب باطلاً أو منكراً، فيعم الطهر والصفاء، والله! لو رفعوا أكفهم إلى الله وأقسموا عليه أن يفعل كذا لاستجاب لهم.والسؤال: ما المانع أن نفعل هذا؟ أيام كنا تحت كرباج أو عصا الروس فممكن ألا يأذنوا، لكن ليس كلنا سادتنا روسيا وحكمتنا البلشفة، العالم الإسلامي أكثره كان مستعمرات مسيحية ما فيها هذا الكفر والإلحاد، فانتهى الاستعمار وتحررنا واستقللنا وأصبح لنا نيف وأربعون دولة، فهل فعلت دولة هذا؟ والله! لن ينتهي الفقر ولا الخلاف ولا الضعف ولا العجز ولا الفسق ولا الفجور إلا على هذه الدعوة المحمدية، لو جاء عمر وقادنا فإن لم نطبق هذا النظام الرباني فلن تطيب حياتنا.يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254]، لو كان لنا هذا الصندوق وأمتنا متحابة متعاونة لرأيت العجب، تفرح حين تنفق، لكن أين تنفق الآن؟ أمة هابطة، تشرب الحشيش وتأكل المر والحلو، لا آداب ولا أخلاق ولا كمالات ولا طاعة لله ولا رسوله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

انتفاء التدارك بالبيع والخلة والشفاعة يوم القيامة

يقول تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ [البقرة:254] يوم عظيم، إنه يوم البعث من الأرض والحشر في ساحة القضاء ليسعد الله أهل الإيمان وصالح الأعمال، أهل الأرواح الزكية والنفوس الطاهرة، ويشقي ويردي ويخسر أهل القلوب المنتنة والأرواح الخبيثة الفاسدة من جراء الإجرام والظلم والفسق والعصيان، والله ليتمن هذا بالحرف الواحد. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ [البقرة:254] أبداً، تبيع ماذا؟ عندك بقرة تبيعها؟ عندك دار تبيعها؟ هل تبيع نفسك؟ أهناك من يشتريك؟ لا دينار ولا درهم، لا بيع ولا خلة، والخلة: المودة والحب والصداقة، لا ينفع يومئذ ذلك. وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254] هل هناك من يقول: يا رب! أدخل هذا الجنة؟ يا رب! عجل بحساب هذا؟ والله! ما ينطق بها واحد، ولا يستطيع أحد أن يقولها، أما بلغنا أن الله في ذلك اليوم يغضب غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، آدم ما استطاع أن يكلم الله، فحوَّل البشرية إلى نوح، ونوح حولهم إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، وعيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والمطلوب فقط أن يقول: رب! احكم بين عبادك، طال الموقف، فما استطاع كل منهم، واستجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوعد الصادق الذي وعده الله، ومع هذا ما قال: يا رب! احكم بين عبادك، قال: ( آتي فأخر ساجداً تحت العرش ويلهمني ربي محامد أحمده بها ثم يقول لي: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع ) وفي آية الكرسي: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255].إذاً: عجلوا بالإنفاق، آهٍ! لو كان هناك صندوق البر والإحسان والطهر والصفاء والمودة والإخاء فإنا سنقسم غداءنا وعشاءنا قسمين.

ظلم الكفرة

ثم قال تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254] الكافرون لنعم الله، أعطاهم الله الأموال ففسقوا بها وفجروا وكادوا بها للمؤمنين وحاربوا بها الصالحين، أنفقوها في الحشيش والخمور والباطل والشر والفساد، هؤلاء هم الظالمون، هؤلاء جاحدون للنعمة، إذاً: هم الكافرون، هم الظالمون؛ لأن الظلم حقيقته: وضع الشيء في غير موضعه، مثلاً: هذه حلقة ذكر، فلو يقوم مجنون يدخل أصبعيه في أذنيه ويغني: يا ليلى، أيجوز هذا؟ أهذا موضع أغاني هذا؟ فهذا ظلم أم لا؟ أو يجيء واحد ويقول: افسحوا لي وينام في الحلقة، أهذا مكان نوم؟ فهذا هو الظلم، وضع الشيء في غير موضعه، أو يأتي عند باب المسجد ويشمر عن ثيابه ويتغوط، فهذا ظلم، فالذي أعطاه الله المال لينفقه في رضائه وفيما يريد الله تعالى منه فيعاكس وينفقه ضد الله عز وجل، فأي كفر أعظم من هذا بهذه النعمة؟ والدليل على أن الكفر كفر النعمة قول الله عز وجل: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ [إبراهيم:7] أعلن: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7] ما قال: سيسلب النعمة، بل فوق السلب بلاء آخر، فهل عرف المسلمون هذا؟ ومن أين يعرفونه ما داموا لا يجتمعون ليلاً ولا نهاراً طول أعمارهم على الكتاب والسنة، كيف يتعلمون؟ أيوحى إليهم؟ مستحيل. إذاً: عرفتم هذا النداء ماذا يحمل؟ أولاً: إذا دعا داعي الإنفاق أن: أنفق يا عبد الله -وبخاصة الزكاة- فلا تتردد.ثانياً: اعرف قيمة هذا اليوم الآتي، اعمل له، زك نفسك وطهرها وطيبها حتى تقبل في الفراديس العلى، وإلا فسترفض وتنزل إلى أسفل الكون إلى سجين، اعمل قبل أن يفوت الوقت، واعلم أن من كفر نعم الله كمن كفر بآيات الله وشرع الله وأنبياء الله ورسله، فهو ظالم.
تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ...)

عظمة سعة الكرسي
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

والآن مع آية الكرسي، فما الكرسي؟ الكرسي يقول تعالى فيه في هذه الآية المسماة به: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] قال الحبر ابن عباس الذي فاز بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) أي: تفسير القرآن الكريم؛ قال: لو أخذنا السماوات السبع والأرضين السبع وألصقنا واحدة بواحدة فأصبحت قطعة واحدة ووضعنا كرسي الرحمن عليها لضاقت بالكرسي ولم تتسع له. ونسبة الكرسي إلى العرش المذكور في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] نسبة الكرسي إلى العرش كحلقة من نحاس ملقاة في أرض فلاة، ما نسبة هذه القطعة من النحاس في الفلاة؟ هذه نسبة الكرسي إلى العرش، فقولوا: آمنا بالله.

أمثلة توضيحية لعظمة الله تعالى في الخلق

وإن كنت تريد بعض التوضيحات فهذا جبريل عليه السلام تجلى لرسولنا في مكة بعدما تركه في غار حراء فسد الأفق كله بأجنحته الستمائة، فأين يذهب بعقولنا؟ ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( أذن لي أن أحدث عن ملك رأسه تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ) ، هذه غيوب، فتعال أعرفك على بعض المخلوقات فقط، هل تعرف كوكب الشمس؟ هذا الكوكب أكبر من الأرض بقرابة مليون ونصف مليون مرة، ما هي نظرية المعاصرين، هذه كلمة قديمة من آلاف السنين، الشمس هذا الكوكب النهاري يحمل هذه الطاقة وهذه الحرارة أكبر من الأرض هذه بمليون مرة وزيادة، فمن أوجد هذا الكوكب؟ من كوكبه؟ من ملأه بهذه الحرارة وهذه النار؟ آمنا بالله، آمنا بالله. وأين هذا الكوكب من كواكب لا يحصي عددها إلا الله عز وجل؟ الله خالق كل شيء، ومن ادعى الخلق فليتفضل ليضحك عليه العقلاء، فالذين يقولون: الطبيعة خلقت نقول لهم: والطبيعة من طبعها؟ والحركة الدافئة من أدفأها؟ أوهام وأباطيل وترهات.إن السماوات السبع اخترقها رسول الله صلى الله عليه وسلم سماءً بعد سماء حتى انتهى إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، هذا الرائد الأعظم صلى الله عليه وسلم، والماديون بشطحاتهم يقولون: وصلنا إلى القمر، وصفقنا نحن التائهين الضيع، وشيخكم كان يقول: لا تقل: ما وصلوا ولا تقل: وصلوا، فجائز أنهم يكذبون، فهم كفار، كيف تقول: وصلوا؟ أما تستحي؟ أعندك علم أنت؟ وغضب أهل الحلقة، ونحن نقول: لم نصفق نحن -العرب والمسلمين- لانتصارات أعدائنا؟ عدوك انتصر هذا الانتصار وحقق هذا الكمال فهل تصفق له أنت؟ أما عندك ضمير؟ اجحده، لا تعترف به، لا تفرح بانتصاراته إن كنت عاقلاً، أخفها، غطها، كذبه ليبقى إخوانك على مكانتهم، ولكن إذا عاثوا فالعرب والمسلمون يصفقون، وتاهوا في هذه أكثر من إذاعات أمريكا وروسيا، فنقول: سبحان الله! أين العقول وأين القلوب؟ وشاء الله أن نعثر على مجلة في بلاد المغرب تنقل عن مجلة صينية، الصين كانت هي القوة الثالثة ما هي مع الرأسماليين والبلشفيين، فوالله! إن أهل الصين يقولون: هذه كلها خرافات، ما هي إلا تنويم مغناطيسي للشعوب، ما وصلوا إلى القمر ولن يصلوا إليه، هذه كلها تمثيليات أجريت في الجبال. سبحان الله! أنا ماذا فهمت؟ قلت: يحافظون على معنويات شعبهم الذي يقف أمام أمريكا وروسيا، يحافظون على معنوياته، ما ينهارون أمامهم، وتمضي عشرات السنين ويصرح زعيم الصعود إلى القمر يقول: والله! إنها أكاذيب، ما طلعنا ولا وصلنا، كله خرافات، تمثيليات في الجبال، كان هذا منذ سنتين، فلم العرب ما قالوها ورددوها؟ قالوا: دعوا الناس نائمين، وهذا الأمريكاني قال: ما صعدنا ولا يمكن هذا، كلها تمثيليات فقط، لا إله إلا الله! أرأيتم كيف هبطنا؟

حقيقة الكرسي ومعناه

إذاً: فالكرسي حقيقته: موضع القدمين فقط، هذا الحبر ابن عباس وغيره كابن جرير والروايات كلها تقول: المراد بالكرسي موضع القدمين لا الكرسي هذا الذي تشاهدونه، وذلك أن الملوك في أزمنة مضت يوضع السرير للملك أو العرش فيسمى عرشاً وسريراً، ويوضع تحته شيء يضع عليه قدميه، فسبحان الله! لما فسر ابن عباس فقال: الكرسي موضع القدمين ما استسغناه، كيف نفهم هذا؟ نحن نفهم الكرسي المعروف، فقال: موضع القدمين فقط؛ لأن الملك كان يجلس على سريره ويضع رجليه على شيء أسفل ذاك يسمى كرسياً يكرس عليه رجليه، هذا القدر الذي لا ينسب إلى السرير، هذا الذي يضع عليه قدميه وسع السماوات والأرض، فالسرير كيف؟ قولوا: آمنا بالله. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الصحابة ثم وضع يده على لحيته وقال: ( آمنت به، آمنت به، آمنت به. فتعجب الصحابة: ماذا يا رسول الله؟ قال: لقد أوحي إلي أن رجلاً من بني إسرائيل كان يركب بقرة ) والبقرة للسقي والسني والحرث، ما هي للركوب، ( فرفعت البقرة رأسها وقالت: ما لهذا خلقت يا هذا، فقلت: آمنت به ) البقرة تنطق؟ أي نعم. ثم قال: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ) وهما غائبان؛ ثقة في الرجلين وما عرف عنهما، قال: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر )، وآمنا به، فالذي أنطقني وأنطق أمي أما ينطق البقرة؟ لسانها أكبر من لساني أنا، فلا إله إلا الله! إذا سمعت هذا فقل: آمنت بالله، آمنت بالله، يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير.

فضل آية الكرسي

آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله، وفي القرآن الكريم ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، كل آية علامة على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولن يستطيع ذو عقل أن ينقض هذا، فهذه الآية وما تحمل من نور وهدى من صاحبها؟ هل هناك من قال: هي كلامي؟ فهي كلام الله إذاً: الله موجود وهذا كلامه، والذي نزلت عليه وتلقاها من هو محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً: فوالله! إنه لرسول الله، فكل آية من الستة آلاف والمائتين وست وثلاثين تدل على حقيقة لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.أعظم آية هي آية الكرسي؛ وذلكم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبي بن كعب من حفظة القرآن بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ( أتدري أية آية أعظم في كتاب الله يا أبا المنذر ؟ قال: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم). فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر ) يا ليته ضرب صدري أنا ولو في المنام، فهي أعظم آية في الكتاب، وها نحن عرفناها الآن مجاناً، فالحمد لله، الحمد لله، الحمد لله. وقد ثبت أيضاً عن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم أن من قرأها دبر كل صلاة لا يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ومكلمكم ما تركها من الصبا، من أيام كنا أطفالاً ندرس في الكتاب، بلغنا هذا فما تركناه، نحن نمشي أو نجري لا بد من تلاوتها، فهل ستأخذون بهذا أم ما أنتم في حاجة إليه؟ هي أعظم آية، أما تتحصن بها وتتلوها؟ مع هذه البشرى العظيمة: لا يمنعك من دخول الجنة إلا الموت. وإن قلت: إذاً: أنا سأزني وأفجر وأقرؤها فوالله لن تقرأها، ما يستطيعها ولا يحافظ عليها وهو يجرم بكبائر الذنوب والآثام، فمن هنا إذا حافظ عليها عبد حفظه الله تعالى وأعده للطهر والكمال.

اشتمال آية الكرسي على الاسم الأعظم

قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اسم الله الأعظم يوجد في هذه الآية وفي فاتحة آل عمران، وهي: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2] وآية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين، فلذا نرجو أننا ظفرنا باسم الله الأعظم الذي ما سئل به أحد إلا أعطاه، ولا استعاذ به أحد إلا أعاذه، هو في كلمة: (الله لا إلا هو الحي القيوم)، فقل: يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم! يا ألله! وادع واسأل. وهذه الآية تعدل ربع القرآن، آية الكرسي إذا تلوتها كأنما قرأت ربع القرآن خمسة عشر حزباً، وسورة الزلزلة تعدل ربع القرآن أيضاً، وسورة الكافرون ربع القرآن، والنصر ربع القرآن، والصمد ثلث القرآن. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-06, 03:15 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (23)
الحلقة (30)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (12)

الملائكة من مخلوقات الله تعالى، خلقهم من نور، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ليسوا على هيئة واحدة، ولا وظائف متحدة، بين القرآن بعضاً منهم، وطرفاً من أعمالهم، فجبريل موكل بالوحي، وإسرافيل بالنفخ في الصور، وملك الموت بقبض الأرواح، وهناك حملة العرش، والكرام الكاتبون، والملائكة الحافظون وغيرهم كثير بحيث لا يحصيهم إلا خالقهم.

تابع تفسير قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ...) وما بعدها

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون .. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم. ‏معاشر المستمعين والمستمعات! في الآيات التي قبل هذه قال تعالى وقوله الحق: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة:28] وقد عرفنا أن هذا الأسلوب وهذا الاستفهام هو في معنى التقريع والتأديب، وهو يحمل معنى التعجب أيضاً، إذ كيف يكفر الإنسان بخالقه! تصوروا، كيف ينكر وجوده؟ يقول: أنا غير موجود .. أنا غير مخلوق، من يصدقه؟ هو لا يصدق نفسه، فكيف إذاً يكفر، ويستر، ويغطي، ويجحد خالقه، فهذا أمر يستدعي الاستغراب والتعجب، وصاحبه يؤدب ويقرع بالمقارع، كيف تكفر بربك؟وأنتم تعرفون السياق في الرد على أولئك الكافرين من المنافقين ومن المشركين، إذ كفروا بربهم، وعبدوا غيره، وحاربوا كتابه ورسوله. كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]، حجة بعد حجة بعد حجة، فكيف يستسيغ العاقل أن يجحد ربه وهو قد خلقه بعد أن لم يكن شيئاً.ثم أعظم من ذاك أنه يميته، هل هناك من فرض بقاءه على الله، وقال: مثلي لا يموت، أو أنا لن أموت، والبشرية مضت عليها قرون، هل وجد من فرض بقاءه على الله؟! إذاً: كيف يكفر بالله! وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [البقرة:28].يبقى: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28] الذي يتمتع بعقل إنسان آدمي، ما دام قد عرف أنه كان غير مخلوق وخلق، وأنه مات بعد أن كان حياً فبأي ذوق أو منطق أو عقل يدعي أنه لا يحيا مرة ثانية! وهذا الكلام عقلي منطقي، كما نتكلم في دنيانا: هذه الشاة تساوي كذا، هذا البستان لفلان، هذه الدجاجة بيضها كذا.. بالعقول.إذاً: كيف يكفر هذا الإنسان بربه حتى يعصيه ويتمرد عليه، ويخرج عن طاعته؟!

سبب إنكار وجود الله

سبق أن عرفتم أن إنكار وجود الله كإنكار البعث الآخر، والعلة والسبب في ذلك: هو أن يتمرد الإنسان ويعيش بلا قانون، ولا شرع، ولا نظام، يريد أن يعيش كالبهائم؛ فلهذا كيف يتخلص من الطاعة، والانقياد، والإذعان؟ بالكفر، ولهذا أنكروا وجود الله، وأنكروا لقاء الله.وقد عرفنا سبب إنكار وجود الله وإنكار البعث الآخر ولقاء الله في قول الله تعالى: بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:5] في سياق تقرير البعث والجزاء: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:1-5]، الذي يريد أن لا يصلي، ولا يزكي، ولا يذكر الله، ولا يغتسل من جنابة، ولا يعطي حقاً من الحقوق، ماذا يصنع؟ يكفر. هذه الحقيقة، كالذي لا يريد أن يذعن لقانون الدولة ينكره، ولا يؤمن به، ولا يعترف بهذا الحاكم، ولا هذا الحكم، حتى ما يتقيد أبداً بقيد، ولا يلتزم بمبدأ، هذه حقيقة. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]، لو كان رجوعنا بعد الموت إلى غير الله لهان الأمر، لكن رجوعنا إليه، وقد تمردوا عليه، وفسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، وحاربوه، وحاربوا رسله، كيف يكون هذا الرجوع؟! ماذا يلقون من جزاء؟! ماذا يتحملون من ألوان الشقاء والعذاب؟! ولكن لا يعزينا ولا يسلينا إلا قولنا: قضاء الله وقدره، حكم الله عليهم بالشقاء.

كل ما في الأرض خلق من أجل الإنسان

قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، هذه نعمه، وهذه آثار حلمه وعلمه وقدرته ورحمته، خلق لكم خاصة، لا لغيركم، ولا لسواكم، مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا كل ما في الأرض من حيوان . من أنواع الفواكه .. أنواع الخضر .. اللحوم، كل ما فيه حتى المعادن خلقها لكم، ولا تقولون: الحمد لله، ولا تقولون: المنة لله، ولا تقولون: مرنا يا ربنا نطعك، واطلب منا نعطك؛ لأن إنعامك سابغ، وإفضالك عظيم، ونحن عبيدك وأولياؤك، قالوا: لا، يأكلون، ويشربون، ويركبون، ويسكنون، وينكحون، ولا يذكرون الله. هذه هي آثار الكفر والعياذ بالله تعالى، إذ الكفر في الحقيقة موت، وما زلنا نقرر هذه الحقيقة أن الكافر ميت، فلا يسمع، ولا يبصر، ولا يعقل، ولا يأخذ، ولا يعطي. هذا شأنه، فإن حيي بالإيمان، وتفتحت حواسه؛ سمعه وبصره، أصبح قادراً على أن يعي ويفهم ويفقه، وإن أمر أطاع، وإن نهي استجاب. الموت في الكفر، والعياذ بالله. خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا هذه مظاهر نعم الله، إن الذي يقدم لك رغيفاً من الخبز فقط تحمده وتثني عليه، وتشكره، والذي يضع لك حصيراً تجلس عليها تحمده، وتثني عليه، فكيف بالذي أعطاك سمعك وبصرك ومنطقك، وأعطاك قواك تذهب وتجيء، وتقوم وتقعد؟! وخلق لك ما في الأرض من مخلوقات لك ومن أجلك، تأكل وتشرب، ومع هذا لا تقول: رب لك الحمد! عجب حال الكافر!

خلق الله للسماوات والأرض
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29] هنا السؤال: أيهما خلق قبل الآخر: الأرض أو السماوات؟هذا الموضوع فيه كلام طويل، ونحن لا نعيي ولا نتعب أفهامنا وعقولنا فيما لا طائل تحته، فنقول: خلق الله عز وجل الأرض، ولم يخلق فيها ما فيها من أنواع هذه النعم بعد، ثم خلق السماوات، ولنستمع إلى آية في هذا الشأن من سورة فصلت: حم [فصلت:1]، قال تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت:9-12]، فهذه الآية نص في أنه خلق الأرض أولاً في يومين، وخلق الأقوات والأرزاق في يومين، لكن ليس شرطاً بالتتابع، فخلق الأرض في يومين، وخلق السماوات في يومين، وخلق بعد ذلك ما تتطلب حياة الناس على الأرض من وجود هذه النعم.وقوله تعالى من سورة: وَالنَّازِعَاتِ [النازعات:1]، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ [النازعات:27].يا من ينكرون البعث، والآخرة، والحياة الثانية! أخبرونا: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُ مْ [النازعات:27-33]، فهل فهمتم عني هذا؟أقول: خلق الله الأرض وخلق بعد ذلك السماوات، وعاد إلى الأرض فدحاها: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ، ولماذا قلت لكم: ما هناك حاجة إلى أن نجزم بهذا أو ذاك، إذ الذي نجزم به أن الله على كل شيء قدير، وأن نعم الله لا تعد ولا تحصى، وأن المطلوب منا بعد الإيمان أن نشكر الرحمن بطاعته؛ لأن السياق: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:9]؟ أين يذهب بعقولكم؟! أتجحدون الرب العظيم الذي خلق؟ الأرض في يومين؟ الذين أنكروا البعث، والجزاء، والحياة الثانية قال الله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ، من يقول: نحن أشد خلقاً؟ ما نحن بالنسبة إلى السماء؟ ماذا نحن؟ بعوض، السماء بناها: رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات:28-29]، ونحن نقول: ما يستطيع أن يعيدنا من جديد، أن يعيد خلقنا ليحاسبنا على أعمالنا، ويجزينا بها؟وقد عرفنا؛ العلة أنهم يريدون أن يواصلوا الفجور، لا استقامة، ولا طاعة، ولا أدب، ولا خلق، ولا حياء، ولكن حيوانات وبهائم.

حادثة المعراج إلى السموات السبع وما فوقها

إذاً: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29]، السماء الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة عشناها ليلة الحديث في صحيح البخاري ، إذ عرج بنبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن أسري به من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به من بيت المقدس (المسجد الأقصى) إلى الملكوت الأعلى، فاخترق السماوات السبع، وأعلمنا -لنتأكد- أنه وجد في السماء الأولى آدم أبا البشر، وأهل ورحب وسهل به، وقال: من ابن ونبي. وعرج به إلى السماء الثانية، وهو يستفتح له جبريل، ويقال له: من معك؟ فلان، أذن له ودعي أو لا؟ يقول: نعم، فوجد في السماء الثانية ابني الخالة: عيسى ويحيى عليهما السلام، ووجد في السماء الثالثة يوسف الصديق ابن الصديق ابن الصديق عليه السلام، ووجد في الرابعة إدريس عليه السلام، ووجد في الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم، وهو يرى رؤيا العين، ثم ارتفع وتجاوز السماوات السبع حتى انتهى إلى جنة عدن؛ إلى دار السلام، وثَمَّ شاهد سدرة المنتهى، وارتفع أيضاً، وبقي جبريل دونه حتى انتهى إلى مقام سمع فيه صرير الأقلام، وصوت أقلام القضاء والقدر، وناجاه ربه وناداه، وكلمه كفاحاً؛ بلا واسطة، وقد كلم من قبل موسى في جبل الطور، وناداه وقال: يا رب! أكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى. حتى تاقت نفس موسى واشتاقت روحه أن ينظر إلى وجه الله الكريم، ولكنه عاجز ما يقدر؛ لأن هاتين المقلتين قوتهما بحسب حياتنا في هذه الدار، وليس عندها طاقة كبيرة ترى أنوار الله عز وجل، وقد سئل نبينا صلى الله عليه وسلم: ( هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه )، فلينظر أحدكم إلى الشمس هل يستطيع أن يرى شيئاً؟ ( حجابه النور، لو أزال تعالى حجابه لاحترق ما انتهى إليه بصره )، قولوا: آمنا بالله، آمنا بالله.مظاهر العلم والقدرة والحكمة: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ، وما قال: إلى السماوات، أي: جنس السماء، فلهذا قال: سواهن، بجمع المؤنث، فهن سبع سماوات، سماء بعد سماء بعد سماء، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سمك السماء وغلظها مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والسماء مسيرة خمسمائة عام، ومع هذا اخترقها صلى الله عليه وسلم في دقائق معلومة، ثم أتم هذا كله وعاد، تقول أم هانئ : وفراشه دافئ ما برد بعد. فلا يسعك يا ابن آدم إلا أن تقول: آمنت بالله! آمنت بالله.وكلمة استوى نبهنا أنه ليس معناها: علا، وإنما أراد وقصد -ولم يقصد إلى شيء آخر- إلى السماء حتى سواهن سبع سماوات، أو علا علو قهر وغلبة، فغلب هذا الملكوت وخلق السبع السماوات.وهو مع هذا بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أسألكم بالله: أهذا يكفر، أهذا يجحد، كيف تستطيع أن تجحده؟ أنت لا تستطيع أن تجحد -والله- ولو كأس حليب على طاولة، تقول: لا مستحيل أن يكون هذا قد وضعه إنسان، ممكن؟ تستطيع أن تجحد وجود عربة أو دراجة عند باب المسجد تقول: هذه ما أوجدها أحد، هذه وجدت هكذا، ممكن؟ كيف -إذاً- ينكر هذا المخلوق خالق كل شيء، ورب كل شيء، ومالك كل شيء، ومن بيده كل شيء؟عجب كفر الكافرين كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:28-29].

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ...)

قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة:30]، أي: اذكر يا رسولنا، اذكر أيها السامع، اذكر أيها المؤمن للملاحدة والمشركين والكافرين والهابطين، اذكر لهم ما تم في الملكوت الأعلى؛ لترتفع هممهم، وتعلو علومهم ومعارفهم، إنهم جهلة عميان؛ لا يبصرون، ولا يعلمون، فاذكر لهم مظاهر العلم والقدرة والحكمة الإلهية. وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ الملائكة -معشر المستمعين والمستمعات- واحدهم ملك. وهل هو مأخوذ من ألك يألكه، والألوكة هي الرسالة؟ ليس هناك حاجة إلى أن نشقى في هذا الباب، فهو علم لا ينفع، وجهالة لا تضر. وقد أخبرنا الله عن أسمائهم، وحدث بذلك رسوله، فالواحد ملك، والجمع ملائكة.

عدد الملائكة
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

الملائكة خلق عظيم.وعددهم لا يحصيه إلا خالقهم، فلو تضرب الآلات الحاسبة ألف سنة لا تستطيع معرفة عددهم، يدلنا على هذا العدد العظيم ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله، وقد حدث أصحابه وهو جالس بينهم فقال: ( أطت السماء وحق لها أن تئط )، أي: تأرجحت بالثقل فوقها، ثم بين ذلك لهم فقال: ( ما من موضع قدم أو شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد )، من يعد .. من يحصي إذاً؟ فهذه السماوات السبع، ما هي سماء واحدة: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك راكع أو ساجد ).

ذكر أسماء بعض الملائكة وأعمالهم

هؤلاء الملائكة ذكر الله تعالى صفاتهم، وذكر أسماءهم في كتابه القرآن الكريم، فذكر من الأسماء: جبريل وميكائيل وإسرافيل.وذكر لنا من أعمالهم: أن جبريل موكل بالرسالة؛ بالوحي بين الله ورسله، وأن ميكائيل موكل بالأرزاق والخيرات والأمطار، وأن إسرافيل موكل بمهمة واحدة، وهي أن ينفخ في الصور أو في الناقور فيتم الفناء، وينفخ نفخة أخرى فيبعث الخلق، وينفخ نفخة ثالثة فيصعق من في المحشر كله، وينفخ رابعة فإذا هم قيام ينظرون.واقرءوا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، أي: الذين عبدوا غيره، الذين ألهَّوا سواه، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا [الزمر:67] بكل أجزائها، ومحيطاتها، وصحاراها، وجبالها قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67] كحبة خردلة في يده، وَالسَّموَاتُ [الزمر:67] السبع مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، ومن يجرؤ على أن يقول هذا القول أو يدعي هذه الدعوى سوى الله رب العالمين! وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [الزمر:68]، من في السماوات؟ الملائكة، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى [الزمر:68] نفخة أخرى: فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:68-69]، جاء الله .. امتلأ الأرض بالنور: وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:69-70].أين نحصل على هذه المعارف، هل تقوى عقول البشر على أن تأتي بمثلها، أو يخطر ببالها مثلها؟ هذا هو القرآن العظيم.

ملك الموت وعمله

بعد ما عرفنا مهمة جبريل وميكائيل وإسرافيل نعرف مهمة عزرائيل، ومن عزرائيل؟بعض أهل العلم يقولون: ما ورد اسمه في القرآن ولا في السنة، ونحن نقول: عرفت البشرية -أخذاً من الكتب السابقة- أن اسمه عزرائيل، فما المانع؟! وعزرائيل كجبريل وميكائيل بمعنى عبد الله أو عبد الرحمن؛ لأن إيل هو اسم الله.وملك الموت له أعوان، وقد قال تعالى فيه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]، وقال: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:61-62].وعندنا عن ملك الموت قصة لطيفة ظريفة ذكرها ابن كثير في تفسيره، وهي:كان نبي الله سليمان عليه السلام على سرير ملكه يحكم بين الناس وهو جالس، فجاءه ملك الموت أيضاً وجلس، وسليمان أعطاه الله قدرة على أن يرى الجان، ويستخدمهم في مهام الأعمال، فهو يرى الملائكة، إلا أن ملك الموت جاء في صورة إنسان كما كان جبريل عليه السلام يأتي في صورة رجل كريم جميل، ويجلس إلى رسول الله والصحابة مئات يشاهدون، إذ من خصائص الملائكة أنهم يتشكلون بما شاء الله أن يتشكلوا، وقد نزلوا في وقعة بدر وعليهم عمائم، وخاضوا المعركة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مسومين.فكان أن دخل شاب من شبيبة بلاد سليمان يقول: يا نبي الله! لي حاجة؛ نريد أن نمشي في الرحلة الأولى، ولا نستطيع أن ننتظر إلى غد، أرجو أن تجعلني ممن يرحلون في الرحلة الأولى، إذ كان له ما يسمى ببساط، وهو سفينة هوائية وهبها الله لسليمان، وأنتم تعرفون السفن التي تمشي في البحر، أما سفينة سليمان فهي هوائية، برية بحرية، برمائية، سفينة صنعها ليركب هو وجيوشه وأمتعته وسلاحه، وتأتي الريح فتحركها، ثم ترتفع وتمشي الريح معها، وتقودها حيث شاء سليمان، غُدُوُّهَا شَهْرٌ [سبأ:12] مسافة شهر تمشيها في الصباح، ومسافة شهر تمشيها في المساء، في رواحها: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12] والله العظيم، هذا كلام الله.فهذا الشاب كان مستعجلاً، فابتسم ملك الموت أمام سليمان فسأله سليمان قال: هذا الشاب الذي يرتعد أنا مأمور بأن أقبض روحه في الإقليم الفلاني، وانظروا كيف هو يستعجل موته، يتلطف ويسأل من فضل الله أن يرحل في أول رحلة!وهذا ذكره ابن كثير عند قول الله تعالى من سورة لقمان: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، فانظروا كيف جاء مستعجلاً يلح بالطلب: لا تحرمني من الرحلة الأولى يا نبي الله، لأكون أول من يركب، فلي مهمة في الإقليم الفلاني، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].إذاً: جبريل، ميكائيل، إسرافيل، ملك الموت عرفنا مهماتهم.

حملة العرش وعملهم

عندنا حملة العرش، وفيهم قال تعالى وقوله الحق: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، فالعرش سرير الملك، ويحمله ثمانية من الملائكة، أما اليوم فيحمله أربعة فقط، والله العظيم حاملوه أربعة ملائكة.ولهذا كثيراً ما نقول: اللهم لك الحمد أن سمحت لنا أن نذكر اسمك. فمن نحن حتى نذكر اسم الله، فكيف بالذين يهزءون ويسخرون ويكفرون؟والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من نومه قال: ( الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي في ذكره )، أي: سمح لي أن أذكره، فهذا العرش الذي تحمله اليوم أربعة ملائكة اقرءوا قول الله تعالى من سورة البقرة؛ آية الكرسي: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، لو أخذنا السماوات السبع رقعة رقعة، وألصقنا واحدة بالثانية، وجعلنا الأرضين السبع رقعة واحدة، فألزقنا كل أرض بالأخرى، ووضعنا عرش الرحمن لكان عرش الرحمن أوسع، لا، بل الكرسي فقط وهو موضع القدمين أوسع من السماوات والأرضين! وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ولا نلتفت إلى المبطلين والضالين الذين يؤولون؛ ليبعدوا خشية الله وحب الله من قلوب المؤمنين؛ يؤولون الكرسي بالعلم، عجز الله أن يقول: وأحاط بكل شيء علماً حتى يعبر بالكرسي عن العلم؟ كل هذا من أجل أن يفقدوا المؤمنين حب الله، والرغبة والرهبة والخوف منه، فيحرفون كلام الله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ .ويقول الحبر ابن عباس رضي الله عنهما: (نسبة الكرسي إلى العرش)، وهذا فيما إذا أردنا أن ننسب بالتقدير نسبة الكرسي إلى العرش كيف هي، قال: (كحلقة ملقاة في صحراء)، تعرفون الحلقة -والجمع حلق- في عنق الإنسان أو في أصبعه أو في يده، حلقة ألقيناها في صحراء، وما نسبة الأرض إلى تلك الحلقة، أو الحلقة إلى تلك الأرض؟ لا شيء.كما ذكر لنا صلى الله عليه وسلم أن نسبة العالم الدنيوي أو الحياة الأولى إلى الآخرة كما يغمس أحدنا أصبعه في البحر، ثم يخرج أصبعه ويمسح البلل ويقومه بربع مليمتر مثلاً، ما هي النسبة هذه؟ البلل الذي يعلق بأصبعك إذا نسبته إلى البحر كيف تنسبه؟ يقف العقل، كذلك نسبة الحياة الأولى إلى الحياة الآخرة، قولوا: آمنا بالله.فهذا العرش نسبة الكرسي إليه كما سمعتم، ومع هذا يحمله الآن أربعة ملائكة فقط، ويوم القيامة يضاعف الله العدد؛ لأنه يوم الهول، والموقف الصعب، فيجعلهم ثمانية كما في سورة الحاقة: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة:17-18] على الله: لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:18-24]، أية أيام خلت؟ هذه! سوف تخلو وتنتهي. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27].كفى بك داءًَ أن ترى الموت شافياًوحسب المنايا أن يكن أمانيا يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:25-32]، من فمه وتخرج من دبره، سلسلة طولها سبعون ذراعاً، بأذرعتنا هذه، ونحن البعوض؟ ما قيمة أذرعتنا؟ لم هذا المخلوق؟ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة:33] ملحد؛ كافر، هذا جزاؤه: وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:34].هذه تعاليم الله التي أحيت البشرية بعد موتها، وكونت أمة لم تكتحل عين الوجود بمثلها في قرونها الذهبية الثلاثة عدلاً ورحمة، وصدقاً وصفاء وطهراً، وكمالاً وعزاً، فما عرفت الدنيا أمة أطهر ولا أكمل من تلك الأمة.ما سبب طهرها وصفائها وعزها وكمالها؟ هي هذه الدراسة، قال الله وقال رسوله.وعرف العدو هذا، وأبعد المسلمين عن الكتاب والسنة، فماتوا، ففعل بهم ما شاء، وما زلنا مبعدين عن نور الله وحكمة كتابه، ومازال الجهل ينخر في عظامنا ويمزقنا إلى الآن.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

خلقة الملائكة

إذاً: عرفتم حملة العرش، كيف تتصورون الملائكة الأربعة الذين يحملون عرشاً هو أعظم من السماوات والأرضين.سدوم وعمورة مدن في البحر الميت كانت تسكنها أمة جبارة من قوم لوط، رفعها جبريل عليه السلام من أسفل الأرض إلى السماء وقلبها، عرفتم قوة جبريل؟ لما تجلى وظهر في السماء لرسولنا في مكة، في جياد بالضبط سد الأفق كله، إذ له ستمائة جناح، واقرءوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ [فاطر:1] وخماس.. إلى كم؟ اكتفى؟ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1] جبريل له ستمائة جناح.الملائكة الأطهار الأصفياء، مادة خلقهم ما هي؟ النور، مخلوقون من النور، يوجد النور أو لا؟ وتوجد النار أو لا؟ العوالم الثلاثة: بنو آدم من مادة الطين والتراب، والشياطين والجان من مادة النار .. من شواظ من نار، والملائكة من نور. فهم أعلانا، وأصفانا، وأطهرنا، وأزكانا. قطعاً ما في ذلك شك، وهذا العالم علمنا ربنا عنهم أنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20] .. هكذا خلقهم، لا أكل، ولا شرب، ولا نوم.ولهم أعمال، عرفنا فيما سبق عمل جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وحملة العرش.

الكرام الكاتبون، والملائكة الحافظون

ما هو عمل الكرام الكاتبين؟ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا [الانفطار:10-11]، الحمد لله ما هم (لئاماً)، يا ويلك لو كان مسجل أعمالك وحركاتك لئيماً! كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار:11]، ما من أحد منا إلا وله أربعة ملائكة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار )، ما معنى التعاقب؟ يطلع اثنان ويهبط اثنان ( يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعان في صلاة العصر وصلاة الصبح )، فلهذا الشقي المحروم التعس من لم يشهد صلاة الصبح وصلاة العصر في بيت الرب مع عباده المؤمنين!! لم؟ لأن الملائكة التي تقوم بعمل الإحصاء والكتابة في النهار ينزلون في صلاة الصبح، فيجدون المؤمنين يصلون، فيعرج ملائكة الليل ويبقى ملائكة النهار إلى صلاة العصر، فإذا أذن المؤذن وحضر الناس في بيت الرب، ينزل ملائكة الليل ويعرج ملائكة النهار، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتكم عبادي؟ اسمع هذه الشهادة من كريم، يقول: وجدناهم في الصلاة، وتركناهم في الصلاة، لا حصاد، ولا زرع، ولا عمل، ولا أكل، ولا شرب، ولا.. وجدناهم في الصلاة، والله كذلك، وتركناهم في الصلاة، بكم تشتري هذه الشهادة؟ ما تُقَدر أبداً بمقدار، شهادة من؟ ملائكة كذبوا هم؟ لا، والله لقد صدقوا، ما وجدونا في صلاة الصبح؟ ما وجدونا في صلاة العصر؟ وجدناهم في الصلاة، وتركناهم في الصلاة.فلهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من فاتته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله )، كأنما أخذ منه أهله وأخذ منه ماله، وبقي بلا أهل ولا مال، ( من فاتته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله ) عرفتم السر أو لا؟ولهذا الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح وصلاة العصر، إذ ما منهما إلا وسطى، فالصبح قبلها المغرب والعشاء، وبعدها الظهر والعصر، والعصر قبلها الظهر والصبح، وبعدها المغرب والعشاء، فكلاهما وسطى، ولهذا إذا قال المالكي: نحن نعتقد أن الوسطى هي الصبح، فهو على حق، وإذا قال الحنبلي: الصلاة الوسطى هي العصر، كان على حق، وما اختلفنا.إذاً: هؤلاء الكرام الكاتبين، كم عدد البشرية؟ اضربهم في أربعة، أليس كل واحد موكل به أربعة؟وهناك أيضاً مهمة أخرى لملائكة من نوع آخر كلفهم الله بحمايتنا، هذا الحرس الجمهوري أو الملكي، ومع هذا تسب الله يا أحمق وتنكره وتكفر به، وأنت محفوظ بحماية، والله لولا تلك الحماية لتمزقت، ومزقتك الشياطين والجان، واقرءوا من سورة الرعد: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، وإذا جاء أمر الله وقفت الملائكة لينفذ حكم الله فيك يا عبد الله، لكن لا تقل: إذاً ما الفائدة؟ ما الفائدة! أريك الفائدة إن كنت تعقل: الملك عنده حرس أو لا؟ وكذلك السلطان .. الرئيس، قد تقول: ما هذا الحرس ولم، والقضاء نافذ؟ أنت بهلول تقول هذا الكلام، أتدري لم؟ لأنه ليس معنى هذا أن الملك أو السلطان أو الرئيس ما يموت، إذا جاء القضاء والقدر وقف كل شيء، ولكن وجود حرس يطمئنه، يسكن نفسه، يهدئ خاطره، يجعله يقضي أموره وقضاءه وهو مطمئن، بخلاف لو لم يوجد حرس، يلتفت كل دقيقة أو لا؟معقبات من بين أيدينا ومن خلفنا يحفظوننا أليس كذلك، لا تقل: ها نحن نموت، إذا جاء القضاء وقفوا، ينفذ أمر الله عز وجل، لكن فائدة ذلك أنك تعيش مطمئن النفس وهادئ البال؛ غير خائف، ولا تلتفت: الآن الشياطين أو الجان يأخذونني، فمعك حماية معك، وضربت لكم مثلاً شارحاً مبيناً بالحرس بالعظماء من أهل الدنيا الذين يوجد لهم حرس، فالمحروس تطمئن نفسه، ويهدأ باله وخاطره، وينسى الخوف والالتفاتة من أن يقتله فلان وفلان، وهذه فائدة عظيمة، وأما قضاء الله فهو نافذ، وإذا جاء الأجل وقف كل شيء.إذاً الملائكة الكرام الكاتبون يكتبون ويدونون أعمالنا، ولا ينقصوننا حسنة واحدة، فاطمئن.ومع هذا ورد أن كاتب السيئات يمهلك ساعة، ما هي بالدقيقة هذه، فإن استغفرت وأنبت ورجعت لم يكتب، فهو يمهلك بعد معصيتك ساعة من الزمن قبل أن يكتب، لعلك ترجع .. لعلك تتوب، فإن أنت عرفت الذنب وقلت: أستغفر الله، وأتوب إلى الله، وغفرانك ربي، لا يكتب.أما صاحب الحسنات فعلى الفور يكتبها، كرام أو لئام؟ من وصفهم بالكرم؟ الله: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، ما في جهالة عندهم.للحديث صلة لنعيش مع الملائكة يوماً آخر أو يومين إن شاء الله، ونحن مع الملائكة في كل ساعة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-08, 02:51 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (24)
الحلقة (31)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (120)

من الأدلة على قدرة الله تعالى وعظيم خلقه أن خلق سبحانه وتعالى الكرسي وجعله قائماً على عرشه، وهذا الكرسي قد وسع السماوات والأرض فما بالك بعرش الرحمن، والله عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه ومع ذلك فهو محيط بهم لا تخفى عليه منهم خافية، ولا تأخذه عنهم سنة ولا نوم، تعالى الله الملك الحق علواً كبيراً.
تابع تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم...)

فضل آية الكرسي

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل.وها نحن مع آية الكرسي، وأعيد إلى أذهان الأبناء والإخوة المستمعين أن آية الكرسي هي أعظم آية في كتاب الله، من بين ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية هذه أعظمها.كما أن أفضل سورة في كتاب الله هي سورة الفاتحة أم الكتاب والسبع المثاني، بهذا صح الخبر عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم امتحن صاحب القرآن أبي بن كعب رضي الله عنه، ( سأله عن أية آية أعظم في كتاب الله، فقال: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدر أبي وقال: ليهنك العلم أبا المنذر! ) وكناه بكنيته تشريفاً له وتعظيماً.

ذكر ما اشتملت عليه آية الكرسي من أسماء الله تعالى وأنواع توحيده

ولنسمع ما قال أهل العلم في شأن هذه الآية الكريمة:قال أهل العلم في هذه الآية المباركة: إنها أعظم آية في كتاب الله تعالى، اشتملت على ثمانية عشر اسماً لله تعالى ما بين اسم ظاهر واسم مضمر، آية واحدة اشتملت على ثمانية عشر اسماً لله تعالى، ما بين الظاهر مثل: (الله)، وما بين المضمر مثل: (هو).وكلماتها خمسون كلمة، وانظر إلى عناية السلف الصالح بكتاب الله، عدوا كلماتها فوجدوها خمسين كلمة، وعدوا جملها فإذا هي عشر جمل كلها ناطقة بربوبية الله تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته، الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه.والتوحيد يدور على الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فهذه الآية المباركة العظيمة بلغكم وعرفتم أن من واظب عليها دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت فقط.

الأسرار القرآنية لما تعدله بعض السور

وقد ذكرنا أن سورة الزلزلة: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1] تعدل ربع القرآن، وأن سورة الكافرون: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] تعدل أيضاً ربع القرآن، وسورة النصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] تعدل ربع القرآن، وأن سورة الصمد تعدل ثلث القرآن.ومن هنا فالراغبون في عظيم الأجر يصلون أكثر المواسم بهذه السور، وقد يصلي بالسور الأربع في ركعة أو ركعتين، وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.ولا بأس أن نلفت النظر إلى أن سورة الزلزلة تقرر مبدأ المعاد والحياة الثانية، ولو تقرأ القرآن وتحصيه فستجد ربعه يتكلم عن الدار الآخرة وما فيها؛ فلهذا تعدل ربع القرآن؛ لأن مبدأ البعث والنشور والحياة الثانية، والحساب والجزاء بالنعيم المقيم أو العذاب الأليم؛ هذا أخذ من القرآن ربعه.ثانياً: سورة الكافرون تحمل توحيد الألوهية: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2] وتوحيد الألوهية كذلك ربع القرآن يدرو حوله. ومعنى توحيد الألوهية: أن تعتقد موقناً أنه لا يستحق أن يعبد في العوالم كلها إلا الله؛ لأنه الخالق الرازق المدبر، وما عدا الله فمخلوق مرزوق، فكيف يصل إلى مستوى يعبد فيه كما يعبد الله؟!وسورة النصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، أليس فيها الأمر بالاستغفار والتوبة؟ راجع القرآن فستجد آيه يحمل هذا المعنى في ربعه، كما قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور:31]، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10]، فالاستغفار والتوبة في القرآن تجد ربعه يحملهما.أما سورة الصمد -وهو الله جل جلاله- فإنها تعدل ثلث القرآن؛ لأن فيها توحيد الألوهية والأسماء والصفات: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، فما دامت تحمل عقيدة الأسماء والصفات والألوهية فهذا ثلث القرآن. ومن هنا سميت الفاتحة أم القرآن، سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم القرآن وأم الكتاب، وقال: (من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته خداج خداج)؛ لأنها اشتملت على كل ما هو في القرآن: توحيد الألوهية، توحيد الربوبية، العبادات بأنواعها، القصص والتاريخ بما فيه، إذاً: القرآن كله يتفرع عنها وهي أمه، كحواء أم البشرية كلها.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

فضل الجهر بـ(لا إله إلا الله وحده لا شريك له ...) في السوق

وقد سأل سائل عن تلك الجملة من الأذكار التي يثاب عليها صاحبها بمليون حسنة، فنقول: هي أن من يدخل السوق القائم على البيع والشراء والناس منكبون على البيع والشراء والمساومة والأخذ والعطاء، فيرفع صوته عالياً حتى يقال: هذا مجنون، فيقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وإليه المصير، وهو على كل شيء قدير؛ فإنه يأخذ شيكاً بجائزة ألف ألف حسنة! بهذا أخبر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، يعطى ألف ألف حسنة، وألف ألف الآن بالاصطلاح المعاصر مليون، على شرط: ألا يجبن أو يستحي أو يخاف، يرفع صوته عالياً حتى أهل السوق كلهم يتطلعون إليه، بأعلى صوت، ثم ثلاثة أرباعهم يتراجعون عن الغش والكذب والتكالب على الدنيا، حيث أصلح السوق بهذه الكلمة؛ حيث البلدية تعجز عن إصلاحه، فطول العام وهي تتابع! فهذه الجملة هي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وإليه المصير، وهو على كل شيء قدير، ويمشي ليتركهم يفكرون.

علمية لفظ الجلالة على الذات الإلهية

والآن مع آية الكرسي، لم سميت آية الكرسي؟ لذكر الكرسي فيها، هذا هو السبب.قال تعالى بعدما نادانا إلى الإنفاق والبذل والعطاء، وحذرنا من يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، والكافرون بجحود النعم وكفرانها، الكافرون بالله عز وجل مولاهم هم الظالمون، قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] هو الذي ينجيكم ويفرج عنكم، وييسر أمركم، فافزعوا إليه بالإنفاق في سبيله والتوبة إليه والإقبال على عباداته. و(الله) اسم علم على ذات الله، الاسم مأخوذ من السمة، أي: العلامة، سمته كذا وكذا: علامته كذا وكذا، إنسان مثلي ذاته كيف نعرفها من بين الذوات؟ ضع عليها علامة، هذه العلامة هي أن تسميه بالاسم. فذات الله عز وجل لا تشبه الذوات، ومن خطر بباله تصور هذه الذات أو البحث عن كيف؛ فقد أخطأ وزلت قدمه، ووالله! لن يدرك شيئاً، فعقولنا محدودة الطاقة كآذاننا وأسماعنا، كأعيننا وبصرنا، كنطقنا وذاتنا، محدودة، هل يستطيع أحدنا أن يدرك بعينيه تلك الجراثيم في الأنعام؟ ما يستطيع! انظر الآن هنا، فهذا الهواء فيه جراثيم تراها بمكبرات الرؤية، وسمعك تسمع به ما شاء الله أن تسمع في حدود معدودة، وأكثر من ميل أو ميلين ما تسمع الصوت أبداً، وبصرك تبصر به أيضاً مدى محدوداً لا تتجاوزه أبداً، صوتك ترفعه: الله أكبر فينتهي إلى مدى محدود، ما يصل إلى كل مكان، طاقتك البدنية تحمل قنطاراً أو قنطارين وتعجز عن الخمسة والعشرة.فكذلك عقلك يا ابن آدم محدود الطاقة، ما تستطيع أن تدرك كل شيء، فلهذا لا يحل لمؤمن أو مؤمنة أن يفكر في ذات الله؛ لأنه تزل قدمه ويخبط خبط عشواء، ومستحيل أن يدرك ذات الله، فهو خالق العوالم كلها فكيف تدركه أنت؟! فتفكروا في آياته، ولا تتفكروا في ذاته؛ لأنكم عاجزون عن إدراك الذات الإلهية! فـ(الله) اسم علم، فهناك اسم علم، وهناك اسم نكرة، فرجل نكرة، وإنسان، وامرأة، لكن المرأة زينب علم عليها، وإبراهيم علم على رجل، و(الله) علم على ذات الرب تبارك وتعالى.فمن أراد أن يناديه فليقل: يا ألله! يا ألله! وإن شاء قال: اللهم! حذفت ياء النداء لقربه تعالى، وعوضت عنها الميم، فقالت العرب: اللهم، هذه الميم عوض عن ياء النداء، لا تقل: يا اللهم! هذا ما يقوله عربي، كيف تجمع بين الحرفين؟! إما أن تقول: يا ألله، أو تقول: اللهم. فهذه الميم زيدت عوضاً عن ياء النداء؛ لأن الله تعالى قريب، مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] كيف هذا؟ هنا مثال: الشمس حين تطلع وتمشي في إقليم بكامله هي معك أينما كنت، فهل هي في جيبك؟ هل أنت قريب منها؟ بينك وبينها مسافة ملايين الأميال، وهي معك. فالله الذي خلق الكون كله، ويقبض السماوات والأرض بيمينه كل الكون بين يديه، فلهذا استحوا منه يا عباد الله!

معنى قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو)

و اللَّهُ [البقرة:255] مبتدأ، فأين الخبر؟ قال تعالى: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255]، كما تقول: إبراهيم، فيقال: ما له؟ تقول: إبراهيم مات، فهل أخبرت أم لا، إبراهيم لا كريم أكرم منه، هل أخبرت عنه أم لا؟ إذاً: الله أخبر عن نفسه فقال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] لا معبود سواه، إذ لفظ: (إله) في لغتهم معناه: المعبود، فكل ما عبد يسمى إلهاً، كل ما عبد، من كوكب، صنم، فرج، حيث عبدوا الفروج، كل ما عبد يقال فيه: إله في لغة العرب التي نزل بها القرآن.وبالمناس ة يذكر أنه كان لأحد العرب إله في واد من الأودية في شعب من الشعاب، صنم، ويأتيه ليتمسح به، يتبرك به، يستغيث، ينذر النذور له ويذبح، جاء يوماً من الأيام فوجد ثعلباً قد رفع رجله ووضعه على كتفه يبول عليه! لأن الذئاب والثعالب إذا أراد أحدها أن يبول رفع رجله بالفطرة، يضعها على شيء مرتفع، فوضعها على كتف الصنم، فذاك الأعرابي نظر يتأمل، ثم صاح يقول: أرب يبول الثعلبان برأسهلقد ذل من بالت عليه الثعالبولم يرجع إليه إلى الأبد.ولا تعجب؛ فالآن المسيحيون البصراء العارفون طاروا في السماء وزعموا أنهم وصلوا إلى القمر -وكذبوا- والصليب في أعناقهم يعبدونه، هذا الصليب مصنوع من الذهب أو الحديد، أهذا هو الله؟! تعالى عن ذلك علواً كبيراً.يقدسون الصليب كأنه الله، ومن هنا إذا هبطت العقول وخرجت عن فطرتها فلا تعجب، هناك من البشر من يعبدون الفروج! بعيني هاتين رأيت ذلك في مدينة في بلاد الهند، مدينة رزناها للدعوة، وإذا بالدكاكين تبيع الفروج المصنوعة، وإذا بعابد لها يحمل ذلك الفرج من خصيتين وذكر على كتفه ليعبده! عبدوا الصور والتماثيل، فهبطوا، وعبادتهم هذه ناتجة عن الخوف الفطري والفقر الفطري والحاجة الفطرية، ما عرفوا الله، ما عرفوا الطريق إليه، فيزين الشيطان لهم عبادة كوكب أو عبادة شجرة، أو عبادة إنسان أو عبادة حيوان، لفقرهم وحاجتهم ولجهلهم، وإذا تمكنت تلك العبادة فما يريدون أن يتخلوا عنها ويرفضوها.وحارب الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين سنوات حتى هدأت الحرب وهم يصرون على عبادة الأصنام! إذاً: كل ما عبد من دون الله يسمى إلهاً، وهو إله باطل، والله! لا يوجد إله حق إلا الله؛ لأن الذي تخضع له وتذل، وتحبه وتتطامن بين يديه، وتعفر وجهك في التراب يكون قد أسدى إليك وقدم أعظم ما يقدم إليك، أوجدك من العدم، وهبك حياتك كلها، وهبك كل شيء أنت فيه وعليه، هذا الذي تذل بين يديه وتخضع وتبكي وتستغيث به وتسأله، أما المخلوق مثلك فكيف ترفعه إلى مستوى الإله وتعبده؟! بأية شبهة؟!إذاً: الله جل جلاله أخبرنا عن نفسه فقال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] أي: لا معبود بحق إلا هو، فكل ما عبد من دون الله كالملائكة والأنبياء والرسل والأولياء والكواكب والأحجار والأشجار والبشر، كل تلك المعبودات باطلة، ما خلقتك ولا رزقتك، ولا دبرت حياتك، فكيف تعبدها؟ كيف تذل وتخضع بين يديها وتقدسها وتجلها؟ هذا ظلم. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] معشر المستمعين والمستمعات! ما معنى لا إله إلا هو؟ أي: لا يوجد في العوالم العلوية ولا في السفلية من يستحق أن يعبد بأن يدعى ويستغاث به، ويتملق إليه ويتزلف بذكر أسمائه، بطاعته في أمره ونهيه؛ لا يوجد إلا واحد هو الله تعالى. وله تسعة وتسعون اسماً أيضاً، هذا واحد منها: ( إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً ) هذا الذي نزل به القرآن، وبينه الرسول الكريم، وقد تكون له أسماء أخرى يعلمها هو أطلع عليها من شاء من أنبيائه ورسله، وقد أشار إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: ( أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي وغمي ).
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (الحي القيوم)

قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] اسمان عظيمان، الحي أصله: الحيي، كالحرير، فسكنت الياء وأدغمت في الياء، فصارت: (الحيّ)، ذو الحياة الدائمة التي لم يسبقها عدم، ولا يقع عليها عدم، كل الموجودات مسبوقة بعدم، وتنتهي بعدم، إلا الله فإنه حي دائم الحياة التي لم يسبقها عدم ولا يلحقها عدم، وما عدا الله من الملائكة ومن كل المخلوقات ما كانت موجودة وأوجدها ثم يعدمها.وفي البخاري (باب: كان الله ولم يكن شيء غيره)، وقال للقلم: يا قلم! اكتب فكتب، فلو نعرف الله معرفة حقيقية فإنا سنستحي فقط أن نتكلم باسمه؛ لجلاله وعظمته، فكيف إذاً نجاهره بمعاصيه؟ لكن تدبير الله! فالله تعالى الحي الدائم الحياة التي لا تشبه حياة المخلوقات الموهوبة لهم منه تعالى، حياة لا ابتداء لها ولا انتهاء لها، واقرءوا من سورة الحديد: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3] هو الأول لا أول قبله، والآخر لا آخر بعده، فآمنا بالله! والقيوم: الذي قام بكل شيء، العوالم كلها يدبرها، وهو قائم عليها، ولولا قيوميته لخرب العالم من آلاف السنين، لاصطدمت الكواكب ببعضها واحترق الكون.القيوم الذي أمر الدنيا والآخرة كله هو القيم عليه يديره ويدبره، القيوم بمعنى (القيم)، لكن أبلغ من (القيم)، فهو كثير أو كبير القيومية.

معنى قوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم)

اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] لا تأخذه سنة، أي: لا يأتيه النعاس، السنة: مقدمة النوم، وعندنا آية يقول تعالى فيها: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الروم:23] سبحان الله! هذه آية دالة على قدرة الله ووجود الله وعلم الله، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الروم:23] والله! لولا الله ما نمنا، ولا عرفنا النوم ولا كيف النوم، ولولا الله ما استيقظنا أيضاً، فكوننا ننام ونستيقظ هذا من مظاهر تدبير الله وقيوميته على خلقه وعباده، هل يستطيع إنسان أن يقول: سأنام ونام لتوه؟ لا أحد.فالله جل وعز لا تأخذه سنة -أي: نعاس- ولا نوم أبداً، وكل هذه المخلوقات مفتقرة إلى النوم والراحة حتى الحيوانات تنام، هذا الذي ينام ويستيقظ كيف تدعوه مع الله: يا سيدي عبد القادر ! يا مولاي إدريس ! يا رسول الله! يا فاطمة ! يا حسين ! هل أنت تتحدى الله؟ أما تستحي؟! يا شيخ! لا تلمهم فما عرفوا، إي والله ما عرفوا. فمن تنادي؟ أتغيظ الله؟ تؤله مخلوقاً من مخلوقاته، وتقبل عليه بلسانك وقلبك، وتناديه أن يفعل ويفعل؟ كيف يتم هذا؟ يتم بالجهل، لأنهم ما عرفوا، ومن علمهم؟ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، يروى أن أحد الرسل أو الأنبياء سأل ربه: كيف لا تنام يا رب؟! فأمره أن: ضع في كفيك كأساً في يمينك وكأساً في شمالك ملوءين باللبن، ونم، فأخذه النعاس، وفي كل مرة يميل فيتدفق الكأس بما فيه، ثم يملأ فتأخذه السنة فيسقط الكأس من يده! فالذي يدير الكون لو كان ينام فلن يستقر الكون والحياة، سيخرب الكون في يومه الأول.

معنى قوله تعالى: (له ما في السموات وما في الأرض )

لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255] هل بلغكم إن إنساناً أو ملكاً يملك المنطقة الفلانية في العالم؟ و(ما) اسم موصول يشمل هذا اللفظ كل كائن، أي موجود في السماوات أو في الأرض هو ملك لله، إذ هو خالقه ومدبره ومالكه، وغير الله لا يملك.إذاً: كيف تدعون غير الله؟! أنت تعرف أن إبراهيم أو عثمان أو عبد القادر لا يملك شيئاً وتدعوه وتناديه؟ هل أنت مجنون؟ تأمل. هل آمنتم بأن لله ما في السماوات وما في الأرض أم لا؟ فإذا كان هو المالك لها وهي بيده؛ فهل يجوز طلب شيء منها من غيره؟! لا يجوز، أنت تمر بحديقة أو بمنزل وترى فيه ما فيه من الطعام والشراب؛ فإذا كان صاحبه موجوداً وتراه فاسأله؛ لأنه يملك، وإذا مررت بآخر وصاحبه غير موجود فقلت لآخر: يا إبراهيم! أعطني. فسيقول: أنت مجنون؛ هذا ما هو ملكي أنا، ما هو بستاني ولا مالي! وأوضح من هذا أن يأتي الإنسان إلى خربة ما فيها سكان ولا أحد ويلزم الباب: يا أهل البيت! يا أهل الدار! أخوكم من ثلاثة أيام ما طعم ولا شرب، أغيثوني! فإذا مررت به أنت تضحك أم لا؟ ما هو واجبك؟ تقول: يا عبد الله! هذه خربة ما فيها أحد، لا امرأة ولا رجل ولا طعام ولا ماء، اذهب إلى دار أهله موجودون فيه. ومع هذا يمر بنا إخواننا وهم يستغيثون بعبد القادر وفلان وفلان ونحن ساكتون، فلنقل لهم: إن هذا ما يعطيكم شيئاً، اسألوا الله، استغيثوا بالله، أنتم تغيظون ربكم وتغضبونه عليكم، من يعطيكم؟ وهذا هو واقع أمة الإسلام من ثمانمائة سنة، يجده يدعو صاحب قبر فما يغضب! قل له: ارفع كفيك إلى ربك، توضأ وصل بين يديه واسأله، أما صاحب هذا الضريح أو القبر فما يعطيك شيئاً.والله! لو كان في الإمكان إجراء عملية اختبار لقلنا: ابعدوا الهيئة والعسكر من حول الحجرة، فإذا لم تروا إخوانكم من الشرق والغرب يركعون ويتمسحون ويبكون ويستغيثون فاذبحوني الآن، مع ما انتشر من الوعي والسلفية والتوحيد! إذاً: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255] من الكائنات كلها، مياهها وأنهارها وذهبها وفضتها، وكل ما فيها؛ فمن أراد أن يسأل فليسأل الله، فلا تمل إلى عزى ولا مناة ولا عائشة ولا مريم ولا عيسى، فالله تعالى له ما في السماوات وما في الأرض من كل الخيرات، فمن نطلب إذاً؟ نطلب إبراهيم؟! لا يملك، نطلب من محمد صلى الله عليه وسلم؟! لا يملك، من نطلب؟ الله.

ضلال المتجهين إلى عبادة غير الله تعالى

في غزوة ثقيف التي غزاها الرسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح بعدما دخلوا مكة في السنة الثامنة استراحوا يومين أو ثلاثة، وبلغهم أن ثقيف تتجمع لحربهم، ولما خرج القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم وإذا بمسلمي أمس ومن ثلاثة أيام مروا بشجرة كان المشركون يعلقون نبالهم وسيوفهم ورماحهم عليها ثم يغزون، يتبركون بها، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط! أي: ننيط بها سلاحنا للبركة ونحن غازون! فتعجب الرسول وقال: ( ما زدتم أن قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] ). لما نجى الله موسى وبني إسرائيل من فراعنة مصر وخرجوا وشق لهم البحر وقطعوه وصلوا إلى الأرض، وإذا بقرية على الساحل أهلها مشركون يعبدون عجلاً، فقالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] سبحان الله! هذه الآيات التي شاهدتموها، والانتصار الذي تم بفضل الله علينا وتقولون: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة؟! إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]. فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر المؤمنين الجدد بأنهم ما زادوا أن قالوا كما قال بنو إسرائيل، وإلى الآن المسلمون يتبركون بالأشجار، والمملكة هي الوحيدة التي قطعت الأشجار وهدمت القباب وهدمت كل ما يعبد مع الله، والناس يتحمسون ويتغيظون يدعون عليهم بالهلاك،كل الخرافيين هكذا! ومنذ ثلاث وعشرين سنة أيام كان الدرس في باب المجيدي جاء شاب وقال لي: والله! إنه لتوجد شجرة تعبد في المدينة، سبحان الله! فقلنا للطلاب: هيا باسم الله. فمشى مجموعة وانتظروا وإذا بأولئك الفقراء يعكفون عليها ويدعونها ويتبركون، فقطعوها، ولما قطعوها ضجت النساء بأعلى أصواتهن بالبكاء! هذا في المدينة، فكيف ببلد ما فيه من قال: هذا باطل؟ تبنى القباب وترفع، هذا قبر سيدي فلان الولي! وهذا كله كما قال موسى عليه السلام: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138] الجهل هو السبب، والله! لولا أن علمنا الله لكنا كآبائنا وإخواننا، وإلى الآن الذي لا يتعلم لن يكون إلا مثل آبائه وأجداده. لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255] هل هناك قطعة لآخر؟ هل هناك حبة عنب لآخر؟ لا يسأل إلا الله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)

ثم قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] اجعل الجن والملائكة والبشر يعقدون مؤتمراً لعلهم يعثرون على من يشفع بدون إذن الله؟ والله! لا جبريل ولا ميكائيل ولا إسرافيل، ولا أي كائن يستطيع أن يشفع بدون إذن الله.وهذا الاستفهام للتعجيز؟ هو للنفي المطلق، (من ذا الذي؟!) لا أحد يشفع لأحد لينقذه أو ينجيه أو يكرمه إلا بإذن الله.والمشركون كانوا يعبدون أصنامهم تحت شعار: أنها تشفع لهم عند الله. واقرءوا إن شئتم من سورة الزمر: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:1-3] ما نعبدهم لأي غرض آخر، إلا ليقربونا إلى الله عز وجل فيقضي حوائجنا.والآن عبدة القبور يقول لك: أنا ما أعبد سيدي، لكن نستشفع به فقط! كيف تعبده؟ ماذا تقول؟ يقول: يا سيدي! أنا بين يديك، أنا كذا، اسأل الله لي، افعل لي كذا، وهذه هي العبادة! فما هي العبادة سوى اطراحك بين يدي الله، وسؤاله حاجتك.

أنواع شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

إذاً: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [البقرة:255]؟ فقل: لا أحد ولا تتردد، وهنا الشفاعة العظمى فاز بها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وقد استعرضنا مواقف عرصات يوم القيامة، وشاهدنا أنه ما من رسول إلا يقول: عليكم بفلان، وحين يأتون النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( أنا لها ) ؛ لسابق علمه بذلك، إذ جاء من سورة الأسراء: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79].فأي مقام محمود يحمده أهل الموقف أجمعين عليه؟ هو أن يشفع لهم عند الله ليقضي بينهم فقط، ليحكم، طال الزمان وطالت المدة، خمسون ألف سنة وهم وقوف.ولا يقول: يا رب! لقد وعدتني فاقض بين عبادك، بل قال: ( فآتي فأخر تحت العرش ساجداً، ويلهمني ربي محامد، ولا أزال أحمده وأثني عليه بها حتى يقول: أي محمد! ارفع رأسك، واسأل تعط، واشفع تشفع ) ثم يأخذ الله عز وجل في فصل القضاء ليحكم بين الناس، هذه الشفاعة العظمى صاحبها واحد؟ من هو هذا؟ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك شفاعات للرسول صلى الله عليه وسلم غير، ومنها -وهي أعظم شفاعة- أن يخرج من دخلوا النار من أهل التوحيد، يشفع لهم فيخرجهم الله من النار.وهناك شفاعة أخرى أنه يقدمك على غيرك في حسابك وجزائك، وشفاعة ليرفعك إلى مستويات ما كنت تصل إليها، يسأل الله عز وجل فيعطيك.

شروط شفاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة

وما عدا النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أحد أن يشفع لآخر إلا بشرطين: الأول: أن يأذن الله له بالشفاعة، يا عبدنا فلان! أنت من حفظة القرآن التالين له في الليل والنهار، اشفع في أمك خديجة، فيقول: يا خديجة شفعنا لك بابنك هذا إلى الجنة.ثانياً: أن يكون الله قد رضي عن المشفوع له بأن ينزل بجواره، وإذا لم يرد الله أن ينزل هذا في الجنة فما تنفع الشفاعة، واقرءوا الآية الموضحة: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ [النجم:26] من الشفعاء وَيَرْضَى [النجم:26] عن المشفوع له.لو أذن الله لمؤمن أن يشفع في أربعين من أهله ومن بينهم من كان عدواً لله والله لا يرضى جواره فما تقبل شفاعته.إذاً: شرطان رئيسان لا ننساهما، الأول: لا شفاعة إلا بإذنه، إن أذن اشفع، ولن تشفع إلا لمن يحب، لا كما تحب أنت، على شرط: أن يكون الله راضياً عنه أن يدخل الجنة، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، لكن آية النجم واضحة: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26].وهذا إبراهيم الخليل في عرصات القيامة كما تبينا وعلمنا يقيناً بأخبار أبي القاسم الصحيحة، إبراهيم في ساحة فصل القضاء يقول: أي رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أخزى من هذا؟ فيقول له الرب تبارك وتعالى: يا إبراهيم! انظر تحت قدميك، فينظر فإذا بأبيه آزر في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيوح! فيصرخ إبراهيم ويقول: سحقاً سحقاً! فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون الجحيم، والخليل يقول: سحقاً سحقاً.وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرَد عن حوضه جماعات من أمته، يدفعون عن الحوض، فيقول: رب! أصحابي! رب! إخواني! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول: سحقاً سحقاً. والقضية عند أهل الحلقة واضحة كالشمس، فقد صدر حكم الله جل جلاله وعظم سلطانه على الأبيض والأصفر، على الأول والآخر، أنه لا يدخل الجنة ألا من زكى نفسه وطهرها بالإيمان وصالح الأعمال، وأبعدها عما يدسيها من الشرك والمعاصي، إذ أقسم الجبار قسماً لم نر غيره مثله في القرآن، اسمع هذا القسم: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8] أي قسم أعظم من هذا؟! على الحكم التالي: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، كن ابن من شئت، أو أباً لمن شئت، لا ينفعك نسب أبداً، وإنما هل عملت على تزكية نفسك أم لا؟ فإن أهملتها واشتغلت ببدنك فأنت من الخاسرين، لا ينفعك نبي ولا ملك ولا عمل. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] كيف يزكيها؟ يطيبها، يطهرها، وَقَدْ خَابَ [الشمس:10] ما معنى خاب؟ خسر، خسر الجنة ونزل في دار البوار النار. هذه الآية الذين عرفوا معناها يتحاشى أحدهم أن يقول كلمة سوء تدسي نفسه، أو ينظر نظرة محرمة حفاظاً على زكاة نفسه وطهارتها، فإذا جاء ملك الموت وأعوانه يبشرونه فيستبشر: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-09, 04:17 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (25)
الحلقة (32)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (121)


من عقيدة المؤمن الصادق أن يؤمن بعرش الرحمن الذي تحمله الملائكة، وأن هذا العرش فيه الكرسي، وهو في العرش كالحلقة الملقاة في فلاة، ورغم ذلك فهو أوسع من السماوات والأرض، بل إن السماوات السبع لا تتجاوز حجم الدرهم في وسط الترس بالنسبة للكرسي، ومع ذلك فإن الله مطلع على خلقه، محيط علمه بهم، لا تعزب عنه مثقال ذرة في السماوات أو في الأرض، فتبارك الله الملك الحق المبين.

تابع تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليالي ندرس كتاب الله جل جلاله وعظم سلطانه، وها نحن مع آية الكرسي وبعدها آيتان. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:255-256].

عظمة آية الكرسي وفضل قراءتها

معاشر المستمعين! آية الكرسي عرفنا أنها أعظم آية في كتاب الله، ولعلكم تذكرون ذلك السؤال من رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بن كعب ، وكان من حفظة القرآن، فقال له: ( أي آية في كتاب الله أعظم يا أبا المنذر ؟! قال: آية الكرسي، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر ! ). وعرفتم أن آية الكرسي من واظب عليها وحافظ على قراءتها بعد كل صلاة فريضة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أنه ما مات، المانع له الموت، لو جاء لدخل الجنة، وهذا الحديث حسن وعمل به الصالحون، ولن يكون من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يقول هذا إلا من يوحى إليه ويتلقى العلم من ربه.

أسماء الله تعالى الحسنى وكيفية إدراك الاسم الأعظم

وقوله تعالى في الجملة الأولى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] مقتضى الخبر: أن الله تعالى أخبرنا عن نفسه أنه لا إله إلا هو، وعرفنا أن لفظ الجلالة (الله) علم على ذاته عز وجل، إذ كل ذات يوضع لها اسم تعرف به، ما ذات من الذوات حتى في غير الأحياء إلا ولها اسم، كشجرة الزيتون، لا بد من اسم تعرف به.فالله عز وجل له مائة اسم إلا اسماً واحداً، وأعظمها: (الله)، وقد ورد وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من سأل الله باسمه الأعظم لا ترد له دعوة، وأخفى الله هذا من أجل أن يدعوه عباده بكل أسمائه، إذ لو عرف المسلمون الاسم الأعظم لتركوا الدعاء بكل الأسماء، ولم يأخذوا إلا بالاسم الأعظم.ونظير هذا الساعة التي في يوم الجمعة، لا يوافقها عبد يصلي فيسأل الله تعالى فيها شيئاً إلا أعطاه، هذه الساعة لم تضبط، هل هي بعد العصر، هل هي بعد الظهر، هل هي في الضحى؛ من أجل أن يطلبها الراشدون والراغبون في الخير، يطلبونها في كامل النهار، إذ لو ضبطت أنها بعد العصر بساعة لظفر بها كل الناس، وسيعطلون الوقت الآخر من العبادة.ونظير هذا ليلة القدر، ليلة القدر هذه الليلة خير من ألف شهر، من أقامها من أولها إلى آخرها كأنما عبد الله بثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، عمر كامل، أضاف إلى عمره عمراً آخر، وإذا ظفر بها في كل رمضان صامه فمعناه: أنه أصبحت له أعمار، إذ ورد في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم تقالَّ أعمار أمته من الستين إلى السبعين، والأمم السابقة يعيش أحدهم ثمانمائة سنة، خمسمائة سنة، سبعمائة، فأعطاه الله هذه الليلة، نصوم رمضان ونقوم ليله كل عام فيسجل لنا ثلاث وثمانون سنة، يصبح أحدنا إذ صام أربعين أو خمسين رمضان وشهد ليلة القدر قد صار له آلاف السنين من عمره!

استحقاق الله تعالى العبادة وحده
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

إذاً: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] هل عرفنا معنى: لا إله إلا هو؟ معناها: لا معبود بحق يستحق أن يعبد إلا الله؛ لماذا؟ هل هذا احتكار، هل هذا تحجير، هل هذا تعصب؟ الجواب: لا؛ إذ لا يوجد من خلقنا وخلق الحياة لنا إلا هو، فلا يعبد إلا هو، فلا معبود بحق إلا هو، وهذا الحق الذي يستحق به العبادة هو أن يكون قد خلقني، وخلق هذا الكون من أجلي، حينئذ إذا كان أحد شارك الله في الخلق والإيجاد فلا بأس أن يشركه في عبادته، لكن بالاستقراء والتتبع والنظر لا تجد من خلق مع الله بعوضة فضلاً عن جمل أو إنسان، فهل من خالق غير الله؟ لا أحد.فلما كان هو الخالق لنا، والرازق لنا بإيجاد الغذاء الذي نعيش عليه، والهواء الذي نستنشقه، والماء، وعناصر الحياة هو خالقها؛ فكيف يعبد معه غيره؟ بأي حق؟! فلهذا ارفع صوتك -ولن تنقض كلمتك- وقل: لا إله إلا الله، ومن ادعى غير ذلك فليتفضل ليأت بأدلة تثبت أن غير الله إله مع الله!فمن ادعى أن عيسى عليه السلام هو الله تعالى؛ قيل له: كان الله ولم يكن عيسى، ثم رفع إلى السماء، فتبقى الحقيقة أنه: لا إله إلا الله. أما قولنا: بحق؛ فلأن الآلهة المعبودة لا حق لها، عبدت الكواكب في السماء، عبدت المياه في الأرض، عبدت البشرية، عبدت حتى الفروج كما قدمنا، لكن معبودات بدون حق، بدون موجب، بدون شرع ولا قانون، تدفن الميت وتبني على قبره وتعبده؟ أنت الذي دفنته، فكيف تناديه وتستغيث به وتسأله حاجتك؟ إذاً: تقرر بقوله: لا إله إلا هو أنه لا ينبغي أن يعبد مع الله أحد، واصرخ بها وصرح: لا إله إلا الله!

حياة الله تعالى الكاملة وقيوميته على خلقه

وقوله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] سائر أنواع الحياة هو واهبها، حتى حياتي هذه هل أنا أوجدتها؟ من أهدانيها وأعطانيها غيره؟ كل حي بيننا وفينا وفي العوالم العلوية والسفلية من وهبه حياته؟ إنه الله.إذاً: فما دام يهب الحياة ويعطيها فلن يكون إلا حياً، وهل ميت يعطي شيئاً؟ وحياته تختلف عن حياة مخلوقاته، فهو الحي حياة لم يسبقها موت، فنحن قبل مائة سنة ما كان واحد منا موجوداً، حياة الله حياة كاملة تامة، لا تسبق بعدم، ولا يأتي بعدها أو يلحقها موت وانقطاع، هذه هي الحياة الحقة. والقيوم: القائم على كل الأكوان، يديرها ويدبرها، يحيي ويميت، يعطي ويمنع، يرفع ويضع، كل الكون من يديره؟ من يقوم عليه؟ الله. فهل عثرت البشرية على قيوم مع الله يدير كوكباً فقط في السماء؟ فهو تعالى الحي الدائم الحياة، القيوم على كل المخلوقات، لولا قيوميته لارتطمت الحياة وتمزقت من آلاف السنين!

انتفاء السنة والنوم عن الله عز وجل

ثالثاً: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] فلهذا هو تعالى منزه عن صفات المخلوقين، لا تأخذه سنة يعني: نعاس، مقدمة النوم، إذ لو كان ينام لخرب العالم.إذاً: بهذا أصبح الإله الحق، ومن عدا الله ينام وتأخذه السنة، فليس -إذاً- كمخلوقاته.

اختصاص الله تعالى بملك ما في السموات والأرض

رابعاً: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255] هذه اللام لام الملك، فهذا المسجد لمن؟ لله، وتلك السواري لمن؟ لله، له ما هو موجود في السماوات والأرض، فهذا البيت الذي تملكه كنت أنت ولم يكن، وسوف تموت وتتركه، فمن مالكه إذاً؟ الله تعالى. لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255] ومعناه: أيها الطماعون! عليكم بالله، اطمعوا فيما عنده؛ لأنه يملك، أما أن تطمع في مخلوق وتقول: أعطني عمارة، وابن لي داراً؛ فإنه لا يستطيع، لا يملك هذا، ومن هنا يجب على القلوب كلها أن تتجه نحو الله، نقف نسأل بالبلايين من البشر وكلمتنا كلها: اللهم، ما هناك إلا هو؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض من الذرة إلى المجرة، إلى السماوات السبع إلى دار السلام، لا يخرج شيء عن ملك الله سبحانه وتعالى، كل شيء مملوك لله تعالى.فمن أراد شيئاً فليتملق إليه وليتزلفه، يناديه بأسمائه وصفاته، يسجد له بين يديه، يكثر من ذكره، هكذا حتى يسترضيه، أما غير الله فلا يملك شيئاً.له ما في السماوات من كائنات وما في الأرض من نباتات وحيوانات ومياه وجبال، الكل له، فلا تطلبن -بني- شيئاً من غير الله، فإنه لا أحد يملك شيئاً إلا الله.

امتناع الشفاعة يوم القيامة بغير إذن الله تعالى
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

خامساً: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]؟ الجواب: لا أحد، فهذا الاستفهام بمعنى: النفي، وهنا نكرر الكلام في الشفاعة لنكون منها على علم.الشفاعة بمعنى: الوساطة، فلان يشفع له فلان عند الغني الفلاني أو الحاكم الفلاني ليقضي حاجته، يشفع نفسه بآخر، يصبح شفعاً أو زوجاً.ينفي تعالى أن يكون يوم القيامة من يشفع في أبيه أو أمه أو أخيه أو قريب أو بعيد بدون إذن الله تعالى نفياً كاملاً، والله العظيم! لا يوجد من يشفع يوم القيامة في أي كائن بدون أن يأذن الله له.والعوام يقولون: يا رسول الله! الشفاعة، اشفع لنا يا رسول الله. وهذا السؤال باطل، اسألوا الله: اللهم شفع فينا نبيك، اللهم اجعلنا ممن يشفع فيهم نبيك. أما أن تقول: يا رسول الله! الشفاعة؛ فهو لا يملك هذا.

شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم

وقد ذكرنا الشفاعة العظمى، وتقرر عندنا أنها لا يستطيعها أحد من الأنبياء والرسل سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد امتنع عنها آدم، وامتنع عنها نوح، وامتنع عنها إبراهيم، وامتنع عنها عيسى، ولما انتهوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قال: ( أنا لها! )، فكيف عرف أنه لها؟ لأن الله تعالى أعلمه، جاء من سورة بني إسرائيل أو الإسراء قول الله تعالى له: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] رجاء أن يبعثك ربك مقاماً محموداً، و(عسى) من الله تفيد التحقيق، فمن هنا فحين تأتي البشرية تطلب إليه أن يشفع لها يقول: ( أنا لها )، لكن كيف شفع؟ قال صلى الله عليه وسلم: ( فآتي تحت العرش فأخر ساجداً، ويلهمني ربي تعالى محامد لم أكن أعرفها، فيقول لي: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع )، فماذا تسمى هذه الشفاعة؟ تسمى الشفاعة العظمى لفصل القضاء والحساب بين البشرية وهي في صعيد واحد، ثم ورد أن أهل القرآن حفظته العاملين به يشفعون في أقربائهم، يأذن الله لهم، وعرفنا أن شهيد المعركة يشفعه الله فيمن شاء، ويشفع الأنبياء والرسل والصالحين، لكن كيف يشفعهم؟ هل يأتي سيدي عبد القادر يقول: يا رب! هؤلاء مريدي وإخواني، أدخلهم الجنة؟! والله! ما يستطيع أن يتكلم، ومن يقوى على أن يتكلم؟ إذاً: إذا أراد الله عز وجل إكرام عبده قال: يا فلان! اشفع في فلان، وفلان المشفوع له كان قد رضي عنه، وقبله في جواره، وإنما ليرفع من مقدارك ويعلي من قيمتك، فيقول لك: اشفع في فلان، وهو قد رضي به أن يدخل الجنة.والآية التي توضح هذا من سورة النجم: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ [النجم:26] أن يشفع وَيَرْضَى [النجم:26] في المشفوع له، هذه القاعدة، لا يستطيع أحد في عرصات القيامة أن يقول: هذا أبي يا رب فأدخله الجنة، أو: هذه والدتي البارة الصالحة أدخلها الجنة، فيقول الله تعالى: نعم. وإنما الله تعالى هو الذي يمن على عبده الصالح، فيقول: أي عبدي! اشفع في فلان وفلان وفلان، أو أخرج أباك من النار، عطاء الله وفضله، إلا أن الشافع هذا له درجة ومنزلة، فلو لم يكن من أولياء الله وصالحي عباده لما يشفع.والشفاعة النبوية المحمدية متعددة: يشفع في أناس دخلوا النار فيخرجون من النار ويدخلون الجنة بإذن الله تعالى، ويشفع في أناس درجتهم هابطة، يشفع فيهم فيرتفعون درجات عالية، فللنبي صلى الله عليه وسلم شفاعات أكرمه الله تعالى بها، نسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء.أما أنت فمن الجائز أن تكون عبداً صالحاً، ويشفعك الله في أمك؛ لأنها كانت مؤمنة بارة صالحة، ونقص ميزانها؛ فيشفعك فيها فتشفع، فتقول: أمي! ادخلي الجنة. أذن الله لك؛ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]؟ الجواب: لا أحد.

معنى قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

ثامناً وتاسعاً: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255] من هم هؤلاء؟ الكائنات كلها يعلم ماضيها ومستقبلها وحاضرها، أنا الآن قد أعرف ما أمامي، لكن ما ورائي لا أعرفه، الآن لا أدري ما ورائي، فعلم الله يحيط بكل الكائنات، ما هناك جانب ما يرى الله فيه أحداً حيث يكون بإمكانك أن تختبئ فيه، يعلم ما بين يدي خلقه وما خلفهم، بمعنى: لا يعزب عنه مثقال ذرة، لا تفكر أنك تختفي عن الله، أو تخفي شيئاً.هذه الجملة فاصلة في هذا الباب، إذاً: فانتبه، ولا تحاول أن تخفي شيئاً من أعمالك عن الله عز وجل، بخلاف الآلهة الأخرى المعبودة، فإن علموا ما في اليوم فإنهم لا يعلمون ما في غد، إن يعلموا ما أمامنا فإنهم لا يعرفون ما وراءنا، فكيف يعبدون مع الله ويؤلهون؟ هذه آية الكرسي: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ [البقرة:255] وإن قل مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، نحن الآن نعلم شيئاً كثيراً بإذنه، هو الذي علمنا سورة الفاتحة فحفظناها، علمنا هذه الآية فتلوناها، علمنا كيف نغرس الشجرة، أو كيف نحصد الزرع، فهو عز وجل أحاط بكل شيء علماً، وعباده من الملائكة والإنس والجن لا يحيطون بشيء -وإن قل- من علمه إلا بما شاء هو أن يطلعهم عليه ويعلمهم إياه، أما استقلالاً فلا والله.

معنى قوله تعالى: (وسع كرسيه السموات والأرض)

عاشراً: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] من أهل العلم من يقول: وسع علمه السماوات والأرض. ولا داعي إلى هذا التأويل، لو كان النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذا وقال لأصحابه أو لـعلي أو لـفاطمة أو لـعائشة مثلاً: كرسي الله علمه؛ لقلنا: آمنا بالله، لكن ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر الكرسي بالعلم فكيف نقول: وسع علمه السماوات والأرض؟ نعم يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255].فالكرسي يقول فيه عبد الله بن عباس تلميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لو أخذنا السماوات السبع ومزقناها وألصقنا قطعة بقطعة والأرضين كذلك وأصبحت رقعة واحدة، ووضعنا الكرسي عليها لما وسعته! آمنا بالله. وأما العرش فسرير الملك، فنسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، ولكيلا تندهش أقول: أغمض عينيك وفكر في أنك هابط إلى الأسفل، فبعد مليون سنة إلى أين تصل؟ تقول: لا أشعر، ما أعرف، ولولا أن العرش فوقنا لقلنا: وبعد العرش ما هو أيضاً؟ فحالنا كحال جنين في بطن أمه، فلو تتصل بهذا الجنين وتقول: أيها المسكين! أنت في ظلمة، أنت في ضيق، فلو خرجت من بطن أمك؛ لكان يقول: هاه! ويسخر منك، يقول: أين هذا؟ الدنيا كلها في ذلك الرحم، لا يرى إلا ذلك، فنحن الآن محصورون في هذه الكرة كأننا في رحم، لا نشاهد الانطلاقة الواسعة إلا إذا فاضت أرواحنا.فمن هنا قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، والكرسي ليس مثل هذا الذي أنا جالس عليه ونسميه كرسياً، هذا ليس المراد بقول الله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ [البقرة:255]، إنما قالت العلماء: قال أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم: الكرسي موضع قدمي الملك، السرير يجلس عليه الملك ويدلي رجليه، فيوضع له كرسي يضع قدميه عليه، فبهذا فسر ابن عباس الكرسي: موضع القدمين، هو على عرشه سرير ملكه، ويضع قدميه على ذلك الجزء المسمى بالكرسي.والعرش: السرير، كما قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقد كان الله ولم يكن شيء، فيا عبد الله! أين يذهب بعقولنا؟! كيف نحصر هذه العوالم وما وراءها؟ عجزت العقول عن التفكير والإدراك، طاقاتنا محدودة، ما نستطيع أن ندرك إلا ما أعطانا الله القدرة عليه، فقد قلت: صوتك أنت كم ميلاً تسمع به؟ بصرك كم ميلاً تبصر به؟ عقلك كذلك يدرك أشياء ويعجز عن غيرها، وهناك أشياء ما نبصرها وهي معنا كالهواء؛ لضعفنا وعدم قدرتنا، إذاً: لا يسعنا إلا أن نقول: آمنا بالله .. آمنا بالله! ونمسك بلحانا إن كان لنا لحى، فيا أيها الحالقون من أبنائنا! أعفوا لحاكم، ائتسوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت لكم أنه لما كان جالساً يعلم أصحابه أوحي إليه ( أن رجلاً من بني إسرائيل كان يركب على بقرة )، والبقرة عندنا نحن الفلاحين ما نركب عليها، نحرث عليها أو نسقي بها الماء، ( فرفعت رأسها إليه وقالت: ما لهذا خلقت! فلما وصل الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بلحيته فوراً وقال: آمنت به، آمنت به، آمنت به ). بقرة تنطق وتقول لراكبها: ما لهذا خلقت! فقد خلقت للحرث والسقي لا للركوب عليها، وكان أبو بكر وعمر غائبين عن المجلس، فقال: ( وآمن أبو بكر وعمر ) ثقة في إيمانهما، وهو كذلك.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (ولا يئوده حفظهما)

وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255] ما معنى: ولا يئود الله حفظهما؟ أي: لا يثقله ولا يعجزه حفظ السماوات والأرض، لولا أنه حافظ لهما لتبخرتا من ملايين السنين، هذه الشمس كم لها؟ لم ما تبعثرت وثقلت وهي نار، لم ما احترقت وشاهدنا الدخان يملأ الكون؟! إذاً: ولا يثقله أو يعجزه حفظ السماوات والأرض، الكل محفوظ بحفظه عز وجل، فأبشروا؛ فمن مات منكم ودخل الجنة فسوف يرى وجه الرحمن عز وجل؛ لأن الأبصار يومئذ ليست كهذه المخلوقة خلقاً مؤقتاً لخمسين وسبعين وثمانين سنة وتعمى، بل مخلوقة خلقاً أبدياً، فلهذا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وجوه يومئذ مشرقة، إلى ربها ناظرة، يزيل الحجاب عن وجهه، ويسلم عليهم، واقرءوا من سورة يس: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] ما هو بسلام بالكتاب والواسطة، سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، ولم يذق أهل الجنة طعاماً ولا شراباً يدخل عليهم سروراً وبهجة كسرور نظرتهم إلى وجه الله عز وجل، يغمرهم فرح لا حد له لرؤية الله عز وجل.

معنى قوله تعالى: (وهو العلي العظيم)

وأخيراً يقول تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] هل هناك من هو أعلى من الله؟ والله! ما كان، هو العلي الأعلى، والخلق كله دونه، وهو العظيم، وكيف تعرفون عظمة الله؟إنه إذا تكلم الله بالكلمة فإن الملائكة يغمى عليهم، مع أن منهم جبريل الذي سد الأفق بأجنحته! واقرءوا قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] هذه جاءت تعقيباً على آية الشفاعة: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]. حيث يقول تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سبأ:22] تفضلوا، اسألوهم المال والولد والحياة الطويلة. لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:22]، والذي لا يملك مثقال وزن ذرة هل تقول له: أعطني ولداً، أو زوجني امرأة، أو رقني في وظيفة؟! لا يملك مثقال ذرة، والله! لا يملكون مثقال ذرة، إذاً: ما الفائدة من دعائهم؟ أنلعب؟ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ [سبأ:22]، وليس لآلهتكم من شرك مع الله لا بالخمس ولا بواحد في المائة ولا بواحد في المليون أبداً، لا يوجد إله من آلهة الباطل يملك بالشركة مع الله ولو بواحد من مليار، إذاً: كيف نطلبهم، من أين يعطوننا؟ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22]، هذه أخرى: لا يوجد من الآلهة المزعومة من هو ظهير لله يستعين الله به أو يعتز به أو يساعده أو يقوم معه فيجوز له حينئذ أن يشفع لنا عنده، وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22] من معين كوزير وما إلى ذلك، فكيف ندعوهم إذاً؟ثم قال تعالى: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23].

وقفة مع آيات سورة سبأ العائبة على المشركين دعوتهم آلهتهم

هذه الآيات ينبغي أن نعنى بها، هذه من سورة سبأ بين الأحزاب وفاطر اسمعوها وتأملوا، وفيها يقول تعالى وقوله الحق: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، نحن منهم إن شاء الله، وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ [سبأ:21] ما ساق الناس إلى المقاهي بالعصا، اعلموا أن الشيطان لا يملك قوة يدفعك بها إلى المعصية، والله! ما يستطيع، ما هو إلا الوسوسة والتزيين.ونستطر معاشر المستمعين والمستمعات فنقول: إبليس عليه لعائن الله في جهنم يخطب خطبة عجيبة، ويوضع له أفخم سرادق ما عرفه الملوك والوزراء، ويجلس عليه ويخطب، وخطبته -والله- بالحرف الواحد عندنا، سبحان الله! من أين أتانا هذا؟ اقرءوا من سورة إبراهيم: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ [إبراهيم:22] وانتهى كل شيء ودخلوا النار، وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ [إبراهيم:22]، وهذه الجملة الأولى، وهو والله صادق، إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [إبراهيم:22] لا قدرة ولا طاقة عندي أبداً، لا عصا ولا شهاب، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22] قلت تعالوا فجئتم تهرعون، إذاً: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22]، وأخيراً: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22] فأنا أستغيث وأنتم لا تغيثونني، وتستغيثون وأنا لا أغيثكم، كلنا في هذا العالم الشقي، إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].فهل سمعتم أن خطبة مسجلة لإبليس تستطيع البشرية أن تحضرها وتأتي بها؟ أتصل عقول البشر إلى هذا؟ فقولوا: الحمد لله على كتابه الذي أنزله إلينا. فإبليس يوضع له سرادق في النار وأهل النار بالمليارات يسمعون الخطبة للزعيم اليوم، وقد سمعتموها بالحرف الواحد.وفي هذه السورة الكريمة -سورة سبأ- يقول تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ:20-21].ثم تبدأ آية الشفاعة: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سبأ:22] الله تعالى يأمر رسوله أن يقول للمشركين: يا معشر المشركين! ادعوا واطلبوا واستغيثوا بمن زعمتم أنهم آلهة من دون الله، ادعوهم.ثم قال لهم: لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:22] كيف ندعو من لا يملك شيئاً؟ أمجنون أنا؟ آتي إلى خربة ما فيها إنسان ولا طعام وأصيح عند الباب: يا أهل البيت! أطعموني؟ فهؤلاء الذين دعوهم يقال لهم: اعلموا أنهم لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:22] فيطعونكم.ثالثاً: وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ [سبأ:22]، وليس لآلهتكم شرك في السماوات أو في الأرض ولا واحد من المائة أو المليار، هل يوجد ولي له شرك في الملكوت، له منطقة خاصة به، أو عنده ربع مع الله أو ثمن أو سدس؟ والله! لا وجود لهذا. وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22] وآلهتكم الذين لا يملكون شيئاً لا يوجد إله واحد منهم الله في حاجة إليه اتخذه وزيراً له أو ظهيراً يستنصر به ويعينه، وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22]، إذاً: كيف تدعونهم؟ لو كانوا يملكون لأعطوكم مما يملكون، لو كان منهم الظهراء والوزراء فسيشفعون لكم، فكيف إذاً تدعونهم؟ بأي حق؟ثم ختم هذا بقوله: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ:23] زال ذلك الرعب، قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، الملائكة تضرب بأجنحتها تخفق ثم تفيق بعد فترة لا ندري كم هي، يقول بعضهم لبعض: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ [سبأ:23]؟ أجيبونا، قَالُوا الْحَقَّ [سبأ:23] وهو قطعاً لا يقول إلا الحق، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23].وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-10, 05:00 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (26)
الحلقة (33)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (122)


لما انتشر الإسلام وقويت شوكته صار المسلمون يخشى جانبهم من قبل اليهود والنصارى ممن هم حولهم في الجزيرة، فأراد نفر من المؤمنين إلزام قرابتهم ممن تهود أو تنصر قبل الإسلام بالدخول في الإسلام كرهاً، فأنزل الله عز وجل أمره لهم بعدم إلزام أحد من الكتابيين بالدخول في الإسلام، مبيناً لهم أن الحق واضح وأن الضلال بيّن، وأنه يكفي المؤمنين ولاية الله عز وجل لهم، وافتقار الكافرين إلى هذه الولاية، واستحقاقهم للنار وغضب الجبار.

قراءة في تفسير آية الكرسي من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء يا ربنا ورب العالمين.وها نحن مع هاتين الآيتين الكريمتين من سورة البقرة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:256-257].قبل دراستنا لهاتين الآيتين نقرأ هداية الآية الكريمة التي هي آية الكرسي.

هداية الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية الكريمة:من هداية الآية:أولاً: أنها أعظم آية في كتاب الله تعالى ]، ولا تتردد في هذا، فهي أعظم آية في كتاب الله عز وجل، [ وقد اشتملت على ثمانية عشر اسماً لله تعالى ما بين ظاهر ومضمر ]، آية واحدة اشتملت على ثمانية عشر اسماً من أسماء الله تعالى، بعضها مضمر وبعضها ظاهر، [ وكلماتها خمسون كلمة، وجملها عشر جمل كلها ناطقة بربوبيته تعالى وبألوهيته وبأسمائه وصفاته الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه.ثانياً: تستحب قراءتها بعد الصلاة المكتوبة، وعند النوم، وفي البيوت لطرد الشيطان ].تستحب قراءة آية الكرسي بعد الصلاة المفروضة، وهي الصلوات الخمس، وعند النوم، وفي البيوت، فحين تدخل بيتك اقرأ آية الكرسي فتطرد الشياطين من بيتك، ولن تستطيع بعد قراءتها لطرد الشياطين أن تفتح الفيديو وتشاهد العاهرات يغنين، ما تقوى على هذا، ما تستطيع ما دمت تريد أن تطهر بيتك من الشياطين فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] ترفع صوتك وأنت في بيتك فما يبقى مجال للشياطين أن يدفعوك إلى أن تشاهد عواهر النساء وظلمة الرجال وكفارهم.إذاً: الحمد لله الذي رزقنا هذا النور وجعلنا من أهل آية الكرسي نتلوها دبر الصلوات الخمس، وعند النوم، ونتلوها في البيوت، فالحمد لله.

تفسير قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ...)

والآن مع هاتين الآيتين الكريمتين:قال تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] هذا خبر ومعناه: الإنشاء، أي: لا تكرهوا أحداً على الدخول في الدين، كقوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة:233]، خبر ولكن معناه الإنشاء، أي: على الوالدات أن يرضعن أولادهن، جملة خبرية ومعناها إنشائي.

سبب نزول الآية
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وسبب نزول هذه الآية: أن سكان المدينة النبوية تنصر أو تهود أفراد منهم، فلما دخل آباؤهم وإخوانهم في الإسلام أرادوا أن يكرهوهم بالعصا على أن يدخلوا في الإسلام، وقد أصبحوا يهوداً من فترة أو نصارى، فنزلت هذه الآية الكريمة تقول: لا تكرهوهم على الدخول في الإسلام، إن دخلوا بإراداتهم واختيارهم ورغبتهم فذاك، وإن أبوا إلا اليهودية أو النصرانية فاتركوهم. لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]؛ إذ أنزل الله كتابه ورسوله ونصر دينه وأولياءه وطلعت الشمس واتضح النهار وعرف الحق، إذاً: فما هناك حاجة إلى الإكراه، فالذي يتأمل أصول هذا الدين وفروعه وشرائعه وما يحويه من الهدى والنور يدخل في الإسلام بدون عصا أو كرباج كما يقولون.

خلاف الفقهاء في شمول الآية الكريمة غير أهل الكتاب

وهنا اختلف أهل العلم: هل هذا عام في اليهود والنصارى وفي غيرهم من المشركين؟الجمهو ر على أن هذا خاص بأهل الذمة اليهود والنصارى أهل الكتاب، وقد علمتم يقيناً أنه يوجد يهود أو نصارى في بلاد المسلمين ولا يكرهون على الدخول في الإسلام، ولا يؤمرون بصلاة ولا زكاة ولا غسل من جنابة، ولا يسمح لهم بأن يرابطوا في ثغورنا ولا أن يحملوا السلاح معنا؛ لأنهم كالأموات لا قيمة لهم، ميت وتقول له: صل! أين يذهب بعقلك؟ ميت تقول له: زك، لماذا يزكي؟ نفسه خبيثة منتنة بأوضار الشرك والكفر، ما يزكيها شيء ولو أنفق ماله كله.وأما المشركون الكافرون فالجمهور على أنهم يقاتلون حتى يدخلوا في الإسلام، ومالك رحمه الله يرى أنهم لا يلجئون إلى الدخول في الإسلام بالقوة، وقد يؤخذ برأي مالك في بعض الظروف، وهذا خارج الجزيرة، أما قبة الإسلام وبيضته هذه الديار فلا يجتمع فيها دينان ولا يبقى فيها مشرك ولا كافر، وإليكم نص الآية الكريمة التي يفهم منها هذا: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:1-3]، إذاً: أعطاهم فرصة أربعة أشهر: اذهبوا إلى الشرق إلى الغرب أو ادخلوا في الإسلام، فإذا انقضت الأشهر الأربعة وجب قتالكم، أو تدخلون في الإسلام، إذ قال تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]؛ لأن وفاة الرسول أصبحت على الأبواب قريبة جداً، هذه السورة من آخر ما نزل.إذاً: ولا يموت الرسول صلى الله عليه وسلم وفي دار الإسلام كفر وشرك وكافرون ومشركون، أما خارج الجزيرة فالأمر واسع، فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ [التوبة:5]، أعطاهم مدة أربعة أشهر، يلتحق بالأحباش.. يلتحق بفارس.. يلتحق بالروم، يدخل في الإسلام، أما أن يبقى كافراً في دار الإسلام فلا، ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )؛ لأنها قبة الإسلام وبيضته.

خطوات ومراحل قتال المشركين

إذاً: خلاصة ما عرفنا: أن أهل الذمة من اليهود والنصارى لا نكرههم على الدخول في الإسلام؛ لأن الله تعالى قال في هذه السورة من آخرها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [التوبة:123] لبيك اللهم لبيك. قال: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، هذا أمر الله للمؤمنين، ناداهم ثم أمرهم: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، يلون دياركم وبلادكم، قاتلنا الروم في الشام فتصبح حدودنا أوروبا فندخل إليها. ولهذا مثل: بركة أو بحيرة ماء حين تلقي فيها حجراً تنفتح فيها دائرة وتأخذ في الاتساع حتى تصل إلى أطراف ذلك الحوض أو البركة، فهذا النور الإلهي وهذه الرحمة الربانية لا تحرمها البشرية، ومن أجلهم نزلت لأنهم عبيد الله، فلا يصح أبداً أن نتركهم تعبث بهم الشياطين من عقول هابطة وأفكار فاسدة بالظلم والخبث والشر والفساد، ومصيرهم بعد هذا البلاء والشقاء إلى عالم الخلد في عذاب الله أبداً، فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ما جاءت إلا لإنقاذ البشرية.إذاً: كلما دخل إقليم في الإسلام فحدودنا وراءه، سنعسكر سواء غزونا من طريق البر أو البحر، نعسكر ونراسل أهل الإقليم: تدخلون في الإسلام فتنقذون أنفسكم من الشقاء والبلاء والفتن والهون والدون والظلم والخبث والشر والفساد، وتنقذون أنفسكم من عذاب النار يوم القيامة، فإن قالوا: مرحباً وأهلاً وسهلاً؛ دخل رجالنا ووضعوا محاكم وأخذوا يعلمون ويهدون تلك الأمة، وتمر فترة من الزمن وكلهم أولياء الله، لا كذب.. لا خيانة.. لا خمر.. لا زنا.. لا فجور، كالملائكة.فإن رفضوا نقول لهم: لتسمحوا لنا أن ندخل، نحن نتكلم مع الملك أو الحاكم وجيشه، والأمة المسكينة ما ذنبها، فاسمحوا لنا أن ندخل لتعليم هذه البشرية سبيل نجاتها وسلم كمالها ورقيها، فإن قالوا: لا بأس؛ دخلنا وأخذنا نعلم ونربي ونوجه، ما هي إلا أيام -ولا أقول: أعوام- وإذا بالناس يدخلون في رحمة الله أفواجاً؛ لما يشاهدون من الطهر والصفاء والكمال البشري الذي ما كانوا يحلمون به؛ لأن حاملي هذه الرسالة كالملائكة في صفاء أرواحهم وفي تهذيب نفوسهم وزكاة آدابهم، بالنظر إليهم يجذبونك فتقتدي بهم، ما هي إلا فترة وقد دخلوا في الإسلام.فإن رفضوا فالثالثة: القتال حتى يدخلهم الله في رحمته، فتستقبل الجيوش الجيوش كرة وكرتين ويومين وثلاثة شهر حتى ينهزم الكفر والكافرون ويدخل المؤمنون بصلاتهم بأنوارهم بكلامهم الطيب بعدلهم برحمتهم فيتدفق الناس على الإسلام ويدخلون فيه.فلما غزونا أفريقيا والأندلس والشام والعراق هل هناك من أجبر على الإسلام بالعصا؟ والله! لا أحد أبداً، بل كان ينهزم الجيش الكافر فيدخل المسلمون فيشاهد الناس صلاتهم واستقامتهم وابتساماتهم فيدخلون في رحمة الله، فما لهم الآن لا يدخلون؟ لأنهم ما شاهدوا أنوار الإسلام، لو شاهدوا الطهر والصفاء والرحمة والمودة والإخاء في العالم الإسلامي؛ حيث أمرهم واحد على لا إله إلا الله، وغايتهم واحدة؛ لتدفقوا في بلاد الإسلام ودخلوا في رحمة الله، ولكن -مع الأسف- هم الذين مزقونا وفرقونا وشتتونا وأقعدونا عن الكمال ليحرموا هم أيضاً ويدخلوا جهنم، أيديهم هي التي فعلت بالمسلمين هذا حتى يحرموا من رحمة الله ويعيشوا على الخبث والدمار، وفي النهاية إلى مصير العياذ بالله منه.

الموقف من أهل الكتاب والمشركين والمرتدين

إذاً: فنقول: خلاصة القول: أن الجزيرة لا يبقى فيها دين إلا الإسلام، ومن لم يرد الإسلام فليرحل ولييخرج منها، لا يبقى فيها، وأهل الذمة إذا حكمناهم ودخلوا في ظل راية لا إله إلا الله لا يكرهون على الدخول في الدين أبداً، يبقون على مسيحيتهم أو يهوديتهم حتى يشاء الله رحمتهم ودخولهم في الإسلام، والمشركون هل نواصل قتالهم ولا نقبل لهم ذمة ولا يبقون في ذمتنا؟الجمهور على ذلك، ومالك يقول: نعاملهم معاملة أهل الكتاب. وهذا قد يستفاد منه في ظروف خاصة حيث يعجز المسلمون حين تحدث أحداث فيأخذون بهذه الفتيا. فلا إكراه في الدين، ومن ارتد من المسلمين فإنه يستتاب ثلاثة أيام، يقال له: ترجع إلى دين الله أم لا؟ فإن رفض قتل كافراً ولا يحل بقاؤه بيننا أبداً، لا يقاس على اليهودي والنصراني؛ لأنه أسلم وارتد، إذاً: جزاؤه القتل، ولكن يطلب منه الرجوع والندم والعودة ثلاثة أيام متتالية، يحضر في المحكمة ويبقى هناك محبوساً، فإن أصر على ردته وخروجه من الإسلام وتنصر أو تهود أو تبلشف فإنه يقتل بحكم الله عز وجل وقضائه. لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، الرشد: الهدى والنور بنزول الكتاب وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث تبين الغي وعرف الشرك والجهل والظلم والخبث، اتضح هذا وهذا، فلا معنى إذاً للإكراه على الدين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ...)

ثم قال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ [البقرة:256]، ما الطاغوت هذا؟لفظ الطاغوت والطاغية والطاغي من: طغى الشيء: إذا ارتفع، فالصنم يعبد، ارتفع وطغى وأصبح إلهاً يعبد، والرجل يعبد ويقدسه الناس ويعبدونه حيث ارتفع وطغى، أصبح كالإله إذاً، فلهذا كل ما عبد ويعبد من دون الله سمه طاغوتاً من الطغيان، وهو الارتفاع والتكبر والعلو، إذاً: كل ما عبد من دون الله من سائر الألهة والأهواء هو طاغوت.إذاً: عباد الله، أيها الناس! اعلموا أن من يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فيقول: لا إله ثم يقول: إلا الله، يقول: (لا إله حق) فيحطم كل الآلهة الباطلة، ثم يقول: (إلا الله)، كفر بالطاغوت ثم آمن بالله؛ ولهذا يقول الحكماء: التخلية تجب قبل التحلية، أنت عليك أوساخ في بدنك من عملك، فلا تأتي وتلبس ثيابك الجميلة وتتضمخ بالطيب وعليك الأوساخ، خطأ هذا ما ينفعك، أولاً: اغسل بدنك بالماء والسدر والصابون، وحين يطهر جسمك وينظف البس الثياب النظيفة وتطيب بالطيب، أما وعليك أوساخ وتلبس فما ينفع.إذاً: تخل أولاً عن الأوساخ والأدناس وتطيب بعد ذلك بالطيب، أولاً: اكفر بكل الآلهة الباطلة وقل: (لا إله) أعترف به أبداً، ثم قل: (إلا الله) فذلك إلهي الحق الذي أذل له وأخضع وأعبده بما أمرني أن أعبد، هذا معنى: التخلية قبل التحلية، تخل عن المسكرات وبعد ذلك خذ الأوراد والأذكار، أما وأنت قائم على المعاصي وتقول: أعطوني ورداً أذكر الله به فما ينفع، فالتخلية قبل التحلية؛ لأن الله تعالى قال وقوله الحق: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ [البقرة:256] أولاً وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ [البقرة:256] ثانياً؛ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، والعروة معروفة، واستمسك بها: أمسكها، فلن يسقط أبداً في النار.

ذكر رؤيا عبد الله بن سلام في استمساكه بالعروة الوثقى

هذه الآية يفسرها ما روي: أن عبد الله بن سلام حبر اليهود رضي الله عنه وأرضاه رأى رؤيا منامية وأخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ففسر له النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه، ماذا رأى؟ رأى أنه تحت دوحة خضراء، وهذه الدوحة الخضراء في وسطها عمود إلى السماء مرتفع، وفي رأسه عروة، وعبد الله بن سلام متمسك بتلك العروة، ففسر له النبي صلى الله عليه وسلم بأن تلك الدوحة الإسلام، والعروة: لا إله إلا الله، فأنت مبشر بالجنة، فأصبح أهل المدينة إذا مروا بـابن سلام يقولون: هذا من أهل الجنة ولا يشكون.إذاً: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] التي لا تنحل ولا تسقط يا عبد الله منها، لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ [البقرة:256] لأقوال عباده، عَلِيمٌ [البقرة:256] بأحوالهم وأمورهم، فليخش وليتق، ولنؤمن بهداية الله لمن شاء هدايته، وإضلال الله لمن شاء إضلاله لواسع علمه وقدرته ولسمعه لكل أشياء الكون، فلا يخفى عليه شيء.

ذكر بعض ما اشتملت عليه الآية الكريمة من الأحكام

هذه الآية الأولى عرفنا منها أنه لا يكره أحد على أن يدخل في الإسلام، يؤمر ويوجه وينصح ويدعى، أما ان تخرج المسدس وتقول: قل: لا إله إلا الله وإلا فسأقتلك؛ فهذا لا يجوز أبداً.وأما أهل الديار المشركة التي ليست ديار أهل كتاب فالجمهور على أنهم يدعون إلى الدخول في الإسلام أو يقاتلون حتى يسلموا. وهل عرفتم ما الطاغوت؟ مأخوذ من الطغيان، أما قال تعالى: لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11]؟ أي: ارتفع، فكل ما عبده الخلق من دون الله يقال فيه: طاغوت، والذي يعبد ورضي بأن يعبدوه هو طاغوت، إلا إذا أنكر عليهم ولم يقبل منهم ذلك.إذاً: من يكفر بالطاغوت أولاً فيقول: لا أؤمن بغير الله، لا أعترف بمعبود سوى الله، لا أقر أبداً أحداً على عبادة غير الله، هذا أولاً، ثم يعبد الله، أما أن يقول: أنا لا أعترف بعبادة كائن من كان إلا الله ثم لا يعبد الله؛ فما تمسك بالعروة، ما وصل إليها حتى يحقق معنى: لا إله إلا الله، لا بد أن ينفي وجود إله مع الله يعبد معه، ويعبد الله عز وجل، ولو قال: لا إله إلا الله ولم يعبد الله فهل تنفعه هذه الكلمة؟ ما تنفعه، هو كاذب كاذب كاذب.إذاً: التخلية قبل التحلية، تبرأ من كل معبود سوى الله، لا تعترف بعبادة كائن من كان إلا الله عز وجل فاعبده.

تفسير قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ...)

ثم قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257] الله جل جلاله ولي الذين آمنوا، الذين آمنوا بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، آمنوا بلقاء الله والوقوف بين يديه للاستنطاق والاستجواب والحساب والجزاء، آمنوا بوحيه وشرعه، هؤلاء المؤمنون الله وليهم، والولاية تتحقق بشيئين: الإيمان والتقوى، وهنا ما ذكرت التقوى؛ لأنها لازمت الإيمان، والله! ما آمن عبد حق الإيمان إلا اتقى الله عز وجل، لا تتصور أن عبداً عرف الله وآمن بجلاله وكماله ثم يعيش على معصيته وعبادة غيره.
أركان الولاية
آية سورة يونس عليه السلام بينت أن ولاية الله تتحقق لمن طلبها بالإيمان والتقوى، أي: بالإيمان والعمل الصالح واجتناب الشرك والمعاصي، إذ الآية هي قوله تعالى من سورة يونس عليه السلام: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يقول: من هم يا رب أولياؤك؟ فأجاب قائلاً: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الحياة الدنيا بالرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له، إما يراها هو قبل أن يموت أو يراها عبد آخر ويقول: رأيت لك كذا وكذا، أما البشرى التي وهو على سرير الموت فهذه البشرى في الآخرة، إذا كان الولي في سكرات الموت وأصبح لا يقوى على أن يخبر ويتكلم بما يشاهد فإنه يأتي الوفد الكريم مع ملك الموت، واسمع كلماتهم بالحرف الواحد: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] أي: قالوا: لا إله إلا الله وعبدوا الله، آمنوا وأطاعوا، قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] على دين الله لا اعوجاج ولا انحراف، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30]، بماذا؟ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32]، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، الله اجعلنا منهم.من هؤلاء؟ هل هم بنو هاشم .. بنو تميم .. البيض .. السود؟ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، والاستقامة هي أداء الواجبات والتخلي عن المحرمات، وامش في طريقك إلى دار السلام، وسر هذا معلوم، لأن العبادات تزكي النفوس وتطهرها، والبعد عن مدسيات النفس من الشرك والذنوب والمعاصي يبقي ذلك الصفاء وذلك الطهر للروح البشرية، فإذا جاءت الملائكة تقبضها تجدها طاهرة كأرواحهم، فيعرجون بها إلى الملكوت الأعلى وتفتح لها أبواب السماء، أما إذا كانت مظلمة منتنة متعفنة كأرواح الكافرين والشياطين فهذه الأرواح مستحيل أن تدخل الجنة، واقرءوا آية سورة الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، من يدخل البعير في عين الإبرة؟ مستحيل، كذلك مستحيل على أصحاب الأرواح الخبيثة أن يدخلوا دار السلام الطاهرة، هذا حكم الله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

الولاية والفلاح في زكاة النفس والخسران في تدسيتها

وصدر حكم الله على الإنس والجن بأن من زكى نفسه بالإيمان والعمل الصالح دخل الجنة، ومن أخبثها بالشرك والمعاصي دخل النار، فقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، هذا حكم الله أقسم عليه بأعظم إقسام في كتابه: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، كل هذه يمين لله تعالى؛ لعظم هذا الحكم، والبشرية عمياء تقودها الشياطين إلى المصير المحتوم، إلى جهنم، إلى عالم الشقاء، وقد صدر حكم الله: قَدْ أَفْلَحَ [الشمس:9] فاز بالنجاة من النار ودخول الجنة من زكى نفسه من أبيض أو أسود، في الأولين أو الآخرين؟ زكاها وطيبها وطهرها بمواد خاصة ألا وهي الإيمان والعمل الصالح، وقد خاب وخسر خسراناً أبدياً من دساها، أفرغ عليها أطنان الذنوب والآثام، حتى أصبحت منتنة عفنة كأرواح الشياطين، والله! لا تفتح لها أبواب السماء، يعرجون بها في موكب يناسبها فيستأذنون فلا يؤذن لهم، فيعودون بها إلى القبر ثم إلى المصير المحتوم في الدركات السفلى من الكون في سجين، فكيف لا تعرف البشرية هذا الحكم وقد صدر عليها؟ لأنهم كفروا بالله وكتابه ورسوله.يقول تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257] يخرجهم من ظلمات الكفر والشرك والجهل إلى نور الإيمان والعلم والمعرفة، أيما مؤمن آمن بصدق واتقى الله عز وجل أصبح عالماً ربانياً. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ [البقرة:257] من الشكوك والأوهام والهواجس والخواطر السيئة والمسالك المنتنة والفكر الهابط، كل هذه يخرجهم منها إلى نور اليقين، نور العلم.

معنى قوله تعالى: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ...)

وفي الجانب الآخر قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:257] بمعنى: غطوا وجحدوا، جحدوا عبادة الله فما اعترفوا بها، جحدوا رسالات الله، هؤلاء الكافرون الجاحدون من أولياؤهم؟الطاغو ت، والطاغوت هنا هو الأكبر وهو الشيطان، الشيطان هو أعظم طاغوت؛ لأنه هو الذي عبد من دون الله عبادة حقيقية، إذ كل من عبد كوكباً.. شجراً.. حجراً.. فرجاً هو في الحقيقة عابد للشيطان، إذ الشيطان هو الذي سول ذلك وحسنه ودفعه إليه، أما هذا الذي عبد عبد القادر فهل قال له: اعبدوني؟ والذي قال: هذه شاة سيدي عبد القادر هل الشيخ عبد القادر أمرهم بهذا؟ من أمر بهذا؟ الشيطان هو الذي عُبد. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257] من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر، من نور العلم إلى ظلمات الجهل؛ لأن الكافر أجهل الخلق، لو كان يعلم لعرف من خلقه، ومن دبر حياته، ومن قاده ويقوده إلى مصيره.والخاتم الأخير: أُوْلَئِكَ [البقرة:257] البعداء، أولئك أولياء الطاغوت أهل الكفر والشرك والجهل أَصْحَابُ النَّارِ [البقرة:257] لا يفارقونها ولا تفارقهم أبداً، وصاحبك هو الذي يلازمك أم لا؟ فمن أصحاب النار الذين لا تفارقهم ولا يفارقونها؟ أهل الشرك والكفر والعياذ بالله، أولياء الشيطان. أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ [البقرة:257] لا سواهم فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257]، والله! لا نهاية أبداً، خلود أبدي.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

هاتان الآيتان لهما هدايتهما، فتأملوا:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيتين:من هداية الآيتين:أولاً: لا يكره أهل الكتابين ومن في حكمهم كالمجوس والصابئة ]، لا يكرهون [ على الدخول في الإسلام إلا باختيارهم، وتقبل منهم الجزية ويقرون على دينهم.ثانياً: الإسلام كله رشد وما عداه ] كله [ ضلال ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ [البقرة:256] وطلعت شموسه بالكتاب والنبي المرسل والشريعة القائمة، تبين الرشد من الغي، فالإسلام كله رشد، وما عدا الإسلام ضلال من يهودية أو نصرانية أو بوذية أو صابئة، قل ما شئت من الملل الهابطة، فكله -والله- ضلال لا رشد فيه؛ لأنه لا يزكي النفس ولا يعد صاحبه للجنة؛ لأنه لا يطهر الأرواح والقلوب والعقول أبداً، فالكفار هابطون كالحيوانات.[ ثالثاً: التخلي عن الرذائل مقدم على التحلي بالفضائل. [ رابعاً: معنى لا إله إلا الله وهي الإيمان بالله والكفر بالطاغوت ]، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، هذا معنى لا إله إلا الله.رابعاً: ولاية الله تعالى تنال ] بماذا؟ هل بالحسب والنسب.. بالبطولات.. بالشجاعات؟ تنال ولاية الله بشيئين: [ بالإيمان والتقوى ].ما هي التقوى يا أبناء الإسلام ورجالاته؟ التقوى: فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، بذلك نتقي غضب الله أولاً ثم عذابه ثانياً، ما هناك حصون ولا أسوار ولا جيوش نتقي بها عذاب الله أبداً، ما يتقى إلا بطاعته.هل يستطيع من تحت السماء أن يتقي الله وهو لا يعرف ما أمر الله به ولا نهى عنه؟ مستحيل، لا يمكنك يا عاقل أن تتقي الله إلا إذا عرفت بم تتقيه.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-11, 05:13 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (27)
الحلقة (34)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (123)


إن من آمن بالله عز وجل واتقاه، وجاء إلى ما أمره به سبحانه فأتاه مخلصاً لله فيه، وجاء لما نهى عنه سبحانه فاجتنبه وتوقاه ابتغاء وجهه سبحانه، فإنه مستحق لمحبة الله تعالى، جدير بولايته سبحانه، ومن تولاه الله أيده ونصره وأدخله جنته، وأما من كفر بالله وأعرض عن داعيه، وارتكب المعاصي والمنكرات، فإنه مستحق لولاية الطواغيت؛ إبليس وأعوانه وأتباعه، جدير به ان يحشر معهم، ويتشارك معهم منازلهم في النار.

تابع تفسير قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا المطلوب يا رب العالمين.والآية التي أجملنا القول فيها ولم نفصله هي قول الله عز وجل: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257].

ولاية الله تعالى للمؤمنين

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257] من وليكم يا عباد الله؟ الله هو الذي يتولى أمركم، هو الذي يسددكم، هو الذي يخرجكم من ظلمات الجهل وظلمات الفسق والشرك والكفر إلى أنوار الإيمان والعمل الصالح. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257] بخلاف غيرهم فوليهم الشيطان، وهكذا تقرر ما علمناه من قبل أن البشرية إما أن يوالوا الله ربهم ويواليهم مولاهم، وإما أن يوالوا الشيطان ويواليهم الشيطان عدوهم، ما هناك وسط.

الإيمان والتقوى طريق تحقيق الولاية

وولاية الله عز وجل تتحقق بأمرين، من أراد أن يكون ولياً لله فليحقق أمرين اثنين، فإذا حققهما ثبتت له ولاية الله، وهذان الأمران هما: الإيمان والتقوى، فهل هناك من رغبة في معرفتهما؟ إي والله، ما منا أحد إلا ويريد أن يكون ولياً لله، فالأمران هما: الإيمان والتقوى، الإيمان بالله وبما أمر الله أن نؤمن به من الغيب والشهادة، والإيمان حقيقته: التصديق الجازم الخالي من الغيب والشك بأن الله هو رب العالمين وإله الأولين والآخرين، ونؤمن بلقائه وهو يوم القيامة أو اليوم الآخر، ونؤمن بما أمرنا أن نؤمن به من ملائكته وكتبه ورسله وقضائه وقدره؛ ولهذا أركان الإيمان التي ينبني عليها ستة جاءت في القرآن الكريم في البقرة وغيرها، إلا الركن السادس -وهو القضاء والقدر- فجاء في سورة القمر، إذ قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].وقد عرفنا القدر، فالقدر كتبه الله في كتاب يسمى كتاب المقادير، كتب فيه كل ما أراد أن يخلق ويوجد من ذرات الحياة والدار الآخرة وهو مكتوب، ويسمى باللوح المحفوظ، فوالله الذي لا إله غيره! لا يحدث حدث في السماوات ولا في الأرض إلا وقد سبق أن كتبه الله، ويستحيل أن يوجد حادث غير موجود في كتاب المقادير، هذا مظهر من مظاهر عظمة الله وقدرته، هذا الله رب العالمين، من آمن به وصدق في إيمانه اتقاه، ولا تستطيع أن تأتينا بإنسان أو جني عاقل ويؤمن بالله ولا يتقي عذابه ولا سخطه؛ فلهذا ما ذكر هنا التقوى مع الإيمان، لا يعقل أبداً أن شخصاً يؤمن بالله ويعرف أن مصيره إليه، وأن حياته بين يديه، وأنه مولاه وسيده، وأنه يحبه، ثم يتمرد عليه ويفسق عن أمره ويعصيه، كل من آمن بالله حق الإيمان وجد نفسه مضطراً إلى تقواه. وأضرب مثلاً للعامة: إذا تحققت يا عبد الله أن هذه القارورة أو هذا الكأس فيه سم قاتل، فهل ستقدم على شربه؟ ستتقيه، لو علمت أن لصاً يحمل سلاحاً يريدك وأيقنت، فهل ترضى بأن تواجهه، أو تمشي وراءه، أو تظهر له؟ الجواب: لا. فمن عرف الله عز وجل معرفة الحب والولاء فإنه يستحيل أن يخرج عن طاعته، ومن عرف قدرة الله وعظمته خاف منه ورهبه، ولا يستطيع أن يعصيه ويخرج عن طاعته؛ إذ التقوى لله عز وجل بها يتحقق الإيمان، فلا وجود لمؤمن غير تقي.والآية المبينة لهذه الحقيقة آية سورة يونس، وهي قول ربنا تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، ذكر صفتين هما الإيمان والتقوى، والكافر لن يكون لله ولياً، هذا وليه الشيطان، ولا يوجد مؤمن حق الإيمان يفجر أبداً. إذاً: وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، يتقون ماذا؟ غضب ربهم وسخطه، لا يرضون أن يغضب الجبار عليهم أو يسخط، يتقون عذابه ونكاله في الدنيا والآخرة، هؤلاء هم أولياء الله.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
بشرى المتقين من أولياء الله تعالى

لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64] أيضاً، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الحياة الدنيا: بأنها الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له، إما أن يراه هو بنفسها، أي: يريه الله عز وجل في منامه ما يبشر به من أنه من أولياء الله، أو يراها عبد صالح ويقصها عليه: لقد رأيتك يا فلان في كذا وكذا.وبين الآخرة والدنيا بشرى عظمى وهي عند سكرات الموت، المريض على سرير الموت كما يقولون وقد انقطعت صلته بالحياة فما أصبح يكلم عواده ولا جيرانه ولا أولاده، انقطع، ثم تنزل الملائكة تحمل البشرى، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، هذا هو الإيمان والتقوى، فالذي قال: ربي الله آمن واستقام واتقى الله فما فجر ولا فسق عن أمره ونهيه، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] بماذا؟ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]. اللهم اجعلنا منهم. هذه عند سكرات الموت، وحسب تلك الروح الطاهرة أن يزفها الملكوت الأعلى وفد من الملائكة الأطهار وتفتح لها أبواب السماء وتصل إلى أن تخر تحت العرش ساجدة، ويسجل اسمها في ديوان عظيم هو عليون: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18]، ومن هم الأبرار؟ المؤمنون المتقون الصادقون في تقواهم لله أولئك الأبرار. ثم يعاد بها إلى القبر إلى حيث الجثة وإن تمزقت وتلاشت، وتستقر فيها الروح ويجري امتحان، وثم تبشر بدار السلام ويكشف لها عن مجلسها وعن مقامها في الجنة وتشاهده في القبر، ثم يرجع بها لتعيش في الملكوت الأعلى بقية هذه الحياة إلى أن تنتهي، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64].إذاً: الإيمان والتقوى، الإيمان عرفناه فصدقنا بوجود الله وألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته وجلاله وعظمته، حتى أوجد لنا هذا خوفاً في نفوسنا منه وحباً في قلوبنا له.

كيفية التقوى وبيان أن العلم وسيلة تحصيلها

وكيف نتقي؟ هنا تأملوا أيها السامعون وأيتها السامعات ولا تتألموا، اعلموا أنه لا يتأتى لإنسان أن يتقي الله قبل أن يعلم فيم يتقيه، لا يمكنك يا ابن الإسلام أن تتقي الله وأنت لا تعرف في أي شيء تتقيه؟ وبم تتقيه؟ نتقي الله عز وجل بفعل ما يحب وترك ما يكره، والذي لا يعرف محاب الله ولا مكارهه فقولوا لي: كيف يتقي الله؟ بماذا؟ فالذي لا يعرف محاب الله من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات والذوات كيف يحبها وهو ما عرفها؟ والذي ما عرف مكاره الله ومساخطه تعالى من المعتقدات الفاسدة والأقوال الباطلة والأفعال السيئة الفاسدة والصفات الذميمة كيف يتقي الله؟والآن وقفنا عند العقبة الكئود، فماذا نصنع؟ أعلموا الشرق والغرب أنه والله! لا تتم تقوى إنسان ذكر أو أنثى وتتحقق إلا إذا عرف أولاً ما يحب ربه ليفعله ويقدمه له، وعرف ما يكره ربه حتى يتجنبه ويتركه؛ ولهذا فأين ولاية الله؟ لو كنا أولياء الله فهل سيسلط الله علينا اليهود ليهينونا ويذلونا، هل سيسلط علينا الكفار والمشركين فنهون ونذل؟ أين الولاية؟ هل الله يهين أولياءه؟ حاشاه، ما هو السبب إذاً؟ لقد جهلونا، فما علمونا ما هي محاب الله لنفعلها طلباً لحبه ومرضاته، وما هي مساخط الله من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات والذوات حتى نتجنبها ونبتعد عنها فتتم لنا ولاية الله، فهل أنتم شاعرون بما أشعر به أم لا؟ لا يمكنك أن تكون ولي الله إلا إذا عرفت ما يحب وما يكره وفعلت المحبوب في قدرتك وطاقتك وابتعدت عن المكروه الذي يكرهه، والجاهل ما يعرف ما يحب الله حتى الكلمة، فكيف يتقرب إليه، ما يعرف ما يكره الله فينغمس فيه ويعمله وهو لا يدري، فما المخرج يا أبناء الإسلام؟العلم العلم، نعم والله! لهو العلم، وهذا المبين الكريم صلى الله عليه وسلم المبين للناس يقول: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، والله يخفف وييسر ويقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فنحن لا نطلب العلم ولا نسأل العلماء، ومنا من يسخر من العلماء ويستهزئ بهم.

المسجد موطن العلم المحصل للتقوى

كيف نحصل على العلم؟لا تقل: يا شيخ! أنت ما تدري، أصغر بلد في العالم الإسلامي فيه آلاف المدارس، بل فيه الجامعات والكليات. فأقول: لكن هذا ما يكفي، ولا يداوي جراحاتنا ولا يشفينا، لم؟ لأننا ما بنيناها وجمعنا أبناءنا عليها من أجل أن يعرفوا الله ومحابه ومكارهه، ما بنيت لله، وما طلب العلم فيها في الجملة لله؛ ولهذا ما لاحت الأنوار ولا تجلت في أي بلد ولا في أي قرية من قرى الإسلام، فما هو المخرج؟الجواب وبلغوا إن أهلكم الله للبلاغ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج )، رحل جابر بن عبد الله على ناقته إلى حمص بالشام من أجل حديث واحد. فالطريق -معشر المستمعين والمستمعات- هو ما قررناه سنة وزيادة: أهل القرية الإسلامية عرباً كانوا أو عجماً يتعاهدون أنهم إذا مالت الشمس إلى الغروب ودقت الساعة السادسة يحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم إلى الجامع، ويوسعونه حتى يتسع لهم، وليس شرطاً بالحديد والإسمنت، بل بالخشب والحطب، ويجلسون بعد صلاة المغرب جلوسنا هذا، ويجلس لهم عالم مرب فيتعلمون ليلة آية من كتاب الله يحفظونها وتشرح لهم وتفسر وتبين، فيفهمون مراد الله منها، وإن كانت تحمل عقيدة عقدوها لا تنحل من قلوبهم إلى أن يلقوا ربهم، وإذا كانت تحمل أدباً تأدبوا به على الفور، أو خلقاً تخلقوا به، أو تحمل أمراً نهضوا به، أو تحمل نهياً انتهوا وابتعدوا عنه، أو تدعو إلى معرفة عرفوا، ويعودون مطمئنين بأطفالهم ونسائهم مستبشرين خيراً؛ لأنهم كانوا أين؟ في مسجد ربهم، كانوا في بيت ربهم، يعودون مستبشرين يسأل بعضهم بعضاً: أنا نسيت الآية فذكرني بها، أنا نسيت معنى قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14] فاشرحه لي يا أبتاه، يتحدثون بتلك الرحمة حتى يناموا، ثم يأتون من الغد فيجلسون بعد صلاة المغرب فيصلون المغرب كما صليناها ويجلس لهم العالم المربي كي يعلمهم حديثاً فقط من أحاديث الحبيب صلى الله عليه وسلم، وليكن موافقاً لتلك الآية أمس يؤدي معناها يفسرها ويشرح ما فيها، فيتغنون به ربع ساعة وثلث ساعة، فيحفظوا حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، النساء كالأطفال كالفحول حفظوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، ويشرح لهم المربي: أن المراد من هذا كذا وكذا، إذاً: هيا نطبق هذا الحديث، إن أمرنا بخير فعلناه، وإن نهانا عن شر تركناه، وإن أمرنا بأدب تأدبنا به، أو بخلق تخلقنا به، ويصلون العشاء ويعودون وكلهم ألسن ذاكرة وقلوب شاكرة، هموم الدنيا وأوضارها اختفت عن وجوههم، فما يشاهدونها، يدخلون بيوتهم فيطعمون ما يسر الله طعامه وهم يتساءلون: حديث الليلة عظيم، أنت يا أختي هل تحفظينه؟ قالت: نعم، قال: أسمعينيه، فأسمعته، قال الأب: أبنائي! أنتم على علم بما في هذا الحديث، وهكذا من الغد، وأعمالهم الدنيوية من صلاة الصبح إلى الساعة السادسة مساء ما عدا ربع ساعة للظهر وربع ساعة للعصر، فحولوا التراب إلى جنات.وبين المغرب والعشاء لا تجد رجلاً ولا امرأة ولا طفلاً في الشوارع ولا في الأزقة ولا الحارات، الكل في بيت ربهم يستمطرون رحماته، تمضي عليهم سنة فتتحقق لهم ولاية الله ويصبحون قطعاً أولياء الله، لو رفعوا أكفهم يسألون ربهم أن يزيل الجبل لأزاله، ولا يقدر إنسي ولا جني أن يقربهم أو يزلزل التراب تحت أقدامهم؛ لأنهم أولياء الله، وأهل المدن التي خمت وتعفنت ما نستطيع أن نصفهم.فخطيب أهل الحي من المدينة يقول يوم الجمعة: إخواني! إن البلاء عظم والكرب اشتد ونحن لا ندري مصيرنا، وقد حصل الذي حصل فتحولت بيوتنا إلى صور العواهر وسماع الباطل والشر وألوان الكفار، ونسينا ذكر الله، هيا نرجع إلى الله عز وجل، فمن الليلة لا يتخلف منكم يا أبنائي وآبائي رجل ولا طفل ولا امرأة، الكل يأتون بيت الله، والمرأة إذا كانت حائضاً فإنها تجلس وراء الجدار ونرفع إليها صوتنا بمكبر صوت، ويتعلمون ليلة آية وليلة حديثاً وهم يعلمون ويعملون، ففي أربعين يوماً فقط ستتحقق لهم ولاية الله.سلني عن هذه المدينة والقرية بعد سنة: ما هي نسبة الزنا فيها؟ لا وجود له، ما هي نسبة الخيانة والسرقة؟ والله! لا وجود لهما، فالذي جلس بين يدي ربه يتعلم الكتاب والحكمة ويزكي نفسه عاماً كاملاً وقد عرف وكشف له كل شيء هل يفجر ويخرج عن طاعة الله؟ أنى له ذلك، ما يتأتى له ولا يريده، وهل يبقى حسد؟ هل يبقى بغض؟ هل يبقى كبر وتعال؟ هل يبقى نزاع وصراع على أوساخ الدنيا وأوضارها؟ الجواب: لا؛ لأنهم أولياء الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا في الدنيا ولا في القبر ولا في الآخرة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

سهولة تلقي العلم النافع في المساجد دون تعطيل الأعمال الدنيوية

والآن ماذا يكلفهم هذا؟ هل عطلوا مصانعهم.. أوقفوا مزارعهم.. عطلوا وظائفهم؟ الجواب: لا، نحن لسنا كاليهود والنصارى، نحن إذا فرغنا من صلاة الصبح أقبلنا على أعمالنا، ما عندنا ساعة سابعة ولا ثامنة ولا عاشرة، ميزاننا أن نصلي الصبح وننطلق نعبد الله، نعبد الله في المزرعة، نعبد الله في المصنع، إذ كل حركاتنا وسكناتنا هي لله، لا تظن أنني إذا صنعت وأخرجت الصناعة وبعتها أني عملت لغير الله، إذ حياتنا موقوفة كلها على الله، وقف على الله، اقرءوا قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، المسحاة بيده وهو يذكر الله، ويضرب الأرض من أجل الله ليعيش أو يعيل امرأة وأولاداً صغاراً كلفه الله بذلك، كناس يكنس في الشارع وينظفه وتعطيه البلدية قدراً من المال هو كناس لله، نمر برجل يبني بيته لله، ما عندنا غير الله، وآخر يهدم بيتاً آخر، لم؟ لله، أمره بهدمه للضرر الذي فيه، فالله أكبر، هذا هو الإيمان، وهؤلاء هم المؤمنون.فمن منعنا أن نكون هكذا؟ منعنا أعداء الإسلام وخصومه، وتعاونوا مع شياطين الإنس والجن فصرفوا هذه الأمة عن طريق سعادتها وكمالها؛ لتذل وتهون، وتصبح تعيش أسوأ الأحوال، ثم يكتبون ضد هذا الكلام في الصحف ويقولون: هذه خيالات وأوهام.فهيا نستعمل عقولنا: إذا أوقف أهل القرية أو المدينة العمل عند الساعة السادسة عند غروب الشمس فما الذي توقف من أعمالهم؟لا شيء، حملوا أطفالهم ونساءهم وذهبوا إلى بيت ربهم، أي عز أكثر من هذا العز، وأية كرامة أعظم؟ واليهود والنصارى يذهبون إلى دور السينما ودور المراقص واللهو والباطل والعبث، ومناظر السوء، وشرب الخمر والسموم، فهؤلاء ما نتكلم عنهم ولا نقول: هؤلاء خياليون! والذين يذهبون إلى بيت الطهر والصفاء يجلسون بين يدي ربهم يمطرهم برحماته، يتعلمون الكتاب والحكمة، نقول عن فعلهم: هذا خيال! فما الذي يكلفهم؟

جيل الصحابة أنموذج التربية المسجدية

فلا طريق ولا سبيل إلى عودة كمالنا وعليائنا في الملكوت الأعلى إلا من هذا الطريق، إذ هو الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأولادهم وأحفادهم، من هذا المسجد تخرّج رجال لم تحلم الدنيا بمثلهم عدلاً، كرماً، شجاعة، طهراً، صفاءً، يضرب بهم المثل، أين درسوا؟ في جامعات بريطانيا؟أكثرهم لا يكتب ولا يقرأ، وإنما امتثلوا قوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7]، كان أبو القاسم يجلس لهم بأمر الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، فتعلموا، فهذا هو الطريق، لو أن عالماً أخذ هذه الحقيقة وانتقل إلى قرية من القرى وطلب من أهلها بلطف أن يجلسوا؛ ليتعلموا شيئاً فشيئاً، وصبر على دعوتهم؛ فأنوار العلم ستتجلى فيهم، بعد سنة كاملة سيقال: القرية الفلانية أصبحت كتلة من نور، لم تر فيها رجلاً ولا امرأة بعد المغرب في الشارع أبداً، الكل في بيت الله، وما أصبحت تسمع صوت عاهرة تتكلم في تلفاز ولا راديو، والله! لنذهبن لزيارتهم نتبرك بوجودنا بينهم ساعة، ونشاهد أنوار الحقيقة كما هي تلوح.

دعوة إلى إقامة الحلقة التعليمية التربوية في البيوت

قد تقولون: الحكومات ما تسمع لنا والأحزاب تناهضنا؟ فأقول: إذا صليت المغرب عد إلى بيتك واجمع أطفالك الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة وأمك إن كانت إلى جنبك أو أباك واجلس بينهم وتغنّ معهم بآية أو حديث وعلمهم مراد الله منه، وقل لهم: هيا نعمل! هيا نطبق! وصلوا العشاء، واسألهم بعد صلاة العشاء وتناول العشاء: ماذا تعلمنا اليوم؟فسيقول أحمد في عمر سبع سنين: تعلمنا الآية من سورة الأعراف. ما هذه الآية؟ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54].فقل: يا زليخا! ما معنى (ربنا)؟ خالقنا ورازقنا ومدبر الحياة، هذا ربنا. ماذا يجب لربنا يا عمر؟ يجب علينا أن نحبه بقلوبنا فنطيعه إذا أمرنا، فإذا قال: اسكتوا سكتنا، وإذا قال: صوموا غداً صمنا.وليلة بعد ليلة وإذا بذلك البيت تلوح أنواره وتطيب نفوس أهله ويتعلمون، وتطرد الشياطين من حولكم ولن تطلبكم بعد ذلك، أفسدتم عليها خططها، وأبعدتم عنها مسالكها، لو فعل أهل كل بيت هذا لانتهينا، يخرجون من البيوت كأنهم ملائكة؛ لا ظلم لا كبر لا حسد لا غش، ولكن رحمة وتطامن وتواضع وتعاون، وهل يتم هذا؟ إي ورب الكعبة، لم لا يتم؟ أليست سنن الله لا تتخلف؟ أما قال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62]، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43]، أليس الطعام يشبع؟ والماء يروي؟ والنار تحرق؟ والحديد يقطع؟ هل تبدلت هذه السنن؟ لم تتبدل، إذاً: فالكتاب والحكمة من شأنهما أن يوجدا الربانية في قلوب البشر. وبعد هذا ما عندنا مطلب، أبيتم المساجد فقلنا: البيوت، كل مؤمن في بيته، وسوف يتسرب النور والهداية، في سنة واحدة تشعر في القرية أو المدينة أن أهلها تغيروا، كان صاحب دكان يبيع الشيشة والحشيشة فأغلقه بسبب هذا، كان فلان يصيح ويشتم ويسب في الشارع فانتهى وما سمعنا باطلاً أبداً، كان الأولاد يقولون البذاء ويلفظون بالسوء وهم يلعبون، فأصبحت كلماتهم كلها طيبة، ما الذي حصل؟عرفنا سر هذه الحياة الطيبة الطاهرة، لقد تحققت الولاية: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، ظلمات الشرك والكفر والفسق والفجور والجهل، إلى أين؟ إلى أنوار الإيمان والعلم واليقين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

عاقبة الكفرة أولياء الطاغوت

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ [البقرة:257] من؟ الطَّاغُوتُ [البقرة:257] إبليس أبو مرة وأعوانه ورجاله وأتباعه، وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت. يُخْرِجُونَهُمْ [البقرة:257] من أين؟ مِنَ النُّورِ [البقرة:257] نور الفطرة إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، وأخيراً يأتي الختم الأخير: أُوْلَئِكَ [البقرة:257] البعداء أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257].وقد جاءنا كتاب من فرنسا فيه أن طالب علم يقول لهم: هذه الآية دليل على أن الكفار يخرجون من النار! فسألوني قالوا: رد عليه؛ لأن الله ما قال: خالدين فيها أبداً، قال: أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257]، فمعناه: أنهم يخرجون! فقلنا لهم: هذه الآية مطلقة وجاءت آيات مقيدة، ويحمل المطلق على المقيد، آيات فيها كلمة (أبداً). وهل تعرفون عن النار شيئاً؟ من خلقها؟ الله. من أوجد مادتها؟ الله.اخرج في الساعة العاشرة نهاراً من بيتك وارفع رأسك إلى السماء وشاهد الشمس، هذا الكوكب الملتهب إذا دنا في أوقات معينة ترتفع الحرارة إلى أربعين وإلى خمسين، هذا الكوكب كله نار، وهو أكبر من الأرض هذه بما فيها من بحارها وأوديتها وجبالها بمليون ونصف مليون مرة، لو أخذنا البشرية كلها ورميناها فيها ما سدت زاوية منها ولا ملأتها، أبعد هذا تسألني عن النار ما هي؟ ادخل أصبعك فقط في جمرة أو في نار لتشعر بالنار، من خلقها؟ أمك أم أبوك أم عمك؟ من أوجدها؟ أما سمعت عنها شيئاً؟ هذا كتاب الله يفصّل لك القول تفصيلاً، ويبين لك البيان الكافي؛ لتعرف النار ما هي: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:1-4].أين العقول؟ اهتزت الأرض وزلزلت، الناس كالفراش المبثوث هنا وهناك، لا يعرف الجائي من جاء، والذاهب أين ذهب ولا الطالع ولا الهابط، كالفراش المبثوث. وَتَكُونُ الْجِبَالُ [القارعة:5] الشامخات الرواسي كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5]، الصوف الذي يضرب بالعصا ليتفتت، تتفتت وتكون الجبال كالعهن المنفوش الآن. فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:6-7]، في الجنة دار السلام. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:8-11].

الحث على سماع القرآن الكريم من الآخرين

لم لا يقرأ كتاب الله؟ نحن نقرؤه على الموتى، مضى أكثر من ثمانمائة سنة والقرآن لا يقرأ عندنا إلا على الميت، أما الحي فما يقرأ أبداً، عداوة كاملة، لقد قلت لكم: عشنا عشرات السنين ما عثرت على واحد قال لي: أسمعني شيئاً من كلام الله، إلا مرة واحدة، وأنتم أيها السامعون من منكم قال لأخيه وهو جالس في المسجد أو تحت ظل شجرة أو حين فرغ من العمل: يا أخي! أسمعني شيئاً من كلام ربي؟أنا أقول: أي مؤمن تاقت نفسه إلى ربه وإلى كلامه سيطلب من أخيه أن يسمعه شيئاً من كلام الله ليتأمل ويبكي ويتدبر، ومن ذلك ما يكون في شهر رمضان، فالناس يجيء أغلبهم لسماع القرآن وللتراويح، والحمد لله.أنا أقول: ها هي الصورة الحقة: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عبد الله بن مسعود فقال: ( يا ابن أم عبد ! ) ، دعاه بكنية أمه، ( يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن. فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! ) تعجب، قال: ( إني أحب أن أسمعه من غيري )، وقرأ ابن مسعود : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ... [النساء:1] إلى أن انتهى إلى قول الله تعالى بعد أربعين آية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء:41] يشهد عليها وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، قال: ( فالتفت فإذا بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان وهو يقول: حسبك )، أي: يكفي. فإن رأيتم هذه الظاهرة في بلادكم فبشرونا بالخير، هذا هو الطريق، أما أن يقرأ على المقبرة وليلة الموت يهزئون بالقرآن ويسخرون؛ فنعوذ بالله من الجهل وما أصابنا.والله تعالى أسأل أن يجعلنا من أوليائه وصالح عباده نؤمن به وبما يحب أن نؤمن به، ونتقيه بفعل محابه وترك مكارهه.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-12, 05:38 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (28)
الحلقة (35)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (124)


إن من ابتلاه الله عز وجل بظلمة القلب وفساد العقل لا يقبل الحق مهما كان واضحاً، ومن ذلك ما فعله النمرود بن كنعان حين ناظره إبراهيم عليه السلام في تفرد الله عز وجل بالخلق وتصريف أمور الكون والمخلوقات، فجادله أولاً في حقيقة أن الله وحده الذي يحيي ويميت، فلما استمر في ضلاله وأذعن في مكابرته وكفرانه سأله إبراهيم أن يأتي بالشمس من المغرب كما أخرجها الله من المشرق، فبهت الكافر ولم يحر جواباً، واندحر ولم يقل خطأ ولا صواباً.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) ، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا وولي المؤمنين.وها نحن مع هذه الآية الكريمة من سورة البقرة، وهي قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].

حجاج إبراهيم مع قومه في سورة الأنعام

معاشر المؤمنين والمؤمنات! حجاج إبراهيم لم يكن فقط مع هذا الطاغية النمرود ملك البابليين، بل كان مع والده، وكان مع قومه، ولو أمكن أن نستعرض تلك المواقف من سورة الأنعام التي ذكر تعالى لنا فيها هذه المحاجة.فقد قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]، هذا يواجه به والده آزر، وإذ قال [الأنعام:74]، اذكر يا رسولنا واذكر أيها المؤمن وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ [الأنعام:74-76] ذهب قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:76-79].وهكذا يستدرجهم من النجم إلى القمر إلى الشمس وهم عبدة الكواكب، لما رأى القمر قال: هذا ربي؛ من أجل جذبهم إلى أن يتأملوا؛ لا أنه يعتقد أنه ربه، لما أفل وذهب قال: ما ينبغي هذا ولا يصلح أن يكون إلهاً، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:77] وهم يسمعون ويشاهدون، فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77] معناه أنه يطلب الهداية من أجلهم حتى يفيقوا ويصحوا من غفلتهم. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ [الأنعام:78] وانتهت وغابت ماذا قال؟ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:78-79].هذا كان مع والده وقومه، قال تعالى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام:80] في مواقف متعددة، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا [الأنعام:80] ، قالت العلماء: هذا الاستثناء لو أنه عثر أو أصابته شوكة لقالوا: آلهتنا هي التي أصابته، فاحتاط وقال: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80]، ثم قال لهم: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، أي الفريقين أحق بالأمن من عذاب الله وعذاب النار؟ وكان الجواب: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83].

حجاج إبراهيم مع قومه في سورة الأنبياء

ومن سورة الأنبياء حجاج آخر: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:51-57]، ونفذ فعلته، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:58-71].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

حجاج إبراهيم مع قومه في سورة الصافات

ومن سورة اليقطين؛ إذ قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ [الصافات:83]، أي: من شيعة نوح في الدعوة إلى عبادة الله وحده، وبين نوح وإبراهيم آلاف السنين: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:83-100]، وذهب إلى أرض الشام.

حجاج إبراهيم مع أبيه في سورة مريم

وفي سورة مريم حجاج إبراهيم مع أبيه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُم ْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:41-49]، حجاج طويل، فهذا هو إبراهيم الأب الرحيم السرياني عليه السلام.

وقوع الحجاج مع النمرود بعد الحكم بإلقاء إبراهيم في النار

ولما حكموا عليه بالإعدام وسجنوه وذهبوا يشعلون النيران ويجمعون الحطب ويوقدونها، إذ أوقدوا ناراً ما رأتها الدنيا، كان الطائر إذا طار فوقها يحترق، وكان النساء ينذرن للإلهة بحزمة الحطب: يا إلهي! إذا حصل كذا وكذا فأنا أحمل حزمة حطب في نار إبراهيم! والعجب أنه حتى الحيوانات الساقطة أيضاً كانت تساعدهم، فالوزغة الخبيثة كانت تنفخ في نار إبراهيم، وباقي الحيوانات الأخرى ما فعلت، فلهذا أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن من عثر على الوزغة فليقتلها؛ لأنها كانت تنفخ في النار لتتأجج على إبراهيم عليه السلام، والوزغ معروف.إذاً: ولما سجنوه ينتظرون إصدار الحكم عليه وقع هذا الحجاج بينه وبين الملك النمرود ، فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمته: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة:258]، أي: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا ما تم ما بين إبراهيم والنمرود ؟

معنى قوله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة:258]، وكيف يحاجون في الله؟ يقولون: لا يعبد وحده بل يعبد معه هذه الآلهة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا.وعبادة الله عز وجل هي سر الحياة وعلة هذا الوجود، فقد خلق كل شيء من أجل أن يذكر ويشكر، فكيف إذاً يعبد غيره؟! بأي منطق أو قانون أو شرع أو حق؟ أيخلق ويرزق ويدبر الحياة كلها من أجل أن يذكر ويشكر وإذا بالشياطين تجتال الآدميين وتجعلهم يعبدون من لا خلق ولا رزق ولا أعطى ولا منع ولا ضر ولا نفع؟ هذا كيد الشياطين ومكرهم.إذاً: قوله تعالى: أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258]، المفروض أنه يشكر الله الذي ملّكه وأعطاه وأصبح سلطاناً في تلك الديار، لا أنه يحارب أولياء الله ويصرف عن عبادة الله من أجل أن آتاه الله الملك.واللفظ أيضاً يحتمل معنىً آخر، وهو: أنه لما ملّكه الله وطغى وتجبر وتكبر أعرض عن عبادة الله وحارب أولياءه.وكلا الحالين مذموم، المفروض أن من أعطاه الله يشكر الله ويعبده ويدعو إلى عبادته، لا أن يعرض عن عبادته ويعبد معه غيره، لكن الطغيان ناتج عما أوتي من الملك والسلطان، والآثار والأخبار تدل على أن هذا الطاغية أهلكه الله وجيشه بالبعوض، فسلط عليهم بعوضاً مزق ذلك الجيش بكامله، نقمة الله عز وجل، والنمرود نفسه دخلت بعوضة في أذنه وأصبح لا يطيق النوم ولا الأكل ولا الشرب، وعن يمينه وعن شماله رجلان يضربانه على رأسه بأشياء، إما بخشبة وإما بحذاء؛ حتى يهدأ، حتى هلك على تلك الحالة.

معنى قوله تعالى: (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ [البقرة:258]، فهو سأله: من ربك يا إبراهيم الذي من أجله فعلت وفعلت وفعلت؟ قال إبراهيم: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258]، الذي يحيي من شاء ويميت من شاء هو ربي، أو الذي يحيي الأموات ويميت الأحياء، ذلك خالقي وذلك ربي وإلهي ومعبودي وهو حق. فقال الطاغية: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، فأطلق سراح من كان محكوماً عليهم بالإعدام لجرائمهم وادعى أنه أحياهم فقال: أنا أحييت هؤلاء، وأتى بمن حكم عليهم بالموت فقتلهم، وادعى أنه بهذا يحيي أيضاً ويميت، وهذا مغالطة تشمئز منها العقول، فالإحياء: أن تهب الحياة وتوجدها، والموت: هو أن تميت من تخلق فيه الحياة، فالله تعالى خلق هذا وخلق هذا وحكم بالموت على هذا وأجل هذا، وأنت ما فعلت شيئاً، ما هي قدرتك التي فعلت؟

معنى قوله تعالى: (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب فبهت الذي كفر ...)

قال تعالى: قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].لقد كانت تلك مغالطة عرفها الخليل وعدل عنها، فقال له: إن ربي يأتي بالشمس من المشرق فائت بها أنت من المغرب، الله يأتي بالشمس عند طلوعها من شرق الكرة الأرضية، فعاكسه أنت وائت بها من المغرب، وبذلك تتجلى قدرتك ويعلو سلطانك وتكون المستحق لئن تطاع، فوقف مشدوهاً حيراناً كما أخبر تعالى: فَبُهِتَ [البقرة:258]، انقطع كلامه ولم يقو على أن يتكلم، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258]، لولا كفره ما كان يبهت، كان يفتح الله عليه ويجيب، كما مر بنا في آية الأنعام قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [البقرة:258]، ما من مؤمن ذي بصيرة وربانية صادقة ويحاجه ظالم أو كافر إلا غلبه، ولا يستطيع أن يهزمه.

ذكر حادثة في خيبة كل كافر مناظر لمؤمن صادق

وأذكر هنا حادثة تكررت: كان مسيحي مع مسلم على السيارة يتحدثان، فقال المسيحي: يا مسلم! أنتم تعتقدون أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون، فكيف تكون بطونهم هذه؟ لأن معتقد الصليبيين النصارى من القسس وغيرهم أن أهل الجنة لا يأكلون ولا يشربون؛ لأنهم ليسوا أبداناً وإنما هي أرواح فقط كما هي الآن في دار السلام، أرواح المؤمنين الطاهرة إذا مات المؤمن أو المؤمنة تترك في الجنة إلى أن تنتهي هذه الدورة ويخلق الله الأجسام من جديد وتدخل فيها وتعود الحياة كاملة، والسعادة بالروح والبدن معاً؛ فالآن في الدنيا السعادة تحصل للبدن، وفي القبر للروح فقط، ويوم القيامة السعادة للروح والبدن معاً، الآن سعادتنا في أبداننا، وفي القبور والبرزخ للأرواح فقط، وفي يوم القيامة السعادة كاملة، فالروح تسعد والبدن كذلك يسعد.فهذا المسيحي يسخر من الإسلام فيقول: كيف تكون بطونهم مملوءة وهم يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون؟ وحقاً إن تلك الأغذية تتحول إلى عرق أطيب من ريح المسك. فقال له العربي الأمي: هل الجنين في بطن أمه حين يتخلق ويصبح يتغذى من دم أمه وينمو بذلك الغذاء أربعة أشهر -السادس والسابع والثامن والتاسع- هل يبول أو يتغوط؟ والله! ما يبول ولا يتغوط، بمجرد أن يخرج من بطن أمه يبول، إذاً: كيف بطن أمه؟ هل امتلأ بالبول والعذرة؟! فانقطع الصليبي واندهش وذهل. فالولد في بطن أمه تمضي عليه أربعة أشهر وهو يتغذى وعلى الغذاء ينمو، وبمجرد أن يخرج يبول ويتغوط، فلم ما بال أولاً ولا تغوط، لو كان يبول ويتغوط فكيف سيصبح رحم أمه أو بطنها؟! ولكن تقدير وتدبير العزيز العليم.والشاهد عندنا أنه إلى اليوم لا يحاج كافر مؤمناً إلا انهزم، وقد تمت محاجة عظيمة مطبوعة في جامعة الإمام محمد بن سعود ووزعت في مجلد، فهذا صليبي كبير بريطاني حاج مؤمناً عالماً من علماء المسلمين في الهند، واجتمع للحجاج خلق كثير؛ لأنها محاجة ذات قيمة، ونصر الله عز وجل المسلم وانهزم ذلك الصليبي شر هزيمة.والذي يذكر بخير: أن السلطان عبد الحميد العثماني ترجم تلك المناظرة إلى تسع لغات عالمية ووزعها ونشرها بين الناس، وهذه هي الحقيقة؛ لأن الله عز وجل ولي الذين آمنوا يخرجهم من ظلمات الجهل والحيرة إلى نور العلم والبصيرة، ما من مؤمن يقف لله عز وجل إلا وينصره الله ويؤيده، وليس هذا خاصاً بإبراهيم ولا بغيره.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

طغيان الإنسان بالملك والغنى

إذاً: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:258]، من هو هذا؟ هذا النمرود ملك البابليين، هذا الذي قال ما تسمعون، أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258]، تأملوا هذه الجملة: أمن أجل أن آتاه الله الملك يقف هذا الموقف؟ أما ينبغي له أن يستحي من المنعم المتفضل المحسن، كيف يقف يحاج في الله عز وجل يريد أن يبطل عبادته ويصرف الأمة عن ذكره وعبادته، أين العقل؟ أين الفطرة؟وقلنا:إن قوله تعالى: أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258]، فيه إشارة إلى أن الذي يؤتى السلطان والقدرة إذا لم يعصمه الله، إذا لم يحفظه الله، إذا لم يتوله الله؛ فإنه إن كان مؤمناً يصاب بالطغيان، وقد شاهدتم وسمعتم، ويصاب بالتعالي والتكبر والإفساد في الأرض، إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6]، متى؟ أن رأى نفسه استغنى، كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] ، أي: رأى نفسه استغنى عن الناس، يتكبر ويتعالى عليهم. إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21]، إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].

الوصفة الناجعة لعلاج طغيان الغنى وجزع المصيبة

وهذه القضية معاشر المستمعين ينبغي أن نرددها: إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، ظلوم جهول، ظلوم كفّار، يطغى أن رآه استغنى، هلوع: إذا مسه الخير يمنع، وإذا مسه الشر يجزع، وما العلاج؟ وما الدواء؟توجد وصفة طبية والطبيب هو الرب تعالى، هي ذات ثمانية أرقام، أيما مؤمن يستعملها بإشراف طبيب فإنه يخرج من أصح الخلق وأكملهم، وإن لم يجد الطبيب المشرف عليه واستعان بالله واستعملها شيئاً فشيئاً فإنه يبرأ أيضاً من أسقامه: من الظلم والجهل والكفر والشح والبخل والجزع، لكن قد تطول مدته أو لا يكمل برؤه على الوجه المطلوب، بل لا بد من إشراف طبيب.أين توجد هذه الوصفة الطبية بأرقامها الثمانية؟ توجد في القرآن العظيم، في كتاب الله الذي نقرؤه على الموتى! في سورة المعارج، يقول تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21]، والجزوع: كثير الجزع، والمنوع: كثير المنع، ما قال: إذا مسه الخير جزع وإذا مسه الخير منع، بل جزوع ومنوع.ثم ذكر الأرقام الثمانية: أولاً: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:22-23]، الذي يصلي ويديم صلاته على الوجه المطلوب فهذه الصلاة تبرئ من ذلك الجزع وهذا المنع، وتبرئ من ذلك الظلم والكفر، ومن الطغيان والتعالي.ثانياً: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، الذي يؤدي الزكاة كما شرع الله وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينفق على أسرته واليتامى والمساكين ولا يبخل ويعطي للسائل والمحروم فهذا الرقم أيضاً يفعل العجب في النفس، صاحب هذا الرقم والله! لا يكذب ولا يغش ولا يخدع، كيف يصرف هذا المال لوجه الله وهو يسرقه؟! ما هو بمعقول أبداً.ثالثاً: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26]، الذي يصدقون بيوم القيامة يوم الجزاء يوم الحساب والجزاء، هذا الرقم أيضاً يفعل في النفس العجب في تزكيتها وتطهيرها، لم؟ هو موقن أنه سيسأل ويحاسب، فكيف إذاً يضن أو يبخل؟ كيف يظلم ويكفر؟ كيف يطغى؟ كيف يجزع؟ هذا يؤثر فيه أعظم تأثير.رابعاً: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:27-28] قطعاً، فالذين يعيشون على هذا الإيمان وأنهم يخافون من ربهم أن يعذبهم إذا خالفوا أمره وإذا فسقوا عنه وإذا خرجوا عن طاعته يعيشون ليل نهار مشفقين من عذاب الله؛ لأن عذاب الله من يؤمننا منه؟ فلهذا لا يقتحمون أودية الضلال والشرك والباطل والكفر؛ لخوفهم، فصاحب هذا الرقم أيضاً يتعالج بإذن الله تعالى ويبرأ من الأمراض الستة المذكورة في الآية.خامساً: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المعارج:29-30]، من يلومهم وقد أذن الله لهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم.إذاً: فهذا الذي يحفظ فرجه من الوقوع في الفاحشة يفعل ذلك فيه العجب من تزكية نفسه وتطهيرها.سادساً: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المعارج:32]، الذي يعيش كراعي الغنم يرعى أمانته وعهوده لو تضع تحت يديه ما شئت من المال فوالله! لا ينقصك درهماً واحداً، لو تودع عنده امرأة حتى تعود من جهادك أو سفرك فوالله! لا ينظر إليها ولا يلتفت إليها، تودعه كلمة يصونها ويحفظها، هذا الذي يحافظ على الأمانة وعلى العهد هل يعصي الله فيظلم أو يجزع أو يسخط؟ سابعاً: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم ْ قَائِمُونَ [المعارج:33]، لا يميل يميناً ولا يساراً، لا مع أخ ولا عم ولا قريب ولا بعيد ولا غني ولا فقير، يؤدي شهادته كما علمها وليكن ما يكون.وأخيراً: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:34]، الإدامة غير المحافظة، يحافظون على أوقاتها وآدابها وشروطها وأركانها حتى تثمر لهم الزكاة في نفوسهم.هذه الوصفة لا يضعها إلا الله، إن طبقتها بإشراف العالم الرباني المزكي نجحت في أقرب وقت، وإذا ما وجدته وأخذت أنت تستعملها فسينفعك الله تعالى بها.إذاً: ظلم الإنسان وكفره وجهله وجزعه وطغيانه؛ هذه الطبائع هذه الغرائز التي تقويها وتذكي نارها الشياطين، إذا لم يعالجها الإنسان من ذكر أو أنثى بهذه الأرقام فإنه لا ينجو منها ولا يسلم أبداً، والحمد لله؛ فهو الذي وضع هذا، خلق الداء والدواء، وأرشد إلى استعمال الدواء للبعد والنجاة من الداء.مرة ثانية: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا [المعارج:19-20]، يجزع، ما تستطيع أن تمشي معه ولا تجالسه من الصراخ والتأمل والتحسر، لا صبر أبداً، ولا يفوض أمره إلى الله أبداً؛ لأنه مريض.وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ [المعارج:21] منع فلا يعطي ولا يبذل ولا ينفق؛ لأنه مريض، فإذا أراد الشفاء فالوصفة الربانية موجودة: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم ْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ [المعارج:22-35]، الأعلون السامون فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:35]. اللهم اجعلنا منهم.

انتهاء مناظرة إبراهيم للنمرود بانتصار الموحد وخذلان الكافر والظالم

نعود إلى قصة إبراهيم عليه السلام، حيث يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258]، الطاغية سأل إبراهيم لما أخرجه من السجن قبل إلقائه في النار، حاجه وسأله، فقال إبراهيم: ربي ومعبودي الحق الذي أعبده هو الذي يحيي ويميت، خالق الحياة والموت، فقال الطاغية: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258] وانقطع.قالت العلماء: في هذه الآية بيان جواز الحجاج في الدين مع المبتدعة مع المعطلين مع الكافرين ولا حرج؛ لتظهر حجة الله عليهم، فهذا إبراهيم يحاج النمرود.قال تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]، دائماً وأبداً إلى يوم القيامة، والظالمون الخارجون عن عبادة الله عقيدة وقولاً وعملاً، هؤلاء الظلمة.

الشرك أعظم الظلم

وإذا أطلق الظلم في الغالب يطلق على الشرك؛ لأنه أفظع أنواع الظلم، فحين تسلب مال فلان وتقتل فلاناً فذلك ظلم، والذي يسلب الله تعالى حقه كيف يكون موقفه؟ويتحداه ويعطيه لغيره، مع أن الله خلقه ورزقه ودبر حياته وكلأه وحفظه ورعاه وهو عبده ومخلوقه، ويغمض عينيه عن ربه الخالق الرازق المدبر، ويفتحهما في صنم أو كوكب أو فرج أو شهوة أو إنسان أو حيوان، أي ظلم أعظم من هذا؟ويدل لذلك أنه لما نزل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] اندهش المؤمنون فقالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟ إذا كان لا أمن من عذاب النار إلا لمن لم يخلط إيمانه بظلم؛ فأينا ما ظلم؟ هذا ظلم أخاه، وهذا ظلم حيواناً، لا بد أن يقع ذلك، فقال: ليس الأمر كما فهمتم، المراد من الظلم هنا: الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان الحكيم لما كان يعظ ولده بين يديه يربيه ويعلمه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فلا أعظم من ظلم عبد يترك ربه ويعبد غيره، مع أن هذه المخلوقات كلها مربوبة مخلوقة، فيعبد عيسى وهو مخلوق خلقه الله، وتعبد مريم وهي مخلوقة، الله خلقها، ويعبد روح القدس جبريل، أليس جبريل مخلوقاً لله من جملة ملائكته؟ والذين يعبدون العزير كاليهود، والذين يعبدون الأولياء.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

مقارنة بين شرك الأولين وشرك المعاصرين

هل يوجد في المسلمين من يعبدون الأولياء؟ أي نعم، إلى ما قبل خمسين سنة منذ خمسة قرون، ما تستطيع أبداً أن تجد من لا يقول: يا سيدي فلان إلا نادراً، عند أبواب الأسواق يرفع يديه السائل الفقير يديه: يا سيدي فلان! أعطني لوجه فلان! ولا يذكر الله، بأعيننا رأيناهم.وأعظم من هذا أن المرأة والطلق يهزها وقد ربطوا حبلاً في سارية العمود؛ إذ ما هناك مشاف ولا ممرضات ولا مقبلات وهي تصرخ: يا ألله! يا رسول الله! يا رب! يا سيدي عبد القادر! يا فلان! ولو تموت هذه فكيف ستموت؟يقولون لك إذا أصابتك مصيبة: يا مغربي! استقبل القبلة وناد: يا راعي الحمراء! يا مولى بغداد! فيأتيك ويفرج ما بك.وإن شككتم فهذا تفسير المنار للشيخ: رشيد رضا وبعضه للشيخ: محمد عبده ، يقصان عليكم قصة عملية واقعية، قال: كانت سفينة تحمل الحجاج أيام الدولة العثمانية من طرابلس الغرب إلى طرابلس الشام، ترسو في الموانئ وتحمل حجاج البلاد من طرابلس والإسكندرية ويافا وحيفا واللاذقية، قال: وجاءت عواصف بحرية بأمواج، والسفينة ما هي كما هي الآن بالهيدروجين، إنما كانت بالفحم أو بالشراع، قال: وماجت السفينة واضطربت، فأخذ الحجاج يقولون: يا رسول الله! يا بدوي! يا عبد القادر ! يا مولاي فلان! يا عيدروس ! يا فاطمة ! يا حسين ! وكان يوجد بينهم فحل قوي، فوقف ورفع يديه إلى الله وقال: يا رب! أغرقهم فإنهم ما عرفوك.ورحم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، يقول في رسائله: شرك الأولين أخف من شرك الحاضرين، والله! لأخف، وإليكم الصورة: لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة ودخلت جيوشه الاثنا عشر ألفاً، فالطغاة هربوا، ما استطاعوا أن ينتظروا، خافوا، وعلى رأسهم عكرمة بن أبي جهل ، وكان كأبيه أبي جهل ، الابن كالأب في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهرب إلى ساحل البحر فوجد سفينة تريد أن تقلع إلى الحبشة أو إلى الهند، المهم ألا يشاهد محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة، فلما انطلقت السفينة ومشت كيلو أو كيلوين اضطربت وجاءت الأمواج، فقال الربان أو الملاح: يا جماعة! يا عباد الله! ادعوا ربكم قبل أن تغرقوا. فأخذوا يقولون: يا ألله! يا ألله! يا رب الكعبة! يا رب إبراهيم! وهم مشركون، ما قالوا: يا لات ولا عزى، فقال عكرمة : هذا الذي هربت منه يلحقني حتى وأنا في السفينة، أنا هارب من هذا التوحيد، والله! لترجعن بي إلى الساحل، ولأقبلن يد محمد صلى الله عليه وسلم، وردّه إلى الساحل، وانطلق رأساً إلى مكة واطّرح بين يدي الرسول يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واقرءوا لذلك: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، ونحن الآن بالعكس، ما هناك فرق بين البر ولا البحر، عند المصيبة الكل: يا سيدي فلان، والحمد لله أن أنقذنا الله عز وجل بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي كان يتقزز منها الغافلون والغالطون، وانتشر هذا النور وأصبحت ما تسمع بمؤمن يقول: يا سيدي عبد القادر إلا بعض العوام. وقد خرجنا ذات مرة وكان شخص معنا، وركبنا في السيارة وهو يسوق، فخرجت السيارة عن الطريق فإذا به يقول: يا رسول الله! يا رسول الله! فقلت: وأين الله؟ كيف نسيته؟

الجهل علة الشرك بالله تعالى

إذاً: العلة الجهل، والنجاة بالعلم، فكيف نطلب العلم؟ والله! ما هناك مشقة ولا كلفة أبداً، لا تحمل قرطاساً ولا قلماً، ولا توقف أبداً مصنعك ولا مزرعتك ولا متجرك، إنما إذا مالت الشمس إلى الغروب يأتي المؤمنون بأبنائهم ونسائهم إلى بيت ربهم، ويوسعونه، ويتلقون الكتاب والحكمة بين المغرب والعشاء كل ليلة.اليهود والنصارى والمشركون إذا دقت السادسة وقف العمل وذهبوا إلى المقاهي والملاهي والمراقص والمقاصف؛ إذ هذا دينهم وهذا باطلهم، ونحن إلى أين نذهب؟ إلى بيوت الرب عز وجل، نتلقى الكتاب والحكمة ونزكي أنفسنا، ما تمضي سنة واحدة على أهل القرية إلا وكلهم أولياء الله، فلم ما نفعل هذا؟ أهذا ينغص الحياة؟! أهذا يوقف العمل؟! الجواب: لا. بل هذا الذي يوجد الإخاء والمودة والمحبة، لا سيما إذا وجد صندوق حديد في المحراب وقيل: يا معشر المؤمنين والمؤمنات! من أراد أن يتصدق فليضع في هذا الصندوق، يا معشر المؤمنين والمؤمنات! من زاد على قوته ريال فليضعه في هذا الصندوق، حتى يمتلئ وينمو في تجارة أو مصنع أو مزرعة، وإذا به يدر عليهم اللبن والخير، وفقراء القرية لا يبقى لهم وجود، وتنتهي السرقة والتلصص والبكاء والجزع أبداً، كأسرة واحدة، فلم ما نفعل هذا؟ لأننا ما عرفنا، ما أيقنا بهداية الله. والله تعالى أسأل أن يعود بنا إلى جادة الصواب، وأن ينجينا من محننا؛ إنه رءوف رحيم.معشر المؤمنين والمؤمنات! أحدهم مريض سألنا أن ندعو الله تعالى له، فاللهم يا ولي المؤمنين ويا متولي الصالحين اشف عبدك شفاءً عاجلاً غير آجل، وبارك في صحته وعمله يا رب العالمين، واشف اللهم مرضانا في بيوتنا وبين أيدينا، اللهم اشفنا ظاهراً وباطنا، اللهم اشفنا ظاهراً وباطنا، اللهم زك نفوسنا أنت وليها وأنت مولاها وأنت خير من زكاها، اللهم ارزقنا البصيرة واليقين واجعلنا من عبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ربنا علمنا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما تعلمنا، واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعلنا من الراشدين من أوليائك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-13, 05:17 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (29)
الحلقة (36)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (125)


إن تطلع الإنسان إلى معرفة قدرة الله والنظر في إعجازه مما فطر عليه الإنسان، لكن فرق بين من تطلع إلى ذلك مستبعداً له وشاكاً فيه، وبين من تطلع إليه موقناً به ومؤمناً إيماناً صادقاً، أما مثال الشاك فهو ما وقع من عزير عليه السلام حين مرّ على القرية التي دمرها البابليون فاستبعد عودتها كما كانت، فضرب الله له مثلاً في إماتته ثم إحيائه ونظره إلى حماره والحياة تعود إليه شيئاً فشيئاً حتى آمن وأيقن، ومثال المؤمن المصدق إبراهيم عليه السلام الذي سأل ربه أن يريه مثالاً لإحياء الموتى، فأراه سبحانه قدرته وعظيم صنعه في تلك الطير التي أعاد إليها الروح بعد تقطيعها وتفريقها في الأرض.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم حقق لنا هذا الرجاء يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.وها نحن مع هذه الآية المباركة من سورة البقرة المباركة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259].هذا الكلام من يستطيع أن يأتي به؟ هذا كلام الله رب العالمين، فقولوا: آمنا بالله!ومحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الأمي العربي فرد من أفراد الأميين يقص هذا القصص كأنه حاضر وشاهد الأحداث كما هي، كيف يتم هذا لولا أنه رسول يوحي الله إليه بالأنباء والأخبار التي يستحيل على البشر أن يردوها بمنطق أو حجة أو دليل؟

أثر ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين

وهذه الآية كسابقتها دليل على قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257]، من ظلمات الجهل إلى نور العلم.وبالأمس كان الخليل إبراهيم في السجن ويسأله ملكهم النمرود عن ربه: من ربك؟ قال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258]، قال الطاغية: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، فألهم الله الحجة لإبراهيم صاحب الإيمان والنور فقال: إن ربي يأتي بالشمس من المشرق فائت بها أنت غداً من المغرب! فبهت الذي كفر، انقطع ولم يستطع الجواب أو يتكلم بكلمة، وكيف يرد هذا؟ هل يقول: سنعمل ذلك؟ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]، وهذه الجملة المذيل بها الكلام تزن الدنيا وما فيها، اسمع: إن الله لا يهدي القوم الظالمين إلى ما فيه سعادتهم وكمالهم، إلى ما فيه عزهم وانتصارهم، إلى ما فيه سعادتهم، إلى أي خير؛ لأنهم ظلموا وخرجوا عن الطريق وهم يتقلبون، فمن يهديهم؟ آمنا بالله. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258] إلى ما فيه كرامتهم وطهرهم وصفاؤهم وعزهم وسعادتهم ونصرتهم على أعدائهم، ولكن الله هدى إبراهيم للجواب المفحم القاطع الذي بهت به العدو أمامه.

أثر ولاية الله تعالى لإبراهيم الخليل في محاجة النمرود

أعيد تلاوة الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258]، يكفر ويتعالى ويطغى، وهذه لفتة أيضاً عجيبة: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، وجربنا هذا حتى في إخواننا، ما إن يحصل على قرش أو مركبة حتى يتكبر، كان بهلولاً من الصالحين يكنس المسجد ويمشي مع الناس، ما إن يرتفع حتى يتكبر، ما استعمل تلك الأرقام الثمانية في قوله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21] إلى آخر الآيات. كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، والأمة ما تعالج في هذه المستشفيات وما يعرفونها ولا سمعوا بها، فكيف تراهم إذاً؟ الظلم والشر والخبث والفساد والخيانة، مرضى وما عولجوا في مستشفيات النفس، فعلاج النفس في المستشفى الرباني الإلهي، ودعنا من البكاء فإنه لا يجدي، وهيا نتمم الآية تلاوة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]، هذا مظهر من مظاهر ولاية الله لأوليائه ونصرتهم، الطاغية النمرود بكل قواه فشل وما استطاع أن يجيب، فأمر به فألقي في النار، فقال الرب جل وعز خالق كل شيء: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فوالله! لم تأت النار إلا على كتافه في رجليه ويديه، وخرج وجبينه يتصبب عرقاً، وتركهم وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:99-100]، فأول هجرة في الله تعالى عرفتها البشرية هجرة الخليل إبراهيم.فلم المسلمون ما يعرفون هذا؟ لأنهم يقرءون القرآن على الموتى فقط، أما على الأحياء فممنوع، القرآن يقرأ على الموتى، وهناك نقابة، فبالتلفون اتصل: مات عندنا ميت، فيقول: من فئة المائة ليرة أو من فئة خمسمائة، فإذا كان فقيراً فمن فئة المائة، والغني من فئة خمسمائة، وأبناؤنا يقرءون القرآن في الكتاتيب لهذا الغرض، لا ليعرفوا الله وما عنده، أكثر من ثمانمائة سنة ونحن هابطون.فالقرآن حين يقرأ على الموتى فإني أسألكم بالله: هل سيقومون ليعبدون الله؟! والله يقول وقوله الحق: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69]، رد على من قالوا: القرآن شعر، وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:69-70]، أم قال: لتقرأه على الموتى؟ وقال: لينذر من كان حياً أو من كان ميتاً؟ونحن إذا مات فلان قيل لطلبة القرآن: احضروا سبع ليال، وإن كان غنياً فإحدى وعشرون ليلة وهم يقرءون القرآن ويضحكون.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير قوله تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ...)

ثم قال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259].

المراد بالقرية والشخص صاحب الحادثة في الآية الكريمة

إذاً: بعد تلك الآية من آيات الله المحققة لوعده بولايته لأوليائه جاءت هذه الآية: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ [البقرة:259]، والقرية في عرف القرآن: المدينة الكبيرة، وفي عرف الجغرافيين المتتلمذين للغربيين: القرية دون المدينة؛ حتى يبعدوا الناس عن القرآن، القرآن هو أول من قرر القرية وأنها المدينة الكبيرة، أما قال: وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى [الأنعام:92]، فما هي أم القرى؟ مكة المكرمة.إذاً: مر على قرية، فمن هذا المار؟ ذكر أهل العلم أقوالاً كثيرة: كالخضر، وفلان، وعزير، والراجح أنه عزير عليه السلام.إذاً: مر بقرية وهي مدينة القدس، ولم سميت المدينة قرية؟ لأن هذا مشتق من التقري الذي هو الجمع، قريت الماء في الحوض: أي: جمعته، وسمي القرآن قرآناً لجمع كلماته ونظمها في جمل وآيات، إذاً: القرية هنا ما هي بمدينة صغيرة، هي مدينة القدس. قال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259]، وخاوية ليس معناها: جائعة بلغة المغرب، يقولون: خوى بطنه: فرغ فهو جائع، فخاوية هنا بمعنى: خالية، وهي كذلك، خوى البطن: فرغ. وخوت المدينة: ما بقي فيها سكانها، لكن قوله تعالى: خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259] لأن السقوف التي كانت تعرّش للظل والوقاية من الحر والبرد وقعت على الأرض فهي خاوية على العروش.

معنى قوله تعالى: (قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها)

قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259].هذه القرية من هدمها؟ هذا الذي هدمها يقال له: بختنصر ، هو الذي غزا المسلمين هناك من بني إسرائيل وانتقم منهم وخرب بيت المقدس، حتى التابوت هو الذي أخذه كما تقدم، والتوراة أخذها، والعزير ألهمه الله إياها فأملاها على بني إسرائيل فقالوا: إذاً: هذا ابن الله، هذا سر اتخاذه ابناً لله من سورة التوبة، لم؟ اندهشوا، التوراة أخذها الطغاة الجبابرة ومزقوها، وهذا قال: تعالوا أمليها عليكم، فأملاها عليهم فقالوا: هذا ابن الله؛ فكفروا.إذاً: العزير عليه السلام مر بهذه المدينة فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259]؟ أي: كيف يحييها؟ من باب التطلع إلى المعرفة، وفيه معنى الاستبعاد، هذا الأمر بعيد، فما تعود هذه أبداً، كيف تعود كما كانت؟ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259]؟ ماتت القرية، انقطعت الحركة والكلام، كما يقال: مات الشخص: إذا ما بقي له كلام ولا حراك.

معنى قوله تعالى: (فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم)

فماذا فعل الرب تبارك وتعالى؟ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ [البقرة:259]، وكان على رأسه سلة من العنب وأخرى من التين، فوضعهما وربط الحمار ليستريح في القيلولة، فأغمض عينية فخرجت روحه مائة عام وهو كذلك، وممكن أن يمر الناس به فيقولوا: هذا نائم، أو أنه أعماهم الله ودفعهم فلم يروه، فأصحاب الكهف ماتوا ثلاثمائة سنة! إذاً: فلا عجب، أماته الله تعالى مائة سنة ثُمَّ بَعَثَهُ [البقرة:259] أحياه، لما أحياه قال له: كَمْ لَبِثْتَ [البقرة:259]؟ سأله ربه بالوحي الإلهي أو عن طريق الملك: كم لبثت في نومك هذا؟ قال: يوماً أو بعض يوم؛ لأن الشمس ما غربت ولا يدري أهو نام من الضحى أم من طلوع الشمس، إذاً: حتى لا يكذب قال: يوماً أو بعض يوم حسب علمه؛ لأنه نام واستيقظ، لا آلام في المفاصل ولا غبار في الشعر ولا في الوجه، محفوظ بحفظ الله تعالى.

معنى قوله تعالى: (قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ...)

قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ [البقرة:259]، مائة عام، والعام أطول من السنة، وكيف يعرف؟ من يدريني أنني لبثت مائة عام على الأرض ميتاً؟ قال له: إذاً: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ [البقرة:259]، الطعام: عنب وتين، والتين عندنا نحن جربناه، يقولون: التين إذا بات كاليهودي إذا مات، إذا مات يهودي فالماء يسيل من فمه، والرائحة الكريهة، والوسخ، أعوذ بالله! فمن يقدر على أن يشاهده، والتين كذلك إذا بات في غير ثلاجة، ما كان هناك ثلاجات في العالم، فيتعفن ويتغير لونه، ما يؤكل، كالذي رأيته أمس فرميناه اليوم، جاءنا مؤمن من مصر بزنبيل أو سلة تين من هذا النوع، فما قدرنا عليه. إذاً: وشرابه عصير، قال تعالى: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259]، ما معناه؟ لم يتغير بمرور مائة سنة عليه، ما أثرت فيه السنون، مائة سنة والعنب والتين كما هما، والعصير والعنب كما هما، هذه عناية الله عز وجل، هذا حفظ الله عز وجل، يصرف القلوب من الإنس والجن، يصرف الحيوانات، يريهم ما يفزعهم حتى لا يقربوا إليه ولا يدنوا منهم، وهو يقول للشيء: كن فيكون، فاندهش الآن وتأكد أنه نام مائة سنة، كيف؟ إنه فعل الذي قدر على إماتتك مائة سنة وأحياك، انظر إلى العجب الذي هو أكثر منك: تين وشراب ما يتغير على مر عشرات السنين.وأعظم آية هي الأخرى: وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ [البقرة:259]، أين الحمار؟ فنظر وإذا بالعظام بيضاء تلوح هنا وهناك، هذا مشاهد، إذا مات الحمار تأتي الحيوانات تأكله وتبقى عظامه بيضاء تلوح في الأرض. وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ [البقرة:259]يا عبدنا، وإذا بتلك العظام تتجمع آلياً أوتوماتيكياً العظم إلى العظم، وتناسبت كل الأجزاء، وغشيت باللحم والجلد وإذا بالحمار يقف، فاركب وكل واشرب وامش. وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا [البقرة:259]، وقراءة نافع وغيره: (ننشرها)، كَيْفَ نُنشِزُهَا [البقرة:259]، أي: نرفعها، والمعنى كله صحيح. وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259]، وعادت تلك المدينة كما كانت، وأعظم مما تكون، وأخزى الله بختنصر وجيشه ورجاله، آية من آيات الله عجب.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

ملخص لما جاء في تفسير الآية

يقول تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ [البقرة:259]، هذه مدينة القدس الطاهرة، وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259]، سقطت مبانيها وسقوفها على الأرض.قال عزير: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ [البقرة:259]، والبرهنة: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259]، الطعام والشراب مر عليهما مائة سنة وما تغيرا؟! عجب هذا، ولا عجب مع قدرة الله عز وجل وعلمه وحكمته. وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ [البقرة:259]، وهل تعرفون بعض خبر الحمار؟ إن الذين يقرءون القرآن ويحفظونه ويقرءونه على الموتى ولا يعملون به هؤلاء هم الحمر، واقرءوا قول الله عز وجل: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5]، يحفظ القرآن ولا يفهم منه كلمة، ولا يقوم بواجب، ويقرؤه فقط على الموتى، هذه حالنا دهراً طويلاً حتى أنقذنا الله بما شاء أن ينقذنا، كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5].وعندنا لطيفة: أيام كنا ندرس النحو، كان المعلم يضرب المثل دائماً بالحمار، يقول: ضرب زيد الحمار، مررت بحمار، فلماذا الحمار فقط؟ قالوا: لأنه أبلد مخلوق، وتمضي الأعوام، وجاءت السيارات وأصبحنا نركب السيارة، فتمر على الحمار في الطريق فتضرب له جرس السيارة وتنادي ليبتعد فلا يفهم أبداً، يمد رأسه ويمشي، فقلنا: سبحان الله! ألهم الله تعالى النحاة هذه، فقلنا: نعم، وقد يكون فلان أشد بلادة من الحمار.والرسول صلى الله عليه وسلم ركب الحمار، وأذكركم بحمار عبد الله بن عمر ، فـعبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان قادماً من مكة أو ذاهباً إليها، ثم نزل ليستريح، أو جاء الليل لينام، فنام واستراح وإذا بأعرابي، فنظر إليه ابن عمر فقال له: ابن من أنت؟ قال: أنا ابن فلان، فقام فأخرج عمامة كان يربط بها رأسه في الليل يشده بها، وأعطاه العمامة وأعطاه حماره، فـنافع مولاه رضي الله عنه تعجب: يا مولاي! هذا أعرابي يكفيه حفنة تمر، كيف تعطيه عمامتك وتعطيه حمارك؟ هذا الحمار تروح به على نفسك. أي حين يمل ركوب البعير فيركب الحمار للترويح على النفس.فقال: يا نافع ! أتدري من هذا؟ هذا والده كان صديقاً لـعمر ، وهنا تتجلى حقيقة، وهي بر الوالدين، فأصدقاء أبيك وأمك ينبغي أن يبقوا أصدقاء تزورهم وتكرمهم، وتبجلهم وتحترمهم كاحترامك لأبويك، هذه الروابط والصلات الربانية، أبوه كان صديقاً لـعمر ، فأعطاه حماره وعمامته. وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ [البقرة:259]، أي: انظر إلى حمارك لتتأكد من صحة ما سمعت أولاً، وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ [البقرة:259]، آية على ماذا؟ على وجود الله رباً وإلهاً، وعلى قدرته على كل شيء، حيث لا يعجزه شيء، وعلى علمه الدقيق الذي أحاط بكل شيء، وعلى حكمته التي لا يخلوا منها شيء، وبهذا استحق بأن يعبد وحده ولا يعبد غيره، واستحق أن يطاع ويطبق شرعه، لما فيه من الإكمال والإسعاد للبشرية، لا أن تطاع الفروج والأهواء والشهوات والضلال والملاحدة والكفار. وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ [البقرة:259] دالة على قدرتنا وعلمنا وربوبيتنا وألوهيتنا موجبة لعبادتنا وحدنا؛ فلا إله إلا الله، وهو أيضاً آية من آيات النبوة المحمدية، لو لم يكن رسول الله فكيف يتلقى هذا العلم؟ من أين يأتيه؟ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا [البقرة:259]، أغمض عينيك فقط وشاهد وانظر فتتجلى الحقيقة كما هي.إذاً: لما شاهد قال: أَعْلَمُ [البقرة:259]، وفي قراءة: (اعلم) أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259]، والكل واحد، فهذه آية.

دلالة الآية على ولاية الله تعالى للمؤمنين

وبقيت أخرى إليكموها: هي أن كل هذا لتعلموا أن الله ولي الذين آمنوا، أما مؤمن ويشرب الحشيش، مؤمن ويركل المؤمنين برجليه، مؤمن ولا يشهد الصلاة مع المؤمنين؛ فهذا كذاب، المؤمن: الذي يدفعه إيمانه إلى أن يطيع الله ورسوله، فلا يخرج عن أمرهما ولا يفسق عنهما بحال. ولهذا في آية يونس قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا في الحياة هذه، ولا في البرزخ ولا يوم القيامة، ومن هم أولياء الله؟ هل سيدي عبد القادر ، مولاي إدريس ، العيدروس ؟ يا رب! بين لنا أولياءك لنعرفهم حتى نمشي وراءهم، ونقتدي بسلوكهم ونتعلم الهدى والعلم منهم، لا نعبدهم بالحلف بهم، والذبح لهم، والنذور لهم، والعكوف على قبورهم. لقد مررنا ببلد ما أيام الدعوة وإذا بالنساء والأطفال والرجال مخيمين، قلنا: ما هذا؟ قالوا: هؤلاء زوار سيدي فلان، سبعة أيام وهم عاكفون يدعون غير الله، ويمر بهم علماء، بل ويشاركونهم أيضاً! فمن أبعدنا عن نور الله؟ الثالوث الأسود: المجوس واليهود والنصارى، فهيا نكرههم ونبغضهم ونتخلى عنهم، لسان حالنا: ما نستطيع، نمشي وراءهم حتى نهلك كما هلكوا، هذه حالة أمة الإسلام، صرفوها عن مادة حياتها وسعادتها.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ...)

ثم قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ [البقرة:126]، من إبراهيم هذا؟ هذا أبو الأنبياء، هذا أبو الضيفان، هذا الخليل هذا جد نبيكم.مداخلة: .. الله.الشيخ: الحمد لله، هذا الأب الرحيم باني الكعبة.إذاً: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ [البقرة:260]، أي: يا رب، لم حذف ياء النداء؟ لا يحتاج إليها؛ لقرب الله تعالى، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، أما الذين يحتاج إلى الياء فهو البعيد: يا فلان، يا فلانة، أما الله تعالى فما يحتاج إلى ذلك، تقول: رب هب لي من لدنك رحمة. قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، لا تلوموه وهو الخليل، تخلل حب الله خلاياه وثغرات جسمه وقلبه، يعيش مع ربه، رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، حتى يطمئن قلبي وتهدأ أعصابي ونعرف كيف يتم هذا، أنا مؤمن بأنك تحيي الموتى وأحييت وتحيي، لكن نريد أن نعرف ليرتفع منسوب إيماني ويقيني.وقد ذكرت لكم مثلاً وضحت لكم به القضية: هل فيكم من لا يؤمن بأن الشاشة في التلفاز تنقل حقيقة من هم في المركز، هل هناك من يشك؟ لا أحد، لكن قد تقول: كيف يتم هذا؟ لو وجدت من يبين لك وهم لا يعرفون، وما يستطيعون أن يبينوا لقلت: كيف هذا؟ هو في الشرق وأنا في الغرب، ونشاهده يتكلم أو يرقص! فلا عجب في قول الخليل عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]؛ لأن إحياء الموتى أعظم آية، والله! لو يجتمع العالم بأسره وابدأ بالذين يقولون: لا إله، وهم البلاشفة الحمر، لو اجتمعوا بأطبائهم وكل ما لديهم على أن يردوا الحياة لميت؛ فوالله! ما يستطيعون، والله! ما يقدرون ولا لذبابة، إذاً: قولوا لهم: قولوا: لا إله إلا الله، لم الفرار والهروب حتى لا تعبدوه فتكملوا وتسعدوا؟ فإنكم تخسرون وأنتم لا تشعرون.

معنى قوله تعالى: (قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، فقال الله عز وجل له: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [البقرة:260]، أتقول ما تقول ولم تؤمن؟ قَالَ بَلَى [البقرة:260]، كيف لا؟ نؤمن بك أنك تحيي الموتى، وأنك على كل شيء قدير، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، ماذا قال أبو القاسم؟ ( نحن أحق بالشك من إبراهيم )، لو كان إبراهيم شك فنحن أحق بالشك، ونحن -والله- ما نشك، إذاً: والله! ما شك إبراهيم أبداً.وماذا قال عن يوسف عليه السلام؟ قال: ( ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي )، يوسف عليه السلام لبث سبع سنين في السجن، وجاءه رسول الحكومة، فقال: لا حتى يمتحن هذا الحادث وتظهر الحقيقة، وأنني بريء.إذاً: قال إبراهيم: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، وتسكن روحي وتهدأ بالمشاهدة، فأجابه الرحمن، وكيف لا وهو وليه؟! اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، من الجهل، الشك، الارتياب، إلى نور اليقين والعلم، وهذا كائن إلى الآن وإلى يوم القيامة، من والى الله ولاية حقه لن يخزيه ولن يذله، ولن يخيفه ولن يحزنه، على شرط أن يوالي الله موالاة حقيقة، ما يفضل عليه كأس اللبن.

معنى قوله تعالى: (قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ...)

إذاً: قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [البقرة:260]، ولسنا في حاجة أن نقول: غراب، عقاب، وحمامة.. ما هناك حاجة إلى هذا، هذا علم لا ينفع والجهالة به لا تضر، وهذه القاعدة محروم منها المسلمون، وخاصة طلبة العلم، يقضي الساعة والساعات والجدال في شيء ما ينفع، في علم لا ينفع والجهالة به لا تضر، أيما شيء علمك به لا ينفعك اتركه، أو جهالته لا تضرك اتركه، لم تضيع فكرك ووقتك؟ وهذا يلهينا عن طلب الحق وبيانه للناس، ونحن مشغولون بهذه، علم لا ينفع وجهالة لا تضر، فإذا عرفنا العقاب والغراب وسائر الأربع فماذا استفدنا؟ فهل العبرة بها أو بحياتها بعد تمزيقها؟ يا أبناء الإسلام! إذا كانت القضية في الحديث والتفسير، في السياسية، في أي موضوع، وتعلم أن علمك بها ما ينفعك، وأن جهلك بها ما يضرك؛ فاتركها، والقاعدة: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، في كل مجالات الحياة. قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260]، اجمعهن إليك واذبح ومزق، ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا [البقرة:260]، جاءت الطيور، حصل عليها وجمعها، فذبحها وجزأها واحتفظ برءوسها، وخلط العظام والأفخاذ والظهور والسيقان، ووزعها على أربعة جبال، ما هذه الجبال الأربعة؟ علم لا ينفع وجهالة لا تضر، ممكن أنه لو عرفناها سنمشي لنعبدها أيام كنا ضلالاً ونتبرك بها، فمن الخير ألا تعرفها، علم لا ينفع وجهالة لا تضر، أيام كان الهبوط كان -والله- أكثر علماء المسلمين يشتغلون بهذه، والصراع والجدال فيها؛ لأنهم موقوفون، ما هناك دعوة دافعة إلى أن يعبد الله وحده، إلى أن تستقيم الآداب والأخلاق، هذا ما هو من نصيبهم، جدالهم يدور في هذه المسائل، وإن شئتم حلفت لكم على أنا رأيناهم كذلك.إذاً: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ [البقرة:260]، أي: من الطيور الأربعة جُزْءًا [البقرة:260]، ليس بشرط أن يكون بالمقادير، بل جزء منها. ثُمَّ ادْعُهُنَّ [البقرة:260]، نادهن: يا طيور! تعالي. وما هي إلا لحظات، وقد سبق في الحمار كيف تم خلقه في لحظات، وإذا بالطيور تتكامل في الخلقة، لحم العقاب مع العقاب، ولحم الغراب مع الغراب وعظامه، وتأتي واحداً بعد واحد، وما ظهر منها كاملاً وضع رأسه عليه وانطلق. ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا [البقرة:260]، ليست جريحة تململ.

معنى قوله تعالى: (واعلم أن الله عزيز حكيم)

وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260]، (عَزِيزٌ): غالب لا يقهر، عزيز لا يمانع في شيء أراده أبداً، قادر على أن يذل الأعزاء ويعز الأذلاء.(حَكِيمٌ ): يضع كل شيء في موضعه، الشمس وضعها في ذلك المجال، لو تزحف بالزيادة بالنقصان فسيخرب العالم، كل شيء في موضعه، وهذا هو الحكيم، وهذه هي الحكمة، فكيف يعرض عن كتابه وشرعه ودينه؟ كيف تطلب الحكمة من الفساق والفجار ويقتدى بهم ويؤتسى بهم؟ الحكمة أين توجد؟ توجد عند أهل القرآن، أهل الإيمان والتقوى.اسمع هذا البيان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، إعلان عن أعظم جائزة في الدنيا، إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، كل واحد عنده جهاز رباني، ينظر إلى الشيء فيعرف خطأه من صوابه، هؤلاء هم الذين يجب أن يسوسوا العالم الإنساني، والعالم الإسلامي أولاً، أما أصحاب الظلمة التي آثارها واضحة في السلوك، الظلمة الناتجة عن الفسق والفجور والكفر بالله ولقائه، والإعراض عن ذكره وكتابه؛ فهولاء كيف يسوسون، إلى أين يسوقون البشرية؟ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، عمر يقول عنه عبد الله ولده: ما قال أبي في شيء: أظنه كذا إلا كان كما ظن! فما سبب هذا؟إنه صفاء الروح، زكاة النفس؛ لأنه أبعد عنها ما يدسيها ويلوثها من الكذب والخيانة، والباطل والشرك والمنكر، فصفت فانكشف أمامه كل شيء، فالمؤمن ينظر بنور الله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-14, 07:10 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (30)
الحلقة (37)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (126)


يوجه الله عز وجل عباده المؤمنين إلى الإنفاق في سبيله من الأموال التي وهبهم إياها، ومن الرزق الذي استخلفهم فيه، وبين عز وجل أنه يضاعف لمن أنفق في سبيله إلى سبعمائة ضعف، وقد بين سبحانه وتعالى أنه ألزمهم بآداب معينة عند الإنفاق، وهي أنهم إن وجدوا ما ينفقونه فلا ينبغي لهم إتباع ذلك بالمن والأذى، وإن لم يجدوا ما ينفقون فليقولوا قولاً معروفاً، بل إن القول المعروف دون إنفاق خير من الإنفاق المصحوب بالأذى والمن.

تفسير قوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا وولي المؤمنين.ها نحن مع هذه الآيات الثلاث من سورة البقرة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة:261-263].

المراد بالإنفاق في سبيل الله تعالى

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261]، الأموال معروفة، وإنفاقها: إخراجها وفي سبيل الله: المراد من سبيل الله هنا: الجهاد، الإنفاق على المجاهدين؛ لإعداد العدة، وللخروج للقتال في سبيل الله، وسبيل الله عام، كل ما يصل بالعبد إلى رضا الله هو سبيله، كل عمل تنفق فيه من أجل أن يعبد الله تعالى وحده فهو سبيل الله، الطريق الموصل إلى رضا الله عز وجل بعبادته وحبه والخوف منه حتى تقرع باب دار السلام، فذلكم سبيل الله.هذه الآية وإن قيل: إنها نزلت في عثمان وفي عبد الرحمن فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن هذا الكتاب كتاب هداية ربانية للبشرية جمعاء، وإلى أن تنتهي هذه الحياة. مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261]، هذا القيد نِعمَ القيد، أما في سبيل الهوى والشهوات والدنيا، أو السلطان والتراب والطين؛ فلا، هؤلاء شأنهم آخر، ما أنفقوا لله.

معنى قوله تعالى: (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة)

هؤلاء المؤمنون صدقتهم ونفقتهم التي أنفقوها مثلها في التضاعف والتكثير والزيادة كمثل حبة من بر أو ذرة أو شعير، والغالب أنها البر، حبة في أرض طيبة، ليست سبخة ولا ملحة، تربة صالحة للبذر والزرع والحصاد. كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261]، لما خرج ذاك الفسيل تفرع عنه سبع سنابل، السنبلة الواحدة فيها مائة حبة، سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة:261]، إذاً: الحسنة بسبعمائة، حبة من القمح أنتجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، إذاً: الحسنة هنا بسبعمائة حسنة.

معنى قوله تعالى: (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم)

هذا الإنفاق خاص بالجهاد، ومع هذا يقول تعالى: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، فقد تنفق في غير الجهاد ومع طيب النفس والرغبة فيما لدى الله، ولسد حاجة المحتاج، وتنفق ونفسك طيبة، وتريد بالإنفاق رضا الله ووجهه ليحبك، وترزق حبه، فقد يضاعفها لك مثل هذه المضاعفة وأكثر، ولهذا يقول: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذا الأمة: يضاعف الله الحسنة إلى ألف ألف، أي: إلى مليون؛ لأنه فتح باب الإفضال والإنعام: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261] من عباده، هذه المضاعفة لا تشك في أنها قامت على أساس زكاة النفس وطيب الروح وسلامة القلب، ومن المال الطيب الحلال، وابتغاء مرضات الله، يضاعف الله لك ما يشاء، درهم من نفس طيبة ومن حلال قد يعدل ألف درهم فيها شبهة. وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ [البقرة:261] واسع الفضل والعطاء والجود والكرم، عَلِيمٌ [البقرة:261]: عليم بخلقه وبمن هو أهل للمضاعفة فيضاعف له، فنِعمَ هذا التعقيب: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، ما هو بضيق العطاء، يده سحاء الليل والنهار ينفق ما يشاء.

مقاصد الجهاد في سبيل الله تعالى وافتقاره إلى بيعة الإمام

معاشر المستمعين! هنا كلمة لا بد أن نذكرها، وإن شئتم نقلتموها أو قبرتموها كما هي عادة أمتنا لما هبطت: فهذا الإنفاق في الجهاد؛ لأن عثمان رضي الله عنه في غزوة العسرة جهز ألف بعير، وجهز ألف غازٍ بسلاحه وطعامه وأثاثه.والآن: أين الجهاد؟الجهاد معشر المستمعين والمستمعات: بذل الجهد والطاقة والسعة البشرية، كل ينفق بحسب طاقته وقدرته، ولكن المراد من كلمة الجهاد المعهود المعروف ذي الفضل العظيم والدرجات العالية: هو ما كان من أجل الله تعالى ليعبد في الأرض، أو ليرفع الظلم عن أوليائه وصالحي عباده، هذا الجهاد يفتقر إلى الإمام، إلى إمام للمسلمين، إذ لم يأذن الله عز وجل أبداً أن يجاهد الناس فرادى أو كتلاً هنا وهناك، لا بد من إمام يرجع إليه، لا فوضى في الإسلام، الإسلام مبني على الأنظمة التي من شأنها تحقيق السعادة والكمال، والطهر والصفاء، والعز في الدنيا ودخول دار السلام الجنة في الآخرة، فمال المسلمين ما بايعوا إماماً لهم في هذه الروضة؟ مع المواصلات المتوافرة، أصبح العالم كأنه بلد واحد، هذه الوسائل التي أصبحنا نطير بها في السماء كالملائكة وأصبحت أصواتنا نتلقاها كأننا في يوم القيامة، فلم لا يجتمع المسلمون ويبايعون إماماً لهم وينظم حياتهم، وينتظمون في سلك لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا يعبد إلا الله ولا يتابع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟هناك أسباب كثيرة منعت من هذا، أسباب قوية وصعبة، كيف نستطيع معها أن نجتمع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبايع إمامنا وننتقل إلى ديارنا نطبق شرع الله وقوانينه المسعدة، المزكية، المطهرة، المعزة، الرافعة؟والله العظيم! ما من أمة أقبلت في صدق على الله، وطبقت شرعه وقوانينه إلا أورثها الأرض وأعزها ونصرها، وها هو وعد الذين سمعوه في تلك الروضة: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، لما نزلت هذه الآية كان أحدهم ما يستطيع أن يخرج من بيته ليبول من الخوف، وما إن أقبلوا على الله في صدق، ومشوا وراء رسول الله يحبونه أكبر من حبهم لأنفسهم،فإذا أمر أطاعوه، وإذا نهى أطاعوه، في خمس وعشرين سنة فقط حتى امتد ظل راية التوحيد من المدينة العاصمة إلى ما وراء نهر السند شرقاً، وإلى ديار الأندلس غرباً في ربع قرن لا أقل ولا أكثر، هذا مصداق قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55]، وكلمة: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55] أي: طبقوا شرائعه في أنفسهم وأهليهم، وفي كل ظروفهم وأحوالهم؛ لأنها قوانين وضعت وضع السنن التي لا تتبدل، فالطعام يشبع، الماء يروي، النار تحرق، الحديد يقطع، سنن لا تتبدل، إذاً: تطبيق هذا التعاليم الإلهية والله لا يتخلف.وعرف العدو هذا فكاد للإسلام وأهله، فمزقوهم، شتتوهم، فرقوهم، المذهب الواحد أصبح مذاهب، وصراط الله الواحد أصبح طرقاً متعددة، والقرآن النور أبعد عن ساحة العمل، أخرج من كل مكان، ووضع على القبور والموتى، فحصل الذي حصل، فمن بعد القرن الثالث والأمة هابطة.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

مقترح بتشكيل لجنة عالمية لرفد الدعوة الإسلامية في العالم

والآن: عدنا إلى ما أردت أن تسمعوه وتبلغوه، أقول: هل الإمام غير موجود؟ إنه موجود، ولكن الكبر والعصبية والجهل والمرض ما يسمح للمسلمين أن يتعاهدوا عند بيت الله في داخله فيقولوا: يا فلان! أنت إمام المسلمين! نقول: تعالوا إلى الروضة، وهذا الكلام كتبه شيوخكم من خمس وثلاثين سنة، ووزعناه على الملوك والرؤساء، والكتابة موجودة في رسائل معروفة.إذاً: كيف يقال: هيا نجاهد الآن؟ نجاهد بدون إمام؟ جهاد باطل، مصيره ومآله الخسران ظاهراً وباطناً، والحمد لله. ما هناك حاجة الآن إلى الجهاد بالسيف أبداً، لم؟ كيف نقول: هيا نخرج بسفننا الحربية، بالغواصات، بالبوارج لنرسو أمام دولة كافرة كفرنسا مثلاً؟ لماذا؟ لم نغزوها؟ فرنسا فيها ثلاثة آلاف مسجد، ويذكر فيها الله، ويؤذن فيها باسم الله، وأبوابها مفتوحة، فلم نغزو إذاً؟ لا معنى لذلك أبداً، هل نرسو بسفن حربية في موانئ بريطانيا، لم وفيها يذكر الله ويعبد، وفيها آلاف المساجد، لم إذاً نغزوها، باب الله مفتوح، ما هناك حاجة -والله- للغزو في هذه الظروف أبداً.إني أتكلم *والله- على علم، فأسبانيا فيها المساجد وبيوت الله مفتوحة والناس يعبدون الله فيها، إذاً: كيف نجاهد؟ والذي أريد أن تفهموه وتعوه وتبلغوه أن الفرصة ذهبية، ويخشى أننا نفقدها في يوم ما من الأيام، هذه الفرصة هي: أن يتكون لنا مجلس علمي، ويشارك فيه كل إقليم وكل دولة من دول العالم الإسلامي بعالم رباني، عالم بالله ومحابه ومساخطه، يخشى الله ويخافه ويرغب في حبه وطاعته، هذا المجلس الذي أسهم فيه كل إقليم بعالم، وقد بلغت دولنا نيفاً وأربعين دولة، المجلس يتكون من خمسة وأربعين عالماً، اجتمعوا في الروضة المحمدية، هذا المجلس فيه سرية أيضاً، ولسنا في حاجة إلى التبجح والإعلانات؛ حتى لا نثير الصليبية ضدنا، أو نخيف اليهودية والمجوسية فتكيد وتمكر كما فعلت من قبل، ثم ننتقي اللجان كل لجنة من ثلاثة أنفار، لجنة إلى أمريكا ودولها من كندا إلى البرازيل، ولجنة إلى أوروبا الغربية، وأخرى إلى الشرقية، ولجنة إلى الصين، وأخرى إلى اليابان، وخامسة إلى أفريقيا، هذا اللجنة تذهب تدرس وضع الجاليات الإسلامية، كم يوجد في هذا البلد من مسلم؟ مليون، أو ثلاثة ملايين، أو مائة ألف؟ يزورون الإقليم بكامله، ويتعرفون إلى المسلمين، ويعودون وقد عادت كل لجنة بخارطة رسمت فيها كم مسجداً، في كم مدينة، بل المدينة الفلانية فيها كذا مسجد، والأخرى فيها كذا، وعدد المسلمين كذا، ويعودون بعد ثلاثة أشهر فيقدمون تلك الخرائط فيعرف ذلك المجلس الأعلى الرباني، يعرف كيف يجاهد الجهاد العملي، وحينئذٍ اللجنة تكون لجنة أخرى تطوف بدول العالم الإسلامي، وتطالب كل مسلم ومسلمة أن يسهم بدولار أو ربعه. معاشر المؤمنين والمؤمنات! لا يحل لأحدنا اليوم ألا يسهم في هذا الجهاد، الإقليم الفلاني تعداد أنفاره عشرة ملايين نسمة، إذاً: كل سنة يقدمون لنا عشرة ملايين دولار، الإقليم الفلاني أفراده مليون يقدمون المليون، فيشارك كل مؤمن في هذا الجهاد السري العملي، وإذا بها ميزانية عظيمة، ونحن حددنا دولاراً أو ربع دولار، ولكن إذا لاحت أنوار هذا الجهاد وتجلت فسينفق الناس أموالهم ويخرجون منها، حينئذٍ تكونت الميزانية، فاللجنة تذهب إلى أسبانيا مثلاً وتأتي بالعلماء الربانيين، تنزل في كل مسجد أو ناد أو مركز للدعوة عالماً ربانياً، فتوزع المربين والدعاة الهداة الذين لا ينظرون إلا إلى الله، وتوزع الكتاب الذي يدرس ويلقن ويعلم على غرار كتاب (المسجد وبيت المسلم) أو (منهاج المسلم)؛ حتى لا تبقى فرقة، ننسى كلمة: أنا حنفي، أنا مالكي، أنا حنبلي، أنا إباضي، أنا كذا.. انتهت، عدنا إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأبنائهم وأحفادهم؛ لأن العدو لما مزقنا وذبحنا عرف مصدر قوتنا، إنها الكتلة الواحدة، المذهب الواحد، فمزقنا فأصبحنا شراذم هنا وهناك، ومن ثم ركبوا ظهورنا، وساسونا، وفعلوا فينا الأعاجيب، وأصبحنا مسخرين لهم لضعفنا وعجزنا.إذاً: وتبدأ الأنوار تلوح، فالصيني والياباني والأمريكاني والأوربي من المسلمين كشخص واحد، كلمة واحدة هي: المسلم، وينفقون تلك الأموال على تنمية تلك الروح وتزكيتها، والناس إذا عرفوا أنه ينفق عليهم في سبيل الله لإعلاء كلمة الله تتغير طباعهم وأخلاقهم، ويأخذون في مظهر الإسلام الحق: الصدق، الوفاء، التنزه، الشجاعة، الكرم، تنتهي مظاهر الخبث والشر والفساد، ليس هناك مسلم ما يصلي، ومسلم يشرب الخمر لا وجود له، ولا مسلم يهون ويذل، والله! لتصبحن تلك الأمم تعتنق الإسلام وتفرح به، وينتشر الإسلام بصورة عجيبة. فالمناسبة قائمة؛ لأن البيان والهداية آثارها في المواطنين، جارك بريطاني أو أمريكي يمتحنك العام والأعوام فتتجلى له في الطهر والصفاء والكمال والعفة والصدق فيحبك، وإذا أحبك سلك مسلكك وطلب النجاة من ورائك، في ربع قرن خمس وعشرين سنة من الجائز أن يظهر الإسلام ظهوراً كاملاً. وعندنا وعد تقدم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوم الساعة حتى لا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا دخله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل )، ومن ثم نكون قد أدينا واجب الجهاد.

طريق تحقيق الإسلام الحق في ديار المسلمين

وقد نستحي إذا رأينا العالم يزدهر، نستحي نحن في بيوتنا أن تظلم وتصاب بالظلام، فنعود إلى الاستقامة على منهج الله، والطريق عندنا أيضاً أسهل من الأول، الطريق إلينا سهل.وقد قررنا هذه الحقيقة وأعدنا القول فيها، وهي أن أهل القرية كأهل الحي، يجتمعون في بيت ربهم من المغرب إلى العشاء، وذلك كل ليلة وطول العام، ولا يتخلف أحد أبداً إلا ذو عذر شرعي يمنعه من الحضور، وندرس كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سنة واحدة كيف تكون حالنا؟ لا خيانة، لا كذب، لا كبر، لا عجب، لا حسد، لا جريمة أبداً، ومن ثم يوضع صندوق من حديد في محراب مسجدنا، ويقال: معاشر المؤمنين والمؤمنات! من زاد على قوته درهم واحد فليضعه في هذا الصندوق، وبعد ستة أشهر يمتلئ، فننتقي لجنة من صالحي الحي أو القرية ونقول: ماذا ترون لتنمية هذا المال؟ قالوا: الساحة تقتضي مزرعة تنتج البر واللحوم والبيض والدجاج؛ فهيا باسم الله، فلا تمضي سنة إلا وقد نما ذلك المال وارتفعت نسبته، ويوزع ذلك الربح على أهله بقدر إيداعاتهم، صاحب الدرهم يأخذ قدره، وصاحب الألف يأخذ قدره.ثم الزكاة، يقال: معشر المؤمنين والمؤمنات! هذا أوان الزكاة. فتأتي الزكوات، ومن ثم يتوافر المال أولاً، فلم يبق بينا يا أهل القرية من يسأل ويطلب غير الله، لا يبقى بيننا من يبكي من شدة الجوع، أو من شدة ألم العري؛ لأننا نعيش مجتمعين، وجوهنا إلى بعضها، يعرف بعضها بعضاً، نعيش على الحب والولاء والطهر والسلام. هذا هو الطريق لإعادة ديار المسلمين إلى الإسلام، لا بالأحزاب، ولا بالجمعيات ولا بالتكفير ولا بالحروب، والله! ما تنتج هذه ذلك أبداً.إنما يقول الخطيب: يا معشر المستمعين من أهل لا إله إلا الله! من الليلة لا يتخلف مؤمن ولا مؤمنة عن هذا المسجد، فإن قيل: يا إمامنا! المسجد ضيق؟ قال: الليلة وسعوه، لا تطلع الشمس إلا وقد زدتم فيه مسافة أخرى، ولو بالخشب والحطب، لسنا بحاجة إلى الرفاهة، ونفرش من الحصر ويجلس المؤمنون والمؤمنات ويجتمعون في بيوت الله، وقلوبهم كلها مع الله والدار الآخرة، ويأخذ المربي ليلة آية وليلة حديثاً، وهم ينمون وترتفع معنوياتهم وهممهم وآمالهم، فتنتهي مظاهر الضعف فينا، الشح والبخل والشره والطمع والتكالب على الدنيا وزخارفها، والتنافس في المطاعم والمشارب والملابس كل هذا ينتهي؛ لأننا مقبلون على السماء نريد الملكوت الأعلى، فهل يكلف هذا المسلمين شيئاً؟اليهود والنصارى خصومنا أعداؤنا إذا دقت الساعة السادسة مساءً أوقفوا دولاب العمل، وحملوا أطفالهم ونساءهم إلى دور الرقص، السينما، اللهو، الباطل، ولا لوم؛ لأنهم ما عرفوا السماء ولا ما فيها، ولا رغبوا في الرقي إليها، عرفوا الأرض، أخلدوا إليها، وهم لا يعرفون إلا شهواتهم، فسيعملون بجهدهم لتحقيق شهواتهم في الطعام والشراب واللباس والسكن والنكاح، فلهذا إذا دقت الساعة السادسة أقبلوا على الباطل، ونحن الذين نزعم أننا نريد الملكوت الأعلى لنرتقي مسافة سبعة آلاف وخمسمائة عام بأرواحنا اليوم وبأبداننا غداً ما نستطيع أن نجلس في بيوت ربنا؛ لنزيل آلام الحزن والكروب والمخاوف والأحزان، لنطهر أنفسنا ونزكيها لتصبح أهلاً للملكوت الأعلى، كما قال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30]، هذا النداء للنفس الطاهرة الزكية، فهل تطهر النفوس وتزكو على الباطل؟ على الأغاني والرقص؟ على الكذب والباطل؟ كلا. بل على هذه العبادات المقننة تقنين الكيمياويات، لتعمل عملها في تهذيب الإنسان وتزكيته وتطهيره، فنعرض عنها أو نأتيها بصور لا تنتج الزكاة أبداً، ونحن نأمل أن ندخل الجنة!
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

دور الإنفاق في الدعوة العالمية وإصلاح أوضاع العالم الإسلامي

معاشر المؤمنين! هنا تتجلى حقيقة الإنفاق في سبيل الله، مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، فهل عرفتم الجهاد الآن؟ خارج الديار الإسلامية بم يكون؟ بالبواخر؟ بالهيدروجين؟ لا، يكون بالدعوة، بنظامها، بربانيتها، بأهلها، لجنة عليا يتفرع عنها لجان يطوفون بالعالم شرقاً وغرباً يضعون خرائط للجاليات الإسلامية بالتفصيل، وميزانية سرية يسهم فيها كل مؤمن ومؤمنة، والله! لو تمت وصدقت لرأيتنا نخرج من أموالنا، لا إنفاق عشرة أو مليون، بل يخرج الرجل من ماله كاملاً؛ لما يتحقق به من الهداية الإلهية للبشر، فهذا هو الجهاد في الخارج. فلم ما يتكون هذا؟ ما المانع؟ من الذي يقوم بهذا؟ العلماء، والأذكياء، والفطناء، والربانيون يقدمونه إلى الحكام والحكام يوافقون ويأمرون. والجهاد في الداخل كما قلت لكم: جهاد النفس فقط، أهل القرية كأهل الحي في المدينة، في خطبة الجمعة يقول الإمام: معشر الأبناء والإخوان! من الليلة لا يفارق أحدنا هذا المسجد ليصلي المغرب والعشاء بامرأته وبناته وأولاده، ونتعلم ليلة آية وأخرى حديثاً من الكتاب والسنة، فتنتهي المذاهب ومقتضيات الفرقة والخلاف والنزاع نهائياً، كما انتهت في العالم الذي رفعناه إلى قمته بدعاتنا وكتبنا فاتحدت الكلمة والعقيدة والمنهج، فتتحد أيضاً بلاد المسلمين من باب أولى، بـ(قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم).ونصبح أحياء بعد الموت، وتتجلى حقائق الإسلام، تدخل القرية فما تستنكر فيها أحداً ولا صورة ولا صفة، تتعامل معنا في متاجرنا، في معاملنا فلن تسمع كلمة سوء، ولن تشاهد منظراً باطلاً، وإن وقع شيء من الشذوذ فلا قيمة له.نعود إلى الآية الكريمة: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، هذه للإنفاق في أوروبا وأمريكا والصين واليابان.

تفسير قوله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذىً ...)

والآن مع الآية التي هي للإنفاق في داخل القرية والمجتمع والحي، قال تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262]، لا بد من هذا القيد وإن كان من حديد، فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262]، ما معنى (سبيل الله)؟ أي: من أجل أن يعبد الله وحده، من أجل أن يتقرب الناس إليه ليعبدوه، فيكرمهم ويعزهم، ويهيئهم للملكوت الأعلى، فيسكنهم دار السلام، هذا سبيل الله. الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262]، اسمع القيد: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى [البقرة:262]، ينفق ماله أولاً لا يريد إلا وجه الله، لا أن يسمع فلان أو فلانة، ولا أن يقال: فلان يعطي وفلان يتصدق، ما يريد إلا وجه الله، ثم حين ينفق على المسكين، على المحتاج، على اليتيم، على الأعرج، على المريض، على الذي لا يستطيع أن يعيش لعلة قامت به أو ظروف لزمته، بعد ذلك لا يتبع ما أنفقه مناً، وما المراد من المن؟ المن: أن يذكر له العطاء الذي أعطاه، فهذا المؤمن، هذه الرباني، هذا الحي إذا كسوته بثوب، أو وضعت على رأسه عمامة، أو وضعت له في جيبه درهماً أو عشرة، هذا له عزته وله كرامته، هذا ولي الله، وإنما هو تحت الامتحان، هو ممتحن من سيده ليصبر أو يضجر، لا أقل ولا أكثر، وعما قريب ينجح وتزول المحنة، في هذه الحال إذا أعطيته لا تقل: تذكر كذا يوم كذا؟ هذا كأنما تقتله به، وما يرضى الله أن يهان وليه، أعطيته عطاء تريد به وجه الله لا وجهه هو، إذاً: فلا تمن عليه بما أعطيته، لا تذكره أبداً، ولا تقل للناس: أعطينا فلاناً وأعطينا فلانة، هذا المن حرام، الذي يمن هو الله ليُشكر، أما أنت فتمن لماذا؟ كل ما في الأمر أنك أعطيت من عطاء الله فقط وتريد وجه الله، هل تطلب أكثر مما تعطي، إن كنت تريد أن يرضى الله تعالى عنك ويحبك فلا من ولا أذى.والأذى ما هو؟ أن يعطيه ويسبه، يعطيه ويدفعه، يعطيه ويعيره، يقول: أنتم ما تستحون، فهذا الإنفاق باطل باطل باطل، ما يزكي النفس، كالذي يتوضأ ويبول، هل يبقى وضوؤه؟ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى [البقرة:262] لا يعقبون عليها بمن ولا أذى لمن أعطوه.

جزاء المنفقين بغير منٍّ أو أذى

وأخيراً: ما الجزاء؟ قال تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البقرة:262]، أجر نفقتهم عند ربهم مدخر، ممكن أن يعجل لهم منها في الدنيا، وكم من منفق يبارك الله في ماله وإنفاقه، هي عنده فيعجل منها ويدخر الباقي لدار السلام، هذه الحور، هذه القصور، هذه الأنهار، هذا العالم أكبر من الأرض عشر المرات تعطاه يا عبد الله في ذلك الملكوت مقابل هذه الصدقات، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البقرة:262]، هذا أولاً.وثانياً: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:262]، لا يخافون عدواً، ولا يخافون فقراً، ولا مرضاً، ولا موتاً، ولا يحزنون لما يفقدون أبداً؛ لأن قلوبهم مطمئنة، نفوسهم زكية، لا خوف عليهم في الدنيا هذه ولا في الحياة الثانية البرزخ بين الحياتين ولا يوم القيامة.ولا تفهم يا بني أنه يتكلم مع اليهود والنصارى والفساق والفجار والمشركين، لا، بل يتكلم مع المؤمنين، إذا كانت العقيدة فاسدة فلا ينفع العمل، فانتبه! الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262]، والحقيقة أنه ما ينفق عبد في سبيل الله إلا وهو مؤمن على مستوى أعلى في إيمانه بالله ولقائه، لو كان ينفق في سبيل الوطن والبلاد والعصبية فهذا شيء ثان، لكن فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262]، لا يلتفت إلى غير الله، والله! إنه لمؤمن، ولن يكون إلا مؤمناً ومرتفعاً في نسبة الإيمان، هؤلاء ينفقون في سبيل الله أموالهم، والله! قد يكون أحدهم في حاجة إلى هذا الطعام ويقدمه لمن هو جائع، في حاجة إلى هذا المال ويقدمه لآخر؛ لأنه يريد وجه الله عز وجل، ولا من ولا أذى، ينفقون ما ينفقون ولا هم لهم إلا أن يرضى الله عنهم ويحبهم فقط، ولهذا ينفقون حتى على فقراء اليهود والنصارى؛ لأنهم يريدون الله لا غيره.قال تعالى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:262].

تفسير قوله تعالى: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ...)

وأخيراً: الآية الثالثة: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، من الذي قرر هذه الحقيقة؟ الله عز وجل. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ [البقرة:263]، جاءك المحتاج فتقول له: يا بني إن كان صغيراً، أو: يا أخي إن كان مساوياً لك، أو: يا أبت إن كان أكبر منك، تقول له: الله عز وجل يرزقك، ما عندنا ما نعطيك، أنا آسف، اسأل الله. هذا هو القول المعروف، قول معروف ما فيه ما يستنكر، ما فيه ما ينكر، ما فيه عيب، ولا شتم، ولا تعيير ولا تقبيح.وإخوانكم اليوم تعرفونهم؛ لأن الأخلاق هبطت، وكيف تهبط والقرآن موجود والسنة موجودة؟ ذلك لأنهم هجروا الكتاب والسنة، ما يجتمعون عليهما طول الحياة، هل بين المسلمين من يجلس مجلساً كهذا أربعين سنة، فكيف يتعلمون؟ كيف تتهذب الأخلاق؟ كيف تزكو النفوس؟ حالنا كالذي يقول: شخص لا يأكل ولا يشرب ويقوى ويسمن! فهل ممكن هذا؟ لا يأكل ولا يشرب ويحيا؟ لا يدرس كتاب الله وسنة رسوله في بيت الرب وهو جالس بين يديه ويصبح ذا أخلاق فاضلة، والله! ما يكون أبداً؛ حتى لو ورثها من أبويه، لكن ما تزكو النفس كما هي في بيت الرب.إذاً: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ [البقرة:263] لمن زلت قدمه أو أساء في الكلام؛ لأن بعض السائلين أيضاً يسبون: يا بخيل! فاغفل أنت وتجاوز، وقل: عفا الله عنك، هذا العفو وهذه المغفرة خير من صدقة ولو كانت مليون ريال، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ [البقرة:263] والله! أفضل عند الله من صدقة بالملايين يتبعها ويجري وراءها أذى لمن تصدقت عليه، بإهانته أو سبه أو شتمه أو تعييره واحتقاره.سبحان الله! هذا كلام من؟ كلام ربنا، هل عرفه المؤمنون والمؤمنات؟ ما عرفوه، من قرون والقرآن العظيم لا يقرأ إلا على الموتى، لو تغمض عينيك ويحيا عدد من علماء القرن الحادي عشر والعاشر والتاسع ويجدونني أتكلم فسيغلقون آذانهم ويهربون، سيقولون: كيف يتكلم بكلام الله هذا الصعلوك؟! من أين له؟ لأنهم وضعوا قاعدة، قالوا: تفسير القرآن العظيم صوابه خطأ، إذا فسرت وأصبت فأنت مخطئ، وخطؤه كفر، وراجعوا حاشية الحطاب على خليل فستجدون هذه الفقرة موجودة.فكيف تتهذب أخلاقنا وما جلسنا بين يدي المربين والمهذبين؟ مستحيل، أما قال إبراهيم وإسماعيل: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، الآن المدارس فيها تعليم الكتاب بعض الشيء، ولكن ما هناك من يزكي النفوس ويطهرها بالتربية والتهذيب والإصلاح، فهل سمعتم هذا الكلام؟ اللهم اشهد علينا.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-16, 02:01 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (31)
الحلقة (38)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (127)


بعد أن رغب الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين في الصدقات ونبه إلى ما يبطل أجرها من المنّ والأذى، نادى عباده هنا مبيناً لهم أن المنان بما أعطى يبطل الله عز وجل صدقته كما يبطل صدقة المرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وضرب سبحانه وتعالى لذلك مثلاً بالحجر الأملس الأصم الذي عليه تراب، فأصابه مطر شديد فأزال عنه التراب وتركه أملس ليس عليه شيء، وذلك كمثل الصدقة الباطلة التي لا ينتفع بها صاحبها يوم القيامة.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ...) من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا المأمول.وها نحن مع هذه الآية المباركة الكريمة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264].سبقت هذه الآية أيضاً في هذا المعنى هذه الآيات الثلاث، ولنستمع إليها ولنستذكر ما قد كنا قد علمناه، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة:261-263]، سبحانه لا إله إلا هو.

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات: من هداية الآيات:أولاً: فضل النفقة في الجهاد وأنها أفضل النفقات ]، أفضل النفقة -أي: الإنفاق- في الجهاد، وهذه النفقة أفضل النفقات، بدليل أن الحسنة بسبعمائة، بل وقد يضاعف الله بأكثر، فمن أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].وهل تذكرون معنى سبيل الله؟ إنه الجهاد. ومتى يكون الجهاد في سبيل الله؟ إذا كان من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض بأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه سواه، فترسو سفننا في ميناء دولة كافرة ونراسلهم، نجري سفارة بيننا وبينهم: جئناكم من أجل هدايتكم وإنقاذكم من عذاب الخلد يوم القيامة، جئناكم من ربنا وربكم، فإن قبلوا الإسلام دخلنا وعلمنا وبينا وأرشدنا وقضينا بالعدل وحكمنا، وما هي إلا أربعون يوماً وإذا بهم ربانيين، فإن قالوا: لا، فديننا قبل دينكم، لا نقبل ديناً غير دين آبائنا وأجدادنا، فإنا نقول لهم: ادخلوا في حمايتنا، ادخلوا في ذمتنا ونسوسكم بالعدل والرحمة والخير، وتطهر بلادكم وتصفو من الظلم والشر والفساد، ونتولى حمايتكم حماية كاملة، إذا اعتدى عليكم معتد فنحن الذين نقاتله وأنتم آمنون، فإن قالوا: في هذا خير؛ دخلنا وعلمنا وربينا وهذبنا، وما هي إلا سنيات وإذا الإقليم كله يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، حين يشاهدون بأعينهم مظاهر العدل والرحمة والطهر والصفاء والمودة والإخاء، فينجذبون انجذاباً كلياً.ومن قال: كيف؟ فقل له: ما دخل في الإسلام إنسان بالعصا أبداً، ما دخل إنسان في الإسلام إلا باختياره وطيب نفسه، إذ لا إكراه في الدين، ما بلغنا أن أحداً ضربوه حتى يسلم، والله! ما كان. فإن رفضوا فالحرب حتى ننقذ غير العسكريين من الأميين المساكين الذين يعيشون في ظلمة الكفر والفسق والفجور والشر والفساد ومصيرهم الخلود في عذاب النار، ننقذهم استجابة لأمر ربنا، هذا هو الجهاد في سبيل الله. فهل إخواننا الأندونيسيون لما حاربوا هولندا حاربوها من أجل أن يعبد الله وحده؟ من أجل أن يقوم دين الله وشرعه؟ من أجل أن يستقيم المؤمنون على منهج الله؟ الجواب: لا، فما هو في سبيل الله إذاً، لو كان في سبيل الله لأنبت الطهر والصفا والعزة والكمال والأمن والرخاء والسيادة، فهل حصل من هذا شيء؟ لا شيء، وعليه فقس كل بلاد العالم الإسلامي التي استعمرت بسبب الفسق والفجور والشرك والباطل والشر والفساد والإعراض عن ذكر الله، استعمرت من قبل الغرب ثم أخذت تستقل، أروني إقليماً قام أهله بإعلاء كلمة الله لأن يعبد الله وحده، وإياك أن تقول: هناك إقليم، فهاته. لو جوهد في سبيل الله فإنه ما إن تخرج الدولة الكافرة إلا وأنوار الإسلام تلوح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلاة وجباية الزكاة وإقامة الحدود، والأمة متوالية متآخية متحابة، ولكن ما كان القتال في سبيل الله لا في العرب ولا في العجم، وإن شئت حلفت لكم بالله. نعم الأفراد هنا وهناك قالوا لهم: جهاد في سبيل الله بدون فهم ولا وعي، فبذلوا أموالهم ودماءهم، هذا موجود، لكن حامل الراية والمجاهدون لإنقاذ البلاد هل كانوا يعملون لإقامة دين الله؟ خرجت بريطانيا فهل أعلنوا عن كلمة لا إله إلا الله؟ بل قالوا: في سبيل الوطن، والإسلام ما يعترف بالوطن أبداً، بلاد العالم كلها أرض الله يعبد فيها الله عز وجل. واسمحوا لي إذا أسأت إليكم في بيان هذه الحقيقة والواقع شاهد: استقل لنا نيف وأربعون دولة، ما فرضت الصلاة فقط في دولة منها ولا ألزم بها عسكري ولا مدني، ولا تكونت هيئة في قرية فقيل: يا رجال القرية! هؤلاء الثلاثة يأمرونكم بالمعروف وينهونكم عن المنكر! فوا حسرتاه! وا أسفاه! فالأمة الإسلامية تحت النظارة إن لم تتراجع، والفرصة متاحة وهي قادرة على أن ترجع في أربع وعشرين ساعة إلى الله وتتضامن وتعلن عن الخلافة الإسلامية، وإلا فسوف تنزل بها رزايا وبلايا ما عرفتها فيما مضى،فالله بالمرصاد، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14].قال: [ ثانياً: فضل الصدقات وعواقبها الحميدة ]، الصدقات التي تنفق لوجه الله.[ ثالثاً: حرمة المن بالصدقة ] ما المن؟ يقال: من يمن: إذا أعطى؛ إذ المن هو العطاء، والله المنان المعطي الخير، فهذا يعطي العطاء ثم يأخذ يلدغ من أعطاه: انظر إلى الذي أعطيناك، كيف أنت؟ هل وجدته طيباً؟ نحن أكرمناك، نحن عملنا معك كذا حتى يذوب عواطفه؟ فهذا حرام في الإسلام، ومعنا دليل وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق ولا منان )، ثلاثة لا يدخلون الجنة وإن صاموا وصلوا وعملوا ما عملوا، لا بد أن يكونوا متأخرين، أو بعد أن يقتحموا النار ويعيشوا فيها أحقاباً ثم يخرجون إذا كانوا من أهل الإيمان الحق.أولهم العاق: الذي قطع صلة الأبوة والأمومة مع أمه وأبيه، ثم مدمن الخمر الذي لا يصحو، دائماً البرميل في البيت يشرب منه والعياذ بالله. [ رابعاً: الرد الجميل على الفقير إذا لم يوجد ما يعطاه، وكذا العفو عن سوء القول منه ومن غيره خير من الصدقة يتبعها أذى ]، كونك تقول للفقير: سامحنا، ما عندنا شيء، الله يرزقنا وإياكم، معذرة، هذه خير من ألف ريال تقول معها: أعطيناك، أنت كذا، أنت كذا. فمن أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ [البقرة:263] عن زلة أو عن إساءة خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

إرادة الله تعالى الطهر للمؤمنين وبيان طريق تحصيل ذلك

سبحان الله! يريد الله تعالى من المؤمنين أن يساووا الملائكة في الطهر والصفاء، ويتحقق هذا إذا نحن أقبلنا على كتاب الله ندرس ونعلم ونعمل ونطبق، ما هي إلا أيام والقرية كلها نور، لا تسمع سباً ولا شتماً ولا تعييراً ولا تقبيحاً ولا يقول فلان: أوذيت ولا ضربت أبداً، كالملائكة. فإن قلت: هذه أوهام، فما الدليل؟ قلت: اذهبوا إلى أية قرية في العرب والعجم واسألوهم: من أتقاهم لله؟ من أصفاهم؟ سيقولون: فلان العالم، أعلمهم أتقاهم وأصفاهم، وأفسقهم وأفجرهم أجهلهم بالله وأضلهم، وهل تحتاجون إلى يمين؟ يقول تعالى من سورة فاطر: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] هل العلماء بالفيزياء؟ أو بالقانون؟ علماء بم؟ علماء بالله ومحابه ومكارهه، عرفوا الله وعرفوا ما يحب وما يكره، وعرفوا ما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه، فحملهم ذلك على حبه وخشيته، فلهذا لم يقدروا على الفسق عن أمره والخروج عن طاعته، والذين ما عرفوا الله كيف يحبونه؟ ما عرفوا جماله ولا كماله ولا عظمته ولا قدرته ولا إعطاءه وإفضاله فكيف يحبونه؟ ما هو بمعقول، والذين ما عرفوا ما يحب ولا ما يكره كيف يتقربون إليه بتقديم المحبوب وتأخير المكروه؟إذاً: الذي يريد من المؤمنين أن يكملوا ويطهروا بدون العلم كالذي يريد أن يقول للجمل: يا جمل! احلب لنا اللبن، والجمل ما فيه لبن، فلهذا يجب أن نتعلم. قد يقال: يا شيخ! نحن مشغولون بمتاجرنا، بمزارعنا، بالصناعة، كيف نتعلم؟ فات الوقت. نقول: لا، فقط حين تميل الشمس إلى الغروب في الساعة السادسة ويذهب الكفار إلى المقاهي والملاهي والمراقص احملوا أزواجكم وأولادكم إلى بيوت ربكم وتجمعوا فيها، صلوا المغرب واجلسوا كجلستنا هذه وتلقوا الكتاب والحكمة يوماً فيوماً طول العمر، فهل يبقى جاهل؟ والله! ما يبقى، وإذا انتفى الجهل انتفى الفسق، الفجور، الظلم، الشر، الفساد، الهون، الدون، الذل، هذه كلها تنتفي. ولكن لسان الحال: ما نستطيع يا شيخ، كيف نجتمع في المسجد ونقرأ كل ليلة؟ لأن القضاء والقدر نافذان، فابقوا على ما أنتم عليه من الضعف والهون والدون والفساد والشر.صدرت فتيا من أحد العلماء البررة الصالحين فقالوا: هذه فتيا عالم الملوك والسلاطين، عالم كذا! هبوط في الأخلاق ولا إله إلا الله، يقولون: هذا ذَنَب، هذا من علماء السلطان، وهذه كلمات يحفظونها ويرددونها بلا علم، بلا بصيرة، بلا تقوى، بلا خوف من الله. فلا تلمنا يا شيخ، ما ربينا في حجور الصالحين، إي والله، لا لوم ولا عتاب، ما ربينا في حجور الصالحين، ربينا في الأسواق والشوارع والأندية والباطل والسوء أمام التلفاز والفيديو والرقص، فماذا ترجو منا؟ عفواً ومعذرة، نستغفر الله لنا ولكم.فعدنا من حيث بدأنا، هل عرفتم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقرءون ولا يكتبون، وكانوا فلاحين ومجاهدين، ولكن يجلسون عند فراغهم في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فتخرجوا ولم تكتحل عين الوجود بمثلهم في العالم البشري من أتباع الأنبياء والمرسلين، والتاريخ شاهد، وإن لطخ وشوه تاريخهم عملاء الاستعمار الذي هو الثالث الأسود: اليهود والنصارى والمجوس، لطخوا تاريخ الصحابة وشوهوه حتى إن الجاهل المسكين ليفزع، والله! ما عرفت الدنيا أطهر ولا أصفى ولا أعدل ولا أرحم ولا أعلم من تلك الأمة التي تربت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فقط.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ...)

شرف المؤمنين بنداء الله تعالى لهم

إذاً: اسمع هذا النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:264] لبيك اللهم لبيك، الله أكبر! هل نادانا ربنا؟ إي والله، فالحمد لله؛ ما نحن ومن نحن حتى ينادينا رب العزة والجلال والكمال؟ الرب الذي يحيي ويميت، الذي علق الشمس بالسماء، هذا الرب العظيم خالق كل شيء ينادينا؟ الله أكبر! أي فضل أعظم من هذا؟ فالحمد لله، نادانا بعنوان الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:264].وعند السامعين والسامعات سر هذا، نادانا بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمنين أحياء يسمعون النداء، ويبصرون الآيات، ويقدرون على التكليف لكمال حياتهم، أما الكافرون فأموات، وهل تنادي ميتاً؟ هل تكلف ميتاً أن يقول أو يفعل؟ كلا أبداً، فلهذا نادانا تعالى في كتابه، وقد نادانا تسعين مرة، ما نادانا إلا ليأمرنا بما فيه سعادتنا وكمالنا، ولا نادانا إلا لينهانا عما فيه شقاؤنا وخسراننا في الحياتين، وما نادانا إلا ليبشرنا بما يزيد في انطلاقنا في ميادين البر والخير والإحسان، ما ينادينا إلا ليحذرنا من عواقب السوء ونتائج الباطل والشر والفساد لنحذر، وما ينادينا إلا ليعلمنا العلوم والمعارف التي تسمو عليها أنفسنا ونتسابق في الصالحات حتى نصبح أمة الطهر والصفاء، هكذا تتبعنا نداءات الرحمن لعباده المؤمنين فما خرجت عن هذه الميادين الأربعة أو الخمسة. ونداءات الرحمن جمعت في كتاب واحد، تسعون نداءً ضعها عند رأسك قبل أن تنام واسمع ربك يناديك. فماذا يقول ربي هنا؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264] فمن ثَمَّ لا تمن ولا تؤذ فقيراً حتى لا تبطل صدقاتك، واستمر طول حياتك.نداءات الرحمن تسعون نداءً في العقيدة، في الآداب، في الأخلاق، في العبادات، في السياسة، في الحرب، في السلم، في الاقتصاد، لو أن مؤمناً يعرف ويقرأ ويفهم ويقبل في صدق على تلك النداءات فيحفظها قولاً وعملاً واعتقاداً فوالله! ليصبحن من أعلم أهل الأرض، ولكن:لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تناديقلنا: ترجموها إلى اللغات الحية، يا جماعة المسلمين! وزعوها في الفنادق العالمية، لنقول لكل مخلوق: خالقك وربك سواء كنت إيطالياً أو أسبانياً هو الذي يناديك، ولكن ما استطعنا، ما زالت أمتنا هابطة، فدعنا من البكاء يا هذا.

بطلان أثر الصدقة المتبعة بالمن والأذى

فالله عز وجل ينادينا فيقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264] من تصدق بريال أو بدينار أو بمليار إذا هو منَّ على من تصدق به عليه أو آذاه بكلمة بطل مفعول صدقته، والله! لا تقبل. وعندنا سر من أسرار الشريعة، وهو أن بطلانها معناه: لا تولد الطاقة النورانية للقلب والنفس البشرية؛ لأن هذه العبادات مولدات للنور القلبي، فإذا فسد مفعولها أو بطلت لا تولد الحسنات، ويبقى القلب في ظلمة والنفس في عفن. قلنا لكم: قم صل المغرب أمام فقيه أربع ركعات، سيقول: صلاتك باطلة لأنك زدت ركعة، فما تولد لك الحسنات، عملك باطل ما تأخذ عليه شيئاً. فإن صلى المغرب ركعتين قال: يا ولدي! صلاتك باطلة، زد ركعة، فإن قال: يكفي وصلاها ركعتين فهي باطلة، ما تولد الحسنات، أو تصدق بألف ريال وقال: خذا يا هذا، نحن دائماً نعطيك ونفعل؛ فبطلت، فما تولد النور المطلوب؛ لأن النفس البشرية تزكو وتطيب وتطهر على هذه العبادات التي شرعت لأجل ذلك: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] فإذا هذه العبادات داخلها ما يطفئ نورها ولم تولد نوراً فهي باطلة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264] فما يحدث في نفسك شيء من النور أبداً، بل الظلمة هي هي.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر)

ثم قال تعالى: كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [البقرة:264] الكاف بمعنى: مثل، كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [البقرة:264] ما معنى رئاء الناس؟ راءاهم يرائيهم رئاءً: أراهم عمله، ينفق ماله مراءاة للناس ليعلم الناس أن فلاناً يتصدق أو ينفق أو يبني مساجد أو ينشئ أربطة أو يشتري كذا للفقراء والمساكين، همه أن يعلم أهل البلاد أو أهل الإقليم ليمدحوه ويثنوا عليه، وليقللوا من ذمه أو احتقاره أو اتهامه بالبخل أو بالشح مثلاً، ليقولوا: هذا أنفق ألفاً وألفين وعشرة، والدافع له الباعث له على الإنفاق هو أن يحمده أهل البلاد: فلان سخي، فلان كريم، فلان يفعل كذا، أو خشية أن يذموه وقد أغناه الله وجيبه مملوء بالدراهم والدنانير فيقال: شحيح، بخيل، ما فيه خير، فيدفع هذه المذمة فيوزع ويعطي المال، لا يريد تزكية نفسه وتطهيرها، لا يريد إرضاء ربه ليرضى عنه، هذا أعمى عنه لا يلتفت إليه، كل ما في الأمر أنه يريد أن يبرز في المجتمع ويظهر.ونظير هذا أرباب المال والتجارات والمصانع يتصدقون للتشهير والإعلان عن تجاراتهم وأعمالهم، ما يريدون وجه الله، بل حتى تروج البضاعة ويقبل الناس على هذه السلعة يشترونها، فهذه مراءاة. كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:264]، تستطيع أن تحلف بالله على أن الذي ينفق ماله رئاء الناس لمدحهم والثناء عليه أو لعدم تعييرهم وذمهم له ما آمن بالله واليوم الآخر، لو حقق الإيمان بربه ولقائه والوقوف بين يديه فوالله! ما يرضى أن يعمل حسنة يفوته أجورها، فتستطيع أن تقول: إذا رأيت الرجل طول حياته لا ينفق إلا من أجل أن يراه الناس فاعلم أنه ما آمن حق الإيمان بالله ولا باليوم الآخر.

معنى قوله تعالى: (فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً ...)

كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ [البقرة:264] كماذا؟ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [البقرة:264] الصفوان: الحجر الأملس الصلب، الحجارة الملساء، ومنه جبل الصفا بمكة، هذا الصفوان عليه تراب ناعم، رمال أو أتربة، الغافل يجيء يزرع ويبذر فيه وإذا بمطر ينزل فيسحبه كاملاً ويبقى صلصالاً مجرداً كصلعة الأصلع ما عليه شيء، فهذا تعبير عجب. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [البقرة:264] من الحجارة عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ [البقرة:264] وهو المطر إذا اشتد وغزر، الوابل: الغزير الكثير، أصابه وابل أي: من المطر، فتركه صلداً لا شيء عليه، ما بذره وزرعه كله زال، والله! لكما أخبر تعالى، لو أنفق مليون ريال في رمضان وهو لا يريد إلا الشهرة والسمعة ليحمد ويشكر أو لئلا يذم فأجره لا شيء، ما زالت نفسه مظلمة خبيثة كما هي، ما طهرها هذا الإنفاق أبداً؛ لأنه إنفاق باطل أريد به غير وجه الله. وهذا كلام الله أو كلام الناس؟ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:264] الذي كسبوه وأنفقوه لا يحصلون منه على شيء، ويبعثون يوم القيامة ولا حسنة واحدة، ما أنفقوا لوجه الله، وهناك مثل آخر في سورة إبراهيم: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم:18] مثل ما ينفقه الكافرون من أموال، في المستشفيات، توزيع الأدوية، توزيع الصدقات، كسوة الفقراء والمساكين، فرجال المسيحية أما يفعلون هذا؟ جمعيات التنصير أما تنفق الأدوية وتأتي بالأطباء والأكسية والأغذية، هل يريدون وجه الله؟ يريدون نشر الباطل، أعمالهم هذه كرماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، وهكذا كل ما أنفق لغير الله هو باطل الثواب ولا ينتج لصاحبه طهارة نفسه وزكاة روحه أبداً، ولا يتخلف هذا القانون أبداً.

معنى قوله تعالى: (والله لا يهدي القوم الكافرين)

قال تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264] لا يهديهم إلى ما يكملهم ويسعدهم، ما يهديهم إلى ما يطهرهم ويزكيهم، لماذا؟ أعرضوا عنه، عموا، أبوا أن ينظروا إلى الله، أبوا أن يؤمنوا به، أن يؤمنوا بشرعه، حاربوه، عاندوه، فهل سيهديهم؟ لا يهديهم، والله لا يهديهم حتى يطلبوا هدايته ويقرعوا بابه ويطرحوا بين يديه، حينئذ لا يخيب من قرع بابه وسأله، أما مستكبر معرض عن الله فوالله! لا يهديه الله أبداً، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران:86]، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة:108]، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264] لم؟ لأنهم ما أرادوا، ما طلبوا، لو أراد أن يهديهم بدون سعي لخلقهم كالملائكة مهديين أطهاراً أصفياء، لكن خلقهم للامتحان، إن أجابوا دعوته وأقبلوا عليه قبلهم، وإن أعرضوا أعرض عنهم؛ لأن لهم مصيراً خاصاً، ما خلقت النار إلا لمثلهم، والمقبلون ما خلقت الجنة إلا لمثلهم، والدار دار امتحان، لو شاء الله أن يخلقنا كلنا من أهل النار لفعل، أو من أهل الجنة كالملائكة لفعل، ولكن أراد أن يبتلي: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك:1-2] لم؟ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] فإذا سمعت أن الله لا يهدي القوم الفاسقين والمجرمين والكافرين فمعناه: إذا ما طلبوا الهداية، عرضت عليهم ورفضوها، دعوا إليها فأنكروها، كذبوا بمصدرها؛ هؤلاء والله! لا يهديهم الله حسب سنته إلا إذا جاءوا مذعنين ودخلوا في رحمته واستغفروه وطلبوا هدايته.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية: بعد أن رغب تعالى في الصدقات ونبه إلى ما يبطل أجرها وهو المن والأذى؛ نادى عباده المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:264] ] ناداهم [ ناهياً عن إفساد صدقاتهم وإبطال ثوابها، فقال: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264] مشبهاً حال إبطال الصدقات بحال صدقات المرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر في بطلانها، فقال: كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:264]، وضرب مثلاً لبطلان صدقات من يتبع صدقاته مناً أو أذى أو يرائي بها الناس أو هو كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر فقال: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ [البقرة:264] أي: حجر أملس عليه تراب، فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا [البقرة:264] أي: نزل عليه مطر شديد فأزال التراب عنه فتركه أملس عارياً ليس عليه شيء، فكذلك تذهب الصدقات الباطلة ولم يبق منها لصاحبها شيء ينتفع به يوم القيامة، فقال تعالى: لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:264] أي: مما تصدقوا به، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264] أي: إلى ما يسعدهم ويكملهم من أجل كفرانهم به تعالى ].

هداية الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية: من هداية الآية:أولاً: حرمة المن والأذى في الصدقات وفسادها بها ]، الصدقة بالمن حرام، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يتصدق بقرش واحد لغير وجه الله، فهي صدقة باطلة، ولا يحل لمؤمن أن يعطي أخاه ما يعطي ثم يمن عليه.[ ثانياً: بطلان صدقة المان والمؤذي والمرائي بهما ]، باطلة هذه الصدقة، وإذا تاب فليعد صدقة أخرى، فهذه لا تقبل، صدقة المان والمؤذي والمرائي، وقد عرفنا أن ثلاثة لا يدخلون الجنة، وهم: المنان كثير المن، والعاق، قاطع الصلة لوالديه، يسب ويشتم ويعير ويفعل الأعاجيب.

وقفة مع شكوى ممن حرمهن آباؤهن من الزواج

وقد وردتنا شكوى: مؤمنات معلمات الكتاب والسنة حرمهن والدهن من الزواج، فيا معشر المستمعين! يا معشر المؤمنين! إذا بلغت ابنتك سن الزواج فزوجها، ابحث لها عن زوج ولو أن تعطيه المال ليمهرها من مالك، لا تعقها عن حياتها، ما خلقت إلا لتنجب البنين والبنات ليعبدوا الله، وإذا لم يكن بنون وبنات فمن يعبد الله؟ كيف يعبد؟ وحذرت وقلت لكم: لا تعلموا بناتكم علماً يؤهلهن للوظائف؛ فإنها الذابحة، فإنها الطاحنة الحالقة، البنت لا تتوظف في أكثر من دائرة منزلها، البنت ما هي في حاجة إلى وظيفة لتحصل على ريال أو عشرة، لها من يكفلها، والدها يعرق الليل والنهار من أجلها، فإن تزوجت فزوجها هو الذي ينفق عليها، وإن ولدت فأولادها ينفقون عليها، لا تذبحوا بناتكم، ولكن تصاممتم وأبيتم، ومنكم من يسخر من هذا الشيخ.قلنا: إذا درست البنت وبلغت العاشرة من السنين قلنا: الزمي البيت، اشتغلي مع أمكِ، ربِي أخواتكِ وإخوانكِ، أحسن من أن تأتي بخادمة كافرة تفسد عليك بيتك، واتركها تعبد الله، وإذا بلغت الخامسة عشرة وجاء خاطب يخطب فزوجها. وهذا الوالد حرم بناته من الزواج لأنهن موظفات يأخذن كل شهر مبلغاً مالياً، وأخرى متزوجة تتكبر عن زوجها وتتمرد عليه لأنها تنفق عليه وتجلب المال، فلا إله إلا الله! إلى أين يذهب بنا؟ إلى أين نساق؟ اعلموا يرحمكم الله أنكم في خير ما دامت الوظيفة لا تخرج عن دائرة التعليم، فكيف بالموظفة تعمل مع الرجال؟ هل بقي شرف أو إيمان أو إسلام؟ آهٍ! ماذا فعل بنا الجهل؟ ماذا صنعت بنا أصابع الماسونية وجمعيات التنصير؟ إلى أين يذهب بنا؟ هيا نتوب إلى الله، ولكن لسان الحال: ما نستطيع يا شيخ، نحن مسحورون، سحرونا فما نستطيع، وما دمنا ما نستطيع أن نجتمع في قريتنا ونبكي بين يدي ربنا وننشئ صندوقاً في محرابنا نجمع فيه زكواتنا وصدقاتنا وننميه في القرية لنسد حاجات المؤمنين والمؤمنات، ما دمنا لا نستطيع أن نتعلم الكتاب والحكمة في ساعة من الأربع وعشرين ساعة بين المغرب والعشاء حتى تتجلى مظاهر الإيمان والطهر والصفاء؛ كل هذا نعجز عنه؛ فكيف نسمو؟ كيف نكمل؟ كيف نرتفع؟ كيف نعود لقيادة البشرية؟ آمنا بالله، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، احتس السم وإذا لم تمت فاذبحني، امش إلى المقهى والعب وإذا لم تسب فتعال اضربني، وهكذا سنن لا تتبدل، إما أن نصدق ربنا في إيماننا به، وإما في متاهات حتى نحترق.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-18, 09:01 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (32)
الحلقة (39)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (128)

بعد أن ضرب الله مثلاً لمن ينفقون أموالهم ثم يبطلون ذلك إما بالمن والأذى وإما بالرياء والسمعة، ذكر هنا سبحانه من ينفق في سبيل الله ابتغاء مرضاته، والفوز بأجره ومثوبته، وضرب لذلك مثلاً كجنة قائمة على ربوة خصبة التربة فأصابها مطر شديد فآتت ضعف جنيها وثمراتها، وحتى لو لم يصبها وابل وإنما أصابها الهواء البارد المحمل ببخار الماء فإنها تقبله وتنبت زرعها وتؤتي ثمرها في كل الأحوال.

تفسير قوله تعالى: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على عادتنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع قول ربنا عز وجل في آيتين من سورة البقرة: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:265-266].الحمد لله؛ هكذا يبين الله لنا الطريق، ولا يضل عنه إلا من أعمت الدنيا والشيطان بصره وبصيرته، ما ترك الله عز وجل شيئاً تتوقف عليه سعادة البشرية وكمالها إلا بينه في هذا الكتاب، ولكن تركوا الأخذ به، بل وتركوا حتى قراءته والتدبر فيه.والنداء الذي سبق هاتين الآيتين أذكركم به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264] فلا يحل لمؤمن أن يتصدق بصدقة يريد بها وجه الله عز وجل ثم بمن بها على من تصدق بها عليه، أو يؤذيه بالكلم السيئ والنظرة الشزر مما يهين هذا الفقير أو يضعف من كرامته.ومثل هذا مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فهل يثاب على شيء؟ الجواب: لا، إذ حقيقته: كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا [البقرة:264]، أنفق ما شئت من الملايين والمليارات فلن تحدث في نفسك زكاة ولا طهراً ولا يتقبلها رب العالمين إلا إذا أخلصتها لله وحده، فإن التفت إلى غيره وراءيت بها غير الله رفضها الله ولم يقبلها، ولم تولد لك النور والحسنات في نفسك.إذاً: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264] يا ويل الكافرين بالله ولقائه، ويا ويل الكافرين بنعمه وآلائه؛ إنهم لا يهتدون إلى سبل سعادتهم وطرق نجاتهم.

ابتغاء رضا الله وتقوية الإيمان مقصد المؤمنين في الإنفاق

وهنا مثل آخر: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:265] همه فيما ينفق أن يرضى الله عنه، وهذا شأن العالمين العارفين، لا هم لأولئك إلا أن يرضى الله عنهم، فينفقون أموالهم طلباً لمرضاة الله، فإن العبد إذا كان يشعر أن سيده غاضب عليه فوالله! لا يسعد ولن يلتذ بطعام ولا شراب ولا غيره، ونحن ما ندري أهو راض عنا أم ساخط، إذاً: فلنطلب رضاه متملقين متزلفين إليه، والله! لا نشعر بالسعادة حتى نعلم أنه عنا راض، فهؤلاء ينفقون أموالهم بحسب ما عندهم، القليل من صاحب القليل والكثير من صاحب الكثير، ينفقون ابتغاء -أي: طلب- مرضاة الله عز وجل، يطلبون رضا الله ويطلبون المثوبة والأجر بتلك الصدقة لتكفر سيئاتهم وترفع درجاتهم. وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:265] تقوية لإيمانهم، وتقوية لرجائهم في الله وطمعهم فيما عنده أن يقبل صدقاتهم ويثيبهم عليها، ما هم بغافلين ولا تائهين يفعلون ولا يدرون ما يفعلون، ما يضع صدقته في اليد التي تستحقها حتى يكون طالباً رضا الله بها وراغباً أن يظفر بالحسنة التي تكفر ذنبه وتزيل ظلمة نفسه. وهل لهؤلاء مثل كما للأولين مثل؟ فالذين أنفقوا رئاء الناس كالذي جاء إلى أرض صلبة ما فيها شيء ولكن عليها تراب فزرعه فجاء مطر وابل فمسحها كلها وتركها صلداً مجردة، فالذي ينفق ولا يريد وجه الله هكذا، ولو أنفق الملايين لا يستفيد ولا يثاب منها على درهم، وهذا مثال من أنفق ابتغاء مرضاة الله أولاً وتثبيتاً من نفسه، طلباً لرضا الله وحبه والمثوبة والأجر والحسن.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

مثل المنفق الطالب لرضا الله تعالى

قال تعالى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ [البقرة:265] أي: بستان، ولم سمي البستان جنة؟ لأن أشجارها تجن وتغطي من يدخل تحتها، كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [البقرة:265] والربوة والرُّبوة: المكان العالي المرتفع كالجبال. أَصَابَهَا وَابِلٌ [البقرة:265] المطر الغزير، كما تقدم في المثل الأول.إذاً: لم اختير هذا المكان؟ لأن الأرض المرتفعة إذا لم يكن مطر فالمطر القليل يكفيها، بل الهواء البارد الطلق كذلك يساعد على إنمائها وعلى زرعها، بخلاف التي في المنخفضات من الأرض. كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ [البقرة:265] أعطت أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ [البقرة:265]، كانت مثلاً تنتج صاعاً فأنتجت صاعين، أو ألف قنطار فأنتجت ألفي قنطار مضاعفة. فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [البقرة:265] والمطر القليل يقال فيه: طل أو رشاش أو رذاذ، إذا ما هناك مطر غزير فالمطر الخفيف مع ارتفاعها يساعدها ذلك على الإنبات؛ لأنها ليست كالمنخفضة تضرها حرارة الشمس وتؤثر عليها. فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265] التفت إلينا نحن لأن هذا الخطاب لنا ونحن نظن أنه يتكلم عن آخرين، قال: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ [البقرة:265] أيها المؤمنون بَصِيرٌ [البقرة:265] مطلع عليم، إذاً: فتقربوا إليه وتزلفوا، وأغمضوا أعينكم عما سواه، وإن أعطيتم أو أنفقتم فأعطوا لوجهه وأنفقوا من أجله، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265] ويشمل هذا كل عمل، يشمل العمل الصالح والعمل الفاسد.

تفسير قوله تعالى: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ...)

ثم واجهنا أيضاً: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ [البقرة:266] والود: الحب مع الرغبة في الحصول على المحبوب وتمنيه. أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ [البقرة:266] بستان مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [البقرة:266]، وكل أنواع الفواكه من المشمش إلى التفاح إلى البرتقال لا تعادل التمر والعنب، العنب يتحول إلى زبيب يغذي، يصنع منه ألوان الأشربة، والتمر جاء فيه: ( بيت لا تمر فيه جياع أهله )، ما يحتاج إلى طبخ، متى شئت طعمت. مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [البقرة:266] التي تسقيها لتنتج وتثمر، لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [البقرة:266] أي: في تلك الجنة غير العنب والتمر، العنب والتمر هما رئيسان، وتوجد أنواع من الثمار الأخرى من التين والزيتون وما إلى ذلك. وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ [البقرة:266] تخطى السبعين فهو في طريقه إلى القبر. وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ [البقرة:266] ما ولد إلا بعد أن بلغ الستين، له سبعة أو ثمانية أطفال بنين وبنات أعمارهم بين خمس وست وسبع سنين، فأصاب تلك الجنة إعصار فيه نار، شدة الحر الملتهب، إذ جاء في الحديث: ( أبردوا بصلاتكم في الحر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم )، فما تجدون من حر فهو من لهبها ورائحتها. أصاب تلك الجنة إعصار وريح شديدة، والريح هذه فيها نار، إذاً: فاحترقت تلك الجنة، فكيف حال هذا الشيخ؟ سنه كبير ما يستطيع أن يعمل، لا يزرع، لا يتجر، لا يحمل، شاخ مثلي، وتحته أولاد ضعفاء بنون وبنات ما بلغوا سن العمل والتكليف، والبستان الذي كانوا يعيشون منه ويأملون فيه احترق، فكيف يكون حالهم؟ إذاً: من منا يود هذا؟ والله! لا يوجد. من منا يرغب في هذه الحال؟

المفارقة بين إنفاق المرائين وإنفاق المؤمنين

تلك حال من ينفق أمواله من أجل تحطيم شرع الله وهدم أسواره، هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يلتفتون إلى من أنعم عليهم وأعطاهم، أمثال هؤلاء نفقاتهم مآلها ومصيرها وخيم، يظنون أنهم أنفقوا المليارات، وما إن يدخلوا القبر حتى تتجلى تلك الحقيقة، ما إن يقفوا في عرصات القيامة ينظرون إلى جزائهم حتى يجدوها هباءً منثوراً لا شيء فيها.وأما المؤمنون فكما قال تعالى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265]، هذه صدقات المؤمنين والمؤمنات التي ما أريد بها إلا وجه الله عز وجل، سواء كانت في الجهاد والرباط أو كانت في سد حاجات الفقراء والمساكين، أو في إنقاذهم من بلية أصابتهم أو نازلة حلت بديارهم. هذه دعوة ربانية، إذا أنفقنا ألا نريد إلا وجه الله، لا نؤذي إخواننا بالكلمة النابية والنظرة الشزر أو بالكلمة المؤذية المؤلمة، أنفق إن أنفقت ولا ترى إلا الله، هكذا يؤدبنا ربنا.
وقفات مع إعراض المسلمين عن الانتفاع بالقرآن

دور اليهود والنصارى في صرف المسلمين عن القرآن الكريم

لم ما انتفع المؤمنون بهذه الآداب؟ لأنهم ما يقرءون القرآن ولا يدرسونه، ولا يعرفون ما فيه، ما الذي صرفهم؟ أولاً: الثالوث الأسود المكون من: المجوس واليهود والنصارى، أعداء الإسلام وخصومه هم الذين صرفوا المؤمنين عن روح حياتهم ونور بصائرهم، والقرآن -والله- روح ولا حياة بدونه، والقرآن -والله- نور ولا هداية بدونه، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ [الشورى:52]، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]. أسألكم بالله: هل الذي يمشي في الظلام يهتدي إلى أغراضه ويصل إلى مطلوبه؟ بل يخسر في الطريق ويتحطم، والذي يفقد الروح هل يبقى حياً؟ أروني حيواناً خرجت روحه وبقي حياً، فالقرآن روح ولا حياة ولا طهر ولا سعادة ولا صفاء ولا كمال إلا به، متى أعرض عنه البشر وكفروا به ماتوا، ولو تعرفون حياة الفساق والفجار والمشركين والكفار كيف هي لتأكدتم من صحة أنهم أموات ما هم بأحياء، ما ذاقوا طعم الحياة ولا عرفوها. هذا هو القرآن الذي صرفنا عنه الثالوث، وقد عجزوا عن إسقاط حرف واحد، حاولوا عبر جمعيات التنصير من قديم أن يسقطوا كلمة (قل) المكونة من حرفين اثنين: القاف واللام، فما استطاعوا، وشرقوا وغربوا وتشاءموا وتيامنوا، فأعلنوا عن عجزهم؛ لأن هذا القرآن مكتوب في السطور ومحفوظ في الصدور، لو أخذوا المصاحف كلها وأحرقوها فموجود مثلها في صدور المؤمنين والمؤمنات، فكيف يفعلون؟ هذا اعترافهم؛ لأنهم قالوا: لولا كلمة (قل) لكان في الإمكان أن نضلل الناس ونقول: هذا الكلام من كلام محمد فقط، ليس من كلام الله، عاش في الصحراء ذات الحرارة فالتهبت قرائحه وأنتج هذا الكلام، لكن أيكون من المعقول أن يقول متكلم لنفسه: قل؟ قل يا أيها الناس، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، فما يمكن أن يتكلم بنفسه فيقول: قل، إذاً: هناك أحد يأمره قطعاً، فلما عجزوا عن إبعاده من الصدور فماذا يفعلون؟ احتالوا وحولوه إلى الموتى، وسلوا كبار السن في دياركم، مضت قرون ثلاثة وأربعة لا يقرأ القرآن إلا على الموتى فقط.

ضياع سنة الاستماع لتلاوة القرآن الكريم ومدارسته

وما زلت أقول آسفاً: إلى الآن لا تجد من يجلس تحت ظل جدار أو شجرة ويقول لأخيه: من فضلك أسمعني شيئاً من القرآن! أو يجلس في مجلس ويقول: أيكم يسمعنا شيئاً من كلام الله! إلا ما قل وندر، والرسول صلى الله عليه وسلم وعليه نزل وأنزل يقول لـابن مسعود : ( اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيعجب الصاحب ويقول: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري )، ويقرأ عليه وإذا بالرسول يبكي وعيناه تذرفان الدموع وهو يقول: ( حسبك ). فانتهى أمر سماع تلاوة القرآن من قرون، يقرءونه على الموتى، لا تسمعه في بيت من البيوت إلا إذا كان فيه ميت، من إندونيسيا إلى موريتانيا، أكثر من ثمانمائة سنة، أما الاجتماع عليه ودراسته هكذا فلا، ووضعوا قاعدة فقالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر! فمن يفتح فاه ويقول: قال الله؟ لو تجلس في مجلس يدرسون الفقه أو النحو وتقول: قال الله تعالى فإنهم يغلقون آذانهم، يقولون: اسكت. فهل نجح الثالوث الأسود في إماتة أمة القرآن أم لا؟ والله! لقد نجحوا، أما ما استعمروهم؟ أما حكموهم وسادوهم من إندونيسيا إلى موريتانيا؟ أين ممالك الهند؟ حتى أقل بلد، استعمروهم وحكموهم، وسادوهم، نكلوا بهم وعذبوهم، وكيف يسلطهم الله عليهم؟ لأنهم ماتوا، أماتوهم فلما ماتوا ركبوا ظهورهم، فهل هذا يحتاج إلى برهنة أو تدليل؟ فالقرآن الروح، وانظر إلى أربع آيات أو خمس آيات كلها في تأديبنا حتى يصبح المؤمن حقاً مؤمناً، فإذا أنفق ما زاد عن قوته وقوت أهله ينفقه لوجه ربه، حتى لا يؤذي ذلك المؤمن حتى بكلمة نابية، حتى لا يمن عليه في يوم من الأيام ويقول: أعطيناك وألبسناك أو فعلنا كذا؛ لأن المؤمنين أولياء الله، والله عز وجل والله لا يرضى أن يهان وليه أو يذل وليه بحال من الأحوال، الله ولي الذين آمنوا وما يرضى أن يهانوا أو يدانوا أو يعذبوا أو يضطهدوا وهم أولياؤه، فلم يسمح أبداً لمؤمن أن يؤذي مؤمناً تصدق عليه بصدقة قلت أو كثرت، عظمت أو حقرت، وانظر كيف ضرب الأمثال ليعقلها البشر وتبلغ إلى نفوسهم.

دعوة إلى العودة إلى الله تعالى
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:265] مثلهم: صفتهم، ما هي؟ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ [البقرة:265] الحسنة بعشر، الحسنة بسبعمائة، الحسنة بألف ألف، فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [البقرة:265] والطل كافٍ، والندى كافٍ، والجو البارد كافٍ في أن تواصل ثمارها ونتاجها؛ لأنها زرعت باسم الله، وأعطيت هذه الصدقة باسم الله، فلهذا لو نرجع إلى الله ما شعر بيننا فقير بهون ولا دون، ولا شعر بألم ولا بكى ولا دمع ولا تأسف ولا تحسر، ولذا كان المؤمنون يندر أن يوجد بينهم من يمد يديه ويقول: أعطوني، فمتى نرجع؟ حتى يذهب الاستعمار، كنا نقول هكذا: حتى نستقل، أما استقللنا؟ هل بقي بلد محكوم بسلطان الكفر؟ الجواب: لا، كل العالم الإسلامي يسوده رجاله وأهله وهم الحاكمون فيه، إذاً: ماذا ننتظر؟ هيا نستقم على منهج الله ونسر في طريق كمالنا وسعادتنا، ولكن ما عرفنا كيف نتحرك، تحركنا بتكفير الحكام والضجيج عليهم والسخط على سلوكهم فنكلوا بنا وعذبونا وخسرنا الجانبين، فماذا استفدنا؟ كيف نعمل؟ هل فيكم من يرغب في كيفية العمل أم لا حاجة بنا؟

الجهل علة كل شر وفساد

أولاً: اعلموا أن علة كل شر وظلم وخبث وفساد واحدة، ألا وهي: الجهل، علة كل شر يقع في الأرض أو ظلم أو فساد أو خبث والله! لهي الجهل، وقد قررنا وكررنا القول وقلنا: لو نجمع مؤتمراً لعلماء النفس وعلماء السياسة وعلماء الكون وعلماء الحياة من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين ونطرح عليهم هذا السؤال: ما علة هذا الخبث الذي خمت الدنيا به من اللواط والزنا والفجور؟ ما علة هذا الظلم الذي انتشر في العالم؟ ما علة هذا الفساد؟ ونترك لهم الجواب، فهل سيعرفون الجواب؟ والله! لا يعرفون، هذا يقول: الفقر، هذا يقول: الظلم، هذا يقول: الحكام، هذا يقول كذا ويتخبطون، ونحن نعرف، والله! إنا لعلى علم، علة كل شر وخبث وفساد وظلم هي الجهل، ولكن هل الجهل بمسائل التقنية والفيزياء، بالتجارة والفلاحة؟ إنه الجهل بالله تعالى، ما عرفوه فلم يحبوه، ولم يرهبوه، والذي لا يحب الله ولا يرهبه أنى له أن يستقيم في الحياة، والله! ما استقام ولن يستقيم ولن يعيش إلا وهو يتخبط يميناً وشمالاً، ما عرفوا الله فما أحبوه لجهلهم به، ولا خافوه، ثم معرفة محابه، وهذا تابع للأول، أيما إنسان أبيض أو أسود عرف الله والله ليطلبنك بإلحاح أن تعرفه بما يحب ربه من اعتقاد أو قول أو عمل حتى يتملقه ويتقرب إليه بفعل ما يحب، وما من عبد يعرف الله معرفة يقينية إلا طلب منك أن تدله على ما يكره ربه ولا يحبه، إذاً: فإذا أحب الله وخافه وعرف ما يحب ففعله وعرف ما يكره فتركه؛ فوالله! لهذا هو الصراط إلى دار السلام.

نظرة في واقع التعليم المدرسي والجامعي

إذاً: العلم، فقد بعث الله الرسول فقال: مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [النساء:165]، وقد تقول: يا شيخ! العلم متوافر عندنا، أيما دولة صغيرة فيها آلاف المدارس، هذه هي الحجة، الدنيا كلها مدارس وجامعات وكليات، فأين آثار هذا العلم الذي تزعم؟ فماذا نقول؟ ما هناك جواب. والجواب عندنا: هل فتحت هذه المدارس والكليات والجامعات من أجل الله تعالى؟ الجواب: لا. وهل بعثوا أبناءهم وبناتهم ليطلبوا العلم من أجل أن يعرفوا الله ويعبدوه؟ الجواب: لا. إذاً: كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:264].من منكم أيها الفحول ويا أيتها المؤمنات أخذ بيد طفله وقال: تعلم لتعرف ربك فتحبه وتخافه وتطيعه؟ وإنما يقول: تعلم لتكون كذا وكذا، تعلم لتنال كذا، لتكون في المستقبل كذا وكذا.وقد بلغني أحد الإخوة أن طلاب العالم الآن في الامتحانات، وكذلك في المملكة، وقال: ادعوا الله لهم اليوم بالنجاح، فقلت: لن ندعو؛ لأن نياتهم ما هي بتلك النيات التي يريدون بها وجه الله، إذ لو أرادوا وجه الله فوالله! ما طلبوا النجاح ولا فكروا فيه أبداً، إذ هم يطلبون المعرفة والعلم ليعبدوا الله عز وجل، فما دام أن الوظيفة مستقبلي يا بابا إذاً: فما لله منه شيء، وهذا واقع مر، هذا في ديارنا ديار القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف بديار الغافلين ومادة الفقه فيها مرة في الأسبوع؟!إذاً: هل نفعت هذه المدارس؟ ما نفعت. فماذا نصنع إذاً؟ كيف نخرج من هذه الظلمة؟ سوف تعلمون، والله! ما إن تصل الروح إلى الحلقوم وتأتي الغرغرة حتى ينكشف الغطاء ويظهر أمامك كل شيء، واقرءوا: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:84-87]. تحدانا الله، فهل استطاعت روسيا أو اليابان أو الصين أن يقفوا في وجه الله فيردها؟ قل لهم ليردوها.

المساران العلميان في الحياة الإسلامية

إذاً: متى نعود إلى الله؟ هل نغير مناهج التعليم؟ ما نستطيع، ما نقوى عليها، قد يقال: هل تدعوننا إلى أن يعود إلينا الاستعمار ونذل ونهون للغرب والشرق، ماذا هذه الدعوة الجافة الرجعية اليائسة، نحن نريد أن نقفز أكثر مما وصلنا إليه؟! فنقول: لا، دعوا مدارسكم، حولوها إلى مدارس صناعات وفيزياء وزراعة وتجارة، ثم الطريق الذي نريده والمسلك المنجي والذي ينجينا هو أن نسلك فقط مسلك رسول الله وأصحابه وأولادهم وأحفادهم، فمن صلاة الصبح ونحن مشمرون عن سواعدنا، هذا يزرع وهذا يبني وهذا يفعل، فاعمل، ومن نهاك أو لامك على هذا فلا تصغ إليه، اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، لتزدهر الصناعات والفلاحة؛ لأن جهودنا قوية، ولأننا ربانيون عملنا لله، لا غش ولا تلاعب ولا ضحك ولا لهو ولا باطل، فإذا مالت الشمس إلى الغروب ودقت الساعة السادسة اغتسلنا، توضأنا، تطهرنا، وقف دولاب العمل، من صلاة الصبح والدكاكين تشتغل، فهيا لنستريح، يتوضأ أحدنا ويلبس أحسن ثيابه ويأتي بامرأته وأولاده إن كانت له امرأة وله أولاد، إلى أين؟ إلى بيت الرب جل جلاله وعظم سلطانه، إلى المسجد الجامع. فإن قيل: يا شيخ! المسجد لا يتسع؟ قلنا: وسعوه، قد يقال: كيف نوسعه، نحتاج كذا شهراً؟ فأقول: رسول الله بنى مسجد قباء في سبعة أيام أو ثمانية، فإذا أذن المغرب دخلنا في مناجاة الله عز وجل وصلينا، فإذا فرغنا من الصلاة اجتمعنا كاجتماعنا هذا، ويجلس لنا عالم بكلام الله وكلام رسوله يعطينا آية ويقول: تغنوا بها أيها المؤمنون والمؤمنات، فنحفظها، آية من آياته من كتابه تحفظ، ثم تشرح لنا وتفسر، وتبين لنا، وأخيراً يقول: معشر المستمعين والمستمعات! معشر المؤمنين والمؤمنات! ضعوا أيديكم على المطلوب، الآية تطلب منكم أن تعتقدوا أنه لا إله إلا الله فاعتقدوا، الآية تطلب منكم أن تغضوا أبصاركم وتحفظوا فروجكم فغضوا أبصاركم عن نساء المؤمنين واحفظوا فروجكم عنهن، الآية تأمر بالإخلاص في الصدقة وإرادة وجه الله، فمن الآن لا يتصدق واحد منكم وهو لا يريد وجه الله. وغداً حديث نبوي نتغنى به ونحفظه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه ) ويتغنون به ويحفظونه نساءً ورجالاً وأطفالاً، ويقول المعلم: كل المسلمين إخوانكم، وهل الأخ يذبح أخاه؟ هل الأخ يكشف عورة أخيه؟ هل الأخ يسب أخاه؟ الجواب: لا، إذاً: كلكم إخوان، فمن الليلة لا يشكو مؤمن أخاه إلى ربه، لا سرقة، لا كذب، لا غش، لا خداع، لا كبر، لا ظلم، لا اعتداء أبداً. وبعد غدٍ آية، وبعده حديث، وطول العام وهم يتلقون الكتاب والحكمة، أهل القرية بجميعهم، أهل الأحياء كلهم، أسألكم بالله: هل يبقى بيننا جاهل أو جاهلة؟ ماذا أنفقنا على طلب هذا العلم؟ كم ديناراً؟ لا شيء أبداً، بل وفرنا المال وكثر عندنا لأن نفوسنا تهذبت وانقطع الشح وانقطع البخل وانتهى الإسراف والبذخ والتطاول في الدنيا والتكالب على مظاهرها، فهذا كله يموت، فماذا نصنع بالمال؟ لم يبق بيننا فقير يذل أو يهون. أسألكم بالله: هل هذا الطريق يتعب؟ والله الذي لا إله غيره! لن يستقيم أمر أمة من أممنا في شعوبنا وديارنا الاستقامة الحقة الربانية إلا على هذا المنهج، أحببنا أم كرهنا، وقد جربوا الاشتراكية وجربوا الرأسمالية وجربوا وجربوا، وكل التجارب باءت بالفشل، أليس كذلك؟ قولوا لي: ما المانع أن نفعل هذا؟

دعوة إلى العلم المنير لمحاربة الجهل

قد يقول بعض الحاضرين: الحكومات مانعة التجمعات للفتنة التي أشعلتم نارها وما عرفتم كيف تهتدون أو تهدون غيركم، فلما واجهتم الحكام بالنقد والطعن والتكفير والقتل غضبوا فمنعوا! فأقول: بدأ هذا من الجهل، وعدم البصيرة، فهيا لنعود إلى العلم لنحيا، والطريق بيناها، فيا قروي! اذهب إلى قريتك واتفق مع إمامك وشيخ القرية وقل لهم: هيا نرجع بأمتنا إلى الكمال والسلام، من الليلة نأتي بنسائنا وأطفالنا ونجتمع على تلاوة كلام ربنا وتدبره، والقرية الفلانية والفلانية، ما هي إلا سنة واحدة حتى تشاهد أنوار الإيمان، تشاهد الطهر والصفاء، تشاهد المال لا يطلب، ما بقيت لنا رغبة فيه، القليل من الطعام يكفينا، والذي يستر عوراتنا من اللباس يكفينا، وهكذا.. والله! لا طريق إلا هذا، بلغوا العلماء والأمراء والحكام والساسة، وبلغوا أوروبا والصين واليابان، والله! لن يسعدوا ولن يطهروا ولن يكملوا ولن يخرجوا من دائرة الظلام إلا بالعودة إلى هذا الكتاب الإلهي، والأيام تمضي وهم في بلاء وشقاء وعفن وشر وفساد، ما ذاقوا طعم الحياة، وإن طلبوا البرهنة فما نستطيع أن نقول إلا إذا بدأت هذه الخطة الربانية، وحينئذ ائت بريطانيا وشاهد هذه القرية فهل ستشاهد منكراً؟ امش معي صباح ومساء فهل ستسمع كلمة نابية؟ أو صوتاً مزعج؟ أو ترى منظراً خبيثاً؟ والله! ما يشاهد، امش معنا إلى دائرة الحكومة وقل لهم: أعطوني الجرائم التي تمت في هذا اليوم، والله! لن تجد جريمة، وإن شذ واحد في العشرة أيام أو في العشرين فلا قيمة للشذوذ، لا سرقة ولا خيانة ولا كذب ولا تكفير ولا سب ولا شتم، وهكذا كان أسلافنا. وإن قلت: كيف؟ فإنا نقول: كيف انتشر الإسلام في نصف الأرض شرقاً وغرباً لولا طهارتهم وكمالهم؟ هل دخل أهل المغرب والأندلس والمشرق في الإسلام بالسيف؟ والله! ما دخل أحد بالسيف، ولا أكره إنسان على أن يؤمن بالله ولقائه، ولكن لما دخلوا البلاد شاهدوا الأنوار التي يحملها الغزاة الفاتحون، صدق في القول، وفاء في العهد، طهر في السلوك، رحمة في القلوب، مشاهد الأنوار جذبتهم ودخلوا في رحمة الله، ما هو العصا والحديد، شاهدوا العدل في القضاء والحكم الرحيم العادل الرباني. فمن يدعو الآن بهذه الدعوة؟ من يقوم بها؟ العلماء كثير منهم يتقزز من هذا، الحكام يقولون: هذه أوهام، الأغنياء ما هم في حاجة إلى هذا، الفقراء هاهم يركعون ويسجدون، فمن يتحرك؟ من يبكي؟ لا أحد، إلا إذا أراد الله شيئاً وهو على كل شيء قدير.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-20, 02:36 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (33)
الحلقة (40)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (129)

يأمر الله عز وجل عباده المؤمنين بإخراج زكاة ما أنعم الله به عليهم مما يخرج من الأرض من النبات والثمار، وحذرهم سبحانه وتعالى من أن يعمدوا إلى الخبيث منه فيخرجوه، مع أنهم لو قدم لهم مثله فإنهم لا يقبلونه، ثم حذرهم تعالى من اتباع الشيطان؛ لأنه إنما يأمرهم بالفحشاء ويخوفهم من الفقر إن هم أنفقوا في سبيل الله، بينما الله عز وجل بفضله وكرمه يعد عباده المنفقين بالمغفرة والفضل العظيم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، ولنا رجاء في ربنا أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). فهنيئاً لهم ولنا معهم إن شاء ربنا جل جلاله وعز.وها نحن مع ثلاث آيات، وإليكم تلاوتها فتدبروها وتأملوا ما فيها، واعزموا على العمل والتطبيق.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [البقرة:267-269].ثلاث آيات قرآنية نورانية، الأولى مفتتحة بهذا النداء الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:267] لبيك اللهم لبيك، نادانا مولانا، خالقنا، رازقنا، خالق الكون والحياة من أجلنا، نادانا فمرحباً بندائه، ماذا يريد منا؟نحن مستعدون، يا رب! مر نفعل، انه نترك، بشر نستبشر، أنذر نحذر، علم نتعلم؛ إذ نداءات الرحمن التسعون تدور على هذه، ينادينا ليأمرنا بما يكملنا ويسعدنا، ينادينا لينهانا عما يشقينا ويردينا ويخسرنا، ينادينا ليبشرنا، ينادينا لينذرنا، ينادينا ليعلمنا فنعلم.الحمد لله أن لنا رباً ينادينا، ويعلمنا، ويأمرنا وينهانا، ويبشرنا وينذرنا، وغيرنا من تلك الأمم اللاصقة بالأرض كيف حالهم؟ آيسون قانطون، جهلاء في الظلام، أحياء إلا أنهم أموات، وبئس المصير يصيرون إليه في عالم الشقاء.

اختصاص الله تعالى بخلق الخارج من الأرض

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267] فهل سنطيع أم لا؟ أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] هذه الكلمة الربانية أوجبت -بلا نزاع- إخراج الزكاة مما تنبت الأرض من البر، الشعير، الذرة، التمر، الزيتون، العنب.. هذه كلها مما تخرج الأرض أم لا؟ فمن الذي أخرج هذه؟ الله. لو تجتمع البشرية كلها على أن تنتج حبة عنب فوالله! لما استطاعت، فمن أخرج هذه الغلال وهذه الثمار وهذه الحبوب؟ الله عز وجل. واحذر أن تقول: سيدي عبد القادر أو عيسى؛ والله! ما أخرجها إلا الله، هو الذي خلق التربة وخلق الماء وصب الماء، وأمره أن يتفاعل مع التربة فتفاعل وخرج القصيل والسنبل، فهل نحن نفعل هذا؟ هل نملك هذا؟

ما يقتضيه قوله: (أخرجنا لكم) من وجوب شكر نعم الله تعالى

وقوله تعالى: أَخْرَجْنَا لَكُمْ [البقرة:267] أي من أجلكم أنتم، تحتاجون إلى الغذاء أو تموتون.إذاً: هل ينبغي ألا نقول: الحمد لله؟ والله! ما ينبغي، يخرج هذه الأنواع من الثمار ونأكل ولا نقول: باسم الله، ولا الحمد لله؟ أعوذ بالله من إنسان لا يحمد الله على إنعامه، ولا يشكره على بركاته، ولا يذكر اسمه عند أكله وشربه.وممن ينتسبون إلى الإسلام جهلاً يأكلون ويشربون ولا يعرفون باسم الله ولا الحمد لله، ما لهم؟ ما عرفوا، من علمهم؟ من أرشدهم؟ وها نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مع ابن أم سلمة عمر قال: ( يا غلام! سم الله، وكل بيمينك وكل مما يليك ) لا تمد يدك إلى جهات أخرى في القصعة والناس يأكلون معك. فهذه الآداب التي ما يتلقاها أطفالنا وهم صغار، فكيف يعرفونها وهم كبار؟ وهل تعرفون لم نقول: باسم الله؟ هذا من أسرار الشريعة، نقول: باسم الله؛ إذ لو لم يأذن لنا في هذا الطعام فوالله! ما أكلناه، هل تستطيع أن تتناول كأس خمر وتقول: باسم الله؟ أعوذ بالله! أتكذب على الله؟ آلله أذن لك؟والغافل ممكن أن يشعل السيجارة ويقول: باسم الله! آلله أذن لك؟ كيف تقول: باسم الله؟فأنت تأكل هذا الطعام باسمه تعالى الذي خلقه وأوجده وأذن لك في أكله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] لا من الخبائث، وحاشا الله أن يرزقنا من الخبائث.

ما تجب فيه الزكاة من الخارج من الأرض

يقول تعالى: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] والكسب يكون باليد والعقل والطاقات، سواء كانت تجارة أو كانت زراعة وفلاحة، مما كسبتم، وهذا يتناول أنواع الأموال، حصل لك بإرث، حصل لك بتجارة أو بعمل، بأي شيء كسبته، وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]: البقول، الحبوب، الثمار ، النخل وما إلى ذلك.ولنعلم أن علماء الفقه الإسلامي من أئمة الإسلام جمهورهم على ألا زكاة فيما كان مثل البقول كالبصل والثوم والخردل والطماطم والفلافل والقثاء على اختلافها، والبطيخ، والحبحب.. وما إلى ذلك؛ لأنها ما هي بمقتاتة ولا مدخرة، لا يقتاتها الإنسان ويعيش عليها العام والأعوام، ولا تدخر ويحتفظ بها، فمن هنا عفا الله عز وجل على لسان رسوله عن الزكاة منها، والذي بين لنا هذا الإجمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أمر أهل المدينة أن يزكوا البطيخ أو القثاء أو البصل أو الثوم وهم ينتجونه، لكن أمرهم بزكاة العنب إذا كان زبيباً، وزكاة التمر، أما التين فهذا أيضاً لا يزكى، وقس عليه البرتقال، وهكذا الفواكه والخضار.إلا أن المسلمين الربانيين إذا جنوا ثماراً من بساتينهم أو أراضيهم يعطون منه لجيرانهم وأقاربهم وفقرائهم ومساكينهم، لا على أنها زكاة مقننة مقدرة، ولكن استجابة لأمر الله العام: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267] وهذا هو المنهج السليم، فالحبوب، الذرة، البر، الشعير هذه تزكى بالإجماع؛ لأنها غذاء مدخر، أما البصل والثوم فهذه كل ما في الأمر أنه يقال فيها: يا صاحب البستان، يا صاحب المزرعة، يا صاحب الحقل! حين تأخذ كمية إلى بيتك أعط منها لجيرانك أو للفقراء حولك، فتكون استجبت لأمر الله عز وجل على سبيل الإنفاق تقرباً إلى الله وتزلفاً.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وجوب إخراج الزكاة في الأموال الزكوية

إذاً: قوله تعالى: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] يدخل فيه أنواع الإبل والبقر والغنم، وهذه تسمى بالناطقة، الحيوانات: الغنم ومعها الماعز، والبقر، والإبل هذه زكاتها بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب فيها للولاة كتباً واضحة في الفقه الإسلامي، فخمس من الإبل أخرج عنها شاة من الغنم، وعشر أخرج عنها شاتين، وخمسة عشر بعيراً أخرج عنها ثلاث شياة، وعشرون بعيراً أخرج عنها أربع شياة، وخمسة وعشرون أخرج عنها بنت الناقة المولودة في عامها الأول: بنت مخاض.وهكذا الغنم، فمن ملك أربعين شاة ماعزاً أو ضأناً صغيرة أو كبيرة وحال عليها الحول فيجب أن يخرج منها شاة، وكذلك البقر، فمن ملك ثلاثين بقرة عداً فإنه يخرج منها تبيع أو تبيعة، وهل الدجاج يزكى والبط والطيور؟ لا زكاة فيها، فهذه هي الأموال الناطقة.والصامت : الذهب، الفضة، العملات على اختلافها، ففيها زكاة، فزكاة الذهب إذا بلغ سبعين جراماً، إذا كان عندك ذهب ووزنته في ميزان الذهب فقالوا: هذه سبعون جراماً وجبت الزكاة، وفي أقل من سبعين جراماً لا زكاة عليك؛ لأن النصاب بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصاب الفضة أربعمائة وستون جراماً، فإذا كان عندك كمية من الفضة سواء في شكل ملاعق، أو في شكل أدوات، وإن كنا نقول: لا يحل للمؤمنين أن يأكلوا بملاعق الذهب والفضة، ولا أن يصنعوا الصحاف من ذهب أو فضة، هذا ليس لنا، هذا لغيرنا، للمحرومين منها يوم القيامة؛ إذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة )، والله! ما يشاهدون ذهباً ولا فضة ولا أواني في عالم الشقاء والعياذ بالله، أما المؤمنون والمؤمنات فيعوضهم الله، والله! ما هي إلا صحاف الذهب وآنية الفضة.

مقدار نصاب الذهب والفضة

من أهل العلم من يقول: نصاب الذهب خمسة وثمانون غراماً، وهذه اجتهادات فقط، وأما نحن أهل الدرس فقد قمنا بهذا الواجب، وجئنا بحب الشعير الذي كان يقدر ووزناه وعرفنا الجرام كم يكون من حب شعير، ومن ثم وجدنا النصاب سبعين جراماً.أقول: علماؤكم جزاهم الله خيراً يفتون بأن النصاب ثمانون أو خمسة وثمانون، ثم لما ذهبنا وجئنا بالشعير ووزناه، ونظرنا أيضاً إلى أن الفضة نصابها أربعمائة وستون جراماً، ويجوز أن تزكي بالفضة أو بالذهب، ما بينهما فرق، فلو زكينا أربعمائة وستين جراماً فمعناه أن خمسين جرام ذهب تعدل هذا أو أقل، فبالتحري كانت النتيجة أن من ملك سبعين جرام ذهب فأكثر وجبت عليه الزكاة إذا حال عليها الحول كالدراهم والدنانير.وقد يقولون لكم: النصاب خمسة وثمانون، وهذا تقليد فقط، أما عملياً فهو سبعون جراماً، وهذا أرحم بالفقراء والمساكين وأحوط لرب المال، هذه هي الحقيقة.

حكم زكاة الحلي

والذهب إذا كان حلياً تتحلى به المؤمنات ويتزين به لأزواجهن فلا زكاة فيه، ولكن من زكته كان لها أجرها ومثوبتها، واطمأنت نفسها؛ إذ (75%) من الصحابة والتابعين والأئمة مجمعون على ألا زكاة في الحلي، ويوجد من يقول: فيه زكاة، ولأن يخطئ خمسة وعشرون أقرب أن يخطئ خمسة وسبعون. ثم لو كان هذا المملوك يزكى فلم ما نزكي الأسرة التي ننام عليها والزرابي التي تبلغ الآلاف، والسيارة التي تركبها، وأواني البيت؟ لا زكاة فيها؛ لأنها مستعملة، فالذهب إذا كان مستعملاً فما هو بكنز يباع ويدخر للاستعمال، فهو كالقصعة إذاً وكالإبريق وكالآنية، وأي فرق؟ هذا فقه المسألة، ومع هذا فأيما مؤمنة تريد أن تزكي حليها فإنا نبارك لها في ذلك.وشيء آخر: إذا كان الذهب اشترته للقنية والادخار؛ إذ بعض المؤمنات تقول: الزمان حواج، سأحتاج في يوم من الأيام، فإذا كان عندها دريهمات فإنها تشتري بها قطعة من الذهب، لا على نية أن تلبسها، بل على نية أنه إذا جاء الزمان وأحوجها فستبيعها، فهذه بالإجماع تجب زكاتها، هذا كنز، والله يقول: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ [التوبة:34-35] الآيات، وبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن ما أخرجت زكاته لا يقال فيه: كنز، أيما دراهم، ذهب، فضة تخرج زكاته كل عام فلا تخف أنك تكوى به يوم القيامة.فتأملوا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] أولاً: الإبل، البقر، الغنم، الذهب، الفضة، الدراهم، والخارج من الأرض كذلك: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267] ما هو؟ التمر، العنب، الذرة، الشعير، القمح.. وما إلى ذلك، أخرجها الله لنا من الأرض.

معنى قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه)

وقوله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] ولا تقصد الرديء الذي لا يعجبك من شعيرك أو برك أو تمرك وتخرج منه، عيب كبير ونقص وسوء خلق هذا، وهذه الآية لا تفهم منها أن المؤمنين الصادقين يفعلون هذا، هذه الآية نزلت إذ كان هناك مكان يقال فيه: الصفة، كان يجلس فيه المهاجرون الذين لا مال لهم ولا ولد ولا نساء، يأتون مضطهدين من مكة ومن غيرها، فيجلسون هناك، إذا جاء الجهاد خرجوا، وإلا جلسوا، فمن أين يأكلون؟ ما عندهم بيوت ولا نساء، وإنما كان من زاد عن طعامه شيء يأتي به إلى الصفة، فجعلوا خشبة في المسجد بين عمودين، وأصبح كل من عنده عرجون تمر يعلقه هناك، هذا يأتي بعرجون، بعرجونين، بثلاثة، فيأتي أهل الصفة عندما يجوع أحدهم ويتألم يأتي بعود ويضرب ذاك القنو فيتساقط منه البلح والرطب، فيأكل ويمشي.فبعض المرضى والمنافقين كان يأتي بعرجون الحشف والدقل ويعلقه، في الظاهر أنه دخل يحمل أقنية من التمر للفقراء، وفي الباطن هو حشف ودقل، ففضحهم الله، فقال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ [البقرة:267] لو قسم لكم أنتم إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا [البقرة:267] أعينكم، وهذا عام، أيما صدقة تصدق بها يجب أن تكون نقية طاهرة صالحة نافعة، فطعام لا يؤكل هل تقدمه للفقراء والمساكين تضرهم وأنت ما تأكله؟ هذه ترفع همم المؤمنين وآدابهم إلى القمم، فمن ربانا هذه التربية؟ الله، ما وكلنا إلى زيد أو عمرو، هو الذي ربانا وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ [البقرة:267] الرديء غير الجيد، ضد الطيب، مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ [البقرة:267] لو قدم لكم أو أعطيتموه لقلتم: هذا ما نأكله ولا نلبسه ولا نشربه، إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] أغمض عينيك وامش، العامة يعرفون هذا، هذا معنى قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267].

معنى قوله تعالى: (واعلموا أن الله غني حميد)

معنى قوله تعالى: وَاعْلَمُوا [البقرة:267] أخيراً أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267]. إياك أن يخطر ببالك أن الله محتاج إلى طعامك أو شرابك أو مالك، ولهذا يلح عليك ويطالبك، بل هذا من أجلك أنت وأجل إخوانك، أما هو فغني غنى مطلقاً، والله! لا يفتقر الله إلى شيء؛ إذ كل شيء خلقه هو بيده، وهو حميد أيضاً محمود على خلقه وإيجاده المخلوقات، الملائكة يحمدونه، لو لم يحمده البشر فالملائكة أكثر منهم بمليارات المرات، فهو محمود في الأرض والسماء.فهذه الجلسة التي أنا جالسها يحمد عليها الله أو لا؟ من خلق هذا الشيء؟ من علمه؟ أنتم أيها الجالسون من خلقكم؟ من علمكم؟ من أتى بكم إلى ها هنا؟ الله. هذا هو الحمد. فذكر المحامد؛ لأن المنافقين والمرضى يقولون: لم يطلب منا هذا ويلح علينا في أن نخرج طعامنا وشرابنا؟ ألحاجته إليه؟! فأبطل هذه الوساوس بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267].
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير قوله تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ...)

ثم قال تعالى في الآية الثانية: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268] أعوذ بالله منه، ما الشيطان هذا؟ الشيطان: مشتق من: شطن يشطن، أو من: شاط الشيء إذا احترق، والصواب أنه ليس من الشيطنة بمعنى البعد، لكن من: شاط إذا احترق.الشيطان هذا هو المكنى بأبي مرة، وإبليس وصف له؛ لأن الله أبلسه، كان له اسم أيام كان يصلي ويعبد الله مع الملائكة والجن، ثم أبلسه الله، أي: أيأسه من كل خير، ما أصبح فيه خير قط.فهذا الشيطان أخبر تعالى عنه أنه يعدنا بالفقر، إذا أردت أن تنفق قال: تنفق وغداً ماذا تأكل وتشرب؟! مهمته أن يعدنا بالفقر، فيخوفنا من الإنفاق، فما يستطيع المرء أن ينفق وهو يفهم أنه إذا أخرج ماله اليوم فغداً من يعطيه؟ غداً يصبح يمد يديه! غداً يموت بالجوع أو بالعري! هذه وساوسه يعد بها أولياءه والذين يستجيبون له، من أخبر بهذا؟ خالقه، يقول تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268]، لم يعدنا بالفقر بمعنى: أنه يحذرنا من الفقر، يحذرنا من الإنفاق حتى لا نفتقر؟ لأنه يريد منا أن نهلك، أن نشقى، أن نخسر، أن نجاوره في عالم الشقاء؛ يقول: لم أنت يا آدمي تنجو وأنا وجماعتي نهلك ونخسر؟

المراد بالفحشاء

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] الفحشاء إذا أطلقت فالمراد بها: الخصال القبيحة الشديدة القبح كاللواط، والزنا، وكل خصلة قبيحة شديدة القبح، على سبيل المثال: لو يقوم الآن أحدنا ويكشف عن سروايله وجسمه ويبقى عارياً ويمشي، فهل هذه قبيحة أو لا؟ أشد قبح هذا، لكن لو كشف عن فخذه فتلك قبيحة لكن ما هي بفاحشة.إذاً: كل خصلة قبيحة شديدة القبح هي من الفواحش، والآية تريد من الفاحشة هنا البخل، والعرب يسمون البخل فاحشة، والبخيل: فاحش.إذاً: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالبخل، ولو نستجيب له لما أنفقنا درهماً، بما يلقي في النفس من هذه الخواطر، يهدد بالفقر والحاجة وما إلى ذلك.

وسوسة الشيطان للإنسان

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] ليس شرطاً أن يناديك: يا فلان! أنا الشيطان، لا تنفق خشية كذا، بل هو يدخل إلى المحطة ويتصل بك، فالمحطة إذا أنت دمرتها وخربتها ما يبقى له مجال، وما توجد محطة خربت إلا محطة واحدة، وأما محطاتنا فإنه يتصل بنا من بعيد، كيف اتصل بآدم وآدم في الجنة وهو خارج منها؟ الأولون ما عرفوا، قالوا: كيف هذا؟ قالوا: دخل في صورة حية، أو دخل في كذا.. يبحثون عن كيف دخل، والآن نحن عرفنا، فهي محطة في النفس عند القلب يستطيع أن يتصل بك وهو خارج عنها، ولهذا لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد رضيعاً أجريت له عملية تحطيم هذه المحطة والقضاء عليها، فجاءه ملكان ومعهما جبريل، وشق صدره، ونزعت تلك اللحمة أو القطعة أو المحل نهائياً، فما يصبح للشيطان مكان لأن يلقي بشيء أبداً.أما نحن فما زالت المحطة فينا صالحة، فإذا كان عندك رادار قوي فما إن يحوم حولك حتى تطرده، وإذا كان ما هناك رادار ولا حراسة فإنه يسكن هناك ويغني.

وسيلة النجاة من وسوسة الشيطان

ويوجد لذلك رادار يباع عندنا، فالذي يرغب فيه وعنده ثمن فليتفضل، فيصبح آمناً، هذا الرادار لا بد له من ثمن، ما هو الثمن يا شيخ؟ نريد أن نشتري.الثمن: أن تخاف الله فلا تعصيه بترك واجب أوجبه ولا بفعل حرام حرمه من العقائد والأقوال والأفعال، إن كان هكذا حالك فاعلم أنك تملك هذا الرادار، وإليكم الآية القرآنية التي تدل على هذا الرادار، قال تعالى من سورة الأعراف: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200] إذا شعرت به فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فيطير كالبرق، ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202] إخوان الشياطين.فهذا الجهاز العظيم تكتسبه بتقوى الله عز وجل، أنت عاقل، أنت قوي، أنت قادر، أنت عالم، لا تخرج عن طاعة الله ورسوله، لا بترك واجب مأمور بفعله أو قوله أو اعتقاده، ولا بفعل المنهي عنه والمحرم عليك اعتقاداً أو قولاً أو عملاً، بهذه تصفو نفسك وتزكو وتطيب، ويصبح عندك رادار أشد حساسية، فإذا حوّم العدو عندك فقط تعرفه وتطرده.والآن هناك رادارات للجيوش، فإذا حومت طائرة العدو عرفوها، فالحمد لله، ولهذا لا يهلك على الله إلا هالك. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ [الأعراف:201-202] إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202] لا يقصرون أبداً عن فعل المعاصي والجرائم والموبقات؛ لأنهم عمي، الشياطين تؤزهم أزاً، وتدفعهم إلى الباطل والمنكر.فهل عرفتم هذا العدو؟ من أخبر بهذا الخبر؟ الله العليم الحكيم، يقول: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268]؛ حتى لا تنفقوا أموالكم في سبيل الله، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] والخصال القبيحة كالبخل وما إلى ذلك.

معنى قوله تعالى: (والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم)

وَاللَّهُ [البقرة:268] عز وجل يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة:268] فماذا تختار يا عاقل؟ أن تصبح عبداً للشيطان يأمرك فتفعل، أو تكون ولياً لله يعدك فتستبشر بما وعدك الله به؟والله يعدكم بمغفرة ذنوبكم وبفضل، وهو الجنة ونعيمها، الرزق الواسع الطيب.. قل ما شئت، فضل من هذا؟ فضل الله، ولا تشك إذا قال، فالله واسع الفضل، عليم بالمستحقين، لا تقل: لعل ما عند الله قد انتهى، فهو واسع عليم، لا تقل: ممكن أنه ما يعرف عني شيئاً، ما يدري أننا في نواكشوط مثلاً، أنت معلوم لله عز وجل في أي مكان؛ لأن العوالم كلها بين يديه، إذاً فاطمئن إلى صدقه ووعد الرب تبارك وتعالى.والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما نقصت صدقة من مال ) فمن يرد على رسول الله؟ كل مال تزكيه ينميه الله ويبارك فيه، وتنتفع به أكثر من الأموال المحرمة، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].

تفسير قوله تعالى: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ...)

وأخيراً قال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:269] يعطي الحكمة من يشاء هو، ومن هم الذين يشاء الله أن يؤتيهم الحكمة؟ هل نحن منهم؟الجواب: الذين يطلبونها ويقرعون باب الله سائلين طالبين، هم الذين يؤتيهم الحكمة، أما المعرض واللاهي والمشغول عنها وغير الراغب فيها فما يشاء الله له ذلك، هذه سنته، أتريد الحكمة؟ اطلبها تعط، وأما وأنت مستكبر ومعرض وغير مبال فلن تعطى، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ [البقرة:269] أي يعطها فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269].

المراد بالحكمة

وما هي الحكمة؟أولاً: القرآن والسنة، إذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين ) الأولى: ( رجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه الليل والنهار )، فتقول: لو يعطيني ربي مالاً كما أعطاه فسأنفقه، فأنت وإياه في الأجر سواء بالنية الصادقة، ( ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها الليل والنهار )، إذا قلت: يا رب! لو تؤتيني هذه الحكمة لقضيت بها الليل والنهار، وهي هنا القرآن، فأنت وإياه في هذا سواء، وهذا ليس بحسد، هذا غبطة؛ لأن الحسد أن تتمنى أن تزول النعمة من فلان لتحصل لك، وبعضهم يتمناها أن تزول من فلان ولو لم تحصل له، وهذا شر الحسد والعياذ بالله، المهم ألا يرى فلاناً في خير، أما الغبطة فلا تكون إلا في شيئين. والشاهد عندنا في أن القرآن حكمة؛ لأنه ما وضع شيئاً في غير موضعه قط، والله! لا كلمة ولا حرف؛ إذ الحكمة وضع الشيء في موضعه، والحكيم يضع الشيء في موضعه، فحين يصب الحليب أو اللبن لا يصبه في الأرض، يصبه في الكأس.إذاً وضع الشيء في موضعه هو الحكمة، والحكيم من كانت هذه صفته، الكلمة لا يقولها حتى يبحث عن المكان اللائق بها، وحتى يعرف ما تنتجه فيضعها في موضعها، وهذه الحكمة تكتسب، فأولاً القرآن الكريم والسنة النبوية، احفظ ما شاء الله أن تحفظ وافهم ما شاء الله أن تفهم، وطبق واعمل، ولا تزال كذلك حتى تصبح حكيماً في كل تصرفاتك، في البيع، في الشراء، في الرحيل، في الإقامة.. في كل شيء، لا تضع الشيء إلا في موضعه؛ لأنك حكيم.قال تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269] ولهذا من أعطي القرآن فحفظه وفهمه وعمل بما فيه وقال: إنه فقير فأدبوه، فأين الفقر مع القرآن؟ أغنى الناس أهل القرآن.

معنى قوله تعالى: (وما يذكر إلا أولوا الألباب)

ثم قال تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [البقرة:269] ما الألباب؟ جمع لب، وهو العقل، القلب؛ مصدر الوعي والفهم، فمن يتذكر بهذه المذكرة الإلهية؟ أصحاب القلوب الحية، هذا إخبار الله تعالى، وما يذكر بهذه التذكرة الربانية في هذه الآيات إلا أصحاب العقول الراجحة، والفهوم الصاعدة الطيبة، وهذا مبني على طهارة الروح وزكاة النفس؛ لأن أصحابها متقون لا تتلوث أرواحهم ولا تخبث نفوسهم.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

أعيد تلاوة الآيات وتأملوا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]. واسمعوا التنبيه: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] تقصد الرديء غير الجيد الذي ما يصلح وتعطيه الفقراء والمساكين، واذكروا قصة العراجين التي كانت تعلق في الصفة، يدس معها قنواً فاسد ليقولوا: فلان جاء بقنو من بيته أو من بستانه.إذاً: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] إذا أغمضت عينيك فستأخذ الرديء.ثالثاً: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267] لا يخطر ببالك أن الله محتاج إليك أو إلى مالك، ما أعطاك هو حقه وماله، فإن طلب منك أن تنفق لتزكية نفسك أو إسعادها فليس معناه أنه في حاجة إليه. الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] كل قبيح الشيطان يدعو إليه، فالذي يفتح مخمرة في بلاد المسلمين أليس هو الشيطان؟ الذي يفتح بنكاً ربوياً يلقي الناس في جهنم أما أمره الشيطان؟ الذي يستورد المحرمات من الحشيش أو الدخان ويبيعها بين المسلمين أما أمره الشيطان؟ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة:268] فقولوا: الحمد لله.وأخيراً: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269] يا صاحب العلم والمعرفة! لا تقل: أنا فقير، انتبه، استح! أنت تملك ما لا يملك ملايين البشر، تملك الكتاب والحكمة. وَمَا يَذَّكَّرُ [البقرة:269] من يفهم هذا الكلام ويعيه ويعمل به؟ هل المجانين؟ بل أصحاب العقول، أرباب الألباب والنهى، وصدق الله العظيم.إليكم هذا الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة، يقول في هذه الآية: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268] إلى آخرها، يقول: اثنتان من الله واثنتان من الشيطان. وهو كذلك، ويفسر هذا الحديث عند الترمذي ؛ إذ فيه قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن للشيطان لمة بابن آدم ) يلم به: يحوط به كما قدمنا، ( وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ).من وجد في نفسه لمة الملك فليقل: هذه لمة الملك، أنه يشجعه على النفقة، وعلى رجاء الله وعلى طلب الفضل والخير، إن وجدت هذا في نفسك فاحمد الله، فهذا من الملك، وإن وجدت حال النفقة خاطراً يقول: كيف تخرج ما في جيبك؟ من يعطيك كذا؟ فذلك -والله- من الشيطان؛ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة:268]، إن وجدت في نفسك العزوف عن الشهوات وترك الرغبة فيها ودوافع تبعدك عن هذه المحرمات فاعلم أن هذه من لمة الملك الذي يدخل قلبك.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

لهذه الآية هدايات: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:من هداية الآيات:أولاً: وجوب الزكاة في المال الصامت من ذهب وفضة وما يقوم مقامهما من العمل ] على اختلافها، [ وفي الناطق من الإبل والبقر والغنم؛ إذ الكل داخل في قوله: مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، وهذا بشرط الحول وبلوغ النصاب.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-21, 05:44 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (34)
الحلقة (41)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (13)

بيّن القرآن الكريم أن الناس ثلاثة أصناف: مؤمنون، وكافرون، ومنافقون، وبين أن من الكافرين والمنافقين من هو موغل في الكفر والنفاق، ومنهم من ليس كذلك، ولهذا كان لزاماً تبليغ دين الله للناس جميعاً، لجهلنا بمن طبع الله على قلبه، ومن ليس كذلك، ونحن في دعوتنا لهم علينا أن نبين لهم بالأدلة والبراهين الكونية والقرآنية ربوبية وإلهية الله وحده، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فعليها.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب، سميع الدعاء، وقراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30] .. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم. ‏

الحياة الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهان الجميع أن هذه الحياة الدنيا دار عمل وليست دار جزاء، وأن الدار الآخرة هي دار الجزاء والخلد والبقاء، وأن الجن كالإنس، فهذان العالمان: عالم الإنس وعالم الجن مكلفون، وممتحنون، ومختبرون، ومجزيون بأعمالهم، ومحاسبون عليها أولاً ثم الجزاء ثانياً.والجزاء بم يكون؟ إما أن يكون بالنعيم المقيم في دار السلام.. في الجنة دار الأبرار التي وصفها خالقها عز وجل بما لا مزيد عليه في كتابه، ورفع إليها رسوله ومصطفاه؛ محمداً صلى الله عليه وسلم، وعاش فيها ساعة من الزمن، فرأى قصورها، وحورها، وأنهارها، وقد انتهى إلى سدرة المنتهى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم:15-16].وهذا العمل الذي يسعد، وينزل صاحبه منازل الأبرار هو الإيمان، وصالح الأعمال، كما أن العمل المشقي، المردي المخسر لأصحابه من عالمي الجن والإنس هو الشرك والمعاصي، وسر ذلك -معاشر المستمعين والمستمعات- أن الإيمان يدفع صاحبه إلى أن يعمل الصالحات، والصالحات أقوال وأفعال ونيات، ومن شأنها حسب تدبير الله في خلقه أنها تزكي النفس البشرية، وتطيبها، وتطهرها، فإذا زكت النفس -نفس الإنسي كنفس الجني- وطابت، وطهرت أصبحت متأهلة حسب قضاء الله وسنته لأن تنزل دار السلام بعد نهاية هذا الكون.والكفر والمعاصي أو الشرك والمعاصي من شأنها أن تخبث النفس، وتلوثها، وتعفنها، فيصبح صاحبها غير أهل للنزول في دار الأبرار، أين ينزل؟ في دار البوار، المعبر عنها بالنار، هذا حكم الله وقضاؤه.

أصناف الناس في الدنيا

السياق الكريم -كما علمتم- صنَّفنا ثلاثة أصناف:الصنف الأول: المؤمنون المتقون؛ الذين آمنوا بالغيب، وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقهم الله، وآمنوا بكل كتاب أنزله الله، وعاشوا يطهرون أنفسهم ويزكونها، فهؤلاء قضى الله تعالى لهم بالفلاح: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5].والصنف الثاني: الكفرة؛ الجحدة؛ الفجرة؛ الذين ما آمنوا بالله ولقائه، ولا بكتابه ولا برسوله، فعلى أي شيء تزكو أنفسهم وتطيب وتطهر؟! وقد كفروا بأصل مواد التزكية والتطهير.وهذا الصنف عرفنا أنه ينقسم إلى قسمين:قسم توغلوا في الكفر والشرك والفساد، وواصلوا ذلك، فما أصبحوا أهلاً لأن يتوبوا إلى الله ويعودوا إليه، فهؤلاء لمواصلتهم الإجرام بلا انقطاع، كانت سنة الله فيهم أن ختم الله على قلوبهم، فما أصبح للإيمان منفذ ينفذ منه إلى قلوبهم، ولو حدثتهم من الصباح إلى المساء لا تجد مكاناً للإيمان في قلوبهم؛ إذ عليها ختم، وكذلك ختم على أسماعهم فلا يسمعون، اقرأ القرآن كله حرفاً حرفاً ما سمعوه، غن أو زمر واعبث يسمعون؛ لأن حاسة السمع فقدت صلاحيتها لما ران عليها من ذلك الشر والخبث والفساد، والأبصار كذلك ما أصبحت تبصر؛ لأن عليها غشاوة، لا يشاهدون في الكون آية تدل على أنه لا إله إلا الله!وقسم آخر منهم: مستعدون، ولهذا دخلوا في الإسلام، وأصبحوا مسلمين مؤمنين.الصنف الثالث: وهم المنافقون، وضرب الله تعالى لهم مثلين، ومن ثم عرفنا -والواقع شاهد- أن من المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من توغلوا في النفاق .. في الكيد .. في المكر .. في الخبث .. في الشر والفساد حتى أصبحوا غير أهل لأن يدخلوا في رحمة الله، فماتوا منافقين كافرين.وقسم ما توغلوا في النفاق، ولا أكثروا من الشر والفساد فجلهم بل كلهم دخلوا في الإسلام، وماتوا إلى رحمة الله، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في المدينة منافق قط.

نداء الله للبشرية بعبوديته

ثم جاء نداء رباني إلهي، عالي، سامي، فنادى البشرية كلها بعنوان الناس: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، وهي دعوة ربانية لا يُصرف عنها إلا شقي؛ لأن عبادة الله حق واجبة، مقابل أن خلقنا .. أن رزقنا .. أن أكرمنا .. أن خلق كل شيء من أجلنا كما سيأتي، كيف -إذاً- نضن ونبخل ولا نعبده؟وشيء آخر علمتم زادكم الله علماً! أن هذه العبادة لا ينتفع الله بها، وإنما ينتفع بها العابدون، فهي تزكي أنفسهم وتطهرها؛ ليصبحوا أهلاً للملكوت الأعلى، وفي نفس الوقت تبعد عنهم الشر والفساد والخبث، فيعيشون أمناء أطهاراً، أصفياء، متوادين، متحابين، لا يوجد في حياتهم ما ينغصها أو يكدر صفوها، والله العظيم.أما العبادات التي ترعب عنها النفوس وترتعد فما هي إلا قوانين رحمة، من شأنها أن تسعد صاحبها في ذاته وروحه، وفي حاله ومستقبله ومآله، لكن الشيطان قبحها لهم، وشوهها وخوفهم منها. يخافون من العبادة! العبادة نظام رباني يكمل عليه العابدون ويسعدون، ووالله لهو الواقع.ومن رحمته تعالى، ومن ألطافه وإحسانه أنه تعرَّف إليهم إن كانوا جاهلين به لا يعرفون: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21] أيها المخلوقون! وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] من المخلوقين، والخالق هو الذي ينبغي أن يبجل، ويرغب، ويعظم، ويعبد، أما الأصنام أو الشهوات، والأهواء، والبشر، والمخلوقات فهي مخلوقة مربوبة تموت، فكيف تعبد مع الله عز وجل؟فما أجلَّها من نصيحة، وما أعظمها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، أي: رجاء أن تتقوا ما يؤلمكم .. ما يحزنكم .. ما يشقيكم .. ما يرديكم، إي والله. والعبادة امتثال قانون الله أو لا؟ والالتزام بهذا القانون يسعد صاحبه، فلا يشقى، ولا يردى، ولا يهلك، ولا يحزن، والعبادة وقاية مما نخاف ونرهب؛ من المصائب، والآلام، والأتعاب.

ربوبية الله في الخلق والتدبير لعباده
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

كذلك تعرف الله إلى عباده فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22]، هل من أحد شارك الله في هذا الخلق والإيجاد؟ أجيبوا علي يا بني آدم، لا أحد، فهو الذي فرش الأرض فراشاً، ومهدها تمهيداً للحياة عليها، ورفع السماء وبناها، و رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات:28-29]، وهو الذي أخرج ينابيع الخيرات من الأرض، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22].إذاً: يا عقلاء! يا بني آدم! يا بني الجن! فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] وهذه فذلكة عظيمة عجيبة، أبعد معرفتكم لما سمعتم تجعلون له أنداداً تضادونه بها فتدعونه كما يدعى الله، وتذلون لهم كما يذل لله، وتطيعونه كما يطاع الله، كيف يصح هذا؟!وهنا تقرر التوحيد وثبت. وجاءت الدعوة إلى الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.الجمل هذه قررت لا إله إلا الله، والله العظيم أنه لا إله إلا الله، فليس هناك من يستحق أن يؤله .. أن يعبد .. أن يطاع إلا الله، إذ غير الله مخلوق .. مربوب، وفي الحديث: ( كان الله ولم يكن شيء غيره )، فلا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا ولي في الأولياء والصالحين يستحق أن يعبد مع الله فضلاً عن الجمادات والأصنام والأحجار، بله والشهوات والأهواء.لا إله إلا الله، هل محمد رسول الله؟ آمنا بأن لا إله إلا الله، من يهدينا .. من يرشدنا .. من يأخذ بأيدينا .. من يعلمنا، كيف نعبد الله؟ آمنا بأن لا يعبد إلا الله، فنحن في حاجة ملحة ماسة إلى من يعلمنا كيف نعبد الله، فهذه حاجة ضرورية.

تحدي الله للبشر بالإتيان بسورة من مثل القرآن

اصطفى الله رسوله، ونبأه وأرسله، ومن أراد أن يسأل عن الدليل ويتعرف عليه فهو رجل أمي ما قرأ، ولا كتب، ولا جلس بين يدي معلم قط، وبلغ أربعين سنة، ثم نزل عليه كتاب حوى مائة وأربع عشرة سورة، وحوى هذا الكتاب علوم الأولين والآخرين، وحوى علوم الدنيا والآخرة، والملكوت الأعلى كالأسفل، الكل، ولا تناقض، ولا تضاد، ولا تضارب أبداً، وهذا الرجل الذي نزل عليه هذه الكتاب مستحيل أن يكون غير رسول، والله منزل الكتاب هو الذي أعلن عن رسالته ونبوته فناداه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ .ومن اضطربت نفسه يقول تعالى له: إن كنت في شك .. في ريب مما نزلنا على عبدنا فائت بسورة من مثله، واستعن بمن شئت، فكان الخطاب إذن لكل الشاكين، المرتابين، المضطربين، القلقين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي أن هذا القرآن كلام الله: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، وطأطأت البشرية رأسها، ولم يرفع امرؤ رأسه، ويقول: أنا آت. وهذا هو التحدي العظيم.وقال تعالى وهو الرحيم: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:24] وأعلنتم عن عجزكم وما استطعتم؛ لأن الله ختم على قلوبكم وألسنتكم، وعوَّقكم ولن تستطيعوا، فقولوا: آمنا بالله، وبما أنزل الله، خير لكم.وقال: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، فعرف الحاضرون والعالمون أن هذه كلمة لا يقولها إلا الله، فلا يستطيع مخلوق أن يقولها؛ لأن المخلوق لا يملك ما يجيء في غد، وما تأتي به الأيام، فكيف يقول: ولن تفعلوا إلى الأبد؟! فهذه كلمة الله فقولوا: آمنا بالله. وَلَنْ تَفْعَلُوا هل فعلوا؟ أين بلغاء العرب وفصحاؤهم، وأرباب البيان والكلام فيهم؟ الذين هم عجب العجاب؛ يتكلم أحدهم من طلوع الشمس إلى غروبها لا يغلط في كلمة ولا يعيدها، أين هم؟ طأطئوا رءوسهم وقالوا: آمنا بالله، هل فعلوا؟ وَلَنْ تَفْعَلُوا .وبناء على هذا فما هو المطلوب؟ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، ربكم ينصح لكم، وربكم يبين لكم سبيل نجاتكم: عجلوا، آمنوا، قولوا: آمنا، وافعلوا ما أمر الله ورسوله به تزكوا أنفسكم، وتتهذب أخلاقكم، وترتفع إلى الكمال معنوياتكم، وتصبحون قريبين من دار السلام، وما إن يموت أحدنا إلا ولا يبيت أو يصبح إلا فيها.

بشارة الرسول للمؤمنين العاملين بالجنات

قال الله تعالى لرسوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ... [البقرة:25]. بعد هذا البيان.. هذا الشرح.. هذا التفصيل .. هذه العلامة بقي شيء؟لم يبق إلا أن يقول الله لرسوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:25]، آمنوا ما كفروا، عملوا الصالحات، زكوا أنفسهم، وما عصوا الله ورسوله.بشرهم بماذا؟ بـ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25]، وانطوت الصفحة.من أين هذا الكلام؟ من أين يأتي هذا العلم؟ من صاحبه؟ تحار العقول؟!إنه كلام الخالق الرازق، خالق الذرة والكون وكل الخلق، الله جل جلاله، وعظم سلطانه.

ضرب المثل بالبعوضة

لما تورط المنافقون والمشركون الهابطون المختوم على قلوبهم، المدمرون، الخاسرون وقالوا: ما هذه الأمثال التي يضربها الله؟! مثال مائي ومثال ناري، ومثل الذبابة ومثل العنكبوت. وكانوا في مجالسهم الخاصة يتكلمون بالباطل والسوء ويهرفون؛ لأنهم متعمدون الكفر والنزاع في الإيمان والإسلام؛ فأزال الله هذه الشبهة الباطلة، وقال لهم: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26] فقطع ألسنتهم، فلله تعالى أن يضرب ما يشاء من الأمثال، لمَ؟ لأن العقول متفاوتة، وقدرات الفهم في الناس متفاوتة، ولسنا في مستوى واحد أبداً، بيننا تفاوت كبير، والمعاني ليس كل إنسان يدركها، وبعضنا لا يدرك إلا المحسوس الملموس المرئي.إذاً: كيف تتم هدايتهم؟ تتم عن طريق ضرب الأمثال، والعرب عرفوا هذا في الجاهلية، ويقربون المعاني البعيدة إلى ذهن الشخص بالمثل يضربونه له.وهؤلاء المنافقون والمتعنتون يقولون: ما هذه الأمثال؟! فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً [البقرة:26] فما دون البعوض .. فما فوق البعوضة في الصغر كجناحها.. كبيضة النملة، ولا حرج، لمَ؟ لأنه بر، رحيم، كريم، يريد هداية عباده، ويريد إكمالهم وإسعادهم، فيضرب لهم الأمثال ليفهموا، وليعوا وليدركوا؛ حتى يقووا على أن ينهضوا بهذه التكاليف، التي هي مزكيات لأرواحهم، ومسعدات لأنفسهم وأبدانهم، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26].وصنف العباد إلى صنفين، وهو الواقع: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:26]، وهذا الذي علمناه والله إنه الحق. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:26] أصحاب القلوب المظلمة أو الميتة: فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26]، فأجابهم الله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26]، يضل بالمثل يضربه، وبالقرآن ينزله، وبالآيات يظهرها، وبالمعجزات يبديها، يضل بذلك كثيراً من المتهيئين والمستعدين للضلال، ويهدي به كثيراً إلى سبل السلام وطرق السعادة والكمال. حقاً وصدقاً هذا خبر الله: يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً.ثم بين العلة: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26]، فإياك أن تفهم أن القرآن ينزل، وأن المؤمنين يصابون بالإلحاد وبالزندقة والنفاق بواسطته، لا، بل لا يزيدهم إلا نوراً، فهو غيث من السماء ينزل، كلما نزل ازدهرت الأرض واخضرت، وارتفعت أنوارها وزهورها، فالمؤمن حي مستقيم، كلما ينزل القرآن ويضرب الله مثلاً يزدادون شوقاً إلى الله، وإيماناً بلقائه، ولكن الذين يضنون ويهلكون هم الفاسقون.وقد عرفنا من هم الفاسقون؟ هل هم بنو فلان أو بنو فلان .. عرب أم عجم؟! من الفاسقون؟ أتدرون من هم؟ هم الذين خرجوا عن طاعة الله ورسوله، تقول: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، والذي لا يحل ما أحل الله، ولا يحرم ما حرم الله، ويأتي الحرام، ويترك الحلال هو فاسق. والذي لا يبالي بأوامر الله ورسوله، ولا بنواهيهما، ويفعل ما طاب له ولذ؛ منقاداً إلى الشياطين، وما تزينه له، وما تملي عليه، فهذا خرج عن منهاج الله، وعن الطريق المستقيم، ونقول فيه: إنه فاسق.

من علامات الفاسقين

قال الله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ قال تعالى بعد ذلك مبيناً علامات الفاسقين الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [البقرة:27]، ولنبدأ بعلماء اليهود وعلماء أهل الكتاب عامة؛ إذ هم قد عرفوا أن هذه الدعوة المحمدية، وأن هذا الدين هو امتداد لأديان الله الأولى، وليس بشيء جديد، وأمر الله بصلة الأديان وعدم قطعها، وهم قطعوها وكفروا بالإسلام. إذاً: قطعوا ما وصل الله: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27]. وقد قرأنا آية آل عمران: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187].كما أخذ الميثاق على لسان عيسى وموسى ومن قبلهم، أي: من الأنبياء أنفسهم، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].فالذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه هم الذين ارتدوا بعد الإسلام، فالذي يعيش يوماً أو دهراً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذا هو الميثاق الأول، ثم ينقضه ويرتد ويصبح ملحداً أو زنديقاً فهذا نقض العهد.قلت غير ما مرة: كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقد عاهد الله، وأعطى العهد والميثاق ألا يعبد إلا الله، فإن ترك العبادة نقض عهده .. إن عبد مع الله غيره نقض عهده .. إن اعترف بعبادة غير الله نقض عهده .. إن لم يتبع رسول الله، ولم يمش وراءه، ولم يطبق شريعته وأحكامه نقض عهده؛ ومن قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم لا يمشي وراءه، ولا يأخذ عنه، ولا يقتدي به، فقد كذب نفسه، لم تقول: أشهد أن محمداً رسول الله؟! وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27] هذه آثار الفسق، فإذا فسق المرء عن طاعة الله، وانغمس في المعاصي والجرائم فلا تعجب، قد يذبح أمه؛ لأنه فسق وخرج عن الطريق، وعلة هذا الفسق: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27]. وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ [البقرة:27] أيضاً، وقد علم السامعون والسامعات معنى الفساد في الأرض، يحرفونها؟ يزيلون الجبال؟ يقطعون الأشجار؟كيف يكون الفساد في الأرض؟ إنه -والله- بمعصية الله ورسوله؛ لأن طاعة الله وطاعة الرسول، كما هو القانون الإلهي والسماوي أنه لا سعادة ولا كمال إلا بالانتظام فيه والسير على منهاجه، فمن أهمله وأضاعه، وأعرض عنه، وخرج بعيداً يتخبط، يعمل الموبقات، وهذا أفسد في الأرض أو أصلح؟ والله أفسد. وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، وهذا نقوله؛ ليس من يفتح ماخوراً في بريطانيا، كالذي يفتحه في بلاد إسلامية سواء بسواء، لا والله العظيم، لم؟ لأن هذه البلاد أصلحها الله بالإيمان، وطاعته، وطاعة رسوله، فالذي يحدث فيها فجوراً أو باطلاً أو شراً أفسد فيها بعد إصلاحها، أما الذي يفسد في أمريكا أو بريطانيا فهي أرض فاسدة من أولها، ما أصلحها الله بالإسلام، وكيف -إذاً- بالذي يفسد في أرض صالحة إلى الآن.فلهذا نقول لأبنائنا وإخواننا: اسمعوا يا سكان هذه المدينة، يا سكان هذا العالم الطاهر! من أراد أن يعيش على الفسق والفجور يخرج ويرحل من هذه الديار، وينزل في غيرها. لا يستطيعون؟ إذاً: فليتوبوا إلى الله، وليرجعوا إليه، أما أن يطهر الله أرضاً كهذه ويأتي عبد الله بالفساد والشر فيها، فهذا ذنب عظيم.والآية ناصعة واضحة: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، أما ما كانت جاهلية وثنية؛ فالمعصية فيها خفيفة لا قيمة لها بالنسبة إلى الكفر والشرك والعياذ بالله.إذاً: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [الأعراف:56] يا أهل المدينة! يا أهل مكة! يا أهل الرياض! يا أهل هذه الديار! من لا يستطيع أن يترك المحرمات فليرحل، فإن كان لا يستطيع أن يعيش في بلاد أخرى يتوب إلى الله، ويذعن له ويستسلم، أما أن يفسد في أرض صلحت فهذه جريمة قد لا تغتفر له، وقد يموت على سوء الخاتمة، والعياذ بالله.

الخسران الحقيقي
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وأخيراً جاء الختم: أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:27] إي نعم، الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27] حتى من صلة الأرحام: أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:27]، وقد عرفنا أن الخسران ليس فقد الشاء، ولا البعير، ولا المرأة، ولا الولد، ولا الوظيفة، ولا المنصب، ولا.. ولا، وهل معلوم لدى السامعين حقيقة الخسران؟ اسمعوا؛ قال تعالى لرسوله بلغ أعلن: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، وقد سمعتم كيف يؤتى بالرجل أو المرأة فيوضع في صندوق من حديد، ويغلق عليه، ويرمى في أتون الجحيم مليارات السنين لا يأكل، ولا يشرب، ولا يسمع، ولا ينطق ولا.. ولا، ولا يموت، يبقى أحدهم في عالم الشقاء لا أم هناك، ولا أب، ولا أخ، ولا أخت، ولا امرأة، ولا ولد؛ وحده يعيش في عالم، ونسبة ذلك العالم إلى هذا كأن يغمس أحدنا أصبعه في البحر، فالبلل الموجود في أصبعه عندما يجمعها هي جزء من مائة من مليون جرام، ولينسبها إلى البحر، لا إله إلا الله! قولوا: آمنا بالله.

تقرير الألوهية

ثم جاء بيان تقرير الربوبية الإلهية، تقرير الإلهية لله عز وجل؛ لا يعبد إلا الله، جاء تقرير مبدأ الحياة الثانية والجزاء الأخروي؛ لأن المشركين منهم من ينكرون البعث والدار الآخرة كالملاحدة، ومنهم مشركون ويؤمنون بالبعث والجزاء، فقال تعالى موبخاً، مقرعاً، مؤدباً: و كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة:28] أي: بالله ولقائه: وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [البقرة:28]، هل هناك من يقول: لا أنا ما كنت ميتاً، أنا كنت حياً منذ آلاف السنين؟ نقول له: هات براهينك وأدلتك، نحن كنا غير موجودين عدماً، فأوجدنا، وأحيانا، وأصبحنا أحياء.قال: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [البقرة:28]، هل هناك من يقول: لا نموت؟ هانحن ندفن إخواننا كل يوم تباعاً، واحداً بعد واحد، والله لا يبقى منا واحد، نموت أو لا؟ إذاً: من أحيانا .. من أماتنا؟ الله، أيعجز أن يحيينا مرة ثانية؟ لا، والإعادة أسهل بكثير من البداية. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28] رغم أنوفكم مريدين أو رافضين لابد من الرجوع لتتم عدالة الله وحكمته في الجزاء على الكسب في الدنيا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28].
خلق الله ما في الأرض للبشر
قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، مناظر ومظاهر، فانظر يا عبد الله وتأكد، هو لا غيره وحده لا ثاني له، قال: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]؛ من البر إلى الزيتون .. إلى ذوات اللحوم والألبان بل والمعادن، فكل ما في الأرض مخلوق مربوب، الله الخالق. ولمن خلقه؟ للملائكة؟ له هو؟ لكم، ومع هذا لا يستحون من الله ولا يخجلون، ويرفعون أكفهم إلى غيره، ويسجدون لسواه. إنها محنة الجهل وظلمة القلب، والمطلوب منا دائماً أن نقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، طول النهار والليل.ثم قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29]، هذه العظمة، هذا الجلال والكمال، هذه القدرة التي لا يعجزها شيء، هذا العلم، وكلمة سبع سماوات تعني: سماء فوق سماء، وغلظ السماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والأخرى مسيرة خمسمائة عام، ولما أراد الله أن يجتازها رسول الله اجتازها في دقائق معدودات. لا إله إلا الله! وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29]، هذا الذي يستحق أن يعبد أو لا؟ هذا الذي يستحق أن يطاع .. أن يذعن له .. أن يذل له .. أن يستجاب نداؤه، لا المخلوقات المربوبة، المتهالكة، العاجزة الضعيفة، سبحان الله! فلهذا هذا القرآن روح، والله لا حياة بدونه، وهذا القرآن نور، فلا هداية بدونه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].فما حييت أمة العرب إلا على هذا الروح، ولا اهتدت إلى عزها، وكمالها، وسيادتها، وطمأنينتها إلا على هذا النور، ومع هذا يجحدون هذا ويغطونه! فأين يذهب بعقولهم! وما زلنا نقول: والله العظيم! لن يستقيم أمر أمة ولا جماعة ولا أسرة في الأرض إلا على هذا الروح وهذا النور، وجربوا في الشرق والغرب.وهنا انتهينا إلى الآية التي بدأنا درسها وشرحها في الدرس الماضي.

اشتقاق اسم الملائكة ومادة خلقهم

قال ربنا تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ... [البقرة:30]، هذه علوم ومعارف ينزل بها هذا القرآن، ويتلوها هذا الرسول، ويتلقاها النساء والرجال؛ فيخرجون من ظلمة الجهل والبعد عن الحق والمعرفة، فيصبحون عالمين ربانيين يعلمون ذرات الكون العلوية والسفلية، بأية واسطة؟ إنها القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم.وقد عرف العدو هذا فصرف المسلمين من قرابة ألف سنة صرفاً كاملاً عن مصدر حياتهم وهدايتهم؛ حتى هبطوا، وذلوا، وأصابهم ما أصابهم، وما أفاقوا إلى الآن! ما زلنا.فانظر واذكر يا رسولنا لهؤلاء البشر للسامعين وغيرهم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]. تكلمنا في جزء الكلام عن الملائكة: من الملائكة؟ من أين اشتق هذا الاسم؟ وقلنا: إنه من ملأك كشمأل، ويجمع على شمائل، أي: ملائكة، ومأخوذ من الألوكة وهي الرسالة؛ إذ الملائكة رسل الله.وهؤلاء الملائكة مادةُ خلقهم من النور، ومادةُ خلق الجان من النار، ومادةُ خلق الإنسان من الطين، وهل بقي شيء آخر؟ لا شيء، خلق الله عز وجل الناس بني آدم من الطين، إذ خلق أباهم آدم من الطين، وتناسلوا من ماء مهين، وخلق الجان من شواظ من نار، وتناسلوا وتوالدوا وملئوا الأرض.وخلق الملائكة من النور، ولا يتوالدون إذ جنسهم خاص، لا يأكلون، لا يشربون، لا يتزوجون، لا يلدون، لا يمرضون، مخلوقون -أستغفر الله- كالآلة لا تعرف إلا طاعة الله عز وجل، ولكن يرهبون الله ويخافونه، وترتعد فرائصهم، ويغمى عليهم إذا سمعوا كلام الله عز وجل.

الكلام عن حملة العرش

هذا العالم ذكرنا أن منهم -وبدأنا بأعلاهم- حملة العرش أربعة، عرش من؟ سرير من؟ عرش ربنا .. سرير مولانا، أيدير هذا الملكوت بلا سرير ملك؟! يعلمنا، لمَ نحن عندنا أيضاً كراسي وأسرة؟ فالله عز وجل يعلمنا هذا ويرشدنا: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54].وقد عرفنا قيمة هذا العرش ومقداره، لما ضرب لذلك ابن عباس من مثل، قال: الكرسي أخبر تعالى أنه وسع السماوات والأرض: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، فهذه السماوات وهذه الأرضين كلها لو جعلت رقعة إلى جنب الأخرى، وألصقت بها ووضعنا الكرسي لكان الكرسي أكبر؛ لأن الله محيط بكل شيء: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20] ونسبة الكرسي إلى العرش كحلقة من صفر ملقاة في صحراء .. في فلاة، فما هي نسبتها إلى الأرض؟!ومع هذا أخبرنا الله ورسوله أن للعرش حملة وهم أربعة، ويوم القيامة يضاعفون بأربعة، فيصبحون ثمانية، إذ قال تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]. واليوم أربعة، والملائكة يحفون بالعرش طول الدهر: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر:75] فلا يعرف عددهم إلا الله. من خلقهم؟ خلقهم الرب العظيم الذي يقول للشيء: كن فيكون.أتريد أن تعرف قدرة الله؟ هذا الكوكب الناري؛ الشمس التي نستفيد من حرارتها أكبر من الأرض بمليون ونصف المليون مرة، فمن جمع لنا نارها، وأوقدها، وعلقها مناراً في السماء؛ تدب كعقرب الساعة إلى يوم الساعة، من فعل هذا؟ السحرة! من ذاك؟! الله. فلهذا لو يزول الحجاب عن قلوبنا إذا ذكرنا الله يغمى علينا! وعلى الأقل المؤمنون إذا ذكر الله تضطرب نفوسهم، واقرءوا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2].أما الأموات: خاتم الذهب في يده، تقول له: يا عبد الله! حرام عليك. يسخر ويقول: هذا رجعي.يا عبد الله! أنت تحلق، لا تحلق وجهك، خل علامة الرجولة، يسخر!ففرق بين الحي والميت أم لا؟ وفرق بين المؤمن والكافر أم لا؟ فرق بين المهتدي والضال أم لا؟ نعم.إذاً: المؤمن إذا وعظته خاف: يا عبد الله! أما تخاف الله! تجده -والله- يرمي المعصية من يده، ولا يصبر أبداً، فالمؤمن حي، والميت اقرأ القرآن كله عليه لا يشعر!وعرفنا أن الملائكة ملئوا السماوات، فما من موضع قدم في السماء إلا وعليه ملك راكع أو ساجد.

الكلام عن الملائكة الحفظة

عرفنا أن الملائكة في الأرض معنا: ( يتعاقب فينا ملائكة بالليل وملائكة بالنهار )، وكل واحد منا معه أربعة ملائكة قد اختصوا به، لا يتناولون غيره، مع الحفظة الذين بين يديك ومن ورائك، ولولا الحفظة لالتهمتنا الشياطين؛ لأنهم يقدرون علينا ولا نقدر عليهم، يروننا ولا نراهم، لكن هؤلاء الحفظة حفظنا الله تعالى بهم حتى تتم حياتنا.وهنا ذكرت لكم لطيفة! إذا قال القائل: ما فائدة الحفظة ونحن نموت ونمرض ونهلك؟قلنا: فائدة الحفظة أعطيتها في الرئيس .. الملك له حرس يحرسه خمسون .. مائة، ما الفائدة مادام لابد من الموت ولابد من قضاء الله؟ الجواب: لما يعرف الملك أو الرئيس أنه محروس تطمئن نفسه، ولا يبقى يلتفت، ولا يبقى في حيرة ولا يستطيع أن يقوم ولا يقعد، يكون هادئاً مطمئناً؛ لوجود حرس. وهذا غير مانع أن ينفذ أمر الله فيه، فكذلك نحن لما علمنا أننا محروسون لولا هذا العلم لكان أحدنا لا يستطيع النوم، كيف ينام والجن حوله وفوقه؟ كيف يمشي؟ كيف يستطيع؟ لكن عرف أنه محروس: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]. كم عدد الملائكة إذن في الأرض فقط؟ولا تسأل عن وظائف الملائكة الكرام الكاتبون والحفظة، ثم من مع الأرواح، مع الأمطار، مع السحب، من ملك الموت، من أعوانه؟ قلنا: الكثير، وما ذكرنا إلا قطرة من بحر، عالم كبير، نحن ما نساوي فيه ولا العشر.وعرفنا أنهم كما أخبر تعالى عنهم: لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينامون، و لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، و لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، وكلهم نور.

خروج الملائكة من البيوت بسبب المعاصي

وهنا نبهت إلى أنهم ينزلون بيوت المؤمنين؛ ليحفظوهم وليستجيبوا، وإذا دعا المؤمن قالوا: آمين! فإياكم أن تطردوهم بأيديكم! فيا معشر المستمعين والمستمعات! أغلقوا أبواب بيوتكم عن الشياطين، لا تفتحوها لهم أبداً، وكيف يدخلون يا شيخ ونحن نقرأ القرآن، ونردد آية الكرسي، وأصواتنا مرتفعة بالتهليل والتكبير؟الجواب : لا يدخلون، لكن يدخلون بيتاً فيه التلفاز، والعواهر تغني وترقص، وأصوات الكفار والماجنين تملأ الحجرة، والفحل مع بناته وامرأته يجلسون يتفرجون ويضحكون! فهنا ترحل الملائكة، والله لا تبقى! ويصبح ذلك البيت بؤرة من بؤر الفساد، ولو نعرف عاقبة ذلك لقلنا: قد يموتون على سوء الخاتمة.أتعرفون التأثير أم لا؟ يتكلم الإنسان بكلمة تؤثر في نفسه، والفحول يعرفون إذا سمع صوت امرأة أجنبية يرتفع ويهيج في باطنه، ولهذا حرم الله على المؤمنة أن ترفع صوتها للأجانب: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]، والعميان، والضلال، والملاحدة لا يفهمون هذا، لم لا تتكلم؟ يا بشر! تعالوا فتعلموا، نحن نريد أن نحفظ زكاة أنفسنا لنرتقي إلى السماء والملكوت الأعلى، ولو كنا نريد الأرض فقط، والهبوط إلى المستوى الأسفل ما قلنا: هذا حرام ولا حلال، كل، وانكح، وافعل ما تشاء! لكنك تعد نفسك لترقى إلى السماء، وتنزل الدار دار الخلد .. دار الأبرار مع النبيين والصديقين، فكيف بالذي يجمع بناته وأولاده وامرأته وأمه ويشاهدون الكفار يتكلمون ويضحكون، والعاهرة ترقص، فهل يبقى الملائكة؟! يستطيع أهل هذا البيت أن يضمنوا أنهم يموتون على حسن الخاتمة؟! ومن يضمن أن قلوبهم لا تفسد، وأن لا يصابوا بالنفاق -والعياذ بالله- ويصبحوا كالحيوانات؟يا شيخ! لم تشدد هذا التشدد؟ الجواب: أنا سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، ما هي الصورة؟ ليست عاهرة أو كافرة تتكلم، بل صورة موجود في ستارة على نافذة منسوجة بالخيوط، ما لها ملامح ولا صوت، منعت الملائكة! وعاهرة كافرة في بيتك ترقص، وأنت تضحك مع امرأتك وأولادك، يبقى إيمان .. يبقى نور؟ ما ندري، ولكن الذي نعلم حسب سنة الله أن من استمر هكذا في بيته أن يحصل له ما يموت به على سوء الخاتمة، فاحذروا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-22, 07:53 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (35)
الحلقة (42)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (130)

إن الله عز وجل عليم بعباده، خبير بما تعالجه نفوسهم، فمن أنفق نفقة أو نذر نذراً فإن الله يعلم إن كان يريد بذلك وجهه تعالى، فيكفر بذلك سيئاته، ويرفع به درجاته، وإن كان يريد بذلك غير وجه الله فإنه يحرم أجر ما أنفق أو نذر، ورب العزة يبين هنا أن من أنفق نفقة فأظهرها مريداً بها وجه الله فهو خير، وإن أخفاها فهو أفضل وأجدر أن يكفر الله به سيئاته ويجزل مثوبته.
قصة بقرة بني إسرائيل
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق رجاءنا إنك ولينا.وها نحن وقد انتهى بنا الدرس إلى هاتين الآيتين الكريمتين:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:270-271].معاشر المستمعين والمستمعات! أليس هذا كلام الله؟ إي والله، كلام الرب تعالى، وصل إلينا والحمد لله، فملايين البشر محرومون، لا يسمعون عنه ولا يعرفون، ومن عرف كفر وكذب وأنكر ليحترق ويخسر، ولكن منة الله على المسلمين أن أنزل كتابه على رسوله وأورثه فيهم، يحفظونه في صدورهم، ويحفظونه بسطورهم؛ حتى يرفعه الله حيث لم يبق من ينتفع به في آخر ساعات هذه الأيام. من القائل: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ [البقرة:270] أليس الله؟ بلى؛ لأن هذا كلامه في كتابه، وهذه الآيات من سورة البقرة، وهي ثاني سورة من سور كتاب الله عز وجل، الأولى الفاتحة، والثانية البقرة، هذه البقرة لا تتصور منها ذات اللبن واللحم، هذه السورة ذكر فيها لفظ البقرة؛ فسميت بذلك.وحادثة البقرة حادثة عظيمة، تليت على الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأها في الكتاب ولم يشهد أيامها ولم يعرف عن أهلها ولا عن تاريخها، إلا أن اليهود وهم أهلها كانوا يسكنون هنا ويجادلون، والله! ما استطاعوا أن يردوا حادثة ذكرت في القرآن وهي من أحداث آبائهم وأجدادهم، فلهذا قل: آمنت بالله.وحادثة هذه البقرة: أن رجلاً كان يحب الدينار والدرهم مثلنا، وكان له ابن أخ يرثه، وطالت المدة، فمتى يموت هذا؟ فاستعجل فقتله وأخذ يصرخ: ابن أخي قتل!وتمضي القرون وعشراتها ويحدث هذا في قرية كنا نقيم بها، رجل من أهل القرية له ابن أخ يشترك معه في بستان، فوالله! لقد ذبحه تحت نخلة في حوض، وخرج يندب ويصرخ ويبكي: ابن أخي ذبحوه، وقامت البلاد وقعدت، وجاء الباحثون أو المحققون، وما هي إلا جولة واعترف بأنه هو الذي ذبحه؛ لأن طباع البشر هي هي، إذا لم يمتلئ قلبك بنور الله فأنت في الظلام، والماشي في الظلام كيف ترون مشيته؟ يتخبط، يقوم ويقعد. إذاً: فلما رفعت القضية إلى نبي الله موسى عليه السلام بم حكم؟ أوحي إليه أن: اذبحوا بقرة من خيرة ما تملكون. وأخذوا يتشددون: ما وصفها؟ ما سنها؟ حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو رضوا بأول بقرة ذكرت وذبحوها لأجزأتهم، لكن انتهوا إلى أن اشتروا بقرة من يتيم بملء جلدها ذهباً، وذبحوها وأخذوا قطعة لحم وضربوه بها فاعترف، لهذا سميت بسورة البقرة، ولا بأس بأن نسمعكم تلك الآيات، وهي قصة عجب، ولم يستطع اليهود أن يردوا فيها حرفاً واحداً.قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:67-70] قالت العلماء: لولا هذا الاستثناء فوالله ما اهتدوا، لكن ألهمهم الله فقالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة:70-73]، ضربوا المقتول بقطعة منها فقال: قتلني فلان ومات، ومن عجيب أسلوب القرآن أنه قدم القصة وأخر سببها؛ لتبقى النفس متشوقة، ولو ذكرت الحادثة من أولها فقد لا تقرأ الآيات بعد، فآمنا بالله.
انصراف المسلمين عن الاجتماع على مدارسة القرآن الكريم
فهذا القرآن، هذا النور الرباني حرمه المسلمون من قرون لا يجتمعون عليه ولا يقرءونه ولا يعلمون ما فيه، ولا يحكمونه ولا يطبقون شرائعه، وإنما يقرءونه على الموتى، إذا مات أحد في العائلة يأتون بطلبة القرآن يقرءونه ويطعمونهم ويضعون في أيديهم ما شاء الله من النقود، هذا هو القرآن، فمتنا، من فعل بنا هذا؟الثالوث المكون من المجوس، واليهود، والنصارى، لم فعلوا بنا هذا يا أبنائي؟ عرفوا أن حياة هذه الأمة كانت بالقرآن، فقالوا: هيا نبعدها عن القرآن، أما أن نبعد القرآن عنها فما نستطيع، حاولوا أن يسقطوا حرفين وهي كلمة (قل) وانعقدت مؤتمراتهم السرية مئات المرات وعجزوا، فكيف يصنعون؟قالوا: إذاً نبعدهم عن قراءته فقط، فحولوه إلى المقابر، وإلى المآتم، وإلى بيوت الموتى، أما التفسير فإن قلت: قال الله؛ فإنه يقال لك: اسكت، هل أنت تعرف ما مراد الله؟ قل: قال سيدي فلان، قال الشيخ! ووضعوا قاعدة أيضاً حفظناها، يقولون: تفسير القرآن العظيم صوابه خطأ، إن فسرت وأصبت فأنت آثم، وخطؤه كفر، ومن فسّر فأخطأ فقد كفر، فألجموا أهل القرآن وأسكتوهم، فضلت الأمة وهوت وسقطت، فمزقوها وشتتوها وعذبوها واضطهدوها، وما زالت إلى الآن ترزح تحت كلكل معتقداتهم.وإلى الآن أروني اثنين أو ثلاثة يجتمعون تحت سارية، تحت شجرة، في ظل جدار ويقول أحدهما للآخر: من فضلك أسمعني شيئاً من كلام ربي.إذاً: ما زال الموات هو هو، ولهذا ما زلنا أذلة فقراء منحطين، اليهود يضحكون علينا، والمسلمون أذل الناس، من أذلهم؟ الله. لم يذلهم؟ أعرضوا عنه، ما عرفوه، جهلوه، ما هم بأولياء، إذاً: سلط عليهم أعداءه إلا من رحم الله، فهيا مع هذه الآية.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير قوله تعالى: (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه ...)
يقول تعالى لنا معشر المؤمنين والمؤمنات، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [البقرة:270] صغيرة أو كبيرة، ذهب أو تمر، أو ثوب؛ لأن التنكير هنا للتعميم، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ [البقرة:270] مطلق النفقة، أنفقتموها أولاً: على الفقراء والمساكين، ثانياً: لأجل رضا الله وحبه لكم ورضوانه عليكم، أما إذا أنفق للرياء والسمعة، أو أنفق على الكفار والمنافقين فهذا ليس لله، وما أنفقتم أيها المؤمنون وأيتها المؤمنات من نفقة صغيرة أو كبيرة، هذا أولاً.
النذر الجاهلي الشركي
ثانياً: أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ [البقرة:270] النذر هذا في لغة العامة يسمونه العينة وهي لغة فصيحة، ويسمونه الوعدة وهي بين بين، فالعينة فصيحة والوعدة لا بأس بها، ولفظ النذر نسيناه، ما أصبح أهل القرآن ولا غيرهم يقولون: النذر، في أكثر قرى العالم ومدنه أيام الهبوط يقال: العينة والوعدة، فما هذه الوعدة؟ كانت المرأة إذا ما يسر الله زوجاً لابنتها وتريد زواجها تعد سيدي عبد القادر بوعدة: يا سيدي عبد القادر ! إذا تزوجت ابنتي ذبحت لك كبشاً.وإن كانت في خصومة مع زوجها تقول: يا سيدي إدريس، يا مولاي كذا! إذا غلبته وخاصمته في المحكمة فسأذبح بقرة، وقد سمعت أذني وأنا طفل أمشي مع عجوز، فمرت بولي في قبة فواجهته فقالت: إذا انتصرت على زوجي فسأفعل كذا، واسألوا العجائز.هذا هو النذر، لا يعرفون نذراً لله قط، إلا للأولياء، لسيدي فلان ولسيدي فلان، من إندونيسيا إلى موريتانيا، حتى المدينة قبل دخول عبد العزيز وتطهيرها.هذا النذر الجاهلي، وهو في الحقيقة شرك في عبادة الله تعالى، من نذر لغير الله فقد أشرك، أي جعل المنذور له إلهاً وأقبل عليه، ورغب أن يقضي حاجاته ويعطيه سؤله، فجعل له شركاً محضاً.هذا النذر الشركي زالت غيومه وسحبه إلا القليل بفضل الله تعالى ثم بفضل هذه الدعوة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، واتسع نطاقها، وانتقل رجالها، وعانوا من كلمة وهابي، ففي السودان وفي كل بقعة كل من يدعو إلى الله يقال له: هذا وهابي إذا كان يحارب الخرافات والضلالات، ولكن بقضاء الله وقدره انتشر الكتاب وجاءت هذه المواصلات العصرية، وأصبح الناس يحجون ويعتمرون ويعودون، فانتشرت دعوة التوحيد، وإلا فقد مضت قرون والأمة هابطة، والله! ما يعرفون الله كما يعرفون غيره، فالحمد لله.فالنذر لغير الله شرك، أن تقول: يا سيدي فلان، أو يا رسول الله، أو يا فاطمة، أو يا مولاي، أو يا معشر الصالحين! إن فعل الله بي كذا فسنفعل لكم كذا وكذا، هذا شرك محض، صاحبه لو لم ينقذه الله بالتوبة أو بالإقرار بالتوحيد فيموت وقد تبرأ من ذلك الشرك فهو خالد في جهنم، أما قال الرب تبارك وتعالى: مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72] وهذه الكلمة قالها عيسى عليه السلام في اليهود، هذه كلمة ابن مريم سجلها الله في القرآن وأسمعنا إياها؛ إذ جاء من سورة المائدة: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].ومن سورة النساء آيتان لنا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وفي آية: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، فمن هنا ما أصبح بين العارفين والعارفات من يقول: يا رسول الله. وقد كان الشيخ الكبير يقول والمسبحة في يده: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله في غمرة من الأنوار، وحين ينعس وتسقط المسبحة يقول: يا سيدي فلان! فيمسح كل ذلك، ويسقط الفنجان من يده أو الكأس أو الملعقة فيقول: يا فلان! وهل الله ما يسمعون به أم ماذا؟! وقد ذكرت لكم أن أحد الإخوان حضر دروسنا وظنناه تفوق وتعلم، ركبنا معه السيارة وهو السائق رحمة الله عليه، وخرجت السيارة عن الطريق فقال: يا رسول الله! يا رسول الله! بأعلى صوته، فقلت له: أين الله؟ ولو مات على هذه الحال لمات مشركاً، وهو عامي؛ لأن العوام إذا لم يتربوا تربية في حجور الصالحين زمناً طويلاً فما يكفيهم السماع؛ إذ لا بد من الصدق في الطلب، والرغبة في تحقيق العلم والعمل به، ويجلس العام والأعوام، أما في أيام محدودة أو مواسم معينة فما ترسخ هذه العلوم في النفس البشرية.
النذر المكروه
وهناك النذر الجائز ولكنه مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل ) أن يقول: يا رب! إن نجح ولدي وأخذ البكالوريوس أو الماجستير فسأذبح بعيراً للفقراء والمساكين، فإن نجح ولده وأخذ الماجستير وجب أن يذبح لا محالة، وإذا ما نجح ولده ورسب مع الراسبين فليس عليه شيء، لا يذبح ولا يصوم.وآخر يقول: إن يسر الله لي ووجدت سكناً أو بنيت غرفة أسكنها فسأصوم شهراً لله رب العالمين، وتمضي الأيام وتحقق مطلوبه وحصل، يجب أن يصوم ذلك الشهر وجوباً، فإن لم يتحقق مطلوبه فلا شيء عليه، لا يصوم.امرأة تقول: لو يرزقنا الله ولداً لأصومن عاماً كاملاً، وهي عاقر ما تلد، وإذا بها تحمل وتلد، يجب أن تصوم عاماً، هذا النذر جائز، لكن مكروه؛ لأنك تقول لربك: إن تعطني أعطك، وإن لم تعطني فلن أعطيك، أليس هذا سوء أدب؟ أنت تخاطب سيدك ومولاك وحبيبك وتقول: إن تعطني أعط، وإلا فلن نعطي! الله يقبل هذا، لكن فيه سوء أدب، وإذا أعطاك الله ما طلبت فما أعطاكه من أجل نذرك، بل أعطاكه قبل أن يخلقك ويخلق الملكوت كله، هذا في قضائه وقدره، فالنذر لا يأتي بشيء.هذا النذر دون الأول، الأول شرك محض أعوذ بالله منه ومن أهله، والثاني جائز، فالعجز، والضعف، والحاجة تجعل الإنسان ينذر هذا النذر رجاء أن يعطيه الله، فلا بأس، وتركه أولى.
النذر المحمود المعني في الآية الكريمة
ثالثاً: النذر الذي يعنيه تعالى هنا كما في قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]، هذا النذر يا أبنائي ليس عندنا، هذا النذر هو أن يتكلم مع الله سراً ويقول: يا رب! لك علي أن أحج هذا العام على رجلي، أعذب نفسي من أجلك، وجاء الحج وخرج، فيقال: اركب. فيقول: ما نركب، تقف السيارة والبعير فيقال: اركب يا شيخ! فيقول: دعوني أمشي، فيحج ماشياً يريد أن يرضى الله عنه، أن يحبه الله، أن يسجله في ديوان أوليائه الصالحين.وآخر يقول: لك يا رب علي أن أبيت هذه الليلة راكعاً ساجداً حتى يطلع الفجر، ويصلي العشاء ويبدأ، فيصلي ويبكي إلى أن يطلع الفجر، لماذا فعل هذا؟ هل ليزوجه؟ لا. بل ليرضى عنه، ليحبه، يتملق إلى الله ويتزلف إليه.أو يقول: لك يا رب من الآن ثلث ما أملك، كلما جاءه خير تصدق بثلثه، لم يفعل هذا؟ يتملق الجبار، يتزلف إلى الجليل العظيم ليرفع مستواه ويعلي مقامه، وينزله في مستويات أوليائه الصالحين، هذا النذر الثالث هو الممدوح، هو المحبوب، هو المرغوب، لكن هذا قل من يراه أو يفعله؛ لأننا طماعون نريد أشياء حاصلة.فالنذور ثلاثة: أولها: شرك وحرام، وثانيها: جائز ومكروه، وثالثها: مرغوب ومحمود.هذا الثالث هو الذي عناه ربنا تعالى في قوله: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270] أهذا هو الجزاء: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270]؟ هذا ما هو بالجزاء، الجزاء فوق ما تتصور، فلهذا ما ذكر الجزاء، واكتفى تعالى بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270]، وإذا علمه فهل سيضيعه؟ هل سيفرط فيه؟ كلا. معناه: اتركوا لي هذا الجزاء، فهذا هو النذر الثالث لا الأول ولا الثاني؛ فإن الله يعلمه ويجزي به أعظم الجزاء وأوفاه وأوفره؛ لأنك نذرت من أجل أن يحبك أو يعلي شأنك أو ينزلك في منازل الصالحين، فأبشر بما نذرت لله.وأما من نذر أن يعصي الله فلا يعصه، هذا مجنون، يقول: لله علي أن أضرب الشيخ الفلاني على وجهه، فهل هذا يجوز؟ هذا كلام باطل، ومن نذر نذراً آخر لسيدي عبد القادر وسيدي علي؛ فهذا لا يجوز الوفاء به أبداً، ويحرم الوفاء به.
معنى قوله تعالى: (وما للظالمين من أنصار)
وقوله تعالى: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [البقرة:270] لم هذه الجملة هنا في هذا السياق؟ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [البقرة:270]، لا يوجد من نصير ولا ناصر للظالمين أبداً، الظالمون هنا هم المشركون الذين ينذرون لغير الله، الذين يتقربون إلى غير الله، يتزلفون ويتملقون لسوى الله، هؤلاء ما لهم من نصير.إذا نذر أحدنا لسيدي عبد القادر فهل سيتحقق له شيء؟ إذا نذر أن يجدد قبة مولاي إدريس، ويصبغها بالخضرة لا بالحمرة، فهل سيثاب؟ هذا ظلم، فمن ينصره؟ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [البقرة:270].والظالم: الذي يضع الشيء في غير موضعه، ومن الظلم أيضاً أن تنذر لله وأنت قادر ولا تفعل، تعد ربك وتخلف وتعدل عن ذلك! فهذا ظلم، ووضع للشيء في غير موضعه، فلنحذر أيها المستمعون ويا أيتها المستمعات من الظلم؛ فإن الظالم لا ناصر له أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، بإخبار الله تعالى وتقريره: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [البقرة:270].
تفسير قوله تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي ...)
ثم قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [البقرة:271] إن تتصدقوا وتعلنوا صدقاتكم وتظهروها فلا حرج، فنعم تلك الصدقات. إِنْ تُبْدُوا [البقرة:271]: أي تظهروا صدقاتكم، سواء كانت لحماً أو ثياباً أو مالاً أو تمراً أو طعاماً، إن تبدوها وتظهروها فلا بأس ما دمتم لا تريدون إلا وجه الله، لا تنظر إلى وجه علي ولا عمر ولا فلان ولا فلان حتى تمدح، أو يدفع عنك الذم ويقال: فلان ما هو ببخيل، إن أعلنتها أديتها والناس يشاهدون أو يسمعون وأنت لا تريد إلا رضا الله فلا حرج، فنعم الصدقة هي، فنعم ما تصدقتم به، وهذا تشجيع للمؤمنين على أنهم يتصدقون، فمتى فتح باب الصدقة ووجد من يطلبها وهو مستحق لها لا يقل: آتيه في الليل فقط، أو ما دام الناس ينظرون إلي فلن أتصدق! إذ الشيطان أحياناً يفعل بالعبد هذا، يقول: ما دام الناس يشاهدونني فلن أتصدق؛ حتى لا أكون قد راءيت، يأتي بهذا حتى يمنع الصدقة، فأغلق الله الطريق في وجهه، وأذن لعباده المؤمنين أن يتصدقوا علناً، وبشرهم بأنه نعم الصدقة هذه.وأحياناً إذا كانت الصدقة واجبة فالإعلان عنها وإشهارها أفضل؛ حتى يتتابع الناس، ولعلكم تذكرون ذاك الرجل الذي جاء بزنبيله أو كيسه في الروضة، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب، وأخذ الأصحاب يتتابعون حتى امتلأت جمع كوم من الطعام وآخر من الثياب.فلا بأس أن تتصدق والناس يشاهدونك، أي: واحد أو اثنان أو عشرة، ليس في السوق أو في المسجد، فلا تخف ما دمت لا تريد إلا وجه الله، وقد يأتيك الشيطان ويمنعك من الصدقة بحجة أن الناس يشاهدونك كأنك ترائي، إذا سمعت هذا النغم فاعرف ما هو ومن صاحبه، وامض في صدقتك.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم)
ثانياً: الصدقة السرية، كما قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: ( صدقة السر تطفئ غضب الرب )، صدقة السر -أي الخفاء- تطفئ غضب الله عز وجل، من فعل فعلة تغضب ربه عليه وأراد أن يخرج من هذه فليتصدق في ليله، هذه الصدقة السرية تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى.وبلغنا عن أهل المدينة أنهم كانوا يأتون في الليل بالصدقة، يأتي أحدهم بعد المغرب أو بعد العشاء ويقرع الباب فيفتح الباب فيرمي كيس النقود أو السكر أو الدقيق ويمضي وما يلتفت، هذه مأثورة عن ديارنا هذه، يأتي في الليل والأموال في يده أو في كيسه فيقرع الباب فيفتحون الباب فيرميه ويذهب، ويجري وراءه الأولاد فما يلتفت إليهم، عرفوا أنها صدقة يريد صاحبها أن يخفيها؛ ليعظم الجزاء عليها، نظراً إلى قول الله تعالى: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271]. ومن هم الفقراء؟الفقراء : جمع فقير، وهو الذي لا يجد قوته، ولا ما يستر به عورته، ولا ما يكنه، هذا المحتاج، هذا الفقير، هذا الذي إذا كتمت صدقتك ووضعتها بين يديه حيث لا يراك إلا الله فأبشر بالجزاء الحسن، فهو خير لكم من إعلانها؛ لأن الإعلان ذكرنا له علة، فقد لا يسلم منها الإنسان، لكن إن تشجع بذلك غيره فلا بأس، كما أن الإعلان الثاني مستحب ليشجع الحاضرين على الإنفاق، فقير وقف بين أيدينا فتصدق واحد ليتابعه الآخرين، من أجل هذا أعلن عن صدقته: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] حالاً ومآلاً، في الدنيا وفي الآخرة، خير لكم تنالونه وتظفرون به اليوم قبل يوم القيامة، ويوم القيامة؛ إذ هذا أسلم من الرياء والسمعة، حتى الفقير حين تعطيه ولا تواجهه يفرح بذلك، أما إذا قلت: خذ يا عدنان فإنك تؤلمه بها، وقد تقدم لنا وعرفنا أنه لا يجوز أبداً المن على المتصدق عليه، هذا ولي الله ابتلاه الله بالفقر لينظر أيصبر أم يجزع، فهو في أيام محنته وأنت تتصدق عليه وتقول: أنت كذا وكذا، فعلنا معكم كذا وكذا! فتذله وتكسر شرفه، هذا لا يجوز.والأذى كالمن أيضاً، يعطيه ويدفعه بيده، أو يرمي له الفلوس أو كيس التمر وهو متكبر عليه مترفع، فهذا حطم هذا الولي وأذله وأهانه وهو ولي الله.قال تعالى: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] حالاً ومآلاً، ومن الخير: أن الفقير ينشرح صدره وتطمئن نفسه ولا يشعر بإهانة ولا بذل ولا بصغار؛ لأنك أخفيتها عن غيره حتى ما يسمع الناس أن فلاناً محتاج وفقير.
دلالة التبعيض في قوله تعالى: (ويكفر عنكم من سيئاتكم)
وأخيراً: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [البقرة:271]، لماذا قال: (من) وما قال: (ويكفر عنكم سيئاتكم) فتستريحون مرة واحدة؟ قال: مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [البقرة:271]؛ لأن من السيئات ما هي حقوق للآدميين، كضرب المؤمن وكسلب ماله، كانتهاك عرضه، كإذلاله وإهانته، كسجنه وتعذيبه، هذه ما تكفرها الصدقات، فحقوق الناس لو تتصدق بملء الأرض ما ينفعك ذلك حتى تتحلل منهم، وترد ما أخذت منهم أو تضع خدك على الأرض ليضربوك كما ضربتهم، أو ليشتموك ويسبوك كما شتمت وسببت، أو يعفوا عنك ويتكرموا بفضلهم وإحسانهم عليك، فكونك تتصدق وتقول: هذه الصدقة تكفر سيئاتي مطلقاً غير صحيح؛ لأن الحكيم العليم قال: مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [البقرة:271] و(من) للتبعيض، ولو شاء لقال: (ويكفر عنكم سيئاتكم) وهو على ذلك قدير، لكن مراعاة لحقوق عباده من رجال ونساء من المؤمنين والمؤمنات، فكونك تتصدق كل يوم بمليار دولار وتظن أنه يكفر ما أخذت من أموالهم أو اضطهدتهم وعذبتهم وأن هذه الصدقة تكفي؛ فوالله! ما تكفي.وقد بين هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعرض عرضاً كاملاً في عرصات القيامة، إذ يجاء بالرجل له الحسنات الكثيرة، ويأتي المظلومون يأخذون من حسناته، والميزان يهبط، وحين لا تبقى له حسنة يأتون بسيئاتهم ويضعونها عليه فيغرق ويهلك، ذلكم هو المفلس، إذ قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( هل تدرون من المفلس؟ قالوا: من لا درهم له ولا دينار. قال: المفلس من يأتي بحسنات كالجبال، ويأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ويؤخذ لهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار )، هذا هو المفلس، والإفلاس معروف.
معنى قوله تعالى: (والله بما تعملون خبير)
قال تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:271]، لا تفهم أنك تستطيع أن تخادع الله، وأن تدعي أنك أنفقت في الخفاء، تقول: أنا الآن أعطيت فلاناً كذا وكذا، انتبه، فالله تعالى بما تعملون من خير وغيره خبير، إذاً: فراقبوه، لا تفهم أنك وحدك، والله! لا يخفى عليه من أمرنا شيء، فلهذا إذا قوي هذا الشعور عندك، أو إذا ارتفع هذا المستوى للإيمان عندك فإنك تستحي أن تقول كلمة لا ترضي الله عز وجل، تستحي من الله أن تكشف سوأتك أو عورتك وحدك أيضاً، تخاف من الله أن ترتكب أدنى ذنب من الذنوب؛ لأنك مع الله والله معك، هذه هي المراقبة، وفضلها الله حتى على الصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله في آية التربية الإلهية؛ إذ قال تعالى وهو يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته تابعة له: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، تلاوة القرآن في ليل أو نهار من شأنها أن تحفظ الإنسان من السقوط في مهاوي الشر والفساد، تعصمه من زلات القدم؛ لأنه مع الله يتلو كتابه، ويعرف ما بين الله وما أحل وما حرم، وما أوجب وما منع، فكيف يعصيه؟ ثانياً: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] أقم الصلاة، ما قال: صلّ؛ لأن إقامة الصلاة تحتاج إلى طهارة بدن، طهارة ثوب، طهارة مكان، وقت معين، مكان معين، وتقف بين يدي الله تتكلم معه وقد نصب وجهه الكريم إليك وأنت بين يديه، ثم تبكي، وتسجد وتركع، ويأتي الظهر والعصر والمغرب والعشاء في حلقة من حلق الاتصال بالله عز وجل، أين الوقت الذي تعصي الله فيه؟ ما تستطيع، وعلل لذلك بقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] بما توجده من طاقة النور في القلب البشري، لأنها أكبر مولد للنور، أكبر من الصيام: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].ثالثاً: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] أي: مما سبق، أكبر في الحفاظ على قلب العبد حتى لا يزل ولا يسقط، والدليل عندنا أننا نقول: من منكم يذكر الله ويمد يده إلى ما حرم الله؟ يذكر الله وينكب على جريمة يفعلها، لا يتأتى أبداً.وما يقع على المعصية إلا في حال نسيانه لله، وعدم ذكره لله، فلهذا من لازم الذكر ما يستطيع أن يقع في سيئة أبداً، الذكر بقلبه ولسانه، بشروط الذكر.وأخيراً قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، هذه هي المراقبة، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:271]، إذاً مراقبة الله العصمة الكاملة، الذي يراقب الله لا يضجر، لا يسخط ولا يكذب ولا يفجر، ولا يترك واجباً أبداً؛ لأنه مع الله، فكيف أنت مع الله وتعصيه؟ أنت تمشي بين حراس خمسة أو ستة من البوليس فهل تستطيع أن تسرق وأنت بينهم؟ أو تقوم وتسب وتشتم وتضرب أحد المارة وأنت بينهم؟ ما تستطيع، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].وقوله تعالى: فَنِعِمَّا هِيَ [البقرة:271] أصلها: نعم ما، فأدغمت الميم فيها، نعم شيء عظيم، فأصلها: (نِعم) ما هذا، فسكنت الميم وأدغمت في الميم، فكانت (نعما).
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
والآن مع معنى الآيتين الكريمتين من التفسير.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيتين:بعدما دعا تعالى عباده للإنفاق في الآية السابقة أخبر تعالى أنه يعلم ما ينفقه عباده، فإن كان المنفَق جيداً صالحاً يعلمه ويجز به، وإن كان خبيثاً رديئاً يعلمه ويجز به، وقال تعالى مخاطباً عباده المؤمنين: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270]، فإن كان مبتغىً به وجه الله ومن جيد المال فسوف يكفر به السيئات، ويرفع به الدرجات، وما كان رديئاً ونذراً لغير الله تعالى فإن أهله ظالمون، وسيحرمون أجر نفقاتهم ونذورهم لغير الله تعالى ولا يجدون من يثيبهم على شيء منها؛ لأنهم ظالمون فيها حيث وضعوها في غير موضعها: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [البقرة:270].وأما الآية الثانية فقد أعلم تعالى عباده المؤمنين: أن ما ينفقونه لوجهه ومن طيب أموالهم علناً وجهراً هو مال رابح، ونفقة مقبولة يثاب عليها صاحبها، إلا أن ما يكون من تلك النفقات سراً ويوضع في أيدي الفقراء يكون خيراً لصاحبه لبعده عن شائبة الرياء، ولإكرام الفقراء وعدم تعريضهم لمذلة التصدق عليهم، وأنه تعالى يكفر عن المنفقين سيئاتهم بصدقاتهم، وأخبر أنه عليم بأعمالهم، فكان هذا تطمينًا لهم على الحصول على أجور صدقاتهم وسائر أعمالهم الصالحة ].
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيتين:أولاً: الترغيب في الصدقات ولو قلت ] لأنه تعالى قال: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ [البقرة:270]، [ والتحذير من الرياء فيها، وإخراجها من رديء الأموال وخبيثها.ثانياً: جواز إظهار الصدقة عند سلامتها من الرياء.ثالثاً: فضل صدقة السر، وعظم أجرها، وفي الحديث الصحيح: ( رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) ] في سبعة رجال ونساء: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ) وذكر منهم: رجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه.هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-24, 12:27 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (36)
الحلقة (43)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (131)

وعد الله عز وجل الذين ينفقون أموالهم في سبيله بالليل والنهار سراً وعلانية بالأجر العظيم والثواب الجزيل، لما في إنفاقهم على إخوانهم من التوسيع على فقرائهم، خاصة ممن لا يستطيعون الضرب في الأرض طلباً للرزق، وهم مع ذلك متعففون عن سؤال الناس، ولا يعرفهم إلا من أنار الله قلبه وهيأه لأن يكون سبباً في التوسيع عليهم، والله عز وجل يوفيهم أجرهم يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) ، اللهم حقق رجاءنا يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ * لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:272-274].أين هؤلاء؟ لقد مضوا، فهل حلف الزمان أن لا يأتين بمثلهم؟ الجواب: لا، بل يوجدون إن شاء الله تعالى، فهيا نتدارس هذه الآيات الطيبات المباركات.من القائل: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272]؟ الله. ومن المخاطب بهذا الكلام؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهل أمته معه؟ إي وربّ الكعبة.

سبب نزول الآية الكريمة

يقول تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272] لِم؟ هذه الآية لها سبب في نزولها، وإذا عرف السبب اتضح المعنى أكثر.فقد كان يوجد من اليهود ممن بينهم وبين أهل المدينة أرحام ومصاهرة ومصادقة، ويوجد أيضاً من المشركين أقارب للمؤمنين، وحسبنا أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما جاءتها أمها من مكة وهي مشركة، وكانت ترغب في أن تساعدها ابنتها أسماء، فاستشارت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: ( صلي أمك ) فأعطتها ما شاء الله أن تعطيها، فلما تحرج المسلمون من الصدقة على الكفار من يهود أو من مشركين من إخوانهم وأقاربهم أنزل الله هذا البيان الشافي: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272] أيها المتصدق، كونك لا تتصدق إلا على مؤمن ولا تتصدق على فقير كافر كتابياً أو غير كتابي؛ فالهداية بيد الله ليست بيدك.إذاً: فأذن لنا أن نتصدق على فقراء الكفار الذين يسكنون معنا ونشاهد فقرهم وحاجتهم، ونحن في غنى عما نعطيهم إياه، والأمر كما علمتم لم ينسخ، يجوز للمؤمن والمؤمنة أن يتصدق على المشرك إذا كان فقيراً محتاجاً إلى سد حاجته، وأما هدايته فبيد الله، ليس لك أنت حتى تمنع الصدقة عنه.

حكم دفع الزكاة لفقراء الكفرة

وهذا أضيف إليه: أن الصدقة التي يجوز التصدق بها على الكافرين هي صدقة التطوع، وليست هي الصدقة الواجبة، فالزكوات كلها واجبة فلا يصح أن تعطي كافراً من زكاة مالك درهماً ولا ديناراً، لِم؟ لأنها حق فقراء المسلمين، فليست حقك أنت فتعطيها لمن تشاء، هذا المال الذي أعطاك الله فرض عليك فيه (2.5%) لعباده الفقراء، فلا حق لك في أن تعطيه لغير المؤمنين، ما هو بمالك، والمال الذي هو بيدك تصدق به على الفقراء والمساكين. أعيد واحفظوا وبلغوا: أن الزكاة الواجبة على المؤمن لا يصح أن يخرج منها للفقراء والمساكين الكافرين، لماذا؟ لأن هذا حق للفقراء والمساكين المسلمين، فمن أين لك أن تتصرف فيه أنت، ما هو مالك ، وجب هذا القدر من المال في مالك الصامت أو الناطق، فليس من حقك أن تعطيه من تشاء، هذا بين الله تعالى مصارفه الثمانية: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، على أن يكون هؤلاء مؤمنين وليسوا بكافرين، واختلف في صدقة الفطر، زكاة الفطر، فمن رأى أنها فرض واجب منع أن تعطى لفقراء اليهود والنصارى والكافرين، ومن رأى أنها ليست بفرض كأبي حنيفة فإنه يقول: يجوز أن تعطى للفقراء أهل الكتاب وغيرهم.وحديث ابن عمر في الموطأ: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ..)، الحديث، فكلمة (فرض) توقف الإنسان عند حده.إذاً: عرفنا أنه يجوز التصدق على الفقراء والمساكين الكافرين، إي والله، وهذه الآية هي الدليل: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، من شاء الله هدايته هداه، أنت لا تستطيع أن تهديه، كأن تقول له: اسمع: إن تسلم الآن وتدخل في الإسلام فسأكسوك، سأشتري لك بغلة أو سيارة، ليس هذا لك.

حكم دفع الزكاة لتارك الصلاة

وإنما قد يعترض علينا بكلام سبق لنا أن قلناه، وهو: إذا كنت في بلد لا تقام فيه حدود الله كسائر العالم الإسلامي باستثناء هذه الديار، وأخوك لا يصلي، أو عمتك لا تصلي، جارك لا يصلي، وهم فقراء، لو كانوا هنا فسنقول: يجب أن تعلم الهيئة وأن تنقل إليهم حتى يصلوا رغم أنوفهم، أو يقتلوا، لكن ما دام أن الحدود لا تقام ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، أقول: قل لأخيك: إن تصل فسأعطيك، يا فلانة! إن تقيمي الصلاة فإن شاء الله سأعطيك من الزكاة ومن الصدقة، فهذا لا بأس؛ لأنه مؤمن لكنه فاسق، أو جاهل، فإن أنت قلت له: الزكاة لا تصح لغير المصلي، فصل وسنعطيك؛ فلا بأس أن تقول ذلك حتى يصلي؛ لأنك لا سلطان لك عليه وهو ما هو بكافر بالصلاة، مؤمن بها، لكن التقليد الأعمى والكسل والجهل جعله ما يصلي، فإن أنت قلت له: اسمع يا جاري: أنت فقير، وعندنا الزكاة، ولكن لا تصح لتارك الصلاة، إن صليت فإن شاء الله سيكون لك نصيبك مع إخواننا.هذا القول قلناه مرات، وهو إن شاء الله من الصواب بمكان، أما في المملكة فالذي يقول: إن ابني ما يصلي أو امرأتي؛ نقول: يجب أن تبلغ الهيئة، وحرام أن تسكت، فضلاً عن أن تعطيهم الزكاة أو لا تعطي، يجب أن يصلوا، لكن البلاد التي ما فيها حكم إسلامي ما يستجيبون لك، تبلغ بهم الشرطة فيقولون: اذهب، وما يستمعون لك.

معنى قوله تعالى: (ولكن الله يهدي من يشاء)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

إذاً: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272]، هذه الآية نزلت في الصحابة لما تحرجوا: هل يعطون الصدقات للفقراء من اليهود من جيرانهم، وللمشركين الكفار أو لا؟ لما تحرجوا أزال الله الحرج والضيق في القضية، وأذن لهم وقال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، من هم الذين يشاء الله هدايتهم؟دائماً أنبه على أن الذي يرغب في الهداية ويطلبها ويطرح بين يدي الله، ويبكي بين يديه يسأله؛ لا يحرمه الله الهداية، الذي يقرع باب الله: ربّ تب عليّ، رب ارحمني، رب اهدني؛ هذا الذي يهديه الله، أما المعرض الذي يعطي دبره ولا يلتفت إلى الله ولا يسأله ولا يرغب في الهداية فلن يهتدي، وهذا البيان نافع بإذن الله، فالذي يقبل على الله ويسأل الهداية ويطلبها كسلمان الفارسي تنقل كذا سنة يبحث عن الدين الإسلامي من فارس إلى الشام حتى وصل المدينة، وانتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فأسلم.فالذي يقرع باب الله: يا ربّ تب عليّ، يا رب ارحمني، يا رب اهدني، هذا يشاء الله هدايته، وحاشا لله أن تطلبه ويردك عن الهداية، ومن أعرض أعرضَ الله عنه، هكذا نفهم مشيئة الله في باب الهداية. وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272] هدايته، فإذا شاء هدايته جعله يطلب الهداية ويقرع أبوابها، ويسأل عنها.

معنى قوله تعالى: (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم)

إذاً: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [البقرة:272]، هذه فاصلة أخرى، أنت حين تعطي للفقير اليهودي أو الكافر إنما أعطيتَ لنفسك، فافهم هذا. وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة:272] مطلق خير، طعام أو شراب أو غيره، فَلِأَنفُسِكُمْ [البقرة:272]، أنتم الذين تستفيدونه، وتدخرونه، ويسجل لكم عند الله، وتحاسبون به وتجزونه، لا تفهم أنك إذا أعطيت لكافر لا تثاب عليه، بل ثوابك كامل، أنت ما أعطيت إلا لنفسك، هذا الواقع: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [البقرة:272]، فإذا تصدقت على فقير أو مسكين فلا تفهم أنه الذي انتفع، أنت الذي انتفعت، هو يأكل وتنتهي، أما أنت فتسجل لك وتضاعف حسناتك بها ويزاد فيها، هذا إخبار الله تعالى: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [البقرة:272] لا لأولئك الفقراء ولا المساكين، لأنفسكم أنتم.

معنى قوله تعالى: (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)

وقوله: وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة:272]، يا عباد الله! لا ينفقن أحدكم نفقة صغيرة أو كبيرة إلا وهو يريد وجه الله بها، لا للوطن ولا القرابة ولا الصلة ولا الطمع ولا الشكر، ولا الثناء، لا ينفق إلا طلباً لرضا الله عز وجل، يجب هذا، ومن أنفق نفقة ليمدح .. ليثنى عليه.. ليقبل على سلعته.. ليشكر بين الناس؛ فهذه ولو كانت قناطير فوالله! لا تزن حسنة واحدة، ما أراد بها وجه الله: وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة:272] أي: طلباً لوجه الله ليقبل عليك.إذاً: الصدقة الواجبة أو صدقة التطوع يجب أن يكون المراد بها: طلب رضا الله عنك، أما إذا التفت في صدقتك أدنى التفات إلى غير الله فقد بطلت ولو كانت قناطير، هذا تعليم الله، فهل استفاد منه المؤمنون؟الذين عرفوا استفادوا، ينفق النفقة ولا يريد أن يسمع به أحد، أو يطلع عليه أحد، لا يريد إلا أن يرضى الله عنه: وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272]. وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة:272]، الماء، الطعام، الشراب، اللباس، قل ما شئت في كلمة خير، حتى الكلمة الطيبة: ( والكلمة الطيبة صدقة )، الابتسامة في وجه الفقير صدقة، إذاً: كلمة (خير) منكرة لتشمل كل ما ينفع: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ [البقرة:272] كاملاً الحسنة بعشر يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ [البقرة:272] والحال أنكم لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272] جراماً واحداً، ولا حسنة، لو أنفقت ملياراً فلا تخف أن تحرم ثواب درهم واحد، لا يظلم الله عبده بأن ينقص من حسناته أبداً، ما دام قد أنفق لله لا لغيره فالله عز وجل لا يبخسه شيئاً مما أنفق.هذا واضح الدلالة: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ [البقرة:272]، والحال أنكم لا تظلمون بنقص حسنة ولا بزيادة سيئة، عدالة الله عز وجل اقتضت هذا، لا تفهم أنه يزاد عليك سيئة ما فعلتها، أو ينقص من حسناتك حسنة وأنت ما تريد نقصانها؛ لأن الله حرم الظلم على نفسه: ( يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )، فهذا مما حملته الآية الأولى من النور.

ملخص لما جاء في تفسير الآية

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272] أي: أولئك الفقراء الكافرين، إذا احتاجوا إلى طعام وشراب وكسوة فأعطهم، لا تقل: ما داموا كافرين فلن نعطيهم، لا، فهدايتهم ليست إليك أنت، هذا لله، أليس كذلك؟والصدقة الواجبة -الزكاة- هل تعطى للفقراء والمساكين من الكافرين؟ لا، لماذا؟ لأن هذا حق للفقراء المسلمين في ذمتك، فكيف تعطيه لغيرهم، من أين لك؟ لا بد أن يعطى لأهله وهم إن شاءوا تصدقوا.والهداية بيد الله، من هو الذي يشاء الله هدايته؟الذي يتعرض لها، يرغب، يطلب، يجري وراءها، أما المعرض فقد أعرض الله عنه.وعرفنا: أن ما ننفقه من خير على الفقراء والمساكين لا تفهم منه أنك أنفقت عليهم، بل أنفقت على نفسك، فهو لك أنت، هو يأكل ويشرب ويبول ويتغوط، وأنت أخذت الأجور وسجلت الحسنات في ديوانك، إذاً: أنفقت لنفسك أنت: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [البقرة:272].وهنا تنبيه آخر: لا بد عند الإنفاق وعند الصدقة ألا تلتفت أبداً إلى غير الله، لا تريد بريالك ولا درهمك إلا وجه الله، فإن أنت التفت لتحمد أو يثنى عليك أو تدفع عن نفسك المذمة والعيب والعار بطل مفعول صدتك بالتزكية والتطهير؛ لأن هذه العبادات -كما علمتم وزادكم الله علماً- سرها أنها تزكي النفس البشرية، فإن كانت فاسدة فكيف تزكي؟ فلا بد أن تكون صالحة.فلو صليت صلاة ما أتممتها وما أديت شروطها فهي باطلة، ما معنى باطلة؟ ما تولد الطاقة ولا تزكي، والصيام كذلك، والجهاد كذلك، والصدقة كذلك، وصدقة ما أردت بها وجه الله بطل مفعولها، لن تنتج في نفسك طهارة أبداً. وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ [البقرة:272]، هذا وعد الله، ما أنفق مؤمن خيراً إلا وفاه الله إياه، وما بخسه جراماً واحد من قناطيره: وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272].

تفسير قوله تعالى: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض ...)

وفي الآية الثانية يقول تعالى: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، هذا أمر آخر: أنفقوا للفقراء، لتكن نفقاتكم للفقراء، ارعوا هذا الجانب من الفقراء، وهم الذين أحصروا في سبيل الله.وقد كان هناك مكان يقال له: الصفة، في مكان دكة الأغوات الآن، مكان عريض لاصق بالمسجد، لكن منفصل عنه، يجلس فيه المهاجرون الذين جاءوا من مكة، أو جاءوا من الطائف أو جاءوا من جدة، هربوا من الكافرين ولحقوا بالمسلمين، هؤلاء لا يستطيعون أن يخرجوا من المدينة للتجارة ولا للعمل، البلاد كلها ضد المسلمين من شرق وغرب، وليس عندهم في المدينة ما يقومون به من أعمال، فهم محصورون، ما سبب إحصارهم؟ في سبيل الله، فروا بدينهم، هربوا من بلاد الكفر والتعذيب والضغط إلى بلد يأمنون فيه، هؤلاء قد يكونون في بلادهم أغنياء، عندهم أموال، لكنهم الآن محصورون، ما يستطيعون أن يعودوا إلى بلادهم أبداً فسيقتلون، هؤلاء رغب الله تعالى المؤمنين في الإنفاق عليهم: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:273]، ما قتلوا وما جنوا وما ظلموا وهربوا إليكم، هؤلاء ما هربوا إلا من أجل الله عز وجل، لينصروا رسوله ودينه، أحصروا في سبيل الله، فإيمانهم.. تقواهم هو الذي جعل العدو يحاربهم ويضطهدهم ويخرجهم من بلادهم. لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [البقرة:273]، الضرب في الأرض ما هو هذا؟ يعني: يمشي برجليه ويضرب بالأرض، فالمسافر يضرب في الأرض، كم ضربة يضرب على وجهها؟ آلافاً، كل مرة يرفع رجله ويضعها على وجه الأرض، فهذا ضرب أم لا؟ وإذا كان على فرس أو سيارة فإنه يضرب الأرض، ولهذا أطلق على السير في الأرض بالسفر أنه ضرب الأرض، أو ضرب في الأرض، وهذا شائع عندهم في لغتهم. لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [البقرة:273]، أي: لا يستطيعون مشياً، لا يشرقون ولا يغربون؛ لأن الكفار محاصرون الإسلام وأهله في المدينة، من أين لهم أن يسافروا إلى الشام أو إلى العراق أو إلى كذا؟ ما يستطيعون.

معنى قوله تعالى: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف)

لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273]، هذا الجاهل ما هو بالجاهل الذي نندد به، إنما الجاهل بحالهم، غير العالم بهم فقط وإن كان علي بن أبي طالب ، الجهل هنا بحال القوم، لا بالله ومحابه ومساخطه وشرائعه، هذا الجهل ما هو بمذموم كالأول. يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273]، بسبب التعفف.

معنى الإلحاف في المسألة

لا يَسْأَلُونَ [البقرة:273]، لا يتعرضون لك، لا تفهم منهم أنهم يطلبون أبداً. لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273] ولا غير إلحاف، فضلاً عن الإلحاف، وما هو الإلحاف؟ الإلحاف مأخوذ من اللحاف الذي تتلحف به المرأة ويحيط بجسمها، فهذا الملحف والعياذ بالله، يسألك من هنا، ويأتيك من ورائك، يأتيك عن يمينك، يأتيك عن شمالك، يقول: يا عم، فهل ألحف أو لا؟ أصبح كاللحاف يدور بك من كل جنباتك! عجب هذا القرآن! لا إله إلا الله، لا يسألون الناس إلحافاً ولا إلحاحاً ولا إحفاءً، الإلحاح معروف، يلح عليه: من فضلك أعطنا كذا أعطنا كذا، هذا الإلحاح، والإحفاء يتعبك أكثر، فلا إلحاح ولا إلحاف ولا إحفاء، لا يسألون الناس ملحين ولا ملحفين ولا محفين ولا غير ذلك، فقد يمضي عليه اليوم والليلة وما أكل ولا شرب ولا يقول: أعطني، لكمالاتهم.

قصة صبر أبي هريرة رضي الله عنه على الجوع

ولعلكم تذكرون صورة أبي هريرة الدوسي من اليمن ، لما هاجر في السنة السابعة قال: كنت أجوع فأصرع في المسجد، فيأتي أولاد المدينة فيصعدون على ظهري، يركبون على بطني، ويقولون: جُن أبو هريرة ، جن أبو هريرة ! قال: والله! ما بي جنون، ولكن بي الجوع، ما أستطيع أن أمشي.وفي مرة ماذا صنع؟ مر به أبو بكر فقال: يا أبا بكر ! ما معنى قوله تعالى كذا وكذا؟ وإنما سأله لعله يقول: تعال إلى البيت عندنا، فما التفت إليه أبو بكر ، فجاء عمر فقال: يا عمر ! ما المراد من كذا وكذا؟ قال: والله! ما أريد أن أعرف قط، وإنما لألفت نظرهم إليّ، فما التفت إليه، ثم جاء أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وما إن نظر إليه وتفرس في حاله حتى عرفه بسيماه، فقال: أبا هريرة ! امش ورائي، قال: فمشيت وراءه.وهنا نعرف أننا ما نحن بشيء، ولا نعد شيئاً أبداً، فدخل مع رسول الله إلى حجرته فجلس، فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: هل عندكم شيء؟ قالوا: أهدانا فلان لبناً، لا تمر، ولا زبدة ولا خبز.أحد الأنصار أهدانا قدح لبن، فقال: هاتوه، ثم قال: أبا هريرة ! أخرج فادع أهل الصفة، فقال في نفسه: ماذا سنشرب الآن؟ وكانوا ثلاثين رجلاً، فناولهم أبو هريرة القدح واحداً واحدًا، يقال للأول: سمّ الله واشرب، فيشرب ويشرب، فيقول: أعطه الثاني، سم الله واشرب.. حتى دار على ثلاثين رجلاً، ثم قال: أبا هريرة ! اشرب. قال: فشربت فقال: اشرب فشربت، ثم قال: اشرب. فقلت: لم يبقَ له مسلك يا رسول الله!

صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأهله على الجوع
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

هذه أمنا الصديقة عائشة الحبيبة أم المؤمنين تقول: كان يمضي علينا الشهر والشهران، الهلال والهلالان لا يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وإنما كان طعامنا التمر واللبن.ولما اتسعت الحال ورزقهم الله وفتح عليهم بعث لها معاوية رضي الله عنه خليفة المسلمين بكذا ألف درهم فضة، وكانت صائمة، فقالت لمولاتها: وزعيه، فظلت تلك المولاة كالديدبان من بيت إلى بيت توزع الدراهم، وجاء الليل وأذن المغرب فقدمت لها خبزاً بلا مرق، فقالت: يا فلانة! لو اشتريت لنا بدرهم زيتاً نأكل به الخبز! فأين نحن من هؤلاء؟ ولا نحمد الله ولا نثني عليه، ولا نبكي بين يديه، فلا إله إلا الله! إننا هابطون وكنا في علياء السماء نسامي الملائكة، فهبطنا إلى الأرض كالحيوانات نأكل ونشرب ونلبس ونركب ونطير في السماء، وقلّ منا من يقول: الحمد لله في صدق.ونسرق ونفجر، ونأكل الربا ونكذب ونغش ونخدع ونمنع الحقوق، ونمنع حتى الزكاة، فكيف نحن؟

معنى قوله تعالى: (تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً)

وهؤلاء المحاصرون في سبيل الله: لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ [البقرة:273] أيها السامع بِسِيمَاهُمْ [البقرة:273]، والسيما: العلامة، قال تعالى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الفتح:29]، لو تفتح التوراة صفحة بعد أخرى لوجدت هذه الصفة لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإنجيل، لوجدت هذا الوصف بالحرف الواحد: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29]، وأغاظ بهم الكفار من المجوس والمشركين واليهود والنصارى. سِيمَاهُمْ [الفتح:29] من السيما إن كنت من ذوي البصائر، إذا نظرت إلى أخيك وهو جائع أو عطشان فإنك تستطيع أن تتفرس فيه ذلك، كالطبيب ينظر فيشخص ويعرف المرض، فذو البصيرة إذا نظر إلى المؤمن يعرف أنه محتاج، هذه علامات خاصة: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273] ولا غير إلحاف، لا يلحون ولا يسألون. وهنا أفتى الإمام أحمد وغيره أنه يجوز للمؤمن إذا لم يتغدّ وجاع، أو لم يتعش وجاع، له أن يقول: أي فلان! ما تغديت، فيعطيه قرص عيش، أو حفنة تمر، أو يقول: فلان! ما تعشيت، أو مضى عليّ يوم ما أكلت، فلا بأس، إن كان صادقاً يجوز هذا لإحياء نفسه، والإبقاء على عبادة الله عز وجل، أما أن يطلب ليدخر ويوفر فلا، لا يحل هذا.

معنى قوله تعالى: (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم)

ثم قال تعالى: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:273] أيما نفقة تنفقها لا تفهم أنها تخفى على الله ولا يجزيك بها، ولا يثيبك عليها، كلا أبداً، والله! ما يخفى عليه درهم واحد تنفقه في الليل أو في النهار، في الخفاء أو في العلانية، لا تفهم أنك إذا ما أعلنت نفقتك لا يعرفها الله، فقد طمأننا أننا ما نفعل من خير فهو تعالى به عليم، أفضل من (عالم)، ويجزي به أوفى الجزاء، إذ قال: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272].فالمؤمن مطمئن النفس هادئ البال، إذا أخرج درهمه أو قرصه فهو مطمئن إلى أن الله عرفه وعلمه وهو الذي أعانه على ذلك وأنفقه ويثيبه عليه، سبحان الله!هذا القرآن إذا لم ندرسه هذه الدراسة في العالم الإسلامي ونعيش عليه فهل سنكمل؟ والله! ما نكمل.طريق كمالنا أغلقناه، انصرفنا عنه، كيف بشخص عاش أربعين سنة ما سمع هذا الكلام، كيف يتعلم، كيف يكون وفياً طاهراً نقياً يحسن إذا أعطى، ويحسن إذا أخذ؟ مستحيل، فهيا نتعلم، كم ليلة بكينا، هيا بنا نتعلم. وقد تقول: يا شيخ! مدارسنا الآن بالملايين، أصغر بلد فيه الجامعات والمدارس، فأي تعليم تنادي به أنت؟ أقول: أين آثار ذلك العلم؟ أين مظاهره في الآداب والأخلاق، في العدل والرحمة، في الصدق والوفاء في الطهر والصفاء، أين آثار ذلك العلم؟ وجوده كعدمه، لِم؟ لأنه ما أريد به وجه الله، فلن يثمر، أريد به الدنيا، حتى البنت يقال لها: تعلمي يا بنت لمستقبلك! هذه البنت مستقبلها مضمون بإذن الله، ما دامت في حجر أبيها فهو الكفيل، وزوجها هو الكفيل لها، فإن ولدت فأولادها الضامنون، أي مستقبل يا بابا! هل يبعث بها لتتعلم كيف تعبد الله، كيف تستحي، كيف تطيع زوجها، كيف تربي أولادها؟ لا، بل للمستقبل، للوظيفة! وزاحم النساء الرجال في الوظيفة، فلا إله إلا الله، ماذا أصابنا؟ الجهل، فهيا بنا لنزيل هذا الجهل، هل نحتاج إلى مليارات الدولارات؟ لا، والله ولا ريال واحد، كيف الطريق؟اسمعوا: كتبنا هذا وأعلناه وصحنا به وضحكوا علينا وسخروا منا، واستهزءوا بنا، وحسبنا الله، ولن نترك هذا، ما هو الطريق إلى أن يتعلم المسلمون ليكملوا، ويسعدوا يطيبوا ويطهروا، وتتحقق ولاية الله لهم، فينتفي من بينهم الحسد والغل والغش، والكفر والبدع والضلال؟ هل الطريق أن نقتدي باليهود والنصارى؟ الطريق إذا دقت السادسة مساءً، أي: مالت الشمس إلى الغروب؛ نوقف العمل، كاليهود والنصارى، أغلق الدكان، أغلق المقهى، أغلق المطعم، ارم المسحاة من يدك يا فلاح، ارم القلم يا كاتب، ارم المرزبة يا حداد، يا صانع، اغتسلوا، تطهروا، توضئوا، واحملوا بناتكم وأولادكم ونساءكم إلى بيوت ربكم فقط، فما يؤذن للمغرب إلا والقرية ما يوجد فيها رجل ولا امرأة ولا ولد خارج المسجد، والأحياء في المدن، حي بني فلان، الحي الفلاني رقم (6) أو رقم (10) إذا أذن المغرب لا تجد في الحي رجلاً ولا امرأة في الشارع ولا في البيت، كلهم في بيت الرب، فهل هذا شرف أو لا؟ في الرب يصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون كما نحن جالسون، النساء وراء الستارة، ومكبرات الصوت بينهن، والأولاد بيننا، ونحن نتعلم الكتاب والحكمة كتعلمنا هذا، وكل ليلة وطول العام، وعلى مدى حياتنا، فهل يبقى والحال هكذا جاهل أو جاهلة؟ والله! ما يبقى، لا نكتب ولا نقرأ، كما كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، نتلقى الكتاب والحكمة بأسماعنا، ونتفاعل في نفوسنا، ونحوله إلى آيات النور والهداية بيننا، فهل هذا يكلف المسلمين شيئاً؟ وأما عوائده فوالله! فوق ما تتصور، أقسم بالله: إن ميزانية الدولة سيكتفى بنصفها إذا أقبلنا على الله، وينتهي الفقر والخلف والكبر والكذب والغش والخداع، والتكالب على الدنيا، ونصبح أشباه الملائكة في الأرض، تسودنا الرحمة والصفاء والمودة والإخاء والحب والطهر والصفاء، فما المانع أن نفعل هذا؟ لا ندري.اليهود والنصارى ما يقبلون قطعاً، ولو يشاهدون هذه الأنوار فإنهم ما يطيقون، لكن دائماً نمد أعناقنا لهم ليذبحونا، فهل عرفتم كيف يزول الجهل، فهل هناك غير هذه الطريق؟ كلا.

تفسير قوله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ...)

وأخيراً: يقول تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة:274]، أبو بكر فعل هذا، علي فعل هذا، من يفعل منكم هذا لينطبق عليه هذا اللفظ؟ تصدق بعشرة ريال في النهار، وبعشرة ريال في الليل، تصدق بعشرة ريال أمام الناس علانية، وتصدق بعشرة في الخفاء، أربع مرات فقط، أصعب هذا؟ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة:274]، والمقصود: أنهم ينفقون دائماً، ما ينتظرون إلى العام الفلاني والشهر الفلاني وكذا، أو حتى يطلع النهار، أو حتى يجيء الليل، هذه حالهم، صدقة بالليل والنهار سراً وعلانية حسب الحاجة، هؤلاء يقول تعالى عنهم: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]، نفى الخوف عنهم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، ونفى الحزن عنهم كذلك، أهل هذا الإيمان وهذا الطهر هل يحزنون؟ هل كان أبو هريرة حزيناً؟ والله! ما كان حزيناً أبداً، جاء يتألم وقلبه منفتح، وهو ينتظر رحمة الله، هذا وعد الله: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة:274]، على من ينفقونها؟ على الفقراء والمساكين كافرين ومؤمنين، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]، والله! لا يخافون كما يخاف غيرهم، ولا يحزنون كما يحزن غيرهم، لصلتهم بالله، وولايتهم المتأكدة لله، فهم في ذلك دائماً مطمئنون، لا يخافون ولا يحزنون عندما يخاف غيرهم ويحزن.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-25, 07:57 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (37)
الحلقة (44)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (132)

إن أكل الربا سبب للخسارة في الدنيا والآخرة، ومؤذن بحرب الله عز وجل، وقد مثل الله عز وجل آكل الربا بالذي يمسه الشيطان فيظل يتخبط بسبب هذا المس، وهذا هو حال المرابي حين يقوم من قبره، وذلك أنه كان في الدنيا يزعم أن الربا إنما هو نوع من أنواع البيوع المباحة، والتي يجوز للتاجر أن يتحصل منها على ربح معلوم كسائر السلع، وللشر والفساد المترتب على تعاطي الربا فإن الله عز وجل وعد صاحبه بالمحق في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة.

قراءة في قوله تعالى: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الثلاثاء من يوم الإثنين المبارك- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) اللهم حقق لنا هذا المأمول يا رب العالمين.وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، وقبلها نذكر هداية الآيات السابقة.

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: جواز التصدق على الكافر المحتاج بصدقة التطوع لا الزكاة، فإنها حق المؤمنين ]، من أين أخذنا هذه الهداية؟من قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، إذاً: يجوز أن نتصدق على اليهودي والمسيحي والمشرك والبوذي إذا كان فقيراً ونحن أغنياء وهو يعيش بيننا، وهل يجوز أن نعطيهم من الزكاة؟ لا، فهذا خاص بصدقة التطوع، أما الصدقة الواجبة كنذر نذرته للفقراء والمساكين فللمؤمنين، والزكاة، وزكاة الفطر، وإنما الصدقة المطلقة، ومن لامك أو عتب عليك وتعنتر، وقال: هذا يهودي فكيف تعطيه؟ فقل له: إن ربي تعالى قال لنا: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].[ ثانياً: ثواب الصدقة عائد على المتصدق لا على المتصدَّق عليه ]، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [البقرة:272]، فلا تبال إذا أعطيت لغني أو فقير كافر أو مؤمن؛ لأنها عائدة عليك أنت لا عليه هو، وفي هذا تشجيع على الصدقات المطلقة. [ ثالثاً: وجوب الإخلاص في الصدقة، أي: يجب أن يراد بها وجه الله تعالى لا غيره ]؛ لقوله تعالى: وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة:272]، إياك أن تنفق قليلاً أو كثيراً وأنت تريد فلاناً يراك أو يسمع بك، أو تريد فلاناً يشكرك أو يثني عليك، أو لتروج سلعك وبضائعك كما يفعل الجاهلون، لا يقبل الله صدقة إلا إذا أريد بها وجهه هو تملقاً إليه وتزلفاً، تقرباً إليه وتحبباً، إذ لا إله إلا الله. [ رابعاً: تفاضل أجر الصدقة بحسب فضل وحاجة المتصدَّق عليه ]، أجر الصدقة يتفاوت، فكونها على ولي من أولياء الله وعبد من عباد الله الصالحين أفضل منها على صعلوك، هذا الواقع.فمؤمن رباني عفيف لا يسأل، فتعطيه هذه الصدقة، فأجرها أعظم من أجرها على شخص آخر ليس من أهل الفضل، وكذلك حاجة المتصدَّق عليه، هذا من ثلاثة أيام ما أكل شيئاً، وهذا تغدى اليوم وقال: أعطني، فعلى الذي ما أكل من ثلاثة أيام أفضل، الصدقة مقبولة والأجر عظيم، لكن تتفاوت الأجور بحسب الحاجة، وفقيران كافر ومؤمن تصدقت عليهما، أيها أعظم أجراً؟ الصدقة على المؤمن أعظم، هذا يعبد الله وهذا كافر به.[ خامساً: فضيلة التعفف ] وما هو التعفف؟ عفّ: كف، تعفف: طلب ذلك؛ لأن الله قال: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273] ولا إلحاحاً ولا إحفاء، أحفى في الطلب: أكثر، ألحى: كرر، ألحف: يصبح كاللحاف يدور بك، يأتيك من اليمين ويأتيك من الشمال، تلقاه أمامك، وتلتفت فإذا هو وراءك، كاللحاف يدور بالإنسان: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، ولا إلحاحاً.[ سادساً: جواز التصدق بالليل والنهار وفي السر والعلن؛ إذ الكل يثيب الله تعالى عليه ما دام قد أريد به وجهه لا وجه سواه ].وقد علمتم زادكم الله علماً أن هذه فاز بها أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب ، تصدق بأربعمائة ريال في النهار، وتصدق بأربعمائة في الليل، وتصدق بأربعمائة أمام الناس، وتصدق بأربعمائة خفية، ولستم أمام فقراء في حاجة إلى أربعمائة من الواحد، بل ريال في النهار، ريال في الليل، ريال أمام الناس، ريال في الخفاء فتفوز بهذا، ومن طلب وجد.ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، لا يمنعه النهار ولا الليل ولا حضور الناس ولا غيابهم، المهم: أن يتطلب الموقف الصدقة، هذه خلاصة ثلاث آيات شربنا عسلها بالأمس والحمد لله رب العالمين.
تفسير قوله تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ...)

وقفة مع أسباب نشأة البنوك الربوية في العالم الإسلامي
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

والآن مع ثلاث آيات يا ليتهن ما نزلن! هذه الآيات أمامنا تقول: الذي يراه الله أمام بنك يودع فيه ويستلف منه بالربا لأن يموت خير له. ولما هبطنا من علياء السماء بالجهل الذي غمرنا، وصب علينا قروناً حيث حول روح حياتنا إلى الموتى، فلم يحي الموتى ولم نحي نحن، صرفونا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلم نسمع في البيت من يقول: قال رسول الله، ولا في السوق ولا في الشارع، وهبطنا فأصبحنا نسرق، يسرق بعضنا بعضاً، بل يغزو بعضنا بعضاً، قبائل تغزو بعضها، والعداوات والحروب في العالم الإسلامي أسوأ من الجاهلية قبل الإسلام.ومن ثم سلط الله علينا أعداءنا الكفار، فساسونا وشردونا وحكمونا، وفعلوا فينا الأعاجيب، وتركونا أمواتاً غير أحياء، فأصبحت أحوال كثير من المسلمين أيام الاستعمار أحسن منها اليوم، وهذا شأن الميت والمريض.إذاً: في تلك الظروف كان المسلمون يتعاملون بالربا بدون بنوك، بل في بيوتهم، ونعرف عنهم ونسمع، يتعاملون بالربا في بيوتهم، أو دكاكينهم، فمن ثم انقطعت صلة المودة والتعاون بين المؤمنين، أصبحت كل قبيلة لا ترى إلا نفسها، وكل مواطن لا يرى إلا نفسه، وكل ذي مال لا يرى إلا ماله، فلم يبقَ شيء اسمه قرض حسن أبداً، ولا سلفة حسنة، ولا سلم يأتي صاحبه ويؤديه، فلما وصلنا إلى هذا المستوى جاء الله بالبنوك! وقد تقولون: كيف جاء الله بالبنوك؟ ستسألون هذا السؤال، وأنا على علم، قال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، السيئة تلد سيئة، والعقرب تلد عقرباً أو تلد فأرة؟ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، لما انتشر بين المسلمين السرقة والخيانة، والغش والخداع، والكذب والنفاق انتهت الأمانة ورفعت، ما بقي من يسلف ولا من يقرض ولا من يقضي حاجة أخيه إلا نادراً، والنادر موجود، بقية لا تزول في هذه الأمة، لكن إذا غلب جانب الباطل فهو الذي يسود، وعندنا نص قطعي في هذا، فأم المؤمنين زينب رضي الله عنها لما رأت الرسول صلى الله عليه وسلم منفعلاً وهو يقول: ( ويل للعرب من شر قد اقترب، قالت: أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث ).فالمجتمعات الإسلامية ثلثاها هابط، والثلث الأخير فيه خير، لكن لا يشفع، لو كان النصف صالحاً فالسفينة لا تغرق، ولو كان ثلث هابط وثلثان مرتفعان فالسفينة ماشية إلى شاطئ السلامة، لكن إذا كان الثلثان في الأرض فهذا الثلث ما يحفظ ولا يقي أبداً.إذاً: فعوضنا الله بالبنوك، فهششنا إليها، وفرحنا بها، وتنافسنا فيها؛ حتى إن المؤمنين الموحدين الربانيين ينشئون بنوكاً في مدينة الرسول، فلا إله إلا الله! مدينة ما فيها يهودي ولا نصراني، ولا بوذي ولا كافر، أبناؤها ولدوا فيها وتربوا فيها، وصلوا في مسجد رسولهم، ويفتح بنكاً ونأتي نحن مسرعين نساءً ورجالاً أيضاً، وندخر ونتقاضى تلك الفوائد سنوياً، وكأننا ما عرفنا الله ولا رسوله!أبعد هذا تسألونني عن المسلمين في الشرق والغرب، الوضع واحد؟ ما السبب؟ لأن الإخاء مات، التعاون فني، الحب والولاء انقرضا، كل يعيش لنفسه، وجرب: فهيا نفتح باباً للقرض: لو تقرض مليوناً فلن يرجع إليك ثلثاه قط، وإن شئتم حلفت لكم بالله، لو تقرض إخوانك في القرية أو المدينة مليوناً موزعاً على مائة شخص ففيما أظن أنه لن يرجع إليك ثلثه.

العودة إلى المساجد طريق السعادة وسعة الرزق

إذاً: ماذا نصنع؟ كيف نتحرك، ما الحيلة؟أرى الطريق واضحاً، في أربع وعشرين ساعة ونحن أولياء الله، نؤمن ونحقق إيماننا، ونعيد بيان الطريق؛ إذ والله! ما وجدت طريقاً إلا هو، وإلا فكيف أكرره، فمريض بالصداع ما عنده إلا الإسبرين، فماذا تصنع؟ هل تستحي فتبدل الإسبرين؟الطريق للعالم الإسلامي في القرى والمدن، إذا أرادوا أن يكملوا ويسعدوا: هو أن أهل القرية يجتمعون بنسائهم وأطفالهم ورجالهم كل ليلة في بيت ربهم، إذا مالت الشمس إلى الغروب ودقت الساعة السادسة أقبلوا يهرعون، يحملون نساءهم وأطفالهم في شوق إلى بيت ربهم، فيصلون المغرب كما صليناها، ويجلس لهم مربٍ عالم بالكتاب والسنة كجلوسنا هذا، وليلة آية من كتاب الله يتغنون بها حتى يحفظوها، وتفسر لهم وتشرح، ويبين مراد الله منها، فيعلمون ويوطنون النفس على التطبيق والعمل، وليلة أخرى حديثاً وسنة من سنن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم تبين معنى الآية الأولى وتزيد فيه، وتقوي معانيها، فيحفظون الحديث، يفهمون مراد الرسول منه، يعزمون على العمل، ويوماً بعد يوم لا أقول: سنة، بل في أربعين يوماً فقط ما يبقى بينهم من يفكر في الغش والخداع، ولا في السرقة والتلصص والإجرام، وتمضي أيام العام والعامين وينتهي شيء اسمه سرقة، ظلم، اعتداء غش، خداع، كبر، عجب سرف، ترف، تكالب على الشهوات، على الدنيا، كل هذا يمسح حسب سنة الرب تعالى.ومن ثم يفيض المال، فماذا يصنعون به؟ أصبحوا يكتفون بالأكلة وبالثوب الواحد، أصبحوا يكتفون بالقليل، نفوسهم تعلقت بالله، ما أصبحت لها رغبة في الأرض الهابطة ولا في أهلها، فيتوافر المال، ونصبح نبحث عمن يستقرض، والله! ليصبحن يبحثون عمن يقرضون؟لِم هذا المال أنا في صندوقي يبقى هكذا، من يستقرض لأبنائنا فيغرس أو يزرع، أو يصنع أو يتجر أو يربح، وذاك المؤمن الذي يأخذ تلك الأموال يرضى أن يقتل أن يصلب أن يحرق، ولا يرضى أن يخون.هذا هو الطريق، وإلا فقولوا ما شئتم، وقولوا: والبنوك والحكومات، فكل هذا -والله- ما يجدي نفعاً، بل كأننا نضحك على الله، نحن مقبلون على الباطل والشر ونقول: يا ربّ لِم هذا؟والله لا طريق إلى خلاص هذه الأمة إلا من هذا الطريق أن تعلم، فإذا علمت وعرفت ربها أحبته وآثرت ما يحب وخافته، وتركت ما يكرهه؛ لأنها تخافه، ومن ثم فلا كذب، لا خيانة، لا عجب، لا سرف، لا ترف، أمة كأسرة واحدة، وقد تقول: هل لهذا مثال يا شيخ؟ فأقول: نعم، لم تكتحل عين الوجود بأمة أطهر ولا أعدل ولا أرحم ولا أصفى ولا أطهر من تلك الأمة في القرون الثلاثة: الصحابة، وأبناؤهم وأولاد أحفادهم: ( خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )، لم فضلوا وكملوا؟ لأنهم ما صرفوا عن الوحي الإلهي، ما عندهم إلا قال الله وقال رسوله، لا مذهبية ولا عنصرية ولا قبلية، فلما عرف العدو مصدر كمالهم سلبهم القرآن والسنة وأنشأ المذاهب والطرق والخرافات، ومزقهم، ولما ماتوا ركبوا على ظهورهم.

أنواع الربا

والآن هيا مع الآيات الثلاث:يقول تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [البقرة:275] ما هو هذا الربا؟ هل يأكلونه كما يأكلون اللحم والخبز؟ لا، اللفظ بالأكل يطلق ويراد به التعامل، يشتري به سيارة، يشتري به ثوباً، ومنه ربا النسيئة وربا الفضل فالربا نوعان: ربا النسيئة وربا الفضل، فهل تعجز أن أن تقول: النسيئة والفضل؟ وإذا غنيت فإنك تغني بعشرين كلمة! وهذا جربناه، يصلي وراء الإمام خمسين سنة ما يحفظ الفاتحة، خمسين سنة يصلي ما يحفظ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ [قريش:1-2]، و تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد:1]، ويسمع أغنية من عاهرة فيأتي بنفس اللحن والصيغة، وإياكم أن تفهموا أن هذا الشيخ الذي يودعكم في آخر أيامه يكذب في مسجد رسول الله، إياك أن تفهم هذا الفهم. هذه أم الفضل أم عبد الله بن عباس قالت: ( صليت وراء رسول الله فقرأ في صلاة المغرب بـ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا [المرسلات:1] فحفظتها )، ائتني بأذكى الناس اليوم يسمع المرسلات ويعيدها ويحفظها وأعطيك مليار دولار! وكم من شبيبتنا وشاباتنا يتغنون بأغاني العهر والباطل ويحفظونها بنفس الألحان، ولا يحفظ سورة المرسلات ولا العاديات، ما السر؟ إن أم الفضل تعلق قلبها بربها وبكلامه وأحبت أن يغمرها نوره فأصبحت كلها متهيئة فحفظت، والذي غمره حب الزنا والفجور والباطل ما إن يسمع ذاك الصوت حتى يملأ قلبه ويفيض على لسانه وحواسه. فربا النسيئة مثاله: أن يكون لي على فلان خمسون ألف ريال، أجلها الموسم إما الحصاد وإما جذاذ التمر، فيأتي الموسم وما يستطيع الأداء، فيقول: أخرني وزد برضا، هذا ربا النسيئة.

مقارنة بين ربا الجاهلية وربا البنوك

قلت: وغضب الناس فقالوا: كيف يقول: ربا الجاهلية أفضل من ربا البنوك؟! فأقول: والله! لربا الجاهلية أفضل من ربا البنوك، فربا الجاهلية ما هو؟ أن تأتي إلى غني فتقول: أقرضني ألفاً أو ألفين إلى الموسم أو إلى شهرين أو عام، فيقرضك، فإن جاء الموعد وأنت الصدوق وأنت صاحب المروءة والشهامة وما وجدت المال فهل تهرب؟ تأتيه معتذراً وتقول: أخرني سنة أخرى وزد علي برضاك. وأما ربا البنوك فمن أول ساعة تحسب الزيادة، فإن كنت تريد عشرة آلاف قيل: سجل عليه أحد عشر ألفاً وأعطه العشرة عاجلاً، فأيهما أفضل؟ ربا الجاهلية أفضل. وإذا تأخر مرة ثانية زادوا نسبة مئوية، هذا الربا وضع بني عمنا اليهود الحذاق؛ لأنهم يعبدون الدينار، ولا تلوموهم، فهم يريدون أن يسودوا العالم ويحكموا البشرية كلها، فكل ما يبذلون ويحتالون ما هو بشيء كبير، يريدون أن يسودوا العالم بأسره لأنهم شعب الله المختار كما يزعمون، يريدون مملكة سليمان الذي ملك الشرق والغرب، يريدون أن يعتزوا ويسودوا؛ فهم -كما يقولون- أبناء الله وأحباؤه، فيبذلون كل ما يستطيعون بذله فيضعون هذه الحيل، واسألوا المؤرخين من صنع البنوك بأنظمتها؟ اليهود، وإن كانت جنسيته بريطانية، فهو يهودي، والله عز وجل ندد بهم في القرآن أنهم يأكلون الربا؛ في سورة النساء في غير ما آية، والمقصود اليهود.

أمثلة للربا وذكر بعض ما لا يجري فيه الربا
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

فربا النسيئة أن تعطي لأخيك عشرة أو خمسة وحين يتأخر عن الأداء تزيد عليه، وربا الفضل هو أن تبيع ربوياً بآخر بزيادة، تبيع تمراً بتمر فتعطيه عشرة قناطر فيقول: أعطني خمسة عشر مثلاً؛ لأنه تمر برني أو عجوة وأنت تمرك دونه، فلا يجوز ذلك. تعطي هذا مائة ريال سعودي وتقول له: أعطني مائة وعشرة، فما يجوز، وهكذا ربا الفضل في الذهب والفضة والطعام والملح وسائر الربويات، الطعام هو التمر والشعير والبر، فهذه الأطعمة ما يجوز التفاضل فيها، تبيع شعيراً صاعاً بصاع وقنطاراً بقنطار، لا بقنطار وزيادة؟ وفي الريالات ألف ريال بألف ريال، لم ألف وزيادة؟ بأي حجة؟ وإذا اختلفت الأجناس فقد قال: بيعوا كيف شئتم، تبيع قنطار تمر بعشرة من قمح حسب حاجتك وظروف الناس، تبيع -مثلاً- قنطار ملح بقنطارين من قمح، بشرط أن يكون في المجلس الواحد يداً بيد، هذا الشرط لا بد منه. فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم في الزيادة والنقص، لكن لا بد أن يكون في مجلس واحد، هذا ربا الفضل، ولا ربا سوى هذين النوعين: ربا النسيئة وربا الفضل فقط، والحيوان ليس فيه ربا، تبيع بقرة باثنتين لأنهما أقل منها شحماً ولحماً مثلاً. لكن الذهب والفضة والقمح والشعير والملح والتمر وما قيس عليها مثل ما هو مدخر ومطعوم كالذرة مثلاً أو أي حبوب أخرى يجري فيها الربا.

حال أكلة الربا يوم القيامة

قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [البقرة:275] ما لهم؟ قال: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] هل المراد أنهم لا يقومون الآن من بيوتهم؟ أو من على مكاتبهم؟ وإن كان بعض أهل العلم فهم هذا، لكن المراد: لا يقومون من قبورهم؛ لأن الساعة ستأتي وسوف ينفخ الله الأرواح في أبدان خلقها وهيأها، تقوم البشرية ويقوم أصحاب الربا وبطونهم كالخيام، فانظر إلى هذا المرابي صاحب هذا البنك، ثم إنه يقوم ويقع، يمشي خطوتين ويصرع إلى أن ينتهي الموقف وهو في هذا البلاء. لا يَقُومُونَ [البقرة:275] أي: من قبورهم إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] يقال: فلان به مس جنون، أما تعرفون الصرع؟ وهذا واضح للعرب بالذات، كانوا يشاهدونه، هذه محنة الصرع يصاب بها بسبب الجني يمسه في تيارات دمه فيصرع، هذه حال آكلي الربا إذا لم يتوبوا وماتوا وهم على ذلك. الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [البقرة:275] ما لهم يا رب؟ لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275].

معنى قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا)

ما سبب أكلهم الربا يا رب؟ قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] ما الفرق بينهما؟ الآن يقولونها، يقولون: هو كالتجارة، تشري القنطار بعشرين ريالاً وممكن أن يباع بأربعين! هذه الكلمة قالها أهل الجهل، قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] تشتري بعيراً بألف وتبيعه بألفين بحسب الأسواق، وتشتري قنطار القمح بعشرة ريالات وتبيعه بعشرين حيث السوق كذلك، قالوا: والربا مثل ذلك.

معنى قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله)

فأبطل الله دعواهم وقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] البيع أذن الله فيه وأحله، وأما الربا فما زال محظوراً حراماً، لأن الربا يمنع التعاون والإخاء والمودة والرحمة والصدق، كل هذه انتهت مع الربا، فلهذا حرمه الله عز وجل لأنه أذية مؤمن وأكل ماله بدون حق وبدون عوض إلا بالتأخير فقط. ثم قال تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى [البقرة:275] أيها المستمعون والمستمعات! هل جاءتكم موعظة من ربكم؟ أمر ونهي إلهي، فمن تاب الليلة فكل ما أخذه وأكله حلال، يأكل ويتصدق، لأنه تاب، فمن جاءه موعظة وفتوى فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275]، كله، ولا أقول: أرجعه للناس وابحث عنهم، بل يكفيك التوبة. وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة:275] إلى من أمره؟ إلى الله، إن شاء آخذ وإن شاء عفا، والظاهر أنه يعفو ويغفر، وإنما يبقى الباب مفتوحاً لترتعد النفس وتضطرب، فما يطمئن ويضحك، يجب أن يتوب بالبكاء والدموع والاستغفار وفعل الخيرات.

معنى قوله تعالى: (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)

وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ [البقرة:275] البعداء أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]، هل هذا كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟ أو كلام الصوفية الخرافة؟ هذا كلام الله عز وجل، فمن يعقب؟ وَمَنْ عَادَ [البقرة:275] ورجع بعد أن تاب فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]، فلهذا لن تجد عبداً عرف الله تعالى وبكى واطرح بين يدي الله وترك الربا ثم يعود، لن يعود، قلما يعود، ومن عاد فباب السجن مفتوح: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275] . هل هذا الكلام ما يفهمه المسلمون؟ لو قرءوه وتدارسوه أما يفهمونه؟ سيفهمون، لو فهموه فهل سيعملون بالربا؟ والله! لا يفعلون، لكن الجهل والظلمة، فالماشي في الظلام يتخبط وما يسلم أبداً من العثور والهلاك. فهيا نعود إلى دراسة كتاب الله؟ وقد تقول: هذا موجود في الجامعات والمدارس يا شيخ! وأقول: لا، نريد أن نصدق ربنا في إيماننا به وبلقائه ونعمر بيوته بنسائنا وأطفالنا كل ليلة وطول العمر، والنصارى إذا دقت الساعة السادسة ذهبوا إلى المقاهي إلى المراقص إلى المقاصف إلى دور اللهو إلى العهر، ونحن إلى أين نذهب؟ نذهب لبيوت الرب لتلقي الكتاب والحكمة لتزكية نفوسنا وتهذيب أخلاقنا وسمو آدابنا، والعدو يذهب إلى العهر والباطل والشر والفساد، أنى لهذا العدو أن يعلو فوقنا أو ينال من كرامتنا؟ والله! ما كان، لا تفهموا أن هذه العودة أن نبقى هكذا وهكذا، والله! لنسودن البشرية كلها وبلا شيء، وإنما بالعودة إلى بيوت الرب، فتستقيم العقائد والآداب والأخلاق ونرتفع، وحينئذ إذا قلنا: الله أكبر رددها العالم الإسلامي. لا شك أن هذا الدرس ممكن أن يصل إلى اليهود والقسس فيحتفلوا ويهتموا، أما نحن فلا، يدخل الكلام من هنا ويخرج من هنا، فذلك غير مهم؛ لأن لهم أملاً أن يعملوا أم لا؟ وهل نحن لا أمل لنا! آيسون؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.هيا نعيد هذه الآية العظيمة أطول الآيتين، يقول تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275] .

تفسير قوله تعالى: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم)

وفي الآية الثانية قال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276] يسحقه ويمحوه، لا بركة فيه أبداً، وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276]، الصدقات يربيها وينميها ويرفعها حتى تغدو كالجبال، هذا وعد ممن؟ من الله تعالى القادر على أن يعطي، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276] لا يبارك فيه أبداً: أولاً: أي بركة في مال تدخل به النار؟ أية بركة هذه؟ مال لا يطيب نفسك ولا يزكي روحك ولا تشعر معه بقلة الحياة فهذا مال مسحوق. والصدقة ينميها الله كما أخبر رسول الله عز وجل؛ إذا تصدق المتصدق بصدقة وقعت في كف الرحمن عز وجل فيربيها له كما يربي أحدنا مهره ابن فرسه، وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276] والختام وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276] كفار: جحود للنعم يجحد الله وشرعه وقوانينه وما دعا إليه وما أمر به ويتنكر له. وأثيم: مغموس في الآثام من إثم إلى آخر من زلة إلى زلة، خبث وتعفن ونتن، فالله ما يحبه وأنت تحبه؟ هل فيكم من يحب كل كفار أثيم؟ أعوذ بالله! يحبه من هو مثله في الخبث.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ...)

وأخيراً: الطابع الأخير لكم أيها المؤمنون ويا أيتها المؤمنات: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:277] ، فالحمد لله، الحمد لله، اللهم اجعلنا منهم، الحمد لله. أعيد هذا البيان؟ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:277] هؤلاء أولياء الله، ما هم أعداءه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-27, 01:48 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (38)
الحلقة (45)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (133)

إن حرب الله عز وجل على الربا لا تقتصر على الكافرين وحدهم، وإنما يدخل في ذلك أهل الإسلام، فالحرب على كل مرابٍ، وقد وجه الله عباده المؤمنين إلى تقواه عز وجل وترك ما بقي لهم من أموال عند الآخرين ناتجة عن الربا، ويكتفون برءوس أموالهم، فلا يأخذون شيئاً زائداً عليها، ولا يتركون شيئاً منها لغيرهم، وحضهم تعالى على إنظار المعسر من المدينين، وأفضل من ذلك التصدق عليه بهذا الدين، والله عز وجل يجزي المتصدقين.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذي آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن يتحقق لنا ذلكم الموعود الذي أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.وقد انتهى بنا الدرس ونحن ندرس سورة البقرة مواصلين دراسة كتاب الله حتى ننتهي بإذن الله، وها نحن مع هذه الآيات الأربع: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:278-281].

أهلية المؤمنين لنداء الله تعالى لهم

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا نداء الله عز وجل موجه إلينا بوصفنا مؤمنين، وكوننا مؤمنين هذا يؤهلنا لأن ينادينا ربنا تعالى؛ لأن المؤمنين أحياء يسمعون ويعون ويقدرون على أن يمتثلوا الأمر والنهي؛ وذلك لحياتهم بإيمانهم، أما الكافرون فلا ينادون بمثل هذا النداء ليأمرهم أو ينهاهم؛ لأنهم أموات غير أحياء وما يشعرون. فهذه نعمة من نعم الله فالحمد لله عليها وعلى غيرها من نعمه التي لا نحصيها؛ لأننا مؤمنون، أي: مصدقون به عز وجل وبربوبيته وألوهيته وأنه رب كل شيء ومليكه، مؤمنون بكتابه الذي نتلو آيه ونتدارسها ونعلم مراده تعالى منها رجاء أن نمتثل الأمر ونجتنب النهي لنكمل ونسعد، وآمنا برسوله وبكافة رسله، آمنا بلقائه والوقوف بين يديه للاستنطاق والاستجواب ثم الجزاء إما بالنعيم المقيم وإما بالعذاب الأليم. يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:278] لبيك اللهم لبيك، مر نفعل، انه نترك، أعلم نتعلم، بشر نستبشر، حذر نحذر؛ لأننا عبيدك وأنت سيدنا فلا تنادينا إلا لصالحنا.

مقاصد النداءات القرآنية

وبالتتبع والاستقراء لآي كتاب الله وجدنا في القرآن الكريم تسعين نداء، ودرسناها بمنه وفضله هنا ثلاثة أشهر، كل يوم ندرس نداء، فوجدناها تدور على تحقيق ما يلي: أولاً: على أمره لنا باعتقاد أو بفعل أو بقول ما من شأنه إعدادنا للسعادة والكمال، أو لينهانا عما من شأنه أن يخسرنا ويضيعنا ويكسبنا الشقاء والخسران، أو ينادينا ليبشرنا لتنشرح صدورنا وتطمئن نفوسنا ونقبل في سرعة على الصالحات وتنافس في الخيرات، أو ينادينا لينذرنا من الأخطار والعواقب السيئة والمدمرات والهلاك في الدنيا وفي الآخرة، أو ينادينا ليعلمنا ما نحن في أمس الحاجة إلى علمه ومعرفته. هذه النداءات الإلهية التسعون نداء، وقد يسر الله طبعها مرات ووزعت، والله أسأل أن يحيي بها موات قلوب إخواننا. أيناديك ربك ولا تصغي ولا تسمع؟! إنه قد يناديك أبوك أو ابنك أما تسمع له؟ فكيف يناديك خالقك مالكك سيدك، من بيده حياتك وموتك وإليه مصيرك وأنت تعلم، لا يناديك للهو ولا للباطل ولا لإضاعة الوقت ولا لإرهاقك وإشقائك، والله! لا ينادينا إلا ليكملنا ويسعدنا. إذاً: هيا ندرس هذه الآيات، وهي مختومة بآخر آية نزلت من السماء، آخر آية نزلت من الله عز وجل هذه الآية: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، أول آية نزلت: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] وآخر آية نزلت من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية هذه الآية: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281] .

كيفية امتثال الأمر بتقوى الله تعالى
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:278] نادانا ليأمرنا بتقواه إذ قال: اتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:278]، كيف نتقيك يا رب وبماذا نتقيك؟ هل بالأسوار والحصون، بالجيوش الجرارة، بالسراديب تحت الأرض؟ بم نتقي الله ونحن بين يديه وفي قبضته؟ يقول لنا العالمون: اتقوه فقط بالإيمان به وطاعته وطاعة رسوله وأنتم مؤمنون، لا يتقى الله بشيء سوى هذا، لا تعصه، لا تخرج عن طاعته، فإن كنت كذلك فأنت آمن فلا تخف؛ إذ لا يغضب ولا يسخط إلا على من عصاه وتمرد عليه وخرج عن طاعته وفسق عن أمره وهو عبده مملوك له يغذوه ويسقيه ويكسوه، يحفظه من شياطين الجن لو تركه لاختطفوه، ثم لا يسمع نداءه ولا يمتثل أمره ولا يجتنب نهيه، فما لهذا المخلوق، ما لهذا الإنسان؟ إذاً: عرفنا بم نتقي ربنا، أي: بم نتقي عذابه وبلاءه وسخطه وغضبه وناره وجحيمه، نتقيه بطاعته وطاعة رسوله، لا تستمر على المعصية ولا تداوم عليها، وإن زلت قدمك وسقطت فعد إليه طالباً العفو والصفح وهو كريم حليم، يكفيك أن ترفع صوتك: غفرانك ربي وإليك المصير، أستغفر الله .. أستغفر الله .. أستغفر الله، وأنت تبكي، فيعفو ويصفح ويتجاوز ويغفر؛ لأنه حليم عظيم.أما أن تستديم معصيته غير مبال بقدرته عليك ولا بنعمه التي أغدقها عليك، فتكفرها وتجحدها وتواصل التمرد عليه، يقول: قف فتمشي، يقول: نم فتستيقظ، يقول: كل فلا تأكل؛ فأين يذهب بك يا عبد الله؟ تريد أن تتمزق وتتلاشى؟ وذلكم هو الخسران المبين: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، إن أحدهم يلقى في عالم لا يلتقي فيه بأب ولا أم ولا أخ ولا صديق ولا قريب ولا بعيد لمليارات السنين، وأفظع من هذا أن الرجل الكافر قد يوضع في صندوق من حديد ويغلق عليه ويرمى في ذلك العالم فلا يأكل ولا يشرب ولا يتكلم ولا يبصر وهو في الجحيم مليارات السنين؛ إذ الحياة هناك غير قابلة للفناء، الحياة الدنيا -بحسب سنة الله فيها- قابلة للفناء، لا يبقى شيء إلا ويتلاشى ويتمزق، وها أنت تشاهد طفلك يشب ويكبر ثم يموت، وأما الحياة الآخرة فالذي أوجد هذه أوجدها غير قابلة للفناء، فأهل دار السلام لا يكبرون لا يهرمون لا يمرضون لا يشيخون لا يموتون لا ينامون، غير قابلة لهذه الظواهر في الحياة الدنيا الزائلة الفانية.

حاجة العباد إلى العلم بشرع الله لتحقيق التقوى

إذاً: والسؤال المكرر لعله ينفع الله به: هل الذي لا يعرف أوامر الله ونواهيه وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ونواهيه يستطيع أن يتقي الله؟ والله! ما يستطيع، إذاً: فمن الضروريات أن يعرف عبد الله وأمة الله ما أمر الله ورسوله به من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات، وأن يعرف أيضاً ما حرم الله وكرهه من المعتقدات والأقوال والأفعال والصفات والذوات. وهنا وقفنا عند الباب، فهيا ندخل، وهو مغلق فلا بد من العلم، نحن مأمورون بأن نتقي ربنا حتى لا نخسر حياتنا وحتى لا نلقى في عالم الشقاء أبد الآبدين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] في أي شيء نطيع؟ لا بد من معرفة ما نطيع الله ورسوله فيه، أي: معرفة الواجبات ومعرفة المنهيات في هذين المجالين من الاعتقاد والقول والفعل والصفات. وإذا ما وجدنا من يعلمنا فلنذهب نشرق ونغرب ونسأل عن الذي يعرف محاب الله ومكارهه، فإن قالوا: إن رجلاً يقال له: فلان يوجد في جبال التبت من القارة الهندية هذا الذي يعرف ما يحب الله وما يكره؛ فوالله! لو آمنا حق الإيمان لمشينا حتى نجلس بين يديه ليعلمنا ما يحب ربنا لنأتيه وليعلمنا ما يكره ربنا لنذره ونتركه، فلم لا يتعلم المؤمنون؟ سأشرح لكم: إن مظاهر الضعف والعجز، بل مظاهر الخبث والظلم والشر والفساد كلها نتيجة الجهل بالله وبمحابه ومكارهه، من عرف الله خافه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، ومن خاف الله عمل على ألا يخرج عن طاعته ولا يفسق عن أمره؛ لأنه علم أن حياته ومصيره بيد ربه، فكيف يجرؤ على أن يتمرد عليه ويخرج عن أمره؟ ونعيد القول: لم لا نتعلم في بيوت ربنا؟ اليهود والنصارى والمشركون والكافرون إذا انتهى العمل الدنيوي ودقت الساعة السادسة مساءً أوقفوا العمل كما هو مشاهد في أوروبا وأمريكا واليابان والصين، ونظفوا أنفسهم ولبسوا أحسن ملابسهم وذهبوا إلى دور الباطل من المراقص والمقاصف والسينما والملاهي والأباطيل ينفسون عن أنفسهم يروحون عنها من آثار البلاء النفسي؛ لأنهم كالبهائم لا هم لهم إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح واللهو والباطل، آيسون من رحمة الله جاهلون بالله والدار الآخرة، يذهبون للترويح على أنفسهم، ومصيرهم معلوم هو جهنم خالدين فيها أبداً. ولتعرف صورة توضيحية لجهنم اخرج في الساعة الثانية عشرة ظهراً وارفع رأسك وانظر إلى الشمس، هذه الشمس أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، وكلها لهب وسعير، ولا شجر فيها ولا حطب، نار ملتهبة، لو اجتمعت البشرية كلها خمسين مرة ما سدت زاوية من زوايا الشمس، وتسألني عن النار؟ فإذا كشطت هذه السماوات وأبعدت فالعالم الآخر الذي لا نهاية له. وإن ارتبت فأغمض عينيك وضع رأسك بين ركبتيك وفكر وتصور نفسك وأنت هابط إلى الأسفل، فإلى أين ستنتهي؟ إذاً: قولوا آمنا بالله .. آمنا بالله .. آمنا بالله. فنحن الربانيون أولياء الله أهل الطريق والصراط المستقيم، إذا مالت الشمس إلى الغروب ودقت الساعة السادسة لم لا نتوضأ في بيوتنا ونلبس أحسن ثيابنا ونأتي بنسائنا وأطفالنا إلى بيوت ربنا، فنجلس الساعة والساعتين نتلقى الكتاب والحكمة، نزكي أنفسنا بهذه الأنوار الإلهية، سنعود شباعا إلى بيوتنا لا رغبة لنا في وافر الطعام والشراب، ولا هم لنا إلا أن يرضى ربنا عنا، لم ما عملنا هذا؟ أهل القرية في الجبل في السهل في الوادي حيثما كانوا أليسوا مؤمنين؟ ويزعمون أنهم المسلمون! فلم يعيشون على الجهل فيستبيحون الغش والخداع والغيبة والنميمة والشح والبخل والسب والشتم في أمراض لا يرضاها الله لأوليائه؟ لأنهم ما عرفوا -والله- وما علموا، ما طلبوا العلم حتى يعلموا، ما صدقوا حتى يصدقوا، هذه حال أمتنا، وقد شاهدنا ما فعل الله بنا في الشرق والغرب، وما زلنا في سكرتنا ما أفقنا، ما زالت السكرة هي هي، والجهل مطبق وآثار الجهل مشاهدة، كل ظلم كل خبث كل شر كل فساد مرده إلى الجهلبالله وبمحابه ومساخطه، فكيف نتقيك يا ربنا ونحن لا نعرف الكلمة التي إذا قلناها ترضى بها، أو تسخط ولا ترضى؟ فلا بد أن نتعلم، وما نحتاج للمدارس والأقلام والأوراق، هذا العلم الضروري فقط نتلقاه من فم المربي من وجهه إلى وجوهنا ونعزم على العمل في ساعته، فلا نزال نتلقى الحكمة يوماً بعد يوم حتى ما يبقى في قريتنا رجل ولا امرأة لا يعرف الله ولا ما يحب ولا ما يكره.

أمر المؤمنين بترك الربا بعد بيان حكمه وحال آكليه

ونعود إلى الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278] هذا أولاً، وقد بين لنا قبل إذ قال متوعداً: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] يقومون من قبورهم ساعة الانتشار والخروج من الأرض حالهم كالمصاب بالصرع كلما وقف وقع، كلما أفاق هلك؛ لأنهم قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] وهم المتمسكون بالباطل أيام نزول الآيات، فقال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275] وإن ملك مليارات، وأمره إلى الله، ومن عاد بعد التوبة فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:275-277]. بعد هذه البيانات الإلهية نادانا مرة أخرى، فماذا قال؟ يا من علمتم وآمنتم! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا [البقرة:278] اتركوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]، من بقي له شيء فليتركه إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278] أما غير المؤمن فليس هذا من شأنه، ما يقدر، فإن كنتم حقاً مؤمنين فاتركوا ما بقي من الربا عندكم وتخلوا عنه.

تفسير قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ...)

إذاً: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:279] فتكبرتم وترفعتم وأبيتم أن تذعنوا لنا وتسلموا وجوهكم وقلوبكم، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ [البقرة:279] اعلموا أن الحرب دارت بيننا وبينكم، والذي يحارب هل الله ينتصر؟ أمعقول هذا الكلام؟اعلموا أن الحرب قد دارت رحاها بين الرب تبارك وتعالى وبين العصاة المرابين من عباده، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] وكلمة (ورسوله) تعني الرسول ومن ينوب منابه من الأئمة والحكام، إذا رأوا من يستحل الربا يستتيبونه ثلاثة أيام، فإن لم يتب قتلوه نيابة عن رسول الله، من عرفوا أنه يتعاطى الربا يستتيبونه بالضرب حتى يتوب، أما إذا استحله فقد ارتد وكفر، مستحل الربا كافر، والذي يقول: إنه حرام ويفعله فهو عاص فاسق يستتاب ويرد، أما الذي ينكر شرع الله فهو مرتد.

معنى قوله تعالى: (وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)

قال تعالى: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]. مثال ذلك: أنا رابيت خمسين رجلاً في قريتنا، لي على كل واحد عشرون ألفاً، منها خمسة عشر حق مالي هي رأس مالي وخمسة آلاف ربا، فماذا نصنع؟ قال لي ربي عز وجل: خذ رأس مالك واترك الباقي، فتقول: يا جماعة! ردوا علي خمسة عشر فقط، والخمسة الآلاف التي كانت فوائد ربوية لا آخذها، تركتها لله، بذلك أمرني ربي، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] لا تظلمون بأن تزيدوا ريالاً واحداً لا حق لكم فيه، ولا ينقص من رأس مالكم ريال واحد أيضاً، تسترده كما هو، لا تظلمون من داينتموهم بالربا ولا يظلمونكم هم فيأخذون من رأس مالكم ريالاً واحد.
تفسير قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون)
ثم قال تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280].وإن فرضنا أنه كان ذو عسرة استدان منك وفي ذمته عشرون ألفاً، ثم ما استطاع أن يسدد شيئاً، لا يملك ديناراً ولا درهماً، فماذا نصنع مع هذا الرجل وقد تبنا؟ قال الملك الحق جل جلاله: فَنَظِرَةٌ [البقرة:280]، من أنظره ينظره: إذا أمهله، فمتى يسر الله عليه أعطاه، فنظرة إلى متى؟ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]. والميسرة: اسم من اليسر، أي: حتى ييسر الله عليه بعد عام أو عامين أو بعدما يحصد، فإذا يسر الله عليه أعاد لك رأس مالك فقط ولا تأخذ درهماً واحداً زائداً على رأس مالك. ثم جاء الكرم الإلهي وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280]، وأن تتصدقوا بذلك المال الذي عند معسر ذي عائلة وما يستطيع أن يجمع هذا المال، فقلت له: تركته لله، فبات منشرح الصدر يعبد الله ويشكره ويدعو لك بالخير وزوجته وأولاده فيحصل لك خير عظيم، وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280] . فهذه التوجيهات توجيهات ممن؟ من الله، فكيف يكفرون بالله؟ من أين يأتي هذا الكلام وهذه العلوم والمعارف، ثم يقولون: لا إله والحياة مادة! ألا لعنة الله عليهم. ولقد استجاب الله لنا فتحطمت الشيوعية البلشفية الحمراء وانتهت، لا عودة ولا رجعة، ومع هذا ما زال الهالكون بين المسلمين يسبحون بحمدها ويقدسون، أين الشيوعية؟ حفنة من الشيشان دمروا روسيا هذه الأيام، أذاقوها المر، فصفقت الدنيا. يقولون: لا إله؟! مجانين، أنت من أوجدك؟ كيف تقول: لا إله؟ أمجنون أنت؟ الذي يقف بيننا نقول له: أنت مخلوق، فإن قال: لا، أنا غير مخلوق، قلنا: أخرجوه، فهذا مجنون! وإن قال: أنا مخلوق؛ قلنا: من خلقك؟ هل جبال الألب أو البحر الأسود تتفنن في وجودك هكذا وفي سمعك وبصرك وعقلك ولسانك ومنطقك؟هذا الخالق لا بد أن يكون ذا علم وقدرة لا يعجزها شيء، فقل: آمنت بالله خير لك.

تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وأخيراً جاء الطبع والختم: وَاتَّقُوا يَوْمًا [البقرة:281] عظيماً يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] يقال: فلان مات، رجع إلى ربه، أول خطوة هي القبر، وتتم محنة فيه من أعجب المحن وفتنة لا تقابل بفتنة أبداً، ثم يلي المشكلة إما نزول إلى أسفل سافلين وإما علو إلى عليين، وتبقى النفس مرهونة فقط إلى أن تنتهي هذه الدورة، وهي أوشكت على نهايتها، شاخت الدنيا وشابت، وحينئذ يقع الزلزال العام وتتحلل الكائنات كلها وتعود سديماً وبخاراً كما كانت، ثم يعيد الله عز وجل الحياة لتخلد وتبقى، امتحن الكون وأهله فترة من الزمان ثم استقر في ملكوته، أهل الجنة في جواره يكشف الحجاب عن وجهه الكريم ويسلم عليهم فيسعدون سعادة لا يعرفون الشقاء بعدها أبداً: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:55-58]. ‏

وقفة مع نعيم أهل الجنة

وهنا نعيد هذا البيان من سورة يس الذي تقرءونه على الموتى وتحرمون الأحياء منه، مضت أربعمائة سنة أو ستمائة سنة والمسلمون لا يقرءون القرآن إلا على الموتى، هل الميت ينهض ويقوم ليغتسل من جنابة ويصلي ويعترف بحقوق الناس ويردها؟ أما الأحياء فلا يقرءون عليهم القرآن أبداً، يقرءونه على الموتى. إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55] ما هذا الشغل؟ هل يبنون يحرثون يخيطون الثياب يطبخون الطعام؟ ما هذا الشغل؟ قال العلماء: إنه افتضاض الأبكار، الله أكبر، بشراكم أيها الفحول! إنه افتضاض الأبكار، والبكر هي التي ما تزوجت. إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:55-58] قول لا بالكتابة أو بواسطة الملك، مباشرة يكشف الحجاب عن وجهه الكريم ويسلم عليهم فتغمرهم فرحة وسعادة لم يعرفوا لها معنى أبداً قبل ذلك.

استحقاق الجنة بزكاة الأنفس وطهارة الأرواح

فمن هؤلاء؟ هل هم البيض؟ هل هم بنو هاشم؟ من هؤلاء؟ أصحاب النفوس الزكية والأرواح الطيبة الطاهرة، والله العظيم! لهؤلاء هم أهل هذا النعيم؛ لأن الله عز وجل أصدر حكمه وأعلمنا أنه إذا أصدر حكماً لا يعقب على حكمه ولا استثناء ولا مراجعة أبداً؛ لعظيم علمه وحكمته وإرادته. اسمع هذا الحكم الصادر عليك وأنت غافل، يقول تعالى بعد أيمان مغلظة: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8] كم قسماً هنا؟ أحد عشر قسماً من أجل هذا الحكم الصادر على البشرية العمياء التائهة في متاهات الحياة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] فمن يعقب على الله؟ قد أفلح من زكى نفسه وقد خاب من دسى نفسه. أفلح بماذا؟ هل في تجارته؟ في مصنعه الجديد؟ الفلاح حقيقته أن تبعد عن عالم الشقاء وتدخل دار السلام والنعيم المقيم أبداً، وبينه تعالى بنفسه ما تركه للناس؛ إذ قال -وقوله الحق- من سورة آل عمران: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].

مواد زكاة النفس وتطهير الروح

قد تقول: يا شيخ! ما هي المواد التي نزكي بها أنفسنا يرحمك الله؟ هل الصابون (تايت)، أم العطور (الكلونيا)؟ هل هذه تزكي النفس؟ هل الأغاني وأصوات العواهر والماجنين تزكي النفس؟ بم نزكي أنفسنا؟ دلونا يرحمكم الله، ما هي المواد التي تزكي النفس؟ الجواب: النفس تزكى بما وضع لها من أقوال وأعمال واعتقادات، هذا الذي قلنا: إنه به يتقى الله، كلمة لا إله إلا الله هذه أكثر من طن من الصابون لتغسل بها جسمك، إذا قلتها مؤمناً موقناً تحولها إلى كتلة من النور، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، تحولها إلى أطيب من الطيب وأطهر من الطهر، كما أن كلمة الكفر تحيلها إلى مزبلة منتنة لا تطاق روائحها. فالعليم الحكيم شرع من العبادات بالأقوال والأفعال ما شرع لتزكية النفس وتطهيرها، وما حرمه من ذلك فلأنه يدسي النفس ويخبثها ويعفنها، فبفعل الإيمان والعمل الصالح تزكو النفس البشرية، وعلى الشرك والفسق والفجور تدسى وتخبث النفس البشرية. هذه هي الحقيقة، فهل عرفها المسلمون؟ ما عرفوها، ما يسمعون بهذا الكلام أبداً، لو سمعوا هذا لما كان يقتل بعضهم بعضاً، ولما كان يزني بعضهم بنساء بعض، ولما كان يسرق بعضهم أموال البعض، ولما تكبر بعضهم على بعض، وقل ما شئت؛ فكل الأمراض والأسقام والعلل هي ثمرة الجهل بالله وبمحابه ومساخطه، وكلمة واحدة تبين لك الطريق: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. في قريتك ذات الألف ساكن اعلم وفتش فستجد أن أعلمهم بالله أتقاهم له، أقلهم جريمة وكذباً وسرقة، فهيا نتعلم. فإن قيل: ما نستطيع، قلت: أما نستطيع أن نجمع نساءنا وأطفالنا في بيت ربنا؟ في الحي الذي نسكن فيه أو في القرية؟ ونتعلم الكتاب والحكمة؟ لم ما نستطيع؟نعم في أوقات معينة عند إثارة الفتن الحكومات توقف هذا التيار، لكن سينتهي، وكان غير موجود قروناً وأبينا أن نتعلم.فهيا نتلو الآية مرة أخيرة نسمع هذا البيان الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278] إن بقي عندكم، والحمد لله فليس عندنا، ما انغمسنا فيه ولا هو عندنا، لكن إن كان واحد منا فربنا تعالى يقول: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:278-279] وأصررتم وتكبرتم فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:279-280].وأخيراً: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]. فالطريق يا أبناء الإسلام للنجاة أن نعود إلى كتاب الله وسنة رسول الله، نغتنم أوقات الفراغ، لا نوقف مصنعاً ولا مزرعة ولا متجراً، فقط من المغرب إلى العشاء في صدق نتعلم الكتاب والحكمة على هذا المنظر الذي تنظرون إليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-28, 06:26 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (39)
الحلقة (46)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (134)


حرم الله عز وجل الربا وأحل لعباده عوضاً عن ذلك البيع، ومن أنواع البيع التي أحلها بيع السّلم، وقد بين عز وجل لعباده أنه يلزمهم عند التبايع بهذا النوع وغيره كتابة تفاصيل العقد، مع بيان وقت تسليم قيمة المبيع ومقداره، وما يلزم كاتب هذا العقد من العدل وعدم الحيف، وعدم تقديم مصلحة طرف من الأطراف على الآخر، ومع كتابة عقد الاتفاق يلزم أيضاً وجود شاهدين عدلين يشهدان على ما فيه، وهذا التوجيه يلزم كل كبير وصغير، ويلزم الجميع تطبيقه والعمل بتعاليمه، وهو أمر الله عز وجل لعباده المتقين.

تفسير آية الدين

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. وها نحن قد انتهى بنا الدرس من سورة البقرة إلى أطول آية في كتاب الله، أطول آية في كتاب الله هي آية الدين، أو آية كتابة السَّلَم، فهيا نتلوها أولاً تبركاً بها وتقرباً إلى منزلها، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282].لو يجتمع البشر كلهم من ذوي العقول والأفكار وخريجي علم الاجتماع والسياسة فوالله! ما استطاعوا أن يأتوا بمثل هذه الآية، ولا تمكنوا حتى من مشابهتها، هذه الآية نزلت على رجل أمي لا يعرف الألف ولا الباء، لا يكتب ولا يقرأ، ما جلس بين يدي مرب قط، كيف يأتي بهذه العلوم والمعارف؟ والله لن يكون إلا رسول الله.

ظهور فضيلة الإيمان بنداء المؤمنين

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:282] هذا نداء، فمن المنادي؟ الله جل جلاله، ومن المنادون؟ نحن المؤمنين، فالحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله أن رب السماوات والأرض رب العالمين ينادينا، الحمد لله، أما تفرحون بهذا؟ هل يدخل في هذا النداء مجوسي كافر أو يهودي أو صليبي مشرك؟ لا والله، ما هم بأهل لأن يناديهم الرحمن عز وجل. هذه هي فضيلة الإيمان، ولعلكم ما نسيتم أن الإيمان بمثابة الروح للحياة، فالمؤمن حي والكافر ميت، والبرهنة القاطعة أننا لا نكلف يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً تحت رايتنا بأن يصوم رمضان أبداً، ولا نكلفه بصلاة ولا زكاة،لم؟ لأنه ميت، وهل الميت يكلف؟ هل يفعل إذا كلم؟ لا. فإذا نفخنا فيه الروح بإذن الله وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله؛ صار حياً، فقل له: اغتسل وتقدم إلى بيت الرب لتناجيه وتعبده؛ فإنه سيفعل، أما وهو ميت فهل نكلف الموتى؟

معنى قوله تعالى: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه)

نادانا ربنا تعالى ليقول لنا: إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ [البقرة:282] أي داين بعضكم بعضاً، وكلمة (بدين) لطيفة هنا، تداينتم من المداينة، حتى المضاربة. قال تعالى: إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة:282] يقول الحبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية نزلت في بيع السلم. وهو كذلك إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن هذا كتاب للبشرية إلى يوم القيامة، ما هو كتاب حادثة وانتهت. وما هو بيع السلم أو السلف؟ كان أهل المدينة النبوية التي كانت تسمى في الجاهلية بيثرب ذات السبخة والنخيل، كانوا يسلفون ويسلمون، مثلاً: أنا عندي بستان في قباء واحتجت إلى نقد من دراهم أو دنانير، فآتي إليك وأقول لك: أبيعك خمسين قنطاراً من العجوة أو البرني أو الصفاوي؛ إذ لا بد من تحديد العين، فتدفع لي القيمة على أساس أن القنطار بمائة دينار، وإذا جاء وقت الجذاذ أقدم لك الخمسين قنطار كما اتفقنا، هذه المعاملة فيها نوع من الغرر، قد يموت البائع أو المشتري ويحصل التباس، قد لا توجد هذه السلعة، قد يفسد الثمر وهو على رءوس النخل، ولكن لرحمة الله عز وجل بالمؤمنين وببركة نبيهم الجليل بينهم أذن الله لهم في هذا؛ لعلم الله تعالى بضعفهم وحاجتهم، فأذن لهم في بيع السلم. فالحصاد ما زال بعد ستة أشهر وتقول: أي فلان! أبيعك خمسين قنطاراً من البر أو القمح أقدمها لك بعد ستة أشهر في منزلك أو في دكانك، يقول: بكم؟ فيتفقان في السعر قطعاً، إذا كان السعر يساوي الآن عشرين فسوف يرفعه، فقد يطرأ عليه طارئ فيصبح أغلى من هذا، فيحتاط لنفسه ويقول: بعناك بخمسة وعشرين مثلاً. ويأخذ النقود فيشتري بها أبقاراً أو يسافر بها أو يبني أو ينفق على أهله حتى يأتي وقت الحصاد فيأتيه بذلك البر الذي اشتراه منه، هذا هو بيع السلم، فيه رخصة من الله رحمة بالمؤمنين، وإلا فالبيع يكون بأن تكون السلعة أمامك فتعطي ثمنها وتأخذ البضاعة، لا حتى تأتيك يوم كذا، لكن من رحمة الله بالمؤمنين وببركة نبيهم بينهم رحم الله ضعفهم وأذن لهم بهذا السلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

وجوب تسمية الآجال وبيان حكمة مشروعية كتابة الدين

فاسمع الآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة:282]، لا بد من تحديد الوقت، لا تقل: في الصيف. أي صيف هذا؟! لا بد أن تذكر الوقت المسمى بالشهر المعين، إذاً: إِلَى أَجَلٍ [البقرة:282]، الأجل هو الوقت، فنحن لنا آجال أم لا؟ لنا أوقات. فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282] هذا فرض: إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282] وجوباً.قال إمام المفسرين: الأمر هنا للوجوب، لم؟ حتى لا يتنازع المؤمنون، حتى لا يكون هذا البيع سبباً لبغضائهم ولعداوتهم ولكره بعضهم بعضاً وهم أمة واحدة كرجل واحد يحملون راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فكل ما من شأنه أن يفرقهم وأن يشتتهم وأن يوجد البغضاء بينهم حرام لا يجوز. وهذه كررناها، فهل من واع؟ تستطيع أن تعرف المعاملات التجارية بهذه النظرية، كل ما من شأنه أن يسبب خلافاً أو عداوة أو بغضاء بين المؤمنين فهو حرام، لأنهم كجسم واحد يحملون راية واحدة ينشرون الإسلام والهدى في العالم، فلا يحل -إذاً- اختلافهم ولا قتالهم ولا كل عمل من شأنه أو يوجد عداوة أو بغضاء بينهم. وكيف حال العالم الإسلامي اليوم؟ هل هم متحابون متوادون متفقون متعانقون؟ لا والله، إذاً: هبطت راية لا إله إلا الله ومزقوها، ما سبب هذا؟ العدو نشر بينهم الفرقة والخلاف، فجعل مذهبهم مذاهب، وأخيراً الاستعمار قسمهم تقسيماً، والآن صاروا ثلاثاً وأربعين دولة. ولم يصح المسلمون، ما بلغنا إلا هذه الصحوة، وأية صحوة هذه؟ ما رأينا لها آثاراً، أية إفاقة هذه؟ لنترك هذا لله ولنواصل دراسة كتاب الله؛ لنخرج من هذه الآية بنور ينفعنا.

معنى قوله تعالى: (وليكتب بينكم كاتب بالعدل)

قال تعالى: فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282] فعرفنا وجوب الكتابة، ثم قال تعالى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ [البقرة:282] يكتب بينكم كاتب بالعدل، لا يميل ولا يحيف ولا ينظر إلى وجه هذا وعيني هذا فيزيد أو ينقص أو يقدم أو يؤخر، بل بالعدل. فإذا كنت تكتب في دين بين اثنين فلا تلفت إلى قرابة ولا صداقة، أقم العدل كما أمرك الله، والعدل ضد الحيف والانحراف والسقوط، هو الاعتدال.

معنى قوله تعالى: (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله)

وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ [البقرة:282] ولا يرفض كاتب أن يكتب، ولا يمتنع كاتب أن يكتب، إذا ما وجدناك إلا أنت يا عبد الله فيجب أن تكتب، ولا تقل: أنا مشغول. ما دام قد احتاج إليك المؤمنون لكتابة عقد بينهم فينبغي أن تكتب، وإياك أن ترفض.فـ(لا يأب) معناه: لا يرفض، وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ [البقرة:282] تكتب كما علمك الله، وهذه لطيفة، فأنت ما كنت تعرف الكتابة، ولا تعرف الباء ولا الألف، فمن علمك؟ الله. هل كائن غير الله يعلم؟ علمك الله، إذاً: رد إليه ما أعطاك، يأتي عباده المؤمنون يطلبونك فاذكر نعمة الله عليك واستح من الله واكتب بينهم. وفيها معنى: ألا يحيف ولا يجور ولا يقدم ولا يؤخر، بل بالعدل في الكتابة، وفيها معنى: أن يذكر هبة الله عليه.وهذا ينبغي أن نلاحظه في كل شئون حياتنا، أنت كنت تمشي على رجليك من بيتك إلى المسجد، ورزقك الله دابة تمشي بالنار أو بالماء، فإذا رآك مؤمن فقال: أركبني فأركبه، اذكر نعمة الله عليك، بهذا تنتظم حياتنا كلها، النعم التي أنعم الله بها علينا يجب ألا ننساها، وهذه الجملة من هذه الآية عجب، كما علمه الله يكتب، كما أعطاك الله فأعط، كما أقدرك الله أقدر، ولكن أهل الغفلة ما يعرفون هذا، أما الذاكرون فيشعرون بهذه، لأن أحاسيسهم فوق العادة مرهفة؛ لأنهم دائماً مع الله بقلوبهم وأبدانهم.

معنى قوله تعالى: (وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً)

وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ [البقرة:282] ثم قال تعالى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ [البقرة:282]. أنا الكاتب والقلم بيدي والقرطاس بين يدي، وأنتما اثنان تبايعتما، فمن يملي علي؟ الذي اشترى أو الذي باع؟ الذي اشترى هو الذي يملي؛ حتى يعترف بأنه اشترى خمسة قناطير أو سبعين قنطاراً، بخلاف البائع، فإذا قلنا له: أمل أنت فقد يقول: بعناه مائة قنطار، اكتب مائة وخمسين! وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ [البقرة:282] هو الذي يملل ويمل، وبالفك: يملل، أمل وأملى بمعنى واحد. وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:282] وليخف الله حتى لا يزيد ولا ينقص ولا يقدم ولا يؤخر، أو يغش في صفة من صفات هذه الدين. وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا [البقرة:282] معنى يبخس: ينقص، بخسه أو نقصه، فلا ينقص من ذلك الحق أدنى شيء، يكتبه كاملاً وافياً غير منقوص. وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا [البقرة:282] هذا الذي يملي، والكاتب كذلك.

معنى قوله تعالى: (فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل)

قال: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ [البقرة:282] فكيف نفعل؟ الذي عليه الحق سفيه ما يحسن التصرف في المال، فهذا لا يملي، أو كان ضعيفاً أبكم ما ينطق، أو مريضاً ملازماً للفراش، أو لا يستطيع ولا يقدر أن يمل، فمن يملي؟ قال تعالى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة:282] الذي يتولى أمره من عم أو أب أو قريب أو بعيد هو الذي يملي. فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة:282] وكلمة العدل عليها قام أمر السماء والأرض، العدل عليه قام أمر السماء والأرض، والله! لو تنحرف الشمس في فلكها أدنى شبر لخرب العالم، قائمة بالعدل، كل الكواكب في أفلاكها لو تنحرف يخرب العالم، أمر السماء والأرض قام بالعدل، فإذا انعدم العدل هبطت الأمة، فلهذا يعدل الرجل بين نسائه، يعدل بين أولاده، يعدل في حكمه، يعدل في قوله، إذا قال لا يحيف بكلمة ولا يجور بها: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]. وما أصبح العالم الإسلامي اليوم يشعر بشيء اسمه العدل، إلا من رحم الله عز وجل، العدل حتى في المشي، فإذا مشيت فامش في عدل ولا تتمايل.

معنى قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم)

ثم قال تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282] الكتابة ضرورية، والإشهاد عليها ضروري أيضاً، الكتابة وحدها ما تكفي، ففي الإمكان أن تنكر، لكن إذا كان عليها شاهدان شهداها، ووضعا ختمهما عليها فما يستطيع أحد أن ينكر، لا بد من الشاهدين على الكتابة، وليس شرطاً أن يكون هذا الصك بمليون ريال، بل ولو كان ألف ريال، ولو كان مائة ريال، صغيراً أو كبيراً كما سيأتي.قال تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282] أي: اطلبوا شهيدين، فالهمزة والسين والتاء أحرف استفعال بمعنى الطلب، ابحث عمن يشهد من إخوانك.

معنى قوله تعالى: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء)

فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ [البقرة:282] ما وجدنا من الشهود رجلين، وجدنا رجلاً واحداً، والرجال سافروا أو في غزو، ونحن اضطررنا لأن نكتب هذه الصك وهذا السند، قال تعالى: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282] الرجل موجود، والثاني غير موجود، إذاً: نأتي بامرأتين من الصالحات المؤمنات القانتات تشهدان، فشهادتهما تعدل شهادة الرجل الذي انعدم وما وجدناه.وإذا ما وجدنا المرأتين ووجدنا الشاهد فحسب فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بيمين وشاهد، هذا في باب القضاء والتحاكم، أما الآن فإما رجلان أو رجل وامرأتان أو أربع نسوة، وأما الكاتب فإن كان غير صاحب الحق؛ فإنه يكتب لهما ويتخذانه شاهداً يشهد. والشاهد عندنا: أنه إن لم يكن الشهداء رجلين وإنما وجد رجل واحد فيقوم مقام الرجل الثاني امرأتان، فتشهدان ويمضي البيع: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282] كل جملة لها مفعولها، ممن ترضون، لا بد أن يكون الشهود صالحين عدولاً بررة أتقياء، أما تاجر يتعاطى الخمر ويتعاطى الجريمة فما تصلح شهادته. وحد العدل عند أهل العلم: الرجل الذي يجتنب الكبائر كلها، ما يعرف كبيرة من كبائر الذنوب، ويتجنب الإصرار على الصغائر أيضاً، هذا هو العدل. أما من عرف بجريمة من الجرائم فلا يستشهد ولا تقبل شهادته، ولما هبطنا بلغنا أن بعض الصعاليك يجلسون حول المحكمة يلعبون الكيرم أو الورق، وإذا احتاج إليهم واحد من المحكمة قال: تعال لتشهد بعشرة ريال أو خمسين ريالاً، ويدخل ويشهد معه، وهذا وجد في العالم الإسلامي، ولا غرابة ولا عجب، فما عرفوا الله حتى يخافوه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

معنى قوله تعالى: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)

قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ [البقرة:282] إذاً فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ [البقرة:282] مخافة أو كراهة أن تضل إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282]؛ لأن المرأة بطبعها الذي طبعها الله عليه ضعيفة في إرادتها وفي عقلها، كثيراً ما يسري إليها النسيان وتنسى. فالذي يقول: المرأة والرجل سواء عندنا نحن كفر وخرج من الإسلام، والذي يقول: يجب أن تتفوق فوالله! لا حظ له في الإسلام، يقول تعالى في امرأة لوط ونوح: كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ [التحريم:10] ما معنى (كانتا تحت عبدين)؟ هل يعني أنهما مساويتان لهما، أو فوقهما؟ إذاً: فالذي يقول: المساواة؛ هذا كاليهودي وكالنصراني، بل اليهود والنصارى كانوا يستحون من هذا، لكنه عمل البلشفة الحمراء واللادينيين الذين حلموا بهذا الحلم: المساواة، فهل أنت رب الناس؟ هل أنت الخالق؟ أما تستحي إذاً؟ ما خلقت أنت ولا رزقت ولا دبرت الكون، وخالقهم فضل هذا على هذا، فتقول: أنت يا رب ما تعرف! فهل هذا يبقى مسلماً؟ هل يدخل في رحمة الله؟! ويتبجح الغافلون والمقلدون والعميان الذين لا بصائر لهم، ويطالبون بالمساواة وحرية المرأة، فكما أن الرجل يعهر ويفجر فلها حق هي أن تعهر وتفجر، أهذا دين؟!قال تعالى: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282] لم يا رب؟! أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا [البقرة:282] تنسى، أو تخطئ لصغر عقلها وطاقة فهومها؛ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282] حين تكونان اثنتين إذا نسيت الأولى فالثانية تذكرها: أما تذكرين كذا وكذا؟ فيثبت الحق لأهله، ولا تضيع حقوق الناس.

معنى قوله تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا)

ثم قال تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282]، إذا استدعاك القاضي وقال: هل أنت شهدت البيع الفلاني؟ فتعال لتشهد، يجب أن تأتي، لا ترفض فتقول: أنا لا أشهد! إخوانك يكتبون كتاباً، فقالوا: تعال اشهد معنا، وأنت مؤمن تقي، فتقول: سامحوني، فلن أشهد؟! وأذكر أني عوقبت بهذه؛ فقد كنت في دكان عند المحكمة، فجاءتني امرأة فقالت: قم يا شيخ لتشهد معي، فأنا تضايقت وكرهت أن أشهد وما أعرفها، فاعتذرت وامتنعت، فقالت: إذاً: والله! لأدخلنك المحكمة بنفسها، وتمضي الأيام، وزوجها من البهاليل، فكان يزورني في البيت ويطلعني على خفايا أمره، ثم مات، فقالت: إن الشيخ الفلاني عنده مال زوجي، وهو مدخر عنده، وفجأة يجيء العسكري فيقول: القاضي يريدك في المحكمة! فحضرت المرة الأولى فما نجحت، وشاء الله ذلك، ولو جاءت بشاهد آخر علي لكانت تأخذني، لكن الله صرفها صرفاً كاملاً، إذاً: فلم يبق إلا أني حلفت بالله الذي لا إله غيره ما ترك عندي فلان شيئاً، فصدر الحكم بإلغاء شكواها. أرأيتم كيف عوقبت؟ لأنني ما شهدت لها، والله يقول: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282] احضر، وأد شهادتك، فالحمد لله؛ أرانا الله مصداق آياته.

معنى قوله تعالى: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا)

قال تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ [البقرة:282] لا تقل: هذه ألف ريال ما هي بذات قيمة، أو خمسة آلاف ما هي بشيء، فلا نشهد ولا نكتب، وَلا تَسْأَمُوا [البقرة:282] لا تملوا ولا تضجروا أن تتركوا الكتابة إلى أجل وإن كان المبلغ ما هو بشيء، لأن المبلغ وإن كان ما هو بشيء فإنه إن أنكرك أخوك أو جحدك تبغضه فتحدث الفتنة، فلهذا كما سمعتم توجيه الله عز وجل، يقول تعالى: وَلا تَسْأَمُوا [البقرة:282] والسآمة: الملل والإعياء وعدم الرغبة، أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا [البقرة:282] لا تقل: هذا شيء تافه ما نكتبه، بل اكتب، واكتبوه إلى أجله، حددوا الآجال.ثم يقول تعالى: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:282] ذلكم الذي علمتم من الكتابة والإشهاد أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [البقرة:282] لا إله إلا الله! هذا كلام الله، ذلك الذي سمعتم أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:282] يعني: أكثر قسطاً وعدلاً، وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ [البقرة:282] حتى لا يظلم صاحبها أو يضيع حقه، وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [البقرة:282] أقرب ألا تشكوا، فالكتابة وحدها ما تكفي، فلا بد من الإشهاد، كتبتم الصك فأشهدوا من عدولكم رجلين، وإذا ما وجدتم إلا رجلاً واحداً فأضيفوا إليه امرأتين من نسائكم.

معنى قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها)

ثم قال تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا [البقرة:282] الذي يبيع التمر والبر في بقالة، تشتري منه مثلاً عشرة كيلو، خمسة كيلو، أو جزار تشتري منه مثلاً خمسة كيلو لحم، وتقول: سآتيك بالمبلغ بعد أسبوع؛ فهذا ما يحتاج إلى كتابة؛ لأن الأصل: خذ وهات. فإن اضطر أخوك إلى أن أجلته يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً فما هناك حاجة إلى كتابة؛ لأن هذه التجارة حاضرة، ونحن كنا نتكلم عن بيع السلم.إذاً: في هذه الحالة إذا كانت تجارة مدارة: خذ وأعط، كحال الدكاكين، فلو فرضنا أنه استلف منك كذا؛ فإذا ما كتبتم فلا شيء فيه: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا [البقرة:282] لا إثم عليكم في عدم الكتابة، ولا مضايقة ولا إرهاق وإتعاب، هذا ما هو في بيع المنازل والدور والسيارات، هذا في البصل والثوم والسكر والزيت، هذه تجارة حاضرة، فهذه إذا ما كتبتم فيها فلا شيء عليكما، أما ما كان من إبل وبقر وغنم مثلاً وبساتين ودور، وسيارات؛ فحين تبيع سيارة وما تكتب الدين ولا تشهد؛ فإنها تضيع.

معنى قوله تعالى: (وأشهدوا إذا تبايعتم)

ثم قال تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282] هذا -كما قلنا- في المنازل والبساتين وأنواع الإبل والسيارات؛ هذه الأموال، فالآن إذا باع إنسان لآخر سيارة -مثلاً- إلى أجل ألا يكتب؟ يجب أن يكتب ويشهد: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282] أي: باع بعضكم لبعض.

معنى قوله تعالى: (ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم)

وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة:282] لنتأمل هذه الفقرة، أي: لا يضر أحدكم الكاتب ولا الشهيد، مثلاً: نحن الآن في المدينة بين المغرب والعشاء، لكن بعدما نصلي العشاء وننام هل يجوز أن تقول: تعال يا فلان لتكتب لي أو لتشهد لي؟ أضررت به أم لا؟ أقمته من نومه، اترك هذا إلى غد، كيف توقظه؟ أو شهد معك في المحكمة، وحصل خلاف بينك وبين الخصم في أبيار علي، فتقول للشاهد: تعال عندنا إلى أبيار علي، وهو عاجز أو مريض ما يستطيع أن يمشي، فهل أضررت به أم لا؟ أو أن فلاناً معروف أنه كاتب في القرية، فتأخذه إلى قرية أخرى ليكتب لك؟ أما أضررت به؟ فسبحان الله العظيم! بين الله تعالى كل جزئيات هذه القضية! وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة:282]، فالذي يكتب لك لا تكلفه ما لا يطيق، تأتي به في نصف الليل، أو في وقت برده شديد، انظر إلى الوقت المناسب له، والشهيد كذلك، لا تقل: تعال لتشهد معنا، وتمشي به خمسين كيلو؟! آذيته، فلا بد أن يكون الكاتب الذي كتب والشاهد الذي شهد أن يكون ذلك ميسوراً سهلاً عليهما، ما فيه ما يكلفهما عناء أو مشقة أو فقد مال مثلاً.لا تفهم أنه بما أن الله أمرنا أن نشهد وأن نكتب ففي هذه الحال نلزم كل واحد أن يكتب لنا ويشهد، ونكلفه ما فيه مشقة عليه، عجب هذا الكلام الإلهي! وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البقرة:282] إن أضررتم بالكتاب أو بالشهود فهذا فسق منكم وخروج عن طاعة الله ورسوله. وما المراد بالفسوق؟ هل هو الخروج عن الأدب؟ عن اللياقة؟ الفسوق: هو ترك أمر الله أو انتهاك ما حرم الله.فإبليس فسق عن أمر ربه، أبى أن يسجد لآدم فقط، ما ترك صلاة ولا صياماً، بل قال له: اسجد فقال: لن أسجد، أنا أفضل منه، وتكبر، قال تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50] فكل من ترك واجباً وهو يعلمه وقادر على فعله يقال فيه: فسق، أي: خرج عن الطاعة. والفسق مأخوذ من قولهم: فسقت الفأرة: إذا خرجت من جحرها، ولذا تسمى الفويسقة، تأتي في الليل وتحرق عليهم المنزل، أيام كانوا يستصبحون بالفوانيس، تأتي على الفانوس فتحترق، وحين تشعل فيها النار تدخل بين النائمين في فرشهم فتحرق عليهم الفراش، فلهذا سماها النبي صلى الله عليه وسلم بالفويسقة، فهي تأتي على الفانوس، وحين تشتعل في شعرها النار ماذا تصنع؟ تبحث عن النائمين فتدخل بينهم، فالفسق: الخروج عن طاعة الله ورسوله عن عمد وعلم.

معنى قوله تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم)

ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:282] هذا خطاب لنا، اتقوا الله في هذه التعاليم، ما كان أمراً فأنجزوه، وما كان نهياً فاجتنبوه، وما كان رغيبة فارغبوا فيها وافعلوها، وما كان مكروهاً فاكرهوه وتباعدوا عنه، بذلك تتم لكم تقوى الله عز وجل، واتقوا الله في هذه التعاليم، احفظوها، افهموها، طبقوها، امشوا عليها، علموها، بهذا تحصل لنا تقوى الله عز وجل. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] أخذ منا وأعطانا، أخذ وعطاء، اتقوا الله ويعلمكم الله، والله! ما اتقى الله عبد إلا علمه، وعدنا إلى تلك القضية، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علمه، والله يقول: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]؛ لأنه إذا أراد الله أن يتخذك ولياً له فإنه يعلمك، أنت أحببته ورغبت فيما عنده وخفته ورهبته، فأصبحت تطلب معرفته ومعرفة محابه ومساخطه، وتفعل المحبوب، وتتخلى عن المكروه، يوماً بعد يوم ستبلغ مستوى الولاية وتصبح تقياً ولياً لله تعالى.فاتقوا الله ويعلمكم الله، فما تنسونه أو تجهلونه أو يُحدث لكم تعباً أو يحدث لكم سوءاً، فالله يعلمكم.

التصرف العسكري لخالد بن الوليد أنموذج لنور التقوى

وهذه أيضاً كالآية التي تحمل لنا الفرقان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، فما الفرقان هذا؟ طاقة أكبر من هذه الطاقات الكهربائية، نور في القلب، ما إن تنظر حتى تميز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين السيء والصالح، وبين الضار والنافع، بهذا النور الذي أنتجته لك طاعة الله وطاعة رسوله.وضربنا لهذا أمثلة: كـخالد بن الوليد ، ولم تكتحل عين الدنيا بقائد عسكري يقود الجيوش كما قادها خالد بن الوليد ، حتى كفار الشرق والغرب كانوا يتمثلون حياته ويعرفونها، خالد بن الوليد سيف الله في أرضه، في وقعة مؤتة كان المسلمون فيها ثلاثة آلاف، خرجوا من المدينة يقودهم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه جعفر ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثلاثة آلاف واجهوا مائتي ألف، ما هناك مدافع ولا صواريخ، بل وجهاً لوجه بالرماح والسيوف، ثلاثة آلاف مع مائتي ألف! واستشهد القادة واحداً بعد واحد، فتولى خالد القيادة، فاستل تلك البقية من ثلاثة آلاف استلال الشعرة من العجين.فخالد بن الوليد كيف حصل على هذا العلم؟ في أي كلية حربية درس؟ من هم أساتذته؟ ما هو إلا تقوى الله عز وجل، اتقى الله فيما أسند إليه، فيما أمر به، فأداه على الوجه المطلوب كما يحبه ربه الذي أمره به، فأوتي هذا الفرقان، فأصبح يعرف القتال وكيف ينتصر فيه على أعدائه.فاتق الله، فإن فعلت فوالله! لن تخلو من هذا الفرقان، وستصبح تميز في بيتك ومع إخوانك النافع من الضار؛ نتيجة تقوى الله. وهل تقوى الله تتم بدون علم؟ مستحيل! لا بد أن تعرف الله عز وجل بأسمائه وصفاته، بآياته في الكون والكتاب، فيصبح قلبك مملوءاً بحبه والخوف منه، ثم تعرف ما يحب من الكلام من القول، من العمل، من النيات، من الاعتقادات، من الصفات، من الذوات، فتعرف ذلك وتصبح تحب ما يحبه، وتكره ما يكره، وتفعل المحبوب وتكره المكروه، وشيئاً بعد شيء تتم لك ولاية الله، وتصبح ولي الله، فلو سألته أن يزيل الجبال لأزالها.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-09-30, 12:48 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (40)
الحلقة (47)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (135)

شرع الله عز وجل لعباده عند التبايع فيما بينهم بنوع من أنواع بيوع الأجل أن يكتبوا بينهم عقداً وأن يشهدوا شاهدي عدل على هذا العقد، وإذا كانوا في سفر ولم يجدوا كاتباً لهذا العقد فلهم عند ذلك أن يقدموا رهناً مقابل تأجيل الثمن، يستلمه بائع العين المتفق عليها، فإذا انعدمت الكتابة والرهن وتبايع المتبايعان بالثقة وطيب النفس، فيجب على من عليه حق أن يؤديه ولا يجحد منه شيئاً؛ لأن المؤمنين الأتقياء، مؤدون للآمانات حافظون للعهود والمواثيق.

قراءة في تفسير آية الدين من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق رجاءنا فيك، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.

البلاغة القرآنية المتجلية في آية الدين

سبق أن درسنا آية الدين، وهي آية طويلة من أكبر آي القرآن، ولا بأس أن أسمعكم تلاوتها، ثم نراجع ما علمناه فيها، فهل ما زلنا على علم، أو تحولنا إلى جهل بالنسيان وعدم البصيرة؟ إليكم تلاوة هذه الآية المباركة، ثم نراجع ما دلت عليه وما كنا قد علمناه.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282].آية عجب، والقرآن كله عجب! إذ قال إخواننا من جن نصيبين: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1] إي والله! وقد قلت لكم: لو يجتمع علماء الاقتصاد والسياسة وعلم النفس وعلم الأحياء على أن يضعوا آية كهذه فوالله! ما استطاعوا، ولن يقدروا، هذه آية من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية، فما لهم لا يؤمنون بالله منزلها؟ ولا بالرسول الذي أنزلت عليه، وهم عاجزون عن محاكاتها، فضلاً عن الإتيان بمثلها؟! ما لهم لا يؤمنون؟ نحن الذين صرفناهم، أيام كنا أطهاراً أصفياء أوفياء أعزاء عدولاً كانوا يدخلون في دين الله أفواجاً وجماعات باختيارهم وطيب نفوسهم، فلما هبطنا من علياء كرامتنا وسادونا وأصبحنا نمثل العجز والضعف -بل والخبث والشر والفساد- فكيف يقبلون على الإسلام ويطلبون كتابه ويعملون به؟! إلا أننا نقول لهم: أنتم الذين هبطتم بنا، أنتم الذين مزقتم صفوفنا، وشتتم جماعاتنا، ومزقتم راية وحدتنا، وسلطتم علينا الشياطين منكم ومن غيركم؛ فهبطنا فأصبحنا سواسية، فأنتم المحرومون من دار السلام ونعيم الإسلام بما فيه من العدل والمودة والإخاء والعلو والكمال. فهم الذين فعلوا بنا هذا، فليذوقوا الحرمان الأبدي لا يشمون رائحة رحمة الله، ولا تنالهم في الحياة ولا في الممات، فهل فهم السامعون والسامعات هذه؟ هذا هو الواقع.وبعد: فماذا نصنع؟! ما الطريق؟ الجواب: أن نراجع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كيف سموا؟ كيف علوا؟ كيف ارتفعوا؟ كيف سادوا؟ هل بعلم التقنية؟ أم بعلم الذرة والهيدورجين؟ أم بعلم الفلسفة؟ لقد سموا بعلم الكتاب والحكمة، بعلم الكتاب القرآن العظيم والحكمة المحمدية.يسمعون فيعون ويوقنون ويعملون؛ فترسخ تلك الفهوم والمعارف في نفوسهم، وتتجلى ظاهرة في سلوكهم، في أسماعهم، في أبصارهم، في منطقهم، في كل حياتهم، فسموا وارتفعوا وارتفعوا؛ وحسدهم العدو فقالوا: والله! لننزلن بكم، فأوجدوا المذاهب والطوائف والطرق، وها نحن هابطون.فحرمنا نحن، ولكنهم حرموا أكثر منا، نحن بيننا من يدخل دار السلام بإيمانه، وهم لا يشمون رائحة الجنة، وبيننا من هو سعيد بإيمانه وطهارة نفسه، وسمو آدابه وإن كان فقيراً وإن كان مريضاً، وهم لا يوجد بينهم من هو سعيد في نفسه قط، دمار كامل! هذا جزاؤهم، فمن يبلغهم؟

هداية الآية

والآن نعود إلى تلكم الآية العظيمة، إذ لها خلاصة تحت عنوان: هداية هذه الآية الكريمة.قال المؤلف غفر الله له ولكم وحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية:من هداية الآية:أولاً: وجوب كتابة الديون سواء كانت بيعاً أو شراء أو سلفاً وقرضاً، هذا ما قرره ابن جرير الطبري ] في تفسيره، [ ورد القول بالإرشاد والندب ]، والقول الصحيح: أن من المعاملات ما يجب كتابته، ومنها ما يسن ويستحب فقط، فليست على الإطلاق، فكتابة الدور والمصانع والبساتين لا بد عند بيعها من كتابتها وجوباً، لكن كتابة بيع بقرة أو بعير ديناً يستحب أن يكتب، فإن أمن وقال: ما نحتاج، أنا أثق فيك فقد فاته الأجر ولكن لا إثم عليه.فما كان من الأموال ذا أثر وتأثير على المجتمع بعد صاحبه فهذا يتعين الكتابة فيه ما دام ديناً، وما كان لا أثر له من الأمور التي ما هي ذات قيمة كبيرة، فلو لم يكتبوا فإن شاء الله لا إثم عليهم؛ لأن الله تعالى قال في السلم الذي عرفنا أولاً -ومثله القروض-: إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة:282] العام والعامين والعشرة فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، لم يا رب نكتب؟ رحمة بكم، إبقاء على مودتكم، حفاظاً على اتحاد كلمتكم، لأنكم حاملوا راية الحق وراية العدل في العالم، فوجود فرقة وخلاف يسبب العداوة وينتج البغضاء، ويومها تفشلون فما تستطيعون أن تهدوا البشرية وتقودوها.

الربا باب قطع العلائق بين المؤمنين

وقد حرم علينا الربا أم لا؟ وتوعدنا بالنار أم لا؟ وبإعلان الحرب علينا، لم؟ ما السر؟ (95%) ما عرفوا سر هذا التحريم وهذا التهديد. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279] لأن مجتمعكم طاهر نقي صاف، يعيش على المودة والإخاء: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )، فكل ما من شأنه أن يفرق الكلمة، أن يذهب الإخاء ويبعد المودة حرام؛ لأننا حملة رسالة النور إلى البشرية.فالربا: وهو أن أسلفك ألفاً على أن تردها بعد ستة أشهر ألفاً ومائة، أو بعد سنة ألفاً ومائتين، هذا هو الربا، فقد يقول أحدنا: ما دمنا نجد من يقرضنا إلى أجل وآجال مع زيادة ولو بسيطة؛ إذاً: لم أستلف من فلان وأستقرض من فلان؟ لا حاجة إلى أن أذل نفسي!

التربية المسجدية وسيلة إعادة لحمة التعاون بين المسلمين
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

إذاً: لكي ترتبط قلوب المؤمنين ارتباطاً سليماً صحيحاً يجب أن يسلف بعضنا بعضاً، وأن يقرض بعضنا بعضاً، وأن نتعاون بأنواع المضاربات، أهل القرية في مسجدهم الجامع الذي يجتمعون فيه كل يوم خمس مرات، يجتمعون فيه بين المغرب والعشاء كل ليلة، بنسائهم وأطفالهم، أغنياؤهم كفقرائهم، علماؤهم كجهالهم، مسئولوهم كغيرهم، من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، يتلقون الكتاب والحكمة، يتعلمون الكتاب والحكمة؛ لأنهم لا يعرجون إلى السماء إلا بطهارة أنفسهم وزكاتها، وسلم ذلك هو أن يعرفوا محاب الله ومساخطه معرفة يقينية، يقدرون معها على فعل كل محبوب لله، وعلى اجتناب وترك كل مبغوض لله، هذا سلم الرقي إلى الملكوت الأعلى حيث الجنة ذات النعيم المقيم. هل أهل الحي يجتمعون كل ليلة؟! يا شيخ! هذه خيالات، كيف نترك أعمالنا من صلاة المغرب؟! هذا هو السؤال؟ الجواب: إن الذين اقتدينا بهم، وسرنا في ركابهم، وأصبحنا نعتز حتى بلباسهم والمشي وراءهم إذا دقت الساعة السادسة مساء وقف دولاب العمل، وتطيب أولئك اليهود والنصارى، ولبسوا أحسن ملابسهم، وأخذوا أطفالهم ونساءهم إلى دور الرقص والعبث واللهو إلى نصف الليل، ولم أنتم لا تذهبون إلى بيت ربكم لتتعلموا الكتاب والحكمة، حتى تقووا وتقدروا على تزكية أنفسكم وتطهيرها، لتتأهلوا للعروج إلى الملكوت الأعلى، والنزول في تلك المكانة؟ من جهة نقلدهم ونمشي وراءهم ونجلهم في أعمالهم ونقتدي بهم، وفي هذه القضية لا! يبقى الدكان مفتوحاً بعد صلاة المغرب إلى العشاء إلى نصف الليل، وا حسرتاه! متى نفيق؟ متى نصحو؟ ما عرفنا متى! قد تقول: يا شيخ! ما هذه المبالغات؟ تلطف يا شيخ! أقسم بالله الذي لا إله غيره على أن كل ما نشكوه من عجز وضعف، بل وخبث وشر وفساد علته واحدة: الجهل بربنا ومحابه ومكارهه، يستحيل أن تزكو نفس مؤمن أو مؤمنة بغير استعمال أدوات التزكية والتطهير، وعلى النحو الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف إذاً لا نتعلم؟فنقول: أهل القرية كأهل الحي، إذا أذن المغرب فلن تجد رجلاً في شارع ولا في دكان، ولا طفلاً، أين هم؟ في بيت الرب جل جلاله وعظم سلطانه، يفعلون ماذا؟ يتعلمون الكتاب والحكمة ليزكوا أنفسهم، ويطهروها، فيقبلهم المولى في جواره في دار السلام. أما قال تعالى في منته على عباده: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]؟

مقترح الصندوق المسجدي الخيري

فأهل القرية أو الحي إذا طابوا وطهروا لا يبقى كذب ولا غش ولا خداع ولا حسد ولا شرك ولا نفاق ولا رياء ولا إسراف ولا بذخ، إي والله! سنة الله لا تتبدل، عرفوا، صدقوا الله فسموا. أهل هذا الحي في المحراب يضعون صندوقاً من حديد، يقول الإمام وأعضاء لجنة المسجد ولجنة الحي: معشر المستمعين والمستمعات! هذا الصندوق قد أقمناه في محرابنا، من زاد عن قوته درهم فليضعه في هذا الصندوق، اشتغلوا وقوموا بواجباتكم، وتسلموا أرباحكم ورواتبكم، وأنفقوا حسب ما يريده الله لكم في غير إسراف ولا بذخ ولا شهوات، ومن زاد عن قوته درهم فليضعه في صندوق مسجد الحي أو القرية، ثم من أراد أن يربح فسوف يستعمل هذا المال في سبل الربح وطرق النجاح وله فوائده، ومن أراد أن يودعه ليستفيد إخوانه ولتطيب نفسه حيث المال ينتفع به إخوانه فليفعل! إذاً: أهل القرية إذا كانت بلادهم زراعية يكونون لجنة لإنشاء مزرعة تنتج ما هو خارق للعادة، وإن كانت الأرض غير زراعية فإنهم ينشئون مصنعاً لإنتاج أي مادة، ومن تلك الفوائد والأرباح ينفقون على فقراء الحي ومحتاجيهم ومساكينهم، ومن ثم تتحقق كرامة المؤمن التي أرادها الله له: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، أصبحوا أتقياء تمام التقى، وفي نفس الوقت إذا جئت إلى أخيك وقلت: أي أبي! إن كان أكبر منك سناً، أي بني! إن كان أصغر منك سناً، أي أخي! إن كان يساويك، ثم قلت: أنا في حاجة إلى مبلغ كذا، وسأرده إن شاء الله يوم كذا، في تاريخ كذا؛ فوالله! ليفرحن بذلك أخوك، وينشرح صدره، يقول: الحمد لله، ويضع ذلك المال في يدك، وأنت أيها المؤمن الطاهر النقي سوف تعمل ما تعمل، وإذا كان الوقت ودقت ساعته فلتأتين بذلك المال بنفسك وتقدمه، وإن أصابك ما أصابك وضاع فسوف تأتي وأنت تبكي بين يدي أخيك وتطلب منه أن يتفضل بالمسامحة وعدم المؤاخذة إلى أن يتأتى لك تسديد هذا المبلغ.

توثيق الديون وأثره في منع الربا وإشاعة التعاون بين المسلمين

إذاً: الربا فيه منع القرض، وهذا تخطيط اليهود، فحين أشاعوا الربا بين المسلمين والكافرين أفسدوا أخلاقهم وآدابهم وأرواحهم، ما بقي وفاء ولا التزام بعهد ولا بمبدأ، أصبح الطابع العام هو النكث وعدم الوفاء، فلما هبطوا كان لا بد من الربا، فأحرقونا أحرقهم الله عز وجل.من هنا هذه تعاليم الله عز وجل؛ للحفاظ على المودة والإخاء والتعاون والطهر والصفاء، فماذا فعل بنا؟ أوجب كتابة الديون سواء كانت بيعاً أو شراء أو قرضاً وسلفاً، لا بد؛ أخذاً بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282] يحفظها العامي، لم نكتب؟ حتى ما يقع نزاع وخلاف وينتشر الحقد والحسد والبغض بينكم وأنتم جسم واحد.

وجوب رعاية النعم بشكرها

قال: [ ثانيا: رعاية النعمة بشكرها ]، هذه الآية فيها هذا المعنى، في قوله تعالى: وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ [البقرة:282]، تعال يا فلان اكتب بيني وبين أخي سنداً، أقرضته ألفاً، فتقول: أنا مشغول ما أستطيع، اطلبوا غيري، حرام عليك! اشكر نعمة الله، كما علمك الله الكتابة اكتب، ففيه معنى شكر النعمة، فكما علمك الله اكتب لعباده المؤمنين وقد احتاجوا إليك.وهكذا كل من أنعم الله عليه بنعمة يجب أن يشكرها على نحو تتطلبه تلك النعمة، فالماء البارد تصبه من هذا الجدار بين يديك وتشربه وما تقول: الحمد لله؟! يا كافر النعمة وجاحدها! نعلك فقط جميل وصالح عليك، تدخل رجليك وما تقول: الحمد لله؟! كل نعمة تتطلب شكرها للمنعم بكلمة: الحمد لله.فهنا ألاحظ كلمة في هذه الآية الطويلة أفادتنا أن المنعم ينبغي أن يشكر على ما أنعم، وأن المنعم عليه يجب أن يشكر المنعم ولو بكلمة (الحمد لله)، فهذا علمه الله الكتاب وأصبح كاتباً في القرية أو الحي، فجيء إليه فقيل له: اكتب، فيقول: أنا مشغول! اطلبوا غيري. أيجوز هذا؟ أين شكر النعم؟

حكم النيابة في إملاء الدين وحكم الإشهاد على الكتابة

[ ثالثاً: جواز نيابة الإملاء؛ لعجز عنه وعدم قدرة عليه ]، ما معنى هذا؟ جواز الإملاء عن شخص، تملي على الكاتب وهو يكتب؛ لماذا؟ لأنه ضعيف أو صغير ما يستطيع، طفل صغير ما يحسن، فالذي يحسن يقوم مقامه ويملي، فيقول: لفلان علي كذا وكذا وكذا، وأشهدت فلاناً وفلاناً. [ رابعاً: وجوب العدل والإنصاف في كل شيء، لا سيما في كتابة الديون المستحقة المؤجلة ]، العدل والإنصاف في كل شيء، حتى في الأكل والكلام! ولكن بخاصة في كتابة الديون، عليك ألف فتقول: ألف إلا مائة؟! عليك ألفان فتقول: إلا كذا؟! يجب أن تعدل أيها الكاتب، لا بد من العدل الذي هو ضد الحيف والجور والانحراف، العدل هذا شأن المؤمنين؛ حتى لا ينتشر بينهم مرض الحسد والغل والغش والخداع، فتهبط رايتهم وتتمزق حياتهم، هذه رعاية المولى عز وجل.[ خامساً: وجوب الإشهاد على الكتابة لتأكدها به، وعدم نسيان قدر الدين وأجله ]، الإشهاد لا بد منه، كونك أمليت على الكاتب وكتب فالإشهاد لا بد منه، الإشهاد أقله اثنان، هذا في الأموال، أما في الزنا فأربعة شهود، سبحان الله العظيم! قال تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282]، مؤمنان يشهدان بأن ما في هذه الورقة أو هذا الصك أو هذا الكتاب هو حق، حتى لا يحاول المؤمن أو يخطر بباله أن يجحد أو ينكر هذا المال.

عدد الشهود في الديون المالية

[ سادساً: شهود المال لا يقلون عن رجلين عدلين من الأحرار المسلمين لا غير، والمرأتان المسلمتان اللتان فرض شهادتهما تقومان مقام الرجل الواحد ]، والذي يقول: هذا ما ينبغي، هذا تخلف وهذا كذا؛ كفر، مسخ ولم يبق له دين ولا إسلام؛ لأنه عقب على الله العليم الحكيم خالق الإنس والجن وطابع الطبائع، والله يقول: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282] فقال هو: لم؟ امرأة كافية، لم لا نسوي بين النساء والرجال؟! فمن يقول هذا الكلام كفر وخرج من الإسلام ولا حظ له فيه، وإن أراد أن يرجع فليتب إلى الله وليستغفره وليبك بين يديه.والذين يطالبون بالمساواة هل هؤلاء أسلموا قلوبهم لله؟ ما عرفوه حتى يسلموا قلوبهم، ضُلَّال كغيرهم من اليهود والنصارى، أيخلق الله ويربي وينمي ويرزق ويخلق الجو والأرض كاملاً لهذا الإنسان وتقول بعد ذلك: يا رب! نحن أعلم منك؟! هذا كفر بشع، وهو أقبح كفر، يستحي العاقل أن يقف هذا الموقف.

ما تتناوله الكتابة من أنواع الديون

[ سابعاً: الحرص على كتابة الديون والعزم على ذلك، ولو كان الدين صغيراً تافهاً ]، وقد بينا أنه إذا كان صغيراً فالكتابة مندوب إليها، لكن إذا كان ذا أثر فالكتابة واجبة في كل الديون.[ ثامناً: الرخصة في عدم كتابة التجارة الحاضرة ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا [البقرة:282]، فصاحب الدكان يبيع في البقالة، هل كلما باع كيلو سكر يكتبه ويشهد عليه؟ لا، هذا فيه مشقة، لكن بيع العقارات والأشياء ذات القيمة إذا كان لأجل فلتدون وتكتب حفاظاً على أموال المسلمين، وعلى وحدتهم وولائهم لبعضهم وحبهم، أما التجارة المدارة، فكل يوم تأخذ من الدكان كذا أشياء ولا تكتبها ولا تشهد عليها وتعود إليه وتسدد ثمنها: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا [البقرة:282].

حكم الإشهاد وحكم الإضرار بالكاتب والشهيد

[ تاسعاً: وجوب الإشهاد على بيع العقارات والمزارع والمصانع مما هو ذو بال ] وشأن.[ عاشراً: حرمة الإضرار بالكاتب والشهيد ]، لا تضر بكاتب يكتب لك، ولا بشهيد يشهد لك، كأن تقول: يا فلان! عندنا قرية في جدة، تعال لتشهد معنا هناك، كيف يترك أهله ويمشي إلى جدة ليشهد؟! أما أضررت به؟ أو تأتي في يوم مطر والجو بارد وتقول: تعال إلى المحكمة! اتركه ليوم آخر، المهم أن أخاك إذا شهد لك فلا تتعبه ولا ترهقه بهذه الشهادة، انظر إلى ظرفه وحاله وخذ منه ذلك. أو كاتب تقول له: تعال لتكتب عندنا وتذهب به مائة وخمسين كيلو! لم هذا الإتعاب؟ انظر إلى كاتب في تلك القرية، أما أن تكلف كاتباً ليمشي هذه المسافة فقد أضررت به.المهم: ( لا ضرر ولا ضرار )، لا يحل لمؤمن أن يؤذي مؤمناً، حرام على المؤمن أن يؤذي أخاه، أن يرهقه، أن يتعبه، أن يذله، أن يزعجه، أن يغضبه، لم هذا؟ لأنهم جسم واحد، كل ما من شأنه أن يؤذيهم فيفرق جمعهم ويمزق قلوبهم حرام لا يجوز.

أثر تقوى الله تعالى ووسيلة اكتسابها
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

[ وأخيراً: تقوى الله تعالى تسبب العلم وتكسب المعرفة بإذن الله تعالى ]، أما قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]؟ وهناك معاشر المستمعين ما ينبغي أن نعيده: هل في الإمكان لإنسان عربي أو أعجمي ذكر أو أنثى أن يتقي الله وهو لا يعلم ما يتقي الله فيه؟ مستحيل! فنجد أنفسنا مضطرين ملجئين إلجاء صادقاً إلى أن نتعلم الكتاب والحكمة، أي: نعرف ما يحب الله وما يكره الله، إذ تقوانا له بهذا، بفعل ما يحب وبترك ما يكره، أليس كذلك؟ فإذا كنا ما نعرف ما يحب فكيف نتقيه؟! أو نعرف ما يحب ولكن لا نعرف ما يكره، فسنأتي المكروه ونفعله، إذاً: ما اتقيناه، لا بد من معرفة ما يحب الله تعالى من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات معرفة حيقية؛ حتى نتمكن من فعل ذلك المحبوب لله تقرباً إليه أو اتقاء لغضبه وعذابه، ولا بد من معرفة ما يكره الله ويغضب الله من قول فاسد، عقيدة فاسدة، قول باطل، عمل غير صالح، صفة مذمومة عند الله، حتى نتجنب ونبتعد عن كل ما يغضب الله تعالى علينا. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]، اذكر السر، فبمجرد أن تعزم يا عبد الله على أن تتقي الله لتصبح من أوليائه؛ في نفس الوقت تبدأ تسأل وتتنقل من بيت إلى بيت، ومن مسجد إلى مسجد، تسأل أهل العلم عن محابه ومساخطه، فإن اتقيت الله علمك الله، إذا عزمت على أن تتقيه وجدت نفسك مضطراً إلى أن تقرع أبواب العلماء وتسألهم واحداً بعد آخر عن محابه ما هي؛ لتعرفها، وعن مكارهه ما هي؛ لتتركها.فهل عرفتم هذا الوعد الإلهي: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282]؟ لا تشك، هذه هي الآية.

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة ...)

ومعنا الليلة آيتان جليلتان، فاسمعوا الآيتين، فهذه علوم ومعارف، أين تتعلم؟ في الجامعات؟ في كليات السياسة؟ في كلية الحقوق؟ هل تصل البشرية إلى هذه العلوم والمعارف بدون وحي الله؟قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]. يا معاشر المؤمنين! إن كنتم على سفر؛ لأن المسافر قد لا يوجد معه قلم ولا قرطاس، قد لا يوجد من رفاقه من يحسن الكتابة، أما في الحضر فقد عرفنا وجوب الكتابة لديوننا ذات القيمة، ولبيعنا وشرائنا، لكن إن كنا على سفر فماذا نصنع؟ أفتانا ربنا تعالى، قال: وإن كنتم يا معشر المؤمنين على سفر متمكنين منه فتركتم البلاد وراءكم، وتوغلتم في الفضاء والصحراء؛ إذ لو كانت البلاد قريبة وما نحن على سفر فإنا نرجع، لكن إذا كنا على سفر فماذا نصنع؟قال: وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا [البقرة:283] الرفقة ثلاثة نفر أو خمسة ما يوجد فيهم أحياناً كاتب يعرف الكتابة، أو وجدنا كاتباً فقال: ما عندنا قلم ولا قرطاس، فماذا نصنع؟ قال: العوض عن الكتابة التي تحفظ الديون ولا تضيع هو الرهان المقبوضة، والرهان: جمع رهن، تقول: من فضلك أعطني خمسة آلاف ريال وأنا وأنت في طريقنا إلى الشام، فيقول: نريد أن نتوثق من كونك ستردها علي، فتخرج من حقيبتك صك منزلك، أو بستانك، تقول: اجعل هذا عندك، فإذا ما سددت فبع ما في هذا الصك وخذ حقك أو دينك. قال تعالى: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] ما هو بالوهم، أو بعد شهر، تكون مقبوضة. ويجوز فيها الكفالة، يقول آخر: أنا ضامنه، وهو مليء وعنده أموال. فهذا التعليم الإلهي، أوجب الكتابة وإن كنا على سفر، فإن ما وجدنا من يكتب فماذا نصنع يا رب؟! علمنا، قال: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] ارهنه، ضع عنده ما يرد عليه ماله الذي أسلفكه وأقرضك إياه، إن كان بستاناً يأخذ من غلته حتى يستوفي دينه، إذا كان عمارة يأخذ أجرة السكن حتى يستوفي دينه.

معنى قوله تعالى: (فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه)

ثم قال الرحمن الرحيم: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283] لا إله إلا الله! أعظم برحمة الله تعالى الرحمن! لا عسر ولا مشقة، فإن أمن بعضكم بعضاً، وثق بعضكم ببعض، والمؤمنون أتقياء أولياء لله لا خيانة بينهم، فلا حاجة إلى الرهن.فإن أمن بعضكم بعضاً فليعط الذي أعطي أمانته وليتق الله ربه، فالديون كالسلم والقرض والبيوع توثق بالكتابة، وإن كنا في سفر وما وجدنا من يكتب، أو ما عندنا قلم فرهان، وإن كانت القلوب طيبة والنفوس متراضية وأمن بعضكم بعضاً فلا حاجة إلى الرهن.

معنى قوله تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)

ثم قال تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ [البقرة:283] يا من شهد في قضية من قضايا الدماء أو الأعراض أو الأموال! انتبه أن تجحد شهادتك وأن تكتمها، أو تزورها وتلبسها ثوباً غير ثوبها، شهادة الزور وشهادة الباطل والكذب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلم صلى الله عليه وسلم وهو يعلم الكتاب والحكمة، كان جالساً بين أصحابه، بل كان متكئاً يستريح من عناء الحياة، ثم أراد أن يعلمهم طريق السؤال والجواب، وهذا أمكن وأكثر استقراراً للمعرفة، أسلوب السؤال والجواب، ثم جاء الغرب يركض وقال: هذا أسلوب راق، هذا سبقكم محمد صلى الله عليه وسلم إليه، ما هو بجديد، قال: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! ) نبئنا؛ لم يقول: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ لأن الكبائر مدمرات، هي القاضية على المجتمع، ممزقة للوحدة، قاضية على طهارة الأرواح، هابطة بالأمة إلى الحضيض في الدنيا وإلى الجحيم في الآخرة.

عظيم جرم الشرك بالله تعالى

( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك بالله ) إي والله! لا أكبر من الشرك بالله، لم؟ لأن الشرك بالله معناه أنك سويته بالمخلوقات، وأصبحت تعطيه وتعطيهم بالسوية، لأنك تجاهلت ربوبيته للخلق كلهم، تجاهلت سر الوجود بكامله، وهو أن يعبد ويشكر، وأتيت بمخلوق مربوب وسويته به، وأصبحت تخافه وترتعد بين يديه، وتخر ساجداً له، وهذا لا ينبغي لمخلوق، هذا للخالق العظيم.فالشرك بالله اعتداء على حق الله، سلب حق الله وإعطاؤه للمخلوقات الهابطة، فكيف يقر هذا العقل؟ فأقبح أنواع الظلم وأسوؤها الشرك في عبادة الله، واقرءوا لذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، بل قال تعالى عن عيسى ابن مريم وهو يخطب في بني إسرائيل: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].ووقعت أمتنا في الشرك، يحلفون بكل شيء، بالقهوة وبالشاي، بالوقت وبالحليب، برأس أمه وبحياته، كل شيء إله! والله واحد فقط، وفي الحديث: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، ( فقد كفر ) من قال هذا؟ هل محمد بن عبد الوهاب ؟ لا والله! قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا في سنن الترمذي : ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، والمسلمون ما يعرفون معنى (أشرك)، ومعناه: عظم هذا المحلوف به بتعظيم اليمين فجعله مساوياً لله، لأن الحلف بالشيء تعظيم له، لولا التعظيم فكيف ستحلف به؟ فطرة الإنسان تقتضي هذا، فأشركت في عظمة الله مخلوقاً من مخلوقاته. فالشرك ما هو؟ هو قولك: يا ألله! يا رسول الله! يا رب! يا سيدي عبد القادر! فكم إلهاً تدعو؟ أو يا ألله! يا رسول الله! هل رسول الله إله مع الله تدعوه؟ هل يمد يده إليك لينقذك؟ أما اكتفيت بالله؟!هذا هو الشرك، تجد المؤمنة والمؤمن يقولان: يا رب! يا سيدي فلان! يا كذا، كأنها ما عرفت لا إله إلا الله، مع أنه لا يدخل إنسان الإسلام حتى يعرف لا إله إلا الله، من أول مرة يقول: لا معبود إلا الله، هذا علمي ويقيني، فينقضها حتى في الذبح، هذا الخروف لسيدي عبد القادر، يشتري قطيعاً من الغنم، ولأن السنة حافلة يقول: هذا الكبش لسيدي فلان، حتى يحفظ، أو ما تلده هذه النعجة لسيدي فلان! ويجعلونه لغير الله. فلا تلمنا لأننا ما عرفنا، إي والله ما عرفوا، مضت دهور وقرون لا يجتمعون على كتاب الله ولا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-01, 09:30 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (41)
الحلقة (48)


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (40)
الحلقة (47)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (135)
تفسير سورة البقرة (136)

شرع الله عز وجل للمتبايعين بأي نوع من أنواع البيوع المؤجلة أن يثبتا هذا البيع بعقد ويوثقاه بشهادة شاهدين عدلين، أو يقدم المشتري رهناً يستوثق به البائع ويحفظ به حقه، ثم بين سبحانه أن في هذا حفظاً للحقوق وسلامة للنفوس، فهو سبحانه وتعالى عليم بما في نفوس عباده، وما أسروه في نفوسهم معلوم عنده كالعلانية، ثم يحاسبهم عليه، فيغفر لمن يشاء سبحانه ويعذب من يشاء وهو العزيز الحكيم.

فضائل مجالس الذكر

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وأذكركم بالجوائز الرحمانية: الأولى جاءت في قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ). والثانية: ما علمتم من أن الملائكة تستغفر لنا إلى أن نصلي العشاء، ما من مؤمن صلى المغرب وجلس في بيت الله يذكر الله ويتعلم الطريق إليه حتى يصلي العشاء إلا والملائكة تستغفر له؛ تصلي فتقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث، فإذا انتقض وخرج وقفت الملائكة، فإن استمر على طهارته يسمع كلام الله، يتلوه، يذكر الله ويدعوه، وهو على وضوئه؛ فوالله! إن الملائكة لتصلي عليه، فتقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه حتى يخرج من المسجد.لو أردنا أن نحصل هذه الجائزة بالأموال فكم سننفق؟ والله! لو أنفقنا ما في الأرض جميعاً، فمن نحن وما نحن حتى تصلي علينا الملائكة الأطهار وباستمرار لساعة ونصف؟ سبحان الله! كيف نعرف هذا ونجلس في بيوتنا ومقاهينا وملاهينا؟ أمسحورون نحن أم مصابون؟وأعظم من ذلك ما جاء عن الحبيب صلى الله عليه وسلم في قوله: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة )، والله! لقد نزلت، تعال أريك هذا المجلس، والله! لو كان في مقهى أو ملهى لكان الضجيج والصياح والكلام، ولا تسأل، فالملائكة نزلت علينا. قال: ( وغشيتهم الرحمة )، إي والله، أسألكم بالله: هل يقع عذاب بينكم الآن؟ قال: ( وحفتهم الملائكة )، تدور بنا، وتسمع كلامنا، لو كنا قادرين على رؤيتها فوالله! لرأيناها.وأعظم من ذلك: ( وذكرهم الله فيمن عنده )، ما نحن ومن نحن حتى يحدث الملائكة عنا؟ الله أكبر! المسلمون ما عرفوا هذا، وأعداؤهم عرفوه، فعملوا على إجلائهم وإبعادهم عن بيوت الله منذ ثمانمائة سنة وهم في المقاهي والملاهي والعبث واللعب والدنيا، وحرموهم من مجالس بيوت الله، ومن ثم جهلنا، فلما جهلنا هبطنا، كنا في علياء السماء قادة وسادة وهداة للبشرية، شعارنا: الصدق والطهر والوفاء، فلصقنا بالأرض، وهم الذين أهبطونا، وما عرفنا بعد إلى الآن، فلا إله إلا الله! آمنا بالله.لو سألتني: يا شيخ! في بلادنا السرقة والزنا والكذب والغش والخداع والعداوات والأحزاب والجماعات، فدلنا يرحمك الله على العلاج السريع؟ فهل ممكن بالسحر، ما يستطيع السحر أن يجمعهم على قلب واحد، هل بالبوليس؟ بالرشاش؟ والله! ما تجمعهم تلك ولا تنفع، فما الذي يجمعهم؟ يجمعهم كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا اجتمعوا نساءً ورجالاً يطلبون الهدى ويتمنون العلو والرقي في الملكوت الأعلى، ويتعلمون الكتاب والحكمة، ليلة آية وليلة حديثاً، وكلهم شوق وكلهم حبٌ في الله وما عند الله، وهم ينمون نماءً عجباً في آدابهم، في أخلاقهم، في عقيدتهم، في كمالاتهم، في سنة واحدة تنفر الجريمة نفوراً كاملاً من بينهم، ومن شك فيما أقول فليجرب، وإن أراد اللوحة الواضحة فلينظر إلى أصحاب رسول الله وأولادهم وأحفادهم، هل رأت الدنيا منذ أن كانت أكمل منهم؟ والله! ما رأت، هل تعلموا بالهراوة أو بالرشاش، هل ألزموا كالشيوعيين؟ كيف تعلموا؟ كانوا يجلسون بعد صلاة المغرب، يوقفون المزرعة والمتجر، ويجتمعون على الكتاب والحكمة يزكون أنفسهم، هذا هو الطريق، فأعلموا الساسة والقادة وهداة البشرية أنه لا طريق للإكمال والإسعاد في الدنيا والآخرة إلا هذا الطريق، ومن قال: توجد طرق فليتفضل، فشلت الشيوعية أو لا؟ خربت العالم، خربت الدنيا كلها، أين الصليبية، أين الماسونية، أين الاشتراكية، أين الطرق والجماعات والأحزاب، ماذا أنتجت، أرونا نتاجها الطيب، دلونا على طهر أو صفاء؟ الجواب: لا شيء. إذاً: الكتاب والسنة، قال الله وقال رسوله.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة ...)

ها نحن مع قول ربنا جل جلاله وعظم سلطانه: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284].

علة تحريم الربا

سبق هذه الآية ما علمتم من تحريم الربا، وتهديد وإعلان للحرب على أهله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:278-280].فلم حرم الربا بهذه الصورة؟ لأن المجتمع رباني إسلامي؛ مجتمع كأنه أسرة واحدة في بيت واحد، فهل المسلم المؤمن يأكل مال أخيه، يقول: أقرضني، فيقول: أقرضك بفائدة؟ أسلفني، فيقول: أسلفك بفائدة؟ أيجوز هذا؟ لو فعلوا هذا ما بقيت مودة ولا محبة ولا تلاق، وما بقي من ينظر إلى الله والدار الآخرة.إذاً: حرم الله الربا؛ لأنه يمنع ويحول دون تلاقي المؤمنين وتحابهم وتعاونهم، فإذا بطل الربا حلت محله المؤسسات الإسلامية: المضاربة، الشركات؛ تعمل على مودة وإخاء، وتتعاون على الإنتاج وتوفير الطعام والشراب والكساء للمؤمنين، وقد عرف هذا اليهود، فقالوا: هيا نمزق الصلات بين المسلمين. أولاً: جهلونا بربنا ومعادنا ولقائنا معه، فما أصبح من يصدق في حديثه، المتكلم يتكلم إلى عهد قريب والسامعون يقولون: هذا عميل، هذا وهابي، هذا كذا، والله! لكما تسمعون، يقولون: هذا ضد الصوفية، هذا ضد كذا! هذه هي الأخلاق الهابطة، من نشرها بيننا، من نماها وغرسها؟ أعداء الإسلام: اليهود والنصارى والمجوس، ومددنا أعناقنا واستجبنا لهم، فجهلونا، فأصبحنا إذا استقرضتُ من أخي فقلت: أقرضني كذا؛ فإنه يمضي الشهران والعام والثلاثة وما أرى وجهه، فمن يقرضنا إذاً؟ نقول: هيا نتعاون على إنشاء دكان أو مزرعة ننتفع بها وننفع المسلمين، فخذوا المال أيها الشبان وأنتجوا وأعطونا الربع معكم، فيأكلونه ويعبثون به ويقولون: مع الأسف أفلست التجارة وعلينا ديون! فمن يستطيع بعد ذلك أن يعطي ماله لنا ويقول: اعملوا والربح بيننا؟إذاً: ماذا نصنع؟ المتجه إلى الربا، البنك يعطيك ما تحب، تحب أن يعطيك مليوناً فإنه يعطيك مليوناً، وتطلب عشرة فيعطيك عشرة، وترد المال وإلا فستمزق في السجن، وهكذا. أرأيتم ما فعلوا بنا، ومددنا أعناقنا وسلمنا، فما علة هذا السكون والهبوط؟ إنها الجهل، أبعدونا عن معرفة الله وما عنده وما لديه، فوقع الذي وقع، فانظر إلى قيمة المال: ( كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله )، ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه ).إذاً: فجاءت هذه الآية تقضي على الربا بين المسلمين وتنهيه، خذوا رءوس أموالكم واسحبوها فقط، وإذا كان لكم دين على آخرين فتنازلوا وتصدقوا فذلك أفضل لكم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (40)
الحلقة (47)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (135)

الأمر بتوثيق الدين بالكتابة والإشهاد

ثم جاءت الآية الطويلة النورانية التي تطلب منا أن نكتب الديون ونشهد عليها، وحرام عليك أن يأتيك من يقول: اكتب بيننا صكاً بكذا فتقول: لا؛ أنا مشغول، لا يحل لك، واذكر نعمة الله عليك كما علمك الله الكتابة، وأصبحت كاتباً، دعاك أخوك المؤمن أن تكتب له فاكتب. والذي يملل إن كان ضعيفاً ما يستطيع فإنه يتولى عنه من يقدر على الإملاء ويملي، ويملل الذي عليه الحق ليعترف بما عليه في ذمته من الديون، ولنشهد على ذلك رجلين، فإن لمن نجد الرجال ووجدنا امرأتين جعلناهما بمثابة الرجل؛ للتأكد الكتابة بالإشهاد، لم؟ حتى لا يحدث بين المسلمين شيء اسمه غضب وعدم رضا عن بعضهم، حتى لا يوجد بين المسلمين عداوة، ونفرة، وعدم حب وولاء، وكل الأسباب التي توجد العداوة بين المسلمين وتمسح لوحة الحب والولاء بينهم محرمة بالكتاب والسنة.

تحصيل العلم النافع بطلب التقوى

وأخيراً: قال لنا: اتقوا الله ويعلمكم الله، إذا لم تعلموا فقد أرشدكم إلى تقواه فستصبحون تعلمون، وبينت لكم سر هذه: فأيما مؤمن أو مؤمنة رغب في أن يتقي الله عز وجل؛ لأنه علم أن مصيره إلى الله، أن غناه، فقره، صحته، مرضه بيد الله، علم أن من لم يتق الله غضب عليه ورماه في أتون الجحيم لا يخرج منها أبداً، فوجد نفسه في حاجة إلى تقوى الله ليتقي بها عذابه وسخطه، هنا سوف يسهر ويبحث عن أهل العلم ويسألهم: ما الذي يحب ربي حتى أفعله ليرضى عني؟ قالوا: الله يحب الصدق فلا تكذب، فوالله! لا يكذب أبداً؛ لأنه أراد أن يتقي الله ليواليه وليقيه المكاره.وسأل عما يحب الله تعالى فقالوا: إن الله يحب أن تقول بعد كل صلاة: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثاً وثلاثين مرة، فوالله! ما يتركها حتى يموت. ماذا يحب ربي؟ قالوا: يحب الإحسان ويحب المحسنين، وما معنى الإحسان؟ قالوا: إذا كنت تعبد فأحسن العبادة حتى تنتج لك النور، إذا كنت تتناول الطعام فأحسن تناوله بقلة اللقمة وبمضغها مضغاً جيداً، وبعدم الإسراف وامتلاء البطن، حتى الكلمة الطيبة والابتسامة بالوجه الباسم، ولا يزال يسأل عن محاب الله فيعلم ويعمل، ويسأل عن مساخط الله ومكارهه، فيعلم ويترك، فوالله! ما تمضي عليه سنة إلا وهو من أتقياء البشر، ويتم وعد الله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].

نور التقوى فرقان بين الحق والباطل

اتق الله ويعلمك الله خفايا الأمور وبواطنها، يريك عجائب الحياة؛ لأن التقوى تولد طاقة قوية من الأنوار الإلهية، يصبح صاحب هذا النور يعرف حتى التجارة هل تُربح أو لا تربح، أراد أن يبحث في الأرض ليزرع فيعرف بإذن الله هل تنبت أو لا؟ وبرهان هذا في ذلكم النداء العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، والله! لو يجتمع ساسة اليهود والنصارى والمجوس بين رباني لما استطاعوا أن يؤثروا فيه، وليهزمنهم ويكشف سوأتهم؛ لأنه ذو نور وهم أصحاب ظلمة؛ لأنه بصير وهم عميان، فتركنا هذا وعدلنا عنه لنتعلم السياسة في كليات الملاحدة والعلمانيين! قد تقول: يا شيخ! كيف تقول هذا، هذا ما وقع! فأقول: هذا الذي يجري في عالم الإسلام، أما أهل النور فانعدموا، ثانياً: إن وجد منهم أحد فما يؤبه له، يقال عنه: هذا أفكاره هابطة ورجعية ومتخلف، ما شاهد العالم، والناس وصلوا إلى القمر .. إلخ.يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، ما الفرقان؟ نور قوي تفرق به بين الملتبسات والمتشابهات، وتعرف الحق من الباطل والنافع من الضار والخير من الشر، ويجهله العميان عميان البصائر ولا يعرفونه، ومن شك من السامعين فليتصفح لوحة العالم وينظر إلى الخبث والدمار والشر والفساد والفقر والبلاء والحروب والدماء، أين الساسة والسياسيون إذاً؟ أين وصلوا بأممهم؟ هل ارتقوا؟ يبولون من قيام، ويأكلون الدمار والخراب، الحشيشة تباع بالسيارات وبالبواخر، والإيدز نتيجة اللواط والزنا، الإيدز -والعياذ بالله- كلمة خبيثة.

دولة عبد العزيز أنموذج لأثر تطبيق الكتاب والسنة

ما هي الدولة الراقية التي تريدون أن تكونوا مثلها؟ أسبانيا؟ أعوذ بالله! بلجيكا؟ اليابان؟ أين هي؟ ما عندنا إلا هذه الدولة التي أنشأها الله وأوجد عبد العزيز وأولاده لتكون الحجة لله تعالى، والله! لو سألت علماءنا ما عرفوا سر هذه، السر: لتقوم الحجة لله على الناس، اليوم الذي قالوا فيه: لن يسود الإسلام ولن يحكم، ولن يحقق أمناً ولا طهراً ولا رخاء ولا عدلاً، وبدأنا ندرس القوانين ونطبقها في ديارنا الإسلامية، فجاء الله بهذه الدولة، ما عندهم فلاسفة ولا مناطقة ولا سياسيون، والله! ما كان ذلك، إنما هو فقط نور الله في الكتاب والسنة، فتحقق في هذه الديار أمن والله! ما تحقق في بلد في العالم بكامله، ولا آلات سرية ولا حربية، والله! لقد عشنا أياماً وبيوتنا بلا أبواب، والله! لقد رأيتنا نشاهد دكاكين الذهب ما عليها إلا خرقة من قماش، تحقق أمن ما عرفته الدنيا، وتحقق بعد الأمن طهر وصفاء، قد تعيش سنة ما تسمع بفلان زنا، أو فلان فعل كذا، كيف تحقق هذا؟ بالمنطق؟ بالدراسة السياسية؟ بالكتاب والسنة يا هؤلاء، قال الله وقال رسوله، ما بقيت قبة تعبد ولا قبر ولا شجرة، ولا بقيت حزبية ولا جماعات ولا عنصريات ولا مذهبية، أقامها الله عز وجل لتقوم الحجة له يوم القيامة، فإذا قالوا: ما عرفنا، ما ظننا أن هذا يحقق هذا؛ كان الجواب: أما شاهدتم؟ومما يدل على هبوطنا أنه يوم ظهرت هذه الدولة في الأفق كان العالم الإسلامي مستعمراً، أي: خاضعاً لدول الغرب كبريطانيا وبلجيكا وأسبانيا وفرنسا، فحكموهم وسادوهم؛ لأنهم أعرضوا عن الله وكتابه، كان المفروض -واذكروا هذا ولعلكم يوم القيامة لا تنسونه- كان المفروض أنه لما ظهرت هذه الدويلة وساد الطهر والصفاء، والرجل يمشي من أقصى الشرق والغرب فيها لا يخاف إلا الله، كان على كل إقليم يستقل من فرنسا، من إيطاليا، من أسبانيا، من بريطانيا، أن يأتي رجاله الصلحاء فيقولوا: يا عبد العزيز ، أو يا ولده ممن ناب منابه! لقد استقل القطر الفلاني، فلينظم إلى دولة الإسلام، ابعثوا لنا من يطبق شريعة الله، ابعثوا لنا رجال الأمر بالمعروف لنكون هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تصبح تلك القطعة من رقعة العالم الإسلامي وذلك البلد كالمدينة النبوية يطبق فيه شرع الله ويسوده الكتاب والسنة، وانتهت المذهبية والعنصرية والخلافات، وعاشوا أطهاراً أتقياء، فهل فعلوا هذا؟ ما استقللنا في يوم واحد، بل في عامين وثلاثة استقل الإقليم الفلاني، وبعد عامين أو خمسة استقل الإقليم الفلاني، وما جاء أهل إقليم وقالوا فقط: نريد قضاة، بل استقل إقليم وطلبوا القضاة من بريطانيا، والله العظيم! بآذاننا نسمع، استقل إقليم فطلبوا من بريطانيا قضاة بريطانيين في بلد عربي إسلامي! نبكي ولا نضحك بحقائق كالشمس، ومن ثم استقل العالم الإسلامي على نظام غربي كافر؛ دويلات هنا وهناك، لا تلاقي ولا حب!وأزيد: ما كفاهم أنهم ما انضموا إلى السعودية وطالبوا بالقضاء الإسلامي؛ بل يعلنون عن بغضها والسخرية بها والاستهزاء بها، سمعنا هذا بآذاننا في الشرق والغرب! فلا إله إلا الله، أين يُذهب بنا؟!انتبهوا أن تظنوا أن الشيخ يودعكم في هذه الأيام ويكذب، والله! لا أكذب، وإني على علم مما أقول، فانزعوا من أذهانكم تلك الضلالات.وبعد: ما هي الحصيلة؟ أنتم تعرفون عالمكم الإسلامي، هل هو في سعادة؟ في طهر وصفاء؟ النار تشتعل من بلد إلى بلد، ولن تنطفئ أبداً حتى تحرق كل شيء، إلا إذا أسلمنا قلوبنا ووجوهنا لله، واطرحنا بين يديه، وقلنا: احكم ربنا فينا بما تشاء. فيحكمنا بوحيه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا بأهل الإقليم كجسم واحد، لا عداوة لا حسد لا بغضاء لا باطل لا منكر.

التقوى وسيلة جني ثمار الولاية

قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:282] وعد من الله أو لا؟ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]، اعزم على أن تتقي الله فوالله! لتتعلمن، وستصبح عالماً عارفاً بمحاب الله ومساخطه، وإذا علمتَ واتقيت فالجائزة العظمى معروفة؛ هل هي جائزة نوبل؟! كلا. بل تصبح ولي الله في الأرض، تتحقق لك ولاية الله، تصبح أفضل من عبد القادر الجيلاني ، تصبح ولي الله، إذا رفعت يديك إليه ما ردهما خائبتين، تصبح لا تحب إلا ما يحب الله، ولا تكره إلا ما يكره الله، وهل من فوز أعظم من هذا الفوز؟ أسمعكم الإعلان الإلهي في هذا الباب: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، أَلا [يونس:62] ونحن نقول: ألو، بناتنا وأطفالنا يحفظون: ألو.. ألو! أليس كذلك؟ والقرآن سبق (ألو) بألف وأربعمائة سنة، وكل العرب يفهمون (ألا)، بمعنى أنها أداة استفتاح وتنبيه، هل أنت تسمع، هل أنت واعٍ لألقي إليك الكلام أو لا؟ أما (ألو) فسألنا عنها بالفرنسية فما عرفوها، بالبريطانية بالأمريكانية ما عرفوها، كل ما قالوه أن (ألو) هكذا خلقت مع التلفون!اسمع هذا البيان الرسمي الإلهي: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، إذا نفى الله عنهم والحزن فهل هناك من يخيفهم أو يحزنهم؟ والله! ما كان، من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، الذين آمنوا، الإيمان الشرعي الحقيقي كما بينه الله وهدى إليه عباده، وكانوا طول حياتهم يتقونه، يتقون الله، فالكلمة ما يقولها حتى يعلم أن الله أذن له بأن يقولها، واللقمة ما يلقيها في فيه حتى يعلم أن الله أذن له فيها، والمشية يمشيها لا يمشي تلك المشية ويتحرك تلك الحركة حتى يعلم أن الله أذن له في ذلك، فإذا لم يأذن له لم يمش تلك المشية، أولئك الذين يعيشون على تقوى الله، ما هي جوائزهم؟ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت:30]، وهم على سرير الموت أو في غرفة الإنعاش، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:64]، تقبض الروح وقبل أن تقبض تبتسم وتضحك، وملك الموت يسلم عليك، وأعوانه معه، وترفع إلى الملكوت الأعلى، فيرحب بها أهل كل سماء حتى ينتهوا بها إلى العرش، ثم تدون في ديوان عليين، هؤلاء هم أولياء الله.

آثار غياب المفهوم الصحيح لمعنى الولي
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (40)
الحلقة (47)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة البقرة (135)

هل تعرفون أولياء الله في بلادكم من هم؟ هل ولي الله مصري، سوري، عراقي، باكستاني، جزائري؟ من هم أولياء الله؟ أصحاب القباب والتوابيت على القبور، فالشموع والعكوف حولها والذبح والنذر لها، والاستغاثة بها، والحلف بها، هؤلاء أولياء الله عند كثير من الناس، ولكن هل يوجد أولياء لله أحياء في السوق يبيعون ويشترون؟ ما يعرفون ولياً أبداً إلا إذا مات وعبدوه، فلا إله إلا الله! ماذا أصابنا؟أيها المستمعون! ما سر هذا الهبوط؟ إنه الجهل، من أجل أن يزني الرجل بامرأة أخيه من المسلمين، من أجل أن يسبه ويشتمه، من أجل أن يصفعه على خده، من أجل أن يسلبه ماله؛ لأنهم لو كانوا يؤمنون بأني أنا ولي الله سيرتعدون أمامي فما يسبونني ويشتمونني، فضلاً عن أن يزنوا بامرأتي أو يذبحوا ولدي، لكن العدو سلب الولاية عن الأحياء ووضعها على الأموات؛ ليعبد الأموات أولاً وتكفر الأمة وتشرك بالله حتى يتمكنوا من الركوب على ظهرها كما فعلوا.ثانياً: فشا بيننا الزنا، الربا، الغش، الخداع، السب، الشتم كأننا أعداء، ولو عرفنا أن كل مؤمن ولي الله فما نستطيع أن نقول له كلمة تسيء إليه أبداً، فضلاً عن أن نفجر بابنته أو امرأته، فضلاً عن أن نحتال على ماله ونأخذه، فسلبوا هذه الصفة من الأحياء ووضعوها للأموات لنعبد الأموات ويأكل بعضنا بعضاً، فهل فهم السامعون والسامعات هذا أو لا؟وإن شككتم فهيا لندخل إلى إسطنبول غداً، فأول تركي نلقاه نقول له: من فضلك نحن جئنا من بلاد بعيدة، دلنا على ولي من أولياء الله في هذه البلاد. فوالله! ما يدلنا إلا على قبر، ولا يعرف أن ولياً بين الناس، فماذا نقول؟ إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرنا في مصيبتنا.

مشروعية أخذ الرهن في الدين حيث لا تمكن كتابته

ثم قال الله تعالى لنا: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].أذن الله تعالى لنا إن كنا مسافرين في طريقنا إلى لندن أو أمريكا أو الهند واحتجنا إلى قرض من إخواننا، فتقول: يا فلان! أقرضني فما عندي شيء، أو نفد ما عندي، فهذا القرض يجوز، ونكتبه، وإذا ما وجدنا من يكتب وكلنا عوام، أو ما عندنا قلم ولا مداد ولا حبر والفرصة ضيقة فماذا نصنع؟ نرهن، أعطيه ثوبي، أو عمامتي، أو سيارتي، أقول: دع هذا عندك حتى أسدد، فهذا الرهن أذن الله فيه تطييباً لخواطرنا، وتطميناً لنفوسنا، وإبقاءً على المودة والمحبة والإخاء بيننا، فقال عز من قائل: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [البقرة:283] فلا حاجة إلى الرهن، إذا وثقتَ في ووثقتُ فيك وعرفتني وعرفتك فلا حاجة إلى الرهن، لكن فيما لو حدث أنني ما أعرفه، ما جربته، أخاف أن يأخذ نقودي، إذاً: ارهن شيئاً عندي، فهذا تعليم الله تعالى. وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].

حرمة كتمان الشهادة وجريمة شهادة الزور

ثم قال تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ [البقرة:283] يا رب! إننا هبطنا في كثير من المحاكم يحوم حولها هؤلاء الصعاليك، وإذا أراد أحدهم شهادة قال: تعال، فيشهد معك بعشرة ريالات، يدخل معك فيقول: والله! أنا حاضر القضية، ويأتي بأبناء عمه وقبيلته يشهدون بالباطل في المحكمة، ويسكت بعضهم عن بعض، فيشهدون بالزور، فلا تلمهم، ما عرفوا.
المعنى البلاغي في إسناد الإثم إلى القلب

(( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا ))[البقرة:283] منكم (( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ

))[البقرة:283]، ما قال: فإنه آثم، بل قلبه مصدر حياته، المحطة اللاسلكية التي تتصل بالعالم العلوي والسفلي تخرب، وإذا فسد القلب فسد كل شيء، وفي هذا يقول الحكيم أستاذ الحكمة صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )، من هذا؟ أستاذ الحكمة، لو يجتمع علماء النفس والسياسة لينقضوا هذه القضية فوالله ما استطاعوا ولن يستطيعوا. فإذا فسد القلب فاللسان يهذي ويقول الباطل، العين تنظر، الفرج يطلب، وهكذا، فالجوارح كلها خاضعة للقلب، فما أذن له فعل، وما لم يأذن له لا يفعل، فسبحان الله! فلم قال: (( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ))[البقرة:283]، ما قال: (فإنه آثم)؟ لأن هذه الشهادة التي تؤخذ بها حقوق المؤمنين وتهدر بها تنصب على القلب فتعميه، يصبح لا يفرق بين الخير والشر ولا بين الحق والباطل، وإذا فسد القلب فسد كل شيء والعياذ بالله.

خطر شهادة الزور في الإسلام

وقد ذكرنا بعض الحديث في هذه القضية، حيث كان صلى الله عليه وسلم جالساً وحوله أصحابه، كان متكئاً مستريحاً لكثرة أعماله، ثم أراد أن يعلمهم ولا يفوت الوقت بدون تعليم وهو جالس، فقال: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين )، لماذا جمع بين الشرك بالله وعقوق الوالدين؛ لأن الشرك بالله هضم لحق الله عز وجل، أخذت حق الله الخالق الرازق المدبر، واهب الحياة، وأعطيتها لصعلوك من صعاليك الخلق، أي ظلم أعظم من هذا؟ وعقوق الوالدين لأن الوالدين أصل وجودك وعلة وجودك، أنت من دمهما ولحمهما ثم تعقهما؟ لا خير فيك بالمرة، وأنت شر الخلق.قال: ( الشرك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور )، حتى ارتعدت فرائصهم وقالوا: ( قلنا: ليته سكت ) خافوا؛ لأن هذه دعامة المجتمع الذي يحمل راية الحق وينشرها في العالم، إذا أصبحوا يكذبون ويزورون من أجل المادة فهل سيحملون راية لا إله إلا الله؟ والله! ما يستطيعون، أرأيتم العجب العجاب؟

معنى قوله تعالى: (والله بما تعملون عليم)

إذاً: قال تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283].إياك أن تفهم أن هذا الكلام ما يصيبك أنت؛ لأنك تعمل في الخفاء، وتشهد شهادة بدون أن يطلع عليها أحد، لا، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283]، ما تعملونه في السر والعلن، في الحضر، في السفر، في الجلاء، في الخفاء معلوم له؛ لأننا بين يديه كالبعوضة، والله! لا يخفى عليه من أمرنا شيء أبداً، فلهذا قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وإن أردت أن تفهم فامش في رابعة النهار، وقل: أنا بعيد من الشمس فالشمس لا تراني! فإذا كانت السماوات والأرضون كلها يضعها الجبار في يده فأين البعد؟

تفسير قوله تعالى: (لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ...)

ثم قال تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:284] ما هو في حاجة إلى أموالكم، هل يحرم الربا، يأمر بالكتابة، يأمر بالقرض، يأمر بكذا؛ لأنه في حاجة إلى المال؟! إياك أن يخطر ببالك ذلك، هو في غنىً كامل؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض، وإنما هذه التوجيهات هي من أجلكم أنتم؛ لتتم سعادتكم وكمالكم، أما هو فله ما في السماوات وما في الأرض، هذه أول خطوة، ونحن سوف نموت ولا نذهب إلى البقيع إلا بخرقة الكتان، فأين المال؟

معنى قوله تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ...)

ثم جاء التوقيع الأخير: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:284] أي: تظهروه وتعربوا عنه وتفصحوا، أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة:284] وتجحدوه وتكتموه يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] الحساب الدقيق، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284].هذه الآية لما نزلت في أولئك الأصحاب أصحاب تلك الأنوار؛ لما نزلت اضطربت نفوسهم، قالوا: كيف ننجح؟ إذا كنا نؤاخذ بما في داخل أنفسنا فمن يفوز منا؟ فجاءوا إلى الرسول وبركوا على ركبهم بين يديه، وقالوا: يا رسول الله! أمرنا بالجهاد فجاهدنا، وبالصلاة فصلينا، وبالصدقة فتصدقنا، والآن إذا كنا نؤاخذ بما في صدورنا فمن ينجح منا؟ من ينجو يا رسول الله؟ هذا الوفد الذي جاء يبكي، ما جاء ليحاج، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما زدتم أن قلتم كما قال أهل الكتاب: سمعنا وعصينا، قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا، فقالوها: سمعنا وأطعنا وسلمنا )، وهدأت القلوب، ونزلت الآية بعدها التي سندرسها إن شاء الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، قال الله: نعم، رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال: نعم.. إلى آخر الآية؛ لأنهم حقاً صدقوا الله ورسوله، وأسلموا لله قلوبهم ووجوههم، وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285]، لو أمرنا بذبح أولادنا لذبحناهم، ما لنا رأي مع الله.إذاً: فنزلت هذه الآيات والرسول يخبر عنها أنها نزلت من كنز تحت العرش، ولهذا من تلاها عند نومه فكأنما قام الليل، ولهذا لن نتركها ما حيينا.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-04, 02:07 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (42)
الحلقة (49)



تفسير سورة البقرة (137)


من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، فهو سبحانه لما أمرهم بأمره كلفهم بالإتيان بالمستطاع في ذلك، ولما نهاهم عن المحرمات والمكروهات وغيرها لم يكلفهم عدم ورودها في خواطرهم أو مرورها على أذهانهم، ولم يحاسبهم على شيء من ذلك، كما أنه سبحانه لم يؤاخذ عباده على النسيان والخطأ، ورفع عنهم التشديد في الأحكام الذي ابتلي به من قبلهم من العصاة والمتمردين، وهيأ لهم سبحانه أسباب التوبة والرجوع بعد العصيان، ومكنهم ونصرهم على عدوه وعدوهم.

تابع تفسير قوله تعالى: (لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بتلكم الجوائز التي جاءت على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم:الأولى: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).والثانية: أن من صلى صلاة المغرب وجلس يذكر الله حتى صلى العشاء فالملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث، فإن أحدث وانتقض وضوءه خرج للوضوء وتركت الملائكة الصلاة عليه، وهذا حاصل بحمد الله لأهل الحلقة، فإنهم صلوا المغرب وهم ينتظرون صلاة العشاء.وثالث الجوائز وأعظمها: ما قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا ما رجونا يا رب العالمين. ها نحن مع هذه الآيات أو مع هاتين الآيتين الكريمتين من خاتمة سورة البقرة، فقد ابتدأناها من أولها، وأعاننا الله حتى نختمها في هذه الليلة المباركة.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:285-286].أذكركم بفضيلة هاتين الآيتين، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من قرأهما عند نومه في ليلته كفتاه، أي: كفتاه قيام الليل ومن الشياطين، وورد أن من قرأها مرتين في الليلة الواحدة كفتاه من قيام الليل ومن الشيطان؛ وذلكم أن هاتين الآيتين لم يعطهما نبي سوى نبينا صلى الله عليه وسلم كما أخبر بذلك عن نفسه، وأنهما كانتا في كنز تحت العرش، فأعطيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته.

المناسبة بين قوله تعالى: (لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ...) مع آية الدين وآيات الربا

واذكروا ما تقدم لنا من قول الله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284]، لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:284] من كل الكائنات؛ يملكها ويتصرف فيها، إذ هو الموجد لها، فإن منعكم من تصرف خاص في الأموال فهل ستغضبون؟ لم وهو ماله، فما أذن فيه فتصرفوا فيه، وما لم يأذن فيه فلا حق لكم في المطالبة به، فكيف إذا منع وحظر وحرم وتتعدى ذلك وتفعل ما نهى عنه وحرمه الله، فهذا تعقيب على آية الدين بعد آية الربا وتحريمه، فقال تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:284]، ثم قال تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:284] والعياذ بالله من النفاق، من الكفر، من البغض، من الحسد، تظهرونه أو تخفونه وتسرونه في داخل نفوسكم، فإنه تعالى يحاسب به، ثم بعد ذلك يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وهو على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء. وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:284]، أي: تظهرونه علناً وتنطقون بألسنتكم وتباشرونه بأعمالكم وجوارحكم، فيحاسبكم به ويجزيكم، إلا أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.

سبب نزول الآيتين من خواتيم سورة البقرة وعلاقتهما بالآية قبلهما

هذه الآية لما نزلت وسمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تضايقت نفوسهم وارتجت، وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وبركوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله! أمرنا بالصلاة فصلينا، بالجهاد فجاهدنا، بالصدقة فتصدقنا، والآن إذا كنا نؤاخذ بما في نفوسنا فلن ينجو منا أحد؟ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب: سمعنا وعصينا، قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا )، فقالوها وذلت بها أنفسهم، ونطقت بها ألسنتهم، فلما رأى الله سبحانه وتعالى ذلك منهم أنزل هاتين الآيتين، وفيهما قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، فقال تعالى: نعم لا أؤاخذكم بما نسيتكم أو أخطأتم.. الآية، والحمد لله.وهنا يفسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فيقول: ( إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم )، تجاوز الله عنا فيما تحدثت به أنفسنا ما لم نقل بألسنتنا أو نعمل بجوارحنا.

أحكام حديث النفس

ثم لا بد من بعض البيان، فما حدثت به النفس هل المراد به ما يستقر ويصاحبه عزم وإرادة على أن يفعل، أو مجرد خاطر وهاجس ووسواس؟ الذي يبدو -والله أعلم- أن ما في النفس إن كان كفراً، إن كان بغضاً لما يحب الله ورسوله، إن كان تكذيباً لله ورسوله كحال المنافقين، أما كانوا يضمرون الكفر، ويضمرون عداوة الرسول والمؤمنين وبغض شريعة الله؟ فهذا يؤاخذ العبد به، إلا إذا تاب منه وتخلى عنه وأعرض، أما إذا أصر على بغضه للإسلام والمسلمين في نفسه وإن لم ينطق، وإذا أصر على تكذيب الله عز وجل ولو في قضية من القضايا، أو تكذيب رسوله؛ فهذا هو الكفر بعينه.ويبقى ما دون الكفر، مثلاً: خطر ببالك أن ترتكب معصية من المعاصي دون الكفر والشرك، هذه المعصية هممت بها، ثم تركتها لله؛ خوفاً من الله، حياءً من الله، حفاظاً على طهارة روحك وزكاة نفسك، فهذه تكتب لك حسنة، وإن فعلتها تكتب سيئة.وعلى العكس: هممت أن تفعل حسنة من الحسنات؛ صلاة أو صدقة أو ما شاء الله من أنواع البر والخير، ثم لم تعملها، حال حائل دونها، فتكتب لك حسنة، فإن عملتها كتبت عشر حسنات، وهذا من إفضال الله تعالى على هذه الأمة. يبقى الذي بكى منه الصحابة، أفصحوا للرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه شيئاً لأن يخر من عنان السماء إلى الأرض خير له من أن ينطق به؟ وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقول الشيطان: هذا الله خلق السماوات والأرض، فمن خلق الله؟ فإذا وحد أحدكم ذلك في نفسه فليستعذ بالله وليقل: آمنت بالله، آمنت بالله، آمنت بالله )، ثم أعلمهم أن هذا لا يكون إلا لأهل الإيمان، هذه الهواجس والخواطر التي تتنافى مع أصول الدين وعقائد الإسلام الشيطان هو الذي ينفخها في قلب العبد ويجعلها تدور على قلبه، فهي من مس الشيطان، فإذا وجد ذلك عبد الله أو أمة الله قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، آمنت بالله، آمنت بالله، آمنت بالله، ويعرض عنه فلا يضره ذلك.إذاً: ما كان عقيدة في النفس من الشرك والكفر وبغض الله ورسوله والمؤمنين فهذا وإن لم يفعل فسوف يجزى به؛ لأنه بإرادته، أما ما كان خاطراً يخطر بالبال ولا يستمر، وإن عاد عاد العبد إلى طرده بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ فإن هذا لا يضره أبداً، وهذا الحديث الصحيح يوضح القضية تمام التوضيح: ( إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم )، فمن قال أو نطق سجل ذلك عليه وأخذ به، ومن عمل ولو لم ينطق أخذ بذلك وعذب به، إلا أن يغفر الله لمن تاب.
تفسير قوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ...)


شرف الصحابة الكرام باقتران إيمانهم بإيمان رسول الله

قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ [البقرة:285]، والكرامة الإلهية التي أكرم الله بها أولئك الأصحاب أن قرن إيمانهم بإيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ [البقرة:285]، إذ المؤمنون ما إن قال لهم الرسول: لا تكونوا كاليهود الذين يقولون: سمعنا وعصينا، قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا، ما إن قال لهم ذلك حتى قالوها ولانت بها ألسنتهم وخضعت لها قلوبهم، فهذا إيمان، فأخبر تعالى عن واقعهم: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285] من الشرائع والأحكام كلها، والمؤمنون كذلك، معناه: أنه رضيهم ورضي بإيمانهم وقبل ذلتهم وخضوعهم له، فكان في ذلك شرف عظيم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين إلى يوم القيامة، المؤمنين صادقي الإيمان. آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ [البقرة:285]، أي: كل فريق وكل واحد منهم؛ كل من الرسول والمؤمنين آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، هذه بعض أركان الإيمان، وأركان الإيمان كما هو مقرر ومعلوم للمؤمنين والمؤمنات ستة أركان: الإيمان بالله، الإيمان بملائكته، الإيمان بكتبه، الإيمان برسله، الإيمان بالقضاء والقدر، الإيمان المنجي المنقذ من الكفر الذي يجمع أصحابه مع الرسل والأنبياء والمؤمنين مبناه ستة أركان، لو سقط ركن فقط لبطل الإيمان؛ وحديث جبريل معلوم ومعروف، إذ جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه، ودخل وشق الحلقة وانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم الناس، وسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، فأجاب الرسول وجبريل يصدق، ويقول: صدقت.. صدقت.

معنى قوله تعالى: (لا نفرق بين أحد من رسله)

ثم تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285]، إذ اليهود ما آمنوا بعيسى ولا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلم يفرقون بين رسول ورسول؟ فالذي يكفر برسول واحد، أو بنبي واحد يعتبر كافراً بالجميع، والرسل ثلاثمائة وأربعة عشر، من كذب رسولاً ولم يصدقه، أنكر رسالته ولم يؤمن بها؛ فإنه يصبح كافراً بالإجماع ولا حظ له في الإسلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء والرسل، وكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم وما ارتضوا به، فهم -والله- كافرون.المهم في القضية: أن الذي يكذب برسول أو نبي يعتبر كافراً ولا حظ له في الإسلام، ولهذا قال تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، وكالرسل الكتب، ما علمنا منها وما لم نعلم، وما نزل ذكره منها في القرآن هو: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن الكريم، هذه أربعة كتب، ما وعدا ذلك كصحف إبراهيم عشر صحف، وصحف موسى غير التوراة، وصحف شيث، فنحن نؤمن بكل ما أنزل الله من كتاب، لا نقول: هذا الكتاب نزل على نبي ليس هو بنبي لنا فلا نؤمن به، فعقيدة المسلم الحق أنه يصدق بكل ما أنزل الله من كتاب أو صحيفة، الكتب الأربعة لا يحل جهلها؛ لأنها في القرآن الكريم بأسمائها: التوراة، والإنجيل، والزبور، فالتوراة: أنزلها الله على موسى عليه السلام، والزبور: أنزله على داود عليه السلام، والإنجيل: أنزله على عيسى عليه السلام، والقرآن أو الفرقان: أنزله على خاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285]، هذا هو معتقد المؤمنين مع رسولهم، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285].

معنى قوله تعالى: (وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)

وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، قالوها وأذعنوا لحكم الله وذلوا، إذاً: فأكرمهم الله أن جمع بينهم وبين رسوله في الإيمان: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، أنزلها الله تعالى وقد رددتها ألسنتهم وآمنوا بها.إذاً: إذا بلغك عن الله أو رسوله شيء فهل يمكنك أن تقول: لا أقبل هذا؟ أو تقول: سمعت ما قلت عن الله والرسول، ولكن لا أعمل أنا بهذا؟! صاحب هذا الموقف ما هو بالمؤمن، لا بد أن تقول: سمعت ما جاء عن الله ربي، وعن رسول الله نبيي ورسولي وأطعت، إن كان أمراً فعلت، وإن كان نهياً تركت في حدود طاقتك وما تستطيعه. فالصحابة قالوا: سمعنا وأطعنا، وطلبوا غفران الله لهم فقالوا: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
تفسير قوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ...)

حكم الوساوس في العقائد وعلاجها

ثم كان الدواء في قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فهل الوساوس والهواجس والخواطر يستطيع الإنسان أن ينفيها، هل له مناعة فلا تخطر بباله؟ لا يملك أحد هذا، إذ هذا ليس في طاقته ولا في قدرته، يأتيه ذلك من حيث لا يريد، فالمطلوب فقط ألا يستمر معه فيعمل به أو ينطق به، فإن عمل أو نطق حقت عليه كلمة العذاب، وأصبح كافراً غير مؤمن. والعلاج كما سمعتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا خطر ببالك خاطر سوء فقل: آمنت بالله.. آمنت بالله ثلاث مرات، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، واله عنه وأعرض فإنه يرحل من ساحتك، واحذر أن يحملك على أن تنطق بحرف أو تعمل بمقتضى ذلك الوسواس، فإن ذلك مما يؤاخذ العبد به ويحاسب ويجزى به، أما مجرد خاطر وهواجس ووسواس فهذا من الشيطان، ولا يوجد هذا إلا عند المؤمنين، بل صرح الرسول بأن هذا دال على قوة إيمان العبد وصدقه في إيمانه؛ لأن العدو يأتي إلى القلب الذي فيه إيمان فيحاول أن يفسده، أما القلب الفاسد فماذا يعمل الشيطان فيه.وقالت الحكماء: اللص السارق ما يأتي إلى بيت خرب ما فيه شيء ويحاول أن يسرق، فماذا يسرق منه؟ ولا يأتي إلى جيب ما فيه فلس، يبحث عن مكان فيه المال والدينار والدرهم، فلهذا هذه الخواطر هذه لا تكون إلا لذي الإيمان، ومع عدم الإيمان ما يوجد هذا أبداً.

التجاوز عن الأمة المحمدية في الخطأ والنسيان والإكراه

وهكذا تجاوز الله عن أمة محمد عما حدثت به نفسها ما لم تقل أو تعمل، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )، فلنحفظ هذه، تجاوز الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم: أولاً: الخطأ، ثانياً: النسيان، ثالثاً: الإكراه. وهذا فيه تفصيل: فالنسيان كمن أكل أو شرب ناسياً لا شيء عليه، فالصائم إذا أكل أو شرب ناسياً لا يؤاخذ بذلك، لا كفارة عليه ولا صيام، إلا إذا كان في رمضان وأراد أن يقضي يوماً فله ذلك كما يرى ذلك مالك ، أما النوافل فبالإجماع لا يطالب بقضاء صومها أبداً، أكل وشبع وهو ناسٍ أو مخطئ. والخطأ: مثاله: أراد أن يتناول التمر فيضعه في الصندوق فوضعه في فيه، هنا الخطأ والنسيان. وما استكرهوا عليه: إذا أكره العبد بالضرب، بالسجن، بالتعذيب على أن يقول كلمة الكفر وقالها ليدفع عن نفسه ذلك ونفسه مطمئنة بالإيمان فإنه لا يؤاخذ بذلك، فقد كانوا يكرهون بعض أصحاب رسول الله في مكة على كلمة الكفر، فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بـعمار بن ياسر رضي الله عنهما وهو يعذب، فقال له الرسول: ( أعطهم يا عمار )، يقولون: سب رسول الله وامدح آلهتنا لنرفع السيف عنك والعذاب! والله يقول: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فبعض الإخوان يشكون أنهم في ديارهم يلزمونهم بحلق لحاهم، فنقول لهم: إذا صبرت فلا مانع، وإذا عجزت وما استطعت فاحلق وأنت تكره ذلك وتحب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعرض نفسك للسجن والضرب والتعذيب، وهذه حالة فتن وستنتهي الفتنة وينتهي هذا، فهذا ما كان موجوداً أبداً، وليس هناك حاكم يلزم الناس بأن يحلقوا لحاهم، لكن إذا حدثت فتنة يترتب عليها مثل هذه الأمور فماذا يصنع المؤمن؟ إذا ترك هذا الواجب أو السنة اتقاء للضرب والسجن والعذاب فلا حرج عليه؛ لأنه مكره، فما هو بإرادته واختياره: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ [النحل:106]، فقط، والإكراه بالقتل: ( كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل )، إذا قال الحاكم: اقتل هذا وأنت تعلم أنه لا يستحق القتل وما وجب عليه، فقل: اقتلوني ولا تقتلوه.

تفصيل أحكام الخطأ

إذاً: الخطأ فيه تفصيل، مثلاً: شخصٌ قتل آخر خطأً، هل يعفى عنه مرة واحدة؟ أولاً: عليه كفارة صيام شهرين متتابعين، ثانياً: عليه الدية، يقوم بها، أو عقيلته وعشيرته، كل ما في الأمر أن الله لا يؤاخذه؛ لأنه ما قتل عمداً، أراد أن يرمي غزالاً فأصاب مؤمناً، في يده بندقية يصلحها فتتفجر في يده، فقتل الخطأ فيه الدية بلا خلاف، إلا أن يعفو أولياء الدم، وفيه صيام شهرين متتابعين، والله عز وجل لا يؤاخذ صاحب هذه الخطيئة؛ لأن الله رفع عن أمة محمد الخطأ.مثلاً: أنت بسيارتك صدمت صندوقاً فيه حليب يساوي ألف ريال، فالخطأ معفو عنه، لكن هنا لا بد أن تغرم وتؤدي قيمة هذا اللبن، فصاحبه ماذا يصنع؟ ضاع لبنه وضاع ماله، فليس عليك إثم، اطمئن، ولكن تعين حق للناس عليك فأد هذا الحق، فإن لم تؤده كنت كمن أخذ حق إنسان، أما الإثم من حيث هو فمرفوع؛ لأنك مخطئ، فالغرامات هذه كمن أفسد مالاً من أموال المسلمين مطلقاً بدون عمد ولا رغبة في ذلك، وقع ذلك بدون إرادته، فلا يعذب بهذا ولا يتلطخ قلبه بالإثم، ولكن تعين حق لمؤمن ينبغي أن يؤديه.والديات أساساً تقوم بها العاقلة: أقرباؤه، ورثته، أعمامه، أبناء أعمامه، أبناء إخوانه يشتركون ويسددون الدية، فإن كان ما عنده أحد فإمام المسلمين يسدد عنه؛ لأن المقتول ورثته حقهم ضاع، كان يعمل ويأتيهم بالطعام والشراب، وقد قتلته، فبقوا مفتقرين محتاجين، فلا بد أن يعوضوا، وإذا قالوا: عفونا وتنازلنا وسامحنا فخير كثير. فهنا أحببت أن يفهم المستمعون والمستمعات قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )، النسيان كما عرفتم: أكل وشرب وهو صائم، فلا شيء عليه، نسي وهو محرم فلبس سروايل أو ثوباً ثم ذكر، فإنه ينزع ولا شيء عليه، أو نسي صلاة ما صلاها، فلا يؤاخذ ولكن يقضيها: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها ). وأما ذاك الذي كسر إناء أحد فلا إثم عليه، ولكن الحق ترتب، فلا بد أن يدفع قيمة هذا الإناء، كذلك إذا كان في رمضان وأخطأ، حال دون الشمس سحاب فقال: الآن دخل الليل، فأفطر ثم طلعت الشمس، هل يقضي؟ حدث هذا هنا في المسجد على عهد عمر ، أفطروا حيث ظنوا أن الشمس غابت، وحين كانوا يأكلون طلعت الشمس، فأمرهم عمر بالقضاء؛ لأن هذه فريضة، ولا إثم عليهم، بخلاف ما لو أكلوا متعمدين، فاليوم يقضى بشهرين.
معنى قوله تعالى: (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا)
فقوله صلى الله عليه وسلم: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) مأخوذ من هذه الآية الكريمة: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال الله: نعم، وفي بعض الأخبار، قال: قد فعلت.وقوله تعالى: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] استجاب الله وقال: قد فعلت. ومعنى الإصر: هو التكليف الشاق الذي يعرقلك ولا يسمح لك بالحركة؛ لأن الإصر: الحبل يربط به الشيء، ولهذا تتبع شرائع الله في الإسلام فلن تجد شريعة أو فريضة يعجز عنها العبد ولا يقدر على فعلها، فإن وجدت ذلك فاعلم أنه ليس من الشريعة، إذ قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]. على سبيل المثال: الصلاة هي عماد هذا الدين، فإذا ما استطاع أن يتوضأ لأن الماء بارد، أو ما وجد الماء، فماذا يصنع؟ يضرب الأرض ويمسح وجهه وكفيه، فهل في هذا مشقة؟ رفعت المشقة، الماء بارد ويخاف الزكام والمرض، ولا يغتسل بالماء البارد، ما تعود عليه لأنه يمرض، فيتيمم. وكذلك صلاة فريضة لا تصلى إلا من قيام، فلو صلى قاعداً أو ركع قاعد بطلت صلاته، لكن إن عجز فكيف يصلي قائماً؟ هل يربطونه بالحبال؟ إن عجز عن القيام صلى قاعداً، وإذا ما استطاع القعود صلى على جنبه، وإذا ما استطاع على جنب صلى وهو مستلقٍ. والحج فريضة الله عز وجل، فإن حال دون هذه الفريضة حائل فما هو بمكلف حتى يزول الحائل.

صور من مشقة التكليف في الأمم السابقة

والشاهد عندنا في قوله تعالى: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] من الأمم السابقة؛ إذ كان في بني إسرائيل إذا وقع بول في ثوب أحدهم قطعه بالمقص، ما يكفي فيه الغسل، إذا تلطخ ثوبه الذي يصلي فيه فما يكتفي بأن يغسله، بل يقطع تلك القطعة بالمقص حتى يصلي، كلفوا بحسب وضعهم بإرادة الله تعالى بأعمال شاقة بمعنى الكلمة؛ لأنهم متمردون عصاة، قتلوا الأنبياء، فما بالك بما أخبر به الرسول عنهم من أنهم كانوا يقتلون في اليوم الواحد سبعين نبياً ويقيمون أسواقهم في المساء كما هي! فمن هنا جاءت الشرائع تؤدبهم، حملهم الله تكاليف شاقة تعذيباً لهم، وهذه الأمة رحمها الله؛ لأنها الأمة المرحومة ونبيها هو الرءوف الرحيم بالمؤمنين، فدعوا الله فاستجاب لهم وقال: فعلت. وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] قال: قد فعلت. وعلى سبيل المثال: اليهود إذا قتل أحدهم وقالت القبيلة: عفونا كان الحكم الشرعي: لا عفو، إذا قال أبو الولد: أنا تنازلت لم يقبل منه، فهذا هو الإصر، وفي عهد عيسى في الإنجيل ما هناك إلا العفو، فإذا قتل أخاك فقل: سامحته، لا تطالب بشيء غير هذا، إذاً: هذه من الآصار والتكاليف الشاقة التي امتن الله علينا فرفعها عنا وما أنزلها فينا.

مغفرة الله تعالى لعباده وعفوه عن التائب منهم

وها هو ذا تعالى يخبر عن نفسه: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] قال الله: قد فعلت، وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا [البقرة:286] والله يقول: قد فعلت. فأيما مؤمن تزل قدمه ويخطئ في سلوكه فيعصي ربه أو رسوله في أية معصية ويطلب العفو من الله إلا عفا الله عنه، فكلمة: (أستغفر الله) تمحو كل ذلك الأثر وتزيله إن كان العبد صادقاً فيما يقول. وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا [البقرة:286] لا مولى لنا سواك، أنت مولانا لا مولى لنا غيرك.

نصر الله تعالى عباده المؤمنين على القوم الكافرين

إذاً: فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] ونصرهم، أولئك الأصحاب الذين ذلوا بين يدي الرسول وقالوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا، نصرهم بالحجة والبرهان على كل من جادل أو خاصم، وإلى اليوم لن يستطيع يهودي أو نصراني أو بوذي مهما كان أن يجادل المؤمن في الحق وينتصر عليه أبداً، لن يستطيع أن يأتي بأدلة عقلية أو منطقية أو شرعية ويرد بها ما جاء عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ونصرهم أيضاً في الحروب، فما قاتل أصحاب رسول الله أعداء الله ورسله إلا نصرهم الله، ويكفي أنه في ظرف خمس وعشرين سنة وصل الإسلام إلى السند وإلى الأندلس، فلولا النصر فكيف سيتم هذا؟

الموقف من طلب النصر مع ترك بذل الأسباب

ومن اللطائف أنه أيام الاستعمار كان يقال: (انصرنا على القوم الكافرين)، فنقول: يا جماعة! هذه ليست لنا نحن، فحين نحمل السلاح ونقاتل المشركين الكافرين نقول: (انصرنا على القوم الكافرين)، أما الآن ونحن لا نقاتلهم ولا نحمل سلاحاً لقتالهم فما معنى: (انصرنا على القوم الكافرين)؟ فمن الذي يطلب النصر؟ الذي يريده، أما التارك للجهاد والمعرض عنه فكيف يقول: انصرنا؟ لا معنى للطلب هذا، فالمسلمون إذا حملوا راية الحق راية لا إله إلا الله محمد رسول الله وقادهم إمامهم الذي بايعوه ووقفوا في وجه الكفار ثم طلبوا من الله النصر فإنه يحققه لهم ولا يخزيهم ولا يذلهم، أما وهم لا يحملون راية ولا يقاتلون ويقولون: (انصرنا على القوم الكافرين)؛ فهذا لا معنى له بالنسبة إلينا، كما لو أنك ما تأكل ولا تشرب وتقول: رب أشبعني وروني والطعام والشراب بين يديك.وهنا لطيفة من لطائف العامة: كسول نائم في ظل شجرة أو جدار، فطلعت الشمس وأخذت تزحف حوله فوصلت إلى قدميه، فما استطاع أن يجذب رجليه إليه، فيمر به شخص فيقول: يا عم، يا أخي! أبعدني عن الشمس، فيقول له: جر رجليك إليك، فيقول: انظروا إلى البخل؟! ويبقى، ثم يأتي الثاني والشمس قد وصلت إلى ركبتيه أو إلى صدره، فيقول: أبعدوني عن الشمس، فيقول له: ما لك؟ أمجنون أنت؟ قم من هنا وابتعد عن الشمس! فيقول: انظر إلى البخل! فكذلك وضع العالم الإسلامي إلا من رحم الله، يقولون: (انصرنا على القوم الكافرين)، فما بايعتم إماماً ولا التففتم حوله ولا أعلنتم الحرب على دولة كافرة وتقولون: انصرنا!نعيد تلاوة الآيتين الكريمتين: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ [البقرة:285] اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، ربنا إنا آمنا بك إلهاً لا إله غيرك ولا رب سواك، وآمنا بما أنزلت على رسولنا من كتابك وشرعك يا رب العالمين. كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285] وقد سبق أن عرفنا الملائكة في العقيدة، وأكثر المسلمين لا يدرون من هم الملائكة؟ ولكن لا بد من طلب العلم، فنحن نخبر عن إيماننا بملائكته، وكل يوم نصلي على إخواننا، فمن أخذ أرواحهم؟ الملائكة، وهل هناك من ينكر هذا؟ النطفة في رحم المرأة بعد أربعة أشهر من ينفخ فيها الروح؟ تبقى لحمة ثم تتحول إلى بشر، فكيف تصبح حية وفيها الروح؟ ملك ينفخ فيها. والقرآن الذي بين أيدينا نزل على أمي لم يقرأ ولم يكتب، فكيف وصل إليه؟ وفوق هذا رأى الصحابة جبريل بينهم يمشي، والشاهد عندنا: أننا نؤمن بملائكة الله وأنهم خلق من خلقه أطهار أصفياء، كلهم أنوار، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ونؤمن بكتب الله كلها ما علمنا منها وما لم نعلم، هذا معتقدنا.

لطيفة في المغايرة بين فعل الكسب في الخير والشر

وهناك لطيفة في قوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286]، لم قال في الخير: لها ما كسبت، وفي الشر: ما اكتسبت؟ اللطيفة التي لا ننساها: أن الخير فعله فطري في الإنسان، فعل الخير ما تجد له كزازة في النفس ولا شدة ولا انقباضاً، إن أردت أن تفعل الخير، لكن الشر هو الذي تجد فيه ذلك حتى تجاهد الفطرة وتغلبها. مثلاً: الآن أي واحد أراد أن يقول لأخيه:كيف حالك، هل أنت طيب، هل أنت بخير؛ فإنه لا يصعب عليه هذا، ولو أراد أن يسبه لا يجده يفعله بسهولة، فهذا مثال سهل؛ لأن الله قال: لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:286] من الخير؛ لأنها تكسبه بدون تكلف، بخلاف الشر فلها ما اكتسبته وافتعلته وانفعلت حتى فعلته، والمثال كما علمتم، تستطيع أن تعطي ريالك في يد أي مؤمن بكل سهولة، ولا تستطيع أن تخطفه من يد مؤمن، ما تقدر إلا إذا جاهدت نفسك، وهكذا فعل الخير لين سهل مبارك طيب يتناسب مع الفطرة، وفعل الشر بضد ذلك، كل شر لا يقدم عليه الإنسان إلا بعد مجاهدة نفسه والتكلف ليخرج عن فطرته وبشريته حتى يفعل ذلك الشر: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286] لأن الافتعال هذا تكلف.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-05, 04:34 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (43)
الحلقة (50)



تفسير سورة البقرة (14)


من مظاهر علم الله وحكمته الموجبة لعبادته سبحانه وحده أنه خلق آدم، وجعله خليفة في الأرض، وقد استفهم الملائكة ربهم عن جدوى كونهم أكرم المخلوقات، فهم يسبحون الله ويقدسونه، بخلاف هذا المخلوق وذريته الذين سيفسدون في الأرض لكن الله سبحانه أظهر لهم شرف آدم بأن عرض المسميات وسألهم عنها، فعجزوا وأجاب آدم، فعاتبهم ربهم بأنه يعلم الغيب كله، فكيف يستغربون حكمه.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء. وقراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:30-33].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

حقيقة أنه لا إله إلا الله

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هنا في هذا السياق الكريم تتأكد حقيقة أنه لا إله إلا الله، فلا كفر ولا شرك ولا نفاق، إذ تلك المعبودات أوهام باطلة، لا تستحق أن تعبد أبداً بحال من الأحوال.وهاهنا تتجلى مظاهر الربوبية والألوهية الإلهية، وتتجلى مقتضيات عبادته؛ وهي القدرة التي لا يعجزها شيء، والعلم الذي أحاط بكل شيء، والحكمة التي لا يخلو منها شيء، والرحمة التي تتجلى في كل المخلوقات، فهذا الذي يستحق أن يعبد، وهذا الذي ينبغي أن يحب، وأن يبجل، ويرجى، ويعظم، أما من عداه من تلك الآلهة المزعومة المدعاة فعبادتها باطلة، وأهلها مبطلون.وها هي ذي آيات الله تبين لنا عظمة ربنا عز وجل، وعلمه، وقدرته، ورحمته، وحكمته، وتقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله، فلولا أنه غير رسول الله فمن أين له أن يأتي بهذه العلوم والمعارف؟ وكيف تأتيه؟! فهي علوم لا تتلقى إلا من طريق السماء، وليست هي علوم كونية في الأرض أو في السماء، هذه علوم إلهية، ولولا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء بهذا العلم الإلهي.

خطاب الله تبارك وتعالى للملائكة

يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً أي: اذكر يا رسولنا لهؤلاء المنافقين والمشركين، والكافرين، والمرتابين، والفاسقين، والمفسدين؛ إذ الكل يشملهم الضياع والخسران، وقل لهم، واذكر لهم. وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ جل جلاله وعظم سلطانه، (ربك) أي: خالقك، ورازقك، ومدبر أمرك، والموحي إليك، والذي نبأك وأرسلك، وفي هذا تشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلاء لمكانته، إذ يتكلم عن الله بما علمه الله. وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ وقد عرفنا من هم الملائكة؟ هم عالم مادة خلقه وتركيبه النور، وهذا العالم لا يحصي عدد أفراده إلا الله، وحسبنا ما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع شبر أو موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد )،وقد عرفنا أن كل آدمي معه عشرة ملائكة.هذا العالم الأطهر الله عز وجل يقول لهم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً يريد أن يعلمنا أسلوب السؤال والجواب، إذ هما طريقتا العلم والحصول عليه، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يورد الأسئلة على أصحابه ثم يجيبهم، فطريق السؤال والجواب للحصول على علم طريقة رحمانية ربانية.

خلافة الإنسان في الأرض

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ماذا قال لهم؟ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً أية أرض هذه؟ هذه الأرض قبل أن يعمرها بنو آدم، إذ علمنا أنها أعدت إعداداً خاصاً للحياة فيها، وأنها مخلوقة مع السماوات .. قبل السماوات أو بعدها كما علمتم، وهذا لا يهمنا، فقط يهمنا أنها أعدت إعداداً خاصاً ليحيا عليها هذا الإنسان، فهي دار ضيافة ونزل من أجل ابن آدم.إذاً: هذه الأرض هي المقصودة بقول ربنا تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ المعروفة المعهودة لهم. خَلِيفَةً خليفة يخلف من؟ لأهل العلم طريقان نسلكهما معاً، ولا منافاة؛ لأن القرآن حمال وجوه.الطريقة الأولى: هي أن الجن سكنوا هذه الأرض قبل بني آدم، امتحنهم الله فأسكنهم هذه الأرض، فلما سكنوها ما كان منهم إلا الحروب والفتن، وسفك الدماء، والجرائم المتنوعة المتعددة، وهذا يشهد له قوله تعالى: يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، قالوا هذا لعلمهم السابق بما حصل من عالم الجن وأنهم أفسدوا في الأرض بالمعاصي، وارتكاب المحرمات، وإضاعة الواجبات، كما هو الفساد المعروف، وبسفك الدماء بقتال بعضهم بعضاً، وهذا ورد، وأن الله أرسل مع إبليس قبل أن يبلس جيشاً من الملائكة قاتلوا معه، وأجلاهم من الأرض.فلما علمت الملائكة هذا وسألهم الله مختبراً لهم ومستشيراً، وليس في حاجة إلى أن يستشير، ولكن من باب التعليم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا [البقرة:30] أي: بارتكاب المعاصي. وعرفنا الفساد في الأرض بم يكون؟ بالكذب، بالخيانة، بالغش، بالخداع، بالفجور، بأكل الربا، بسفك الدماء، هذا هو الفساد في الأرض دائماً وأبداً. فقالوا هذا لما علموا مما وقع من ذلك العالم عالم الجن بامتحان من الله وتدبير. هذه طريقة، ولا بأس بها، وهي مروية عن الصحابة أيضاً.والطريقة الثانية: أنهم تفرسوا، والعلم يكون أيضاً علم فراسة، شاهدوا هذا المخلوق وهو طينة، ونظروا إليه، وعرفوا أن هذا النوع ينتج عنه الفساد وسفك الدماء، وهذا من باب الفراسة.ومن الجائز أن يكون الله تعالى أعلمهم، ثم لما علموا ما أعلمهم جاء دور الامتحان والسؤال والجواب، قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30] فكان رد الله تبارك وتعالى عليهم أن قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]. فما دمت أعلم وما تعلمون فأنا فاعل وخالق ما أريد، وأنتم لا علم لكم، بحسب ما عندكم قلتم كلمتكم، وأنا أعلم ما لا تعلمون.

أهمية وجود خليفة في حياة الناس على هذه الأرض

موضوع (خليفة) تكلم فيه أهل العلم وبإيجاز، فقالوا:أولاً: خليفة لأن الجن الذين سكنوا في الأرض أجلوا منها وهلكوا، فإذا نزل آدم إلى الأرض مع ذريته أصبح خليفة لمن سبق، وهذا معقول ومقبول، خليفة لمن سبق أن نزل الأرض، وحصل الذي حصل، وأجلوا منها إلى الجزر.ثانياً: خليفة عن الله في إجراء أحكامه بين خلقه، فالله شرع قطع يد السارق، ورجم الزاني، وقتل القاتل، ومن ينفذ هذا؟ لابد من خليفة، يخلف في ذلك، ولا حرج أبداً.وهنا مما ينبغي أن يعلم أنه لابد للبشرية من خليفة، فهذا فرض، أما نحن المسلمين فالإجماع على أنه لابد من خليفة يحكم المسلمين بشرع الله، ولا يحل أبداً أن يعيش المسلمون على الفوضى، بل لابد من خليفة، وتجب طاعته، وهو المذكور في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، إلا أن هذا الخليفة لابد وأن يكون من مستويات عالية، فلا يكون صعلوكاً من صعاليك الناس، ولا مجهول النسب، ولا أمياً وجاهلاً، ولا فاسقاً ولا فاجراًً، ولا كافراً ولا ساحراً، وهذا أمر مفروغ منه؛ بل يكون خلاصة ما عندنا من الصلحاء، والأطهار، والأصفياء.فإذا أراد أهل إقليم مبايعة حاكم لابد وأن تكون فيه صفات الكمال؛ لأنها أمانة لا توضع إلا في يد من هو أهل لها، وهذا أمر معلوم بالضرورة.ومتى كان الحاكم شريف النسب، معروف الأصل والحسب، ذا حياء وعلم ومعرفة، ييسر الله له الأمر، ويسود المسلمين بالهدى والخير.ودل على هذا: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، فلا يحل للمسلمين أن يعيشوا بلا إمام يقودهم، ولا حاكم يحكمهم.وكونهم يختارون نعم. إلا إذا حاكم قهرهم وغلبهم وحكم، فبمجرد ما يستتب له الأمر وجبت طاعته والإذعان لأمره والمشي وراءه وجوباً؛ لأن الإسلام لا يسمح أن تراق دماء المسلمين، وأن تسلب أموالهم وتنتهك أعراضهم في الفوضى، لابد من حاكم، والآية صريحة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً .

سبب استفهام الملائكة ابتداء عن جعل خليفة في الأرض

لم قالت الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]؟إما لما لاحظوه من علم سابق أعلمهم الله، وإما لما علموا من أهل الأرض الذين سكنوها وسفكوا الدماء وأفسدوا فيها. فهذا هو جوابهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ؟ فرد الله تعالى بقوله: قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].وهنا يا معشر المستمعين والمستمعات! من سئل عما لا يعلم فليقل: الله أعلم. ما أبردها على الكبد كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فإذا سئلت عما لا تعلم فقل: الله أعلم، وذلك خير لك. إذ قال تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ فرضوا بتدبير الله وحكمه وقضائه، وسكتوا، وفوضوا الأمر لله العليم الخبير.

تسبيح الملائكة وتقديسهم لله تبارك وتعالى

ثم قال تعالى: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]؟ معنى (نسبح بحمدك) نقول: سبحان الله وبحمده، وهذا ورد يردده المؤمنون والمؤمنات إلى يوم القيامة، وهو قولك: سبحان الله وبحمده، وجاء في التبشير بهذا الورد أن من قالها مائة مرة حين يصبح وحين يمسي حط الله عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر! سبحان الله وبحمده. وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي: نقول: سبحان الله وبحمده، والملائكة طول الدهر وهم يسبحون بهذا التسبيح. ليل نهار.وقوله: وَنُقَدِّسُ لَكَ الأصل: ونقدسك، والتقديس: التنزيه والتطهير عما لا يليق، وزيدت اللام لتقوية الكلام، إذ زيادة المبنى تزيد في المعنى في لسان هذه الأمة؛ اللسان العربي.وسبحه: نزهه عما لا يليق به من الشرك، وقدسه في ذاته بحيث تبعد عنه كل ما يعرف بنقص، فالتسبيح كالتقديس، إلا أن التقديس يتعلق بذات الله عز وجل، والتسبيح يتعلق بصفاته وما له من حقوق، وهي عبادته وحده. وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ بمعنى: ما هناك حاجة إلى خلق هذا المخلوق وإنزاله في الأرض من أجل أن يعبدك، فنحن نسبح لك ونقدس، فهذا رأيهم، وهذا منتهى علمهم، فلا علم لهم، فقالوا قولتهم هذه، ولو فوضوا الأمر إلى الله لكان خيراً، ولكن هذا اجتهادهم، لما استشارهم سألهم: إني جاعل كذا، ليسمع منهم ما يرون وما يقولون، فلما أعلمهم قالوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ فأسكتهم. وسوف يبين لهم أيضاً مراده من خلق هذا المخلوق.

تفسير قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ...)

قال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31] أهل العلم المفسرون وغيرهم يقولون: كيف هذا؟ كيف يعلم آدم الأسماء كلها؟! ثم كيف يعرض الأسماء -أي: الذوات-؟أما الآن فأصبح الذي يشك في هذا أو يرتاب ويضطرب لا عقل له.أولاً: أليس قد كتب الله في كتاب المقادير كل ما هو كائن من اسم وذات وصفة؟ كل ما كان ويكون إلى يوم القيامة قد جرى به القلم، وهو محفوظ ومعروف. فعلم آدم الأسماء، وعرفه ذوات المسميات حتى شاهد الذوات وعرف الأسماء. الآن التلفاز يعرض لك فتشاهد الأسماء والمسميات، هذا اسمه إبراهيم، وهذه اسمها النخلة. أسماء الأجناس كلها!وكونه تعالى قديراً، عليماً، حكيماً على أن يلهم عبده آدم في ذلك العالم أن يحفظ كل ما عرض عليه هذا أمر سهل على الله، الآدمي في هذه الظروف يحفظ آلاف الكلمات بل ملايين!إذاً: فعلم آدم الأسماء كلها من الماء إلى الطين .. إلى اللبن .. إلى النخلة .. إلى الإنسان كما هو في كتاب المقادير. ثُمَّ عَرَضَهُمْ [البقرة:31] أي: الأسماء والمسميات بها عرضهم على الملائكة كأنها شاشة تلفاز، وأمرهم أن يبينوا أسماء تلك المسميات. فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:31] في علمكم ومعرفتكم. ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ [البقرة:31] ما قال: فعرضها؛ لأن فيها الأنبياء والرسل والبشر وذوي العقول، وليست كلها لا عقل لها. أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ عجزوا، وما استطاعوا الجواب، ولم يستطيعوا أن يقولوا شيئاً ولم يسعهم إلا أن يقولوا: الله أعلم!

تفسير قوله تعالى: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ...)

ماذا قال الملائكة؟ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32]. وبهذا خرجوا من المأزق الضيق، فوضوا الأمر لله، وقدسوه ونزهوه عن العبث واللهو والباطل .. عن الجهل .. عن كل ما هو نقص في ذاته وفي صفاته: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا وهو كذلك، فلا علم لمخلوق من الملائكة أو من الإنس أو الجن إلا ما علمه الله، ونحن إذا عندنا علوم فهذه العلوم من أين أتت؟ ولولا أن الله علمنا نعلم؟! والله لا يعلم أحدنا شيئاً لولا أن الله علمه، حتى كيف يلبس ثوبه أو نعله؛ لأن العلم مصدره الله، فهو الذي يغرز الغرائز، ويطبع الطبائع، ويلهم ويوجد الأفكار في المفكرين، هو خالق كل شيء.فسلمت الملائكة لله: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا لو علمتنا كما علمت آدم لقلنا: هذا فلان وهذا فلان، وهذا اسمه كذا وهذا كذا.وعظمة الله وربوبيته وإلهيته تتجلى في كون آدم الذي خلقه من طين، ونفخ فيه من روحه، وأصبح ذا منطق وذا سمع وذا بصر، علمه في زمن لا ندري مقداره، في ساعة، في دقيقة، في لحظة، لكن نعلم أن الله يقول للشيء: كن فيكون، فعلمه الأسماء كلها، أسماء الأجناس كلها باللغة التي أراد الله؛ ولأن تكون العربية أولى؛ لأنها لغة أهل الجنة، هذا اسمه كذا وهذا كذا، وانظر إلى الملائكة مع طهارتهم، وصفائهم، ووجودهم قبل آدم -ممكن بملايين السنين- ما استطاعوا أن يقولوا كلمة، فسلموا الأمر لله، ونزهوا الله وقدسوه: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا وأكدوا ذلك بقولهم: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ العليم بكل شيء، الحكيم في كل شيء، فلا عبث، ولا لهو، ولا باطل، ولا..، وإنما العلم والحكمة مع بعضهما البعض.

تفسير قوله تعالى: (يا آدم أنبئهم بأسمائهم ...)

ثم قال تعالى لآدم: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [البقرة:33] آدم هذا الاسم مأخوذ من الأدمة، وهي بياض مع حمرة، وهذه هي طينة التراب؛ ولهذا سبق أن علمنا أن الله تعالى لما أراد أن يخلق آدم أمر الملائكة أن يأتوه بأجزاء من الأرض: من الرمل، من التراب الأحمر، الأبيض، الأسود، الحزن، الخشن، اللين، الرقيق، فمن مجموع تلك التربة خلق الله آدم، فذريته أصبحوا يحملون تلك الصفات، منهم الحزن الشديد .. منهم اللين .. منهم الأحمر والأسود والأبيض، بحسب الطينة الأولى.وإن قلت: الأجواء والأهواء تؤثر؟ هذا شيء عارض فقط، لكن الأصل أن بني آدم كما هم أمامنا، وآدم مأخوذ من الأدمة التي هي بين الحمرة والبياض.إذاً: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ أي: بأسماء هذا العرض من المخلوقات، أسماء ومسميات، فأخذ يقول: هذا فلان، هذا فلان، هذا كذا، هذا كذا، هذا كذا! أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [البقرة:33]، قال تعالى لهم: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33]، وهذا التقرير الذي تم أمام الملائكة باق، وهو لنا أن نعلم علم يقين أن الله يعلم غيب السماوات والأرض، وهو ما غاب عن العيون، وبَعُدَ عن الحواس، وعجز الآدمي أو الجني أو حتى الملك عن معرفته، فهذا الغيب يعلمه الله عز وجل، سواء كان في السماوات أو كان في الأرض، فهذا الذي يستحق أن يعبد، وأما مخلوق؛ مصنوع في حاجة إلى وجوده وبقاء حياته فلا؛ إذ الآيات تقرير عبودية لله عز وجل، فلا يستحقها مخلوق ولا كائن من الكائنات؛ لأن الله أبطل الشرك والكفر، وندد بذلك، وقاد البشرية إلى أن تعرف الذي يستحق أن يعبد، وهو الله عز وجل. وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]، كيف يتم هذا لولا أن الله الذي علمه؟ وهل يوجد الآن من يستطيع أن يتكلم بلغات العالم، ويعرفها كلها؟ هل يوجد من يعرف الذرات الموجودة في الأرض وبأسمائها؟ هذا لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، وهو الذي ينبغي أن يعبد، وأن يحب، وأن يعظم، أما المخلوقات كيف تعبد مع الله؟!العلم والقدرة والحكمة والرحمة هي مقتضيات أن يعبد الله عز وجل؛ فلهذا بطل أن يعبد غير الله؛ ولهذا عامة الرسل أول كلمة تقولها لأقوامها: اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً.وقد علمنا وعرفنا أن هذه العبادة ليس الله في حاجة إليها، ولا كماله، ولا ربوبيته، ولا ألوهيته مفتقرة إليها، هذه العبادة فقط من أجل أن يكمل عليها العابدون ويسعدوا!

الشرك ظلم عظيم

من الظلم بل أبشع الظلم أن يعبد من لا يخلق ولا يرزق، ولا يهب ولا يعطي، ولا ينفع ولا يضر، ومن منكم يرضى بالظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه! فعبادة غير الخالق ظلم من أفظع أنواع الظلم! وقد عرفها المؤمنون من أمة الإسلام منذ أن كانت إلى اليوم.ولا ننسى قول الله تعالى من سورة الأنعام في الحِجاج الذي دار بين إبراهيم وبين قومه: قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ [الأنعام:80-81] أنا أم أنتم؟ من يعبد الله، أم من يعبد غير الله؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم، وكيف يخلط الإيمان بالظلم؟ أي: بأن يعبد مع الله غيره، وبأن يشرك في عبادة الله، سواء عبادة القلب أو اللسان أو الجوارح، بأن يعبد مع الله غيره.وهذه الآية لما تلاها الأصحاب رضوان الله عليهم اضطربوا، وقالوا: من ينجو منا إذن؟! إذا كان لا نجاة .. لا يتحقق الأمن من عذاب الله وسخطه إلا من آمن ولم يخلط إيمانه بظلم فمن ينجو؟! كلنا يظلم، وظنوا أنها معاصي كسبة، أو شتمة، أو غيبة، أو نميمة، أو ذنب من الذنوب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ( ألم تسمعوا قول العبد الصالح إذ قال لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] ) ظلم عظيم، فالظلم يتفاوت فيه الصغير والكبير، نعم، هل شتمك فلاناً في الشارع كشتمك أباك؟! إذاً: الظلم يتفاوت، وأعظمه أن تسلب حق الله، وتعطيه لغير الله، إذ الظلم حقيقته -يا معشر المستمعين والمستمعات- وضع الشيء في غير موضعه.وقد مثلنا أمثلة: هل يجوز لأحدكم الآن أن يدفع الجالسين يميناً وشمالاً وينام؟! هل هذا مكان نوم؟!هل يجوز لأحدنا أن يعرض بضاعته الآن في المسجد يبيعها؟! هذا ظلم، فقد وضع الشيء في غير موضعه.هل يجوز لعاقل أن يجلس أمام باب المسجد ويرفع ثيابه ويتبول؟! هذا ظلم، ووضع الشيء في غير موضعه هو الظلم.والظلم حرام بالإجماع، ومنذ أن هبط آدم إلى الأرض لم يقر الظلم ذو عقل بحال من الأحوال.وأي أنواع الظلم أفظع وأبشع؟أن يخلقك الله ويرزقك، ويربيك وينميك، ويجعلك عبده؛ فتغمض عينيك عنه وتلتفت إلى غيره! وبدل أن تحلف به تعظيماً له وتمجيداً تحلف بسواه؛ إغاظة له.وبدل أن ترفع كفيك إليه ضارعاً سائلاً: يا رب! تلتفت إلى غيره وتسأله.وبدل أن تركع ساجداً معلناً عن ذُلِّك وافتقارك وحاجتك إليه تفعل ذلك أمام كائن من الكائنات، ومخلوق من المخلوقات. فهل تصورتم أن أفظع أنواع الظلم هو الشرك، والعياذ بالله؟! وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33] قال العلماء: من هو الذي كان يكتم بينهم شيئاً؟ قالوا: إبليس قبل أن يبلس، وقبل أن ييأس، فما إن شاهد آدم وهو في طينته وعرف بالفراسة أن لهذا المخلوق شأناً، تعهد بأن لا يطيع، وكتم هذا في نفسه، فأعلمهم الله أنه يعلم ما يكتمون.

استحقاق الله للعبادة دون سواه

معاشر المستمعين! هنا مسائل لابد من العودة إليها:أولاً: لم استحق الله تعالى العبادة دون من سواه؟ لعلمه الذي أحاط بكل شيء، فالذي لا يعلم الغيب كيف يعبد؟! ثانياً: لقدرته التي تجلت في خلق السماوات والأرض .. في خلق الملائكة .. في خلق أبينا آدم.القدرة التي لا يعجزها شيء، فالذي لا قدرة له أو له قدرة محدودة، وطاقة محدودة لا تتجاوز فكيف يستحق أن يعبد؟! كيف يشرك مع الله في عبادته كما يفعل المشركون؟والحكم ة ما خلا منها شيء، فافهم يا عبد الله أنه لا يوجد كائن مخلوق إلا لحكمة! لا عبث، ولا لهو، ولا باطل، ولا سدى ولكن كل شيء لحكمة.ومن يرقى إلى هذا المستوى حتى يعبد مع الله بأي نوع من أنواع العبادة؟! هذا أولاً.

أهمية وجود خليفة للمسلمين

ثانياً: الخليفة. وقد بينا في إيجاز أنه لا يحل للمسلمين أن يعيشوا بدون خليفة، لماذا؟ لأن الفوضى تدمرهم، وتقضي على حياتهم، فيفقدون الأمن والطهر والصفاء، ولو استفاق المسلمون من غفوتهم، وعادوا إلى صوابهم لأعلنوا عن بيعة خليفة لهم، وتصبح البلاد الإسلامية كلها ولايات ومناطق تابعة للخليفة المسلم، ولما شتتهم العدو ومزقهم نكاية بهم، وتدميراً لهم، وحصل الذي حصل؛ وجب على أهل الإقليم أنهم هم الذين يختارون من يحكمهم، من أصلحهم .. من أعلمهم .. من أشرفهم .. من أكملهم؛ حتى يستتب أمرهم، وتكمل سعادتهم وحياتهم.فالدعوة إلى الفوضى محرمة ولا تحل، ومن هنا حرم النبي صلى الله عليه وسلم تحريماً قطعياً الخروج على الحاكم، ولم يأذن فيه إلا في صورة واحدة، فعليكم بالسمع والطاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أمر الحاكم بمعروف يجب أن يطاع، نهى عن منكر يجب أن يطاع، أمر بمباح أو نهى عن مباح يجب أن يطاع.والحمد لله! هذه الحكومات التي تحكم العالم الإسلامي ما ظهر إلا مرة، حكم شيوعيون في جنوب اليمن حقيقة أمروا بالمنكر، وقلنا: لا طاعة، أما من عداهم ما هناك من أمر المسلمين بأن يعبدوا غير الله! فما هناك من أمرهم بأن لا يصوموا، ولا أن لا يصلوا، ولا أن لا يزكوا، ولا أن لا يأمروا بالمعروف ولا أن لا ينهوا عن منكر، لكن فقط جهل المسلمين هو الذي وقف بهم.يقول صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بالسمع والطاعة إلا أن تروا كفراً بواحاً ) صراحاً واضحاً، لا يختلف فيه اثنان إذا ناقشوه، أو أرادوا أن يفهموه: ( عندكم فيه من الله برهان ).هنا ماذا يصنعون؟ لو كانوا على المستوى المطلوب منهم بوصفهم مسلمين أنه الحاكم إذا أعلن عن كفره وردته، وقال: لا أؤمن بهذا الدين، ولا بهذه الشريعة، حينئذ يجب أن يخلعوه ويبعدوه، وينصبوا غيره.وهل هذا يتم لأمة مختلفة متفرقة؛ أحزاباً، وجماعات؟ لا يتم لهم.إذاً: محنتنا أننا فقدنا الأخوة الإيمانية .. الأخوة الإسلامية، فالمسلمون في أي بلد ما هم بمتآخين، ولا متحابين ولا متعاونين، فكيف يستطيعون أن يخلعوا حاكماً ارتد،وكفر بالله وخرج عن الإسلام؟!فلابد إذاً من وجود أمة حية تسمع وتبصر، تعطي وتمنع، تستطيع أن تخلع وتنصب، أما أمة ممزقة، مفرقة، مختلفة كيف تخلع حاكماً وتنصب غيره؟! أنى لها ذلك، وكيف يتم؟إذاً: فكل من يدعو إلى الفرقة والصراع والنزاع وسفك الدماء خرج عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن نذعن للحاكم ونستسلم وننقاد، لكن في حدود ما هو مأذون له فيه، أن يقول الحاكم: اشرب المحرم، أو البس الحرام أو قل الحرام، فلا يطاع، والله عز وجل ما يسلط على المؤمنين حاكماً يكفرهم أو يحملهم على الفسق والفجور إذا كانوا قد حققوا ولاية الله عز وجل، ولكن إذا وجدوا أنفسهم تائهين في صحاري الحياة لا معرفة، ولا بصيرة، ولا استقامة؛ قد يسلط الله تعالى عليهم عدوهم.

وجوب تحقيق ولاية الله

إذاً: نعود إلى الحلقة المفقودة. وهي أنه يجب أن نوالي الله عز وجل، وأن نحقق ولايته، وإذا ما أصبحنا أولياء الله فالله عز وجل يؤدبنا .. يعذبنا بما شاء .. يسلط علينا أفسقنا وأفجرنا .. يسودنا بالحديد والنار، ولا نلوم إلا أنفسنا.ما هي ولاية الله؟ولاية الله أن نحقق إيماننا، ذاك الإيمان المطلوب، الذي إذا عرضناه على الكتاب والسنة، وعلى أهل العلم والبصيرة وافقوا عليه وقالوا: هذا هو الإيمان!أولاً: الإيمان، وثانياً: تقوى الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه.الإيمان والتقوى بهما تتحقق ولاية العبد للرب تعالى، وولاية الرب للعبد.أما إذا فجرنا وفسقنا، وخرجنا عن طاعة ربنا وطاعة رسولنا وانتهت الولاية؛ ماذا نريد من الله سوى أنه يسلط علينا من يسومنا الخسف والعذاب، ولو أن المؤمنين استفاقوا وأفاقوا حقيقة لأقبلوا على الله بنسائهم وأطفالهم ورجالهم يحققون أولاً ولايتهم لله تعالى، إيمان وتقوى، وهذا يا معاشر المستمعين والمستمعات! يتطلب منا العلم، وها نحن في هذه الآيات سنعرف كيف شرف الله آدم، ورفع قدره بالعلم، والذين جهلوا من الملائكة أصبحوا دون مستوى آدم عليه السلام.العلم كيف نطلبه، وكيف نحصل عليه؟ كما علمنا وقدمنا، كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه؟يجمعهم بين يديه في مسجده ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فإذا أراد المسلمون في الشرق والغرب أن يحققوا ولاية الرب تعالى لهم عليهم أن يحققوا إيمانهم، فيؤمنون إيماناً كإيمان نبيهم وأصحابه، ويعبدون الله عبادة عبده بها نبيه وأصحابه، إذ هذه الفرقة الناجية، هم الذين يكونون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، عقيدة وعبادة وسلوكاً وآداباً.معاشر المستمعين! تحقيق الولاية أن نقبل على الله في صدق ونطلب منه أن يعلمنا، فنقرأ كتابه وسنة نبيه في بيته، فلا نتخرج بعد العام والعامين إلا علماء وأولياء لله، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أما مع التمرد والعصيان على الله فأنى لنا أن نكون أولياء لله، لا خوف علينا ولا حزن في دنيانا وأخرانا؟

قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ...) من كتاب أيسر التفاسير

معاشر المستمعين! ما قرأنا الآيات في الكتاب فإليكموها كما هي.يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].

شرح الكلمات

قال المؤلف: [شرح الكلمات: الملائكة: جمع مَلْأك، ويخفف فيقال: مَلَك، وهم خلق من عالم الغيب، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى خلقهم من نور.الخليفة: من يخلف غيره، والمراد به هنا: آدم عليه السلام.يفسد فيها: الإفساد في الأرض يكون بالكفر وارتكاب المعاصي.يسفك: يسيل الدماء بالقتل والجرح.نسبح بحمدك: نقول: سبحان الله وبحمده، والتسبيح: التنزيه عما لا يليق بالله تعالى.ونقدس لك: فننزهك عما لا يليق بك، والتقديس: التطهير والبعد عما لا ينبغي، واللام في (لك) زائدة لتقوية المعنى، إذ فعل قدس يتعدى بنفسه، يقال: قدسه] وإن قلت: قدس له كان زيادة في المعنى.

المعنى الإجمالي

قال المؤلف: [المعنى الإجمالي: يأمر تعالى رسوله أن يذكر قوله للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30] يخلفه في إجراء أحكامه في الأرض، وأن الملائكة تساءلت متخوفة من أن يكون هذا الخليفة ممن يسفك الدماء ويفسد في الأرض بالكفر والمعاصي؛ قياساً على خلق من الجن حصل منهم ما تخوفوه، فأعلمهم ربهم أنه يعلم من الحِكم والمصالح ما لا يعلمون. والمراد من هذا التذكير: المزيد من ذكر الأدلة الدالة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة للإيمان به تعالى، ولعبادته دون سواه].

هداية الآيات

قال: [هداية الآيات: أولاً: سؤال من لا يعلم غيره ممن يعلم ]. كما علمنا، واجب وجب على من لا يعلم أن يسأل حتى يعلم.[ ثانياً: عدم انتهار السائل، وإجابته أو صرفه بلطف ]، من سئل يجب أن لا ينتهر السائل، فيحمر عينيه فيه، كما تقول العامة، بل يجب أن يتلطف في إجابته، إن كان يعلم علم، لا يعلم يقول: يا بني! الله أعلم.[ ثالثاً: معرفة بدء الخلق ]، ما عرفنا بدء الخلق؟ لما قال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، هذه بداية الخلق عندنا.[ رابعاً: شرف آدم وفضله ]. وكيف وقد أسجد له الملائكة كما سيأتي.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ...) من تفسير أيسر التفاسير
قال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:31-33]. ‏

شرح الكلمات

قال: [ شرح الكلمات: آدم: نبي الله أبو البشر عليه السلام.الأسماء: أسماء الأجناس كلها كالماء والنبات والحيوان والإنسان.عرضهم: عرض المسميات أمامهم، ولما كان بينهم العقلاء غلب جانبهم؛ وإلا لقال: عرضها]، قال: (عرضهم)؛ لأن فيهم العقلاء.قال: [أنبئوني: أخبروني.هؤلاء: المعروضين عليهم من سائر المخلوقات.سبحان : تنزيهاً لك وتقديساً.غيب السماوات: ما غاب عن الأنظار في السماوات والأرض.تبدون: أي: تظهرون من قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا [البقرة:30].تكتمون: تبطنون وتخفون، يريد ما أضمره إبليس من مخالفة أمر الله تعالى، وعدم طاعته] في قضية آدم [الحكيم: الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه ولا يفعل ولا يترك إلا لحكمة].

معنى الآيات الإجمالي

قال: [معنى الآيات الإجمالي: يخبر تعالى في معرض مظاهر قدرته وعلمه وحكمته الموجبة لعبادته دون سواه، أنه علم آدم أسماء الموجودات كلها، ثم عرض الموجودات على الملائكة، وقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:31]؛ في دعوى أنكم أكرم المخلوقات وأعلمهم، فعجزوا وأعلنوا اعترافهم بذلك، و قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة:32]. ثم قال تعالى لآدم: أنبئهم بأسماء تلك المخلوقات المعروضة، فأنبأهم بأسمائهم واحداً واحداً، حتى القصعة والقُصَيعة، وهنا ظهر شرف آدم عليهم، وعتب عليهم ربهم بقوله: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33]].

هداية الآيات

قال: [من هداية الآيات: أولاً: بيان قدرة الله تعالى، حيث علم آدم أسماء المخلوقات كلها فعلمها.ثانياً: شرف العلم وفضل العالم على الجاهل.ثالثاً: فضيلة الاعتراف بالعجز والقصور.رابعاً: جواز العتاب على من ادعى دعوى وهو غير متأهل لها ]. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-06, 05:39 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (44)
الحلقة (51)



تفسير سورة البقرة (15)


أكرم الله آدم بالعلم، وأمر الملائكة بالسجود له، فسجدوا جميعاً إلا إبليس، بقي متسمراً مكانه حسداً وكبراً، فكانت عقوبته الطرد من رحمة الله، فأقسم ليضلن آدم وزوجه وذريتهما، وسعى سعياً حثيثاً في إغواء آدم وحواء، ووسوس لهما حتى أوقعهما في شراكه، فأخرجا من الجنة، وأهبطهم الله جميعاً إلى الدنيا، ليعيشوا فيها بعضهم لبعض عدو إلى نهاية الحياة الدنيا.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:34-37]. ‏

تقرير مبدأ التوحيد والنبوة والبعث الآخر

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! في هذه الآيات تقرير مبدأ التوحيد والنبوة لنبينا صلى الله عليه وسلم، والبعث الآخر.هذه الآيات نزلت لغرض .. لهدف، وقد ندرك ذلك وقد لا ندركه، ولكن النظرة العامة في مثل هذا السياق أنه تقرير لمبدأ: لا إله إلا الله، ومبدأ: محمد رسول الله، ومبدأ: الحياة الثانية التي هي دار الجزاء بعد هذه الدار التي هي دار العمل، إذ اليوم عمل، وغداً جزاء.والبشرية أيام نزول هذه الآيات وبعثة هذا النبي صلى الله عليه وسلم كانت ضالة، تائهة في أودية الضلال، اللهم إلا بقايا من أهل الكتاب.البشرية منهم المشركون الذين يعبدون الأوهام كالأصنام، والتماثيل، والشمس، والقمر، والنجوم .. وما إلى ذلك، وهذه أغلبية البشرية .. مشركون.وأهل الكتاب زيادة على أنهم أشركوا فهم كافرون، إذ كذبوا رسل الله، فالنصارى -والعياذ بالله تعالى- ضللهم اليهود فضلوا، وأصبحوا وثنيين يعبدون ثلاثة آلهة، واليهود مع علمهم غضب الله عليهم ولعنهم؛ لأنهم عرفوا لكنهم عموا عن الحق، وأعرضوا عنه، فهم أيضاً مشركون وكافرون.فكيف تنقذ البشرية؟ أنقذها الله عز وجل ببعثة هذا النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، إذ أرسله إلى الناس كافة، من ذلك قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، ومن ذلك قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].فمثل هذه الآيات: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة:30] يخاطب الله عز وجل محمد بن عبد الله بن هاشم القرشي العدناني من ذرية إبراهيم. وَإِذْ قُلْنَا القائل رب العزة والجلال والكمال، وتقدم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة:30].إذاً: الله عز وجل خالق الخلق، ومدير الكون، ومدبر الملكوت؛ هو الذي أرسل هذا الرسول، وإلا كيف يخاطبه وينزل عليه وحيه، ويعلِّمه؟!فالآي بمجرد ما تسمعها تقرر مبدأ أنه لا إله إلا الله، أما الإلحاد العام الذي ظهر منذ ثمانين سنة، وهو لا إله والحياة مادة، فهذا ما كان موجوداً على سطح الأرض، لا بين الإنس ولا بين الجن، بل الخليقة كلها تؤمن بخالق رازق مدبر، فلما ما عرفوه اتخذوا رموزاً يعبدونها تحت شعار التقرب إلى الله العليم الحكيم، والذين يعبدون الأصنام ما عبدوها لذاتها، بل هم يبحثون عن الله خالقهم، رازقهم، معطيهم ومانعهم، محييهم ومميتهم، فلما ما عرفوا زينت لهم الشياطين عبادة الأصنام.. وما إلى ذلك، فعبدت الشعرى -كوكب معروف- في ديار اليمن، وعبد المجوس النار، أما الإلحاد بمعنى: لا إله، فهذه فرية يهودية أرادوا أن يطمسوا بها معالم التوحيد، وأخيراً بعدما بلغت مبلغها في الشرق والغرب انفضح ستارها، وظهرت أنها لعبة يهودية!إذ الفطرة التي فطر الإنسان عليها تشهد أن لا إله إلا الله، وتؤمن بوجود الله، ولكن عبدت الأصنام والأوثان تقرباً إلى الله عز وجل، وهؤلاء كبار المشركين، بل وأئمتهم في قريش في مكة قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، وكيف وهم يحجون بيت الله؟ ويقفون في عرفات لله؟ ويعبدون اللات والعزى ومناة، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً؟! ولكل قَبيل إله يعبده.فخطاب الله عز وجل في مثل قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30] هذا يثبت وجود الله، فهاهو ذا يتكلم، وهذا كلامه، وكيف وصل هذا الكلام؟ أوحاه، إلى من؟ إلى محمد بن عبد الله ورسوله، فهو رسول الله، فتم مبدأ لا إله إلا الله محمد رسول الله.وهذه الأنباء، وهذه الأخبار غيبية، تعجز البشرية عن الوصول إليها، أو الحصول عليها بحال من الأحوال، إذ كان هذا قبل أن يكون الإنسان، فكيف نعلم هذا ونصل إليه؟! إنه من طريق الوحي الإلهي الذي نزل بهذا الكتاب العظيم القرآن الكريم.

إخبار الله ملائكته في جعل خليفة في الأرض وجوابهم

قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، تقدم أن عرفنا أن الله يؤدبنا ويعلمنا كيف يستشير رجالنا، وعلماؤنا، وعظماؤنا من دونهم؟ وفي الحديث الصحيح: ( ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار )، فالله يقول في عباده المؤمنين: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]. فالله عز وجل يقول للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، خليفة يخلفني في تطبيق شرائعي، وإنفاذ أحكامي، ولا حرج، خليفة من شأنه أن يموت ويخلفه غيره: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ [الأنعام:165]، والكل كما علمتم صحيح، وتدل عليه الآية الكريمة.. يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً [ص:26] خليفة ماذا؟ يطبق شرائع الله، وينفذ أحكامه في عباده.فالملائكة كأنهم استغربوا هذه القضية وتعجبوا منها، وقالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]! وقد علمنا أنه بلغهم علم سابق أن هناك من سكن هذه الأرض من عالم آخر -عالم الجن-، وما كان منهم إلا أن فسقوا عن أمر الله، وخرجوا عن طاعته، وتقاتلوا وأجرموا، فالملائكة فهموا أن هذا المخلوق الجديد الذي سيعمر الأرض قد يسفك الدماء، ويفسد فيها بارتكاب المعاصي، وغشيان الذنوب؛ فأبدوا ما عندهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا وليس هذا -والله- من باب الاعتراض على الله، وإنما هو من باب التقرير: أتجعل هذا، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، فما هناك حاجة إلى أن تخلق مخلوقاً يعصيك، ويخرج عن طاعتك، ويفسق عن أمرك، ونحن نسبحك الليل والنهار ونقدسك يا رب العالمين!فهذا مجرد إبداء رأي، ومن حقهم أن يقولوا، وهم مع ربهم يناديهم ويكلمهم.فرد تعالى عليهم بقوله: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30] فعلمه أحاط بكل شيء، وعلمهم محدود في نطاق ضيق، فهم سمعوا أو شاهدوا ما حدث في الأرض، فخافوا أن الذي ينزل بعد الآن يفعل مثل الذي فعل الأولون، وقد حصل، فقد سفكنا الدماء، وأفسدنا في الأرض الأمر الذي لا يقادر قدره. ولكن منا أولياء .. منا صالحون .. منا ربانيون، عبدوا الله الليل والنهار، والدهر كله!

تعليم الله لآدم الأسماء كلها وعرضها على الملائكة

قال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:31]. علم آدم الأسماء كلها، وسبق أن قلت لكم: لا عجب في هذا! أبداً. الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4].أراه صورة الأجناس كلها وأسماءها، وأثبتها في قلبه، فحفظها، وفهمها، وعرفها، ولا حرج، وسواء قلنا: في ساعة أو في دهر أو في عام، هذا لا علم لنا به، الأهم أنه علمه الأسماء كلها .. أسماء الأجناس حتى قال ابن عباس : كالقصعة والقصيعة. شاهدها ثم حفظ أسماءها، وأراد الله ذلك ليختبر الملائكة، وليريهم عجزهم وضعفهم. ثُمَّ عَرَضَهُمْ [البقرة:31] عرض التلفاز والشاشة التي تشاهدون، ولا ننسى عرضاً مثل هذا العرض تم هنا، في هذا المسجد، والله العظيم، الرسول صلى الله عليه وسلم في محرابه ولم يكن محراباً كهذا بل مكان مصلاه إلى الجدار في الروضة، والآن موجود مكان مصلاه محراب، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس، وإذا به يتقدم قليلاً ويمد يديه كأنما يريد أن يتناول شيئاً ثم يرجع ويواصل صلاته، ثم يرجع القهقرى ويشيح برأسه ووجهه هكذا، كأن لهباً مر، فلما فرغ من صلاته سألوه: ما الذي حدث يا رسول الله؟ قال: ( عرضت علي الجنة، فرأيت عنباً فهممت أن آخذ عنقوداً، لو أخذته لأكلت منه الدهر كله ) لم؟ لأنه غير قابل للفناء، فلا يفنى، كالعالم الآتي لا فناء فيه، ( وعرضت علي النار فرأيت أكثر أهلها النساء فأشحت بوجهي لحرارتها ) فالعرض الآن في التلفاز والشاشة السينمائية بارد ليس فيه حقيقة، بل هي صور، أما العرض هناك فكان حقيقة.هل قال أصحاب رسول الله: هذا مستحيل أو كيف يتم؟! قالوا: آمنا بالله، وبما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.والشاهد عندنا وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31] أسماء الأجناس: الإنسان والحيوان والماء .. وما إلى ذلك، وشاهدها ذواتاً. كيف هذا؟ ألم يكن قد كتبها الله في كتاب المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرضين؟وما من كائن على سطح هذه الأرض ولا في السماء إلا وله صورة في ذلك السجل العظيم، الكتاب المبين أو الإمام المبين، منه فقط عرضها، وفي البخاري من حديث عبد الله بن مسعود ( يؤمر بأربع كلمات يكتبها )، هذه الكلمات مستحدثة، جديدة؟ هذه من كتاب المقادير ( فيكتب عمله وأجله، ورزقه، وشقي أو سعيد ).إذاً: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ [البقرة:31] عرضاً فشاهدوها، فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:31] بأنكم كذا وكذا، قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32].ثم قال لآدم : يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [البقرة:33] أخبرهم، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33] لأن إبليس -عليه لعائن الله- قبل أن يبلس ما يزال في محيط الملائكة يعبد الله عز وجل كان قد حمل في نفسه شيئاً لهذا، فأخبرهم الله بعلمه بما في نفوسهم، وما يكتمون.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ...)

الآن وصلنا إلى الآية التي هي موضع درسنا اليوم، قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ [البقرة:34] أي: اذكر يا رسولنا ويا نبينا قولنا للملائكة كذا وكذا. أليس هذا يشهد بوجود الله؟ أيوجد كلام بدون متكلم؟ ألا يشهد هذا لعلم الله؟ أليس هذا علماً؟ هل يوجد علم بلا عليم؟كما قدمنا: الآيات تقرر وجود الله، وعلم الله، وقدرة الله، وحكمة الله، ورحمة الله، فكل آية تقرر هذا.

الآية تقرر فضيلة العلم والعلماء

معاشر المستمعين! في هذه الآية فضيلة العلم والعلماء، لما فاز آدم ونجح في الامتحان، وخاب وخسر الملائكة في امتحانهم وعجزوا، أراد الله تعالى أن يرفع آدم، وأن يرفع شأنه، ومنزلته، ومقامه فوق مستوى الملائكة، فها هو ذا تعالى يأمر الملائكة أن يسجدوا لآدم سجود تحية وتعظيم، لا سجود عبادة وتأليه، إذ المسجود له في الحقيقة هو الآمر المطاع، وآدم ما أمر ولا أطيع، فلا يقال: هذا سجود عبادة، الذي عبد وذل له وأطيع هو الله، إذ هو الذي أمر، وآدم فاز بالتبجيل والتعظيم، إذ وقع هذا السجود وهذه الطاعة له ومنه وإليه، ولا حرج؛ لأن الله أراد ذلك. وهذا نظير صلاتنا إلى مقام إبراهيم وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فنحن بعد الطواف سبعة أشواط نصلي ركعتين لمن؟ لله تعالى، وأين نصليهما؟ خلف مقام إبراهيم. فالمقام فاز بأشرف عبادة تقع عنده ودونه، والصلاة هي لله عز وجل.

كيفية سجود الملائكة لآدم

قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [البقرة:34] السجود خاطبنا الله عز وجل بما نعرف، والسجود في لغة العرب هو أن ينحني المرء وينكسر، وينزل للأرض، ويضع وجهه وجبهته وأنفه على التراب، هذه حقيقة السجود وإن كان معناه الخضوع والذلة، فكل من ذل لرجل وخضع يقال: سجد له، لكن الله خاطبنا بما هو معلوم عندنا، فهنا سجدت الملائكة على الأرض لآدم عليه السلام، فالله هو الآمر، وهو المطاع إذاً هو المعبود والمسجود له، وآدم فاز بالشرف والكرامة العليا؛ لأن الله رفعه بالعلم.والسجود المعروف عندنا هو وضع الجبهة والأنف على الأرض، ولا تصح صلاة من هو قادر على السجود بدون سجود. نعم، المريض يومئ إيماءً إلى الأرض، أما القادر على أن يضع جبهته وأنفه على التراب فلا تصح له صلاة؛ لأن هذا ركن من أركانها، وهذا السجود كان الأولون يسجد العظماء أو الكرماء لبعضهم البعض، والعوام تبع لذلك، والدليل أن يوسف الصديق ابن الصديق عليه السلام لما جلس على أريكة الملك وعرش الدولة، وجمع الله له شمله بأبويه وإخوته خروا له ساجدين، فسجدوا طاعة .. إكباراً .. تعظيماً .. تبجيلاً ليوسف عليه السلام، وذكر هذا الحق تعالى في كتابه: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:100].وسجد الناس لبعضهم البعض كما هي التحية المعروفة عند الناس، وهنا أشير إلى فائدة وهي أن التحيات كلها لله، ولهذا لما نجلس بين يدي الله عز وجل نقول: التحيات لله، التحيات: جمع تحية، وهي ما يعظم به الإنسان أخاه، ويجله ويكبره، كلها لله، والسجود من التحيات، ولذا قال أهل العلم: جميع حركات الصلاة تحيات، من رفع اليد، وهذه تحية عسكرية معروفة، لكن بيد واحدة ونحن نحيي ربنا بكلتا يدينا، لا يجوز أن ترفع واحدة فقط مع الله، لابد من يديك الاثنتين.وكذلك الوقوف باعتدال، غير مطأطئ الرأس ولا منكسر، وذلك الاعتدال فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] هذه تحية، وقد يحيي الناس بها الآن بعضهم بعضاً.والركوع معلوم بالضرورة أن الناس يحي بعضهم بعض بالانحناء والركوع، وتلك الجلسة التي يجلسها جلسة تحية، والسجود فوق ذلك.فجميع التحيات التي عرفتها البشرية وحيا بعضها بعضاً بها جمعها الله تعالى لنا في الصلاة، فلهذا الذي لا يصلي كفر الله عز وجل، وما اعترف بجلاله، ولا كماله، ولا بعظمته، ولا بوجوده. وإن عوقب فالعقوبة الإعدام؛ لأنه غير أهل للحياة كفر الله عز وجل، ولم يحيه، ولم يعظمه.إذاً عرفنا أن الصلاة تحية، وقد جمعت كل أنواع التحيات، ولهذا نقول: التحيات لله والصلوات.حاول بعض المؤمنين أن يسجدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحد الصحابة كان بديار الشام وجاء إلى المدينة مسلماً، فأراد أن يسجد للرسول صلى الله عليه وسلم، فأبى ولم يسمح له، واعتذر الصاحب بأنه رأى أهل الشام يسجدون للقسس وللبطارقة قال: فأحببت أن أسجد لك كما يسجدون لهم، فقالها صلى الله عليه وسلم: ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لما له عليها من حق، ولكن لا سجود إلا لله رب العالمين ).فنسخ الإسلام برسوله، ورسالته، وكتابه السجود للمخلوق، فلا يسجد إلا لله، ولا يذل المؤمن، ولا ينتصر أبداً إلا بين يدي الله عز وجل. وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [البقرة:34] امتثلوا أمر ربهم على الفور، والملائكة كما درسنا وعرفنا لا يحصي لهم عدداً إلا الله، إذا كانت السماء لا يوجد فيها موضع قدم أو شبر إلا عليه ملك ساجد أو قائم فمن يحصي عدد الملائكة! وإذا كان كل واحد منا موكل به عشرة من الملائكة أو اثني عشر ما بين الحفظة والكرام الكاتبين.والشاه عندنا (فسجدوا) امتثلوا أمر الله فخروا ساجدين لآدم، وهذا السجود وإن كان لآدم لكن حقيقته للآمر الذي أطيع.

استكبار إبليس عن السجود لآدم

قال تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34].من هو إبليس؟إبليس كنيته أبو مرة معروفة، هل كان اسمه هكذا أو عزازئيل؟على كل إبليس كان من العابدين لله عز وجل، الراكعين، الساجدين آلاف السنين، وهو ليس من الملائكة بل هو من الجن، من العالم الثاني، فالملائكة أولاً والجن ثانياً والإنس بعد ذلك عالم ثالث، والحيوان عالم رابع. والمناسبة بين النار والنور معروفة، فلهذا الجن يختلطون بالملائكة، ويفهمون لغتهم، ويسمعون منهم، والدليل أما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الجان يكونون في عنان السماء فيختلطون بالملائكة، فيسمعون الملائكة تتحدث عن أخبار الله التي علمهم إياها، فيسترق أحدهم الكلمة فيأتي بها إلى الآدمي الكاهن فيقرقرها في أذنه، فيضيف إليها تسعاً وتسعين كذبة )، ويقال: فلان يعلم الغيب ويأتونه، ويعطونه المال ليعلمهم الغيب، ونسبة الصدق معه واحد إلى مائة.والشاهد عندنا أن إبليس كان من العباد، ويروى أنه سبحانه أرسله مع جند من الملائكة إلى الجن الذين سكنوا الدنيا وفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فحاربهم إبليس بجيش عظيم من الملائكة، وأجلاهم إلى جزر البحر، ثم لما حصل الامتحان الإلهي والاختبار وقال للملائكة وإبليس قبل أن يبلس: اسجدوا فسجدوا إلا إبليس أبى أن يسجد واستكبر، وكان من الكافرين.وقد جاء هذا مفصلاً في عدة آيات منها ما في سورة الحجر: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:28-33] وخلقتني من نار.فأبدى علة امتناعه عن السجود لآدم وهي: أولاً: الكبر، كيف، وأنا المخلوق من مادة ملتهبة؛ النار أسجد لمن خلق من طين، من صلصال، من حمأ منتن مسنون.ثانياً: منعه -أيضاً- مع الكبر الحسد، فكيف يتفوق هذا المخلوق علينا، ويفضلنا، ونؤمر بالسجود له.فكانت المصيبة مزدوجة، مركبة من الكبر والحسد، وهما شر ما يوجد على الأرض.وداء الأمم كلها الكبر والحسد، فلهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) لأن هذا القدر الخفيف القليل يحجب صاحبه عن النور، ويمنعه من الهداية، ويطغى هذا الكبر عليه، فيتكبر حتى على الله عز وجل، فلا يركع، ولا يسجد.والحسد من نتائجه أن أول دم سفك على سطح الأرض من بني آدم كان نتيجة الحسد وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27] هابيل وقابيل ابنا آدم عليه السلام، كل منهما قدم قرباناً لله عز وجل، فقبل الله أحد القربانين ولم يقبل الآخر، لم؟ لأن الذي قبله كان يريد به وجه الله، وكان خيرة ما يملك من المال الذي تقرب به إلى الله، والآخر -والعياذ بالله- كان أسوأ ماله وأردأه، فلم يقبله الله عز وجل، فلما رأى أخاه تقبل الله منه، وهو لم يتقبل منه عزم على قتله، وقتله بالفعل، فهذه أول قطرة دم على الأرض من بني آدم، وسببها الحسد.(إلا إبليس أبى) بمعنى: رفض، وامتنع، واستكبر، وكان من الكافرين، ومن هنا -معاشر المستمعين- إن بعض الذنوب يكفر بها صاحبها، إبليس ما كفر الله وقال: لا وجود لله ولا سب الله ولا ولا .. كفر بمعصية، فلهذا توجد المعاصي التي يكفر بها صاحبها، فلهذا نحذر ما هو معصية، وسواء قيل فيه فسق أو إثم أو جريمة أو كبيرة أو صغيرة، فهناك ذنوب يكفر بها فاعلها، والعياذ بالله. فهذا إبليس كان من جملة الكافرين لامتناعه عن طاعة الله في السجود لآدم، وحمله على ذلك داء الأمم ألا وهو الكبر والحسد.

تفسير قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ...)

يقول تعالى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا [البقرة:35]. (وقلنا يا آدم) أي: بعد أن خلق الله آدم، وأسجد له الملائكة، وبعد أن خلق حواء من ضلعه الأيسر فكانت إلى جنبه، وأراد الله عز وجل أن يهبطهما إلى الأرض، وهذا متى تم؟ بعد أن خرجا عن طاعة الله وأكلا من الشجرة، وهذه فيما يبدو معصية خفيفة، وإبليس هو الذي غرر بهما وخدعهما وقال: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]. إذاً: هذه الأحداث لم تتم في ساعة أو دقيقة لكن الكلام هذا: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35] متى؟ لا يوم سجد الملائكة لآدم، ولا يوم أبلس إبليس، فهذا دهر يعرفه الله عز وجل.ولكن الترتيب للأحداث هكذا: أولاً: خلق الله آدم ثم أسجد له الملائكة ثم بعد ذلك أمره أن يهبط إلى الأرض، وسبب الهبوط إلى الأرض أن الله عز وجل أذن له ولحواء العيش في دار السلام، يأكلان من ثمار الجنة ونعيمها ويسعدان بوجودهم فيها، لكنه نهاهما عن أكل شجرة، وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35] أباح لهما كل ما في الجنة إلا هذه الشجرة أراد أن يمتحنهما، وقد كتب قدراً أن ينزلهما إلى الأرض، وتعمر الأرض بذريتهما إلى يوم القيامة ولكن هي الأسباب والسنن.فحرم عليهما الأكل من الشجرة، ما هي هذه الشجرة؟ ما دام لم يبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حق لنا أن نقول: التين، ولا أن نقول: الرمان أو التفاح، هي شجرة وكفى.
تفسير قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه ...)

وسوسة إبليس لآدم وحواء عليهما السلام

بعد أن أبلس إبليس وطرد وخرج من الجنة .. ومعنى إبليس: المبلس، أي: اليائس من رحمة الله، المطرود والمنفي عنه كل خير، فإبليس لما أبلس من جراء آدم وحواء .. ومن جراء آدم بالذات أراد أن ينتقم أيضاً.والحكايات الإسرائيلية تقول: دخل إبليس في صورة حية إلى الجنة، ولا حاجة إلى هذا، فإنه ما من أحد منا إلا وعنده جهاز تلقي وإرسال إلا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله نزع منه ذلك الجهاز حتى لا يستطيع الشيطان أن يتصل به.أما نحن فعندنا رادار، يعمل ليل نهار.فاتصل بهما عن طريق الوسواس، فوسوس لهما الشيطان، ما دخل الجنة ولا يدخلها، ولكن اتصل بهم، والآن يتصل بك الإنسان من أمريكا وأنت في المدينة هو معك في بيتكم، في أسواق المدينة؟ تقول: لا، مستحيل، قل: مستحيل، وهو: آلو آلو، يتكلم معك، ويوسوس لك. فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [البقرة:36] وأسقطهما، وأوقعهما في الزلل، وهو ارتكاب المعصية، بسبب ماذا؟ بالتزيين والتحسين هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120] إذا أكلتما من هذه الشجرة لا تموتان، ولا تفنيان بل تخلدان، وكذبهما، وهو لا يملك إلا التزيين فقط، وأعظم سلاح لدى العدو ليوقع الآدمي في معصية الله فيهلك هو التزيين إذ قال: فبعزتك لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّ هُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39-40].

انكشاف عورتي آدم وحواء عليهما السلام بعد استجابتهما لوسوسة إبليس

ما كان من آدم إلا أن استمع لنظرية زوجته وقبل كلمتها، وهذا الذي يقع أيضاً للرجال منا، فالذي يستجيب لامرأته ويقبل اقتراحاتها وما تريده فيا ويحه، قد يقع فيما وقع فيه آدم، فحواء عليها السلام هي التي بادرت وأكلت وقالت: ما أصابني شيء فكل أنت، فاستجاب وأكل، وما إن أكلا من الشجرة، وارتكبا المعصية حتى انكشفت عورتهما، وذهب النور الذي كان يكسوهما، ولا يعرف أحدهما فرجاً، لا قبلاً، ولا دبراً، وما إن ارتكبا المعصية حتى زال النور فأسرعا إلى ورق الشجر يستران عوراتهما: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف:22].فلهذا فطرة الآدمي أنه يستر عورته ولو كان مجوسياً أو كافراً أو لا؟ بالفطرة أن الآدمي يستر عورته.وإن قلت: وجدت أندية العري في أوروبا، فعند الباب تسلخ روحك سلخاً وتدخل عارياً، وهذا مسخ إبليسي وليس بفطري، فإبليس هو الذي مزق حجاب الفطرة، ونفذ إلى القلوب.أما الفطرة الحقيقية فهي كما تعلمون عندما تمشي إلى سكان الغابات تجدهم قد وضعوا على فروجهم ستارة ولو من شجر إلى الآن. فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف:22].

هبوط آدم وحواء إلى الأرض وبدء العداوة بينهما وبين إبليس وأتباعه

قال تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة:36] من هم الذين بعضهم عدو لبعض؟ آدم وزوجه طرف، وإبليس الطرف الثاني، وإبليس كان يعيش في الملكوت الأعلى، الآن منع، الآن ساكن في الأرض، اهبط لتؤدي مهمتك وهي إغواء بني آدم وإضلالهم، وهذا الذي التزم به، وهذا كله تدبير العليم الحكيم ليدخل من يشاء في رحمته ويضل الضالين.

الأرض مستقر ومتاع إلى حين

قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [البقرة:36] (ولكم في الأرض مستقر) ومن هنا نبهنا أيام شاعت فكرة الصعود إلى القمر، وقلنا: لا يمكن للآدمي أن يعيش على كوكب من الكواكب، وإن عاش يوماً أو أياماً والله لينزلن إلى الأرض، وليموتن بها؛ ليبعث منها، قال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55].إذاً وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ [البقرة:36] لا في السماء مستقر قرار ومتاع أكل وشرب وحياة إلى حين نهاية آجالكم وأعماركم، ونهاية الحياة بكاملها، ولكم في الأرض -هذه المعهودة- مستقر ومتاع إلى حين، فمن يزعم أنه يستطيع أن يبني قصراً في القمر أو في كوكب آخر ويعيش هو هناك؟ هذا باطل باطل. والحمد لله استرحنا من هذه الكذبة كما استرحنا من الشيوعية التي انتهت؛ لأن الذين كانوا رواداً بالقمر كذبوا لأنهم أخيراً من سنتين قالوا: ما طلعنا، هي أفلام سينمائية في الجبال واستريحوا.

تفسير قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ...)

قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37] تلقاها وحياً أوحاها الله إليه، كلمات معدودة؛ ثلاثاً أو أربعاً، فلما قالها تاب الله عز وجل عليه، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37] فبسببها تاب عليه.ما هذه الكلمات؟ هذه جاءت من سورة الأعراف، وهو قولهما عليهما السلام: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] فكل مؤمن أو مؤمنة أراد أن يتوب فعليه بهذا الكأس من العسل، يقول رب ظلمت نفسي، معترفاً بفجوره أو بفسقه أو بمعصيته، متألماً منها؛ لأنه أغضب الله عليه، وأسخطه بغشيانه وارتكابه ما حرم عليه، يناديه بهذا الصدق: رب ظلمت نفسي، أي: بفعل كذا وكذا. ولا يذكر جريمته لله؛ لأن الله يعلمها.ربي، ظلمت نفسي، وإن لم تغفر لي وترحمني لأكونن من الخاسرين، أي من جملة الخاسرين وفي عدادهم.

الخسران الحقيقي

ومن هم الخاسرون؟المادي ون لا يعرفون من الخسارة إلا المادية؛ صفقة تجارية لا ربح فيها، باخرة تحمل بضاعة غرقت، مزرعة انقطع عنها الماء ماتت، زوجة ماتت، ولد جن، هذه خسائر الدنيا.لكن الخسران الحق بينه الله تبارك وتعالى وهو أن يخسر الإنسان نفسه وأهله، فلا يبقى له أب، ولا أم، ولا ولد، ولا أخ، ولا قبيل، ولا يعرف أحداً، ويعيش في عالم وحده، لا أنيس ولا أنس.بين تعالى هذا في آيتين من كتابه فقط، وهو قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] بحق الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] نعم، نحن نعد الخسارة أن نضيع ركعة من الصلاة، نعد خسارة أن نفطر في يوم من أيام الصيام، خسارة أن نشتم مؤمناً أو نضربه، نعد المعصية لله عز وجل خسارة، نعم. ولكن غيرنا يعد الخسارة فقد المال أو الإنسان، وقد بين تعالى لنا الخسارة الحقيقية، وهي أن يفقد الإنسان كل ما عنده، ويجد نفسه في عالم شقاء كله، لا أنيس ولا من يؤانسه: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].

كيف نتقي الخسران

معاشر المستمعين! كيف نتقي هذا الخسران؟ كيف نجنب أنفسنا منه ونبتعد من ساحته؟إنه بالإيمان وصالح الأعمال .. باتقاء الشرك والمعاصي يجنبك الله هذا الخسران ويبعدك عنه، إيمان صحيح اعرضه على الكتاب والسنة يوافقان عليه، عمل صالح، وهو الذي بينه الله ورسوله، بينه الله في الكتاب والرسول بلسانه وبعمله مع اجتناب الشرك بالله ولو في كلمة واحدة، ولو في إشارة برأسك.علمنا أن أحد الأولين جاءه الشيطان وهو مقيد، يعد للموت لجريمة ارتكبها. قال له: هل أدلك على شيء إذا فعلته نجوت؟ قال: دلني. قال: اخفض رأسك لي، اسجد لي سجدة. فسجد له، فقتلوه، ومات إلى جهنم، ومن أراد أن يقف على هذه ففي التفاسير عندما قال: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ [الحشر:16-17] إبليس وذلك الرجل الفاسق وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [الحشر:17]. فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37] عرفنا الكلمات أو لا؟ ما هي؟ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، يجب أن نحفظها ونستعملها في كل ذنب نشعر به، وكل خطيئة نرتكبها؛ إذ نجى الله تعالى أبانا آدم وأمنا بهاتين الكلمتين، فكيف ننساهما؟وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-08, 02:18 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (45)
الحلقة (52)



تفسير سورة البقرة (16)


بعد أن وسوس إبليس لآدم وحواء، وأوقعهما في فخه، كان الجزاء أن أهبط الله الثلاثة إلى الأرض وأخبرهم بالقاعدة الجديدة للحياتين: الأولى والأخرى، فأعلمهم أنه إذا أتاهم منه هدى فاتبعوه فإنهم يأمنون ويسعدون، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، وتوعد من كفر به وكذب بآياته بالخلود في نار جهنم.

تفسير قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً ...)

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!السور ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء. قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:38-39] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم. ‏

هبوط آدم وحواء وإبليس إلى الأرض

معاشر المستمعين! قول ربنا جل جلاله: (قلنا اهبطوا منها) من الذين أمرهم بأن يهبطوا منها؟ ما هي هذه التي يهبطون منها؟أما الهابطون فهم آدم عليهم السلام وحواء والعدو إبليس عليه لعائن الله، والضمير في منها عائد إلى الجنة دار السلام، إذ قد سبق في الآيات الكريمة أن الله عز وجل استشار الملائكة، وإن كان تعالى في غنى عن المشورة، ولكنه التعليم والتربية لبني آدم، فلهذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار )، وقال في الربانيين في صدر هذه الأمة: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]. وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30] فما كان جوابهم إلا أن قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، ونحن درسنا وعرفنا أن الإفساد في الأرض لا يكون إلا بمعصية الله ورسوله، وليس الإفساد في الأرض بهدم المباني، وتعطيل الطرق، وإزاحة الجبال، وإيقاف الأنهار، بل المقصود منه معصية الله والرسول في الأرض.وكيف كانت المعصية فساداً؟الجواب: أنتم على علم بأن الله تعالى لا يأمر بأمر لينهض به المكلفون إلا وهو الخير كله، ولا ينهى عن شيء إلا وهو الشر كله، وإن قلتم: بالغ الشيخ في هذا، فالجواب: أليس الله عليماً حكيماً؟ ما آمنتم بعلمه وحكمته! فكيف -إذاً- يأمر بما لا خير فيه، ولمن؟ للآدميين، أما هو تعالى فغناه مطلق؛ إذ كان الله ولا شيء غيره.لكن بالنسبة إلى عبيده من الإنس أو الجن فهو يريد أن يربيهم على الكمال ليسعدهم في الحال والمآل، يأمرهم: افعلوا كذا .. افعلوا كذا .. قولوا كذا .. اعتقدوا كذا، وينهاهم: لا تفعلوا كذا .. لا تعتقدوا كذا .. لا تقولوا كذا، وذلك من أجل إكمالهم وإسعادهم، فوالله الذي لا إله غيره لا يأمر إلا بما فيه خير هذا الإنسان، ولا ينهى إلا ما فيه شر هذا الإنسان.فمن هنا من هم المفسدون في ديارنا؟ العاملون بالمعاصي، أولاً يفسدون أنفسهم فيخبثونها .. يلوثونها .. يعفنونها حتى تصبح كأرواح الشياطين، ويومها لا حق لها في الملكوت الأعلى، فقد خبثت، فلا تصلح للسماء ولا للنزول بها، وهذه الحقيقة -أيضاً- أصبحت كالشمس بين أيدينا إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41]. من هم المفسدون غير المكذبين، والكافرين، والمستكبرين، والمجرمين، والظالمين.إذاً الفساد في الأرض هو معصية الله تعالى ورسوله. فكل من يعيش على معاصي الله والرسول كأنه آخذ بيده معول ويضرب في الأرض ويفسد، إذ لا ينتشر الخنا، والكذب، والسرقة، والخداع، والنفاق، وسوء الأخلاق، وهبوط الآداب إلا من جراء المخالفات والمعاصي.

سبب هبوط آدم وحواء إلى الأرض

إذاً: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا [البقرة:38]. عرفنا من هم الذين هبطوا؟ آدم وحواء.لم أهبطهم؟ ما أصبحوا أهلاً لذلك النعيم، كيف؟ تلوثت أنفسهم، فما أصبحوا أهلاً لمجاورة الله، فأهبطوا إلى الأرض.ولم أمرهم بالهبوط وأهبطهم؟ أتدرون لماذا؟أما آدم وحواء فجريرتهما .. فمعصيتهما .. فذنبهما أنهما أكلا من الشجرة، إذ قال لهم: ارتعوا في هذا النعيم فكلوا وتنعموا، ولا تقربوا هذه الشجرة، فما كان من عدوهما وعدو البشرية كلها إبليس إلا أن زين لهما الأكل من الشجرة، ووقعت في الفخ حواء قبل آدم؛ وذلك لضعف عقول النساء، فهي التي بدأت وقالت: أكلت ولا شيء.إذاً: يا معاشر المؤمنين والمؤمنات! هنا موقف يجب أن لا ينسى، من أجل معصية واحدة حرم آدم وامرأته من نعيم كانا فيه، وأهبطا إلى عالم الشقاء والكدح والعمل المتواصل. معصية واحدة! فكيف بالذي كل يوم يقارف معصية، ويغشى ذنباً، ويأتي كبيرة.

سبب هبوط إبليس إلى الأرض

إبليس أتدرون لم أبلس .. لم أيس من الخير؟ وأصبح مطبوعاً على الشر، هو وذريته وما تناسل منه؟ ماذا فعل؟ ما هي معصيته؟ ما قتل نفساً، ولا أحرق قرية، ولا عبث بالمصحف، ولا بال عليه كما يفعل طغاة العرب؛ ماذا فعل إبليس؟ ما زاد على أن رأى أنه خير من آدم بقياس ليس بصحيح، فاعتذر لله وقال: لا أسجد له خلقتني من نار وخلقته من طين؛ فأنا أشرف منه وأكمل في أصل الخلقة، وكيف أنزل من مستواي العالي الرفيع وأسجد له؟!هذا الذنب الوحيد، وهو الكبر والقياس الفاسد، أبلس، والله لقد أبلس.أتدرون معنى أبلس بالبربرية؟ مسح منه عناصر الخير وأصبح كله شر.أبلس لمعصية واحدة وهي الكبر وما نتج عنه، فهذه المعصية يقارفها ملايين البشر وما يشعرون.وهل هذه المعصية أثرها فقط في كون فلان ما ركع أو سجد؟ الكبر يمنعك أحياناً من كلمة الحق .. من الاعتراف بالحق .. من فعل فضيلة .. من النهوض بواجب، وإذا كان هذا المرض متأصلاً في النفس فلن يفلح صاحبه، وفي الحديث الصحيح: ( إن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ).معاشر الأبناء والإخوان والمؤمنات! هل تقاومون هذا الخلق أو أنتم برءاء منه، سالمون، معافون؟ فمن شعر بهذا الداء أو المرض فليطرح بين يدي الله، ويشكو إليه علته وسقمه، ويطلب منه الشفاء.ومن أمثلة مقاومة الكبر أن الحسن بن علي ابن الدوحة النبوية، ابن الزهراء، وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يمشي في موكب على فرسه فمر ببعض الفقراء في ظل شجرة أو جدار -في تلك الأيام هل هناك غير ظل الشجرة والجدار؟- وهم يأكلون أرغفة من الخبز فسلم عليهم، فقالوا: يا ابن فاطمة ألا تنزل تأكل معنا؟ فوالله لقد أوقف فرسه ونزل وجلس على الأرض مع الفقراء، ويأكل الخبز معهم. فهل عرفتم هذه؟ومن مظاهر هذا المرض وأنتم تشاهدونه في الذين يجرون ثيابهم في الأرض، وقد لفت النظر إلى هذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وحذر وأنذر وقال: ( ما زاد على الكعبين فهو في النار ) وأفصح قال: ( من جر ثوبه خيلاء ) أي: كبراً، فهو كذا وكذا.أتدرون التواضع المنافي للكبر؟عمر رضي الله عنه -وهو خليفة المؤمنين- يذهب إلى السوق فيشتري قطعة اللحم وليس فيه موازين، ممكن أخذ الفخذ، فحمله في ثوبه إلى بيته، فهل تستطيعون أن تفعلوا هذا؟!و أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة وقبلها وهو الوزير الأول، ولو وزن إيمان من في الأرض بإيمانه لرجح إيمان أبي بكر ، لما ولي الخلافة بعد أن فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت جارية من الحي الذي كان يسكن فيه، من أحياء المدينة وأحواشها، قالت: آه من يحلب الآن لنا ماعزنا؟ فسمعها وقال: أنا أحلب لكم، ولا يمنعني أبداً أن وليت الخلافة أن لا أحلب. وبقي يحلب لآل الحي كما كان.فإذا عرفتم هذه العلة قاوموها بمجاهدة النفس .. امش حافياً .. أدبها .. اجلس مع الفقراء والمساكين .. كل الخبز بدون مرق، وهكذا تروضها حتى تذل لله وتخضع، وتجد لذاذة في أن تعفر وجهك في التراب وأنت تقول: سبحان ربي الأعلى.

اتباع الهدى يقود إلى السعادة في الدارين

لما هبطا إلى الأرض قال لهم الله عز وجل: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [البقرة:38] والأصل: (إن يأتيكم مني هدى) فإن (ما) مزيدة لتقوية الكلام، هذا الهدى ما هو؟ الهدى ما يهدي السالك إلى بغيته، ويصل به إلى غرضه، سواء كان علماً يرفرف، أو ناراً، أو مصباحاً، أو دليلاً يمشي أمامه، والمراد من الهدى هنا هو ما يوحيه الله تعالى إلى رسله وأنبيائه من كتاب وغيره، أي: من شرائعه عز وجل التي يوحي بها إلى من يصطفيه من الناس ويجتبيه.هذا الهدى يقود ويهدي إلى سعادة الآدمي والله العظيم، يهدي إلى سعادة الآدمي في الدنيا والآخرة معاً.كيف هذا يا شيخ؟ نعم، تعاليم مصدرها العليم الحكيم، لا يأتيها المؤمن إلا كمل وسعد، ولن يتخلف وعد الله أبداً إلا إذا أخل العبد فلم يلتزم بالمبدأ، وقدم وأخر، أو انحرف يميناً أو شمالاً، يضعف ذاك الهدى ولا ينير.الهدى هل عند أمة محمد الآن هدى؟ ما هو الهدى؟ قال الله تعالى قال رسوله، القرآن والسنة، الكتاب الكريم والسنة الصحيحة الشريفة المطهرة.لم لا نكتفي بالقرآن؟ القرآن فيه إجمال وإيجاز، ولو يشرح ويفصل لأصبحت ثلاثين مجلداً، وخمسين مجلداً، بل والمائة، فكيف تحمله البشرية؟ ولهذا يحمله أحدكم الآن في جيبه أليس كذلك؟ فلابد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوباً يشرح .. يبين .. يعلم .. يفسر، وإلا ما تستطيع البشرية أن تهتدي إلى الكمال من القرآن بدونما رسول لله يبلغها ويعلمها.فلهذا عرفنا واستقر في معرفتنا أن من ينفي السنة كافر خادع مضلل، يريد إفساد هذه الأمة والقضاء على كمالها وسعادتها، والرسول قال: ( ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه )، فلهذا أقضية أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها مستنبطة من القرآن، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.أعرفتم هذا الهدى؟ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [البقرة:38]، والخطاب لآدم وحواء ولذريتهما إلى يوم القيامة، فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ [البقرة:38] ومشى وراء الأعلام التي تقود إلى دار السلام فأحل ما أحل الله، وحرم ما حرم الله، ونهض بما أوجب الله من عقيدة أو قول أو عمل، لا يزال سائراً في أمن وسعادة حتى ينتهي إلى دار السلام، فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون. كيف هذا؟ لا نعرف؟ ما نعرف. على سبيل المثال هذه الدولة، وإن كان بعض الغافلين يتململون، ونحن من باب إياك أعني واسمعي يا جارة نريد أن نلفت نظر العالم الغافل، فهذه الدولة قامت باسم الله على يد عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود من بني تميم، وقد عرفتم منزلة بني تميم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مر بكم؛ فقد أرادت عائشة أن تعتق مملوكاً في كفارة فأرشدها إلى أسرى أو عبيد من بني تميم، فإنهم من أولاد إسماعيل.ومع هذا سمعنا وسمعتم من يقول: عبد العزيز وأولاد سعود يهود، ويغنون بهذا، ولعلي واهم.ماذا أريد من هذا يا شيخ؟أريد أن نعرف أن أمتنا لصقت بالأرض وهبطت، فهيا بنا ننتشلها ونرفعها من مستوى الهبوط، والله بأذني أسمع أعمى يجمع الفلوس بالمدائح كعادة العرب وهو يهتف: يا سعود يا يهود! يا سعودي يا يهودي! وإخوانكم يعطونه المال. هذا في بلاد العرب! ما هذا الهبوط؟إنه الجهل، ما ربينا في حجور الصالحين، وما عرفنا الطريق إلى الله، فماذا ترجو منا بمجرد أننا مسلمون ونصلي أيكفي هذا؟ أين آثاره، والجرائم والموبقات ترتكب في كل ساعة في العالم الإسلامي.

عدم الخوف والحزن لمن اتبع الهدى

قال تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38] فضربنا المثل كانت هذه البلاد كبلاد العالم الإسلامي انطفأ نور التوحيد فيها، وهبطت إلى الأرض، وأصبحت موبقات وجرائم من اندونيسيا إلى موريتانيا، فجاء الله ليقيم الحجة له على الخلق بهذا الرجل، وأقام هذه الدولة السعودية التميمية لا اليهودية. فهمتم؟أقامها على أربع دعائم، عمي عنها العالم الإسلامي بكله، أربع دعائم .. أربع قواعد تنبني هذه القبة عليها وهي: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أخذاً من قول الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]. وهذه الآية كررها هذا الشيخ المسكين -ممكن- آلاف المرات طول العام، والبلاد الإسلامية تستقل، ومن الوقت إلى الوقت استقل القطر الفلاني، وما استطاعت دولة ولها وزراء، ولها علماء، ولها مسئولون أن تقيم الصلاة فقط، وهذا أمر يتفطر له الكبد.خرجنا من رق الاستعمار الإيطالي أو البريطاني أو الفرنسي ونحن مسلمون، فما المانع فقط أن نقيم الصلاة؟ هل بلغكم أن إقليماً استقل وأقام الصلاة إجبارياً؟ أسألكم بالله أو ما تعيشون مع أمتكم؟ والله ولا قطر، فمن شاء أن يصلي ومن شاء يغني.هل بلغكم أن دولة تجبي الزكاة باسم الله؟ هاتوا، لم؟ عوضنا عنها الضرائب؛ لأن الضرائب مقننة في أوروبا، ولا تقوم الدولة إلا على أساسها، والزكاة تزكي أو لا تزكي. هل وجدت هيئة في بلد ما أسند إليها أنها تأمر بالمعروف بين المواطنين وتنهى عن المنكر؟ قولوا وأشيروا، لا شيء، والآن نسأل لم؟ ما المانع؟ تحررنا واستقللنا، وأخذنا السلطة بأيدينا، وطردنا الاستعمار البريطاني أو الفرنسي ما المانع؟يا شيخ ما كنا نعرف هذا؟ والله لقد سمعوا وعرفوا، أربعين سنة وهذا الكلام يعاد هنا، والحجاج والزوار على اختلافهم من ساسة وسائسين يسمعون، لم؟!هذا موطن البكاء أو لا؟ لنعرف قيمتنا ودرجتنا.ونعود إلى مبدأ الكلمة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [البقرة:38] إذاً: أقيمت دولة والله لقد تحقق أمن وانتهى الخوف، يمشي الرجل من أقصى البلاد إلى أقصاها لا يخاف إلا الله، وصدق الله العظيم: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:38] في دنياهم.إذاً وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38] اتباع الهدى، واتباع الهدى في إقامة الدولة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، هذا يمنع الخوف، أما الحزن فيمنعه قوة خوف الله وحبه الناتج عن الإيمان والمعرفة بالله.فالذين عرفوا الله، وما عنده لأوليائه يحزنون لماذا؟ لأن التجارة كسدت، ولأن ولداً مات، والمرأة طلقت، والله ما يحزنون، عرفوا أن هذه الدار دار فراق، ودار ابتلاء، ومن مات يدفنه وهو يبتسم، ويدعو له، ويترحم عليه، فلا يمتنع من الأكل والشرب، ولا يصاب بقنوط ولا يأس أبداً، ولا يسود وجهه، ولا يغبر بل يبقى كما هو؛ لأنه يردد كلمة: إنا لله وإنا إليه راجعون.فما دمنا لله فإذا طلبنا لننتقل إلى الدار الآخرى تقول: لا، أما تستحي يا عبد الله؟ أنت أمانة الله طلبها تقول: لا؟ ثم تعلم أنك راجع أحببت أم لا؟ وإنا لله وإنا إليه راجعون. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38]، قلوب طاهرة، ونفوس زكية صافية، آمالهم في الملكوت الأعلى يتسابقون إلى الجنة فلهذا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38] هذا في الدنيا. وأما في الآخرة فثم الأمن وثم الفرح .. دار الحبور والسرور، لا خوف، ولا حزن.كيف نأمن من الخوف والحزن يا شيخ؟ فقط إذا جاءك الهدى اتبعه، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38] لأن الحزن يكون بسبب ما فقد، فقد ماذا؟ فقد مال الله لله، أي شيء فقدته؟ مالك، هو مال الله، ابنك هذا، ولدك عبد الله، فكيف تحزن؟!ولا على ما يفوتك أيضاً مما كنت ترغب فيه من أوضار الدنيا وأوساخها، فلا تحزن على هذا، ولعلكم تجدون أنفسكم وبينكم من أولئك الطاهرين من لا يحزنون ولا يخافون.

اليسر والتكلف في اتباع الهدى

قال تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ [البقرة:38] ومن سورة طه فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ [طه:123] اتبع فيه معنى التكلف والتتبع، وتبع ليس فيه تكلف بحسب الظروف، وفي هذا الوقت بالذات في بلاد العالم الإسلامي لا تتبع الهدى إلا بمعاناة: كيف تخالف أهل المجتمع؟ امرأتك مغطية ونساؤهم كاشفات؟! كيف تعمل وأهل البلاد يظلون هكذا عاكفين في المقاهي على اللعب وأنت ما تلعب؟ كيف، كيف، كيف؟ تحتاج إلى أن تتكلف حتى تتبع، وفي ظروف طاهرة تتبع الهدى، فليس هناك موانع ولا عوارض ولا صوارف أبداً وبسهولة.أضرب لكم مثلاً: قبل حوالي سبع وعشرين سنة كنا إذا عزمنا إخواناً لنا أو عزمنا وحضرنا للأكل تجد من هم ملتحون بنسبة خمسة في المائة، والباقون حالقو الوجوه وهم فحول، انتبهتم؟ خمسة في المائة. وفي هذا الظرف بالذات من الذي يستطيع أن يعفي لحيته؟ لابد وأن يتكلف ويتحمل، فالزوجة تقول: أيش هذا الوسخ؟ نعم، والزميل والصديق: يا ذا الذقن. والله بهذا الصوت يسخر منه: يا ذا الذقن. الآن لما انتشر الهدى أصبح حالق اللحية هو الذي يستحي، عرفتم؟ فحضرنا محاضرة في بحرة، فعددنا الجالسين للعشاء وجدناهم ستين فحلاً والله ما بينهم حالق، وهذا من آثار الدعوة والجلوس بين يدي الصالحين كما قدمنا.أما التدخين فلابد لمن أراد أن يدعو إخوانه للعشاء أو الغداء إذا كان موسراً لابد وأن يضع شيئاً توضع فيه عقائب السجائر، أتعرفون هذا أو لا؟ علب تباع أو يعطيها بائع السجائر مجاناً للإغراء والفتنة، فيضع تلك العلب أو الطفايات، والآن أصبحنا نزور والله ما نجد واحدة، ونجلس للعشاء أو في عرس أيضاً ما نرى من يدخن، فالآن الذي لا يدخن يجد معاناة؟ لا أبداً، بسهولة يتبع بدون ما يتكلف في الاتباع. الأغاني: يوم انفتح بابها، وبدأت الفتنة العارمة، وكانت أصابع اليهود، كيف يدمرون العالم الإسلامي كما يقولون بالهيدروجين؟ لا، فقط بإفساد قلوبهم، يهبطون ويصبحون عبدة هوى وشهوات ومادة، فلا تبقى رجولة، ولا يبقى كمال. أتدرون أنه كانت تمر بك عشر سيارات في الشوارع والطرق ومن بينها خمس أو ست سيارات تغني، عرفتم؟ محرمون نلبي وصاحب التكس يغني؟ يا عبد الله! يقول: لا، أنا إذا ما أغني السيارة لا تمشي.الآن الحمد لله، والله تمر بنا عشرون، ثلاثون، أربعون سيارة ما فيها إلا واحدة، وصاحبها أيضاً بمجرد ما تقول له يسكته، فالآن الذين يتركون الغناء بسهولة ويسر.وهذا كله للفرق بين (تبع) و(اتبع) اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] هذا أيضاً قيل لآدم وحواء ولذريتهما في سياق آخر من سورة طه فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] لا يضل في الدنيا عن سبل الهدى وطرق الخير والكمال والإسعاد، ولا يشقى في الآخرة ولا في الدنيا، وعد الصدق الذي يعد الله تعالى به، كيف يا شيخ؟ نعم، لأن هدى الله عبارة عن قانون موضوع وضع الكيماويات في تراكيبها.إذا أُدي هدى الله كما هو يستحيل أن لا يتحقق معه أمن ولا رخاء ولا سعادة، فإن عبث به، وقدم فيه ما شاء وأخر ما شاء لا ينفع، ولا ينتج هذا النور، ولا هذه الطاقة.

معنى الإعراض عن ذكر الله

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي [طه:124] ما معنى (أعرض) يا شيخ؟ أعطاه عرضه بمعنى استدبر، عرض الإنسان تعرفونه أو لا؟ كعرض الحائط، ما معنى أعرض؟ كان مقبلاً لما قيل: قل: سبحان الله اترك كذا أدبر، أعطاه عرضه تماماً بخلاف التفاتة يسيرة.ما ذكر الله هذا؟ هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر؟ هذه قطرة من بحر.المقصود: ذكر الله، كتابه، شرعه الذي وضع للإكمال والإسعاد في الأرض والسماء أو في الدنيا والأخرى، وصدق الله العظيم فقد أعرض المسلمون في قرون متعددة، فضلوا وشقوا.هل هناك من يرد على الشيخ؟ لقد أعرض المسلمون، وأعطوا الكتاب والسنة ظهورهم، واشتغلوا بالبدع والخرافات والأوهام والضلالات، فما بقي قال الله ولا قال رسوله، يقرءون القرآن على الموتى وفي المقابر، ويقرءون السنة ونادراً من يقرؤها للبركة، نقرأ صحيح البخاري للبركة.ضلت وشقيت أو لا؟ من يقول: لا، أما استعمرتنا هولندا في مائة مليون مسلم، في جزر جاوة في إندونيسيا، سبحان الله، هولندا كم مليون؟ هذا الشعب ثلاثة عشر مليوناً بالنساء والأطفال، أين يسكنون؟ في أوروبا، يصلون إلى العالم الإسلامي بالأولياء والعلماء، مائة مليون، ويسوسونهم، ويسودونهم، صح أو لا؟ كيف استعمرتنا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا، السر والعلة أننا أعرضنا عن ذكر ربنا.قد نقول: ما أعرضنا باختيارنا يا شيخ، هم الذين فعلوا بنا هذا.نعم، لكن نحن أعطيناهم أعناقنا فذبحونا، رضينا بالتقسيم: المذهبية، والوطنية، والطرق، قرية واحدة نعيش فيها، فيها أكثر من سبع طرق، وكل قومي مع إخوانه كأنه عدو للآخرين في هذا العالم، هذه طرق صوفية ودينية ربانية ما هي أحزاب سياسية ولا جمعيات دنيوية.المذاهب: مذهبكم أنتم ماذا؟ والله نحن مالكية. وأنتم؟ قالوا: شافعية. وأنت من أين؟ قال: أنا أباضي. وأنت ماذا؟ قال: زيدي. وأنت ماذا؟ قال: جعفري. وأنت ماذا؟ قال: إمامي.من أين هذه الفرقة؟ آالله أمر بهذا؟ كيف فعلوا بنا ذلك؟ لأنهم أطفئوا النور من أمامنا، أي: القرآن أبعدوه وراءنا، فلما انطفأ النور عدنا حيث شئت: إلى المخامر، وإلى المزاني، وإلى الباطل والشر؛ لأننا في الظلام، وإن أردت التدليل والبرهنة: لم ما استطاعوا في عهد الصحابة وأولادهم وأحفادهم؟!أيام كانوا لا مذهبية ولا.. من أنت؟ مسلم فقط، عرفوا هذا فذبحوا هذه الأمة، فهل من عودة؟ مستحيل يا شيخ، لم مستحيل؟ القرآن خفي ونقص منه شيء، وما بقي من يفهمه؟ السنة ضاعت، ألقيت في البحر أيام الفتح أو الاستعمار؟ لا، موجودة، قال الله قال رسوله.إذاً ما المفقود؟ نحن المفقودون، ما عرفنا الله ولا قرعنا بابه، ونعود من حيث نبدأ، لا حيلة إلا أن نعود إلى بيوت الرب بنسائنا وأطفالنا وساستنا وعظمائنا من المغرب إلى العشاء وطول العام، ليلة قال الله، وأخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.وما إن ينتفي الجهل، ويحل محله العلم، ونصبح نبصر ونرى، والله لا يبقى مذهب، ولا خلاف، ولا فرقة، ولا عداء ولا إسراف، ولا بغضاء، ولا كبر، ولا الأمراض، فكلها انتهت؛ لأن هذا العلاج رباني وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فالرسول موجود، والكتاب موجود فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].لم لا نستطيع؟ هل هناك من يقول بالرشاش والسلاح: ممنوع دخول المسجد، لا تجلسوا فيه؟غير موجود، وإن وجد في يوم ما لفتنة وقعت؛ فإنها تزول بعد عام وعامين، وتنتهي.هل من طريق سوى هذا؟ والله لا طريق إلا هذا، حتى يرانا الله، ونبرهن، وندلل على أننا طالبو ومريدو رحمته وإحسانه، ها نحن نجتمع في بيته بنسائنا وأطفالنا ورجالنا، وأغنياؤنا كفقرائنا نتعلم الهدى.

عاقبة الإعراض عن ذكر الله

إذاً وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] كيف أعمى؟ أي: بلا نور، وقد شاهدتم ذاك المنظر في شاشة القرآن العظيمة يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَا تُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] يحشر المؤمنون مع المنافقين؛ لأن المنافقين كانوا يصلون ويجاهدون فيحشرون مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا بالمؤمنين أنوار تلوح كأنوار السيارة، من وجوههم لا من عينيهم فقط، وجوه مشرقة، والنور أمامها، فيعجب المنافقون كيف؟ انظر يا أبا جميل إلي؛ حتى نقتبس من نورك، فيقال لهم: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ [الحديد:13] وهذه لدغة؛ ارجعوا وراءكم إلى الدنيا واكتسبوا النور منها بالإيمان وصالح الأعمال ما هو هنا. عرفتم هذه؟ ضربة على الرأس ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13] يرجعون كالبهائم، يرجعون إلى الوراء، وما إن ينفصلوا عن موقف المؤمنين والمؤمنات الحق حتى يحال بينهم وبينهم بسور، لا إله إلا الله فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ والأسوار تعرفونها عالية رفيعة فاصلة لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ [الحديد:13-14] يا أبا جميل، يا أعرابي أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:14-15].هذا القرآن -يا جماعة الإيمان- يقرأ على الموتى؟ يجوز؟ في المقابر تجد طلبة القرآن يقرءون بالفلوس: تعالي.. تعالي، أنا أقرأ على ابنك، وأيام كان ابنها يفجر ويفجر ويزني لا تسأل، فلما مات: اقرأ عليه القرآن حتى يدخل الجنة! قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:125-127] آمنا بالله.

مكان هبوط آدم وحواء من الأرض

نعود إلى الآية الكريمة قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا [البقرة:38] عرفتم سبب الهبوط أو لا؟ آدم عصى وأكل الشجر، وإبليس تكبر وأبى أن يسجد فقط.قد يقول قائل: أين نزلوا؟ نزلوا بالبراشوت، أما تعرفون الطيارة عندما ينزلون شخصاً أو لا؟ ليس هناك أحد يعرف، ينزل به ملك كالبراشوت إلى أن يضعه على الأرض.واختلف في أي مكان نزل آدم وحواء، فقيل: حواء نزلت في الهند، وآدم في الحجاز، وهذه حكايات، لكن كلمة عرفة وعرفات هذه أكثر أهل التفسير يقولون: هنا تعارف آدم وحواء، أي: تم لقاؤهما بعد الفرقة؛ إذ كل هبط في منطقة، وتلاقيا هنا وتعارفا، لا يعرف زوجته؟ يعرفها، هل هناك غيرهما؟ لا أحد، فسميت عرفة، ونزل القرآن بكلمة عرفة أو لا؟ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198].والبيت بني في مكة قريباً من عرفة، لم؟ لأن آدم أصبح في وحشة، أصبح في ألم، أين كان وأين أصبح؟ كان في جوار الله، في الملكوت الأعلى فأصبح في عالم في الأرض وحده، فبنت له الملائكة الكعبة، حتى إذا احتاج إلى شيء من ربه يأتي إلى بيته يقرع بابه، يطلب، ولهذا نقول لأرباب الحاجات: إذا ما قضيت حاجتك اذهب إلى بيت ربك، والزم الباب أو الملتزم، واسأل -إن شاء الله- تعط، ذهبت ويدي كسيرة كذا شهر، والحمد لله ما عدت إلا واليد في خير وعافية، أبشركم، ذهبت الآلام.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ...)

قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [البقرة:39]والكفر معاشر المستمعين والمستمعات هو الجحود، وأحياناً يكون جحود عناد، يعرف الله ولا يقول به، يعرف الدار الآخرة موقناً بها وهو ينكرها، للحفاظ على مصلحته أو مركزه أو حاله، فالتكذيب كالكفر، من كفر كذَّب، ومن كذَّب كفر، لو أن فلاناً كذب بحكم واحد من أحكام الله ويقول: لا أعترف بهذا! كفر، وكذب، وخرج من الإسلام، وهؤلاء جمعوا بين الكفر والتكذيب بآيات الله، لا بالنبي، ولا بالدار الآخرة والبعث والجزاء، بل كذبوا بآيات الله؛ لأنها تحمل الشرائع والأحكام والقوانين.وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-12, 05:24 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (46)
الحلقة (53)



تفسير سورة البقرة (17)


أنعم الله على بني إسرائيل بنعم كثيرة منها أنه أنجاهم من آل فرعون، وجعل منهم أنبياء، وأنزل عليهم الكتب وغيرها ومع هذا كانوا من أجحد خلق الله وأكفرهم بتلك النعم، فناداهم الله آمراً لهم بأن يذكروا تلك النعم التي لا تعد ولا تحصى، فيشكروا الله عليها بأفئدتهم وألسنتهم وجوارحهم، ولا شك أن في هذا الأمر توجيهاً لنا نحن المسلمين بأن نذكر نعم الله ونشكره عليها؛ فنجعل حياتنا كلها لله وإلى الله.

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ...)

الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:40-43] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

التعريف ببني إسرائيل

من المنادي يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40]؟الله ناداهم. بأية واسطة؟ بواسطة كتابه ورسوله، الكتاب هو هذا القرآن العظيم، والرسول الواسطة الثانية، وهو النبي الرءوف الرحيم صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.ومن هم بنو إسرائيل؟أولاد إسرائيل وبنو إسرائيل بمعنى واحد، بنو فلان أو أولاد فلان، نحن أولاد إسماعيل، قيل في ابن: ابن؛ لأنه مشتق من البناء، لأنه يوضع عليه الأب والأب فوق الأب وهكذا أو دونه كالبناء، والجمع أبناء، جمع تكسير، ويقال: (بنو) جمع سلامة، (بنو وبني) ملحق بجمع المذكر السالم.وإسرائيل: (إسرى) بمعنى عبد، و(ئيل) بمعنى الله، وإسرائيل نظيره ميكائيل .. جبرائيل .. إسرافيل، عزرائيل .. فالكل: عبد الله، سواء بعبد الله أو بعبد الرحمن أو ما إلى ذلك، وكلنا عبد الله، وإسرائيل هذا لقب وليس باسم، اسمه العلم على ذاته هو يعقوب، ووالده هو إسحاق، والجد إبراهيم؛ فهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً السلام.ويعقوب هو البشارة التي جاءت في قول الله تعالى لما استضاف ثلاثة من الملائكة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل. استضافوا: أي طلبوا ضيافة إبراهيم الخليل عليه السلام، وهم في طريقهم لأداء مهمة عظيمة، ألا وهي نسف المدن، وقلبها ظهراً لبطن، والعالي إلى أسفل؛ لأن تلك المدن خمت وتعفنت بأوضار الشرك وأكبر جريمة، وهي اللواط، والعياذ بالله تعالى. وفعلاً جُعل عاليها سافلها، وأصبحت بحيرة منتنة وهي إلى الآن موجودة، واسألوا عن البحر المنتن أو الميت في فلسطين.إذاً: نزلوا ضيوفاً على إبراهيم، وقد قص الله تعالى علينا كيف أكرمهم إبراهيم؛ إذ شمر عن ساعديه، وذبح عجلاً وشواه، وقدمه مشوياً، فجاء بعجل حنيذ فقال: ألا تأكلون؟ عرض عليهم بأسلوب العرض لا العزم، العزم: كلوا، قال: ألا تأكلون. ولهذا أهل المغرب يقولون: العرض، وأهل المشرق يقولون: العزومة، تعرفون هذا أو لا؟ المغاربة يقولون: اليوم عند فلان عرضة، أنت معروض. وأهل المشرق يقولون: عزومة كذا.أيهما ألطف عزومة أو عرضاً؟بعض الناس يناسبهم العرض؛ لأن مستواه رفيع لا يستخدمه كالعبد: كل، بالقوة، (ألا تأكل). وبعض الناس يحتاجون إلى العزومة؛ لأنهم يغلبهم الحياء فإذا قيل: ألا تأكل، ألا تحضر عندنا اليوم؟ يقول: لا، حياء. فهذا يستعمل له العزم: أنت معزوم اليوم.فلما قدم العجل المشوي، المصلي، المحنوذ قال: ألا تأكلون؟ فقال جبريل عليه السلام: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه. قال: فكلوه إذاً بحقه، ما عندنا مانع .. كلوه بحقه، قالوا: وما حقه؟ قال: أن تسموا الله في أوله، وتحمدوه في آخره، وأنتم أيها الآكلون لا تسمون الله ولا تحمدونه على طعامكم، فأنتم آكلون للحرام .. سرق، مغتصبون؛ أكلتم بدون إذن ربكم، هل يجوز لنا هذا؟ وعليك قبل أن تتناول الملعقة أو اللقمة أن تقول: باسم الله؛ إذ لولا أنه أذن لك ما حل لك، وإذا طعمت، وإذا رويت وشبعت قل: الحمد لله، شكراً له على إنعامه.وروي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رفعت سفرته من بين يديه .. ) سفرة! إياك أن تفهم أنها كسفرتكم! ( ما رفعت سفرته من بين يديه إلا قال: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ). طيلة حياته، ونحن مع الأسف تجد نصف المسلمين لا يعرفون بسملة ولا حمدلة، يأكلون وهم يغنون ويصفرون، من أين لهم أن يأكلوا هذا الطعام بدون إذن مالكه ومبيحه لهم، ومعينهم عليه، فلولا الله ما أكلنا، ولا قدرنا على مضغ لقمة.فلما قال إبراهيم: كلوه بحقه، وعرفهم حقه ما هو، التفت جبريل إلى ميكائيل وقالا: حق للرجل أن يتخذه ربه خليلاً.هذه جائزة نوبل، دكتوراه، (حق للرجل) أي: ثبت له، أن يتخذه ربه خليلاً، إبراهيم خليل الله أو لا؟ كيف وصل إلى هذه المرتبة؟ كيف سما إلى هذا المكان العالي؟ بهذه المعارف، عرفتم؟!وهنا بشروه بإسحاق وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، ولا يملك هذه البشرى إلا من بلغها عن الله، وامرأته -كما تعرفون- عجوز كأمهاتنا كبيرة في السن وعقيم وعاقر، وإبراهيم بلغ الثمانين أو المائة والعشرين، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:29] .. وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود:71-72]. قالت الملائكة: قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:73] يا ليتنا كنا منهم أهل البيت.فبشروها بإسحاق وهي -كما عرفتم- عجوز، وزوجها شيخ كبار، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] أي: ستلدين ولداً وتسميه إسحاق، وسوف يكبر ويتزوج، ويولد له ولد اسمه يعقوب.ومن يقدر على هذه البشرى؟ هذا لا يقدر عليه إلا الله، هذا هو يعقوب الذي عقب إسحاق وجاء بعده، لقب بإسرائيل، ولا نقول: كني؛ لأن التكنية بالأب أو الأم أو الولد: أبو إبراهيم، أبو زينب، أما اللقب فقد يكون لقب رفعة، وقد يكون لقب خسة، كأنف الناقة! هل هناك من يلقب بأنف الناقة؟ هذا لقب رفعة أو لا؟ لقب حطة وخسة، ويلقب بناب الأسد.فهذا لقب ليعقوب، لقب بإسرائيل، نسب إلى الله؛ لأنه له، جاء من عنده وعاش له وإليه.فلما ولد يعقوب اثني عشر ولداً: يوسف .. بنيامين .. يهوذا.. فلان .. فلان .. رزقه الله باثني عشر ولداً، وأولئك الأولاد ما منهم أحد إلا وأصبح رئيس قبيلة .. أبو قبيلة، وهم يسمونهم بالأسباط جمع سبط.قالت العلماء: الأسباط كالقبائل عند العرب، وهؤلاء الأسباط هم بنو إسرائيل، أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الملقب بإسرائيل.عرفتم الآن من هم بنو إسرائيل؟وهل يوجدون اليوم؟ إي نعم، وهم اليهود، وسموا (اليهود) نسبة إلى يهودا أحد أبناء يعقوب، والصحيح أنهم أخذ لهم هذا الاسم من هاد يهود إذا هبط، وما زال من العوام بعضهم يقول: هود، بمعنى اهبط من السطح إلى الأرض، فهم هووا من علياء الكمال إلى سفلة المخلوقين، لماذا؟ بكفرهم .. بكذبهم .. بعنتريتهم .. بإجرامهم هبطوا.بنو إسرائيل يحافظون على نسبهم، لم ما تتزوج اليهودية غير يهودي، واليهودي لا يتزوج غير يهودية؟ لأنهم يفهمون أنهم شعب الله المختار، فلا يقبلون أن يدخل فيهم غيرهم، ويقضون ويحكمون على أن البشرية كلها نجس، وهم الأطهار، فلهذا يحلمون بأن يسودوا البشرية ويحكمونها، وقد طلعت الشمس لهم في هذا الباب، وحكم سليمان العالم .. سليمان ساد العالم الموجود في عهده.

التذكير بنعم الله على العباد

الآن يناديهم الرحمن الرحيم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40] وما أحرانا نحن بهذا النداء: يا أتباع النبي محمد اذكروا نعمة الله عليكم! كنتم جهلة فأصبحتم علماء .. كنتم مسودين أصبحتم سائدين .. كنتم ضلالاً أصبحتم هداة مهديين .. كنتم وكنتم، هذه نعمة الله عليكم، إنها دين الإسلام، فلا تنسوها واذكروها. هل هذا الذكر يجدي وينفع؟إي نعم، واعمل تجربة، ومن أراد أن يجرب باسم الله: أنت خال بنفسك وإن كنت في الصلاة، استعرض بصدق نعم الله عليك واذكرها، فإنك لا تلبث أن تذرف عيناك الدموع، ويقشعر جلدك.أعود فأقول: إن لذكر النعمة أثراً عظيماً وهو أنه ما تلبث أن تحمد الله وتشكره، وتثني عليه خيراً.والذين لا يستعرضون نعم الله عليهم ولا يذكرونها أنى لهم أن يشكروا الله، وإن شكروا بكلمة (الحمد لله) لكنها ليست من قلوبهم، بل من شفاههم وألسنتهم.كيف تذكر نعمة الله؟لا تتصور إلا أنك عامل أو فقير، اذكر أيام كنت كذا .. أيام حصل لك كذا .. أيام مرضت .. أيام تعرضت لكذا .. أيام .. أيام .. اذكر تلك الأيام تتجلى لك نعم الله، وتجد نفسك مضطراً لأن تقول: الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله.لم ما قال تعالى: يا بني إسرائيل اشكروا نعمة الله عليكم، ولم يقل: اذكروا؟ لأنه إذا قال: اشكروا لا يستطيعون أن يشكروا، ما هم متأهلين، فقد غلبتهم الدنيا وأهواؤها وأطماعهم، لكن إذا ذكروا نعمة الله شكروا.هل أدركتم هذا المعنى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40]؟ولفظ النعمة اسم جنس، والمراد نعمى، كقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] إن كانت واحدة كيف لا تحصى ولا تعد؟ لكنها نعم، فنعمة اسم جنس كلفظ الإنسان تحته بليارات الناس.

كيفية شكر الله على النعم

أعيد فأقول: يا عباد الله! يا مؤمنون! يا مؤمنات!من أراد أن يشكر الله فليذكر بقلبه نعمه عليه، لا يتجاهل، ولا يتناسى، ولا يغفل، ولا يعرض، يذكر النعم، فإن ذكرها يدفعه إلى شكرها.وشكر النعمة يكون أولاً بالاعتراف بها لله؛ إذ قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53]، وما بكم من نعمة صغرت أو عظمت فهي من الله.الاعتراف بأن هذا البصر، أو هذا السمع، أو هذا المنطق، أو هذا الريال، أو هذه الجلسة التي حرمها ملايين البشر، من مصدرها؟ من واهبها؟ الله، فإذا ذكرت النعمة بقلبك فسوف ينطلق لسانك بحمد المنعم وشكره: الحمد لله .. الحمد لله، وهذا ثانياً.فإذا حمد الله بعد ذكر النعمة، لا تقليداً وغفلة، عرف النعمة فقال: الحمد لله، والحمد لله رأس الشكر. فإذا كان الشكر هيكل كالإنسان أو الحيوان رأسه الحمد لله، فلهذا لا يستهينن أحدنا بكلمة: الحمد لله، على شرط أن تخرج من القلب فلا تطلقها باردة، أخرجها حارة: الحمد لله.ثالثاً: إذا كانت النعمة موجودة قائمة فمن شكرها أن تصرفها فيما من أجله أعطاكها الله.يا من اعترف بنعمة الله عليه، وبادر بحمد الله وشكره عليها! اعلم أنك خطوت خطوتين جليلتين وبقيت الثالثة وهي الأصل، فلا شكر إذا لم تصرف تلك النعمة فيما من أجله أنعم الله بها عليك.تريدون أن نعمل أو أن دروسنا كأيام مضت في القرن العاشر للبركة، جلسنا للبركة أو جلسنا لطلب العلم؟لم نطلب العلم؟ لأنه نور ولا هداية بدون نور، والواقع شاهد.من أين نطلب العلم؟ من مصدره .. من ينبوعه .. من وحي الله الذي سماه نوراً: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8].

شكر الله على نعمة البصر

باسم الله نبدأ بالعينين.أسألكم بالله: أنعمة البصر نعمة أو لا؟ أجل نعمة، فالذي يفقد بصره أمره إلى الله، حتى إن المؤمن إذا امتحنه الله وابتلاه ليظهر طيبه فأخذ بصره عوضه الجنة، ليس هناك عوض إلا هي.ما من عبد يأخذ الله بصره فيصبر ولا يجزع إلا كان الجزاء الجنة فقط، ما هي ألف حسنة ولا مليار، ليس له جزاء عند الله إلا الجنة.كيف نشكر نعمة البصر يا شيخ؟البصر ينطق! الجواب: لا. شكر نعمة البصر ألا تنظر فيما حرم الله عليك النظر إليه، فهذه نعمة اصرفها حيث يريد الله، انظر بها السماء والملكوت الأعلى .. انظر بها الطريق الذي تسلكه .. انظر بها الكتاب الذي تقرؤه .. انظر بها الطعام الذي تأكله، أما أن تنظر إلى أمرد تتلذذ برؤياه، أو تنظر إلى محرم من النساء، فقد صرفت النعمة فيما حرم الله، وأنت تغضب الله بهذا.يقول الله: أنا أعطيك نعمتي لتطيعني بها فإذا بك تعصيني!ولولا أن الله حليم لسلب هذا البصر، نظر متعمداً نسي ربه، وإذا ببصره انتهى. عرفتم نعمة البصر.أو تنظر إلى عاهرة ترقص أمامك، وترفع ساعديها وثدييها وأنت مغرم بها كأنك لم تعرف غيرها، ولم تكن من أهل الإسلام!لا إله إلا الله، عجب يا عرب! عجب هذا!تمر المرأة أو تشرف من سطحها أو نافذتها والإنسان يحاول، بل يريد أن يستنطقها بأذية حتى تنظر إليه وتكلمه! هذا ملكه الشيطان، سُخِّر في وجه إبليس.لعل هذا غير واقع؟! أما بلغكم قول ربكم تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، ما قال: قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم، كيف يمشون إذاً؟ كيف يعملون؟ يغضون من البصر عندما تظهر المعصية، والحمد لله عندنا هذا الجفن عجب! تغمض عينيك بسهولة، لا ألم ولا تعب، وتفتح بسهولة، أرأيتم لو ما كان لنا أجفان والعيون مفتوحة فقط، كيف نطيع الله؟إذاً الحمد لله. إن شاء الله نكون من الشاكرين لهذه النعمة، خل المؤمنات يخرجن فلن ننظر إليهن.

شكر الله على نعمة السمع

ومن البصر إلى السمع، الآذان آلات السمع أو لا؟هذه النعمة؛ نعمة السمع جليلة وعظيمة، أرأيت الأصم الذي لا يسمع ادعه .. ناده، لا يسمع.هذه النعمة كيف نشكر الله تعالى عليها؟ألا نسمع .. ألا نصغي بآذاننا إلى كلمة تغضب ربنا، ولا يرضى بها.هل فهم السامعون والسامعات؟!فإذا سمعنا أحداً منا يغتاب، ويذكر فلاناً وفلاناً بما يسيء إليه، لا نسمع، ونغلق آذاننا.ومما هو واضح عندكم سماع أصوات المغنيات من العواهر، والتلذذ بتلك الأصوات.. آلله أذن لكم في هذا؟ أتحداكم.كيف أصبح المسلمون يتلذذون بأصوات العواهر وأغانيهن؟! لأنهم فقدوا نور الله، وكونهم مسلمين بالاسم أو لهم رغبة في الإسلام هذا غير مجد. ما عرفوا، إلى الآن تجد بين المسلمين من يقول: الأغاني ماذا فيها؟ ما فيها شيء! يقولون أو لا؟والله ما جاز لمؤمن أن يسمع امرأة تغني إلا أن تكون جاريته، أيام كان الجواري: غنِ يا جارية. لا بأس؛ يملكها ويملك صوتها، وحتى فرجها، فلا بأس، أما أن تغني امرأة لفحول الرجال، وهم يسمعون، وقد يتلذذون، إي نعم، فهذا منكر .. باطل .. حرام .. ذنب، ويتولد عن هذا الذنب موت القلوب، ثم الوقوع في الفجور، والتلطخ بالآثام والذنوب.إذاً: لا تسمع بأذنيك ما يغضب ربك: لا غيبة، ولا نميمة، ولا سخرية، ولا استهزاء بالإسلام ولا بالمسلمين، ولا كلمة الكفر، ولا ولا.. إذا سمعت من هذا النوع أغلق أذنيك، أو خذ نعلك واخرج.وجاء هذا في القرآن من سورة الأنعام: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68] فإذا جلس المؤمن مجلساً، وأخذوا يغتابون ويطعنون يأخذ نعله ويخرج، تعال تعال! لا، أو أدخل أصبعيه في أذنيه.وقد روي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان في طريقه مع مولاه نافع في البراري والصحارى أيام الفتح، وإذا براعي غنم أو إبل أو بقر يزمر بالزمارة.زمارة الراعي تعرفون عنها؟ وعلى كل حال العبرة ما هي بالأسماء.فأدخل ابن عمر أصبعيه في أذنيه، وأسرع الدابة، ومشى ثم لما تجاوز المنطقة قال: هل انقطع حس الزمارة يا نافع، مولاه؟ قال: نعم. فأخرج أصبعيه من أذنيه ومشى في الطريق الهوينا، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.أما نحن فماذا نقول؟!بالمدينة النبوية والحمد لله هذا الصوت نفع الله به، مضت أيام والله يا أبنائي وإن كنت واهماً سددوني، كان الدكان من أعلاه إلى أسفله بإطار خاص كله أشرطة أغاني، هل هذا صح أما أنا أكذب؟ في لندن أم المدينة النبوية؟ هنا. دكان بالإطار الخاص، كما يقولون: ديكور. من أعلى إلى أسفل أشرطة أغاني تباع للمؤمنين والمؤمنات، كيف كنا؟ متنا أم ماذا؟الحمد لله، يخبرني بعض الإخوان: يا شيخ! لقد كانت غرفتي أو مكتبي من أعلاه إلى أسفله أشرطة أغاني، وحولتها كلها إلى أشرطة علم ومنافع.كيف تبيع أشرطة العواهر في مدينة الرسول يا أعمى؟! يا من لا قلب لك ولا ضمير؟!إذاً حفظنا أسمعانا، شكرنا ربنا، لا نسمع إلا ما فيه رضا ربنا.

شكر الله على نعمة اللسان

ومن السمع والبصر إلى اللسان .. إلى المنطق.اللسان نعمة أو لا؟ أرأيتم الأبكم كيف حاله؟ يشير بأصابعه ورأسه لا يستطيع أن ينطق بكلمة بله بحرف واحد، نعمة عظيمة هذه أو لا؟ نعمة عظيمة.كيف تشكر هذه النعمة؟طريق شكرها لله ألا ننطق بكلمة سوء ولا بذاء ولا فحش، هذا من حيث آدابنا، لا ننطق بالبذاء ولا بالسوء ولا بالفحش أبداً، وثانياً: لا ننطق بكلمة تسيء إلى مؤمن أو مؤمنة، أو تضر بمؤمن أو مؤمنة، أو تؤذيهما بأي نوع من الأذى، وفوق ذلك ألا نقول كلمة نكفر بها، ونخرج من دين الله كالاستهزاء بأولياء الله .. كالاستهزاء بآيات الله .. كالاستهزاء بشرائع الله .. وقد وقع في هذا كثيرون، بل ملايين ويزعمون أنهم مسلمون، ويسخرون من آيات الله ومن أولياء الله وعباد الله.إذاً: هكذا نشكر الله بألسنتنا أو لا؟والذي يغني بلسانه بألفاظ البذاء، والدعارة، والدعوة إلى الخنا، هل هذه نعمة شكرها بهذا؟هذه النعمة تشكر بالذكر، والثناء على الرب .. بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. بتعاليم الله ونشرها .. بتعليم الناس وإنقاذهم من الجهالات ووهدتها، بهذا تكون هذه النعمة قد شكرت.ومن دخل السوق والناس في شغلهم الشاغل فرفع رأسه وأرسل صوته، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وإليه المصير، وهو على كل شيء قدير؛ كتب له مليون حسنة، وحط عنه مليون سيئة، ورفع مليون درجة .. ألف ألف كما يقول الرسول، فما عندهم لفظ المليون.أما ما يذكروه عن رسول الله: روح عن نفسك ساعة وساعة، هل هذا صحيح أو لا؟ هذا معناه صحيح، وروايته أيضاً صحيحة.لكن لمن يقال هذا الكلام؟ هل يقال لشخص يذكر الله: اترك الذكر، وغن ساعة وساعة! فهمتم، هل يقال هذا لمن يفتح التلفاز ويشاهد الراقصات يرقصن وهو ينظر ويبتسم ويقول: روح على نفسك ساعة فساعة؟!هذا يقال لمن صام ولم يفطر، وقام ولم ينم، يقال له: يا عبد الله! روح على نفسك، كل كما يأكل الناس .. اشرب كما يشربون .. استرح ساعة .. لا تواصل أربعة وعشرين ساعة وأنت تذكر .. أعط الراحة لنفسك.. عرفتم؟ هذا معنى (روح على نفسك).ليس معناه: ساعة افجر وساعة اعبد! أعوذ بالله، هذا كفر.أذن لنا في الفجور لنروح على أنفسنا؟!هذا الترويح بيناه بأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، يشتغلون ثمان ساعات .. عشر ساعات، فإذا غابت الشمس ودقت الساعة السادسة، ذهبوا يروحون على أنفسهم في المراقص .. في المقاصف .. في الملاهي .. في دور السينما؛ لأنهم لا أمل لهم في السماء ولا الملكوت الأعلى، آيسون، ماذا يصنعون؟ ثمان ساعات وهم في الشغل، فإذا فرغوا من يروح عليهم؟ يذكرون الله؟! ما عرفوه. يصلون على النبي؟! ما آمنوا به. يذهبون إلى بيوت الرب؟ ما عندهم أو مغلقة، فيذهبون إلى الباطل. فهل المسلمون مثلهم؟ المفروض -والله- ما نحن بمثلهم، لكن الجهل غلب علينا فأصبحنا أيضاً إذا دقت الساعة السادسة وأغلق باب العمل نذهب إلى الملاهي؛ لأننا فقدنا النور الإلهي، ما عرفنا، وإلا المفروض والواجب إذا انتهينا من العمل الذي ما عملناه إلا لله، لا هدف إلا الله، سواء كان مصنع ينتج كذا، أو مزرعة تنتج كذا، أو متجر ينتج كذا.. ما نعمل إلا لله.يا شيخ! كيف تقول هذا؟إي والله، إنا لله، وكلنا لله، فإذا فرغنا من العمل نذهب إلى بيوت ربنا، فنروح على أنفسنا بذكر الله، والاتصال به ومناجاته، وسماع الهدى والنور النازل من عنده، لكن ما علمونا هذا، ما عرفنا.نعود إلى نعمة اللسان، واسمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم حين يسأله سائل: دلني على طريق الخير .. على ما يباعدني من النار، ويدخلني الجنة؟ فقال له: كف عنك هذا، ويشير صلى الله عليه وسلم إلى لسانه، قال: ( أو إنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! ) دعا عليه لجهله، لكن ما يقصد أن تموت أمه، أو تفقده هي، ( ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم؟! ) شك الراوي، وهما بمعنى واحد ( أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ).إن الكلمة أحياناً توقد نار فتنة تستمر عشرين سنة، وكلمة تقال تطلق الرجل من امرأته والمرأة من الرجل، وكلمة تقال يفصل بها شخص من عمله، وكلمة تقال فتنتج أموراً عظيمة.الكلمة هي مبدأ الخير والشر، فلهذا كف عنك لسانك يا معاذ .إذاً عرفنا شكر هذه النعمة.

شكر الله على نعمة المال

بقي نعمة الريال.الريال نعمة أو نقمة؟ نعمة، كلمة ريال هذه عادية .. دينار .. درهم .. ليرة.. قل ما شئت.المال نعمة، والكل يعترف، هذه النعمة شكرها أن تصرف في ما من أجله أنعم الله تعالى به عليك.إذاً: اشتر اللحم ولا تسرف .. اشتر الثوب ولا تسرف .. اشتر النعل ولا تسرف .. اشتر الفراش والغطاء ولا تسرف .. اشتر الدابة ولا تسرف.فبدل أن تشتري سيارة بأربعمائة ألف اشتر السيارة ذات الخمسين ألفاً، كذا أو لا؟ وهكذا، وعلى قدر الكساء أمد رجلي، هذا مثل عربي، ولكن تشتر بأربعمائة ألف للفخفخة والفخر والزهو، وحولك الناس في حاجة إلى ألف ريال، فكر يا عبد الله، كيف؟!إذاً كل درهم تنفقه في معصية الله كفرت به نعمة الله، وتعرضت للسلب بعد العطاء، انتبهتم؟خلاصة القول: دراهمك .. دنانيرك! إياك أن تنفق ريالاً واحداً منها في معصية الله، ولنبدأ ولا حرج بالسيجارة.تعرفو السيجارة أو لا؟السيجارة حرام، لم حرام؟ لأنها تؤذي الملائكة، ويا ويل من يؤذي ملائكة الله، كيف يسعد؟ كيف ينجو؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مساجدنا ) لم يا رسول الله؟ قال: ( إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، وقال: ( إذا أراد أحدكم أن يبصق فلا يبصق عن يمينه ولكن تحت رجليه؛ لأن عن يمينه ملكاً ).وصاحب الدخان ينفث في وجه الملك مباشرة، أعوذ بالله! أين يروح؟ أين يذهب؟يا شيخ! تقول هذا والأمة كلها تدخن؟وهذه حجة؟! سمعتم كذبة، حتى أسري عنكم: أحد المنتسبين إلى الإسلام يدعو إلى التصوف، فأتباعه قال لهم أحد الإخوان الموحدين: لم شيخكم يدخن، والسيجارة عملت في أصابعيه حمرة؟ تعرفون هذا أو لا؟ قالوا له: لقد أذن له النبي صلى الله عليه وسلم في المنام. فهؤلاء يكذبون على الرسول صلى الله عليه وسلم، يخافون الحكم العام في العالم الإسلامي العلماء كلهم يقولون: الدخان حرام أو مكروه، وكلمة مكروه عندنا كالحرام، ما دام مكروهاً للمؤمنين والمؤمنات والملائكة وأهل السماء كيف إذن نستسيغه أو نجيزه؟لا أطيل .. الذين يحرقون ريالاتهم في الدخان -والله- لقد كفروا هذه النعمة، وما شكروها، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يدخن سواء كانت سيجارة أو بيارة، انتبهتم؟!أفواهن طيبة طاهرة، ويدلك لذلك المساويك في جيوبنا، لم؟ لأننا نذكر الله دائماً إلا عند الخلاء .. إذا جلسنا على المرحاض لا نذكر، ما إن نخرج من المرحاض: غفرانك ربنا وإليك المصير.هل تجد مؤمناً يعيش الساعة والساعتين لا يذكر الله؟ والله ما كان، كيف هذا؟ إلا إذا نام، فالفم الذي تجري عليه اسم الله الأعظم تخبث، وتلوثه ضد الله، وأنت تعلم لو أنك أخذت اسم (الله) مكتوباً ووضعته في مزبلة أو على حظيرة، انمسحت من دينك وإسلامك، وأصبحت كالشيطان في كفرك.إذاً التدخين حرام، والذين ينفقون مال الله فيه هؤلاء ما شكروا نعمة الله، فهم بها كافرون.وهكذا كل من ينفق ماله في حرام، كالذي يشتري شريطاً للأغاني واللهو، لا يحل هذا أبداً، أنفقت مالك فيما حرم الله عليك، وهكذا، رزقنا الله وإياكم العلم والهدى. يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40] أي: حتى تشكروها؛ فإن ذكرها داع إلى شكرها، والذي ينسى النعم فلا يذكرها لا يشكرها أبداً.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-14, 03:27 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (47)
الحلقة (54)



تفسير سورة البقرة (18)

أنعم الله على بني إسرائيل نعماً جليلة، منها إرساله الرسل إليهم، وإنزاله الكتب عليهم، فكان حرياً بهم أن يمتثلوا أوامر الله سبحانه، فيفوا بالعهود، ويرهبوا الله وحده، ويؤمنوا بكتبه جميعها، بما في ذلك القرآن الذي أنزله الله مصدقاً لما معهم، ومع هذا جحدوا به، وبذلوا كل ما يستطعيون في طمس معالم الحق من كتبهم سواء بالتحريف أو التأويل في سبيل الحفاظ على دنياهم، وإرضاء أهوائهم ورؤسائهم.

تابع تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ...)

الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:40-43]. معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اذكروا أن السياق الكريم قد وقف بنا على أن هناك مؤمنين صادقين، القرآن الكريم هدى لهم وبه يهتدون. وأن هناك فريقاً آخر هم الكفار أهل النار، وأنهم والآيات تنزل منهم من توغل في الكفر والشر والفساد فختم على قلبه وعلى سمعه، وعلت بصره غشاوة فهو لا يؤمن، وقد حكم الله عليهم بأن لهم عذاباً عظيماً. وكفار مستعدون للإيمان، متى وجهت إليهم الدعوة، وبينت، ووضحت لهم نتائجها وآثارها استجابوا؛ إذ ما هناك مانع؛ لأنهم ما توغلوا في الشر، والظلم، والخبث، والفساد.وهنا بلغكم وعلمتم أن علينا ألا نواصل الذنب بعد الذنب، فاحذر يا عبد الله، واحذري يا أمة الله من مواصلة الذنب، وعجل بالتوبة خشية أن يعلو ذلك الإثم على النفس فيحجبها، ويموت العبد على سوء الخاتمة.ولهذا قالت العلماء: التوبة واجبة على الفور، لا يحل أن تقول: غداً أتوب، بمجرد ما تزل القدم فيسقط عبد الله أو أمته في الوسخ ينهض سريعاً: أستغفر الله وأتوب إليه، وبذلك يمحى ذلك الأثر، أما أن يسترسل ويواصل الجريمة فإنه قد يأتي يوم يصبح فلا يراها إلا هي.وشاهده ما علمتم من تصنيف الكفار إلى صنفين: صنف مختوم عليهم بأنهم لا يتوبون؛ لتوغلهم في الشر والفساد، وفريق ثالث هم المنافقون، ومنهم منافقو العرب من الأوس والخزرج، ومنهم منافقو اليهود؛ إذ الآيات مدنية والسورة مدنية، واليهود موجودون بالمدينة، ومنهم من ينافق.خاطب الله تعالى في مثل هذا السياق بني إسرائيل؛ لأنهم متواجدون في المدينة، ومنهم المنافقون، فقال تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40] وهذا النداء الإلهي وجهه تعالى إلى أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وقد عرفنا أن إسرائيل معناه: عبد الله أو صفوة الله كما يقول بنو إسرائيل، وهذا لقب وليس باسم، والاسم الحقيقي هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.وهنا الخطاب يشمل بني إسرائيل قاطبة، فكل من انحدر من صلب يعقوب عليه السلام من أولاد الأسباط إلى اليوم هذا النداء صالح لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40].

نعم الله على بني إسرائيل

قد علمنا أن ذكر النعمة يساعد على شكرها، وصح هذا، وبالتجربة، فالذي يذكر النعمة يسهل عليه شكرها، بل يبادر إلى شكرها، والذي لا يذكرها ويتناساها، ولا يحدث نفسه بها أنى له أن يشكر، فالأمر بالذكر أمر بالشكر؛ لأن الشكر لا يتم إلا بذكر النعمة.وقد قلت للسامعين والسامعات: من أراد أن يبكي فليضع رأسه بين ركبتيه، ويغمض عينيه، ويستعرض نعم الله عليه منذ طفولته، فلا يشعر إلا وعيناه تذرفان بالدموع، وهو يلهج بكلمة: الحمد لله.اذكر تشكر، انس واترك لن تشكر.فهذه دل عليها هذا التوجيه الإلهي يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40].لكن ما هي النعم التي أنعم بها عليهم؟نعم لا تعد ولا تحصى، لكن من مظاهرها أنهم أبناء الأنبياء وأحفاد الرسل، وأن الله عز وجل أنجى بني إسرائيل من مهالك ومعاطب ومخازٍ لا حد لها. ومنها أنه جعل فيهم الأنبياء والرسل، فعامة الأنبياء والرسل من ولد إبراهيم عليه السلام، حتى لقب بأبي الأنبياء وهم من بني إسرائيل.وظهرت لهم دولة يا لها من دولة انتظم في سلكها العالم على عهد سليمان.التوراة كتاب الله بين أيديهم يتلونها.أقول: النعم لا تعد ولا تحصى، فذكرهم وناداهم اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40].نعمة الإيجاد، نعمة الإمداد، نعمة الخلق والرزق.. أليست هذه نعم؟!

أمر الله لبني إسرائيل بالوفاء بالعهود والرهبة منه

قال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] هذا خطاب سام شريف، آه لو كانوا أهلاً له، كيف لا يستحون ولا يخجلون!الله جل جلاله يقول لهم: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ، أوفوا بعهدي بأن اعبدوني وحدي، ولا تشركوا بعبادتي، (أوفوا بعهدي) آمنوا برسلي وبالأخص النبي الخاتم الذي أخذ الله الميثاق على كل نبي ورسول إذا بعث هذا النبي أن يؤمن به ويصدقه ويتبعه، فإذا أنتم آمنتم فوفيتم بعهدي وفيت بعهدكم، عهد الله لهم: العز .. السعادة .. الكمال .. الطهر .. الصفا .. الجنة دار السلام. وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] لا ترهبوا سواي، ولا ترهبوا غيري، والرهب هو الخوف، ولكن مع نوع من الحركة البدنية، فالراهب هو ذاك الذي يرتعش من الخوف.(فارهبون) أي: لا تخرجوا عن طاعتي .. لا تفسقوا عن أمري .. لا تكذبوا برسولي .. لا تتركوا ما أنعمت به عليكم من هذه النعم فتكفروها، خافوني. وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] كأنهم كانوا يرهبون غير الله؟ إي نعم، كانوا يخافون إذا دخلوا في الإسلام أن يغضب عليهم رؤساؤهم من الأحبار ويجالد بهم، فكانوا يخافونهم ويرهبونهم، فأرشدهم إلى أن اللائق بهم أن يرهبوا الله ولا يرهبوا سواه؛ إذ الله بيده كل شيء؛ الإسعاد والشقاء، والإذلال والإعزاز، والعطاء والمنع.. كله بيده، فكيف يرهب غيره؟ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40].
تفسير قوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ...)
قال تعالى: وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [البقرة:41] ما الذي أنزله مصدقاً لما معهم؟ إنه القرآن العظيم، أي: وآمنوا بالقرآن الكريم. ‏

أمر الله لبني إسرائيل بالإيمان بما أنزل في القرآن

وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [البقرة:41] إذ القرآن يتفق مع التوراة اتفاقاً كاملاً في العقيدة: البعث، والجزاء، والكتب، والرسل، ولقاء الله، واليوم الآخر.. كلها ثابتة في التوراة والقرآن.أما الأحكام الطارئة فقد تختلف بين عصر وعصر، وبين أمة وأخرى، فيحل الله ما شاء، ويحرم ما شاء من أجل هداية أولئك الناس الذين يحل لهم أو يحرم عليهم.أما أصول الدين والعقيدة فلا تختلف أبداً، فالقرآن مصدق لما بين يدي اليهود مما جاء في التوراة من أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الإيمان بالرسل والكتب إيمان لازم لكل مؤمن، ولا إيمان بدون ذلك، الإيمان بالبعث الآخر وما يتم وما يجري فيه من حساب وجزاء بالنعيم المقيم أو بالعذاب الأليم، فالقرآن الكريم ما تناقض أبداً مع التوراة ولا اختلف معها، بل مصدق لما فيها.إذاً: فلا معنى للكفر بالقرآن، ولا معنى أبداً للهروب من هذه الحقيقة، فما جاء القرآن لينقض عقائد الحق التي تحملها التوراة، أو ما جاء بأمر جديد خارق للعادة، بل هو جاء بموافقة ما في التوراة والإنجيل. وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [البقرة:41] دعاهم إلى الإيمان بالقرآن العظيم.كما دعاهم إلى الإيمان بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم فيما تقدم من الآيات: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، فهو دعوة إلى الإيمان بالنبوة المحمدية، وهنا طالبهم بأن يؤمنوا بالقرآن الكريم، ومن آمن بالرسول يؤمن بكتابه، ولا معنى للتفرقة.قال تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [البقرة:41]، أنتم أهل كتاب ومستواكم فوق مستوى العرب، والعرب أميون وجهلة، وأنتم أهل الكتاب، فكيف يتأخر إيمانكم ويؤمن بالقرآن من هو من أهل الجهل وعدم العلم؟!إذاً: وكونوا أول من يؤمن، ولا تكونوا أول من يكفر.إذاً وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [البقرة:41] أي بالقرآن العظيم؛ إذ أمرهم بالإيمان به لقوله: وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ أي: من القرآن مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [البقرة:41] واحذروا أن تكونوا أول من يكفر به وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ .

التحذير من كتمان الحق

قال تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:41] المراد من الآيات: آيات التوراة، وفيها نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته، وفيها ما يدعم هذه الملة الحنيفية؛ ملة إبراهيم، ولكنهم يحرفون، ويبدلون، ويغيرون، بل ويبيعونها بثمن بخس، والاشتراء بمعنى البيع، فلا تبيعوا الحق بالباطل، ولا تبيعوا الإسلام دين الحق بثمن بخس، تتلقونه من رؤسائكم وزعمائكم. وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:41] والثمن مهما كان فهو قليل، ولكن أسلوب القرآن بحسب مفاهيم الناس، وإلا الآية الواحدة تزن الدنيا بما فيها، لكن لما يصرون على الباطل ويكفرون بالحق مقابل منصب أو مقابل عطاء يتلقاه أحدهم في العام مرة من الرؤساء كان كمن باع آيات الله بثمن قليل وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا .

أمر الله لبني إسرائيل بتقواه وحده

وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] واتقون: ترهبون، ولكن التقوى أعم، وإياي فاتقوا سخطي، وغضبي، وعذابي عليكم.بم نتقيه؟ نتقيه بالطاعة .. بالتسليم .. بالانقياد، أي: بالإيمان والعمل الصالح مع اجتناب الشرك والكفر والعمل الطالح الفاسد؛ إذ لا يتقى الله عز وجل بغير الإسلام له، والاطراح بين يديه، وذلك بقبول أمره والنهوض به، واجتناب المنهي والابتعاد عنه.هم مأمورون بأن يدخلوا في الإسلام، وبأن يؤمنوا بالله ولقائه ومحمد وكتابه، فإنهم آثروا الدنيا والأحلام التي تراودهم في أن لهم مستقبلاً زاهراً، وأن مملكة إسرائيل ستعود، فكيف نذوب وندخل في الإسلام؟وهذه حقيقة هي التي صرفتهم عن الدخول في الإسلام، فقد كانوا من قبل يحلمون بإيجاد مملكة بني إسرائيل، وقد نزحوا إلى الحجاز ونزلوا المدينة وما فوقها من المدن إلى الشام من أجل انتظار البعثة المحمدية، وعرفوا مهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وهي المدينة، وهم ينتظرون، وما إن طلعت الشمس المحمدية حتى تحركوا، وأخذوا ينتظرون، ولا يتكلمون.ويوماً بعد يوم حتى هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ورأوا إقبال العرب على الدين الإسلامي، من ثم اختنقوا، وبريقهم شرقوا، وما أطاقوا، وأعلنوا العداء في صراحة، وقالوا: إن نحن دخلنا في الإسلام انتهى وجود بني إسرائيل، لا أمل أبداً.ويدلكم للحقيقة أنه بعد مضي ألف وأربعمائة سنة أوجدوا دولة إسرائيل، فمعنى هذا أنهم كانوا يعملون لها منذ أكثر من ألفي سنة، من يوم أن سقطت على أيدي الروم أو الرومان وهم يعملون في الظلام لعودة مملكتهم، فلهذا انصرفوا عن الإسلام بعد علمهم بأنه الدين الحق، وألا سعادة للعبد إلا به، ورضوا بالعذاب، وقالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [آل عمران:24].رؤساؤهم يدجلون عليهم ويضللونهم: لا بأس ستدخلون النار، ولكن لمدة محدودة فاصبروا. ولهذا جاءت هذه الآيات تقول لهم: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41]، فلا تتقوا الرؤساء والمسئولين عندكم، ولا ترهبوهم ولا تخافوهم، ارهبوا الله واتقوه خيراً لكم؛ لأنكم تهلكون معهم. سبحان الله العظيم! قولوا: آمنا بالله. كيف هذه الرحمة الإلهية! أقوام أعرضوا عن ذكره، وحاربوا أولياءه، وقتلوا أنبياءه، وخرجوا عن طاعته كلياً، ومع هذا يتلطف معهم، وينزل آياته لهم بل ويناديهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40] يا أبناء الرجل الكريم! يا أحفاد الأنبياء! افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا، افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا.. من أجل ماذا؟ من أجل إكمالهم وإسعادهم؛ لأنهم أحفاد الأنبياء وأبناؤهم. وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41]. مرة أخرى: كل من باع دينه بالدنيا اشترى الرخيص بالثمن القليل، وكل من يرتد أو يخرج عن الإسلام أو يستبيح ما حرم الله ويفسق عن أمر الله من أجل الدنيا.. اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً.

تفسير قوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)

قال تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ [البقرة:42] اللبس: هو اختلاط شيء بشيء كلبس الثوب واختلاطه بالجسم، ولبس الحق بالباطل هو أن يوضع ثوب الحق على الباطل ويقال: هذا هو الحق.ومن هذا قولهم: إن النبي الموصوف في التوراة والمبشر به ليس محمداً صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول: ما زال وقته ما حان، ومنهم من يقول: هذا فلان وفلان. ويشيرون إلى أنبياء بني إسرائيل، قالوا: هذه النعوت موجودة، ولكن هذا النبي الذي أظلنا زمانه ليس هو.هذا هو اللبس والخلط، يخلطون الحق بالباطل هروباً من الحق؛ حتى يبقى لهم حلمهم في الاستقلال، ووجود الدولة، وحكم البشرية والسيادة عليها.ومن الفتاوى التي يصدق عليها هذا: أن يفتي أحد فتيا يلبس به على الناس، فيظهر الباطل في صورة الحق، أو يظهر الحرام في صورة الحلال .. وهذا كله لنا كما سنعود إليه إن شاء الله، فالسياق في هداية بني إسرائيل، ونحن أحق بذلك وأحرى وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:42] وتخفوه وتجحدوه. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42] وأنتم ذوو علم بهذا، وهذه الصورة أو الصفة من أقبح الصور، أن يعرف المرء الحق ثم يكتمه، لماذا يكتمه؟ قطعاً لمصالحه الدنيوية، فأهل الإيمان الحق والبصيرة لا يكتمون الحق، ولو صلبوا وقطعوا عضواً عضواً، وأحرقوا بالنار، أما المصابون بالدنس والأرجاس، والذين طغت آثامهم على قلوبهم فهم الذين يتعمدون هذا، ويكتمون الحق وهم يعلمون أنه الحق، ويجحدونه كأن لم يكن، لا لشيء إلا لمصالحهم إن صح التعبير بالمصالح، من أجل أطماعهم، وأغراضهم، وأهوائهم، وشهواتهم الدنيوية. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:42]، والحال أنكم ذوو علم، ولو كنتم جهلة ما تعرفون فقد يعذر الجاهل، فهناك نوع من العذر، أما على علم فهذا لا يقبل: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42].

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين)

أخيراً قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، أمرهم بإقامة الصلاة، أي صلاة هذه؟ الصلاة التي هي يصليها المسلمون حولهم ومعهم وبينهم، لا، بل صلاة اليهود التي هي عبارة عن سجود بدون ركوع. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وهاتان قاعدتان: الصلاة والزكاة لا تفترقان أبداً، مهما ذكرتا في القرآن هما مع بعضهما البعض: الصلاة والزكاة، لم؟ لأن الصلاة عمدة للطهارة والتزكية الروحية، والزكاة عمدة للمجتمع، حتى يتماسك ويقوى على حمل رسالته، بعبارة: كالحياة والطعام والشراب، من قطع عنه الطعام والشراب مات ولم تبق له حياة.إذاً: الصلاة هي الدعامة التي تحفظ المجتمع في آدابه، وأخلاقه، وروحانيته، وهي التي تؤمنه من سائر أنواع الخبث، لقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، وإخراج الزكاة، وصرفها، وجمعها لابد منه لوجود مجتمع يعبد الله عز وجل.وأخيراً يقول لهم: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، من هم الراكعون؟ جيرانهم المسلمون، لم خص الركوع بعد ذكر الصلاة؟ لما علمتم أن اليهود يصلون بالسجود فقط، لا يركعون.وأذكركم بالوفد الذي جاء من ثقيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليه قبول الإسلام، فقالوا: إننا لا ننحني، ولا نركع بين نسائنا؛ لما في ذلك من الذلة والمهانة، وما نجبي، فإذا تعفو عنا الركوع ندخل في الإسلام ونصلي، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه: لا صلاة بدون ركوع.الركوع هو الذي فيه إظهار الذلة والخنوع والخضوع لله عز وجل، فلهذا كان اليهود لا يركعون في صلاتهم، يقفون ثم يخرون ويسجدون فلا يركعون، وإلى الآن، فلهذا أرشدهم إلى أن يركعوا في جملة الراكعين.هذا معنى هذه الآيات المتعلقة ببني إسرائيل.

علاقة أمة محمد بالآيات المخاطب بها بنو إسرائيل

نحن ما الذين نأخذه من هذا النور؟هل نقول: هذا في بني إسرائيل، أما نحن فمن شاء أن يركع ومن شاء لا يركع، وهذا في بني إسرائيل من شاء أن يرهب ومن شاء ألا يرهب؟!الجواب: هذا كلام باطل، القرآن الكريم نور الله وروحه، لا حياة بدونه، ولا هداية بدونه، إذ قصصه عبر، يجتاز بها المصلحون والسالكون بحار الأهواء والأطماع والشهوات. ‏

نداءات الله في القرآن لأهل الإيمان

إذا كان الله تعالى قد نادى بني إسرائيل فنحن نادانا سبعين مرة: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))، وما نادانا مرة إلا ليأمرنا، أو ينهانا، أو يحذرنا، أو يبشرنا، فحاشاه تعالى أن ينادي لا لشيء، وهو الحكيم العليم، نادانا بعنوان الإيمان، وهو أشرف من نداء بني إسرائيل؛ لأنهم أبناء الأولين الصالحين.إذاً: لا تقل: سبحان الله! نادى بني إسرائيل ولم ينادنا نحن، ونحن أحق بنداءات الرحمن، فقد نادانا في القرآن الكريم سبعين نداءً، وكما علمتم ما نادانا إلا ليأمرنا بما فيه كمالنا، وسعادتنا، وعزنا، وطهارتنا، وصفاؤنا، أو ينادينا لينهانا عما يهبط بنا في أخلاقنا وآدابنا وكمالاتنا .. لينهانا عما يلوث قلوبنا، ويدنس أرواحنا حتى ننزل عن مستوى الولاية التي هي أعلى درجة يريد أن نصل إليها.ينادينا ليبشرنا فتطمئن القلوب، وترتفع الأرواح والهمم لنواصل العمل.ينادينا ليحذرنا من عواقب السوء، ومن آثار الظلم والشر والفساد؛ حتى ما نتمزق، ونهلك، ونخسر.فلهذا علمتم ما قال ابن مسعود ماذا قال؟ قال: إذا سمعت القارئ يقرأ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) فأعرها سمعك. اسمع، وحرام أن تمشي، ولا تلتفت وأنت مدعو، وإن قلت: أنا لا، إذاً: ما أنت بمؤمن؟وإذا مررت في الشارع والقرآن يقرأ في الإذاعة وسمعت: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))، أعطها أذنك لحظة فأنت منادى، فإن أمرك بأمر فأنت فاعله، أو استعد، وإن نهاك عن رذيلة أو ظلم أو فساد، فاعزم على أن تتخلى عنه، وإن كانت بشرى فاحمد الله، وإن كانت تحذيراً فاحذر يا عبد الله، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )).

نعم الله على أهل الإيمان من أمة محمد

قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40]، هل نحن ما أنعم الله علينا بشيء؟ أنعم علينا أو لا؟أما قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]؟ فأية نعمة أجل من هذه النعمة وأعظم، كنا كغثاء السيل .. كنا كالحيوانات .. كالبهائم، لا نعرف الطيب ولا الخبيث، ولا الحق ولا الباطل، ولا العلم ولا الجهل، فأصبحنا علماء ربانيين، نعرف ما في الملكوت الأعلى كما نعرف ما في الملكوت الأسفل .. نعرف كل ضار وكل نافع، من النظر .. إلى الكلمة .. إلى الحركة .. إلى الحكم.أصبحنا علماء عارفين بكل ما يجري في الملكوت حاضراً ومستقبلاً.وكنا نعبد الأوهام وعبدنا الأصنام والأحجار، وإذا بنا نعبد الرحمن، وإذا بنا نقول: لا إله إلا الله، فنترفع عن كل هذا الوجود، ونربط أنفسنا بالسماء والملكوت الأعلى، فلا إله إلا الله.نعمة الإسلام أتمها الله عز وجل علينا، وأعلن عن إتمامها في يوم عرفة، في ذلك الجمع العظيم، والحفل الكبير ونزلت هذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3].كان ينزل القرآن كل يوم وكل ليلة بفريضة .. بأدب .. بسنة .. بواجب .. بحقيقة .. بحكمة علمية، شيئاً فشيئاً حتى اكتمل نزول القرآن فاكتمل بذلك الإسلام، فوالله لا ينقصنا شيء في هذه الملة، إلا أننا جهلنا هذا القرآن، وابتعدنا عنه.وما من ظاهرة تظهر في الكون لو تتبعت آيات الله إلا وقفت عليها.إذاً: من الأحق بالشكر نحن أو اليهود؟ نحن، اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47]، تعرفون هذا أو لا؟

شرف المؤمن على غيره

اسمعوا، والله العظيم إن هذا العبد المؤمن لو وضع في كفة ميزان، ووضعت الصين، واليابان، وأوروبا، والأمريكان وكل كافر بالرحمن في كفة أخرى لرجح بهم هذا العبد المؤمن، على شرط أن يموت على الإسلام.وهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم، كان يوماً جالساً كعادتهم يجلسون في ظل الجدران، وما عندهم أسرّة، ولا كراسي، ولا زرابي، وهو بين أصحابه فمر مؤمن فقير، الثياب رثة، والمنظر مزري، والبطن جائع، فقال لهم الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ما تقولون في هذا؟ ) قوموه يا عقلاء! وهم قادرون، ( فقالوا: هذا حري أو جدير -حقيقي- إذا خطب ألا يزوج، وإذا أمر ألا يطاع، وإذا قال لا يسمع له، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم )، فهم أخبروه بواقع الحياة، وهو يحدثهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، حتى مر منافق من أغنياء المدينة وهو باللباس الجميل والسمت الحسن و. و. و.. كما تعرفون، فقال لهم لما مضى في الشارع وذهب: ( ما تقولون في هذا؟ قالوا: هذا حري إذا خطب أن يزوج، وإذا قال أن يسمع له، وإذا أمر أن يطاع، فقال لهم: والله لملء الأرض من هذا -انتبهتم؟- لا يزنون ذاك الذي سمعتم )، فلهذا أنا قلت لكم: الصين، واليابان، وأوروبا، والأمريكان كلهم في كفة ميزان، ومؤمن من الحاضرين في كفة لرجحت كفة المؤمن، عرفتم قيمة المؤمن؟!و عمر عندما قتل أحدهم قال: والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. هذه قيمة المؤمن، فلو تجتمع اليابان والأمريكان على قتل مؤمن ظلماً وعدواناً لقتلناهم أجمعين، إذا تمالئوا واجتمعوا عليه، وهذه قاعدة عندنا: لو يتفق أهل قرية على قتل مؤمن يقتلون كلهم، الذين شاركوا إما بالأمر أو بالأخذ باليد، أما بالقلوب فلا، فكل من قال: اقتلوه، يقتل.والشاهد عندنا قيمة المؤمن وعزته، ما السبب في فضل هذا المؤمن وفي سقوط تلك الأمم؟ السبب معروف عندنا نحن، نسيتم؟ الكافر المشرك ذنبه أنه نسف السماوات السبع وأسقطها، بل خرب الجنة، وأذهب نورها وسعادتها وأبطل النار. كيف هذا؟ لأن الله عز وجل خلق هذه العوالم كلها من أجل الإنسان، ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي )، فلما ترك عبادة الله، وكفر الله وعبادته كان كمن نسف الكون وخربه، كم جزاء هذا الشخص لو أردتم أن تعذبوه؟ يعذب بليارات السنين، لا يكفي.نحن نقول: لم هذا المؤمن أفضل وأشرف وأكرم عند الله من ملايين الكفار؟ الجواب: لأن هذا المؤمن عرف لم خلق، خلق ليعبد الله فهو يعبده، وأولئك خلقهم ليعبدوه فكفروا به، كيف يكون الجزاء؟!إذاً: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40].هيا نذكر نعمة الله علينا، نبدأ.

شكر الله على نعمه

أذكر موظفاً كان يستلم راتباً شهرياً يعيش عليه، ومؤمناً -آخر- عاملاً، يعمل الليل والنهار ليحصل على قوته، فصاحب هذا الراتب كيف يشكر الله؟ أسألكم بالله، من حقه ألا ينسى هذه النعمة أبداً، فقوته ثابت، مقدم له، غير خائف ولا مضطرب، وانظر إلى أخيه الذي يعمل حمالاً أو عتالاً أو كذا من أجل أن يحصل على قوته، فأنا أرى هذه النعمة ما تقدر، وأكثرنا عنها غافل لا يذكرها.أذكر نعمة الأمن الذي تعيشون عليه وفيه، إخوانكم في الشرق والغرب ترتعد فرائصهم، فعجلات السيارة في الشارع تؤخذ، وعين السيارة ينتزعونها، وأيدي اللصوص في جيوبهم كلما التفتوا، يركب السيارة يأخذون ماله، والبيوت يسطى عليها، وتؤخذ الأموال، ويقتل النساء والرجال، وهذا الأمن أية نعمة أعظم من هذه؟ لم ما نذكر؟ أمم ما عرفت الله، ولا وجدت من يبلغها عنه، ولا من يعرفها به، وأنتم كتاب الله بين أيديكم، وهدي الرسول في كتبكم، لم ما تشكرون هذه النعمة، فتجتمعون على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟على كل النعم لا تحصى، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، فما هو ذكرها؟ إنه شكرها، وقد قضينا درساً كاملاً في الشكر في هذه الآية وعرفنا وانتهينا إلى أننا نشكر هذه النعمة، بماذا؟ نعمة السمع فلا نسمع باطلاً ولا منكراً، سمعت كلمة منكر أغلق أذنيك، وقم من المجلس، وإلا كفرت هذه النعمة، وما شكرت الله عليها، وفي البصر لا تنظر بعينيك ما يسخط ربك عليك، فما حرم الله النظر إليه لا تنظر إليه، وإلا -والله- ما شكرت هذه النعمة، وهي أعظم نعمة.كذلك نعمة اللسان وآلة النطق، بها تنطق، وتفصح، وتعرب عن حاجاتك في بطنك وفي نفسك، فشكر هذا النعمة ألا تتلفظ بسوء .. ألا تنطق ببذاء .. ألا تسب مؤمناً .. ألا تغتاب آخر .. ألا تقول منكراً .. ألا تدعو إلى باطل، بهذه الآلة التي منحك الله إياها: اللسان.وانتهينا إلى العلم، فإذا علمت شيئاً فاحمد الله واشكره بالعمل به وبتعليمه، فالذي يعلم ولا يُعلِّم ما شكر النعمة، والذي يعلم ولا يعمل بذلك العلم -والله- ما شكر النعمة بل كفرها، أصبح كالجاهل، علم ولم يعمل، ما الفرق بينه وبين الجاهل؟ إلا أن هذا عذابه أشد، وعتابه ولومه أعظم، وإلا هو والجاهل سواء، إذ العلم ثماره العمل، فإن انعدم ما علم، هو والجاهل سواء.المال: ذكرنا أنها نعمة يجب أن نشكر الله على هذا المال، كيف نشكره؟ ألا ننفقه فيما يغضب ربنا .. ألا ننفق درهماً واحداً فيما يسخط الله، كيف يعطيك المال وتتحداه به؟! هذا خلق من أسوأ الأخلاق، أن يهبك الله نعمة والعياذ بالله تعالى وتعرض بها عنه، وتكون سبباً في غفلتك وإعراضك.إذاً: نعمة المال كنعمة العقل، وقد وهبك الله عقلاً، فلم لا يعقلك؟ حتى لا تقع في المهاوي، ولا تسقط في المهانات، ولا تتعرض للغضب والسخط؟ ما قيمت عقلك إذاً؟ العقل يعقل صاحبه من الوقوع في المهالك والمعاطب، فاستخدم عقلك، وهكذا نشكر هذه النعم التي أنعم بها علينا.

المسلم أولى بالوفاء بالعهد من غيره

ثم الوفاء بالعهد، عندنا عهود أو لا؟الوفاء بالعهد واجب حتمي، ونقض العهد -والعياذ بالله- ونكثه من آيات النفاق، فتعيش مع المؤمنين، وتتعاقد معهم، وتتعاهد معهم، والله ما ينقضون عهداً ولا ينكثونه أبداً، حتى لو كان بأن يفقدهم ما في أيديهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، العقود هي العهود، فمن تعاقد مع شخص يجب أن يفي بذلك، ومن عاهد شخصاً أن يلقاه في مكان كذا، أو يعطيه كذا يجب أن يوفي وإلا خان عهده، وبذلك يتعرض لسلب الله ما أعطاه.أقول: ليس بنو إسرائيل -فقط- مأمورين بالوفاء بالعهود، ونحن؟ اذكروا ما سمعتموه من قبل: أن من قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقد أعطى عهداً وميثاقاً أن يعبد الله أولاً، وأن يعبده وحده ثانياً، وألا يرضى بعبادة غيره ثالثاً، قال تعالى: وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7].فنحن أيضاً كبني إسرائيل أخذت منا عهود ومواثيق يجب أن نفي لله بها، وألا نخونها أو ننكثها، وكوننا مأمورون بأن نرهب الله وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، فهذا خطابه، ونحن أولى به، أن نرهب الله، لا نرهب الزوجة، ولا الولد، والحاكم، ولا الغني، ولا مصلحة دنيوية، بل نرهب الله عز وجل.بمعنى: إذا أمرتك امرأتك بأن تأتي لها بتلفاز ترقص عليه، تخاف أن تغضب عليك وتطالب بالطلاق، فارهب الله أولاً قبلها.أبناؤك قالوا: يا أبانا لابد من دش نسهر عليه، فتخافهم وترهبهم أن يخرجوا للشارع وأن يصيحوا وأن وأن.. كيف تهابهم؟مدير عملك .. رئيسك قال: لا تصل، فتخاف أن يمنع الراتب عنك أو يهينك، فتترك الصلاة، أنت مأمور بما أراد الله.الخلاصة: إذا كان الله يقول لبني إسرائيل: ارهبوني ولا ترهبوا غيري، نحن أولى بهذا، وأحق به، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41]، نحن من نتقي؟ نتقي الله عز وجل ولو جعنا، ولو مرضنا، ولو سجنا، ولو قطع كل شيء منا نتقي الله ولا نتقي غيره، لم؟ لأننا إذا اتقيناه آمنا، أمننا، الذي يتقي الله يقوى مخلوق على أذيته والأخذ منه، والله وليه؟ والله ما كان، وقد تقرر عندنا: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].

حرمة لبس الحق بالباطل في هذه الأمة

الخلط، واللبس، وإدخال الأباطيل في ديننا كالتي يأتي بها المبتدعة والمضللين فيقلبون الحق باطلاً والباطل حقاً، ويجعلون البدعة ديناً يعبد الله به، ويسترون السنة ويغطونها، أليس هذا هو بالذات: لبس الحق بالباطل؟تصدر فتاوى من بعض من ينتسبون إلى العلم فيبيحون بها الشرك الصراح الواضح باللبس والخلط، فنحن أيضاً فوق بني إسرائيل لا نلبس الحق بالباطل، الحق حق والباطل باطل، ولا يحل لأحدنا أن يخلط هذا بهذا من أجل مصلحة هوى أو دنيا أو شهوة.ثم أيضاً: لا يحل لنا كتمان الحق، فمن عرف الحق ثم استدعي ليقوله يجب أن يقوله، حتى ولو كان على أبيك أو أخيك، وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283]، ولو أن تشهد على ابنك بأنه سرق أو على أبيك بأنه كذا وكذا، فلا يحل كتمان الحق أبداً، سواء كان في العقيدة، أو كان في الأدب، أو كان في المال، أو في الاجتماع، ليس هذا خاصاً ببني إسرائيل، ولا تكتموا الحق وأنتم تعملونه، وتعرفون أنه حق، من أجل الحفاظ على مصلحة فانية، زائلة، لا قيمة لها.
المسلم أولى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين
أخيراً: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من أحق بهذا نحن أو اليهود؟ نحن أولى بهذا، فإقام الصلاة كإيتاء الزكاة قاعدتا الإسلام الثانية والثالثة، فتارك الصلاة كافر، ومانع الزكاة يضرب على يديه حتى يخرجها ويؤديها.وكذلك صلاة الجماعة، وَارْكَعُوا مَعَ [البقرة:43]، من؟ مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، فلهذا لا يحل لمؤمن أن يصلي بانفراد في بيته أو دكانه وهو غير مريض ولا خائف، فصلاة الجماعة واجبة ومظهر من مظهر الإسلام، مجتمع رباني يهلك من يفقد نفسه فيه، ولا يجده في هذا المجتمع، في بيوت الرب عز وجل، ولهذا المسلمون مجمعون على أن من كان غير خائف ولا مريض ينبغي أن يصلي في بيوت الله مع أوليائه ومع جماعة المسلمين.ومن يوم أن ترك المسلمون صلاة الجماعة وهم يهبطون يهبطون، حتى أصبح المجتمع الإسلامي لا فرق بينه وبين مجتمعات الكفر في كثير من المظاهر، ما علة ذلك؟ والله ترك الصلاة وصلاة الجماعة، وعندنا ضمانة من الله، وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، لم يا الله؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فهل يقال: أقام الصلاة وهو يصليها سرقة في بيته أو في دكانه؟ بل كسرها وحطمها، ولم تقم أبداً إلا إذا أديت في بيوت الله، لم تبنى بيوت الله؟ من أجل أن يعبد الله فيها. وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، وفي جملتهم وبينهم.هذه التوجيهات الإلهية لبني إسرائيل نحن أحق بها منهم، وإن كان الخطاب لهم؛ لأنهم في المدينة وينافقون ويمكرون، ويكيدون.إذاً: فلابد من أن يبين الله تعالى لهم الطريق، ولا يهلك على الله إلا هالك، ويبقى هذا النور لنا إلى يوم القيامة، وليس خاصاً ببني إسرائيل وقد انتهى أمرهم، ومع هذا لو وجدنا إسرائيلياً أو يهودياً لقرأنا عليه هذه الآيات، فإذا اهتدى بها نجا، وإذا أعرض كما أعرض أجداده فهو من الهالكين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-15, 10:48 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (48)
الحلقة (55)



تفسير سورة البقرة (19)
كان مما عاب الله على اليهود وعاتبهم عليه أنهم يأمرون غيرهم بالبر والدخول في الإسلام، ويغفلون عن أنفسهم، مع أن الأصل أن يكونوا هم السباقين لذلك لأنهم على علم، ولديهم عقول، وكونهم يخافون من رؤسائهم أو يخشون المتاعب والمصائب ليس عذراً لهم؛ إذ عليهم أن يستعينوا بالصبر والصلاة، وهذه شاقة على النفس، لا يقدر عليها إلا المخبتون لربهم، الموقنون بلقاء الله والرجوع إليه.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:44-46]. ‏

تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال السياق في بني إسرائيل، وقد ناداهم الرب تبارك وتعالى نداءً تتجلى فيه مظاهر الرحمة الإلهية، والولاء، والعطاء الرباني، وقلنا: مضى بنو إسرائيل في طريقهم إلى الهاوية، ونحن نقر ونقرر أننا المنتفعون بذلك التعليم الإلهي، فاليهود أصروا على الكفر والعناد؛ لحلمهم الذي يراودهم ألا وهو إيجاد مملكة بني إسرائيل التي تسود العالم، ومشوا في هذا خطوات، ولاحت في الأفق بوادر تشير إلى أنهم قد وصلوا، إذ ما كان مسلم يفكر أو يخطر بباله أن اليهود يحتلون ديار الإسلام، ويعلنون فيها دولتهم، ألا وهي دولة إسرائيل، وعما قريب يطلقون عليها اسم المملكة، فهم فقط يحتالون، وإلا ما يرضون بدولة إسرائيل يريدون مملكة إسرائيل.ومن باب أننا نستفيد من ذلك النداء نستعرضه مرة أخرى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40]، فهل نحن ما أنعم الله علينا؟ بل نعمنا أجلُّ من نعمهم، فلم لا نذكر النعم، وننساها، ونتنكر لها؟ حتى لا نشكر الله عليها!وقد قلت لكم: ينبغي أن تخلو بنفسك دقائق، وتستعرض حياتك، فسوف تقف على نعم كثيرة أنعم الله تعالى بها عليك، فإذا عيناك تدمعان، وأنت من الذاكرين الشاكرين.

تذكير بني إسرائيل بالوفاء بالعهود

ثانياً: أمرهم بالوفاء بالعهد، وواعدهم أن يفي لهم.وهل نحن ما أخذ علينا عهداً؟قلت لكم: كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فقد أعطى عهداً وميثاقاً أن يعبد الله وحده وألا يعبد معه سواه، وألا يعترف بعبادة غير الله. من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وجب أن يعبد الله، وإلا ما معنى شهادته أنه لا معبود إلا الله وهو لا يعبده، ينافق أو يسخر ويستهزئ، فيجب أن يعبد الله.
ثانياً: أن يعبده وحده، فلا يشرك بعبادته غيره بحال من الأحوال، فمن أشير إليه أن عمله هذا من الشرك يجب أن ينتفض كالأسد ويقول: أستغفر الله. ولا يصر أبداً على الشرك، وإن كان به جاهلاً غير عالم.ثالثاً: ألا يرضى بأن يعبد غير الله، أي: لا يرضى بالشرك. أما أن يداهن المشركين، ويوافقوهم، ويبتسم معهم فهذا قد غشهم من جهة ونقض عهده من جهة، وهو الذي يشهد بأعلى صوته أن لا إله إلا الله.ثانياً: عهد آخر فمن شهد أن محمداً رسول الله وجب عليه أن يعظم رسول الله وأن يجله، ويكبره، ويحبه، ويمشي وراءه، لا عن يمينه ولا عن شماله ولا أمامه، بل لابد أن يتبع. والاتباع أن تأكل كما يأكل .. تشرب كما يشرب .. تلبس كما يلبس، وهكذا في كل شئونك، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.ودعنا من الأكل والشرب، الصلاة والعبادات ينبغي أن نأتي بها على النحو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها، وإن كان المحبون كـابن عمر الذي كان يبحث عن المكان الذي جلس فيه رسول الله فيجلس فيه، ويبتسم ابتسامة رسول الله، وإذا نظر ينظر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم.وهذا الاتباع هو الذي يورث حب الله عز وجل للعبد، واقرءوا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، المشي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:1]، فلا رأي، ولا ذوق، ولا منطق، ولا فهم، ولا علم يحملك على أن تتقدم رسول الله وتقدم رأيك وفهمك على رسول الله، فهذا مقتضى العهد الذي أعطيته بنفسك إذ قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، قال تعالى: وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7].

تذكير بني إسرائيل برهبة الله وتقواه

ثالثاً: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، أمرهم أن يرهبوه وحده، ونحن أيضاً مأمورون ألا نرهب إلا الله، والرهبة الخوف، لكن في معنى قشعريرة أو حركة نفسية.رابعاً: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] أيضاً: فلا نتقي سوى الله، بم نتقي الله؟ بالحصون العالية؟ بالأسوار الرفيعة؟ بالجيوش الجرارة؟ بم يتقى الله يا عباد الله؟ بالإسلام له، نسلم له أي شيء؟ الوجه والقلب، فأعط وجهك وقلبك لله، وبهذا تكون قد أسلمت لله عز وجل، وبالإسلام اتقيت سخطه وعذابه ونقمه وبلاءه، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41].

تحذير بني إسرائيل من لبس الحق بالباطل وكتمان الحق

خامساً: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ [البقرة:42]، حرم عليهم التضليل والخداع، وإظهار الباطل في صورة الحق، وإظهار الحق في صورة الباطل، ليمشوا وراء أغراضهم وأطماعهم وشهواتهم، وهل يصح لنا هذا فنقول: هذا خاص ببني إسرائيل؟ وهل يجوز للمفتي أن يلبس الباطل لباس الحق ويقول: هذا هو شرع الله أو مراد الله؟لا يصح في صغيرة ولا كبيرة، فلا نخلط أبداً بين الحق والباطل، الحق حق، والباطل باطل، وإن كنا لا نعلم فنفزع إلى كلمة: الله أعلم. وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:42]، أي: ولا تكتموا الحق، وهل يجوز لنا أن نكتم الحق؟ قلنا: لو كان الحق تعلق بأبيك وتقطع يده أو يرجم بالحجارة يجب أن تقول، ولا تكتم الحق.ومع الأسف حدث أن أصبحنا نتحيز لا للأقارب فقط بل حتى للبلاد: هذا من بلادنا، ويكتم الحق ويدافع عن الباطل؛ لأن هذا مواطن من مواطنينا، فهذه مظاهر الهبوط البعيدة المدى، فيشهد بالباطل؛ لأنه من بلاده أو موطنه.

تذكير بني إسرائيل بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين

أخيراً: أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فهل نحن غير مأمورين بهذا؟ نحن أحق بهذا.وأمرهم كذلك بصلاة الجماعة فقال: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، فهل نحن مبرءون من هذه؟ هذا خاص ببني إسرائيل: صلِّّ في بيتك وفي رحلك؟ لا والله، فلا نتأخر عن صلاة الجماعة إلا لعلة المرض أو الخوف فقط، والمرض يشمل التمريض، فكونه يمرض مريض في بيته ككونه هو مريض، والخائف إما على نفسه في الطريق، أو على ماله يؤخذ منه، أو على بيته يدخل عليه ويسلب ماله في ظروف معينة فقط، وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].إذاً: ما كان لهم هو لنا وزيادة، ونحن أحق بهذا.
تفسير قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ...)

التحذير من أمر الناس بالبر وإغفال النفس عن ذلك

يقول تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:44]، هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ. أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ [البقرة:44]، أي: بالخير، ولفظ البر شامل لكل خير، ويدخل فيه الإسلام بكل تعاليمه وشرائعه، إذ كان بعضهم يأمر العرب أن يدخلوا في الإسلام، ولم لا يأمرونهم أن يدخلوا في اليهودية؟ لا، لا. اليهودية غالية، ما يريدون شعباً غير شعب بني إسرائيل يدخل معهم.وإلى الآن هل بلغكم أن اليهود فتحوا مكتباً للدعوة إلى اليهودية في أمريكا .. في بريطانيا .. في أي مكان؟ لا؛ لأنهم يحتفظون بكيانهم من أجل إقامة مملكتهم وسيادة العالم أجمع، فكان منهم من إذا استشاره الأنصار: الأوسي والخزرجي، قال له: لا بأس ادخل في الدين أحسن، وهو كذلك.وفي نفس الوقت دخول العرب في الإسلام ينفعهم أكثر مما يبقى مشركاً، كافراً جاهلاً يتخبط.وقد يسألون عن فضائل الأعمال فيرشدون: ادخل .. اعمل .. تصدق .. صل، وهذا حصل بالفعل.وإلى الآن فيما أعلم أن اليهود المواطنين في بلاد العرب ما كانوا يأمرون الناس بالفسق والفجور، بل كانوا يأمرونهم بالتقوى والطاعة، وعندنا شواهد أنهم كانوا يفضلون المتقي على الفاجر؛ للشعور الديني في نفوسهم، وحسبنا خبر الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ [البقرة:44]، ولفظ البر جامع لكل خير؛ لأن لفظ البِر مأخوذ من البَر الواسع، والبرية الواسعة، فكل خير يدخل تحت كلمة (بر). أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:44]، فلا تأمرونها بالخير. أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] توبيخ آخر. وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:44]، مع الأسف والحال أنكم تقرءون كتابه الذي يأمر بالبر والخير، و أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:44]، لو كنتم أميين جهلاء ما عندكم التوراة ولا فيها كلام الله قد تعذرون، لكن أنت تقرأ الكتاب، وتجد فيه الأمر بالخير وتأمر الناس به ولا تفعله؛ اتباعاً لشهوتك وهواك أو منصبك ودخلك المالي.ونحن أيها المسلمون هل يليق بنا هذا؟!يا فلان! صل وأمر أولادك بالصلاة، وهو لا يصلي ولا يأمر أولاده بالصلاة.يا فلان! حرام عليك، عيب عليك تبيت والأغاني في بيتك والرقص، فتنهى المؤمن وأنت تبيت ترقص مع أهلك، كيف يكون ذلك؟!يا فلان! اعف لحيتك، لا تحلق. وهو حالق.يا فلان! التدخين لا يجوز وعيب، حرام، والسيجارة في جيبه.هل هذا يليق بنا؟! أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].

الترهيب من أمر الناس بالبر وإغفال النفس عن ذلك

وقد روى أحمد رحمه الله في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مررت ليلة أسري بي )، من أين أسري به؟ من مكة إلى القدس إلى السماء السابعة إلى سدرة المنتهى، وفي عروجه حدثنا عما لاقى، ولكن عند هبوطه مر بعالم الشقاء وسبحان الله العظيم! لما عرج به مر بالسماوات ومن فيها، ودخل دار السلام وانتهى إلى سدرة المنتهى، ورأى ما رأى، وتم ذلك اللقاء مع ربه العليم الحكيم، وكافحه بالكلام لكن بدون رؤية وجه الله؛ لأن الرسول لا يستطيع ذلك، وقد طلبها موسى فما استطاع، امتحنه الله بأن ينظر إلى جبل تجلى الله له، فإذا الجبل يتفتت، وأصبح كالرمل، وصعق موسى، فأبصارنا هذه غير قادرة، وأبصارنا الآتية في الخلق الثاني يوم القيامة تقدر، أما الآن الملائكة ما تستطيع أن تراهم حولك، والجن يطوفون بكم ولا تستطيعون رؤيتهم، فكيف ترى الله عز وجل؟! ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم: ( أرأيت ربك يا رسول الله؟ قال: نور أنى أراه؟ )، نور عظيم أنى أراه، ويقول: ( لو يزيل تعالى سبحات وجهه -تلك الأنوار- لاحترق ما انتهى إليه بصره )، فلهذا ثقوا واطمئنوا على أننا عاجزون، ومن ادعى أنه رأى الله عز وجل فهو كاذب، أما الرؤية المنامية فجائزة، فترى نفسك بين يدي الله يحدثك، ويأمر وينهى، لكن ما ترى الوجه الكريم، وإنما شعور أنك بين يدي الله، ولكن لا ترى ذاته المقدسة، المنزهة عن مشابهة الحوادث.والشاهد عندنا: أن تفهموا أنه لما عرج به وأسري به ما شاهد العالم الثاني، ولما رجع عائداً مر بعالم الشقاء أو عرض عليه فشاهد أحداثاً عجاباً، ومن ذلك قوله: ( مررت ليلة أسري بي برجال من أمتي تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار )، ورأى أيضاً النساء العواهر معلقات من ثُديهن، ورأى العجب، والأحاديث الصحاح هنا وهناك.( فرأيت رجالاً من أمتي تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك يأمرون بالبر وينسون أنفسهم )، كما هي الآية: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].نعم، وجد خطباء، فصحاء، بلغاء يأمرون بالبر على المنابر، ولا يأتونه خارج المنبر، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، والرؤيا حق، ( مررت ليلة أسري بي برجال من أمتي برجال تقطع شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار ) تقرض بمقاريض من نار ( فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ ) هو الدليل معه ( فقال: هؤلاء خطباء أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ).ومعنى هذا يا معاشر المستمعين والمستمعات! يا من يأمر بالبر! لا تنسَ نفسك إلا إذا عجزت وما قدرت، فـ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، أما أنك تقدر على فعل هذا الخير وتتركه ناسياً نفسك، وتأمر به غيرك، فهذه مزلة ومعرة أيضاً، وصاحبها يستحق اللوم والعتاب، وهذا بلا خلاف بين أهل الإسلام، فإذا أمرت بخير كن السباق، وإذا نهيت عن منكر كن السباق أيضاً إلى تركه، فلا يليق بالمؤمن أبداً أن يأمر بمعروف وهو قادر على فعله ولا يفعله، ولا أن ينهى عن منكر .. عن باطل .. عن شر وهو قادر على تركه ويأتيه إيثاراً لشهوته أو أطماعه في الحياة.وهنا يروى عن ابن عباس -وهو كلام معقول-: إذا كان لا يأمر بالمعروف إلا من يأتيه، ولا ينهى عن المنكر إلا من تركه، فما بقي إذن من يأمر ولا من ينهى.لكن هنا لا تتخذ هذه رخصة، فاعلم أنك تأمر وتأتي بالمعروف والبر، لكن إن حدث مرة أنك ما فعلت لعجز قام بك فلا يمنعنك عدم عملك أن تأمر بالمعروف.مثلاً: جاءت جماعة تشكو الفقر، يريدون طعاماً أو شراباً، فقمت أنت تخطب الناس وتحثهم، فمن الجائز أنك لا تملك ريالاً واحداً، فلا تقل: ما دمت أنا لا أشارك في هذا المعروف فلا أتكلم.وقد تنهى عن منكر، وهذا المنكر في بيتك وعجزت عن مقاومته أو تغييره، فهل تقول: ما دمت أنا ما استطعت في بيتي فلا أنهى الناس عن المنكر؟ لا ينبغي، وهذا الموقف دقيق.إذاً: يوبخ ويلام، ويعتب عليه، بل يعذب بعذاب الله إن لم يرحمه الله، فالذي يعرف المعروف ويحث الناس على فعله وهو يتركه مع قدرته عليه، فما تركه إلا لشهوة أو هوى أو لدنيا، كذلك الذي ينهى عن منكر وهو يأتيه ومتلبس به وهو قادر على التخلي عنه والبعد منه، ولكن خضوعاً للشهوة واتباعاً للهوى فلا يتركه، فإن هذا يقرع ويلام ويعتب عليه، وقد يكون من هؤلاء الخطباء.وفي عرض آخر: ( فرأى النبي صلى الله عليه وسلم النار وفيها رجال تبقر بطونهم .. أمعاؤهم، هم الذين كانوا يأمرون الناس بالبر ولا يفعلون ). فلهذا هذه الآية ألصق بنا من اليهود: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ .

الإشارة إلى أهمية تلاوة القرآن وتعلم العلم

قال تعالى: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:44]. وهنا أيضاً يجب أن يكون المؤمنون والمؤمنات يتلون كتاب الله، لم اليهود يتلون التوراة ويقرءونها ونحن ثلاثة أرباع منا لا يقرءون القرآن، ولا يعرفون كيف يتلونه؟!مع العلم أن العلم ضروري للمؤمن، وإلا ما أصبح ولياً لله، فالذي لا يعرف محاب الله، ولا مكارهه، ولا كيف يأتي المحبوب ويترك المكروه كيف تصح ولايته؟ هذا من قبيل المحال، فما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علمه، فلابد للمؤمن والمؤمنة أن يعرف الله -أولاً- بأسمائه وصفاته، وأن يعرف -ثانياً- ما يحب من الاعتقاد والقول والعمل، وأن يعرف كيف يعمل العمل، وكيف يؤديه؛ حتى ينتج له الطاقة النورانية، أي: الحسنات، ولابد أن يعرف ما يكره الله من اعتقاد أو قول أو عمل؛ حتى يتجنب ذلك ويبتعد عنه.خلاصة القول: ما دام اليهود يلامون، ويعتب عليهم، ويقرعون وهم يتلون الكتاب، فكيف لو كانوا لا يقرءون الكتاب وهم جهلة؟! فنحن أولى بأن نتلوا كتاب الله رجالاً ونساء، ونعرف كلام الله، ومراد الله منه، فليس اليهود بأفضل منا، ولا أقدر على العلم منا.

العاقل يسبق إلى الخير

قال تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، وقد عرفتم أن العقل: قوة باطنية في النفس تعقل صاحبها عن الشر والمهالك والمعاطب، فإن اختلت تلك القوة، وحصل فيها رجة أو ضعف يصبح صاحبها ضعيف الإرادة، فلا يميز كثيراً بين الحق والباطل، ولا بين الخير والشر، ولا بين المعروف والمنكر، وهي نعمة من أجلَِّ النعم، ولا تكليف بدون العقل، فإذا فقد الإنسان عقله لا يخاطب بفعل ولا بترك؛ لأنه في عداد المعاتيه والمجانين، فهذه النعمة ذات وزن ثقيل؛ ولهذا يقول تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، أي: ما يضركم، وما ينفعكم، ما يرفعكم، وما يضعكم، ما يسعدكم، وما يشقيكم. تعرفون هذا؟ إذاً: كيف تلبسون هذا الثوب فتأمرون بالمعروف وتنهون عنه ولا تأتونه.

تفسير قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)

ثم قال لهم: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، من أحق بهذا؟ نحن. وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، على ماذا؟ ما هي الأعمال الشاقة التي تحتاج إلى عون؟ إنها التكاليف، فلن تستطيع أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إذا لم تجد لك عوناً من الله، بل الظاهر في البلاد التي ليس فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يستطيع المواطن أن يأمر ولا ينهى، ما هناك من يعينه أو يساعده، لكن النفس والشيطان والهوى والدنيا -هذه الأربع- إذا لم يجاهدها عبد الله أو أمة الله يمزق ويخسر كل شيء.وهل يجاهدها بالحديد والنار؟ لا، هذه معنويات: حب الدنيا .. حب الشهوة .. حب الحياة، ما هو شيء يوجد خارجاً، هو في داخل الإنسان، فبأي شيء تستعين على هذه، فتقهر نفسك وتذلها وتخضعها لطاعة الله ورسوله؟ استعن بالصبر والصلاة، هذا توجيه رباني من العليم الحكيم، العليم الخبير، هو الذي وجه عبده إلى أن يفي بالوعد، وأن يرهب الله ولا يرهب سواه، وأن يتقي الله ولا يتقي سواه، وأن يقول الحق ويظهره، ولا يقول الباطل، ولا يلبسه بالحق، فهذه المواقف يستعان عليها بأي شيء؟ بالصبر والصلاة.لا تستطيع أن تأمر بالمعرف وتنهى عن المنكر إذا لم تجد عوناً لك من الله، وهو في الصبر والصلاة.وإذا لم تصبر أن تأمر شخصاً فيسبك ويشتمك فما تعاود أبداً بعد ذلك تأمر ولا تنهى، فكيف إذا صفعك صفعة فلا ترجع بعد ذلك إلى قول المعروف، مع أن عيسى عليه السلام كان يوصي الحواريين يقول لهم: إذا صفعك في خدك الأيمن أعطه خدك الأيسر. أمرته فغضب فصفعك قل له: زد من فضلك، وأعطه الخد الثاني، فإن فعلت هذا ذاب أمامك، ولان لك، واتبعك بما تأمر وتنهى.إذاً: هذا الموقف وكونك تأمر بالبر، وتدعو إليه، وتقوم به، وتسبق إليه، وأنت السابق، لابد من عون، وإلا ما تقدر، وهو أن تستعين بالصبر والصلاة.

تعريف الصبر ومواطنه

الصبر: هو تحمل الأذى مع نوع من الرضا، فالصبر على الأذى تتحمله، والصبر على المكروه تتحمله مع التسليم والرضا لله عز وجل.وللصبر ثلاثة مواطن:الموطن الأول: صبر على الطاعة، وهو ملازمة الطاعة، وعدم التخلي عنها بحال من الأحوال، طاعة من؟ طاعة الله، ورسوله، وأولي الأمر من المؤمنين، وهي مبينة في آية واحدة من النساء؛ لأن الله ورسوله وأمير المؤمنين لا يأمرونك إلا بما فيه خيرك وكمالك وسعادتك، وحاشاهم أن يأمروا بما يخزيك أو يذلك أو يشقيك أو يؤذيك، ثق في هذا، وأمير المؤمنين لا حق له أن يأمر إلا بأمر الله وأمر رسوله، فلهذا ما كرر الفعل، قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، ما قال: وأطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأنهم لا يأمرون وينهون إلا بأمر الله ونهيه، فأمرهم ليس استقلالياً حتى يقول: وأطيعوا أولي الأمر، هم فقط يأمرون بأمر الله، وينهون بنهي الله، وأمر رسول الله، ونهي رسول الله، فيجب أن يطاعوا، فهذه الطاعة تحتاج إلى عون وهو الصبر، فلا تتململ ولا تجزع ولا تتذمر، اثبت على العبادة.الموطن الثاني: الصبر عن المعاصي.اصبر عن المعصية، أي: ابتعد عنها، أي: احبس نفسك هنا والمعصية بعيدة عنك، فلا تسمح لنفسك أن تقرب معصية الله ورسوله، احبسها، إذ الصبر معناه الحبس، يقال: قتلوه صبراً، أي: حبسوه ثم قتلوه. فاحبس نفسك بعيداً عن مواطن الخبث .. عن مواضع الشر والسوء والباطل والفساد، ولا تسمح لها أن تدخل في تلك المواطن.الموطن الثالث: الصبر على المصائب .. على المصاعب .. على النوائب .. على الكروب والشدائد، إذ أنت يا عبد الله عرضة لأن يمتحنك الله بفقد أعز ما عندك أو بأفضل ما تملك، أو .. أو.. امتحاناً لك، فإن صبرت وشكرت رفعك وأعلى شأنك، وإن أنت انهزمت، فضجرت، وسخطت على الله، وأنكرت حكمه وقضاءه، فكان من أول الأمر أنك لست بأهل للكمال، الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2]، هذا الحسبان باطل، فلابد من الافتتان والفتنة، فقط كونك تغتسل في الليلة الباردة بالماء البارد إذ لم تجد ما تسخن به، هذا ابتلاء. وكونك تدعى إلى أن تجاهد بنفسك ومالك إذا حل الجهاد ووجب، أليس هذا هو الابتلاء؟ كونك تغلق دكانك، وتأتي إلى بيت ربك لتشهد صلاة الجماعة، أليس هذا ابتلاء؟ تمر بك امرأة فتغمض عينيك ولا تفتحهما لتراها، أليس هذا ابتلاء؟ وهكذا.. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، هذا الحسبان والظن باطل، ولابد من الابتلاء.إذاً الموطن الأخير من مواطن الصبر: هو الصبر على البلاء، فلا جزع أبداً، ولا سخط على الله، ويكفيك أن تقول: ما شاء الله كان أو حسبي الله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، أو إنا لله وإنا إليه راجعون إذا كانت مصيبة موت، أما أن تظهر السخط والاستنكار: لم فعل الله بي هذا؟ لماذا كذا؟ فهذا معناه هزيمة كاملة، ما صبر.

كيفية الاستعانة بالصلاة

هل الصلاة يستعان بها؟ نحن ما ذقنا، أنت قد تقول: نعم ذقتها، لكن قد لا نصدقك.من هم الذين يستعينون بالصلاة؟اسمع يا هذا! الذي يستعين بالصلاة هو ذاك الذي إذا تطهر، واستقبل بيت الله، ووقف بين يديه، وقال: الله أكبر، نسي الحياة كلها، والله أحياناً لا يشعر بالدنيا عن يمينه وشماله، فلا يشعر أن عن يمينه شخصاً أو عن يساره، أو أمامه أو وراءه، ينسى هذا الكون كله، ويتصل بالملكوت الأعلى، وإذا العينان تذرفان الدموع، ويقشعر الجسم، وهو كأنه في غير هذه الحياة، وهذه الحال لا يبقى معها ألم، ولا تعب، ولا خوف، ولا هم، ولا كرب، ولا حزن، ولا ولا..ولهذا قال: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، كبيرة إلا على الخاشعين، وليس معنى هذا أني أويئسكم أيها الأبناء! لا والله، باب الله مفتوح، فقط لما تتوضأ تذكر: لم توضأت؟ لما تأتي إلى المسجد: لم أتيت؟ لما تقف في مصلاك، في بيتك أو مسجدك: لمن وقفت؟ اذكر الله ولا تنس أنك له، فإذا وقفت بين يديه وقلت: الله أكبر فقد انقطعت عن الحياة كلها، وأصبحت تتحدث مع الله في ركوعك .. في سجودك .. في تلاوتك.هذه الحال التي تدوم للمؤمنين والمؤمنات؛ لأنهم في الصلاة دائماً خمس مرات رسمية في الأربع والعشرين ساعة، وقد قلت لكم: طاقة السيارة، وطاقة الطيارة، والباخرة أليست نوراً؟ أليست كهرباء؟ فإذا ضعفت تقف السيارة أو ما تقف؟ تقف، ادفعوها أيها الرجال، وكذلك هذه الآلات تندفع بهذه الطاقة، فعبد الله أو أمة الله إذا ضعفت هذه الطاقة من نفسه فشل، والله يعجز أن يأمر بكلمة معروف عجزاً كاملاً، لا يستطيع أن ينزع خاتم ذهب من يده، وهو لا ينفعه بشيء، والله لا ينفع بشيء، بل ينتفع به لو باعه واشترى خبزاً لأهله، لا يستطيع أن ينزع هذا الخاتم، والمؤمن الذي رآه الرسول في يده الخاتم فقال: ( أيعمد أحدكم إلى جمرة فيجعلها في أصبعه )، فنزع خاتم الذهب ورماه في الأرض، ومشى الرسول بعد ما أمر ونهى فقيل: ( يا فلان! خذ هذا الخاتم تنتفع به في بيتك، قال: والله ما كنت لآخذه وقد نزعه الرسول صلى الله عليه وسلم ).

صور من أثر الاستعانة بالصلاة

هذه الطاقة أريكم صوراً منها، ذاك الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان له أجير، يشتغل عنده في الدكان أو في البستان، وأعطاه أجرته فغضب، قال: أهنتني واستصغرتني، هذا ما يكفي. وترك الأجرة وذهب، ماذا يفعل المستأجر؟ ما كان منه إلا أن اشترى بها شاة، قال: هذه الشاة بمال فلان، قد يأتي يوم من الأيام ويأخذها، هذه الشاة ولدت شاتين، وحملت في العام مرتين، وباركها الرحمن، أربعة أعوام .. خمسة .. ستة وإذا بوادٍ كامل ملآن بالغنم، فجاء ذاك الأجير وقد اضطرته الحاجة، وألجأته الظروف: أعطني؛ أنا تركت عندك أجرة يومي أو شهري الفلاني. فقال الرجل: خذ هذه الأغنام، قال الأخير: كيف؟ أتستهزئ بي يا عبد الله؟ قال: أنا أقول لك: خذ هذه أغنامك، وهذه أجرتك، فساقها ولم يترك له شاة ولا خروفاً، من يقف هذا الموقف؟ الخاشعون في الصلاة.ذاك الشاب الذي راود ابنة عمه في بني إسرائيل، فأبت تلك المؤمنة عليه سنة كاملة حتى ألجأتها الضرورة والجوع، فخافت أن تموت من شدة الجوع، وقد كانت المجاعة غير أيامكم هذه، فلما وقفت ذلك الموقف دعته ليأخذ حاجته منها، فلما جلس منها مجلس الرجل من زوجته نظرت إليه وقالت: أما تخاف الله، تفتض خاتماً بغير حقه. فقام ترتعد فرائصه، والدموع تذرف، وترك لها المال، وذهب بعيداً عنها. هذا من أعانه على هذا؟ الخشوع في الصلاة، الاستعانة بالصبر والصلاة.ولا نذهب بعيداً إلى بني إسرائيل، هنا في مدينتنا هذه، ممكن أن يكون الآن داخل المسجد، كان في سوق التمر تمار يبيع، فجاءت امرأة مجاهد من الصحابة، ما وجدت من يشتري لها التمر لأولادها، فتلففت في خمارها وردائها وذهبت إليه، فقالت: أعطني صاع تمر أو إردب. فأعطاها وأخرجت الفلوس بيدها، وقد كان كفها أبيض، فالشيطان ألقى مسحة على ذلك الكف كأنه فلقة من قمر، وما شعر ذاك التمار -رضي الله عنه- إلا وقد أكب عليه يقبله، فنفضت يدها وقالت: أما تخاف الله؟! ففقد الرجل أعصابه، ومن السوق يصرخ بأعلى صوته ويحثو التراب على رأسه إلى أحد من غير شعوره، ثم عاد من أحد كذلك، ودخل المسجد قبل صلاة المغرب، فسأل عمر فطرده، فصبر حتى صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين المغرب، فقال الرجل كذا وكذا. فقال: ( هل صليت معنا صلاتنا هذه؟ قال: نعم. فقال: إن الحسنات يذهبن السيئات )، وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، هذا الرجل ماذا فعل؟ زنى؟ لا والله، قتل مؤمناً؟ لا والله، سلب مالاً؟ لا أبداً، قبَّل هذه اليد في غير شعور، فالعدو غطاه وغشاه بالظلمة، فأكب يقبل هذه اليد، وهي لا تحل له. وَاسْتَعِينُوا [البقرة:45]، أيها المجاهدون المحاربون للدنيا والهوى والشهوة العارمة والشيطان اللعين، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، هذا إرشاد الله عز وجل وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].

تفسير قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون)

قال تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:46]، هنا العقيدة، عقيدة البعث والجزاء، فالذي يهبه الله هذا المعتقد سيوقن أنه سيقف بين يدي الله، وسيستنطقه، ويستجوبه، ويجزيه بما شاء، الذي هذا المعتقد في قلبه هو الذي يستطيع أن يقف أمام الشهوات، وأمام المعاصي، وأمام الدنيا، ولا تؤثر فيه، والذي يضعف هذا المعتقد فيه، ويصبح شبه ظن فقط، لا يقوى أبداً على أن يقف أمام معصية من المعاصي، أو شهوة من الشهوات، ومعنى هذا: قووا هذه الطاقة في نفوسكم، ولا تنسوا أبداً الموت ولقاء الله عز وجل.ومن سمات الفائزين وآيات الناجحين: أن أحدهم لا ينسى الموت أبداً، تجده يأكل .. يشرب .. يبتسم .. يضحك وهو يذكر الموت، وقد جعل تعالى هذا ميزة للشرفاء وأهل الكمال إذ قال تعالى من سورة (ص): إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46]، قراءة نافع ، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةِ ذِكْرَى الدَّارِ ، أي دار هذه؟ في الرياض أو في جدة، ذِكْرَى الدَّارِ الآخرة، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بهذه الخصوصية وهي: ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] الآخرة، فما ينسى أحدهم الدار الآخرة أبداً، إذا كان هذا دائماً نصب عيني العبد لا يستطيع أن يكب على معصية ويباشرها، إلا ما قل وندر، حين الغفلة أو استغلال العدو لنسيانه. الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:46]، راجعون أو لا؟ والله لراجعون، أحببنا أم كرهنا، وها نحن ندفن إخواننا كل يوم، واحداً بعد واحد، والله لا يبقى واحد إلا الواحد الأحد، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-16, 05:01 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (49)
الحلقة (56)



تفسير سورة البقرة (20)
نادى الله بني إسرائيل بذكر نعمه عليهم، والتي منها أنه فضلهم على العالمين، إذ جعل فيهم أنبياء وصلحاء، فكان عليهم مقابلة هذه النعم بالشكر، والدخول في الإسلام، وإلا فإن مصيرهم العذاب يوم القيامة، ولهذا أمرهم الله باتقاء ذلك اليوم؛ لأنه يوم عظيم، لا تقبل فيه شفاعة لكافر، ولا يؤخذ منه فداء، ولا ينصره بدفع العذاب عنه أحد.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها إنه قريب مجيب سميع الدعاء. قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:47-48].

حلم الله على بني إسرائيل

معاشر المستمعين والمستمعات! قد سبق أن تلونا نداء أولياً لبني إسرائيل وهو قول ربنا تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ * أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:40-46].ما أكرم الله .. ما أرحم الله .. ما أعظم حلم الله، هؤلاء هم اليهود الذين تآمروا على قتل نبيهم في هذا المكان، إذ بنو النضير خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه رجاله من أصحابه يطالب بمقتضى الاتفاقية بينهم بمساعدة مالية؛ لسداد دية، فتآمروا وأرادوا أن يسقطوا رحى من السطح على رأسه صلى الله عليه وسلم.وهؤلاء اليهود هم الذين كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم الواحد، وفي آخر النهار أسواقهم عامرة بالبيع والشراء والتجارة، كأن شيئاً ما كان.فانظر إلى رحمة الله كيف يوجه إليهم هذه النداءات.

ذكر بعض النعم وكيفية شكرها

قد علمنا أننا نحن أحق بهذا النداءات، ولنا أن نقول: حالنا كحال القائل: إياك أعني واسمعي يا جارة. فنحن مأمورون بأن نذكر نعمة الله علينا، والإسلام أعظم نعمة أنعم الله به علينا.نحن كنا أميين، جهلة، مشركين، ضالين، لا قيمة لنا، وما هي إلا سنيات وإذا بنا أكمل أمة، وأعزها، وأطهرها وأقواها، وأقدرها. واذكروا قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].إذاً: فلنذكر هذه النعم، وما منا إلا وهو يسبح في بحر النعم، واذكروا قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. فانظر فقط في خاصة نفسك: من وهبك سمعك؟ من وهبك بصرك؟ من حفظ عليك نطقك ولسانك؟ من حفظ عليك عقلك وجوارحك؟ من .. من؟ نِعَم.ولا أطيل في هذا الباب، فقط لنعلم أننا مطالبون بالشكر، اشكروه.واللطيفة التي علمتموها ما قال: يا بني إسرائيل اشكروا، قال: اذكروا، لأن من ذكر شكر، ومن نسي وترك لم يشكر، فمن ذكر نعمة الله عليه شكرها، ومن تجاهلها، وتغافلها، وتناساها، ولم يذكر ساعة ما أنعم الله به عليه من نعمة الإيجاد والإمداد، فهذا كيف يشكر؟!وقد جلنا في هذا المجال وعرفنا الكثير، وحسبنا أن نشير إلى بعض ذلك.نعمة المال يا أبنائي! من أجل النعم، فإياك أن تصرفها فيما يسخط المنعم جل جلاله، وعظم سلطانه.نعمة العقل من أجل النعم، فلا تستخدمها ضد الله تعالى في التفكير الباطل، والتفكير الهدام، والتفكير الضار بالإسلام والمسلمين.نعمة اللسان كذلك، فلا تنطق بكلمة من شأنها أن تسخط الله وتغضبه، وأنت تنطق بما وهبك من لسان.نذكر هذه النعم ونشكرها أولاً بالاعتراف بها في نفوسنا، ثم الإقرار بها في منطقنا، ثم حمد الله عز وجل، فلا يفارقنا كلمة الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله. ثم نصرف كل نعمة في ما يحب الله تعالى أن تصرف، فنصرف هذه النعمة في مرضاته لا في سخطه.

الأمر بالوفاء بالعهود

أمر الله بني إسرائيل بالوفاء، ومن أحق بالوفاء بالعهود؟ نحن. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] والعهود، وإذا لم نف نحن، وننكث العهد وننقض، من يفي؟!يوجه تعالى بني إسرائيل إلى هذه الكمالات ونحن ننسى أنفسنا؟ وما من أحد منا شهد شهادة الحق وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله إلا أعطى الله عهداً وميثاقاً أن يعبده أولاً، وألا يعبد معه سواه ثانياً، وألا يعترف بعبادة غير الله بحكم شهادته القائمة على العلم: أشهد أن لا إله إلا الله، إذاً فاعبده، وإلا ما معنى شهادتك؟! لا تشرك به سواه، وإلا ما معنى قولك: لا إله إلا الله؟! ولا ترض بعبادة غيره، وإلا لا معنى لقولك: لا إله إلا الله.ومن شهد أن محمداً رسول الله يجب أن يتسلم الرسالة التي جاء بها، وأن يقرأها، وأن يعرف ما فيها، وأن يعمل بما في تلك الرسالة، وإلا ما معنى شهادة أن محمداً رسول الله؟ مع حبه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه والمشي وراءه.

الأمر برهبة الله وتقواه

أمر الله بني إسرائيل برهبته تعالى وبتقواه، ونحن أحق بهذا.ينبغي أن نرهب ربنا وأن نتقيه ونخافه؛ لأننا ضعفة، عجزة، مفتقرون إليه، وهو الجبار العزيز القهار، وإذا لم يرهب من يرهب؟ وإذا لم يُتقَّ الذي بيده الخير، والشر، والإعجاز، والإذلال، والعطاء، والمنع، والإماتة، والإحياء فمن يتقى؟!ولا قيمة لغير الله في التقوى، فهو يتقى لأن بيده سعادتنا وشقاؤنا، إحياءنا وإماتتنا.

التحذير من لبس الحق بالباطل

حذر الله بني إسرائيل من أن يلبسوا الحق بالباطل، فالتضليل، والتدجيل، والكذب، والافتراءات ليس من شأننا أبداً، وقل الحق ولو كان مراً، عرفت قل، جهلت قل: الله أعلم، أما أن تصدر فتاوى ملبسة، مختلطة، فهذا لا يصح منا أبداً، إذ وجه هذا النداء لبني إسرائيل: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ [البقرة:42] نهاهم وحرم عليهم ذلك فهل نحن يجوز لنا!إذاً إن عرفت الحق اصدع به وبينه وقله، وإن ما عرفته فلا تقل كلمة فيها ريبة أو شبهة وتضلل للناس.ثم كتمان الحق معرة .. خزي .. هبوط. أتعرف الحق وتكتمه لمصلحة دنيوية؟!وإذا كان اليهود والنصارى يكتمون فنحن لا نكتم الحق، بل نظهره ولا نخفيه؛ لأن الحق به سعادة الحياة وكمالها، فإذا كتمناه حل محله الباطل، وأصبح الناس يعيشون في الباطل سواء اعتقاداً كان أو قولاً أو عملاً.

الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة

أمر الله بني إسرائيل بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهل نحن غير مأمورين بذلك؟ عشرات الآيات التي تأمر بهذا.هل نحن نقيم الصلاة؟!أعيد هذه الكلمة: وآسفاه، واحسرتاه! استقل لنا نيف وأربعون إقليماً، وأصبحت الأقاليم الإسلامية يديرها مسلمون ويحكمها مؤمنون، ولم يؤمر بإقامة الصلاة في إقليم منها، كأنهم لا يقرءون القرآن، ولا يعرفون الإسلام، ومن رأى شيئاً فليخبرني، من إندونيسيا إلى موريتانيا.أما هذا البلد، دولة عبد العزيز فهي ربانية، لكن نقول: استقلالنا عن الغرب والشرق، وإقامة دويلات تعتز وتصول وتجول ما أمرت أمة الإسلام فيها بإقام الصلاة، لماذا؟ ما السر؟! مع أن إقام الصلاة فائدته أن يقلل من الجريمة الخُلقية والبدنية و.. كل الجرائم إقام الصلاة تقضي عليها.والله! لو أقيمت الصلاة بمعنى إقامتها في إقليم لنقصت ميزانية الأمن إلى النصف؛ لأن إضاعة الصلاة معناه فتح باب الجريمة: الخيانة، والفجور، والكذب، والشر بالمظاهر كلها، فإذا أقيمت حسبك أن تقرأ قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، ونقول لهم: بلغوا، هيا نمشي إلى مدير الشرطة ونقول له: يا سيادة الرئيس! أعطنا قائمة بأسماء المجرمين في هذا الأسبوع أو هذا الشهر. فيعطينا قائمة فيها مائة، وفيها: هذا سب فلاناً، وهذا ضرب فلاناً، وهذا سرق فلاناً، وهذا وهذا، من جرائم الجهال، فنقول: إن وجدنا من المائة مجرم في مدينتنا أو قريتنا نسبة أكثر من خمسة بالمائة من المقيمين للصلاة اذبحوني، وخمسة وتسعون بالمائة من تاركي الصلاة، أما المقيمون للصلاة فيتعذر أن تجد نسبة خمسة بالمائة.من يتحدى الإسلام والقرآن ويذهب يسأل؟!خمسة وسبعين بالمائة زناة . لائطون .. سرق .. كذبة .. خونة .. رشاة .. مرشيون .. كذا، من تاركي الصلاة ومن المصلين الذين لم تزك الصلاة نفوسهم، ولم توجد لهم الطاقة النورانية؛ لأنها غير صحيحة، فما تولد نور ولا حسنات.وأمرهم الله بإيتاء الزكاة، نبكي أيضاً ونصرخ: لم ما تجبى الزكاة، ويذكر المؤمنون والمؤمنات بواجبهم في إسلامهم بل بقاعدة إسلامهم؟تضرب الضرائب الفادحة في أقاليم وبلاد في العالم الإسلامي والزكاة لا يطالب بها أحد، لماذا؟ حتى لا يذكروا بأنهم مسلمون، أعوذ بالله! من يفهم هذا الفهم؟!هذا هو الواقع، أضمروا في نفوسهم أو لم يضمروا، عرفوا أو لم يعرفوا، يحكمون شعباً مسلماً حتى ولو كانوا هم كفاراً.جباية الزكاة قاعدة من قواعد دينكم، فلا بد وأن تجبوا الزكاة وتجمعوها؛ لإعاشة الفقراء والمساكين، أو لمصالح الأمة في داخلها وخارجها، أبداً.أمور تؤسف، اليهود يؤمرون بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والمسلمون لا يقرءون هذا، ولا يفهمونه.قال تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] لا صلاة للمنفرد إلا في جماعة المسلمين، وهذا نظام حياتنا، وهذا مصدر كمالنا، فلا يتخلف عن الصلاة ويصليها وحده إلا ذو عذر حقيقي من مرض أو خوف، وعلى هذا أمة الإسلام. ويؤذن المؤذن في العالم الإسلامي والشوارع هائجة مائجة بالبشر، وأحياناً ترى واحداً دخل المسجد كأنه خائن.ومن إندونيسيا إلى موريتانيا ما لنا لا نقرأ القرآن؟! الله يقول لليهود: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، لا تصلوا وحدكم في بيوتكم، صلوا مع الناس، ونحن نقول: لا، ماذا في ذلك؟ نحن مسلمون.

الأمر بمحاسبة النفس قبل محاسبة الغير

زاد الله بني إسرائيل فقال: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] هذه تنطبق علينا أكثر منهم، خطباؤنا .. دعاتنا، قل ما شئت، وقد ذكرنا فيما سبق الحديث الذي فيه أن الرسول مر بهم في جهنم، فقد روى أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مررت ليلة أسري بي برجال من أمتي تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك، يأمرون بالمعروف وينسون أنفسهم ).لكن هل انتفع المسلمون بهذه الآية؟ كأنما هي في التوراة وليست في القرآن.يا شيخ! إنهم لا يقرءون القرآن ولا يجتمعون عليه إلا ليالي الحفلات والأموات.أزيدكم وضوحاً:لما ترانا في كل مدننا وقرانا في عالمنا الإسلامي إذا أذن المغرب فلم تر في الشارع، ولا في الدكان، ولا في مقهى ولا مطعم رجلاً أبداً، أين الرجال؟ أين الفحول؟ في بيت الرب، ومعهم نساؤهم وأطفالهم أيضاً، يجتمعون في مسجدهم في الحي أو في القرية، نساؤنا وراء الستار، والمسمعات ومكبرات الصوت بينهن، وأطفالنا أمامهن، والفحول أمام المربي، كل ليلة وطول العام، وهنا تشيع أنوار الإيمان، وتغمر أهل الحي، وتختفي الجريمة نهائياً، وتتعطل آلات الفساد والشر، وتقف وقوفاً كاملاً.ونركع مع الراكعين، هل وقع هذا في عالمنا؟نعم وقع في القرون الذهبية الثلاثة.نعم. في بداية هذه الدولة الكريمة -بإذن الله- لم تر رجلاً يمشي في الشارع وقد أذن المؤذن، والإمام يقرأ في الصبح قائمة بأسماء أهل الحي، ويجتمعون على قراءة آية أو حديث يومياً.فهل من عودة؟ لا نستطيع .. لا نقدر، كيف نغلق الدكاكين ونغلق ونغلق، ونأتي كلنا إلى المسجد؟! قالوا: هذا لا يمكن، وكيف يمكنكم أن تنزلوا الفراديس العلى؟ بينوا لنا، إذا كنتم تعجزون عن أن تجتمعوا في بيت ربكم لتتعلموا الكتاب والحكمة، ولتصبحوا أولياء، وعلماء ربانيين، ونساؤكم وأطفالكم أمثالكم، أمة نورانية من أجل التضحية بساعة ونصف في بيت الرب، كيف ترقون إلى الملكوت الأعلى؟ أو لا تؤمنون بالفراديس العلى؟!إن قالوا: ما نؤمن، إذاً لا ندعوكم إلى المسجد ولا إلى الكنيسة، لكنكم تدَّعون الإيمان بدار السلام .. بالفراديس العلى .. بدار دخلها نبيكم، ووقف على نعيمها، وشاهد أنوارها وكل ما فيها، وعاد ليخبركم وهو أصدق الصادقين، ولم تعرف الدنيا أصدق من محمد صلى الله عليه وسلم.لا ندخل في تفصيلات، وإنما هذا بكاء ما دامت الفرصة متاحة للبكاء.هذا المجلس اطلبوه، هل تجد مثلنا هنا حتى في المدينة؟ طالع وانظر في المساجد تجدها خالية، الحمام يزغرد فيها.أين أهل المدينة؟ في التجارة .. في الأسواق .. في العمل.أين النساء؟ أمام التلفاز.أين الأطفال؟ يلعبون.أهذه أمة ترقى إلى الملكوت الأعلى؟! لا تضحي ولا بشيء؟وسوف نذكر هذا، وليس بأيام بعيدة، يوم تحشرج الروح في الصدر، ويقول الأطباء: مات أخوكم، ثمَّ تنكشف الحقيقة، وتعرف من أنت وما أنت. إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] بماذا؟ بالبشائر: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، فيلفظ روحه، وهو ينظر إليها ويبتسم. واقرءوا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس:38-42].

الاستعانة بالصبر والصلاة

قال الله لبني إسرائيل مرشداً معلماً: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45] هل استعنا بالصبر والصلاة؟ ما عرفنا هذا المعنى ولا طلبناه: كيف نستعين بالصبر؟استعن على رقيك للملكوت الأعلى بصبرك، وبحبس نفسك على محاب الله فلا تفارقها، بحبس نفسك المتمردة المتبرمة، اقهرها .. أذلها .. أخضعها لأن تقف بعيدة عن مساخط الله؛ فلا تقربها أبداً.احبسها على أيام الامتحان؛ بالمرض، والجوع، والبلاء، والموت.احبسها حتى لا تصرخ، ولا تجزع، ولا تقول إلا ما يرضي الله. هذا هو جهاد النفس: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].يتركك ترتع كالبهيمة في كل مواطن الشر والفساد. هذا جاهد نفسه!وبالصلاة، كيف نستعين بالصلاة؟ نعم، هذا نبي الهدى، هذا القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم ( كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ).انظر! عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قادم من مكة وفي الطريق، في بدر أو وراءها قالوا: ( يا عبد الله ! توفيت امرأتك، فنزل من على دابته أو بعيره وصلى، فقيل له، قال: نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ).استعن على مقاومة النفس، والهوى، والشيطان، والدنيا بالصبر والصلاة، وإذا خطر بنفسك خاطر سوء قم: الله أكبر. واطرح بين يدي الله، وابك الساعة والساعات، يرحل الشيطان وكل مظاهره التي أراد أن يفسدك بها.

فتنة الصحون اللاقطة

هل فعل المؤمنون هذا؟ هل عرفوه؟!الذين يجلسون أمام التلفاز والدش والعاهرة ترقص أمامهم، وهم يضحكون، مؤمنون هؤلاء؟! أسألكم.بيت مسلم فيه الكفرة الفجرة، يغنون، ويرقصون، ويتكلمون، ويرفعون أذرعتهم وأيديهم، والمسلمون في زعمهم ينتصرون، والفتاة المراهقة والفتى ما إن يرى الفتاة حتى يتمزق قلبه وأحشاؤه، أعوذ بالله أن تكون بيت المسلم هكذا.قالوا: ما بلغهم هذا يا شيخ!والله بلغهم، على رمية حجر، آلة الدش مفتوحة كأنها قبة، وكتبنا له كتاباً لو قرأه يهودي يمرض .. نصراني يصعق، وقدمنا له الكتاب، والدش مثلما هو، ميت لا ضمير له.قلنا له: أتتحدى رسول الله؟ لو كان موجوداً تفعل هذا وتستطيع؟قالوا: يا شيخ! أنت جامد .. أنت متأخر .. أنت رجعي.هذا الكلام ماذا؟ أوساخ العقول، نحن نتكلم على علم وبصيرة، ائتونا بالساسة، والعالمين، والعارفين، وعلماء النفس والاجتماع والكون يقفون أمامنا،و يذوبون أمام أنوار الحق، أي ساسة هؤلاء. يا صاحب الدش والتلفاز! إن كان جلوسك أنت وامرأتك وأبويك وأولادك أمام عاهرة تغني أو ترقص أو كذا، إذا كنت ستحصل على ريال واحد وقلت: أنا فقير، وما عندي شيء وعائلتي، نكتسب ريالاً أو ريالين في الليلة أحسن، نقول: معذور، أعطوه ريالاً أو اسكتوا.يجني صاحب الدش ريالاً .. عشرة .. مائة؟ قولوا، يعطى شيئاً؟آه! لا يعطى ريالاً، أتنمو قوة بدنه، وأولاده يكبرون ويبعدون من الأمراض، ويبعدون من إعاقة التأخر والتخلف العقلي؟ والله ما كان.يا شيخ! يكسبون حسنات عند الله، ما عندهم وقت أبداً للعبادة إلا هذا الوقت يكتسبون بالمشاهدة ذكر الله عز وجل، وذكر الدار الآخرة، ممكن؟ لا يا شيخ!أو أن العدو يرهبهم يقول: هذه البلاد يعيشون على التلفاز، وعلى الدش، فهؤلاء لا نستطيع قتالهم، ولا الهجوم عليهم؟! لا.إذاً ما هو إلا أن نسخط الله فقط، فأين العقول، وأين البصائر، وأين الفهوم، وأين المدارك وأين وأين؟ لا شيء.اسمع! دخل رسول الله على أم المؤمنين عائشة في حجرته التي هو الآن فيها مع أبي بكر وعمر ، فدخل بعدما صلى المغرب أو العصر فوجد عائشة وضعت كوة في الجدار، تضع فيها بعض أدواتها؛ فما عندها خزانة، ومستورة بخرقة قماش فيها صورة منسوجة بالخيوط كما كان النساء من قبل ينسجن، وما إن شاهدها حتى تمعر وجهه وغضب، فعرفت الغضب في وجهه وقالت: أتوب إلى الله ورسوله. ماذا صنعت يا رسول الله؟ قال: ( أزيلي عني قرامكِ يا عائشة ، فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ).هذا الحديث في الموطأ والبخاري ومسلم، وهو كالقرآن في تواتره.ما بلغنا هذا؟ أو نتحدى رسول الله؟ ماذا هناك؟ إذا خففنا عن أنفسنا وروحنا عليها، شاهدنا راقصة ترقص أو أغاني لطيفة تحرك ضمائرنا وقلوبنا! ماذا هناك؟ يقول هذا مؤمن؟!وإن أردتم النقمة الإلهية فهي على الأبواب، والله إن لم يتدارك الله المسلمين بتوبة صادقة لحل بهم ما حل بأجدادهم أيام الاستعمار البريطاني، والأسباني، والإيطالي، والفرنسي، والله لأعظم؛ لأن أجدادنا كانوا أميين جاهلين، ما عندهم علم ولا كتاب.ذهب عمي يطلب لي كتاباً بريالين، بحثنا في الشرق والغرب ما وجدنا، مصحف في الكتَّاب كل الأولاد يطالعونه، ما عندنا مصحف، كيف تلومونا؟ هذا وضعنا، فكيف بنا نتحدى الله مع ما وهبنا وأعطانا من وسائل العلم والمعرفة والبصيرة، فكلنا عرف الطريق إلى الله، واستنكف كثيرون.إذاً: فلينتظروا.اللهم أمتنا قبل الفتنة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم إن أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ) وإنها لعلى الأبواب، دلونا على قرية .. على حي نوراني نزوره، ونشاهد أنوار الإيمان والتقوى فيه. أمة أصبحت مادية هابطة إلا ما شاء الله.

سهولة الطاعة على الخاشعين

وأخيراً يقول لهم: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ [البقرة:45] أي: التمسك بحبل الله .. إقام الصلاة .. إيتاء الزكاة .. الأمر بالمعروف .. النطق بالحق، هذا أمر ما هو هين. إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] الخاشعون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، هؤلاء يهون عليهم أن يصوموا أيام شدة القيظ .. يهون عليهم أن يجوعوا ولا يهبطوا، ولا ينزلوا إلى أن يكونوا كغيرهم .. يمرضون ولا يؤثر فيهم مرض، الوجه كالصبح، وهو يقول: الحمد لله رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)

بعد هذه التوجيهات الإلهية -وهي لنا في كتابنا هذا، وإن كانت موجودة في التوراة لكن عندنا أوضح وأصرح، ما فيها دخل، ولا زيادة، ولا نقص- عاد فناداهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:47] وكذلك: يا أمة الإسلام! يا أمة محمد! يا أمة القرآن. يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:47] يذكرهم بتلك الزمرة النورانية التي كانت في يوم من الأيام تعيش على ذكر الله وطاعته، وهم الأنبياء والرسل، إسرائيل هو يعقوب عليه السلام ابن إسحاق ابن إبراهيم، وأحفاده وأولاده من الأسباط، منبت الشرف. يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:47] يذكرهم بأصلهم، علهم يفيقون ويرجعون. يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47] يأمرهم بذكر النعمة لأي شيء؟ ليغنوا عليها بالدفوف! أم يذكروها من أجل أن يشكروها؟ من ذكر النعمة والله شكرها، وعلى الأقل يقول: الحمد لله، ومن لم يذكر يشكر؟ الذي يعيش كالبغل في صحته وقدرته ولا يذكر هذه النعمة، أيقول: الحمد لله أني بخير؟ لا يقول. لكن إذا ذكر صحته وعافيته يقول في قلبه ولسانه: الحمد لله .. الحمد لله.وأغلب إخوانكم المسلمين لا يذكرون نعم الله، إلا من ندر، وفي مناسبات قليلة، إلا إذا قلت: كيف حالك؟ يقول: الحمد لله، أما أن يغمض عينيه لحظة ويذكر ما هو فيه من النعم من هذه الحياة ويقول: الحمد لله .. الحمد لله، فهذا نادر، وصاحبه قلبه حي، ما عليه سحب ولا أمراض.تعشينا أو تغدينا مرة في بريدة، وما إن وضعت السفرة وأخذنا في الأكل، والذي دعانا أستاذي، وله والد كبير في السن؛ شيخ، من ساعة ما وضعت السفرة وذاك الشيخ: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله .. ممكن ساعة ونصف حتى فرغ الأكلة من الأكل، فحفظنا تلك الصورة، فهي نادرة كالكوكب في سماء الدنيا.والله لو نذكر نعم الله علينا ونحن في الشوارع: الحمد لله .. الحمد لله ما بقي وقت للأغاني، ولا المزامير، ولا الطبول، ولا اللهو، مشغولون بذكر الله. يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:47] وهي نِعَم. وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47] أي: على عالم زمانهم، أيام كان بنو إسرائيل أنبياء، ورسلاً، وصلحاء، وأطهاراً، ما كان شعب في الصين ولا الشرق ولا الغرب أفضل من تلك الأمة، فضلهم بالأنبياء .. بالوحي الإلهي .. بالمعجزات والكرامات. فاذكروا تلك النعم.

تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ...)

قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [البقرة:48] ما هذا اليوم الذي يتقونه؟ وبم يتقونه؟هذا اليوم هو يوم القيامة .. يوم يقوم الناس لرب العالمين .. يوم تبرز الجحيم للناظرين: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:91] .. يوم تزلف الجنة: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء:90]، والخليقة واقفة، والرب تعالى يأتي، والأنوار تغمر الكون الموجود، وينصب الميزان، ويكون الحساب والجزاء، اذكروا هذا، واتقوا هذا اليوم. وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [البقرة:48] أبداً، لا يوجد إنسان مهما كان في شرفه أو هبوطه يجعل نفسه فداء شخص آخر، والله لا يوجد في الآدمية كلها .. في البشرية كلها من يقول: يا رب! أبي استوجب النار وأنا فداه .. أدخله الجنة مع الداخلين وأنا أدخل النار، والله لا يمكن أبداً.والله لو أن قبيلة كاملة -وثمَّ لا قبيلة، كل واحد يصرخ بنفسه- تقول: يا رب! هذا عبد من عبادك، لا نرضى أن يدخل النار، ويشقى في عالم الشقاء، نحن بدله .. نحن فداه أدخله.. والله ما كان.أزيدكم: والله لا نبي، ولا رسول، ولا ولي، ولا عبد صالح يستطيع أن يفدي آخر أبداً: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة:48].لعلكم ما اطمأننتم، هل بلغكم أن نوحاً قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود:45]، ماذا قال الله؟ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46].آزر والد إبراهيم، تعرفون إبراهيم؟ أبو الأنبياء .. أبو الضيفان .. إمام الموحدين.إبراهي على جلالته وعلو مقامه في عرصات القيامة في تلك الساحة والخليقة واقفة، منهم من مضى عليه أربعون ألف سنة فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] يقول: يا رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أخزى من هذا يا رب؟ آزر ، لو تجمع كفار اليوم كلهم ما يساوونه، وعندنا بيانات على هذا، فماذا يتم لإبراهيم وهو يصرخ؟قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: ( فيلقى آزر بين يدي إبراهيم في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيوح )، انظر تحت قدميك يا إبراهيم، فإذا بأبيه آزر في صورة ضبع بل ذكر ضبع؛ لأن أقبح صورة في الحيوانات ذكر الضبع، أنثاه لطيفة، أما هو أبشع صورة، وملطخ بالدماء، والقيود بين يديه، فما إن يراه حتى يقول: سحقاً سحقاً سحقاً يا رب! فيؤخذ من قوائمه الأربعة بواسطة الملائكة، ويرمى في عالم الشقاء، فتطيب نفس إبراهيم، فلم يذكر أباه أبداً.وها هو رسول الله يقول: ( يا فاطمة بنت محمد! إني لا أغني عنكِ من الله شيئاً ) هذه فلذة كبد رسول الله، والله كما تسمعون: ( يا فاطمة! إني لا أغني عنكِ من الله شيئاً ) اعبدي الله عز وجل، زكي نفسك وطهريها بالإيمان وصالح الأعمال.إذاً: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [البقرة:48]. وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة:48] العدل ما يعادل.وإليكم يا أهل المدينة هذا البيان المحمدي، بلغوا: ( المدينة حرام من عائر إلى ثور )، جبلان أحدهما يكتنفها من الجنوب والغرب، والآخر يكتنفها من الشمال والشرق وهي بينهما، هذه المدينة، ( المدينة حرام )، ومرة قال: ( حرام من عائر إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل ) بلغوهم.لو نقلتم هذا الخبر الليلة إلى أصحاب الدش والأغاني والرقص في البيوت وترك الصلاة ماذا تسمعون؟يقولون: هذا الشيخ جامد، هذا متحجر، لا يفقه، ولا يفهم.ونحن نقول: هاتوا علماءكم من الإنس والجن، وليشهد مجلسنا علماء الكون، فإن وجدوا خطأً فليذبحونا.ما هو كلام هراء، إن كنت لا تستطيع أن تطيب وتطهر في بلاد الطهر ارحل، وهذا الكلام قلناه من أربعين سنة: إذا كنت لا تستطيع أن تستقيم في حرم رسول الله وحرم الله فارحل، العالم واسع، ولا تفسد في بلاد الطهر والصفاء.هؤلاء أولاد الأنبياء يقول لهم مولانا ومولاهم ومولى العالمين: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:48] هذا قيل لبني إسرائيل، فهل اتقوا ذلك اليوم بترك الربا .. بترك العهر والزنا .. بترك الغش والخداع والخيانة؟ الجواب: لا؛ لأن قلم القضاء مضى بأنهم أهل النار وعالم الشقاء.

المفلس يوم القيامة

كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الكتاب والحكمة ويزكيهم، فقال مرة: ( أتدرون من المفلس؟ ) يسأل ويجيب؛ طريقة علمية يتمنطق بها ويتمدح بها علماء التربية اليوم، إيه! هذه سبق الرسول لها من ألف وأربعمائة سنة: ( هل تدرون من المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا دينار له ولا درهم )، أكلها وضيعها، ( قال: المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بجبال الحسنات -بأطنانها- ويأتي وقد سب هذا وشتم هذا، وأخذ مال هذا، وفعل مع هذا، فيأخذون من حسناته ) خذ، سدد، سدد، سدد، حتى لم تبق له حسنة واحدة.وبعد بقينا نحن: يا ربنا ما أخذنا حقنا، هذا سب ولدي وذبحه، هذا كذا، ما بقيت له حسنات. هاتوا سيئاتكم، فكل من عنده سيئة يضعها عليه، فترسب في الأرض كفة ميزانه فيقاد إلى جهنم. هذا هو المفلس، وليس الذي فقد الدينار والدرهم في تجارة كسدت، أو في عملية ما صلحت. وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ [البقرة:48] لا تفكر أبداً في أن هناك من يقول: أي رب! أنا الضحية، فيدخل الجنة.كل ما في الأمر أن الشفاعة وهي كما عرفتم أولاً: أن يرضى الله تعالى بالشافع ليشفع، وبأن يؤهله لذلك، والمشفوع رضي الله أن يجاوره في الملكوت الأعلى، أما أن لا يرضى الله لفلان، ولا يأذن له بالشفاعة ويشفع فلا، والله ما يشفع أحد لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا عبد صالح إلا بإذن الله تعالى.ثم هذا الذي تشفع فيه يا ولي الله، هل رضي الله أن يجاوره ويقبله أو لا؟ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] فقط.وهذا الموضوع نرجؤه، ولكن نطرح هذا السؤال على الطالبين والطالبات للهدى في هذه الحلقة: لم لا تنفع الشفاعة ولا الفداء ولا ولا، لم؟ هذا حكم شديد.

تزكية النفس وبم تكون

اسمعوا! إنما هي النفس البشرية فمن زكاها .. طيبها .. طهرها بأدوات التزكية وآلاتها فزكت .. طابت .. صفت، أصبحت كأرواح الملائكة، فهذا يدخل الجنة، ولا يحول بينه وبينها حائل قط، فإن لوَّثها .. خبثها .. عفنها .. أفرغ عليها أطنان الذنوب والآثام فأصبحت منتنة عفنة كأرواح الشياطين والله لا تدخل دار السلام، هذه هي القضية، فلهذا لا بنوة، ولا أبوة، ولا أخوة، ولا قرابة، ولا نسب، إنما هي نفسك زكيتها وبذلت جهداً في تطهيرها وتطييبها أو قلت: ماذا هناك؟ هنا. واسمعوا حكم الله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1] هذا يمين أو لا؟ يا عرب! وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس:1-4] يا رب! لم تحلف؟ لأجلنا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:5-8] هذه الأيمان كلها لأجل ماذا؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] انتهى الأمر. هنا تقرير المصير، فالآدمي هو الذي يقرر مصيره بنفسه، أما أسند التزكية للإنسان أو لا؟ ما أسند التدسية للإنسان أو لا؟ من يقرر مصيرك إذاً إلا أنت؟ أنت الذي تقرر مصيرك.كيف يا شيخ؟ كيف نصنع؟اسألوا بايع الأدوية والعقاقير في الصيدليات عن الأدوية التي تلائمكم تجدونها، للحمى .. للضرس .. لكذا أو لا؟ أدوات التغسيل، والتنظيف، والتطهير للأواني .. للثياب، موجودة.والأرواح ! أين الصيدلية التي فيها أدوات التزكية للروح البشرية؟إنها القرآن والسنة.هل وراء ذلك شيء؟ والله لا شيء، القرآن صيدلية الله، والسنة صيدلية رسول الله صلى الله عليه وسلم.تريد أن تزكي نفسك اذهب واشتر، ولكن لا بد لك من معلم يعلمك كيف تستعمل العقاقير.والصلا أكبر مزكٍ للنفس، لا بد من عالم يعلمك كيف تركع وتسجد وتجلس، وماذا تقول، حتى تنتج لك الحسنات، وتولد هذه المادة، وإلا ما تنفع.ومن هنا بدأنا وعدنا: لا بد من العلم .. لا بد من العلم .. لا بد من العلم؛ علم الكتاب والسنة، ويطلبان في بيوت الرب مع الصدق والرغبة الدافعة في تطهير النفس وتزكيتها، وليس وراء ذلك شيء.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-18, 01:11 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (50)
الحلقة (57)



تفسير سورة البقرة (21)


خاطب الله بني إسرائيل آمراً لهم بتذكر نعمه تعالى ليحمدوه ويشكروه عليها، وليؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وليتقوا يوماً تشيب لهوله الرءوس، وهو يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولا فداء ولا نصير، وكما نجاهم الله سبحانه من عدوهم فرعون، عليهم أن ينجوا بأنفسهم من جهنم، ذلك العذاب الأبدي.

تابع تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:47-49] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

وجوب ذكر النعم لتشكر بحمد الله وطاعته

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!هذا نداء الله عز وجل إلى بني إسرائيل .. إلى اليهود الذين كانوا يسكنون في هذه المدينة وحولها من الشمال، هؤلاء اليهود ينادون بعنوان آبائهم وأجدادهم من عهد إبراهيم أو من عهد يعقوب إلى يومهم باعتبارهم أمة واحدة.والمراد من هذا النداء: أن يدخلوا في رحمة الله، وأن يذكروا ما أنعم الله تعالى به عليهم فيشكروه، فيؤمنوا برسوله الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من الهدى والنور الذي هو الإسلام دين الله، الذي لا يقبل ديناً سواه.وسبق أن عرفنا أن ذكر النعمة معناه شكرها، فمن ذكر شكر، ومن لم يذكر لا يشكر.والمطلوب من الشكر اليُمْن بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وبكتابه القرآن العظيم، وبملته التي هي ملة إبراهيم عليه السلام.وقد ذكر لهم من نعمه خمس نعم جليلة وعظيمة، لو ذكروها لآمنوا بالله ورسوله، ولكنهم شاردون بعيدون عن ساحة الإيمان والدخول في الإسلام، لأغراض هابطة لا قيمة لها، ولكن زينها الشيطان لهم وحسنها، فأصبحوا لا يرون إلا ما هم عليه، وهم متى يصلون إلى إقامة مملكة بني إسرائيل من النيل إلى الفرات، وعلموا أنهم لو دخلوا في الإسلام لذابوا في رحمته وأنواره وهدايته، ولم يبق لهم كيان خاص، إذ هذا دين البشرية جمعاء، والذين يدخلون فيه لم يبق لهم ما ينحازون إليه، أو يتحمسون له، أو يدافعون عنه، فالشرقي كالغربي، كالشمالي كالجنوبي، الكل مسلم، فانتفت الفوارق وانمحت، ولم يبق إلا مسلم أسلم قلبه ووجهه لله.فمن هنا أصروا على هذا، ومع هذا فالله عز وجل يلاطفهم .. يأخذ بقلوبهم .. يوجههم .. يذكر نعمه عليهم رجاء أن يفيقوا من سكرتهم، ويعودوا إلى الرشد والصواب، فهذا الذي تجلت فيه رحمات الله وألطافه وإحسانه بعباده.هؤلاء قتلة أنبيائه، ومع هذا نستمع إليه تعالى وهو يناديهم: يا بني إسرائيل! يا بني عبد الله! يا بني يعقوب! يا أحفاد إبراهيم! اذكروا نعمة الله عليكم، اذكروا فإن الذكرى يحملكم على الشكر.

تفضيل بني إسرائيل على العالمين

كما أن الله فضل بني إسرائيل على العالمين.وعلمنا أنه فضلهم على من كان موجوداً أيام بني إسرائيل، أيام كانوا مسلمين، صادقين، صالحين على عهد يعقوب .. على عهد يوسف .. على عهد الأسباط .. على عهد داود وسليمان .. على عهد موسى قبله وهارون، كانوا أفضل أهل الأرض، ففيهم الأنبياء، والوحي، والاستقامة، والهدى، ومن عداهم أمم هابطة بالنسبة إليهم، وهم في العلية.

لا تغني نفس عن أخرى من عذاب الله شيئاً يوم القيامة

قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [البقرة:48] وقد عرفنا أنه لا يغني ولد عن والده، ولا والد عن ولده، واستعرضنا ما علمنا، فعرفنا أن إبراهيم عليه السلام لم يغن عن آزر شيئاً وهو من أهل النار، وعرفنا ذلك العرض العظيم الذي لولا رسول الله ما كنا لنعلمه في عرصات القيامة .. في ساحة فصل القضاء.وإبراهيم يذكر دعوة دعاها في الدنيا أيام حياته، عندما قال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:83-89]. والله يستجيب دعاء الداعين لا سيما أمثال إبراهيم، فذكر إبراهيم هذا وهو في عرصات القيامة، فقال: رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي؟فصدر أمر الله إلى ملائكته أن يأخذوا آزر من النار في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيوح، ويلقونه تحت قدمي إبراهيم، ثم يقول له الله: إبراهيم! انظر تحت قدميك، فإذا بأبيه آزر في تلك الصورة القبيحة البشعة التي لا يطيق النظر إليها إنسان، فما إن يراه في تلك الصورة حتى يقول: سحقاً سحقاً، أي: بعداً بعداً. ويؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في الجحيم، فتطيب نفس إبراهيم فلم يذكر أباه قط في دار السلام.إبراهيم ما أغنى عن والده شيئاً، ونوح ما أغنى عن ولده شيئاً.أما النساء فقد عرفنا أن نوحاً لم يغن عن امرأته، وأن لوطاً -كذلك- ما أغنى عن امرأته، إذ قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا [التحريم:10] ليس في الزنا. الآن الخيانة المعروفة عند العامة: خانته امرأته بمعنى فجرت، والله ما أراد الله هذا، وفراش الأنبياء مستحيل أن يطأه أحد، وإنما خانتاهما في العقيدة، فنافقتا من جهة معه ومن جهة مع أهلها المشركين الكافرين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ [التحريم:10-11] فكونها امرأة لفرعون، وتنام على فراشه، وتأكل طعامه، وتعيش معه أميرة وسيدة، هل أغنت عن زوجها شيئاً؟ ما أغنت، فهو في جهنم.إذاً فلا أبوة، ولا بنوة، ولا أمومة، ولا أخوة، ولا عمومة، القصد ما سمعنا.يوم لا تغني نفس عن نفس شيئاً، كل يقول: نفسي نفسي.وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم مرة فقال في هذا الموقف والحسنات توزن، والسيئات توزن وتوضع في كفة الميزان، فيأتي الرجل إلى ولده من صلبه: أي ولدي! لقد احتجت إلى حسنة واحدة ترجح بها كفة ميزاني، فهلا حسنة واحدة؟ فيقول: نعم أبتاه، كنت لي خير الآباء، وأرحم الآباء، ولكن نفسي نفسي، وتأتي الأم إلى ابنها فتكون الحال ما علمتم: نفسي نفسي.إذاً: فلم التعصب لآبائنا وأجدادنا وقد زلت أقدامهم، وساءت حالهم، وخرجوا عن طاعة ربهم، وفسقوا عن أمر مولاهم، نبقى نكره الحق من أجلهم، تعصباً لهم؟ هل يغنون عنا شيئاً؟ والله ما يغنون.

ثبوت الشفاعة

قال تعالى: يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة:48] والعدل الفداء والعوض وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:48] من ينصرهم أمام الله؟ من يدعي أن يقوم بعمل لينصر إخوانه المهزومين أو من أهل النار؟ لا نصر، انتهى الأمر.وهنا لا بد من كلمة حول الشفاعة.الشفاعة هو ضم وجه إلى وجه؛ لأن الوتر واحد، والشفع اثنان، فأنت وحدك جاهك ما كفاك فتريد أن تضم جاه آخر معك، وتطلبان الطلب الذي تريدانه.وهذه الشفاعة أنكرها المعتزلة وبعض الفئات الساقطة ممن سقطوا من عرش الإسلام لاتباعهم الآراء والأهواء، وعدلوا عن منهج الحق.وادعاها آخرون حتى أصبح الرجل يقول: أعطني كذا أشفع لك يوم القيامة، فأصبحوا يبيعونها بالنقود.وضل آخرون، فيطلبونها من الموتى: يا سيدي فلان! لا تنسني، أنا خادمتك، أنا خادمك، الشفاعة الشفاعة.وحتى الشافع العظيم صلى الله عليه وسلم، يقولون: الشفاعة الشفاعة يا رسول الله! جئناك زواراً من بلاد بعيدة نريد شفاعتك فاشفع لنا، وهذا باطل.ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم بيننا لا يقول أحد: يا رسول الله! لا تنسني، أنا فعلت وفعلت، ولا بد أن تشفع لي، كما يقول الغوغائيون من أمثالنا، والله ما قال أحد هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.خلاصة القول: لا تطلب الشفاعة إلا من الله، فتضرع بين يدي الله، وتمرغ في التراب وأنت تبكي: رب! شفع فيَّ نبيك، أو اجعلني ممن تقبل شفاعتهم عندك يوم القيامة، بمعنى: لا نلوذ إلا بجناب الله، إذ لا يملك الشفاعة إلا الله.

الشفاعة العظمى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم

نعود إلى الشفاعة المحمدية؛ فالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة العظمى، وعندنا براهين ساطعة وحجج قاطعة، واقرءوا قول الله عز وجل من سورة بني إسرائيل أو الإسراء كما تسمى، إذ قال تعالى له وهو يخاطبه في مقام صعب: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] يا رسولنا! وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ [الإسراء:79] وقبل هذا: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:78-79] أتدرون معنى التهجد؟ إزالة الهجود وهو النوم، فلا نوم .. أزل النوم عنك .. أبعد هذا الغطاء والغشاء.يا شيخ! إننا نتهجد ليلنا أمام شاشة التلفاز لنشاهد أحداث العالم، إن إخواناً لنا يسهرون إلى آخر الليل يعيشون مع من لا ينطق اللسان بحالهم، حتى أنهم لا يصلون الصبح، لكن هنا يقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتمتع بالنوم الطويل، تهجد، أزل الهجود وقم: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل:1-4] .. ورجاله وأصحابه: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل:20] رجال ونساء.بدل أن نتهجد قياماً لله نسهر ونزيل الهجود على مرائي العبث، والباطل، والسخرية، والوسخ، والكفر.لا إله إلا الله! إلى أين نذهب؟ ما هذا السحر الذي سحرونا به؟!الشفاعة العظمى وعد الله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ [الإسراء:79]، وعسى من الله تقتضي الوجوب؛ لأن الله لا يعجزه شيء، فإذا وعد ينجز، وليس بعاجز. فعسى من الله تقتضي الوجوب، فقد وجبت الشفاعة العظمى لنبينا صلى الله عليه وسلم، ولم يظفر بها أحد سواه.واسمعوا صلى الله عليه وسلم يشرح هذه الصورة ويبينها، والأحاديث في الصحاح كالتواتر عندنا: ( إذا كان الناس في عرصات القيامة )، جمع عرصة، وهي الساحة لفصل القضاء وقد اجتمعت البشرية كلها، وانتظروا متى يقضي الله قبل أن يجيء الرب عز وجل لساحة فصل القضاء، واقرءوا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:68-69] قبل القضاء البشرية تنتظر حكم الله فيها، ويطول الموقف، ويشتد الموقف، وقد عرفتم أنهم يعرقون ويعرقون، ويسيلون عرقاً، والله إن بعض الناس ليلجمه العرق إلجاماً، فيمشي في بركة من العرق، ( فيأتون آدم: يا آدم! أنت خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فكلم ربنا ليقضي بيننا )، والله يعتذر آدم ويذكر خطيئته، وهي خطيئة واحدة ويقول: ( إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، وإني عصيته وخرجت عن طاعته، فكيف أكلمه! ولكن عليكم بنوح أبي الأنبياء الأول، فيأتون نوحاً )، من هم؟ أعيان أهل الموقف، ما ندري من هم؟ بلايين، أعيانهم خيارهم. يا نوح! أنت وأنت وأنت وأنت، فكلم ربك يقضي بين الناس، فيذكر نوح ذنبه، أي ذنب أذنب نوح؟! عاش ألف سنة يدعو إلى الله إلا خمسين عاماً، وزاد حياة أخرى بعد الغرق والطوفان، ممكن تكون مائة سنة، فيذكر خطيئته يوم ما قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26] فما من حقه أن يدعو بهذه الدعوة، كان من حقه أن يقول لربه: اهدهم، فعرف أن هذا الموقف لا ينبغي، فذكر هذه الدعوة التي لا تبقي البشرية ولا تذر، فقال: كيف أكلم ربي وأنا صاحب هذه الخطيئة؟! عليكم بإبراهيم، إبراهيم الأب الرحيم؛ أبو الأنبياء، نعم كل الأنبياء من صلبه من بعده، لكن نوح يعتبر أول رسول قطعاً.إبراهيم يقول: ( وكيف وقد كذبت ثلاث كذبات! ) كم عاش إبراهيم؟ مائة وعشرين سنة، كم كذبة؟ أربع، ونحن في اليوم كم نكذب من كذبة؟ أربع، في اليوم لا في العام، والحمد لله! يوجد بيننا من لم يكذب قط، لكن هذا نادر، عشرة.. خمسة عشر، لكن مجتمعنا ما هو ألف ولا مليون.أمة الإسلام شاع الكذب وانتشر بصورة لا نظير لها.( ثلاث كذبات فقط كيف أواجه ربي وأكلمه! وقد غضب ربي اليوم غضب لم يغضب قبله مثله ولا بعده، فعليكم بموسى ). موسى كليم الله .. موسى فاز بمناجاة الله في جبل الطور ناداه: يا موسى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ [طه:12]، فموسى أيضاً يذكر خطيئته وأنه قتل نفساً، وإن كان القتل الخطأ معفو عنه، ولكن كيف أواجه ربي وأنا الذي قتل القبطي فلان؟ ثم يقول: ( إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا بعده، فعليكم بعيسى ) روح الله وكلمة الله؛ إذ كان بكلمة الله، ( فيأتون عيسى فلم يذكر ذنباً قط )، فاز ابن مريم إذ لم يذكر ذنباً قط، أتدرون كيف هذا؟ هذا ببركة دعوة جدته لأمه حنة إذ قالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:35-36]. وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ أحصنها وأحفظها بجنابك يا رب وَذُرِّيَّتَهَا أيضاً، لو بقي لها ذرية إلى اليوم ما يعصون الله، لكن ما هو إلا عيسى فقط.هذه الدعوة استجابها الله أو لا؟!وأخبرنا أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع: أنه ما من مولود يولد حياً، ما إن يخرج من بطن أمه، ويقع على الأرض أو على الفراش إلا ويصرخ باكياً، كان في بطن أمه في نعيم يتقلب كأنه في قصر، والله ما تكلم ولا بكى، وما إن يخرج حتى يصرخ، لم؟ أخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم أن الشيطان ورجاله بسيارة الإسعاف ينتظرون متى يخرج هذا المولود، فما إن يخرج حتى يضرب في خاصرته ويطبع أن هذا يكون ممن يستطيع أن يؤثر عليهم إلا ابن مريم، لاستجابة الله دعوة حنة فجاء الشيطان وفشل، وما استطاع -والله- أن يمسه.ولهذا من أين يأتي الذنب؟ أغلق الباب، لا نافذة ولا باب.فعيسى لم يذكر ذنباً قط، وهو كذلك، وقد عاش ثلاثاً وثلاثين سنة في بني إسرائيل، وسوف ينزل ويكمل إن شاء الله ثلاثين سنة أخرى حتى يكون عمره كعمر نبينا ثلاثاً وستين، ويموت بالمدينة، ويدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضع القبر موجود، والحجرة فيها الآن ثلاثة قبور وبقي مكان واحد، وصرف الله قلوب الخلفاء والعلماء وأهل الدنيا و.. و.. ما استطاع واحد منذ ألف وأربعمائة سنة أن يقول: أنا ملك، ادفنوني هنا، أو أنا خليفة المسلمين، أبداً، محفوظ هذا المكان.وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كأني بابن مريم بالروحاء يلبي: لبيك اللهم لبيك حجاً وعمرة أو لبيك اللهم حجاً ) ومعنى هذا: أنه يموت بالمدينة، والرسول يقول: ( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها؛ فإني أكون له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة ) فلهذا كان المؤمنون يأتون المدينة أيام الفاقة والفقر والحاجة ولا همَّ لهم في الأكل ولا الشرب ولا اللباس، وإنما الهم أن يموتوا بالمدينة، ويبعثون أول من يبعث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.و عمر على جلالته في الكمال كان يدعو الله: رب! إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك. فتعجب أم المؤمنين حفصة بنته: يا أبتاه! كيف يتم هذا؟ الاستشهاد في حدود الهند وأوروبا وشمال إفريقيا، كيف الشهادة في المدينة؟ واستشهد أو لا! أما قتله مجوسي عليه لعائن الله، في محراب رسول الله، أي شهادة أعظم من هذه! هذه أول رصاصة أطلقها الحزب المجوسي الذي تكون في فارس للانتقام من الإسلام، فـعمر هو الذي مزق راية الباطل في تلك الديار.والشاهد عندنا: عيسى لم يذكر ذنباً قط. عرفتم العلة؟ حفظ الله، ودعوة جدته محفوظة، فلا يقربه شيطان أبداً.ومن الترتيبات أنه يعيش في الجنة بجسمه الآدمي -والله- إلى الآن، وسوف ينزل، فلو تلطخ أو اتسخ أو حصل شيء يكون عائقاً هذا، لا ينبغي أو لا؟ ولما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ما هي الترتيبات التي أخذت له؟ ما شق صدره؟ ما غسل قلبه وصدره؟ ما حشي بطاقات من نور الإيمان؟ حتى يقوى على أن يجالس أهل الملكوت الأعلى، صلى الله عليه وسلم.( فيأتوه فيقول: عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولا بعده، عليكم بمحمد ) عرف إلى من يحيلهم، فما بقي إلا هو؛ لأن ما بين عيسى ومحمد خمسمائة سنة.( فيأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا لها، أنا لها ) لما سبق له من عهد ربه: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79].قال: ( ثم آتي -أجيء- فأخر ساجداً تحت العرش ) لا تفهموا أنه يقول: يا رب! اشفع، يا رب! اقض بين عبيدك، طالت المدة، لا، لا يستطيع.قال: ( فآتي فأخر ساجداً تحت العرش، ويلهمني ربي تعالى محامد ) أي: ألفاظ حمد وثناء لله تعالى ( لم أكن أعرفها من قبل، فلا أزال أحمده وأثني عليه وأنا ساجد حتى يقول: محمد! ارفع رأسك واسأل تعط واشفع تشفع )، فيشفع في القضاء وإصدار حكم الله على الخليقة، ويبدأ الحساب.هذه تسمى ماذا؟ الشفاعة العظمى، ولا أعظم منها، لأنها شفاعة الخليقة كلها، ليقضي الله بينها، فيدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، بحسب أعمالهم وسلوكهم.إذاً: هذه شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة به.

شفاعات أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم

وللنبي صلى الله عليه وسلم شفاعات أخرى، لكن من الذي يمنحه إياها؟ الله، فيشفعه في أهل الكبائر من أمته، واقرءوا الحديث في الروضة، في لوحة حديدية أو نحاسية: ( لكل نبي دعوة أعطاه الله إياها )، اطلب يا موسى، جائزة، وسام شرف، خدمتنا كثيراً، اسأل، كل نبي طلب طلبة وأعطيها، قال: ( وأنا ادخرت طلبي شفاعة لأمتي ) ما قبلها وظيفة في الدنيا ولكن قال: ( ادخرتها لأمتي يوم القيامة ) .فأهل الكبائر الذين يموتون على الكبيرة، فهذا مات على الزنا .. هذا مات على الربا .. هذا مات على كذا على كذا من كبائر الذنوب وهي سبعون، فهذا الذي عوقته الكبيرة عن دخول الجنة لأنه ما تاب منها، مات وهو يباشرها، فهذا يشفع الله تعالى فيه رسوله، لم؟ لأن هذا العبد تصدق، وصام، وجاهد، وزكى، وأطعم، وقال، وعبد الله ولكن ارتكب كبيرة، فعلّقته، وحالت بينه وبين دخول دار السلام، فيرحمه الله لما له من طاعات، وعبادات، وبر، وخير وإحسان فلا يغفر الله ذلك كله، ولكن يؤاخذ به، فهو محروم الآن، فيشفّع الله تعالى فيه محمداً، فيدخلون الجنة. هذه الشفاعة الثانية.والثالث : أنه يشفعه في أهل الجنة، في رفع درجاتهم، فأحدهم درجته في مستوى كذا، فيرفعه الله بشفاعة رسوله أن يكون في الدرجة العليا الفلانية.فلهذا سلوا الله الشفاعة المحمدية فإنها نافعة سواء كنت من أهل الكبائر أو من أهل الصغائر أو من أهل الطاعات والعبادات، فإنها تنالك، فترتفع بها إلى درجة ما كنت لتصلها إلا بهذه الشفاعة.انتبه يا غافل، وأنت نائم، فتحدث غداً الناس وتقول: اسألوا النبي الشفاعة، هل أنا قلت هذا؟ وهل يجوز أن نقوله، أكذب عليكم فتقول: يا رسول الله! اشفع لي؟والله ما كان، ولا يجوز أبداً، وإنما اسأل الله: اللهم اجعلني ممن تشفع فيهم نبيك .. اللهم اجعلني ممن تشفع فيهم نبيك، هذا نعم، اسأل الليل والنهار؛ لأنك تسأل الله عز وجل.

شروط قبول الشفاعة

من هنا نعود إلى الساحة وقد عرفنا مقام النبوة، وما انتهى إليه المقام المحمدي.الآن فيما بيننا نحن، الشفاعة موجودة، فقد يشفع الرجل في أمه .. في أبيه، وقد يشفع الشيخ في تلامذته، ولكن احذروا مما ساد العامة وغشاها وغطاها أكثر من ألف سنة، وهم يقولون: الشيخ الفلاني يشفع لتلامذته .. يشفع لمريده!!هذا الكلام باطل؛ لأن الشفاعة أولاً: أن يرضى الله تعالى عن المشفوع له، يرضى أن يجاوره ويدخل جنته، إذ قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، الذي ارتضاه أن يجاوره، وأن ينزل منازل الأبرار، هذا إذا قام أحد يريد أن يشفع له يشفع له.وثانياً: لابد للشافع أن يكون قد أذن الله تعالى له: يا عبدي! اشفع في فلان وفلان وفلان، وفي القرآن الكريم: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ [النجم:26] للشافع، وَيَرْضَى [النجم:26] عن المشفوع له.انتبهوا: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ [النجم:26] لمن؟ لمن أراد أن يشفع، وَيَرْضَى [النجم:26] عن من؟ عن المشفوع له، أما إذا لم يأذن الله لأحد أن يشفع، والله ما استطاع أحد أن يمد يده، وأن يقول: أشفع لك يا فلان، والمشفوع له إذا كان خبيث النفس متعفن الروح وروحه كأرواح الشياطين، فلن يقبل الله فيه شفاعة الشافع أبداً.ويشفع الله عز وجل في أهل التوحيد .. أهل لا إله إلا الله على عهد نوح، وموسى، وإبراهيم، ومحمد .. أهل التوحيد الذين لم يعرف قلب أحدهم غير الله يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويضر وينفع .. لم تعرف قلوبهم سوى الله المعبود الحق، فهؤلاء دخلوا النار؛ لأنهم زنوا .. قتلوا .. أكلوا مال الناس .. عصوا الوالدين، فعلوا وفعلوا وفعلوا.أستطرد، لاحظ، إياك أن تفهم من كلامي أن عبداً عرف الله معرفة يقينية، وامتلأ قلبه بحب الله وخشيته وبتوحيده، وأنه يعيش يعربد ويقتل ويفعل، لا هذا كذاب، لا يوجد. انتبهوا، هذا مِثله: من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأدركه الموت، فمات وما اغتسل ولا صلى، يدخل الجنة أو لا؟ والله يدخلها بكلمة التوحيد، ( من مات وآخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة )، قد يدخل النار، ويمتحش فيها، ويسود ويحترق، ولكن تلك الحسنة العظمى لن تضيع سدى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، هل هناك حسنة أعظم من حسنة التوحيد؟ والله لا. هل هناك سيئة أسوأ وأقبح من سيئة الشرك؟ والله لا وجود لها، واقرءوا قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].القلب الذي عرف صاحبه غير الله، سوّى بالله سواه، ونظر إليه كما ينظر إلى الله بالرهبة أو الرغبة أو الحب أو الولاء، صاحب هذا الشرك لن يدخل دار السلام، ولا تنفعه شفاعة الشافعين.إنما الشفاعة لأهل الكبائر، وهم موحدون مؤمنون، ولكن زلت أقدامهم، وأوقعهم العدو في سخط الله بذنب من الذنوب العظام، ومات على غير التوبة، واستوجب النار ودخلها، ولن يخلد فيها، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ( يخرجون من النار وقد امتحشوا، فيأتون بهم إلى نهر من أنهار الجنة فيغتسلون فيه، فينبتون كما تنبت الخامة من الزرع في السيل، أرأيتموها صفراء ملتوية ) يقولها صلى الله عليه وسلم، كأنه خبير بالفلاحة، هذه هي الشفاعة.فإذا كنت أنت ولياً، عبداً صالحاً، وزلت قدم أبيك أو أمك أو أخيك بذنب من الذنوب وكبيرة من الكبائر، وأراد أن ينقذه بصالح أعماله، يقول: عبدي فلان، اشفع في أمك فلانة، أو اشفع في أبيك .. يا شيخ! اشفع في فلان وفلان من تلامذتك؛ لأن الله أراد أن يدخلهم الجنة، فيكرم الشيخ بهذه الشفاعة، وبذلك ترتفع درجته، ويعلو مقامه، وتسمو مكانته؛ لأن الله شفعه.أما أن نقول: سيدي عبد القادر يشفع في إخوانه .. سيدي أحمد يشفع في إخوانه .. سيدي كذا، انتبهتم، فهذا باطل.. باطل.. باطل وزور.. وزور.. وزور.والذين لا تقبل منهم شفاعة، ولا يؤخذ منها عدل هؤلاء ماتوا على الكفر .. على الشرك، ومن مات كافراً أو مشركاً هو آيس من رحمة الله، فلا يخرجون من النار، ولا يدخلون الجنة؛ دار الأبرار، وإنما من مات من أهل التوحيد، أهل لا إله إلا الله، لا الكفر والشرك، والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ...)

قال تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ [البقرة:49] أخذ تعالى يذكر لهم نعمه عليهم، اذكروا يا بني إسرائيل لتشكروا الله، فتؤمنوا برسوله وكتابه، وتدخلوا في دينه، ولا تبقوا منحازين، متعنترين، تتكالبون على الناس. ‏

آل فرعون

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49] من آل فرعون؟ هم رجاله؛ من البوليس إلى الوزير، من الشرطي إلى العسكري.وهنا لطيفة: قد يطلق لفظ (الآل) على الأهل، وقد يطلق لفظ الآل على الأتباع، أما إذا قلت: أهل فلان فلا يتناول إلا الزوجة والولد والأقارب.أما إذا قلت: آل فلان، يدخل كل من معه في سلك حاله، فلهذا لما نصلي على نبينا صلى الله عليه وسلم نقول: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، فيدخل في هذا كل مؤمن تقي، ويخرج أعمام النبي أو يدخلون؟ يخرجون فما هم بمؤمنين، وإذا قلنا: وعلى (آل إبراهيم) يدخل كل مؤمن؛ لأن الآل مأخوذة من آل يئول فيما يبدو.إذاً: فمن آل إليك وانضم إلى جماعتك وكتلتك من أهل الإيمان، فهذا هو آلك، فآل فرعون ليس زوجته آسية بنت مزاحم ، أما الولد ما له ولد، وليس أخوه أو عمه، آل فرعون: رجاله الذين كانوا معه يحكمون، ويسوسون، ويعذبون المؤمنين. وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49] من فرعون هذا؟ هذا أرجح الأقوال: اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ، وأصله عربي محض، نزحوا من الجزيرة ودخلوا مصر أيام العمالقة.

قصة تولي فرعون للحكم والسلطة

وهذا الوليد -فرعون- تذكر له قصة تبين كيف وصل إلى الحكم.كان لصاً يجلس في المقبرة، إذا جاء الناس بميت: هاتوا عشرة ريالات، وإلا لا تدفنون ميتاً، فإذا جاءت السلطة هرب، فكان يعيش على التلصص في المقبرة، فلما بلغ الحكومة أذى هذا العفريت قال الملك: هذا يصلح أن يكون خادماً لي؛ لأنه قوي، ويسوس خيلي، وسائس الخيل كان ممتازاً؛ لأن الخيل هي المركوب الممتاز، فاختير لهذا المنصب وأصبح يسوس خيل الملك فرعون، وزاد قوة وتعنتر، فما إن مات حتى تولى هو وحكم.ولقب فرعون أصبح يطلق على كل من ملك مصر في قرون معينة، كما ساد أيضاً من يحكم الأحباش يقال فيه: النجاشي، ومن يحكم فارس يقال فيه: كسرى، ومن يحكم الروم يقال فيه: هرقل .. وهكذا.إذاً: نجاهم من آل فرعون، وبيّن من أين نجاهم.

عذاب فرعون لبني إسرائيل

يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49]، يروى -والجلال هو الذي ذكر هذا- أن كاهناً من الكهنة رأى رؤيا، بأن زوال ملكك يا فرعون يكون على أيدي بني إسرائيل، وبنو إسرائيل أغراب أجانب، وما هم بأقباط مصريين، لِم؟ لأن يوسف عليه السلام لما بيع واشتراه العزيز، ونشأ في مصر وتربى فيها، وملكه الله عز وجل مصر، وأصبح الملك فيها، جاء حينئذٍ يعقوب وأولاده ونزلوا في مصر، وقد جاءوا من فلسطين، وتناسلوا حتى بلغوا ستمائة ألف. فهذا الكاهن يقول: سقوط دولتك على يد هؤلاء.وأنا أقول: هذا الكلام ليس بصحيح، الصحيح أن السياسيين قالوا: هؤلاء لهم أصل، ولهم ملك، ولهم دولة، ما يؤمَنون في يوم من الأيام إذا كثروا أن ينقلبوا عليك، هذا التخطيط سياسي وهو الحق.إذاً: كيف نصنع؟ قلل النسل منهم، أولاً: أذلهم وأرهقهم بالعمل حتى تسقط طاقاتهم البدنية، فكانوا يكلفون ببناء الجدران وصنع الطوب .. وما إلى ذلك، حتى ما لهم راحة، فما نفعت هذه، ما زالوا يتناسلون، ماذا نصنع يا رجال الدولة؟ قالوا: من السياسة أنك تقتل الذكران، وتبقي على النساء، حتى ينقرض هذا الجنس؛ لأن هؤلاء لهم مجد ومكانة وشرف، فلا ينسون ذلك أبداً، والله ما نسوه إلى الآن، ها هم يطالبون بمملكة في إسرائيل، أما احتلوا فلسطين رغم أنوف العرب والمسلمين.فصدر قانون رسمي: أولاً: يجب على كل امرأة من بني إسرائيل تقرب ولادتها أن تتصل بالدائرة، بعمدة الحي، تبلّغه، أبوها يبلغ أو الزوج، فتحضر تنظر، فإذا سقط ذكر رمته في الحفرة ودفنته، إذا كان بنتاً لا بأس ترضعه.ثم تململ رجال الدنيا والمال وقالوا: والخدم والعمل كيف نعمل؟ نحن منتفعون بهذا الجنس، فصدر أمر: عاماً يقتلون وعاماً لا، لأنه لو استمر القتل خلال أربعين سنة لا يبقى أحد، قالوا: إذاً سنة يقتل الذكور وسنة لا، وكان تدبير الله، فالسنة الذي كان فيها العفو ولد هارون آمناً، والسنة التي فيها القتل ولد موسى، ودبر الله له بأن أوحى إلى أم موسى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]، فلا تخافي إذا خرج الولد، ضميه إلى صدرك وأرضعيه، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7]، اجعلي له صندوقاً أو تابوتاً وألقيه في النيل، وامتثلت أمر ربها؛ لأنه إلهام ألهمها الله، وشاء الله أن القابلة ما سمعت أو ما بلغوها، فمعها الله عز وجل، لكن أرضعيه حتى لا يموت جوعاً، وإذا جاءت الشُّرط وجاءت الدنيا، ضعيه في صندوق وارميه في اليم.وهذا الموضوع نتكلم فيه مرة أخرى إن شاء الله. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-19, 05:31 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (51)
الحلقة (58)



تفسير سورة البقرة (22)

عجب حال بني إسرائيل، يرون الآيات أمام أعينهم، ويرون فضل الله وإنعامه عليهم، ثم إذا نعق بهم ناعق أجابوا، يذهب موسى إلى لقاء ربه، ليتلقى الهدى والنور، فيعود مسرعاً إلى قومه ليتفاجأ بهم يعبدون عجلاً من ذهب! وكأنهم ما عرفوا الله يوماً، حينها نزل حكم الله بالعقوبة الأليمة: اقتلوا أنفسكم، فلم يكن لهم بدّ من ذلك، وسالت دماء التوبة! فتاب الله عليهم ورحمهم، إنه هو التواب الرحيم.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُ مْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:50-54].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!يا ليت هذه الآيات تقرأ اليوم على اليهود، ويدعون إلى سماعها، أو تقدم لهم بعناية خاصة.سبحان الله! مع هذه النداءات الإلهية .. مع هذه الألطاف والعناية الربانية، يصرون على الكفر بالله رباً وإلهاً .. يصرون على الكفر بخاتم الأنبياء وإمام المرسلين .. يصرون على الكفر بالإسلام الذي هو معراج الكمال والإسعاد البشري.والله الذي لا إله غيره، ما سعد إنسي ولا جني ولا كمل إلا على هذا المنهج الرباني.هذا ونحن أيضاً أحق بالاعتبار منهم، وأولى بالهداية منهم، وأولى بالكمال والإسعاد منهم، فلهذا يخلد هذا الكتاب مادام على الأرض بشرية.وها نحن مع تعداد النعم التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل؛ أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.منها قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49]، فنجاهم من فرعون وسلطته الكافرة، وأنقذهم من تحت قبضته وسلطته، التي عاشوا تحتها زمناً، أذلهم .. أهانهم .. حطمهم .. ذبَّح أبناءهم.. وامتدت يد الرحمن إليهم، فإذا بهم في منجاة؛ بعيدين عن فرعون وآله، بل وزادهم إنعاماً أن أغرق ودمر تلك القوى الكافرة والباطلة وهم ينظرون، فأية نعمة أكبر من هذه! صاحب هذه النعمة يجب أن يشكر الليل والنهار، وأن يطاع في كل شيء، ولو طلب منك نفسك أعطها إياه.

تفسير قوله تعالى: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون ...)

ثانياً: ذكرهم أيضاً بنعمة فرق البحر حتى أصبح اثنتي عشرة طريقاً؛ لتسلك كل قبيلة طريقها، فلا يقع التصادم بينهم في البحر.انفلاق البحر آية من آيات الله، كل فرق كالطود العظيم، والجبل العالي الأشم، ونجوتم وما إن دخل العدو يطاردكم ويلاحقكم بجيوشه الجرارة حتى أمسى في خبر (كان).ومن آياته، ومن ألطافه أنه لم تذهب ذات فرعون وجسده، بل رفعه الماء إلى ساحل البحر ليقفوا عليه: هذا هو الطاغية .. هذا هو الجبار .. هذا هو ذاك، فتطمئن قلوبهم، وتهدأ خواطرهم إلى أن الظلم انتهى بانتهاء صاحبه. وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُ مْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة:50]، ما بلغهم هذا؟ كالنبأ قد يقولون: ممكن ما وقع: وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ .

تفسير قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون)

قال تعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51]، وهذه عظيمة من عظائم الذنوب، وقد قلت: ما إن استقل موسى ببني إسرائيل، وخرجوا من الديار المصرية، ونزلوا في ساحل البحر الأحمر من جهة سيناء فما استطاع أن يسوسهم بدون حكم وقضاء وشرع، سبحان الله! قال: اجلسوا هنا، وأنا أذهب إلى ربي، وأنا على موعد معه لآتيكم بالكتاب.قلت -وهذا القول كررته بحمد لله مئات المرات-: ومن ذلك لتعرفوا أنني وضعت دستوراً إسلامياً، وكأنما وزعناه على القبور، فلا عالم تكلم، ولا طالب قال، ولا زعيم قال، أمة ميتة!دستور! إي والله، وإني لعلى علم يقيني أنه لو طبق في أي إقليم لأصبح ذلك الإقليم كالكوكب في السماء.أيام كانت البلاد الإسلامية تستقل، عام .. عامان استقل الإقليم الفلاني، عام .. عامان استقل القطر الفلاني، فقلنا: هذه يد نقدمها، فما استطاع مسئول ولا عالم ولا .. أن يقول: ننظر في هذا الدستور، وهو تشكيل حكومة ربانية إلى نهايتها، فما نفعت.كتبنا عن الدولة الإسلامية، وسحنا من المطار -وأنت تشاهد آثار الإسلام- إلى المقبرة، فما تركنا جانباً في الحياة بكاملها إلا وضعنا له صورته، من المطار -والله- إلى المقبرة، وفرقنا بين كيف يقبر اليهود والنصارى موتاهم، وكيف نقبر نحن موتانا، لا باقات الزهور، ولا خرافات القراءة على القبور.وكأنما وضع على القبور! أمة ميتة، فلا من يتكلم، ولا من يقول، ولا.. ولا.والآن جاءت المناسبة، انظر فقط: يستقل إقليم وما عنده دستور، ماذا يصنع؟ يعجز أن يبحث كيف يحكم هذه الجماعة بدين الله وهم مسلمون، ويبقى يطبق دستور الدولة الكافرة، هذا عجز كامل، أو كراهية وبغض للشريعة الإسلامية؛ لأنها تحق الحق وتبطل الباطل؛ ولأنها ترفع الهمم إلى السماء، وتبعد بها عن الأرض وأوساخها.ومن باب ما ذكرنا ويؤسف له، قلت لكم: إن الله عز وجل لتقوم الحجة له يوم القيامة سلّط علينا من يستعمرنا، ما ظلمنا الله، حاشا لله، سبحانك اللهم ربنا ولك الحمد ما ظلمتنا! وإنما فسقنا عن أمره، وخرجنا عن طاعته، وتركناه وتركنا شرعه، وأقبلنا على الضلالات والخرافات، بل وهبطنا إلى الشركيات، فأصبحنا لا نذكر الله إلا قليلاً، فسلط علينا الكفار، ولسنا بأشرف من بني إسرائيل، وقد سلط عليهم البابليين، فحولوا بيت المقدس إلى مخرأة يخرأ فيها العسكري.وبنو إسرائيل في تلك العهود القريبة، من إسحاق ويعقوب وإبراهيم، ونحن مقسمون، ومشتتون، ومفرقون طرائق .. أحزاب .. جماعات، وزدنا أيضاً أقاليم ودويلات، فكيف نكمل أو نسعد! نعكس سنن الله من أجل ماذا؟!فقلت وقررت، وما زلت، وقد لا تسمعون هذا الكلام من أحد، وما سمعتموه؛ فقلت: لو كان الله قد أراد بنا خيراً، لو كنا أهلاً للخير، جاء الله بدولة عبد العزيز بن سعود هذه، يا شيخ! أنت تمدحها؟ إنهم يكفرونها، يقولون: خوامس .. وهابية .. كفار، يكرهون الرسول، ويكرهون المؤمنين وأنت تريدهم أن يطالبوا بقانونها ليحكمهم في بلادهم، فهمتم هذا الكلام أو لا؟! هذا لسان الحال.وإلا المطلوب: استقل الإقليم، فيبحث أي إقليم فيه حاكم مسلم يطبق الشريعة الإسلامية، إذا كان في الهند ذهب إليه، في الصين .. في الشرق .. في الغرب، وكان فقط في وسط الأرض .. في هذه الديار، في الحرمين.كان يأتي المسئولون من رؤساء الحزب، الذين جاهدوا وأخرجوا بريطانيا أو فرنسا ويقولون: إي عبد العزيز ! استقل هذا الإقليم من الدولة الإسلامية فابعث القضاة، وابعث والياً عاماً كما كانت فرنسا تبعث واليها في المستعمرة، وطبق شرع الله، فلهذا خلقنا، ومن أجله جاهدنا وحاربنا الاستعمار، واستقللنا.والله ما فعل هذا أهل إقليم، ذكروني إن نسيت، أصبحت أنسى. هل جاء وفد من بلد إسلامي استقل في العرب أو العجم وقال: يا عبد العزيز ! ابعث لنا قضاة شرعيين يطبقون شرع الله بيننا؟ والله ما كان.ومن ثمَّ تمت الفرقة والتمزيق والتقطيع، وأصبحنا نيفاً وأربعين دولة، يسوسها الظلم، ويسودها الشر والفساد، فلا نور، ولا هداية ربانية، ولا رحمة إلهية.لعلي واهم! حاجوني، جادلوني. ما المانع؟ الجواب: لأننا جهلة، فما عرفنا الله ولا أحببناه، ولا خشيناه، ولا جلسنا بين يديه، ولا بكينا وتضرعنا ساجدين خاشعين، وما عرفنا إلا الباطل والدنيا والهوى، وأنت تريد أن تحولنا ربانيين، يأتون ويقولون: أي السلطان عبد العزيز ! أنت تحكم الأمة في قلب بلادها بالإسلام، ابعث لنا قضاة وهداة، كيف نفعل هذا؟!

ضرورة العودة إلى الكتاب والسنة

وعدنا من حيث بدأنا، والعلة هي الجهل، وما زال العالم نائماً إلى الآن ما استيقظ، ونكرر ونقول: والله لن تسود أمة الإسلام ولن ترجع ولن ولن.. إلا إذا عادت إلى علم الكتاب والسنة، فأصبح النساء والرجال والقاضي والحاكم والكل عارفاً بربه، فيخافه ويرهبه .. يخشاه .. يحبه، ولا هم له إلا رضاه، ومن ثَمَّ نعود إلى سبيل النجاة والكمال.ومن باب التيسير الآن سنة وربع السنة ونحن نصرخ بهذه الدعوة، وملَّها المستمعون؛ لأنهم غافلون، ما كل مستمع يبكي معنا، وقلنا حيلة من ألطف الحيل، هذه اليهودية والماسونية وجمعيات التنصير لو يعثر عليها واحد منهم ماذا يفعلون به؟ يجعلونه بولس العاشر، حيلة كيف ننهي الخلافات والصراعات والتحزبات والتكتلات والعنتريات و.. كيف نذهب الحسد والبغض من بعضنا بعض؟ كيف نبعد الفقر المدقع؟ كيف كيف؟ باسم الله، هذا كتاب (المسجد وبيت المسلم)، يحوي ثلاثمائة وستين آية وحديثاً، بمعدل آية وحديث طول العام حتى يختم الكتاب، سميناه: كتاب المسجد رجاء أن أهل كل حي -وهو منطقة في المدن، وبعض المدن فيها عشرات الأحياء- يوسعون مسجدهم الجامع حتى يتسع لأفراد الحي سواء كانوا عشرة آلاف أو خمسة، وأهل القرية يوسعون مسجدهم ليتسع لأفرادهم ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً، ويبحثون عن عالم رباني، ويوجدون والحمد لله.والكتاب سهل ميسر، لا يحتاج إلى فلسفة، ولا منطق، ولا ولا، على الفطرة الإسلامية. ويجتمعون في بيت ربهم كل ليلة، فإذا مالت الشمس للغروب أخذوا يتوضئون ويتركون أعمالهم الدنيوية: أغلق الدكان .. أغلق المصنع .. قف يا فلاح في المزرعة واخرج، ويأتون إلى المسجد بنسائهم وأطفالهم، إلى أين؟ إلى ربنا، إي والله! إلى بيته لنجلس بين يديه، لنتعلم هداه، نطلب رضاه، فيجتمعون اجتماعنا هذا، النساء وراء الستار، والبنون؛ الأطفال أمامهن، والرجال هكذا، ليلة آية يقرءونها .. يتغنون بها .. يعيدونها، وفي ربع ساعة لا يبقى رجل ولا امرأة إلا حفظها، وحفظ آية -والله- خير من ألف ريال في تلك الليلة، آية من كتاب الله حفظتها المرأة .. حفظها الرجل، وتشرح لهم، ويبين مراد الله منها، ويقول لهم: إن ربنا يطلب منا في هذه الآية أن نعتقد كذا فهيا نعتقد، ويطلب منا أن نتأدب بكذا فهيا نتأدب، ويطلب منا أن نتخلق بكذا باسم الله، يطلب منا أن نقول أو نفعل، فيعودون شباعاً، يملأ النور قلوبهم، فقد حفظوا آية من كلام ربهم، وفهموا معناها، وعزموا على أن يفعلوا بما فيها.وفي الليلة الثانية حديث نبوي شريف صحيح، يحمل معنى الآية، ويزيد في بيانها ومعرفتها، وتأكيد ما فهمناه منها، ربع ساعة يتغنون به فيحفظ، حفظوا حديث النبي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهموا معناه والمراد منه والمطلوب منهم، وهم عزم كامل على العمل والتطبيق، ويوماً بعد يوم .. أربعين يوماً .. شهراً، تبدأ البلاد تتغير، والله العظيم، وأكثر السامعين يكرهون اليمين وينتقدونني، لم تنتقدونني؟ أنا أحلف بالباطل؟ !أما سمعنا الله يحلف؟! لم يحلف؟! هل هناك حاجة إلى أن يحلف من أجلنا؟! أما سمعنا الرسول يحلف: والذي نفس محمد بيده؟! أيمان .. لم يحلف من أجله هو؟ من أجل أن يستقر المعنى في نفوس السامعين؛ ليتهيئوا للعمل.إذاً: أربعين يوماً .. شهرين .. ثلاثة أشهر، تبدأ مظاهر الباطل ترحل، فيقل الكذب .. يقل الحسد .. يقل البغض والعداء، تسخوا النفوس، ويكثر العطاء والبذل، فما يبقى فقير بيننا جائع، ويقل الإسراف والشهوة العارمة ويتوفر بعض المال. سنة وإذا بأهل القرية كأنهم أسرة واحدة.يا شيخ! هذا صعب، لا، المفروض أن الألف مليون كلهم أسرة واحدة، ليس أهل القرية أو الحي.لعلي واهم؟ بيننا رجال -والله- ما يكرهون مؤمناً، ولا يبغضون مؤمناً، ولا يقولون كلمة سوء، ولا ولا، عرفوا.فإذا عرف أهل القرية أو أهل الحي كيف لا يكونون كذلك؟!إذاً: وإذا بنا أنوار تتلألأ. هذه في المسجد.وفي البيت، رأينا البيوت خمت .. تعفنت.يا شيخ! لم خمت وتعفنت؟ بيّن لنا.اسمعني وانظر! الرجل جالس في البيت، وامرأته وأمه -إن كانت له أم- وفتيانه من بنين وبنات جالسون منصتون يسمعون عاهرة ترقص أمامهم، وكافر يتكلم ويتبجح في بيت مسلم، أيطاق هذا؟!يا عقلاء! يا أتباع النبي محمد! أسألكم بالله! لو يدخل عليكم رسول الله وأنتم في بيتكم بهذه الصورة ماذا يقول؟ يقول: ماذا هناك؟ دعهم يروحون على أنفسهم، يقول هذا الكلام؟! وهو القائل: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ) صورة بالنسيج أو بالقلم، ليست شخصية كاملة تعرض محاسنها وجمالها ومنطقها وهم ينصتون ويسمعون.خمت البلاد والديار، فرحلت الملائكة -عليهم ألف سلام- وحلت الشياطين، فكثر الزنا، والعهر، والخيانة والأمراض العجيبة، وما زلنا ما عرفنا بعد.أروني مؤمناً يطرد الملائكة من بيته، يقول: امشوا، خلوني أفرفش، ويستدعي الجن والشياطين يجلسون في بيته.قد تقول: لا يمكن هذا؟ قد أمكن وهو الواقع.وتربت الفتيات والفتيان على حب الزنا، والعهر، والباطل، والشر، والفساد، وما صحونا بعد.هذا الكتاب يقضي على هذه بحيلة، صاحب البيت جاء الكتاب أخذه قال: اجلسوا، يجلس أمامهم، أبعد هذه الشاشة، غطها، واقرأ معهم آية، وتغنوا بها جميعاً، اقرأ الآية .. الحديث من الغد وتغنى، ووصهم بالمطلوب، وافعلوا يا أبنائي! يا أم فلان! يا كذا! هذا هو ديننا، نحن مقبلون على الله، طريقنا إلى السماء، لسنا من أهل الأرض ولا الهابطين، يوماً بعد يوم بعد يوم كيف يصبح ذلك البيت؟ لا تسمع كلمة سوء، ولا تشاهد منكراً ولا باطلاً، ولا ترى إلا وجوهاً باسمة مشرقة، والكلم الطيب، والصوت الخافض المخفوض، اللين الهش، فقد تغير البيت.هذا كتاب المسجد وبيت المسلم، سنة وزيادة ونحن هكذا.كأننا بين موتى! إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80].عرفتم زادكم الله معرفة، ذكرناكم اذكروا. لم أذكركم؟ هذا الله يذكر اليهود وهم أسوأ منا، وأقبح منا، وأشر منا، فقد كفروا بالله ورسوله ولقائه، ومع هذا ماذا يقول لهم؟ يقول لهم: اذكروا إذا واعدنا موسى أربعين ليلة ليقضيها معنا، ولنوحي إليه بالقانون والدستور الذي يحكمكم به.

حيلة السامري

إذاً: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [البقرة:51] ما إن ذهب موسى حتى ابتدع اللعين السامري بدعة، حيث جمع الحلي بحجة أن هذا الحلي مسروق ومغصوب أو عارية يجب أن ترد، والآن انتهى الأقباط فهاتوا هذا الحلي أنا أحرقه لتطهر بيوتكم منه، حيلة. فأحرقه وصنع منه عجلاً له خوار وصوت، فعبدوه وقال لهم: هذا هو إلهكم وإله موسى، لكن موسى أضاعه، وهذا هو. وللجهل المتأصل في الأبناء والآباء منذ قرون عبدوه.والآن في أي بلد لو يأتي صاحب بدعة منظمة -والله- لوقع الناس فيها، وقد وقع؛ لأنهم جهال؛ لا بصيرة لهم، فاستطاع السامري أن يحملهم على عبادة غير الله: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ ... [طه:83-86].فانظر كيف يذكرهم بأفعال أجدادهم الذين ينتمون إليهم. وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ [البقرة:51] والحال؟ أنكم ظالمون، والشرك أعظم ظلم على وجه الأرض، لا ظلم أعظم من الشرك، وبيان ذلك: أن العبادة استحقها الخالق، الرازق، المدبر للكون والحياة، والذي إليه المصير، والذي يحيي ويميت، فلا يعبد غيره بحال من الأحوال، فمن عبد غير الله ظلم الله .. أخذ حق الله .. أخذ ما وجب لله، وأعطاه لمن لا يستحقه شيئاً.وأي ظلم أعظم من هذا؟ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51].

تفسير قوله تعالى: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون)

ذكر الله تعالى بعد ذلك بني إسرائيل بقوله: ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:52] بعد هذه الجريمة الفضيحة عفونا عنكم، فما آخذناكم المؤاخذة الكبيرة بالفناء، والاستئصال، والإبادة كما فعلنا مع عاد وثمود. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:52] أي: لكي تشكروا، لكنهم ما شكروا، قالوا: ما نشكر.يا أيها المسلمون من عرب وعجم! اذكروا أيام الاستعمار، من نجاكم؟ من حرركم؟ من عتقكم؟ لا يقولون الله، هل قالوا: الله اشكروه، اشكروه، أقيموا الصلاة بنسائكم، وأطفالكم، ورجالكم؟ إنهم ما يصلون.فعل هذا الله بهم ليشكروا أو لا؟ قالوا: لا نشكر.ونحن؟ قلنا: لا نشكر.يستقل الإقليم ومن الغد الواجب أن يعلن الحاكم ورجاله: لا يتخلفن عن الصلاة عسكري ولا مدني، إذ لأجلها خلقنا، فهي ذكر الله وشكره.أربع وعشرون ساعة ونحن نتنقل في بيت الله خمس مرات، هذا هو الإيمان والإسلام، والله ما أمر واحد منهم بالصلاة، من شاء أن يصلي ومن شاء لا يصلي، فلا يوجد جيش في العالم الإسلامي يؤمر العسكريون فيه بالصلاة إلا هنا تحت راية لا إله إلا الله. لعلي واهم؟ دخلنا الجيوش وعرفنا.أشيروا، لم؟ ألسنا مؤمنين؟ ألسنا مسلمين؟!يا شيخ! نعم، ولكن ما عرفنا الإسلام ولا الإيمان، إي والله! هل جلسوا في حجور الصالحين فتربوا وعرفوا؟ هل جلسوا هذا المجلس؟ والله ما جلسوه ولا عرفوه، كيف -إذاً- تريد منهم أن يقيموا الصلاة؟!عدنا من حيث بدأنا، إنه الجهل بالله، فمن لم يعرف الله لا يخافه ولا يحبه من باب أولى.لعلكم تشكرون، لا؟ أعددناكم بذلك لتشكروا، فما شكروا.

تفسير قوله تعالى: (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون)

قال تعالى لبني إسرائيل في نعمة أخرى: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [البقرة:53] اذكروا آلاءنا ونعمنا عليكم، اذكروا إذ آتينا موسى الكتاب والفرقان أيضاً، ذي نعم الله أو لا؟ المراد من الكتاب هنا التوراة التي بها ألف سورة، أي: أكثر من القرآن تسع مرات أو ثمانية ونصف.وسميت التوراة من التورية أو من الاتقاد والإنارة، كما تواري خلف شيء حتى تشعل النار، فمعنى التوراة: النور، أي: نور الله لهداية الخلق. وَالْفُرْقَانَ الذي يفرق بين الحق والباطل، أي: الآيات التسع التي أعطاها الله موسى، وكل آية تفرق بين الحق والباطل وتشهد أن لا إله إلا الله وأن موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم تشاهدون تلك الآيات التسع.لم قال؟ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:53] الله أكبر! كل أفعاله تعالى بهم من أجل خيرهم وإسعادهم وإكمالهم، لعلكم تشكرون .. لعلكم تهتدون إلى الطريق السوي .. إلى منهج الكمال .. إلى سلم الرقي والوصول.. إلى الملكوت الأعلى بعد النجاة من الخزي، والذل، والضعف، والعار.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل)

قال تعالى بعد ذلك مذكراً: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بماذا؟ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ [البقرة:54]، اتخذوه ماذا؟ إلهاً ورباً.ما قال تعالى: باتخاذكم العجل إلهاً، هل يصلح أن يكون العجل إلهاً؟ فلهذا سكت عن هذه الكلمة. بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ [البقرة:54] هل السامعون والسامعات عرفوا أن بني إسرائيل صنع لهم السامري عجلاً من الحلي: الذهب والفضة، وقال: هذا إلهكم وموسى غائب عنكم، ذاهب إلى إله ما عرفه وهو هنا؟عبدوه أو لا؟ عبدوه.أعيد القول: إلى الآن حتى في ديار التوحيد هذه كم من إنسان يأتي بباطل .. بكذبة، وتجدون الناس معه، وينسون التوحيد ولا إله إلا الله، نعم. ضعف البشر، العلة ما هي؟ الجهل.فانظر، موسى معهم، وهارون نبي الله ورسوله بينهم، وهارون ماذا يصنع؟ صاح وبكى: يا قوم، قالوا: اسكت حتى يجيء موسى وتشاهد، هذا هو إلهنا وإله موسى.فعبدوا غير الله، فاستوجبوا العذاب لا محالة، ونحن عندنا إذا ارتد المؤمن عن الإسلام يستتاب ثلاثة أيام أو يقطع رأسه كائناً من كان، فيدعى إلى المحكمة، ثلاثة أيام وهو يراود: تعود إلى الحق، ترجع إلى الصواب، فإن أصر يعدم، هذا قانون الله جل جلاله وعظم سلطانه.القوم كفروا بالله، وجعلوا العجل بدله، فلا بد من نقمة إلهية تأديباً لهم.قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ [البقرة:54] بأي شيء؟ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ [البقرة:54] أي: إلهاً. فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ [البقرة:54] فتوبوا، ما قال: إلى إلهكم؛ لأنهم قالوا: هو العجل إلهنا. فتوبوا إلى خالقكم .. إلى من برأ نسمكم .. إلى من صوركم أجساماً ذات أرواح، فهو الذي يستحق العبادة، اعبد خالقك لا تعبد مخلوقاً مثلك. فَتُوبُوا [البقرة:54] ارجعوا إلى عبادة ربكم بارئكم.والعقوبة: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [البقرة:54] جائز أن يقول قائل: انتحروا، كل من عبد العجل لا يخلص من ذنبه إلا بقتل، فلينتحر كل واحد منكم على جهة في بيته، في كذا، هذه هي الكفارة، والله لا كفارة إلا هذه. من؟ الله ربهم الذي يزكي النفوس ويطهرها بما شاء من الشرائع والأحكام، فلا طهارة لأنفسكم، تلك النفوس التي خبثت وتعفنت بعبادة غير الله إلا بإزهاق الروح.ولا تقل: هذا عجيب، لا أبداً، هم تألموا، هم مرضوا، حزنوا، كربوا، يودون أن ينتحروا.الآن عندنا في العالم الكافر يخطب فتاة ما تتزوجه ينتحر، تسمعون بهذا أو لا؟يطرد من الوظيفة ينتحر، لا يطيق الألم النفسي، وهم أصابهم ألم، وجدوا أنفسهم في هاوية، في أقل من شهر ارتدوا، بعد عشر آيات شاهدوها أربعين سنة ينتكسون هذا الانتكاس؟ فلا عجب أبداً أن يؤمروا بالانتحار فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ .لكن الأخبار الواردة وحتى عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ليس انتحاراً، بل أمرهم أن يقتل بعضهم بعضاً، فتدرعوا، ولبسوا لباس الحرب، وتلاقوا في ميدان يقتل أحدهم الآخر، الأب ابنه، الابن أباه، ولكن أيقتل الأب ابنه والابن أباه؟! إي نعم، عندنا في بدر، أما قتل المؤمنون آباءهم؟ أما قتل الآباء أبناءهم؟ نعم. الكفر حد فاصل، ولا قيمة للكافر على وجه الأرض؛ لأنه كفر خالقه، فكيف يحترم؟!فاقتتلوا تقول الروايات: حتى مات منهم سبعون ألفاً في تلك المعارك الدائرة بينهم، ثم نزل العفو: كفوا، يكفي. فتابوا إلى الله عز وجل وتضرعوا، وبكوا بين يديه، فتاب عليهم، إنه هو التواب الرحيم، وهكذا يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [البقرة:54] أي: خالقكم. فالكلام فيه حذف: فتبتم فتاب عليكم، لم؟ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54] هو لا غيره، التواب كثير التوبة، فلو يتوب مليون في الساعة يتوب الله عليهم. وهو الرحيم الذي يرحم أشر الخلق، لو يفزع إليه ويطرح بين يديه لرحمه، فهو التواب الرحيم.والذين ما عبدوا العجل هؤلاء لا يقتل بعضهم بعضاً، فهل هارون كان يقاتل معهم ويقتل؟! هذا القتل لمن عبدوا العجل، فهو خاص بهم، فهم الذين سقطوا في هذه المحنة، أما الذين انحازوا وانتظروا رجوع موسى فما كان بينهم قتل، هذا القتل لمن أشركوا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال المؤلف في قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ [البقرة:49]: [ شرح الكلمات: النجاة: الخلاص من الهلكة كالخلاص من الغرق، والخلاص من العذاب ] هذه هي النجاة؛ أن يرتفع إلى منجى من الأرض، فيخلص من الفتنة أو العذاب.قال: [ آل فرعون: ] من هم؟ [ أتباع فرعون، وفرعون ملك مصر على عهد موسى عليه السلام. يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ : يبغونكم سوء العذاب وهو أشده وأفظعه، ويذيقونكم إياه ] بأنواع التعذيب.قال: [ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49] ] كيف؟ قال: [ يتركون ذبح البنات ليكبرن للخدمة، ويذبحون الأولاد خوفاً منهم إذا كبروا ] وأصبحوا رجالاً أن يقلبوا النظام، كما تقدم.قال: [ بلاء عظيم: ابتلاء وامتحان شديد لا يطاق ] وهو كذلك.قال: [ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة:50]: صيرناه فرقتين، وما بينهما يبس]، أي: ما بين الفرقتين يابس، [ لا ماء فيه لتسلكوه فتنجوا، والبحر: هو بحر القلزم (الأحمر) ].قال: [ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [البقرة:51]: عجل من ذهب صاغه لهم السامري ودعاهم إلى عبادته فعبدهم أكثرهم، وذلك في غيبة موسى عليه السلام عنهم.الشكر ] ما الشكر؟ لتشكروا كيف؟ قال: [ الشكر: إظهار النعمة بالاعتراف بها ] أولاً [ وحمد الله تعالى عليها وصرفها في مرضاة الله وما يحب ].هذا الكلام تقرر عندنا فهل عرفنا الشكر ما هو؟ لما تأخذ كأس اللبن أو الماء اعترف بأن هذا من الله وأنك لن تستطيع أن توجد قطرة منه، ثم إذا شربت تقول: الحمد لله، ثم هذا الماء إذا فضل منه فلا ترمه في المزبلة، وحافظ عليه؛ لأنه نعمة الله، لا تبددها وتفسدها، هذا مثال.قال: [ الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ [البقرة:53] ] ما المراد من الكتاب والفرقان؟ قال: [ الكتاب: التوراة، والفرقان: المعجزات التي فرَّق الله تعالى بها بين الحق والباطل ] حق موسى وباطل فرعون.قال: [ تَهْتَدُونَ [البقرة:53]: إلى معرفة الحق في كل شئونكم من أمور الدين والدنيا ] هذه هي الهداية.

معنى الآيات

قال الشيخ غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم: [ معنى الآيات: تضمنت هذه الآيات الخمس أربع نعم عظمى أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل، وهي التي أمرهم بذكرها ليشكروه عليها ] وقد تقدم لنا أن الأمر بالذكر ليس مقصوداً لذاته، إنما من أجل الشكر، ومن لم يذكر النعمة لا يشكرها، وبالتجربة إذا ذكرها شكرها.قال: [ التي أمرهم بذكرها ليشكروه عليها بالإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الإسلام ] لأن اليهود ما كفروا بوجود الله كالملاحدة، ولا كفروا بالبعث الآخر، ولكن كفروا بالرسول والإسلام.قال: [ فالنعمة الأولى: انجاؤهم من فرعون وآله بتخليصهم من حكمهم الظالم، وما كانوا يصبونه عليهم من ألوان العذاب، من ذلك: ذبح الذكور من أولادهم، وترك البنات لاستخدامهن في المنازل كرقيقات.والثاني : فلق البحر لهم وإغراق عدوهم بعد نجاتهم وهم ينظرون.والثالثة: عفوه تعالى عن أكبر زلة زلوها وأكبر جريمة اقترفوها، وهي اتخاذهم عجلاً صناعياً إلهاً وعبادتهم له. فعفا تعالى عنهم ولم يؤاخذهم بالعذاب لعلة أن يشكروه ] فما أبادهم وما استأصلهم من أجل أن يشكروه [تعالى بعبادته وحده دون سواه.الرابعة: ما أكرم به نبيهم موسى عليه السلام من التوراة التي فيها الهدى والنور والمعجزات التي أبطلت باطل فرعون، وأحقت دعوة الحق التي جاء بها موسى عليه السلام.هذه النعم هي محتوى الآيات الخمس، ومعرفتها معرفة لمعاني الآيات في الجملة اللهم إلا جملة وهي: وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49] في الآية الأولى؛ فإنها إخبار بأن الذي حصل لبني إسرائيل من عذاب على أيدي فرعون وملئه إنما كان امتحاناً من الله واختباراً عظيماً لهم ]. تعرفون النكتة أو لا؟ لما حكم يوسف الديار المصرية وأصبح ملكاً، أليس كذلك؟ ورثة هذا العرش من بني إسرائيل كيف انتقل الحكم من أيديهم إلى أيدي الأقباط؟ الجواب: فسقوا، وخرجوا عن الطاعة، وهبطوا إلى الباطل، فسلط الله عليهم غيرهم، كما فعل بنا أيها المسلمون. فعل بنا الله هذا أو لا؟ بلاء عظيم أو لا؟ يسلط على المسلمين البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين، كيف هذا؟ نعم، هذه حكمته، وهذا هو تأديبه لعباده.أعيد فأقول: [ هذه النعم هي محتوى الآيات الخمس، ومعرفتها معرفة لمعاني الآيات في الجملة، اللهم إلا جملة: وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49] في الآية الأولى، فإنها إخبار بأن الذي حصل لبني إسرائيل من عذاب على أيدي فرعون وملئه إنما كان امتحاناً من الله، واختباراً عظيماً لهم.كما أن الآية الثالثة فيها ذكر مواعدة الله تعالى لموسى بعد نجاة بني إسرائيل أربعين ليلة، وهي: القعدة وعشرة أيام من الحجة ليعطيه التوراة يحكم بها بني إسرائيل، فحدث في غيابه أن جمع السامري حُلي نساء بني إسرائيل وصنع منه عجلاً، ودعاهم إلى عبادته، فعبدوه، فاستوجبوا العذاب، إلا أن الله منّ عليهم بالعفو ليشكروه].

هداية الآيات

قال: [من هداية هذه الآيات:أولاً: ذكر النعم يحمل على شكرها، والشكر هو الغاية من ذكر النعمة.ثانياً: أن الله تعالى يبتلي عباده لحكم عالية، فلا يجوز الاعتراض على الله تعالى فيما يبتلي به عباده.ثالثاً: الشرك ظلم، لأنه وضع العبادة في غير موضعها.رابعاً: إرسال الرسل وإنزال الكتب الحكمة فيهما هداية الناس إلى معرفة ربهم وطريقة التقرب إليه ليعبدوه فيكملوا ويسعدوا في الحياتين ].اللهم كملنا وأسعدنا وسائر المؤمنين والمؤمنات. وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-20, 05:41 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (52)
الحلقة (59)



تفسير سورة البقرة (23)


حاول موسى أشد المحاولة مع فرعون من أجل الخروج ببني إسرائيل إلى أرض الميعاد، ولكن دون جدوى، فأمر الله موسى أن ينحاز مع قومه في جهة معينة استعداداً للخروج، فلما جاء أمر الله خرجوا جميعاً، فلما بلغ فرعون الخبر لحقهم بجنوده الجرارة، عند البحر وقف جمع موسى، وكادوا يفتنون، ولكن تداركتهم رحمة الله وحدثت المعجزة؛ ضرب موسى بعصاه البحر فانفلق ونجّا الله موسى وقومه، فكانت هذه نعمة عظيمة، ومعجزة ظاهرة.

سبب نزوح اليهود إلى المدينة في جزيرة العرب

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُ مْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:50-53].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!ما زال السياق الكريم مع بني إسرائيل، وقد كانوا يسكنون هذه المدينة، وهم ثلاث فرق أو طوائف أو قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، ونزحوا إلى هذه البلاد وسكنوها لعلتين:الأولى: اضطهاد النصارى لهم، وبغض النصارى لهم، ومضايقتهم، ولِم؟ لأن اليهود في اعتقادهم قتلوا إلههم وصلبوه، فالمسيحي الصليبي ينظر إلى اليهودي نظرة لو يمكن أن يميته بها لأماته؛ لاعتقاده أن اليهود قتلوا الإله عيسى، وما زال النصارى إلى اليوم يعتقدون هذه الكذبة، والقرآن الكريم قد صرح ببطلانها، إذ قال تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].ومن الغريب والعجيب -والدنيا لا تخلو من غرائب وعجائب- أن بولس الثامن منذ حوالي عشر سنين أو خمس عشرة سنة أصدر بياناً وتصريحاً بأن اليهود برآء من دم السيد المسيح، ويومها كنا في باب المجيدي فهللنا وكبرنا، وقلنا: الحمد لله. ألف وأربعمائة سنة والقرآن يصرح بأن اليهود ما قتلوا عيسى ولا صلبوه، وعيسى رفعه الله إليه، وهم مصرون على الحنث العظيم والكذب الباطل، ثم يأتي رجل الدين والكنيسة وينقض ما كان عليه النصارى من أكثر من ألفي سنة، وقلنا: الحمد لله.نزح اليهود لمضايقة الروم لهم والرومان.ونزحوا أيضاً إلى هذه البلاد لما عندهم في التوراة من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته، وأنه يخرج من جبال فاران؛ جبال مكة، وأن دار هجرته أو مهاجره يثرب ذات السبخة والنخيل، فقالوا: هذا المنقذ الذي إذا جاء نلتف حوله، ونؤمن به، ونسترد أمجادنا، ودولتنا، ومملكتنا.ومما يشهد لهذه القضية أو النظرية التي سمعتم أنهم كانوا أحياناً يقولون للعرب لما ينازعوهم، أو يختصمون معهم، يقولون لهم: إن نبياً قد أظل زمانه، وسوف نؤمن به، ونقتلكم قتال عاد وإرم، واذكروا لهذا قول الله عز وجل من هذه السورة المباركة سورة البقرة، إذا جاء فيها قول الله تعالى: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]، سبحان الله! المفروض أن يقول: فلعنة الله عليهم، لِم عدل؟ لا إله إلا الله، لو كنت أنا لقلت: فلعنة الله عليهم، اسمع .. اسمع الآية: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ، لِم لعن الكافرين ولم يلعنهم؟ لأن اللعنة هذه وهي الطرد من ساحة الخير وأفناء الرحمة والسلام سببها الكفر، لتبقى هذه خالدة: لعنة الله على الكافرين، سواء كانوا يهوداً أو نصارى، عرباً أو عجماً، هذا البعد من الرحمة سببه الكفر، ما قال: فلعنة الله عليهم، قد يسلمون أو يسلم من يسلم، لكن لعنة الله على الكافرين دائماً وأبداً.

إجلاء اليهود إلى خارج المدينة لغدرهم وخيانتهم

معاشر المستمعين والمستمعات! كان اليهود ينتظرون بفارغ الصبر النبوة الأخيرة الخاتمة للنبوات، ولما بعث صلى الله عليه وسلم ما زالوا يراقبون الحال، ويتطلعون إلى ما يحدث، وكلهم أمل، حتى نزل المدينة سنة ثلاث وخمسين من مولده، وشاهدوا التيار ليس ملائماً لهم، وكان بداية ذلك يوم انتصاره صلى الله عليه وسلم على قريش في بدر، من ثم عرفوا وبدءوا يكشفون عن نواياهم، وبدأت الفتنة مع بني قينقاع فحاصرهم صلى الله عليه وسلم برجاله، فاستسلموا له، ولم يقتلهم، ولم يسلب أموالهم، وطلب إليهم أن يخرجوا من المدينة وأن يلتحقوا بالشام، فالتحقوا بأذرعات من الشام، والقرآن ينزل.وتآمر بنو النضير أيضاً بعد كذا سنة على قتله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل أنجاه، وأبطل كيدهم ومكرهم، ونجا من تلك المؤامرة الدنية، وأعلن صلى الله عليه وسلم الحرب عليهم؛ لأنهم نقضوا عهدهم، وحاصرهم برجاله، ونزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم، وما قتلهم ولا صلبهم، ولكن أمرهم أن يخرجوا فقط من المدينة، وأن يحملوا ما يستطيعون حمله من أموالهم وأمتعتهم، والله إنهم كانوا يحملون الأخشاب والأبواب من بيوتهم، وفي ذلك يقول تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [الحشر:2]، تعجبه الخشبة أو العمود يحمله على البعير، كيف يتركه للمسلمين!ونزل بعضهم في خيبر، وبعضهم في تيم، وبعضهم التحق بالشام، وبقي بنو قريظة، بنو قريظة على عهدهم، حتى جاء يوم الأحزاب، تعرفون يوم الأحزاب، حيث كان مؤامرة عظيمة لإنهاء الإسلام، كمؤامرة حرب الخليج من سنتين أو ثلاث بالضبط، من قام بهذه المكيدة، من هو؟ لا بأس من باب المداعبة، صهر النبي صلى الله عليه وسلم، هذا اليهودي، لما أجلاهم الله من المدينة أخذ يطوف بقبائل العرب، من منطقة إلى منطقة، ويؤلبهم على الرسول صلى الله عليه وسلم، ما اسمه؟ حيي بن أخطب النضري وكان زعيماً، وابنته: من هي؟ هي صفية تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أعتقها وكانت أم المؤمنين، فرضي الله عنها وأرضاها.فألب العرب من الشمال إلى الجنوب، من الشرق إلى الغرب، وزحفت خيل الشيطان، وطوقوا المدينة بطوق عجب، واذكروا: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10]، يا لها من ليالٍ! خمس وعشرين ليلة، والرسول ورجاله محاصرون في سلع، فالجبل وراءهم والخندق أمامهم، وكان هناك جوع، وكان هناك ظمأ، وكان هناك خوف.فهذا حيي -لا أحياه الله- ذهب إلى بني قريظة، وأخذ يعرفهم ويفتلهم، حتى نقضوا عهدهم، ليتألبوا مع المتألبين، فدفع الله الشر، وأبعد الخطر بآية من آياته، أرسل الله تعالى عليهم ريحاً وهي الصبا، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور )، والدبور: ريح تأتي من المغرب، وهو الدبر، والمشرق هو القبل، وأما الصبا فريح تأتي من المشرق، وهذه الريح ماذا فعلت بهم؟ اقتلعت الخيام، معسكر أبي سفيان -رضي الله عنه؛ إذ أسلم بعد ذلك- ورجاله، القدور المنصوبة فيها اللحم والأكل قلبتها الريح، إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:9-11]، يا لها من أيام! وأعقبها الفرج، لما رحلوا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الآن نغزوهم )، لما غزونا وفشلوا الآن نغزوهم، وكان ذلك سنة ست من الهجرة، السابعة: خرج برجاله للعمرة وحصل ما حصل في الحديبية.والشاه عندنا في هذه الجماعات اليهودية: كان المفروض أنهم أول من يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا يتطلعون له، ويخبرون العرب به ويهددونهم، فلما ظهر أنه على منهج غير منهجهم وطريق على غير طريقهم تنكروا له.
تابع تفسير قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ...)
ها نحن الآن والقرآن ينزل قبل أن يخرجوا من المدينة والله يذكرهم بنعمه عليهم، علهم يقولون: الحمد لله، آمنا بالله، هات يدك يا رسول الله نبايعها ونصافحها على الإسلام فأبوا، واسمعوا هذه الخمس أو الست النعم التي بين أيدينا في هذه الآيات الخمس. ‏

نجاة بني إسرائيل من عذاب آل فرعون

النعمة الأولى: في قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49]، آل فرعون -كما علمتم- رجاله من جيوشه ووزرائه وأقاربه، فالكل آل؛ لأن الأمر يئول إليهم، وستمائة ألف هم بنو إسرائيل، نجاهم الله وأنقذهم واستخرجهم من ملايين، وأبعدهم من ساحتهم، وما قتلوهم ولا صلبوهم. نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49]، وكيف؟إن آل فرعون كانوا يسومونهم الخسف ويعذبونهم، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، وقد علمتم أن كاهناً من الكهنة قال لفرعون: إن سقوط عرشك وهبوط دولتك على يد هؤلاء الأجانب، وقد رُدَّ هذا، ولا حاجة إلى الكهنة، وقلنا: إنهم الساسة، ساسة الحكومة، قالوا: إن هذا الشعب له أصل، وله شرف ومجد وملك، فإذا تقووا هنا وكثروا قد يسقطون عرش فرعون ويحكمونه، لما لهم من شرف وأصاله في الملك والحكم، وهذا هو الصواب.فمن هنا: قالوا: الطريق أن نذلهم، فنحمل رجالهم تبعة العمل الشاق، فكانوا يصنعون الطوب، فهذه مهمتهم، وفي هذا إرهاق لأبدانهم، وضعف لقلوبهم ومعنوياتهم.ثاني ً: حتى ما يكثر التناسل نذبح الأولاد الذين يولدون من الآن، وقد اتخذوا قراراً -كما علمتم- أن على شيخ القرية أو الحي أن يطلع على كل حبلى، وعلى الرجل أن يبلغ البلدية أن امرأته حبلى في الشهر الخامس أو السادس، وإذا آن أوان الولادة لابد من الاتصال بالمسئولين ليحضروا الولادة، فالقابلة بمجرد ما تتلقى الولد من فرج أمه تنظر إن كان ذكراً قالت: ذكراً وذبحوه، وإن كان أنثى تركوها.ومع هذا قال الساسة: إذا فعلنا هذا باستمرار قضينا على اليد العاملة، من يشتغل، فمن الخير أن نقتل الأولاد سنة بعد سنة، سنة نذبح الأطفال، وسنة نبقيهم، وفعلوا.وقد قلت لكم: من تدبير الله جل جلاله، أن السنة التي كان فيه العفو ولد هارون أخو موسى وشقيقه، والسنة التي فيها القتل والذبح ولد موسى، فمن يحفظ موسى غير الله.فأوحى الله تعالى إلى أم موسى: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ [طه:39] النيل: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [طه:39]، وهل هي نبية؟ لا، ولكن أي مانع أن يهتف بها هاتف، أو ترى رؤيا صادقة.وبالفعل ما إن وضعته والشُّرط على الباب، وقد أعدت التابوت وهيأته، وضعته في الصندوق وأعطته لأختها: ارمه في النيل، ليس عندنا ولد، ويعبث به الماء حتى يصل به إلى حديقة الملك فرعون، وإذا بالجواري عند الماء يأخذن الصندوق بسرعة، ورفعنه إلى الملكة؛ امرأة فرعون عليها السلام آسية بنت مزاحم ، قال تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه:39]، فما إن يراه أحد يكاد يدخله في قلبه، ومن يفعل هذا؟! فما إن شقوا الصندوق، وأزالوا الغطاء، ورأته الجواري والمرأة وإذا بكل واحدة تصرخ، تريد أن تدخله في أحشائها: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، تحت نظري وبصري، أنا الحامي أنا الواقي، أنا الحافظ لك يا موسى، فسبحان الله! إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ [طه:40]، من تدبير الله أنه لما أخذ موسى إلى قصر فرعون، واحتضنته آسية ، كان الولد يصرخ، وأبى أن يرضع أبداً، العطش والجوع وهو في أسبوعه الأول، وكلما تأتي مرضعة أو ضئر تقدم ثديها يلفظه ويدفعه، تدبير من هذا؟! كلما تأتي امرأة وزير .. شريفة .. امرأة غني .. طيبة الرائحة .. جميلة كذا، ما إن تدنو منه يصرخ، وإذا بأخت موسى تقول لها أمها: إي فلانة! تجولي في المدينة وتحسسي، علَّك تسمعين عن أخيك ما فعل الله به: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ [طه:40]، لما سمعت أن الولد في بيت فرعون وأنه لم يقبل الرضع، فقالت لهم: أنا أدلكم عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]، وهذه الكلمة تلقت صفعات من الجواسيس ورجال الحكومة. كيف يكونون ناصحين له؟ أنت تعرفين هذا من هو؟ قالت: أبداً. أنا أعرف أسرة فقيرة، فرجوت أن يرضع عندها، فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [طه:40]، ما إن رأى أمه حتى التقم ثديها في نهم، فأصبحت أمه رئيسة، لو تطلب مليون دينار لأعطيته. تدبير من هذا؟ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [طه:40].وحدثت حادثة تذكر أيضاً للعبرة: لما كان موسى يحبو ويحاول أن يقوم ليمشي، وإذا بفرعون جالس أمامه، فيمد موسى يده ويمسك فرعون من لحيته، ويجذبها. قال أحدهم ممن سمعني ذات مرة: سبحان الله! فرعون بلحيته؟! قلت: إي نعم، ما كان الفحل أبداً يحول نفسه إلى أنثى فيحلق وجهه، لابد من هذا. قال: لم فحول اليوم يحلقون؟ قلنا: لأنهم قلدوا المائعين، وضربوا في طريق الجاهلين، وإلا جمالك يا ابن آدم في لحيتك، وكنا نضرب لذلك مثلاً، نقول: أخبروني أيها الفحول! لو أن امرأة تلصق بوجهها لحية فحل صناعية كالباروكة، أفيكم من يرضى بهذا؟ هناك فحل يقبل؟ كيف ينظر إليها؟ مسخت، هكذا.فالذين يحلقون وجوههم ما شعروا أنهم في هذه المحنة، فقد أزالوا منظر الجمال والقوة والذكورة والفحولة، وأصبحوا كالإناث، وهم لا يشعرون.وهذه الكلمة نفع الله بها، فقد مضت علينا فترة كان المجلس كهذا لا يوجد فيه عُشره ملتحون، والكل حالقون، الآن انتشر الحق والحمد لله؛ لأن العلة هي الجهل فقط، مؤمنون صالحون غرروا بهم وقالوا: علماء، وقالوا .. وقالوا، فضللوهم وإلا من يرضى من الفحول أن يساوى بالإناث، ويصبح من جماعتهن، والرسول يقول: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، ويقول: ( لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال )، كذا قال؟ إي، والله العظيم.ومن يُلعن على لسان رسول الله كيف يسعد؟! كيف يرتاح وتطيب نفسه؟!كما قلت لكم: ملعون الرجل إذا تشبه بالمرأة، والمرأة ملعونة إذا تشبهت بالرجل، فلو تعمل عمامتها و.. و، وتلصق اللحية في وجهها وقالوا: هذا رجل، ملعونة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.ولا نطيل في هذه النعمة: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49] وجهه وبيانه: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49] أي: للخدمة والشغل: وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49]، امتحان كبير، لِم ما تؤمنون بالله ورسوله، وتدخلون في رحمة الله، وتمشون وراء رسول الله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين؟!ثم قال لهم النعمة الثانية: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة:50] اذكروا الوقت الذي تمت فيه ترتيبات عجيبة.

تجمع بني إسرائيل استعداداً للرحيل

تعب موسى وهو يلح على فرعون، وقد قهره وغلبه بالآيات والمعجزات، فأبى فرعون أن يسلم بني إسرائيل لموسى، فلما حصلت انهزامات كبيرة، وأخذ بنو إسرائيل يسمون ويرتفعون صدر أمر الله إلى موسى وأخيه أن يتجمع بنو إسرائيل، فيخرجون من وسط الأحواش والأزقة والدور المشتركة مع الأقباط ويجتمعون في جهة؛ استعداداً للرحيل، وجاء هذا في سورة يونس: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:87]، ممن يتلقون هذه المعارف؟ من الله عز وجل.اسمع اسمع: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً لِم قبلة؟ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، (قبلة) يحمل معنيين: اجعلوا أبوابها إلى القبلة، أو اجعلوها متجهة نحو القبلة بيت المقدس للصلاة، وقبلة أيضاً متقابلة، فالبيوت أبوابها متقابلة، خشية أن يتسرب إليهم الجواسيس أو الأعداء، فيعرف كل من يتحرك في المدينة، أو في هذه القرية الجديدة، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ . فأخذوا يتجمعون ويبنون هذه القرية استعداداً للرحيل.

بنو إسرائيل يرحلون من مصر

لما اكتمل عددهم وتجمعوا أوحى الله إلى موسى أن اخرج ببني إسرائيل، فخرج موسى وأخوه هارون وبنو إسرائيل وراءهم، وكانوا ستمائة ألف؛ النساء والأطفال والرجال. إلى أين؟ جبريل يتقدمهم إلى بحر القلزم، البحر الأحمر، وما إن خرجوا وتركوا مصر وزحفوا نحو الشرق حتى أمر فرعون بالتعبئة العامة، فخرج بمائة ألف فارس؛ الذين يركبون الخيول فقط، أما المشاة فلا تسل، ومشوا وراء بني إسرائيل.ولما رأى بنو إسرائيل جيوش فرعون خافوا، وهم جبناء؛ لأنهم عاشوا عيشة المذلة والمهانة، وشكوا إلى موسى فقال: قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، رد قولهم ومزاعمهم بقوله: (كلا) ليس الأمر كما تقولون: إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، ومشى حتى وصل إلى حافة البحر الأحمر.

السامري وتربة فرس جبريل

وهنا حدثت حادثة: كان فرس جبريل عليه السلام، إذا وطئ الأرض ينبت العشب على الفور تحت قدم الفرس، فتفطن لهذه الحادثة العجيبة السامري ، فأخذ التربة التي تنبت العشب، وقال: هذه التربة فيها مادة الحياة، واحتفظ بكمية منه، فلما نجا بنو إسرائيل من البحر ونزلوا بالساحل المقابل، فكر هذا بوحي الشيطان وقال: يا معشر نساء بني إسرائيل! كل من كان عندها حلي للقبطيات تأتي به وتجمعه لنحرقه، إذ لا يحل لها أبداً أن تأخذ متاع غيرها. فجمع الحلي وصهره بالنار وأذابه وصنع منه عجلاً من الذهب، ووضع فيه ذلك التراب، فأصبح للعجل خوار وصوت كأنه حي، ودعاهم إلى عبادته كما سيأتي، فعبدوه في غيبة موسى.

فلق البحر وهلاك فرعون وجنوده

وأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فقال: بسم الله، وضرب البحر فانفلق فلقتين، في العلو كالجبل من هنا، وكالجبل من هنا، اثنا عشر زقاقاً وطريقاً، حتى أن قبائل بني إسرائيل وأسباطهم لا يزدحمون فكل سبط في شارع، اثنا عشر شارعاً أو زقاقاً في البحر، ومشوا حتى انتهى البحر، وخرجوا إلى ساحله.ووصل رجال فرعون، فأمرهم أن يرموا بخيولهم أيضاً في البحر، فلما توغلوا فيه وتوسطوا، ولم يبق وراءهم أحد، ولم يصلوا إلى ساحل النجاة، أطبق الله عليهم البحر فأغرقهم أجمعين اللهم إلا فرعون، نجاه الله ببدنه فقط، واقرءوا آيات سورة يونس: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، هذه فيها فذلكة، حيث قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، قال الله تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:91-92] فقط. إذاً: فرعون دخل على فرس البحر، فمشى ومشى حتى وصل الماء إلى حلقه، وكاد يغرق، ثم أعلن عن إسلامه: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا معبود لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ .هنا حكاية: لما كانت الحرب العالمية الأخيرة، وكانت ألمانيا محالفة للطليان واليابان، وكانت طائرات العدو تأتي إلى ديارنا بالمغرب بشمال أفريقيا؛ لأنها مستعمرات فرنسية، فحدث مرة أن جاءت الطائرة التي تقذف القنابل، وأخذ الناس يهربون فزعين، كأنهم مع قول الله تعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:1-4]، ناس يدخلون السراديب، وناس يخرجون، ما عرفوا، هذا طالع للعمارة، وهذا هابط منها، وكان يوجد بعض النصارى لا يحسنون اللغة العربية فيهربون معهم، يسمعون المسلمين يقولون: لا إله إلا الله .. لا إله إلا الله حتى يموتوا موحدين، والنصراني ماذا يقول: (أمواوسي) وأنا كذلك، أي: وأنا كما يقولون.كذلك فرعون قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، قال تعالى: آلآنَ يوبخه آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:91-92] فقط، لا بروحك، لِم؟ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً .قالت العلماء: بنو إسرائيل عاشوا أذلة مهانين .. جهلة .. ضعفة، وواقعهم شاهد، ولولا أنهم رأوا فرعون ميتاً أمامهم على الساحل لقالوا: أبداً ما يموت فرعون، فمن رحمة الله وتدبيره بهم أنجاه ببدنه، يطلعون على رأسه وظهره، هذا هو فرعون ميت.وحدث مرة عندنا أيضاً أن شيخاً من مشايخ البلاد حكمنا وطالت مدة الحكم، وفعل العجب، والله لما مات ما صدق كثير من الناس، قالوا: لا يموت، كيف يموت؟!هذا الضعف البشري، قالوا: لا يموت، كيف فلان يموت، لِم؟ عاش ثمانين .. تسعين سنة ما مات، كيف الآن يموت؟!فبنو إسرائيل لولا أن الله عز وجل أنجى فرعون ببدنه، لكانوا يصابون بالهستيريا -كما يقولون- أو الجنون، يكون جالساً يقول: الآن جاء فرعون، فمن تدبير الله لأوليائه ورحمته بهم أن أغرق ذلك الجيش بمئات الآلاف، وأنجى واحداً، لحكمة أو لا؟ لأن أفعال الله تعالى لا تخلو من حكمة قط، ولا يوجد فعل لله بدون حكمة.يقول تعالى: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُ مْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة:50]، ما هي حكاية ماضية (وأنتم تنظرون) وجيش فرعون يغرق شيئاً فشيئاً حتى غطاهم البحر.

زمن نجاة موسى وقومه

هذا اليوم الذي نجّى الله تعالى فيه موسى وبني إسرائيل كان يوم عشرة محرم، والدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان العام الذي هاجر فيه في ربيع الأول، فدارت السنة وجاء محرم، فصامه بنو إسرائيل: ( فسألهم: لم تصومون؟ قالوا: هذا يوم أنجى الله فيه موسى وبني إسرائيل نصومه شكراً لله. فقال: نحن أحق بموسى منكم )، فأمر أهل المدينة أن يصوموا فصاموا -والله- وصوموا صبيانهم، الأطفال الصغار.ثم بعد عام آخر لما نزل فرضية رمضان؛ أعلن أن من شاء أن يصوم، ومن شاء أن يفطر، فقد فرض الله علينا صيام رمضان، ولكي يخالف اليهود -عليهم لعائن الله- قال: ( إن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر )، فمن السنة معاشر المستمعين والمستمعات أن نصوم تاسوعاء وعاشوراء؛ شكراً لله عز وجل على آلائه وإنعامه.

مواعدة الله لموسى واتخاذ بني إسرائيل للعجل

النعمة الثالثة: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51].متى واعد موسى أربعين ليلة؟ لما خرجوا من البحر ونزلوا بالساحل، فواعد الحق عز وجل موسى بأن يحضر عنده في جبل الطور؛ من أجل أن يعطيه الدستور الذي يحكم به بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا مستعمرة، وكان الحكم حكم فرعون ورجاله، فبم يحكمهم موسى؟ كما أن موسى عاش في مصر وتربى فيها، فقال له تعالى: تعال عندنا نعطك الدستور، لتحكم به بني إسرائيل.وهنا مسألة سياسية لو كان معنا سياسيون؛ سياسيونا ما يفهمون، يؤولون كلامي ولا يفهمونه، كنا مستعمرات أو لا؟ من إندونيسيا إلى موريتانيا حق أو لا؟ سوريا .. العراق .. اليمن .. مصر .. كذا.. كذا، كنا مستعمرات، فكان الواجب والمفروض أننا لما نستقل في إقليم من الأقاليم أن نأتي بالدستور الإسلامي ونطبقه، ولا نبقى نطبق دستور الدولة المستعمرة.ومن عجيب تدبير الله عز وجل - واسمعوا وعوا- أنه لما بدأت الاستقلالات كان الله عز وجل قد أقام هذه الدولة على يد عبد العزيز ، وذلك بعدما كانت هذه البلاد فوضى عارمة كغيرها من العالم الإسلامي؛ حيث الوثنيات، والجهل، والباطل والسحر، والتدجيل، والخرافات و.. و، لا تسأل عن حالنا، فأراد الله أن يقيم الحجة له على عباده، فأقام هذه الدويلة الصغيرة الفقيرة، لا تملك شيئاً، وتجلت فيها حقائق العلم الرباني، فسادها أمن ما كانت تحلم به هذه الديار.لعلي واهم! ما تعرفون، كان الحاج لخوفه على دنانيره يبتلعها حتى إذا خرأ يأخذها منه، وساد أمن لم تحلم به الدنيا، ولم تعرفه إلا في القرون الذهبية الثلاثة، وإن شئتم حلفت وأنتم لا تقبلون: والله العظيم ما رأت الدنيا أمناً كالذي حصل في هذه الديار على دولة القرآن إلا أيام الصحابة والتابعين وتابعي التابعين في القرون الثلاثة.أما كان بائع الذهب إذا أذن المؤذن يضع خرقة قديمة بيضاء على باب ذهبه ويأتي يصلي؟!هل عرفت الدنيا هذا؟!يمشي رجل من أقصى شرق المملكة إلى غربها لا يخاف إلا الله.فتحقق أمن، وتحقق طهر، قلّما يسمع أن هناك جريمة واقعة كزنى رجم فاعله، أو أن هناك من لا يقيم صلاة، أو أن هناك من قتل ظلماً وعدواناً، أحداث نادرة.وتجلّت حقيقة القرآن الكريم وهي قول ربنا: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] أي: حكمناهم وأصبحوا حاكمين: أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، لو ما جاء الله بهذه الدولة، وما شاهد المسلمون حجاجاً وزواراً ورأوا الكرامة كما هي أمن وطهر لكانوا يعتذرون، يقولون: ما عرفنا، ولكن حجوا واعتمروا وشاهدوا.ومع هذا يستقل الإقليم ولا يأتي إلى عبد العزيز؛ لأنه حاكم الحرمين وأرض القدس والطهر، ويقول: لقد استقل قطرنا فابعث إلينا بقضاة يطبقون شريعة الله عندنا، هل فعلوا؟!مما يضحك! أن السودان لما استقلت طالبوا بريطانيا بإرسال قضاة لهم يحكمون البلاد!! والله العظيم قرأنا هذا وسمعناه، هذا مثال.فانظر! لو عرفنا الطريق لكنا الآن أمة واحدة، فلا فرق بين أبيض وأسود، ولا عربي ولا عجمي، كيف؟ هذه الدولة أوجدها الله أولاً أو لا؟ والعالم الإسلامي مستعمرات هكذا؟ فالدولة التي تستقل من الاستعمار الغربي أو الشرقي تبعث رجالها: ابعثوا لنا بقضاة ووالي عام خليفة يخلفك في بلادنا، ما الذي يمنع من هذا؟ وتطبق شريعة الله.ولو فعلنا هذا لكنا خلافة قائمة، والعالم الإسلامي كله بلد واحد، عملة واحدة، جواز واحد، لغة واحدة، دستور وقانون واحد، لكن للجهل وعدم البصيرة، ولتسميم عقولنا وإفساد قلوبنا من طريق الغربيين صرفونا صرفة كاملة.والله ما بلغني حتى هذه الدويلات الصغيرة في الخزي أنهم جاءوا وقالوا: يا عبد العزيز ! لقد انتهينا من الاستعمار البريطاني، ابعث لنا رجالك يقيمون شرع الله بيننا؛ لأننا مسلمون.فعلنا أو لا؟ ما فعلنا.فلهذا لن تقوم دولة إسلامية تضم بأجنحتها العالم الإسلامي أبداً؛ لأننا نحن الذين ذبحناها، وما أردناها تكون.والدليل أن موسى لما استقل ببني إسرائيل ذهب يطلب من الله القانون الذي يسود به، ويحكم بني إسرائيل.ومن ثم ترك بني إسرائيل وذهب إلى جبل الطور وناجاه ربه وناداه، وأعطاه الدستور، وعندما رجع وإذا بـالسامري والعياذ بالله، أمة هابطة كما قدمنا، فقد غرر بهم، وقال: هذا إلهكم وإله موسى، فذهب موسى يطلبه وهو غافل، هذا هو فاعبدوه. فعبدوا العجل، أما هارون عليه السلام خليفته فبكى، شكا، وما استطاع أن يفعل شيئاً، أمة هاوية!فهذه نعمة، فبدل أن يفعل الله بهم نقمته عفا عنهم، وموسى أحرق ذلك العجل ونسفه كالرماد في البحر وعادوا لعبادة الحق عز وجل.هذا وللحديث بقية مع الآيات، وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-21, 01:29 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (53)
الحلقة (60)



تفسير سورة البقرة (24)

بعد الفعلة الشنعاء التي جاء بها السامري وتابعه عليها بعض بني إسرائيل أمر الله بني إسرائيل بالتوبة، بأن يقتلوا أنفسهم، وبدلاً من المبادرة طلبوا رؤية الله جهرة، حتى يؤمنوا ويصدقوا موسى، فغضب الله عليهم وأنزل صاعقة أماتتهم، ثم بعثهم علّهم يتعظون ويشكرون، ومع هذه بقيت نفوسهم مريضة، إذ رفضوا جهاد أعدائهم فحكم الله عليهم بالتيه أربعين سنة، ومع هذا لم تنقطع نعم الله وأفضاله عليهم.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة:54-57] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

اتخاذ بني إسرائيل للعجل إلهاً ومعبوداً

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قول ربنا جل ذكره: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ [البقرة:54] اذكر يا رسولنا أيها المبلغ عنا! يا مصطفانا! اذكر قولة موسى لبني إسرائيل، (وإذ قال موسى لقومه) وهم قطعاً بنو إسرائيل، وماذا قال لهم موسى؟ قال: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54].فصلنا الحادثة سابقاً، وعرفنا أن موسى عليه السلام بعدما نجاه الله مع بني إسرائيل وخرجوا من الديار المصرية ديار فرعون، وأغرق الله فرعون وجيشه، ونزلوا بالساحل ساحل البحر الأحمر.وذكرت لكم لطيفة لا تنسى: لما استقل بنو إسرائيل بم يحكمهم موسى؟ ما هو الدستور؟فقال: انتظروا، لي موعد مع ربي وآتيكم بما أحكمكم به.هنا قلت: استقل لنا كذا وأربعون إقليماً من الاستعمار البريطاني .. الفرنسي .. الإيطالي .. البلجيكي .. الهولندي، وما استطاع إقليم واحد يقول: الحكومة الكافرة خرجت ونحن بم نحكم، فيطلبون دستوراً إسلامياً؛ لأن الشعب مسلم، ولا يساس إلا بالإسلام، فما استطاعوا، ومن صرفهم؟!وقد قلت -وإني على علم-: كان المفروض -لأن الله أوجد هذه الدولة على يد عبد العزيز أيام الاستعمار- أن كل إقليم يستقل على الفور يبعث بوفد ويطالب بالقانون الذي تحكم به هذه البلاد؛ بلاد الحرمين، ولو فعلنا هذا لكنا الآن أمة واحدة، لكن حب الدنيا .. حب الرياسة، والمال، والجاه، والسلطان حجبنا، أما الله جل جلاله فقد أقام الحجة علينا.ولو ما كانت هذه الدولة موجودة، وما سادها أمن وطهر وصفاء، وأقيمت فيها حدود الله لعذرناهم؛ لانعدام من نفزع إليه، ومع هذا كان يجب أن يجتمع علماؤنا ويضعوا دستوراً وقانوناً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكتب الفقه على المذاهب السليمة الصحيحة الأربعة، لكن ما حصل، فلنذق البلاء والعذاب، وهو بما كسبت أيدينا: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل:118].ونعود إلى السياق الكريم: لما ذهب موسى إلى مناجاة ربه بجبل الطور من سيناء، هذا الشيطان الآدمي السامري - كما عرفتم- احتال على نساء بني إسرائيل وقال: إن هذا الحلي أكثره عارية من القبطيات، ولا يحل لكن الانتفاع به، فاجمعنه ونحرقه. فلما جمعن الحلي أحرقه وحوله إلى عجل، فصنع منه عجلاً -كما تعرفون الصور والتماثيل- وله خوار، هل الريح تدخل فيه وهو مجوف أو يصوت الشيطان على فمه للفتنة؟ ولا عجب، وقال لهم: هذا إلهكم وإله موسى، وموسى الآن تائه ما عرفه.والعجيب أنهم قبلوا هذا، أكثرهم قبل واستجاب، لم؟ لأنهم أميون .. جهلة، ما عرفوا الطريق، أين تعلموا؟ فعلَّتهم هي الجهل بالله، وإلا كيف يتصورون أن يكون الله في صورة عجل وهم أبناء الأنبياء وأولاد المرسلين؟!إذاً: فعبدوه.أما هارون عليه السلام؛ أخو موسى -وقد نبأه الله وأرسله وهو في مصر- فقد انعزل مع بعض المؤمنين، وأبوا أن يعبدوا معهم العجل، بل هارون بذل ما يمكن أن يبذله في صرفهم عن هذا الباطل، ولكن غلبوه.أما موسى فما زال يناجي ربه حتى أخبره بأننا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [طه:85-86]، وصاح وثار ثورة إيمانية حتى أخذ يلبب أخاه هارون بل أخذه من لحيته، قال هارون: يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94] فاعتذر هارون عليه السلام.

توبة بني إسرائيل

زلت أقدام بني إسرائيل وعبدوا غير الله فارتدوا عن الإسلام، وما حكم الردة في قضاء الله؟ القتل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من بدل دينه فاقتلوه ) إلا أن رحمة الإسلام تستتيب المرتد ثلاثة أيام، يحبس مع المؤمنين، وتعرض عليه الصلاة .. تعرض عليه عبادة الله، علَّه يرجع، فإن أصر يعدم ويموت كافراً، بلا رحمة له، فإن تاب تقبل توبته.فما هي توبة بني إسرائيل؟أوحى الله إلى موسى أن يقتل من لم يعبد العجل من عبد العجل، واجتمعوا في ساحة عظيمة بالخناجر والسيوف، وأخذ بعضهم يقتل بعضاً. تقول بعض الروايات: حتى قتل منهم سبعون ألفاً.ثم أوحى الله تعالى إلى نبيه موسى: أن قد تمت توبتهم، فلّوح بثوب من ثيابه؛ أعلمهم بانتهاء الحرب.هذه هي توبة الله على بني إسرائيل اللذين عبدوا العجل.واسمعوا قوله تعالى: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ [البقرة:54] إلهاً تعبدونه فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ [البقرة:54] أي: إلى خالقكم. كيف نتوب؟ قال: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54]، وليس هذا من باب الانتحار بأن يقتل كل واحد نفسه، لا، الحقيقة أنهم غمهم سحاب مظلم، أي: الذين ارتكبوا هذه الجريمة، ودخلوا في المعركة، فما يتبين الرجل أخاه ولا أباه، كلهم في ظلام. فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:54] إي نعم، خير لكم عند ربكم. فلو تركهم على تلك الردة وما آخذهم وماتوا إلى عالم الشقاء والخلود فيه أبداً، ولكن من لطف الله وإحسانه ورحمته أن طهرهم بهذا القتل. فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [البقرة:54] وذكر البارئ بمعنى: الخالق المصور؛ لينبههم على أن العجل لا يخلق شيئاً، ولا ذبابة، فالذي يُعبد، ويُطرح العبد بين يديه باكياً، خاشعاً، خاضعاً من يحيي ويميت، من يعز ويذل، من يعطي ويمنع. أما صنم، وتمثال، وصورة، وشخص، وقبر كيف يعبده ذو العقل؟! إلا أن الجهل إذا عم عميت القلوب.قال: ففعلتم فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54] كثير التوبة، فما تاب إليه أحد ورده قط، رحيم: رحمته انتفع بها كل كائن، وقد جاء في الحديث الصحيح ما علمتم: ( أن الله تعالى قسم الرحمة مائة قسماً، جزأها مائة جزء، فادخر لأوليائه وصالح عباده تسعة وتسعين جزءاً ليوم القيامة، وجزء واحد تتراحم به الخليقة كلها، حتى إن الفرس ترفع حافرها مخافة أن تطأ مهرها )، وأنتم تشاهدون.ومن شاهد الدجاجة كيف تعلم أولادها نقر الحب، ومن شاهد العنز كيف تميل بضرعها إلى جديها و.. و.. و.. يعرف هذه الحقيقة، هذه الرحمة تتراحم بها الخليقة كلها، فهذا الذي ينبغي أن يعبد ويشكر، يحمد ويثنى عليه، يطاع ويهاجر من أجله .. يذكر ولا ينسى، أما الأوهام، والضلالات، والخرافات، والريال، والدينار، والشهوات فهذه تعبد مع الله؟ كيف تستحق العبادة؟!

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ...)

قال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى [البقرة:55] اذكر لهؤلاء اليهود حولك يا رسولنا، هذه دعوة الله لهم علَّهم يهتدون .. علَّهم يدخلون في رحمة الله، لكن العناد، والمكابرة، وحب الدنيا، وطلب الرياسة منعهم، قالوا: لا ندخل في الإسلام فنذوب فيه، ولا يبقى لنا كيان ولا وجود، ندخل النار ولا نقبل هذا، ما هو عجب هذا؟!المسلمون ابتعدوا عن شرع الله عناداً، لا يريدون الإسلام يطبق عليهم، وهم أعلم من اليهود.قال: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] أي: ظهوراً بيناً.متى هذا؟لما حصلت الفتنة وانتهت أوحى الله تعالى إلى موسى أن يأتيه بسبعين من خيارهم يعتذرون إلى الله، ويعلنون عن توبتهم، ليتوب عليهم، فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً من خيارهم، وذهب بهم إلى جبل الطور، فلما انتهوا إلى مكان المناجاة؛ مناجاة الله لموسى وسمعوه، وسمعوا موسى يناجي ربه قالوا: يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] لما كانوا يسمعون كلام الله لموسى وسمعوا قالوا: نريد أن نراه بأعيننا، لا يكفي أن نسمع كلامه، أرنا الله عياناً، مجاهرة، مكاشفة بلا ستار، ظاهراً.إذاً: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [البقرة:55] الرسول كان يخاطب في يهود المدينة ولكن هم فئة واحدة، الفرع والأصل واحد، يهودي موجود الآن كالموجود على عهد موسى، أمة كاملة، لم يوجد في العالم أمة لا تخلخلت ولا تضعضعت إلا هم، فلهذا خطاب الآخرين كالأولين، لأنهم يتحملون .. الآخرون يتحملون ذنب الأولين، أصل واحد.فأخذتهم الصاعقة، هذه الصواعق التي تأتي في الأمطار صاعقة شديدة أماتتهم، فمن شدتها صعقوا فماتوا واحداً بعد واحد، وما ماتوا بصيحة واحدة، تمت الصاعقة حتى ماتوا بالتوالي، مات مات مات الكل، ثم بعد أربع وعشرين ساعة أحياهم الله عز وجل.ومع هذا يحتج هؤلاء اليهود بأجدادهم، ويلتزمون بمبادئهم، ويرتبطون بهم، مع هذا الفساد والشر والضعف لو كانوا عقلاء!

تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون)

قال تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [البقرة:56] بعد نهاية الأربع والعشرين ساعة عادت أرواحهم لهم، وأبدانهم ما فسدت، ناموا، وفي أربع وعشرين ساعة لا يتغير شيء، فعادت الروح من جديد، أخذها ملك الموت وردها.وهذه هل يبقى معها كفر بالله؟ هل يبقى معها عناد ومحاربة لله ورسله؟! عجب بنو آدم! عجب! ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:56] فهل شكروا؟ أين الشكر؟ رفع الله عنكم البلاء لتشكروا لا لتزدادوا فسقاً وفجوراً.وهذه في الحقيقة لنا، وقلنا غير ما مرة: هذا الكتاب كتاب هداية بشرية لا تنتهي هدايته إلى يوم القيامة حتى يرفعه الله، فالمفروض أن نستفيد من هذه الأحداث إفادة حقيقية، فلا نقرأ فقط: اليهود كانوا كذا وكذا؛ ونحن.. هل نحن على منهج الله؟ مستقيمون على شرع الله؟ من يقول: نعم؟ ولا نسبة واحد في المائة، ولا في الألف في عالمنا الإسلامي، لأننا جهلة، لا أقل ولا أكثر، فالجهل الذي أهلك أولئك يهلك كل من عداهم، والذي يعيش في الظلمة كيف يعيش؟ يتخبط ويتخبط في كل مهاوي الحياة. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:56] أي: من أجل أن تشكروا الله عز وجل، أي: تعبدوه بما شرع، بذكره وطاعته، إذ هذا هو الشكر. فالذي لا يعبد الله ما شكر الله.وقد عرفنا والحمد لله أن الشكر هو أن النعمة التي أنعم الله بها عليك أحياك بعد موتك .. عافاك بعد سقمك .. أعطاك بعد منعك، أن تشكر الله: أولاً تعترف بقلبك بأن هذه نعمة الله، ثم تعرب عما في القلب وتترجمه بكلمة: الحمد لله، وتقول من كل أعماق نفسك: الحمد لله.ثالثاً: أن تصرف النعمة في ما من أجله وهبكها وأعطاك إياها.فهل نذكر هذا أو ننسى؟!فما من نعمة إلا ونحن مطالبون بشكرها، حتى نعمة البصر اشكر الله عليها؛ فلا تنظر إلى ما حرم الله عليك، وانظر فيما أحل لك، وأذن لك: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:56].

تفسير قوله تعالى: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى ...)

قال تعالى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57] متى تم هذا؟تم هذا لما عاد موسى عليه السلام، وانتهت المحنة نهائياً، فقال لهم: باسم الله، نواصل المشي. قالوا: إلى أين؟ إلى بيت المقدس، وكان بها العمالق يحكمونها.إذاً: فباسم الله مشوا على البهائم، وليس هناك -يومئذ- سيارات ولا قطارات كما هي حال البشر اليوم.ثم لما قاربوا اختار موسى اثني عشر رجلاً: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا [المائدة:12] والنقيب عندنا رتبة عسكرية، والنقيب في الحقيقة مأخوذ من النقب .. من البحث، اثنا عشر نقيباً واذهبوا .. ادخلوا، وتحسسوا وارجعوا إلينا واعطونا واقع هذه الأمة أو هذه الدولة كيف نواجهها؟ كيف ندخل معها في حرب ونتخلص من حكمها الكافر الباطل، ويدخل الإسلام في ديار أرض القدس؟فمع الأسف الاثنا عشر عشرة منهم هبطوا، فجاءوا ترتعد فرائصهم، يصرخون: يا ويلكم، كيف تقاتلون هؤلاء؟ حتى قال أحدهم: أنا أخذني جبار من جبابرة العمالقة ووضعني في جيبه، ووضعني بين يدي أولاده قال: العبوا بهذا الطفل كالعصفور. كل واحد جاء بفرية عظيمة؛ لأنهم ما دخلوا، الجُبن .. الخور .. الضعف، ولا تلوموهم فقد عاشوا مستعمرين، مستغلين، جهلة.

حقيقة الرجولة

وصدق رجلان فقط، قال تعالى من سورة المائدة: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]. والرجلان مذكوران، ولا فائدة في اسم الرجل. المهم: قَالَ رَجُلانِ [المائدة:23] تعرفون الرجل أو لا؟ له قيمة. وهو غير الذكر، الذكر كالحيوان. الرجل: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ [القصص:20].وهنا حكاية لتعرفوا أن الرجولة مفقودة: أحد الطلبة قال لشيخه: يا شيخ! التقيت برجل في مكان كذا، قال: اسكت، هل في بلادنا رجل؟ قل: لقيت ذكراً. أين الرجل؟!والشاهد: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ [المائدة:23] من الذين يخافون ربهم من أهل الإيمان والمعرفة، لولا علمهم بالله ما خافوا.ماذا قال الرجلان؟ قالا: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة:23] باب المدينة فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] ما هو جواب بني إسرائيل؟ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا [المائدة:24] فبمن يقاتل موسى؟ يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا [المائدة:24] لو قالوا: يا رسول الله! يا كليم الله! لا، قالوا: يا موسى، عجائب! لا حول ولا قوة إلا بالله. أين الأدب؟! يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا [المائدة:24] أي: فرّغها وأخرجهم ونحن بعد ذلك ندخل، هذا كلام؟! هذا هو الجُبن.

لن ندخل فلسطين حتى يخرج اليهود

يا شيخ! لقد وقع هذا لأمتك وإخوانك.كيف هذا؟ كم عاماً واليهود الآن في القدس، يحتلون بلاد القدس؟أين عشرة آلاف مليون؟ أين المسلمون؟ لا .. لا، حتى يخرجوا. يا أمريكا! أخرجيهم، يا أمم متحدة! أخرجوهم، والله لا فرق أبداً، أولئك كلهم خمسمائة ألف أو ستمائة ألف ونحن ألف مليون: الأمم المتحدة لم ما تخرجهم من لبنان؟ تخرجهم من كذا؟ أخرجوهم. الواقع واحد أو لا؟ هذا والله أمرّ.عرفتم البشر الآن، البشر هم البشر. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] روح أنت والله قاتلا، خلينا نحن جالسين، إذا فرغتم منهم ندخل نهلل ونكبر.ماذا يصنع موسى؟ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة:25] هارون، فما عندنا أحد نثق به، أو يستجيب لأمرنا ويمشي وراءنا، فأنا وأخي لا نستطيع أن نخرج أمة عريقة في القوة من سنين أو قرون تملك هذه البلاد، كيف نفعل؟ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25] افصل بيننا وبين القوم الفاسقين. عرفتم الفاسقين؟ بيض أو سود؟! هم الذين يخرجون عن أمر الله ورسوله، فالفاسق من فسق إذا خرج، كما تفسق الفأرة، تخرج من جحرها، فهم فسقوا عن أمر الله عز وجل. إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي [المائدة:25] وتقول: أخي أيضاً لا يملك إلا نفسه، أو تقول: وأخي معول عليّ، ابن أمه، يستطيع أن يدفع به أو يتركه. فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25].قال تعالى إجابة لدعوة موسى: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26] بالعد، كم الآن بالنسبة للمسلمين تجاوزت أربعين أو لا؟ تجاوزت، الآن تجاوزت سبعاً وأربعين سنة أو أكثر، فقط محرمة عليهم أربعين سنة.لعل بعض الشباب يتحمسون ويتقززون، إي يا أبنائي! يا أبنائي! لما تُسْلم نساؤنا، ورجالنا، وبنونا، وبناتنا لله رب العالمين يومها تطلَّع، أما أمة هابطة تعيش على الربا، والفجور، والباطل، والخيانة، والكذب، والشر، والفساد، وترك الصلاة و.. و.. تريد أن تقاتل؟ تقاتل من؟ تقاتل مع الله أو ضد الله؟ تقاتل ضد الله وتنتصر؟ مستحيل.لو شاء الله أن ينزل باليهود وباء لفعل، ثلاثة أيام فلا يبقى واحد، لكنه ما يفعل؛ لأنه ابتلى المسلمين، امتحنهم. هل عرفوا الله وقرعوا بابه؟!وإن شككت هل يجوز للمسلمين أن يعيشوا دويلات يحارب بعضها بعضاً، ويحسد بعضها بعضاً؟ أيجوز هذا؟ والله لا يجوز. كيف إذاً ينصرنا الله باللهو والباطل؟!والله لو ملكنا الذرة والهيدروجين لا نستطيع أن نخرج اليهود حتى يأذن الله، لأن هذا تدبيره ليرينا آياته بنا، ما هي قضية قوة وسلاح.أما قال: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:52]؟ هل شكرنا؟ بل كفرنا -والعياذ بالله- بآلاء الله ونعمه.

قيادة يوشع لبني إسرائيل

قال: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26] يمشون، يمشون جاءت القيلولة نزلوا، استراحوا، حملوا أمتعتهم، مشوا، أربعين سنة هكذا في تلك الدائرة، ومات موسى عليه السلام خلالها، ومات هارون عليه السلام خلالها، ثم مات هذا الجيل الهابط الذي ألِف البقلاوة والحلاوة، ونشأت ناشئة في الصحراء وعرفت، فقادهم يوشع بن نون فتى موسى عليه السلام، وقد جاء ذلك مبيناً في سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم ودخل فيهم، فلما قاتلهم يوم الجمعة أوشك أن يصل إلى أبواب المدينة ويحتلها وكادت الشمس تغرب، فقال للشمس: ( يا شمس! أنت مأمورة وأنا مأمور قفي حتى ندخل )، والله وقفت الشمس، وواصل الزحف حتى دخل المدينة قبل غروب الشمس؛ لأنه لو غابت الشمس خارجها فالقتال ممنوع؛ لأنه يوم السبت وحرام القتال فيه، فلهذا وقفت.ولما وقفت ماذا حصل؟ ستسمعون: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [النساء:154] دخلوا يزحفون على أستاههم، قولوا: احطط عنا خطايانا؟ قالوا: حنطة في شعير. هؤلاء يحتاجون إلى الصفع، ما هذه العقول؟!ما سبب هذا الهوان والدون؟الجهل والعناد والمكابرة، فما أخلصوا قلوبهم لله، وما ذابوا في طاعة الله ورسوله.

نعم الله على بني إسرائيل في التيه

قال: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ [البقرة:57] لأنهم في صحراء سيناء أربعين سنة، تدبير الله .. آيات الله .. رحمة الله حيثما يكونون يكون الغمام على رءوسهم، فهو سحاب خفيف، لطيف، ظريف، يظللهم عن الشمس، وفي الليل والصبح يذهب الغمام، ولما ترتفع الشمس ويبدأ الحر يأتي الغمام. وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ [البقرة:57] الغمام: جمع غمامة وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57] ما عندهم مزارع، ولا مطابخ، ولا.. كيف يأكلون وهم تائهون، وما استقروا في مكان، يومياً يحملون أمتعتهم ويمشون إلى بيت القدس، فإذا بهم في نفس المكان، وإنما لفوا فقط ورجعوا.فأنزل عليهم المنّ، والمن جاء به أحد الحجاج من العراق كالحلوى المعجونة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( الكمأة من المن، وماؤها شفاء العين ). وهي تنبت في الأرض أو يستخرجوها كالفقع، هذه مغذية ولذيذة إلى أبعد حد، هذه المن، أنزل المن بالمطر أو نبت بأمر الله عز وجل، فيعيشون عليه.والسلوى طائر يأتي من الجنوب بالآلاف ويقع بين أيديهم، فيجمعونه ويطبخونه ويأكلونه.أي: عاشوا على الحلوى والمشوي، من دبر هذا التدبير؟ الله. لم؟ لأنم أبناء الأنبياء .. أحفاد المرسلين .. أولاد أمة ما كان أفضل منها على الأرض، والآية صريحة: وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الجاثية:16] فانظر تلك الألطاف الإلهية، والرحمة الربانية؛ الحلوى ولحم الطير. كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57] باسم الله كلوا من طيبات ما رزقناكم.

سبب عقوبة التيه

قال تعالى: وَمَا ظَلَمُونَا [البقرة:57] في قضية التيه حتى صاروا تائهين وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة:57] لو استجابوا لأمر موسى وقد ناداهم: يا بني إسرائيل! اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:20-21] وهذه الجملة يتمسك بها اليهود، قالوا: فلسطين لنا ما هي للمسلمين، والقرآن شاهد: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21] حق، لكن يدخلوها طاهرين مؤمنين، أو مشركين، أخباث، نجسين؟ هيا تفضلوا، لو يسلم اليهود في العالم بأسره، ويصبحوا كأصحاب رسول الله هل هناك من يقول: لا تدخلوا القدس؟ هم أحق بها منا، تفضلوا. لكن أنجاس، أرجاس، أوساخ، ماكرين، خادعين، مشركين، كفروا بالله ورسوله ولقائه يستحقون، تصبح لهم؟! هذه حجة واهية وباطلة، لا قيمة لها، كتبها لكم عندما تكونون مؤمنين مستقيمين على طريق الله والحق.ثم لماذا ما يذكرون الرومان لما أخرجوهم، والبابليين لما طردوهم؟ لأنهم فسقوا، فسلط الله عليهم أعداءهم.فلا حجة لهم أبداً في هذه الآية الكريمة.ونحن لما فسقنا عن أمر ربنا، وخرجنا استعمرنا الشرق والغرب أو لا؟ من سلطهم؟ الله، وما زال.وكل أمة ما تمشي على رضا الله لا بد وأن يمتحنها ويبتليها، قال: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل:118].وأذكر أيضاً حادثة أخرى: اليهود يسمعون هذا الآن ولا يؤمنون، هل هذا الكلام يقوله محمد من عنده؟ وهم يجدونه بالحرف الواحد عندهم كيف ما يقولون رسول الله؟ قالوا: رسول الله ما هو لنا، هذا لأولاد إسماعيل، ونحن أولاد إسحاق، لا، ما هو لنا هذا الرسول، يضللون العوام بهذا ويخدعونهم: محمد رسول، ولكن للعرب وليس لنا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

قال: [المناسبة ومعنى الآيات: لما ذكر الله تعالى اليهود بما أنعم على أسلافهم ] وأجدادهم [مطالباً إياهم بشكرها فيؤمنوا برسوله، ذكرهم هنا ببعض ذنوب أسلافهم ليتعظوا فيؤمنوا، فذكرهم بحادثة اتخاذهم العجل إلهاً وعبادتهم له، وذلك بعد نجاتهم من آل فرعون وذهاب موسى لمناجاة الله تعالى، وتركه هارون خليفة له فيهم، فصنع السامري لهم عجلاً من ذهب، وقال لهم: هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه، فأطاعه أكثرهم، وعبدوا العجل فكانوا مرتدين بذلك، فجعل الله توبتهم من ردتهم أن يقتل من لم يعبد العجل مَن عبده فقتلوا منهم سبعين ألفاً، فكان ذلك توبتهم، فتاب الله عليهم إنه هو التواب الرحيم.كما ذكرهم بحادثة أخرى: وهي أنه لما عبدوا العجل وكانت ردة اختار موسى بأمر الله تعالى منهم سبعين رجلاً من خيارهم ممن لم يتورطوا في جريمة عبادة العجل، وذهب بهم إلى جبل الطور ليعتذروا إلى ربهم سبحانه وتعالى من عبادة إخوانهم للعجل، فلما وصلوا قالوا لموسى: اطلب لنا ربك أن يسمعنا كلامه، فأسمعهم قوله ] ماذا قال لهم؟ قال لهم: [ إني أنا الله، لا إله إلا أنا، أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة؛ فاعبدوني ولا تعبدوا غيري. ولما أعلمهم موسى بأن الله تعالى جعل توبتهم بقتل أنفسهم، قالوا: لن نؤمن لك ] هو أخبرهم أن توبتهم من أمر الله، وليس موسى الذي أمرهم بقتل بعضهم بعضاً، قالوا: لن نؤمن حتى نرى الله، ونسمع منه، وإلا غضبوا عليه وقتلوه.[ قالوا: لن نؤمن لك، أي: لن نتبعك على قولك فيما ذكرت من توبتنا بقتل بعضنا بعضاً حتى نرى الله جهرة، وكان هذا منهم ذنباً عظيماً لتكذيبهم رسولهم فغضب الله عليهم، فأنزل عليهم صاعقة فأهلكتهم، فماتوا واحداً واحداً وهم ينظرون، ثم أحياهم تعالى بعد يوم وليلة، وذلك ليشكروه بعبادته وحده دون سواه. كما ذكرهم بنعمة أخرى وهي إكرامه لهم وإنعامه عليهم بتظليل الغمام عليهم وإنزال المن والسلوى أيام حادثة التيه في صحراء سيناء. وفي قوله تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ [النحل:118] إشارة إلى أن محنة التيه كانت عقوبة لهم على تركهم الجهاد وجرأتهم على نبيهم؛ إذ قالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] وما ظلمهم في محنة التيه، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم]. وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-22, 07:46 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (54)
الحلقة (61)



تفسير سورة البقرة (25)


أمر الله بني إسرائيل بأن يدخلوا قرية ويدعوا الله بأن يحطّ عنهم خطاياهم، فبدّلوا كلام الله، فأنزل الله عليهم عذاباً من عنده، وأمر الله نبيه أن يذكّر اليهود بما أنعم عليهم من رزق وخير، لا تعب فيه ولا نصب، جاءهم بعد لأواء وشدة، ولجوء إلى موسى كي يدعو ربه، حينها أمر الله موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت عيون الماء صافية نقية.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:58-60].

لمحة تاريخية عن اليهود الذين جاءوا إلى المدينة

ما زال السياق الكريم مع بني إسرائيل، أي: اليهود الذين عايشوا النبي صلى الله عليه وسلم بضع سنوات في هذه المدينة، وهم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وهم يمثلون العالم اليهودي.ونزوحهم إلى هذه الديار -كما علمتم زادني الله وإياكم علماً- سببه اضطهاد الروم لهم؛ لأنهم في نظرهم قتلة إلههم، وثاني سبب: تباشير التوراة والإنجيل ببعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وأنه يخرج من جبال فاران، وهي جبال مكة، وأن مهاجره بلد ذات نخيل وسبخة، وهي يثرب، فجاءوا ينتظرون طلوع الشمس المحمدية ليدخلوا في الإسلام، ويستردوا مجدهم وقوتهم ومملكتهم، فلما رأوا أن الريح غير ملائمة، وأن الإسلام إذا دخلوا فيه أنساهم أجدادهم وآباءهم، من ثَمَّ تغيرت قلوبهم، وناصبوا العداء للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين.وتم الذي أراده الله، فبنو قينقاع فعلوا فعلة قبيحة فأجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أول فئة منهم.وبنو النضير أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهم في حكم من قتل، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا أن أجلوهم إلى الشام.وبنو قريظة لما انظموا إلى الأحزاب، الذين جاءوا لإبادة الإسلام وأهله، وانهزم الأحزاب بأمر الله، وعادوا إلى ديارهم خائبين، حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة، فاستسلموا وخضعوا، فقتل رجالهم، وكانوا نحواً من سبعين رجلاً، وسبى ذراريهم ونساءهم بحكم الله .. بقضاء الله من فوق سبع سماوات.

كتابة التيه على بني إسرائيل أربعين سنة لخذلانهم نبيهم موسى عليه السلام

هؤلاء اليهود المعبر عنهم في القرآن ببني إسرائيل، وقد طال الحديث عنهم، عندما تتأمل تعرف أن القلوب بيد الله، يهدي من يشاء، استعرض لهم حياتهم بكل ما فيها، جزئية جزئية، فلو كان الله أراد أن يسكنهم دار السلام لكانوا دخلوا في الإسلام أجمعين، ولكن قَلَّ من دخل منهم في الإسلام، أفراد قليلون، واسمع ما يقول لهم: واذكروا، أي: واذكر لهم يا رسولنا. وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ [البقرة:58]، من القائل؟ القائل: الله عز وجل. من الواسطة الذي يبلغ؟ هو يوشع بن نون فتى موسى وتلميذه وصاحبه؛ لأن بني إسرائيل لما وقفوا ذلك الموقف؛ موقف الهزيمة المرة، كما وقف المسلمون الآن مع اليهود، وقالوا لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، ونحن نقول: الأمم المتحدة .. أمريكا لم ما تخرج اليهود؟ ونحن أسوأ حالاً من أولئك، نحن ألف مليون، وهم ستمائة ألف بنسائهم وأطفالهم، يقاتلون العمالقة، ويخرجونهم من أرض القدس، أمر صعب، إلا أنه لما كان الله معهم ينتصرون، فنحن لو كان الله معنا ولا ثلاثة أيام، والله لو يعرف اليهود أنا أقبلنا على الله، وواليناه ووالانا، لعزموا على الرحيل من تلقاء أنفسهم.فلما جبنوا وخاروا وتأخروا ضربهم الله أربعين سنة، وهم يتيهون في الأرض، في صحراء سيناء، فلما طلع النهار شدوا على الجمال والبغال والحمير يمشون يمشون، اشتد الحر نزلوا، باتوا، غداً يجدون أنفسهم في مكانهم، ولكن الله عز وجل أكرمهم؛ لأنهم أبناء وأحفاد أنبيائه ورسله، فهم أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.فأنزل عليهم المن والسلوى: الحلوى واللحم، والغمائم تظللهم من حر الشمس، ويروى أن ثيابهم ما بليت ولا تمزقت، وبقيت كذلك.إذاً: أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:26]، هكذا: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:26]، من هم الفاسقون اليوم؟ الذين خرجوا عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا تحزن عليهم.

حال بني إسرائيل في عهد يوشع بن نون

امتد الزمان وطالت الأيام فتوفي موسى عليه السلام، وقبله أخوه هارون، ومات جيل الهزيمة؛ فالذين كانت أعمارهم أربعين وخمسين انتهوا، ونشأت ناشئة جديدة صحراوية، لكنها ما نبتت في منابت الفسق والباطل، فقادهم يوشع بن نون ، الذي نبأه الله، وأرسله إليهم.وقد ذكرت لكم ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن يوشع لما غزا وكان يوم جمعة، وكاد يصل إلى الأسوار، والبناء للمدن كان على أسوار تعتمد عليه، فإذا الشمس تغرب، فخاف إذا غربت يقف القتال؛ لأنهم مأمورون بعدم القتال يوم السبت، فنظر إلى الشمس وقال: يا شمس! أنت مأمورة وأنا مأمور، قفِ مكانك. والله وقفت، وواصل الزحف حتى دخل البلاد.الآن وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ [البقرة:58]، على عهد يوشع أو لا؟ ادخلوا المدينة العاصمة، وهي القدس، فيها العسل، واللبن، والفواكه، والخضر، يكفي أربعين سنة وأنت مع الحلوى ولحم الطير.قد يقول القائل: ما هي الحلوى؟قلنا: هي الكمأة، لكن فيها عسل وحلوى، من الحلاوة. ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ [البقرة:58]، مما أحل الله لكم وأباح لكم. رَغَدًا [البقرة:58]، أي: عيشاً، واسعاً، طيباً، لا صعوبة فيه، ولا نكد. ورغد العيش: سعته وطيبوبته. وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58]، المراد بالباب المعروف الآن بباب حطة، هذا الباب أمرهم نبيهم يوشع وقائدهم عليه السلام بأن يدخلوا راكعين، ومن الجائز أن نقول: كان سقف الباب منخفضاً، فلابد وأن يطأطئ الرجل رأسه حتى يدخل، ولسنا في حاجة إلى هذا ما دام لم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد الله أن يمتحنهم: ادخلوا راكعين؛ لأن السجود وضع الجبهة والأنف على الأرض، كيف يمشي الساجد؟ لا يمكنه ذلك.فالمراد من السجود هنا: الخضوع، والذلة، والانكسار بين يدي الجبار؛ شكراً له على الإنعام، والتوبة إليه من التمرد والعصيان. ادخلوا راكعين، والركوع صاحبه يمشي، والصحابي مشى من صف إلى صف بعيد وهو راكع. وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58]، لم ما قال: ركعاً؟ لأن لفظ السجود هو الذي يدل على المطلوب وهو الخضوع، والذلة، والانكسار أمام الجبار حيث أنعم عليهم، وفتحوا البلاد.وإليكم ما يؤكد هذا: كيف دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح ودخلت خيله، ومعه اثنا عشر ألف بطل؟والله دخل ولحيته الشريفة هكذا على قربوس السرج كأنه كتلة، خاشعاً .. خاضعاً .. شاكراً لله نعمته عليه، قربوس لحيته تضرب في قربوس السرج، وما دخل متعنتراً.وهنا من سنين ونحن نذكر جهلنا وهبوطنا وضلالنا، عندما يستقل الإقليم من أقاليمنا المستعمرة، وكلها باستثناء هذا البلد، ما إن يستولوا على الحكم حتى يقيموا حفلات العهر والباطل والغناء، ويطلبوا إخوانهم الذين يسمونهم بالعملاء للاستعمار: اذبح، قتل، دمر، والأفراح إلى عنان السماء.فنقول: هل عرفتم كيف دخل نبيكم مكة وقد أخرج منها؟!ثم لما دخل ووجد إخوانه وقد طأطئوا رءوسهم، وانحنوا في ساحة المسجد الحرام، وهو مصلت السيف، ماذا قال؟ ( ما تظنون أني فاعل بكم يا رجال قريش؟ قالوا: أخ وابن أخ. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، فلم ينتقم من أحد.كيف ما نذكر هذه المواقف؟!والعلة أبنائي معروفة، جهلة ما عرفنا الله، ولا الطريق إليه، ماذا ترجو منا؟ تريد أن تختبرنا؟ عند الباب، آذِ واحداً فقط ولو بنعلك، وانظر ماذا تشاهد؟إذاً: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58]، أي: راكعين، شكراً لله رب العالمين، إظهاراً للإذلال والطاعة لله، المنعم المتفضل. وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58]، ومعنى (حِطَّةٌ): احطط عنا خطايانا، وقد تكون هذه الكلمة بالعبرية، وجاءت في القرآن بحسب لغتهم، ولا بأس أن تكون (حِطَّةٌ) بمعنى: احطط عنا خطايانا، ولها نظير في اللغة على وزن خسة.إذاً: قولوا هذه الكلمة، تعلنون فيها عن ذنوبكم الماضية من الفسق، والضلال، والعصيان، واطلبوا من الله تعالى أن يحط عنكم خطاياكم؛ لتدخلوا طاهرين.والجزاء: قال تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ [البقرة:58]، سبحان الله ما أكرم الله وما أشد حلمه! كأنهم أطفال صغار يربيهم، لا إله إلا الله، وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ [البقرة:58]، خطيئاتكم، وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:58] أيضاً، فالذين عبدوا العجل يغفر لهم، والذين ما عبدوا العجل يزيدهم في إحسانهم .. الذين فسقوا وتمردوا يغفر لهم، والذين استقاموا وما عصوا يزيد في الإحسان إليهم، فالسعادة للجميع، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:58]، نزيدهم من إنعامنا، وإكرامنا، وإفضالنا.

تفسير قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم ...)

قال تعالى مخبراً عنهم: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة:59]، أرأيتم العلة ما هي؟ الظلم، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:59]، ظلموا من؟الظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، فالذين وضعوا الشيء في غير موضعه من بينهم الذين عبدوا غير الله، وضعوا العبادة لغير الله، وهكذا كل الذين قارفوا الذنوب فهم في ذلك ظالمون لأنفسهم، متهيئون للعصيان من جديد والتمرد؛ لأن نفوسهم خبثت، وما بقي فيها نور.

تبديل بني إسرائيل لكلام الله

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة:59]، بدلوا، قالوا: حنطة، بدل حطة، بعضهم قال: حنطة، حبة في شعيرة، أعوذ بالله، هذا نوع من الاستهزاء أو لا؟ولا تنسوا الآن بين المسلمين من يستهزئ ويسخر من كلام الحق، إذا كان ما هو من حزبه أو من جماعته أو من كذا، ويقول كلمات أسوأ من هذا ويسخر، ولا عجب. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:59]، أنفسهم، فشوهوها، وقبحوها، وأصابوها بالظلمة، والنتن، والعفن من جراء الفسق، والفجور، وارتكاب كبائر الذنوب، هؤلاء بدلوا القول الذي قاله الله لهم على لسان يوشع ، ادخلوا راكعين وقولوا: احطط عنا خطايانا، قولوا: حطة، قالوا: حنطة، ودخلوا يزحفون على أستاههم وبلَّغ هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فما دخلوا راكعين، بل دخلوا يزحفون على أستاههم وأدبارهم، ويقولون: حنطة، حبة في شعيرة.أرأيتم الجماعات التي تهبط كيف؟ لا إله إلا الله.

عاقبة تبديل كلام الله

قال: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا [البقرة:59]، نقمة الجبار، الله موجود أو لا؟ نعم. أين هو؟ فوق عرشه .. فوق ملكوته، يدير الملكوت كله.وهذه الفاءات لترتيب السببية على الفور: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:59]، أما الذين ما ظلموا لا حمى، لا نابض، ولا باردة، ولا صداع، الَّذِينَ ظَلَمُوا ، أنزلنا عليهم: رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:59]، (رِجْزًا): عذاب فيه وسخ، وأكثر الروايات أنه اجتاحهم وباء، وهو الطاعون، فما من واحد إلا وهو يخرأ -بلا شك- هذا رِجْز. فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة:59]، الباء سببية، ما قال: بسبب فسقهم، قال: بسبب ما كانوا يفسقون، أي: يتجدد فسقهم في كل أمر وكل نعيم، فسق متواصل؛ لا أنه فسق واحد وآخذهم به وانتهى، لا .. لا، بل بسبب ما كانوا دائمين مستمرين عليه من الفسق، كلما يؤمرون بأمر يسخرون منه ويتركونه.

ضرورة العودة إلى القرآن والسنة

هل في هذه الآيات عبرة للمؤمنين؟ هل تنقضي عبر هذه الآيات؟ والله ما تنقضي ما بقي إنسان يعبد الله.هل المسلمون ينتفعون بهذا؟هل يجتمعون عليه ويدرسونه في المدن والقرى بالنساء والرجال، لا والله، كيف ينتفعون إذاً؟ قولوا لي: كيف؟إذا لم يجتمع المؤمنون والمؤمنات في بيوت ربهم كل ليلة وطول العام من المغرب إلى العشاء يدرسون كتاب الله، ويعملون بهداه أنى لهم أن يعرفوا أو يهتدوا!الآن الأمم المتحضرة التي نتعشق حياتها، ونجري وراءها، إذا دقت الساعة السادسة وقف دولاب العمل، فأغلقت المصانع والمتاجر، ووقف دولاب المزارع وغيرها، وذهبوا إلى اللهو والباطل: دور السينما .. المقاصف .. الملاعب .. المسابح، ونحن أيضاً لا .. لا. نحن نحب الدنيا أكثر، لا نستطيع، إذا غابت الشمس صل ثلاث ركعات المغرب وافتح الدكان وأدر الشغل والمصنع حتى نصبح أقوياء قادرين على أن نضرب أوروبا!ماذا عسانا أن نقول؟ هبطنا إلى الحضيض.كيف نعود؟نعود إذا رجعنا إلى القرآن والنبي، لا أقل ولا أكثر، فالقرآن روح، فلا حياة بدونه، والنبي سراج منير، فلا هداية بدونه.أين نجد الله والرسول والله يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]؟الله: كتابه، والرسول: هديه وسنته.ما عندنا استعداد يا شيخ نطلب هذا، مشغولون نحن! بم؟ بما نهيئه من طعام، وشراب، ولباس، ونكاح، و.. و.. هذا هو شغلنا الشاغل، فليس عندنا وقت.إذاً: هذا شغل الهابطين، أنتم لا تريدون السماء؟ أوه! أين السماء هذه؟ لا تريدون أن تسكنوا في الملكوت الأعلى؟ لا ندري. كيف لا تدرون؟ أما سمعتم الله تعالى يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].كيف تطلع إلى السماء -يا عبد الله- إذا لم تلبس ثياباً خاصة بالطلوع، وإذا لم تستعمل آلات خاصة بالطلوع؟! هل رأيتم طياراً أو من يعرجون إلى الأفق؟ هل يبقون كعادتهم أو يبدلون كل شيء؟ حتى لباسهم يغيروه، ونحن نريد الملكوت الأعلى؟ لا يا شيخ، لا تقل هكذا. لو أردنا صادقين لأقبلنا على الله وأطعناه، لكنها كلمات باللسان فقط.أعيد الآية من جديد وتأملوا: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة:58-59].إذاً: احذروا الفسق والظلم يا أيها المسلمون! فلستم بأشرف من بني إسرائيل.احذروا الفسق والظلم، وقد فعل الله ما علمتم بالظالمين وبالفاسقين من بني إسرائيل، فلا يبقى بعد اليوم ظلم ولا فسق في ديار المسلمين!

تفسير قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر ...)

قال تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60].اذكر يا رسولنا لهم، قل لهم: اذكروا يا معشر يهود! القرآن يفضح سرائركم، ويظهر خفاياكم، وأنتم لا تنكرون هذا، وهل يستطيعون إنكاره؟ لا يستطيعون.اذكروا إذ استسقى موسى لقومه، أين استسقى لهم؟ في مصر؟ لا .. لا.. النيل كاف، هذا في التيه، لما اجتازوا الديار المصرية بانفلاق البحر وخروجهم إلى أرض سيناء، عطشوا في يوم من الأيام، وكادوا يموتون من العطش. فأوحى الله تعالى إلى موسى أن: اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ [البقرة:60]، لعل هذا حجر خاص، أو هو حجر لكن بعد فترة أصبح الحجر معهوداً لهم، يحملونه معهم على البهائم إذا رحلوا، فإذا انقطع الماء وعطشوا يضربه موسى فيتفجر الماء. هذا سحر؟ السحر لا يظهر بهذا المظهر، يظهر بالعين فقط، هؤلاء يشربون، ويغتسلون، ويتوضئون الأيام والليالي. فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ [البقرة:60]، فضرب: بسم الله، فَانفَجَرَتْ مِنْهُ [البقرة:60]، والله اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [البقرة:60]، من هنا عين .. من هنا كالبزبوز كما تسمونه أو الكباس، اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [البقرة:60]، لم هذا العدد؟ لأن قبائلهم اثنتا عشرة قبيلة، وهؤلاء هم الأسباط، أولاد يعقوب عليه السلام، وإخوة يوسف كم كانوا؟ اثنا عشر رجلاً: بنيامين، ويوسف، وعشرة: يهودا ومن معه، كل ولد منهم أصبح شيخ قبيلة، وقبيلة حرب عندنا في الحجاز تفرعت إلى أفخاذ وبطون.إذاً: كل واحد أصبح أبا لقبائل متعددة.فكانوا اثنتي عشرة قبيلة، أي: سبطاً، كل عين يشرب منها سبط حتى لا يتزاحموا؛ لأنهم ما زالوا لم يتربوا في حجور الصالحين، والله ممكن يتضاربون.رأينا الحجاج قبل أن يفتح الله بهذه المياه يتقاتلون في منى، رأينا بعضهم بالسكين في يده على الكباس.إذاً: من رباهم؟ما جلسوا في حجور الصالحين، فالله عز وجل من رحمته وإحسانه بهم جعل لكل قبيلة عيناً خاصة بها، كباس مستقل، وفعل هذا بهم في البحر، فانفلق اثنتا عشرة فرقة، كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]، لأنهم لو مشوا في فرقة واحدة يتزاحمون ويتضاربون، ويقولون الباطل.إذاً: اثنتي عشرة قنطرة أو جسراً يمشون عليه، وكذلك الماء لو كان عيناً واحدة، ولا تنس.كيف حال المسلمين اليوم، إذا تزاحموا على دكان فقط ترى العجب.ولكن ما كل المسلمين هكذا يا شيخ؟إي والله، الذين تربوا في حجور الصالحين، وأصبحوا من ذوي الأحلام والنهى، والعقول، والبصائر، حاشاهم، إنهم كالملائكة في السماء لا يظلمون، ولا يؤذون، ولا يتعرضون لأحد.والذين ما عرفوا يزني بعضهم بنساء بعض.يا شيخ! لا تقل هذا الكلام!والله العظيم، مسلم يزني بامرأة مسلم أو بنته كيف يتم هذا؟ أين قلبه؟ أين عقله؟ أين دينه؟ أين إيمانه؟يا شيخ! يدخلون أيديهم في جيوب إخوانهم وهم يطوفون بالكعبة، ويسلمون على رسول الله، ويسلبون أموالهم من الحرم، صح أو لا؟كيف يتم هذا؟ لأنهم ما ربوا في حجور الصالحين .. ما جلسوا مجالس الهدى .. ما عرفوا الله، ولا بكوا بين يديه، ولا ولا.. ماذا تريد منهم؟ النساء كالرجال على حد سواء، لا يعذر إلا من لم يبلغ الحلم، فما زال لم يبلغ نعفو عنه.

طريق العودة إلى الله

يا شيخ! ما الطريق إلى أن نعود؟ما دام أننا نشعر بهذا الشعور، الجواب: كتاب (المسجد وبيت المسلم).سكت العلماء .. سكت الطلبة، لا أدري ماذا أصابنا؟أسألكم بالله: كم شهراً ونحن في الكتاب؟سنة وأربعة أشهر، ما بلغنا أن طالب علم جمع أهل القرية -بوسائل الحب، والعطف، والرحمة- بنسائهم وأطفالهم، وأخذ يعلمهم الكتاب والحكمة، منذ شهر أو شهرين أو كذا، ما وقع.إذاً: كيف نعود؟ عائدون .. عائدون.جماعة إخواننا الفلسطينيين، أنشودة: عائدون، أين تعودون؟ ومتى نعود؟!إذا عجزنا عن أن نلتقي بربنا في بيته، نبكي بين يديه بنسائنا وأطفالنا، ونتمرغ في التربة بين يديه رجاء أن يرحمنا، ما استطعنا هذا فقط، ونستطيع أن نسود ونقود، وآه! خرافة هذا، ما هو معقول أبداً.لا عودة إلا من طريق: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، يعلمهم ماذا؟ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، يهذب أرواحهم، وأخلاقهم، ونفوسهم.

تذكير بني إسرائيل برزق الله لهم

قال: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ [البقرة:60]، كم؟ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [البقرة:60]، العين مؤنثة: اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا . قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60]، لا إله إلا الله، كل قبيلة عرفت المشرب من أين تشرب؟ لا زحام ولا ولا.. آمنت بالله.وقلنا لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ [البقرة:60]، (كُلُوا وَاشْرَبُوا) كلوا ماذا؟ الكمأة، وكلوا لحم الطير: السلوى.إذاً: وَاشْرَبُوا [البقرة:60]، هذا الماء العذب، هذا ما هو ماء الدنيا، ما هو من تحت الأرض ولا من السماء، هذا بكلمة: كن، فكان، والحجر يحمل أطنان الماء، ويحملونه معهم؛ لأنهم ما هم مقيمين في مكان واحد، كل يوم يرحلون.إذاً: الحجر يحملونه معهم.هل استطاع اليهود أن ينكروا هذا؟ لا ينكرونه، لم -إذاً- تعرضون عن الإسلام؟ بهاليل.والله بودي أن نجلس مع يهود ونتحدث معهم، وهو فيهم نوع من البهللة.أنتم تريدون السعادة أو الشقاء؟ تريدون العز والكمال، أو الهون والدون؟تريدون هذه السعادة؟ والله لا سبيل إلا أن تدخلوا في رحمة الله، كما دخل موسى وهارون من قبل.تريدون العزة والسيادة؟ ما هو بالسحر والمكر والخديعة، والله لن يتم ذلك إلا بالإسلام، احملوا راية الإسلام وقودوا البشرية.يا شيخ! لا تلم اليهود، لُم المسلمين الضائعين التائهين، ألف مليون ما عرفوا الطريق إلى الله إلا من رحم الله.قال: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ [البقرة:60]، هذا رزق الله أو لا؟ ما هو بأيديهم، فالطير ينزل عليهم يمسكونه، يذبحون ويأكلون، والكمأة تخرج من الأرض، مِنْ رِزْقِ اللَّهِ [البقرة:60]، والماء من الحجر.

النهي عن الفساد في الأرض

وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60]، والعِثي: هو شر الفساد، أقبح فساد هو العثي. وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60]، كيف يفسد في الأرض؟ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، كل من يعمل بمعصية الله ورسوله في قرية .. في شارع .. في جبل .. في البحر .. في السماء، فهو يفسد في الأرض.من المفسدون في الأرض؟الذين يستحلون ما حرم الله .. الذين يرفضون فرائض الله .. الذين يتكبرون عن عبادة الله، هم المفسدون في الأرض.بين لنا وجه ذلك يا شيخ؟اسمعوا! القمار .. الزنا .. اللواط .. شرب الخمر .. عقوق الوالدين .. ترك الصلاة .. منع الزكاة، هذه والله كالقنابل المدمرة، تفسد الأرض إفساداً كاملاً.إذاً: كل من يعمل بغير طاعة الله والرسول، قل: إنه يفسد في الأرض، يفسدها لينتهي منها الخير والبركة والرحمة، والطهر، والصفاء، والعدل، والإخاء، وتصبح البشرية كالحيوانات يأكل بعضها بعضاً.الإفساد ضد الإصلاح.فالإصلا : هو أن يعمل البشر بتوجيهات ربهم، وشرائعه، وكمالاته.الإفسا أن يعرضوا عن ذلك، ويتركوه، ويعيشوا على أهوائهم، وما تمليه عليهم شياطينهم، وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60].الله تعالى أسأل: ألا يجعلنا من المفسدين في الأرض ولو بكلمة نقولها باطلة، وأن يجمع كلمة المؤمنين على الكتاب والسنة، وأن يلهم علماءهم أن يعودوا إلى كتاب (المسجد وبيت المسلم) عما قريب إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-24, 03:25 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (55)
الحلقة (62)



تفسير سورة البقرة (26)


"أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير" كانت هذه إجابة موسى لقومه حين رأى جهلهم بما هو خير لهم وأفضل، لم لا؟ أليس العسل خيراً من البصل، واللحم خيراً من الفوم والقثاء؟ ومع هذا قيل لهم: أردتم الهبوط مما أنتم فيه من نعيم فافتحوا مصراً من الأمصار، وستجدون فيه مرادكم، فأعرضوا، ومنعهم جبنهم وخورهم، وزادوا الطين بلة بأن كفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء وعصوا، واعتدوا، فضرب الله عليهم الذلة والمسكنة وحلّ عليهم غضبه، فبعداً لهم، ولمن سلك مسلكهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُو نَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61].ما زال السياق الكريم في موعظة وتذكير بني إسرائيل، والنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم أرسل لهداية الخلق، وإنجاء البشرية عامة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، والقرآن الكريم نزل أيضاً لهداية الخلق، فلا تنقطع هدايته، ولا تنطفئ أنواره إلى أن يرفعه الله تعالى إليه.

جهالة بني إسرائيل بالخير

وها نحن منذ ليالٍ مع بني إسرائيل، ولنستمع إلى ما قال تعالى لهم: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى [البقرة:61]، اذكر لهم يا رسولنا، واذكروا أنتم يا معشر اليهود، إذ قلتم وأنتم في صحراء التيه مع نبي الله ورسوله موسى وأخيه هارون لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61]، وقد عرفنا ما هذا الطعام، إنه المن والسلوى، الحلوى ولحم الطير المشوي، فهل هناك غذاء أتم من هذا؟!هكذا واجهوا نبي الله ورسوله موسى بهذا الكلام الهابط السافل.ويبدو كما أشار بعض أهل العلم إلى أن بني إسرائيل مع موسى ما كانوا يعتقدون رسالته ونبوته، وكأنهم ظنوا أنه خدعهم ومكر بهم، فأخرجهم من الديار المصرية، ولهذا دلائل أيضاً، وظواهر تظهر فيها هذه الحقيقة، أما قالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] في بداية دخول سيناء؟ أما عبدوا العجل؟ صنعوه وعبدوه. إذاً: قلوبهم مريضة، فما هم بواثقين في موسى.أما قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]؟!أما قالوا: فليسمعنا كلامه؟ هذا يقوله مؤمن موقن؟ والله لا يقوله إلا شاك، وما هو بموقن أبداً.فالآن بعد هذه الآيات العظيمة يقولون لنبي الله موسى: لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61]، ما هذا الأسلوب؟! لَنْ نَصْبِرَ أبداً عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ، هذا موقف محرج لموسى، ثم لو كان الطعام الواحد غير كافٍ .. غير مغذٍ .. غير نافع، هذا في ربوة الطعام وقمته، لحم الطير والحلويات، المن والسلوى. فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ [البقرة:61]، وأنتم لم لا تدعونه؟ ما هو ربكم؟! تلاحظ الأسلوب الهابط أو لا؟ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ كأنهم يقولون: نحن ما هو بربنا، أنت الذي تدعي أنه ربك ادعوه، هو الذي أمرك بإخراجنا من ديارنا، والإتيان بنا في هذه المتاهات والصحارى، ادعوه.هل يليق بنا أن نقول مثل هذا الكلام؟ لا. فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا [البقرة:61]، الباقلاء معروفة. المراد البقول مطلقاً من البصل إلى الخردل إلى كذا .. وَقِثَّائِهَا [البقرة:61]، والقثاء معروفة عندنا. وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [البقرة:61]، هذه هي المغذيات، الفوم: قد يكون المراد به البر، يريدون خبزاً، وقد يكون المراد به الثوم نفسه، فالفوم يطلق عليه الثوم، لكن بما أنهم يريدون أكلة غير الحلوى واللحم، ممكن يريدون الخبز .. الحنطة، وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [البقرة:61].فبم أجابهم موسى عليه السلام؟ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُو نَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى [البقرة:61]، أي: أخس وأحط وأرخص، ولا قيمة له، ما قيمة البصل والثوم مع العسل ولحم الطير؟! أَتَسْتَبْدِلُو نَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]، أين يذهب بعقولكم؟!ثم قال لهم: بسم الله، والله هو الذي ينزل أمره ونهيه على لسان رسوله موسى، فقال لهم: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة:61]، وبخهم بالجبن والخور والضعف والهزيمة بمثل هذا الكلام. اهْبِطُوا مِصْرًا من الأمصار، شمال، شرق، غرب، وادخلوا منتصرين فاتحين وكلوا مما طلبتم، أما وأنتم جبناء تعيشون على الضعف والهزيمة الروحية والذاتية، وتترفعون عن أكل ما هو أجود وخير وأحسن، وتطالبون بما هو أخس وأهبط.صلى الله عليك يا موسى، كيف يعاني هذا المعاناة؟! من يقوى على هذه المواقف لولا أن الله عز وجل يعضده ويقويه. اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة:61]، ما دمتم لا تريدون هذا الأكل، وتطلبون غيره، بل وتطلبون ما هو أخس من الثوم والبصل والقثاء، ادخلوا مصراً من الأمصار، اهْبِطُوا ، لم قال: اهْبِطُوا مِصْرًا ؟ لأنهم في مكان عالٍ .. في مكان مرتفع بالنسبة إلى تلك الأمصار التي فيها الشرك، والكفر، والدناءة، والخسة، والهبوط، وانقطاع الوحي والرسالات، وأنتم الآن مع رسولين كريمين، والوحي ينزل .. مع صفوة الخلق، في أعلى مكان وأقدسه، إذ العبرة بما فيه من أنوار، اهبطوا وكلوا مع البهائم كما تأكل، ولكن في نفس الوقت فيه توبيخه لهم بالجبن والضعف والهزيمة، إذ لو ما جبنوا لكان مشى بهم إلى بيت المقدس وفتحها -والله- معهم، لكن انهزموا قبل الوصول إلى الحدود، وما استطاعوا، قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].

ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل

وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة:61]، متى ضربت؟ في أي وقت؟ من ثم بدأتهم؛ لأنهم تمردوا .. كفروا .. فسقوا .. جبنوا، قل ما شئت، فكانت ضربة الله تعالى لهم أن أنزل عليهم الذل والمسكنة، وضربها عليهم فلا يخرجون منها، كالقبة التي تضرب على أهلها، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ فهم دائماً ضعفة .. محتاجون .. فقراء .. لاصقين بالأرض، والذل لا يفارقهم، فلا يستطيعون أن يرفعوا رءوسهم بين سكان العالم، وضربت عليهم كالقبة التي تحوط بأصحابها.ومن ضرب هذا عليهم؟ الله عز وجل. وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61]، رجعوا في نهاية المطاف يحملون غضب الله وسخطه عليهم.أليسوا أبناء الأنبياء وأولاد المرسلين؟ بلى، ولكن فسقوا عن أمر الله، وخرجوا عن طاعة الله، وتمردوا، ووقفوا مواقف مع رسول الله موسى وأخيه هارون لا يقفها ذو عقل من البشر، فلما واصلوا الفسق والخروج عن الطاعة والتمرد والعصيان؛ فقد استوجبوا نقمة الله، فضرب عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61].

علة ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل

يقول تعالى مبيناً العلة: ذَلِكَ الذي تم وحصل، واستقر فيهم، وهو ملازمهم من الذل والمسكنة، ذلك بسبب ماذا؟ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [البقرة:61]، ما معنى: يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ؟ جحدوها، ولم يعترفوا بها، ولم يعملوا بمقتضاها.آيات الله ليست أغاني وقصائد شعرية، آيات الله تحمل الأحكام والشرائع والسنن والقوانين، فالذي بيننا يمنع الزكاة، أو يترك الصلاة، أو يستبيح ما حرم الله، ما آمن بآيات الله، فلا يكفي المرء أن يقول: آمنت بكتاب الله. والله لا يكفيه، ليست قضية لسان: آمنت بكتاب الله، وهو لم يحل ما أحل، ولم يحرم ما حرم، ولم يعترف بواجب ولا بمحرم، يفعل الواجب أو يترك المكروه، فالإيمان ما هو صوري: آمنت. وأنت تضحك وتسخر.فذلك الذي حل بهم، وكان ما أصابهم من الذل والمسكنة هو بسبب كفرهم بآيات الله.وسواء كانت المعجزات التي شاهدوها بأعينهم وهم يعيشون فيها أو كانت آيات الله في التوراة وما تحمل من شرائع وقوانين وبيان الحلال والحرام، ذلك بسبب أنهم كفروا بآيات الله أولاً. وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61]، هل بعد قتل الأنبياء من ذنب؟!وكلمة: (بِغَيْرِ الْحَقِّ) هل هناك ما يستوجب قتل نبي؟ والله لا يوجد، ولكنها من باب التوعية والتفقيه والتعريف والتعليم، لو كان نبياً أو عالماً استوجب ما يقتل به لهان الأمر، لكن بغير الحق .. بغير ما يقتضي قتل النبي والعالم؛ لأنهم كانوا يقتلون الأنبياء ويقتلون العلماء، إذ قال تعالى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21]، فإذا قام العالم يعظ، أو يذكّر: يأمر أو ينهى يغتالونه ويقتلونه؛ لأنه شوش عليهم، أو أفسد عليهم طيب حياتهم، وهذا ليس في التيه، هذا عام إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا استعدادهم إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ أما سقوه السم في خيبر ليقتلوه؟ أما تآمروا عليه هنا في بني النضير ليقتلوه؟ أما دخلوا الحرب ضده مع الأحزاب ليقتلوه؟! ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ [البقرة:61]، وكلمة (يَكْفُرُونَ) ليست كفروا، فما زالوا إلى الآن يكفرون، والمضارع يقتضي الحدوث والتجدد، فما قال: بأنهم كفروا، بل يكفرون إلى الآن، وادعهم إلى الإسلام، واعرض عليهم آيات الله يكفرون بها. وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61]، وإلى الآن لو يجدون نبياً يقتلونه، وكل من يعارضهم في ما هم عليه من الفسق، والباطل، والشر، والفساد يقتلونه حتى ولو كان من بني إسرائيل.لكن ما سبب هذا البلاء؟ ذَلِكَ تم لهم، بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61].هل تريدون أن تعرفوا؟الذي يعتاد منا ذنباً من الذنوب على سبيل المثال: شرب الكوكايين أو الأفيون أو الحشيش، ثبت بما لا مجال للشك فيه أنه يتعذر عليه تركه .. يعجز عن تركه.والذي اعتاد الأضاحيك والسخرية والباطل في مجالس خاصة تضيق نفسه، ويمل الحياة ويسأمها إذا انقطع عن ذلك المجلس، فما يستطيب الحياة.والذي ألف مجلس قمار، ولهو، وباطل إذا استمر يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام يصبح طبعاً له.والذي يعتاد الكذب ويستمرؤه ويستحليه يوماً بعد يوم، عاماً بعد عام، يصبح لا يستطيع ألا يكذب.فالذي اعتاد عادة من العادات الباطلة والسيئة هذا شأنه، والآية تعلل لعلماء النفس بما هو فوق مستواهم، كيف يجرءون على الكفر بآيات الله؟ وما بعد الكفر ذنب، كيف يجرءون على قتل الأنبياء والعلماء من إخوانهم .. من أنبيائهم .. من علمائهم، ليسوا مستعمرين لهم دخلوا عليهم بل هم من جلدتهم فكيف يجرءون على هذا؟!يقول الحكيم جل جلاله، وعظم سلطانه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61]، وكيف تمكنت هذه الحالة السوء من نفوسهم؟ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61]، العصيان، والاعتداء، ومجاوزة الحد والشرع والقانون، ذلك بسبب عصيناهم.فمن هنا حرم الله عز وجل الكلمة الباطلة، كلمة فقط لا تسقط السماء، ولا تتناثر الكواكب، ولا يغور الماء، ولا يموت الخلق، ومع هذا حرم الله كلمة فقط يقولها العبد .. حرم نظرة فقط يتعمدها العبد .. حرم أكل حبة عنب .. حرم كل ذنب لما يترتب على ذلك الذنب من أن فاعله يصبح بعد ذلك غير قادر على تركه، ولا يستطيع التخلي عنه.فالعصيان ما هو؟العصيان: أن يأمر الأمير فلا يطاع .. أن يأمر الأب لا يطاع .. أن يأمر الوالد لا يطاع.العصيان عدم الطاعة، عصى يعصي عصياناً إذا لم يستجب للأمر ولا للنهي.والمراد من العصيان وعدم الطاعة: أولاً: عصيان أمر الله ونهيه .. عصيان أمر موسى وأخيه الرسولين ونهيهما .. عصيان العلماء الرشداء كـكالب ويوشع بن نون وغيرهم من العلماء الذين كانوا بينهم صالحين، وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61]، الاعتداء: مجاوزة الحد، لا يقفون عند ما أحل الله وحرم الله، بل يتجاوزون ذلك، ولا يقفون عندما قنن لهم وشرع، يعتدون اعتداء الحيوانات على ما حرم الله ونهى الله عنه من المأكولات والمشروبات والمناكح وما إلى ذلك.

خطاب الله لبني إسرائيل خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم

معاشر المستمعين! نرجع لهذه الآيات، ولا نشغل أنفسنا ببني إسرائيل، فإننا نحن المأمورون بهذا والمخاطبون.بسم الله الرحمن الرحيم: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61]، فالذين لا يصبرون على الخبز الحلال، واللحم الحلال، والشراب الحلال، ويريدون ما حرم الله من المطاعم والمشارب والملابس، هل صبروا؟ ما صبروا. ويطلبون هذه المحرمات ويسعون للحصول عليها باختراق أسوار الكتاب والسنة، وما الفرق بينهم وبين أولئك التائهين الذين قالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61]؟ فالذي عنده قرص العيش ولا يرضى به ويحاول أن يكذب أو أن يخدع أو يغش أو يسلب ويغصب حتى يأكل اللحم أو البقلاوة، ما بينه وبين أولئك من فرق أبداً، فهو ما صبر، وطالب بغير ما أعطاه الله.والذي يسكن في خيمة .. في عش كما يقولون .. في كوخ .. يسكن في منزل ويقول: إلى متى وأنا هكذا؟ فيقدم على بنوك الربا ويستقرض الآلاف ليبني، ويعتذر يقول: أين أسكن أنا وأولادي؟! وهذه حال عامة في العالم الإسلامي، وهذا أُسأل عنه طول العام: ماذا أصنع؟ ما عندي مسكن أسكنه؟ إذاً: آخذ من البنك بالقرض، وأبني لنفسي وأولادي، هل يجوز هذا؟ هذا هو مسلك بني إسرائيل: لا أصبر على ما أعطاني ربي؛ خيمة من شعر .. كوخ من خشب وقصب، وأسكن كما يسكن الفقراء والمساكين، ولا أتعدى حدود الله وأخرج عن طاعة الله وأبني لي عمارة أو بيتاً بالمال الحرام، فقد ذبحت نفسي وأنا لا أشعر، والذي يجرؤ على مثل ذلك سوف لا يستطيع أبداً أن يقف عند حد من حدود الله، متى طالبته نفسه، وصاحت به شهوته وهواه، ويسترسل وراء هذا.يتجر بتجارة بسيطة على قدر حاله، لا يصبر، لا يحمد الله على أنه وفر قوتاً حلالاً، وهو الخبز والماء، وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شبع من خبز شعير مرة في يوم واحد حتى لقي الله، ولا يرضى بهذا، ويطلب الربا من البنوك ليوسع التجارة، توسع التجارة لماذا؟ ماذا تريد؟ أتقتل نفسك وأنت لا تشعر، ويأتي بالمال الحرام؟!وآخر يريد أن يتزوج فلا يجد ماذا يفعل؟ يدفع مائة ألف مهراً، ويعد حفلاً لكذا، ويطلب المال من المال الحرام من البنك.لعلي واهم! أنا أعجب منا نحن في ديار القدس كم مصرفاً في المدينة؟ خمسة .. ستة .. عشرة.هل بيننا يهود أو نصارى أو مشركون؟ والله لا يوجد.من هم الذين يأتون البنك ويعمرونه حتى ينمو ويزداد ويفتح آخر .. بعد آخر، كيف يتم هذا؟يتم لأننا ما شكرنا نعمة الله علينا، كاليهود لما قالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61]. أو كفرنا وظلمنا وفسقنا يختلف عنهم؟ لا يختلف أبداً.الله يقول: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61]، وعصياننا واعتداؤنا لا بأس به، لأننا ماذا؟ أبناء الأنبياء نحن؟ لا أبداً، هم أبناء الأنبياء، ليس نحن.إذاً: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [البقرة:61]، هذا ينطبق علينا أيضاً أننا نطلب ألواناً من الطعام والشراب والملابس من الخارج؛ من ديار الكفر لنكون مثلهم، وهل يليق بنا هذا؟ لو كنا صالحين نطلب أطعمة ليست من حظنا، ولا من نصيبنا.وأشربة نستوردها، لم ما نشرب الماء الذي عندنا؟ أليس هذا عدم رضا بالنعمة التي بيننا ونطلب غيرها؟ وكيف يصل هذا الطعام والشراب؟ لا تسأل عن حمله وكيف وصل.قال لهم: بسم الله، اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة:61]، أيها الشجعان! أيها الأبطال! يا من آلمكم هذا الغذاء الطيب الطاهر، وتريدون البصل والثوم، وتريدون المعازف، والمقاصف والملاهي، والأباطيل، اهْبِطُوا مِصْرًا [البقرة:61]، اغزوا وافتحوا، فإذا ما استطاعوا، أسكتهم.

عاقبة الاسترسال في المعاصي

قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61] يا معاشر المؤمنين والمؤمنات! كل من يسترسل وراء المعصية، ويمشي وراءها فيحاد الله ورسوله، ويخرج عن طاعتهما فليعلم أنه سيصاب بما أصيب به مَن قبلنا.والعالم الإسلامي مصاب الآن بالذلة والمسكنة، واليهود أصبحوا أرفع منا .. أصبحوا أعز منا، وأكرم منا في العالم، أليس كذلك؟ ألف مليون مسلم أذلهم اليهود، وهذا من عجائب تدبير الله، وهنا لا تنظر إلا إلى الله، هذا الذي يرفع قوماً أذلهم، بل كتب عليهم الذلة والمسكنة، فيرفعهم ويزيل الذل والمسكنة عنهم؛ لنشاهد آيات الله في الكون.والله ما فعل الله هذا إلا من أجل تأديبنا .. من أجل تبصيرنا وفتح أعيننا، علَّنا نعود إليه، ونمد أيدينا إليه بطاعته والإيمان به.ومع هذا ما استفاق النائمون أبداً، وإنها والله لأعظم آية .. أعظم من آيات موسى، ألف مليون مسلم يذلهم الأذلاء .. يمسكنهم الممسكنون، المضروب عليهم الذلة والمسكنة، أليس هذا عجباً؟ إي والله عجب! لم يفعل الله هذا؟ لأنه ليس له من أولياء إلا نحن، فقط نحن المسلمين أولياء الله، فلما تمردنا عليه وخرجنا عن طاعته يبيدنا؟ يصيبنا بوباء ينهي وجودنا؟ ليس إلا نحن مؤمنون. فلابد وأن يؤدبنا، وهو مظهر من مظاهر التأديب الإلهي، وإلا كيف تتصور أن خمسة ملايين يهودي يذلون العالم الإسلامي ويهينونهم؟! من فعل هذا؟ الله الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه، هل أفاق النائمون؟ هل صحا الغافلون؟ ما زلنا كما نحن، ما عرفنا الطريق.وقوله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [البقرة:61]، هذا تعليم لنا أو لا؟ الذين يكفرون بشرائع الله يعطلونها، وأحكام الله يدوسونها ويتعدونها، ينزل الله بهم نقمه، فليس العالم الإسلامي بأشرف أبداً من أبناء الأنبياء وأولاد المرسلين، والله يقول: وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الجاثية:16]، لكن لما فسقوا، وعصوا، وخرجوا عن الطاعة، وحاربوا أولياء الله من الأنبياء والعالمين بالله. انظر ماذا أنزل عليهم؟ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61].الطابع الأخير: ذَلِكَ [البقرة:61] الذي سمعتم سببه: عصيانهم واعتداؤهم. مجرد عصيان؟ إي نعم، ما أطاعوا الله ولا أطاعوا رسوله، وكانوا يعتدون على حدود الله فيتجاوزونها، وهذا أبو القاسم العليم الحكيم صلى الله عليه وسلم يقول لنا: ( اتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )، هل عاشرهم؟ هل عاش معهم؟ كيف عرف هذا؟ إنه الوحي الإلهي.

اتقاء الدنيا بالآخرة

( اتقوا الدنيا )، كيف نتقي الدنيا؟ لا نعطيها قلوبنا ووجوهنا، ونجري وراءها للإكثار منها، للتفوق فيها .. للزائد عن الطعام والشراب واللباس والسكن، فالدنيا إذا أقبلت على العبد وأقبل عليها سلبته مخه وعقله، وأصبح مادياً بحتاً، لا يتحرك إلا في مجال الدنيا.كيف نتقي الدنيا يا رسول الله؟ بماذا نتقيها؟ نتقيها بضرتها الآخرة؛ فنقبل على الآخرة، ونحول همومنا كلها إلى الدار الآخرة، فيخف ما نحن مقبلون عليه من الشهوات، والأهواء، والأطماع في الدنيا.نعم! من أقبل على الآخرة أدبر عن الدنيا وأعرض عنها، ومن أدبر عن الآخرة وأقبل على الدنيا أكلته وأخذته، فأصبح أسيراً لها وعبداً.( اتقوا الدنيا )، بم نتقيها يا رسول الله؟ نتقيها بالآخرة، فبدل أن يكون همنا منصب على الدنيا: الأكل، والشرب، والنكاح، واللذة، واللباس، والمركوب، ولا نعطي للآخرة إلا جزءاً لا قيمة له. اليوم أربعاً وعشرين ساعة لا نعطي للآخرة ولا ساعة، الذين يصلون خمس صلوات عبارة عن ساعة إلا ربعاً، أين الأربع والعشرين ساعة؟! ماذا أعطينا للآخرة؟ مع أن الآخرة خير وأبقى، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17].

واتقوا النساء

ونتقي النساء، كيف نتقي النساء؟ بم نتقي النساء؟نتقي النساء بتعليمهن بما يحب الله ويكره الله، ليلزمن البيوت، يذكرن الله ويعبدنه.نتقي النساء بعدم فتح باب الخلاعة والدعارة لهن.نتقي النساء بألا نجري وراء النساء، فيسلبن قلوبنا وعقولنا، ويصبح لا هم لنا إلا النساء.وقد أصيب من قبلنا بهذه المحنة، فاليهود أهل كتاب كان سبب هلاكهم ودمارهم النساء، وها نحن نركض في نفس الطريق من إندونيسيا إلى المغرب، في نفس المسلك: الدنيا والنساء ( فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ).وقد ذكر لنا الكعب العالي، فإذا به يباع في المدينة، كانت اليهودية إذا كانت قصيرة الجسم لا تظهر طويلة في الشارع تلبس حذاء كعبه عالي، الآن نساؤنا وبناتنا يلبسن هذا، كيف تم هذا؟

طريق النجاة

المهم يا معاشر المستمعين والمستمعات! أن نعلم أننا غارقون، ولا منقذ لنا إلا الله، وطريق الإنقاذ الصدق في الإيمان، ثم الإقبال على الله، فنطلب رضاه بسلوك المسالك التي أمرنا أن نسلكها في كلامنا .. في نومنا .. في يقظتنا .. في لباسنا .. في طعامنا .. في شرابنا .. في تجارتنا .. في فلاحتنا، في كل مظاهر حياتنا، وما عندنا شيء تركه رسول الله ولم يبينه، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ( ما مات رسول صلى الله عليه وسلم وترك شيئاً ينفع هذا الأمة وما دلهم عليه، ولا يضرها وما بينه لهم، حتى قال: علمنا كل شيء حتى الخراءة )، كيف نجلس في المرحاض؟ نجلس جلسة خاصة علمنا ذلك، وإذا بنا نعرض إعراضاً كاملاً، ولم يبق بيننا إلا القليل الذين يحاولون أن يسلكوا مسالك الهدى وأن يسلكوا سبل الخير.وكيف الطريق؟الطريق فقط أن نعود إلى المسجد، فالمسجد ملتقى أرواح المؤمنين من الملائكة، ومن الإنس والجن، بيت الله.كيف يا شيخ؟كهذا الجلوس. اسمع يا بني! واسمعي يا أمة الله! لو كان أهل كل قرية هم الآن جالسون هذا المجلس، فلا دكان مفتوحاً، ولا عمل ولا ولا.. غابت الشمس فهم في بيت الرب، يتلقون الكتاب والحكمة، فكل مسجد في أي حي من أحياء المدن غابت الشمس وهم في بيت الله، أسألكم بالله: هل يضيعهم الله؟هل يسلط عليهم وباء أو أعداء؟هل يبقى بينهم من تسول له نفسه أن يسرق أو يفجر أو يزني أو يعهر؟هل يبقى بينهم من يكيد ويمكر، أو يحسد ويغش إخوانه المؤمنين؟والله لا يبقى؛ لأنه العلم، والعلم معرفة الله، إذ كل ما نشكوه وتشكوه البشرية -كما قدمنا وقررنا- هو الجهل بالله وبمحابه ومساخطه وبما عنده وما لديه، فمن لم يعرف الله لا يطيعه، ومن لم يعرف الله لا يحبه، ومن لم يعرف الله لا يستجيب لندائه.أولاً: معرفة الله، كيف يمكننا أن نعرف الله يا معاشر المستمعين والمستمعات؟ ما الطريق؟الطريق أن نجتمع في بيته ويتلى علينا كتابه، وتبين لنا سنة نبيه، ونطالب بفعل الأمر وترك النهي، وبالتأدب والتخلق لما يحب الله ورسوله، ولنصبر على ذلك، والعام بعد العام وإذا بنا أمة ربانية، فيصبح حكامنا ربانيين، وعلماؤنا ربانيين، ونصبح في وضعية قد نسود فيها العالم، ولا نريد السيادة، وإنما نريد أن نقود البشرية لننقذها من جهنم والخلود في عالم الشقاء.البشرية الآن في أوروبا، وأمريكا، واليابان، والصين تستغيث وتستصرخ، قد أكلها الباطل والشر والدمار، فمن ينقذها؟ ومن يمد يده إليها؟ المؤمنون، الربانيون، العالمون؛ أولياء الله.والذي يعزيني أنا بالذات أن نقول: هذا جزاؤهم، فقد مكروا بالإسلام، وغشوا الناس وخدعوهم، وورطوا العالم الإسلامي في هذا الذل والعار، وهذا الجهل، وهذه الذنوب؛ فليبقوا على كفرهم، وفسقهم، وفجورهم، وضلالهم حتى يخلدوا في عذاب النار، وإن كان هذا لا يكون لكل واحد، فالطغمة التي تحاول ضرب الإسلام مجموعة خاصة، كجمعيات التنصير، وأغلب الشعوب هابطة لا تعرف إسلاماً ولا مسلمين.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً...)

من كتاب أيسر التفاسير

قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا [البقرة:58-59]، يصلُّون؟ يجاهدون؟ يتواصلون؟ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة:59]، احذر يا عبد الله الفسق، احذرِ يا أمة الله الفسق! ما الفسق يا شيخ؟! الخروج عن طاعة الله؛ أن يأمرك الله بكذا فتخرج عن الأمر، أن ينهاك الله عن كذا فتتحداه وتفعله، والله لهذا هو الفسق.

شرح الكلمات

قال المؤلف: [ شرح الكلمات:(الْقَرْ يَةَ): مدينة القدس.(رَغَدًا): عيشاً واسعاً هنيئاً.(سُجَّدًا ): ركعاً متطامنين لله، خاضعين شكراً لله على نجاتهم من التيه.(حِطَّةٌ): فِعلة مثل ردة وحدة من ردت وحددت، أمرهم أن يقولوا حطة بمعنى: احطط عنا خطايانا، ورفع (حِطَّةٌ) على أنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: ادخلوا الباب سجداً حطة لذنوبنا.(نَغْفِر ْ) بمعنى: نمحو ونستر.(خَطَايَاك ُمْ): الخطايا جمع خطيئة، الذنب يقترفه العبد.(فَبَدَّلَ ): غيروا القول الذي قيل لهم، قولوه وهو حطة فقالوا: حبة في شعيرة.(رِجْزًا): وباء وطاعون.(يَفْسُقُ ونَ): يخرجون عن طاعة الله ورسوله إليهم، وهو موسى ومن بعده].

معنى الآيات

قال المؤلف: [ معنى الآيتين: تضمنت الآية الأولى (58) تذكير اليهود بحادثة عظيمة حدثت لأسلافهم تجلت فيها نعمة الله على بني إسرائيل وهي حال تستوجب الشكر، وذلك أنهم لما انتهت مدة التيه وكان قد مات كل من موسى وهارون، وخلفهما في بني إسرائيل فتى موسى يوشع بن نون ، وغزا بهم العمالقة وفتح الله تعالى عليهم بلاد القدس أمرهم الله تعالى أمر إكرام وإنعام فقال: ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا [البقرة:58]، واشكروا لي هذا الإنعام بأن تدخلوا باب المدينة راكعين متطامنين قائلين: دخولنا الباب سجداً حطة لذنوبنا التي اقترفناها بنكولنا عن الجهاد على عهد موسى وهارون، نثبكم بمغفرة ذنوبكم ونزيد المحسنين منكم ثواباً.كما تضمنت الآية الثانية حادثة أخرى تجلت فيها حقيقة سوء طباع اليهود وكثرة رعوناتهم وذلك بتغييرهم الفعل الذي أمروا به والقول الذي قيل لهم، فدخلوا الباب زاحفين على أستاههم قائلين: حبة في شعيرة! ومن ثم انتقم الله منهم فانزل على الظالمين منهم طاعوناً أفنى منهم خلقاً كثيراً جزاء فسقهم عن أمر الله عز وجل، وكان فيما ذكر عظة لليهود لو كانوا يتعظون ].

هداية الآيات

قال المؤلف: [من هداية الآيتين: أولاً: تذكير الأبناء بأيام الآباء للعظة والاعتبار.ثانيا : ترك الجهاد إذا وجب يسبب للأمة الذل والخسران]، كما حصل لنا مع اليهود.[ثالثاً: التحذير من عاقبة الظلم والفسق والتمرد على أوامر الشرع]. كما تعرفون.[رابعاً: حرمة تأويل النصوص الشرعية للخروج بها عن مراد الشرع منها]. كما يفعل جماعتنا.[خامساً: فضيلة الإحسان في القول والعمل].
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر ...) من كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال المؤلف: [شرح الكلمات:(اسْتَسْ قَى): طلب لهم من الله تعالى السقيا، أي: الماء للشرب وغيره.( بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ): عصا موسى التي كانت معه منذ خرج من بلاد مدين]، فقد كان يرعى الغنم لشعيب عليه السلام، وتلك هي العصا التي امتحنه الله فيها قبل دخول مصر، وأصبحت ثعباناً يهتز كأنها جان.قال: [ وهل هي من شجر الجنة هبط بها آدم؟ كذا قيل، والله أعلم]، ما عندنا ما ننفي ولا نثبت.قال: [ والحجر هو حجر مربع الشكل من نوع الكذّان رخو كالمدر ] كالطين [ وهل هو الذي فر بثوب موسى في حادثة معروفة كذا قيل، أو هو حجر من سائر الأحجار؟ الله أعلم ] تعرفون الحجر الذي هرب بثوب موسى؟ بنو إسرائيل قالوا: موسى آدر، به أدرة. أي: خصيته منتفخة، فلهذا لا يغتسل معنا في ساحل البحر. فأراد الله أن يكذبهم، فدخل موسى وحده يغتسل ووضع ثوبه على حجر -صخرة- ولما خرج وإذا بالحجر يهرب .. يزحف بالثوب، ناداه موسى: ثوبي حجر .. ثوبي حجر، لا يسمع له، حتى دخل في بني إسرائيل، وشاهدوا موسى عرياناً وما به أدرة. وهذا جاء من سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]. هل هو هذا الحجر؟ جائز، والله أعلم. لما يذكر أهل التفسير القول ما فيه كتاب ولا سنة، ما ننفي، لكن نقول: الله أعلم.قال: [ ( فَانفَجَرَتْ ): الانفجار الانفلاق. ( فَانفَجَرَتْ ) انفلقت من العصا العيون ] الاثنتا عشرة عيناً.[( مَشْرَبَهُمْ ): موضع شربهم.( رِزْقِ اللَّهِ): ما رزق الله به العباد من سائر الأغذية.(وَلا تَعْثَوْا): العَثي والعِثي: أكبر الفساد. وفعله عثي كرضي، عثي يعثى كرضي يرضى، وعثا يعثو، كعدا يعدو]. أقبح الفساد، أو هو نشر الفساد. كيف ينشر الفساد الناس؟ يفتح. تعرفون ما يفتح؟ يفتح فمه؟ يفتح الفيديو، يفتح سينما.قال: [ ( مُفْسِدِينَ ): الإفساد العمل بغير طاعة الله ورسوله في كل مجالات الحياة ]. والله العظيم لكل من عمل بغير ما شرع الله ورسوله لهو مفسد في الأرض، ولن يفسد شخص ولا أقليم ولا أمة إلا بمعصية الله والرسول.قال: [( البقل ): وجمعه البقول سائر أنواع الخضر كالجزر والخردل والبطاطس ونحوها.( القثاء ): الخيار والقثه ونحوهما.( الفوم ): الحنطة، وقيل: الثوم لذكر البصل بعده ] والله أعلم. لكن الراجح أنه الحنطة لأجل الخبز، فهم يطلبونه.قال: [ ( أَتَسْتَبْدِلُو نَ ): الاستبدال ترك شيء وأخذ آخر بدلاً منه.( أدنى ): أقل صلاحاً وخيرية ومنافع كاستبدال المن والسلوى بالثوم والبقل.( مصراً ): مدينة من المدن، قيل لهم هذا وهم في التيه، كالتعجيز لهم والتحدي؛ لأنهم نكلوا عن قتال الجبارين، فأصيبوا بالتيه وحرموا خيرات مدينة القدس وفلسطين.( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ): أحاطت بهم ولازمتهم الذلة وهي الصغار والاحتقار.( والمسكنة ): هي الفقر والمهانة.( باءوا بغضب ): رجعوا من طول عملهم وكثرة كسبهم بغضب الله وسخطه عليهم -والعياذ بالله- وبئس ما رجعوا به.( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ): ذلك إشارة إلى ما أصابهم من الذلة والمسكنة والغضب، وبأنهم أي بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء وعصيانهم، فالباء سببية ].وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-26, 05:35 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (56)
الحلقة (63)



تفسير سورة البقرة (27)

ركنان أصيلان من أركان الإيمان ينبثق عنهما بقية الأركان هما: الإيمان بالله واليوم الآخر، فمن آمن بهما حق الإيمان وأتبعهما العمل الصالح استحق الأمن والفرح، هذه قاعدة عامة من لدن آدم إلى قيام الساعة، بما في ذلك اليهود، الذين كثيراً ما يراوغون، ويردّون أوامر الله، وينقضون مواثيقه، بل من عجيب أمرهم أن الله رفع فوقهم جبل الطور ليعملو بما في التوراة فخروا خاضعين، ثم ما لبثوا أن ارتدوا على أدبارهم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين ...)

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطعِ الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [البقرة:62-64] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!اذكرو أن هذه الآيات تنزل واليهود من سكان المدينة، واليهود -كما عرفتم- شعب يقال لهم: بنو إسرائيل، ثم عرفوا باليهود، وهؤلاء بينهم علماء من ذوي العلم والمعرفة؛ لأنهم أهل كتاب، ولكن حبهم العاجلة، ورغبتهم في الدنيا، وتطلعهم إلى الحكم والسيطرة والسيادة صرفهم صرفاً كاملاً عن الإسلام، ورضوا بالنار من أجل أن يصلوا إلى هدفهم الذي لن يصلوا إليه بإذن الله.وهذه السورة مدنية من أوائل ما نزل بالمدينة، فبدأت تذكرهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40]، اذكروا عهودكم لله ومواثيقه، ويستعرض عليهم ما كان عليه أسلافهم قروناً متعددة؛ من أجل هدايتهم .. من أجل رحمتهم والإحسان إليهم.وقد تقدم لنا الكثير وهو يقول لهم: اذكروا كذا .. اذكر يا رسولنا لهم كذا.وآخر ما ذكرهم به هو قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61] فهذا الموقف في الحقيقة يجعلهم ييأسون من رحمة الله بما سجل الله تعالى عليهم: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فلا تفارقهم وَالْمَسْكَنَةُ كالقبة عليهم لا يخرجون منها؛ بسبب كفرهم بآيات الله .. قتلهم للأنبياء .. عصيان، وتمرد، وخروج عن طاعة الله بلا حد.ومعنى هذا -كما قدمت لكم- أنه أيأسهم من الخير بالكلية حسب الخطاب الإلهي، لكن رحمة الله واسعة، والله غفور رحيم، والله تواب رحيم، فاسمعوا ماذا قال، وهو فتح لباب الرجاء لهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]. فلا تقنطوا ولا تيأسوا، آمنوا واعملوا الصالحات فينتفي عنكم الخوف، ويحق لكم الأمن، ويذهب الحزن، ويحل محله السرور والفرح، نِعمَ الباب فتحه الرحمن.

المسلمون هم أهل الإيمان الحق

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:62]، وهم نحن إن شاء الله، فالذين آمنوا إيمان حق وصدق، لا إيمان نفاق وكذب .. آمنوا الإيمان المطلوب، الذي هو تصديق الله تعالى، وتصديق رسوله في كل ما أخبرا به، سواء كان مما تدركه العقول أو تعجز دونه العقول، وسواء أخبر الرحمن بخبر في الملكوت الأعلى أو الأسفل، في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، أو أخبر رسولُه صلى الله عليه وسلم وصح الخبر؛ لأن أخبار الله في القرآن لا يعتريها النقص ولا الزيادة، إلا أن أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ما هي إلا روايات تروى وأحاديث تؤثر، فلابد وأن يصح الخبر.فإذا صح الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه قال كذا، فمن كذبه كفر.لكن إذا كان الحديث ضعيفاً أو له احتمالات أخرى فلا يكفر، وإن كنا لا نرضى له هذا الموقف، ما دام قد بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لا يحمل على محمل الكفر؛ لأن الروايات فيها ما يقبل وفيها ما يرد كما تعلمون. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:62]، وهم المسلمون بحق وصدق.

سبب تسمية اليهود بهذا الاسم

(( وَالَّذِينَ هَادُوا ))[البقرة:62]، وهم اليهود.لِم قيل فيهم: (هادوا) وقيل فيهم: اليهود؟إما أن يكون الاسم مشتقاً من يهوذا بن يعقوب عليه السلام، يهوذا أخو يوسف وابن يامين، فأسقطوا النقطة عن الذال فأصبح دالاً: يهود، لكن الأصح أنه مأخوذ من قولهم: (هدنا إليك) من هاد يهود إذا عاد ورجع وتاب، وهم بالفعل في حادثة العجل في سورة الأعراف، جاء قول الله تعالى عنهم: (( إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا .. ))[الأعراف:156] الآيات، (هُدْنَا) أي: رجعنا، فهذا الأصل في كلمة (يهود).(( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا )) أي: رجعوا إلى الله وتابوا، وهو يعني اليهود.

سبب تسمية النصارى بهذا الاسم

(( وَالنَّصَارَى )) والنصارى هم المسيحيون إن صح التعبير؛ لأنهم ينتسبون إليه، أو الصليبيون كما هو حالهم، والصلبان في أعناقهم.هؤلاء هم النصارى. لكن من أين اشتق هذا اللفظ؟أقرب ما نقول: إنها من قرية الناصرة التي ولد فيها عيسى عليه السلام، إذ كانت بها والدته مريم عليها السلام، أو من النصر، أو المناصرة، فالكل جائز، والعبرة ليست بالاشتقاق، العبرة أن نعرف من هم النصارى، ألا هم الصليبيون؛ المسيحيون؛ الذين عبدوا عيسى عليه السلام وألّهوه، وجعلوه ثالث ثلاثة، سواء كانوا عرباً أو عجماً، بيضاً أو سوداً.

التعريف بالصابئين

(والصابين) هكذا قراءة ورش عن نافع، بإسقاط الهمزة: (والصابين)، ومن همز قال: (وَالصَّابِئِين )، والعرب تقول: صبأ فلان إذ مال عن دينه ودين آبائه وأجداده إلى دين محمد .. إلى لا إله إلا الله، يقولون فيهم: صابئة.والصابئة: فرقة من الناس كانت ديارهم بأرض الموصل، وهم ليسوا بيهود ولا بنصارى، يقولون: لا إله إلا الله، ولم يتابعوا المسلمين، ولا اليهود، ولا النصارى. هؤلاء هم الصابئة، وهم الصابئون والصابون.

عظم منزلة الإيمان بالله واليوم الآخر

وهؤلاء الفرق أهل الأديان: المسلمون واليهود والنصارى والصابئون، يقول تعالى -واسمع الخبر-: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:62]، كيف يؤمن بالله واليوم الآخر؟ يؤمن بوجود الله رباً وإلهاً، فلا رب غيره، ولا معبود سواه، بيده ملكوت كل شيء، وإليه المصير، المعبود بحق، الذي هو رب السماوات والأرض وما بينهما، رب العالمين، رب موسى وهارون، ورب عيسى ومحمد وعامة المرسلين، من آمن منهم بالله رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه. ولازم هذا أنهم انقادوا ومشوا في سبيل مرضات الله عز وجل. وهذه القضية أصبحت عندنا من الضروريات أن الإيمان بمثابة الروح، فإذا حل الإيمان في القلب اندفع العبد، فيمكن أن يغض بصره .. أن يسد سمعه .. أن يكف لسانه .. أن يمنع يده .. أن يوقف رجله لوجود طاقة عنده، فإن لم يكن مؤمناً أو إيمانه ضئيل وضعيف لا قيمة له، فلا يستطيع حتى كلمة الحق أن يقولها. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:62] وهل هناك يوم أول ثم يوم آخر؟ نعم، الحياة الدنيا هي الأولى، والآخرة هي القيامة، اليوم الآخر الذي تنتهي فيه هذه الحياة، وتبتدئ حياة جديدة حياة الخلد والبقاء الأبدي، وهذه كالدورة فقط يقضيها الناس، وينتهون إلى دارهم الخالدة الباقية، إذ شاء الخلاق العليم هذا، فأوجدنا على سطح هذه الأرض مؤقتاً، ولما تنقضي الساعة والأجل يتحلل الكون، ويتبخر كل ما فيه، ويعود سديماً وبخاراً، وإذا بنا في العالم الثاني؛ اليوم الآخر، تمر السنة والشهر والأسبوع، ويوم بعد يوم، ويأتي يوم آخر، يوم ليس بعده يوم.والذين يؤمنون باليوم الآخر، هذا الجزء هو داخل في الإيمان، وأركان الإيمان ستة، هي: الإيمان بالله، وبملائكته، وبكتبه، وبرسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ولكن الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر هما الطاقة القوية القادرة على أن تدفع بالإنسان حيث يموت في سبيل الله.فالذي يضعف إيمانه بالله يضعف عمله، والذي يضعف إيمانه باليوم الآخر يضعف عمله أكثر، ولا يقوى على أن يصلي ركعة لله؛ لأنه آيس من جزاء يتلقاه ويعطاه بعد نهاية الحياة، فهو لا يؤمن بنهايتها؛ ولهذا عندما تتتبّع القرآن تجد: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232]، إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، في النساء .. في الحيض: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228].يا معشر المستمعين والمستمعات! قووا إيمانكم بالله وبلقائه، أي: باليوم الآخر، فإذا حصل ضعف أو فتور في الركنين حبست يا ولدي، ولم تستطع أن تتحرك، فقوِ إيمانك بالله واليوم الآخر.وحسبنا أن الله اشترط للأمن والسرور والفرح هذا الشرط: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ .

حقيقة العمل الصالح وشروطه

وَعَمِلَ صَالِحًا [البقرة:62] وعمل عملاً صالحاً.وقد عرف أهل الدرس -زادهم الله معرفة- أن العمل الصالح هو الذي أمر الله بفعله، أو أمر رسوله بفعله، وأن يفعله عبد الله ولا يريد به إلا وجه الله، وهو ما يعرف بالإخلاص، أي: أن لا يلتفت إلى شيء وهو يؤدي ذلك العمل لله.ثانياً: أن يفعله حسب التعليم الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا لن يكون صالحاً.أعيد ما قد ينساه الناسون وهو أن العمل الصالح المزكي للنفس .. المطهر للروح .. المنتج للخيرات والبركات، هذا العمل أولاً: أن يكون قد شرعه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والدليل: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، هذا الحديث ربع الشريعة أو ثلثها ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، أي: مردود على صاحبه، فلو قام الليل كله في عبادة لم يشرعها الله لن يُجزَ بها أبداً خيراً، ولو أنفق كل ماله في غير ما أذن الله واستحب وشرع -والله- لن يستفيد شيئاً، ولهذا نجانا الله من البدع، فأهل البدع ينفقون الأموال، ويقضون الساعات بله الأيام والليالي ويخرجون بلا شيء، ولا حسنة، لِم؟ لأن ما عملوه ليس عملاً صالحاً، فما شرعه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا ) ما شرعناه، فهو رد على فاعله، سواء كان من أعمال القلوب أو الألسن أو الجوارح، كالجماعة الذين يجلسون في مجلس طيب مبارك! ويذكرون الله: (هو .. هو .. هو .. هو .. هو .. هو) ساعات.وقد حدث مرة في فرنسا أن الجيران الفرنسيين استدعوا الشرطة قالوا: ما الذي أصاب هذا الجار؛ لأنهم جالسين على سقف خشب ويضربون (هو.. هو.. هو) تهولت الدنيا، كالذين يذكرون: (الله .. الله .. الله .. الله .. الله .. الله) ساعتين أو ثلاثاً أو أربعاً.هل الله عز وجل شرع هذا الذكر؟!هل الرسول صلى الله عليه وسلم علمه أمته؟ بينه لزوجاته وبناته؟ علمه أصحابه؟ من أين لكم أنتم؟ فقط لأن فيه روحانية ولذة: (الله .. الله .. الله .. الله) فلا يعطون ولا حسنة.أصحاب الموالد .. الذبائح .. الأموال .. قناطير السكر، وأكياس الشاي، يظنون أنهم يثابون، ولا حسنة واحدة أبداً، سواء كان مولد سيد الخلق أو مولد سيد البدوي لا فرق بينها، كلها واحدة؛ لأن الله ما شرع الموالد.نعم. من ولد له ولد ذكر أو أنثى وفي اليوم السابع يذبح لله عز وجل؛ شكراً له على نعمة الولد، نعم، يثاب. على البنت شاة، وعلى الذكر شاتان، هناك من يقول: لا ينفع؟ ممكن يقولها عاقل؟ هذا تشريع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا المولد مشروع، أما بعد أن تمضي أربعون سنة ويقال: ذكرى مولد والدتي؛ لأنهم بيت غنى، فلا.الشاهد عندنا: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).اسمعوا أغلظ لكم: لا يجوز لمسلم جالس الآن أو مسلمة يقوم من هذا المكان ولا يحفظ هذا الحديث، فقد تساهلنا كثيراً وضاع العلم، وكيف لا تحفظ هذه الكلمة، قلها بالبربرية .. بالإنجليزية، علمها أهلك: الرسول الكريم نبينا صلى الله عليه وسلم يقول لنا: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) تعجز عن هذه الكلمة، إذاً: كيف تعيش؟ لِم تعرف اللحم؟ والخبز كم يساوي؟!( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) إن قلت: ما فهمت معنى (ليس عليه أمرنا)؟ أي: ما أمرنا به، ولا دعونا إليه، ولا رغبنا فيه، ولا بيناه للناس، فهو بدعة، يعني: ابتدعت واخترعت.ما فهمت معنى ردّ! ما تفهم معنى ردّ! أي: مردود على وجهك، لا يقبل. أغلظت لكم أو لا؟والله إنها لخير لك من خمسين ألف ريال، يا من كنت لا تحفظ وقد حفظته، والله إنه أفضل من خمسين ألف ريال. هذا نور، ومن يوم أن عرفنا هذا الحديث لا يستطيع أحد يروج علينا بدعة أبداً، كيفما كانت ننفر منها ونهرب: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، اضرب به وجهه، لا تدعُني إلى باطل.نريد عملاً يزكي نفوسنا .. يطهر أرواحنا .. يوجد مادة النور في قلوبنا.ثانياً: أن تفعله كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تزد ولا تنقص، فإن زدت أو نقصت فيه بطل مفعوله وفسد، ولا تقدم ولا تؤخر، فإن قدمت أو أخرت أجزاءه بطل مفعوله ولا ينتج.وعندنا مثالان مركبات الكيمياويات: حبة الآسبرين كم جراماً فيها؟ خمسة جرامات، يقول الطيب: هذه اشربها بعد الأكل، فأنت قمت تقسمها على خمسة أقسام أو ستة وتأخذ جزءاً منها فقط، ينفع؟ لا ينفع. تقول: ماذا حبة، تأخذ عشر حبات مع بعضها البعض، ينفع أو يقتل؟ هذا مثال.أما المثال العملي: صلاة المغرب كم ركعة؟ ثلاث ركعات، فلو قمنا ونحن مسلمون، مؤمنون، وصالحون، هيا نصلي المغرب خمساً الليلة لله، وصلينا خمس ركعات، هل يوجد تحت السماء من يقول: صلاتكم صحيحة؟! لماذا نحن كفرنا .. أشركنا .. كذبنا رسول الله، ما هو ذنبنا؟ الفقيه يقول: لا، صلاتكم باطلة، بمعنى: لا تنتج لكم الحسنات، وما ولدت شيئاً؛ لأن مفعولها بطل لفسادها، ومن أين أتاها الفساد؟ من الزيادة، زدنا ركعتين.

النقصان من دين الله كالزيادة فيه

والنقصان كالزيادة، فلو قلنا: يا جماعة! نحن الآن في تعب وإعياء هيا نصلي المغرب ركعتين فقط، ونحن مسلمون، ربي ليس في حاجة إلى هذا الركوع والسجود، وصلينا ركعتين، هل يفتينا فقيه تحت السماء في الشرق والغرب بأن صلاتنا صحيحة، فيقول: صحيحة؟ والله لا يوجد من يقول ذلك.إذاً: الزيادة كالنقصان؛ لأنها مركبات أدق من الكيمياويات؛ لأنها وضعت لتنتج النور .. لتولد الكهرباء، ليست قضية هينة، أمن السهولة واليسر أن تولد أنت الكهرباء بدون أجهزتها وأدواتها؟ اضرب بعصاك وولّد!فهذه العبادة لتوليد النور، فإن لم تكن مما شرع الله والله لن تولدها، فإن لم تأتِ بها كما هي في صفتها .. في كميتها، والله لا تولده.العمل الصالح هو ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وراعى فيه فاعله الإخلاص، فإن أشرك بطل، وإن التفت إلى غير الله يريد أن يريه عمله ليثني عليه، أو يشكره، أو يجزيه به خيراً، أو يدفع عنه المذمة بطل العمل، واقرءوا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ماذا؟ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]. والرسول يقول: ( إياكم والشرك الأصغر. قالوا: يا رسول الله! ما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء )، كأن يتصدق الرجل صدقة لله، ويريد أن يسمع بها الناس ويروها. يدخل في الصلاة يحسنها .. ينمقها .. يزينها حتى يقال: فلان يحسن الصلاة، هذا هو الرياء، وهو يبطل العمل.فلا يقبل الله تعالى إلا ما كان لوجهه خاصة، فإن التفت إلى غير الله فاطلب الأجر من غير الله.

ضرورة التقيد بزمان العبادة ومكانها

أرأيتم لو صلينا العشاء الليلة، وقال خادم الحرمين -أطال الله عمره-: غداً أهوال، صلوا الصبح حتى ما ترجعوا الليلة من بيوتكم. وصلينا الصبح بعد صلاة العشاء، هل يوجد تحت السماء من يقول: صلاتكم صحيحة؟ يا شيخ! ما فعلنا إلا الطاعة؟ أبداً، صلينا لله، الله ليس في حاجة إلى الزمان ولا المكان، صلاتنا ما بها؟الجواب: صلاتكم باطلة، وما معنى باطلة؟ لا أجر فيها، ولا ثواب عليها؛ لأن مولاها ما قبلها، والعلم عندكم؛ لأنها لا تزكي النفس، ولا تولد الطاقة النورانية؛ لاختلالها، وهذا هو سرها.الآن عرفتم ما هو العمل الصالح؟رقص! شطح! أضاحيك! ألاعيب! بدع وضلالات!العمل الصالح: هو ما شرعه الله لعباده لتزكية أنفسهم وتطهير أرواحهم ليقبلهم في جواره؛ لأن الله يحب المتطهرين، وهذه الطهارة لن تتم إلا على تلك العبادات التي شرعها الله وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في الكيفية والعدد، والزمان، والمكان.ومثلنا غير ما مرة: لو عزمنا هذا العام أن نقف بأحد، وجبل أحد جبل عظيم، قال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( أحد جبل يحبنا ونحبه )، فلما جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نهاية معركة أحد اضطرب، ماذا؟ قال: ( اسكن أحد ما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان )، فنادى الجبل: اسكن يا أحد، لم تضطرب؟ ما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان، وسكن، قلنا: هذا العام الوقفة في أحد. هل يقال: هؤلاء حجوا؟ لأن الوقفة تكون بعرفة. قلنا: هذا العام ننقلها إلى المدينة، فهي حرم، ومكان مقدس. والله ما حجوا أبداً، ولن يحدث هذا الوقوف في نفوسهم أقل من جرام نور.لابد من المكان أو لا؟( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقبرة والمجزرة وقارعة الطريق ومعاطن الإبل )، فلو صلينا حيث نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم تصح الصلاة في المقبرة، والمجزرة، ومعاطن الإبل، وقارعة الطريق. وقارعة الطريق حيث يقرع الناس الأرض بأرجلهم، أي: ممر الناس، فأنت تأتي وسط الطريق: الله أكبر، تصلي، والناس يقفون من هنا وهنا، ينتظرونك، آذيت المؤمنين، كيف يجوز لك هذا، صلاتك باطلة.والذي يصلي في معاطن الإبل، إذا هاج البعير ورفع رأسه وضربه برجله، فتدخل تصلي وأنت خائف ما تدري تتمها أو لا؟ لا يجوز.والشاهد عندنا: إذا راعى الشارع المكان فلابد من ذلك وإلا بطلت العبادة.الزمان، لو أردنا أن نقدم رمضان فنصومه في شعبان لظروف خاصة، وأعلنا: العام المقبل أيها المسلمون! الصيام في شعبان، إما لحر شديد يواجهنا، أو لكذا، وصمنا ثلاثين يوماً باسم الله، بإذن الله نيابة عن رمضان، هل في من يقول: صح صيامكم؟ والله لا يوجد واحد، قط، لِم؟ ماذا فعلنا؟ الزمان غير الزمان.إذاً: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا [البقرة:62]، هل عرفتم العمل الصالح؟ العمل الصالح يكون إذا توفرت فيه تلك الشروط.

عاقبة أهل الإيمان والعمل الصالح من أهل الأديان

قال تعالى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البقرة:62]، فهو الذي يتولى الجزاء، وأجرهم: مثوبتهم مقابل عملهم عند ربهم، مذخور لهم ومخبأ، فيعطيهم منه في الدنيا، ويعطيهم كاملاً في الآخرة. فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]، إذاً: انتفى الخوف ماذا يكون بعده؟ الأمن، وإذا انتفى الحزن ماذا يكون بعده؟ السرور.إذاً: آمن ومسرور، هذه هي السعادة. السعادة أمن وسرور .. السعادة أمن وفرح، فرح وخوف ما هي بسعادة .. أمن وحزن ما هي بسعادة، أمن وسرور وفرح: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62].وهذا بيان الله عز وجل لكل البشرية، فمن أراد أن يأمن من عذاب الله، وأن يفرح بلقاء الله في دار السلام فعليه أن يؤمن حق الإيمان ويعمل صالحاً.وما السر في هذا؟ لأن الإيمان يدفع إلى العمل الصالح ويقويه، والعمل الصالح يزكي النفس ويطهرها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].وعاد السياق إلى اليهود، بعدما أزال ذلك الهم من نفوسهم، وقال: لا تيأسوا، لا تقنطوا، أنتم كغيركم، اسمعوا خبر الله: من آمن من اليهود .. من النصارى .. من المجوس .. من المسلمين وعمل صالحاً فلا خوف ولا حزن، والأجر مذخور لهم عند الله يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة ...)
ثم واجههم فقال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:63]، اذكروا يا بني إسرائيل، اذكر يا رسولنا لهم، إذ أخذنا ميثاقكم، والميثاق هو العهد المؤكد الموثق، كما توثق الشاة بالحبل، توثقها: تربطها بحبل.إذاً: أخذ ميثاقهم، أين هذا الميثاق؟ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:63]، اذكروا الوقت الذي جئتم مع نبي الله موسى واجتمعتم، وطلب إليكم أن تحملوا التوراة، وتتحملوها، ليأخذ عليكم عهداً وميثاقاً أن تقرءوها وتفهموها وتعملوا بما فيها.فهؤلاء اجتمعوا وموسى هو الذي جمعهم عليه السلام ليأخذ منهم عهداً على أن يعملوا بالتوراة، أولاً: يقرءونها .. يفهمونها .. يعملون بما فيها، من سورة الأعراف قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ [الأعراف:171].إذاً: ذكرهم بهذه الحادثة، ومع الأسف لما قال: هذا هو كتاب الله .. هذا هو التوراة، تعهدوا أن تقرءوا وتفهموا وتعملوا بما فيه، قالوا: لا نستطيع.أنت تعرف ظروفنا وأحوالنا والدنيا وأتعابها، كيف نلتزم، ما نستطيع.يا عباد الله! أعطوا عهداً لربكم، هذا هو كتاب هدايتكم .. كمالكم وإصلاحكم وسعادتكم، التزموا بعهد منكم. قالوا: لا نقدر.يا شيخ! لو عرض هذا على المسلمين اليوم يقولون: نقدر؟!حتى لا تفهموا فهماً بعيداً، الآن يعرض على المسلمين العودة إلى الإسلام، ما استطاعوا، قالوا: ما نقدر، هذه الظروف وكذا والأحوال، كيف نقص اليد، وكيف نعمل و.. كيف نجتمع للصلاة كلنا ونغلق أبوابنا؟!هل هذا واقع أو لا؟!طالبناهم فقط بما بين المغرب والعشاء، إذا مالت الشمس إلى الغروب وقف دولاب العمل، فأغلقت الدكاكين والمتاجر .. المزارع .. المصانع.إلى أين؟ إلى بيت الرب وليس بيت الحاكم.. إلى بيت الله بأطفالنا ونسائنا، ونجتمع من المغرب إلى العشاء كاجتماعنا هذا، ليلة آية وليلة حديثاً، أي: مع الله ورسوله، طول العام، فهل يبقى بيننا جاهل أو جاهلة؟ والله ما كان.أما النتائج فلا تستطيع أن تقدرها، فيختفي الظلم، والشر، والخبث، والفساد، والفقر، والبلاء والإسراف، كلها تنتهي؛ لعلمنا أن العالم العارف بربه لا يفجر .. لا يشهد شهادة الزور .. لا يزني بامرأة مؤمن .. لا يفسد عليه عبده، هذا أمر مسلم به.هل قالوا: نستطيع؟ دلوني، عام كامل ونحن نصرخ، فما استطاع أهل حي من أحياء المدينة أو أهل قرية أن يجتمعوا.عرفتم: أن بني إسرائيل لما قالوا: لا نستطيع يا كليم الله، فأمورنا ودنيانا وأشغالنا ... كيف نلتزم؟ ونخاف إذا التزمنا وخنّا يهلكنا الله ويعذبنا.فماذا فعل الله؟ ما كان من الله تعالى إلا أن نقض الجبل من أسفل ورفعه كالسحابة السوداء على رءوسهم: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الأعراف:171]، هل هو جبل الطور أو جبل آخر، هذا كله جائز، والمهم جبل نتقه الله من أسفل، وارتفع كالظلة على رءوسهم، والآن تأخذون أو لا؟ قالوا: نأخذ، وسجدوا سجدتهم، الآن في البِيع كيف يسجدون؟ اليهود لا يسجدون كما نسجد، يسجدون على خدودهم؛ لأن هذه السجدة نجاهم الله بها، لأنهم من الخوف ينظرون الجبل فوق وهم ساجدون، وإلى الآن يسجدون هكذا، فلما ارتفع، والآن تأخذون؟ قالوا: نأخذ، نطبق، ونقرأ، ونعمل بما فيه.

تفسير قوله تعالى: (ثم توليتم من بعد ذلك ...)

هل وفوا؟ قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة:64] أي: رجعتم لما كنتم تقولونه قبل العهد، فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [البقرة:64].قلت لكم: عرفتم هذه الحادثة، ذكرها تعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:171]، هل تم هذا؟ وبعد ذلك هل اجتمعوا على التوراة فدرسوها .. قرءوها .. عملوا بما فيها كما هو حال المسلمين؟ ولا فرق، فنحن واليهود على حد سواء، فلهذا يقول علي بن أبي طالب : يهتف العلم بالعملإن أجابه وإلا ارتحلاحفظ: يهتف العلم بالعمل: يا عمل؛ فإن أجابه وإلا ارتحل.ومعنى هذا: أن العلم إذا لم تعمل به لن يبقى عندك، ولن يستقر في ذهنك ولا نفسك، إلا إذا طبقته، وعملت به، فالذين علموا في هذه الليلة: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، إذا لم يعملوا به انتهى، ينسونه، لكن إذا حُفظ، وكلما تعرض عليهم بدعة آه، ينظرون الرسول قال: ( من عمل عملاً )، لا ينسى هذا أبداً.إذاً: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:63]، هل يخاطب اليهود الموجودين أو الأولين؟! قدمنا أنهم أمة واحدة، أولهم كآخرهم؛ لأنهم انتماء واحد، ولا في فرق بين يهود اليوم واليهود الذين كانوا أيام الرسول، والذين كانوا أيام سليمان وداود أو موسى وهارون، أبداً لا فرق، وما داموا أمة واحدة .. منهجاً واحداً .. عقيدة واحدة، فخطابهم واحد. وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:63] وقلنا لكم: خُذُوا القرآن واحفظوه، وادرسوه، واعملوا بما فيه، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:63] عذاب الله وخزيه. وإذا بنا نقول: لا نستطيع.هذا واقعنا نحن يا مسلمون، أسألكم بالله: القرآن بين أيدينا أو لا؟ من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب هل اجتمع أهل قرية فقط، لا أقول: إقليم ومملكة، أهل قرية فقط، اجتمعوا على كتاب الله بنسائهم وأطفالهم يدرسون ويعلمون ويعملون بما فيه؟! دلوني، هل هذا موجود؟ أوما أخذ علينا الميثاق؟ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، وهذه الآية من سورة المائدة آخر ما نزل، ومن المخاطب بهذا؟ اليهود؟ لا، والله، من هم؟ المسلمون. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ متى؟ لما قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، فكل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقد أعطى عهداً وميثاقاً أن يعبد الله ولا يعبد معه سواه، ولا يقر أو يعترف بعبادة غير الله، حتى الموت.ثانياً: أن يمشي وراء رسول الله .. أن يطيع رسول الله في السراء والضراء .. في المنشط والمكره، وفي كل الأحوال، ولا يتقدمه، ولا يأتيه عن يمينه، ولا عن شماله، وإنما يمشي وراءه حيث وضع الرسول صلى الله عليه وسلم رجله وضع رجله هو.فهل عرفنا وطبقنا هذا؟!مرة ثانية: هل اجتمع أهل قرية بنية أن يدخلوا في رحمة الله عز وجل: النساء وراء، والأطفال أمامهن، والفحول أمام الجميع، والمربي ليلة آية تكرر تكرر حتى تحفظ، ثم يبين لهم معناها بلغة لسانهم، فهمتم ما قال ربكم؟ قالوا: نعم، قالت خديجة : لا، أنا ما فهمت. اسمعي يا أمة الله، معنى الكلام كذا وكذا وكذا، فهمتم، قال فلان: أنا ما فهمت. اسمع أعيد لك، الله يطلب منا أن نفعل كذا، أو نترك كذا، أو نؤمن بكذا، حتى يفهموا.وأخيراً، فهمتم ما أراد الله منكم؟ ماذا أراد؟قال: (أقيموا الصلاة) فلا يتخلفن رجل ولا امرأة إذا نادى منادِ الله: أن حي على الصلاة. وفي يوم آخر: الله يكره .. الله يسخط .. الله يبغض الذين يمشون بالنميمة بين المسلمين، ويقطعون أوصال المؤمنين والمؤمنات. عرفتم؟ قالوا: نعم. قرأتم الآية؟ قالوا: قرأنا.إذاً: لا يمكن أن يرى الله في قريتنا من ينقل كلمة سوء ليحطم بها فلاناً أو يمزق صلة فلان.أبعد هذا يبقى ربا .. يبقى زنى .. تبقى سرقة .. يبقى دش وأغاني وأباطيل؟! لن يبقى هذا أبداً.أحببت أن نفهم، لا نعيب على اليهود ما هم عليه ونحن غارقون أعظم من غرقهم، غارقون متى نثوب إلى رشدنا ونعود إلى ربنا، دلونا. الواهمون: الخلافة الإسلامية .. الحاكم المسلم! هراء .. باطل، كم مرت من سنين نقول: لو خرج عمر ونحن هكذا والله ما استطاع أن يقودنا، وسيفشل معنا.كيف إذاً؟نراجع أنفسنا: هل نحن مؤمنون؟ هل نحن صادقون في إسلامنا لله الوجوه والقلوب؟من قال: نعم؟ إذاً: بعد اليوم لا نسمع بكلمة سوء في قريتنا .. لا نرى منظراً باطلاً بيننا .. لا يحدث حدث سوء في وجودنا، وإن نظر حراماً في عشرين عاماً .. سرق سارق في ثلاثين سنة .. زنى زانٍ، هذا لا يلتفت إليه؛ لأن الشذوذ يقع، سنة الله.أما هبطنا إلى الحضيض؛ الربا .. الزنا .. الغيبة .. النميمة .. الخيانة .. الكذب.هل أعطيكم صورة أو لا؟يقال: هذا الشيخ المسكين عميل .. ذنب .. كذاب .. منافق .. كافر، كذا، لو تسمعون تسجيلاته تهربون من الدنيا. هذه صورة فقط، وإلا كل علمائنا وكل رجالنا في أي قرية أو بلد إلا ويناله النقد والطعن وكذا وكذا .. لا إله إلا الله.ما علة هذا؟ الجهل. ما قرأنا كتاب الله، ولا جلسنا بين يدي رسول الله وتعلمنا الهدى.هيا نرجع؟ لا نستطيع يا شيخ؛ فالأمور كما تعرف، وكيف نترك أعمالنا، ونغلق الدكان مع المغرب، ما هو ممكن، كيف؟ ما هو ممكن؟إذاً: كيف نرقى .. كيف نطلع .. كيف نكمل .. نكيف نأمن .. كيف نسعد؟الجواب: غير ممكن.والله تعالى أسأل أن يعافينا وإياكم. وصلى الله على نبينا محمد وصلى الله عليه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-27, 12:39 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (57)
الحلقة (64)



تفسير سورة البقرة (28)

لم يكتف اليهود بالإعراض عن كلام الله وردّه، بل ظهرت فيهم صفة أخرى وهي الحيلة، وقد بين القرآن نموذجاً جلياً لهذه الصفة، وهو أنه سبحانه حرم عليهم الصيد يوم السبت، وكان يوماً تكثر فيه الأسماك، فاحتالوا بأن وضعوا الشباك يوم الجمعة لتمتلئ بالسمك يوم السبت، ثم يأخذونها يوم الأحد، فكانت عقوبتهم أن مسخوا قردة، وغدوا عبرة وموعظة لغيرهم.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:63-66].

عظم منزلة الإيمان بالله واليوم الآخر

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!أطرح هذا السؤال: لماذا ندرس هذا الكتاب؛ والكتاب هو كتاب الله، القرآن الكريم؟لا ندرسه لأجل أن نعرف ما حدث في الكون، ولا ما أصاب أقواماً سلفت، ولكن ندرسه للاهتداء؛ لأن نهتدي إلى الطريق الموصل بنا إلى سعادتنا وكمالنا في الدنيا، وفلاحنا وفوزنا في الدار الآخرة بالنجاة من النار، ودخول الجنة؛ دار الأبرار.فها نحن مع الحقيقة التي مرت بنا من قبل وهو بيان إلهي، وهو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ [البقرة:62]، هذه أمم ذات أديان، ونحن على رأسهم. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهم أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس. وَالَّذِينَ هَادُوا وهم اليهود. وَالنَّصَارَى وهم الصليبيون أو المسيحيون ما شئتم قولوا. وَالصَّابِئِينَ وهم ما بين هؤلاء وهؤلاء.الكل وعد الله هو: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62].البشرية يا أبنائي كلهم عبيد الله، ليس بينهم من هو ذو قرابة من الله بنسب ولا بمصاهرة، ولا .. ولا، ما هم إلا عبيده، أبيضهم وأسودهم، فمن سلك سبيل النجاة نجا، ومن أعرض عن سبيل النجاة فغوي هلك، فلا فرق بين الأبيض والأصفر، ولا بين الغني والفقير، ولا بين الأولين والآخرين، هذا حكم الله فلنتأمله، ولنعمل على أن نحقق مبادئ النجاة: الإيمان بالله ولقائه، وهو المعبر عنه باليوم الآخر، وبكل ما يتم ويجري ويحصل في اليوم الآخر.

تطاير الصحف في اليوم الآخر

قد جاءت الآيات والأحاديث مفصلة مبينة لتلك الأحداث الجسام، ومن بينها معاشر المستمعين: تطاير الصحف، فمن آخذ كتابه بيمينه ومن آخذ كتابه بشماله. فالآخذون كتبهم بأيمانهم هذه علامة نجاتهم، والآخذون كتبهم بشمائلهم هذه علامة خسرانهم.وجاء هذا في موضعين من كتاب الله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24]، هذه.

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا
[الانشقاق:10-12] لِم؟ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [الانشقاق:13-15]. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:25-32]، لِم ما ذنبه؟ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:33-37] أصحاب الخطايا والذنوب.

صفات أهل الإيمان

المطلوب منا أن نحقق إيماننا، والإيمان دعوى يدعيها المنافق فيقول: مؤمن، ويدعيها البلشفي الأحمر ويقول: مؤمن، فلابد من تحقيق الإيمان.كيف أحققه يا شيخ؟ما عندنا إلا العرض الذي عرضناه على أبصار المؤمنين والسامعات من المؤمنات، نعرضه مرة ثانية.لوحة قرآنية، اسمع: إن وجدت نفسك بين هؤلاء الذين تسمع عنهم وتراهم فاحمد الله عز وجل، وإن وجدت نفسك غير موجود أو تظهر وتختفي فآمن من الآن، وادخل في الإسلام.العرض الأول من سورة الأنفال، يقول تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2]، وهذه الصيغة صيغة قصر، أي: المؤمنون بحق وصدق، لا بالادعاء والنطق، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، أما أن يذكر الله فيضحك الضاحكون، ويسخر الساخرون، ويلهو اللاهون، فلا إيمان. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ ذكره من ذكره: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وجلت قلوب السامعين: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] يرتفع منسوب إيمانهم من مائة وستين إلى مائة وثمانين، تعرفون مؤشرات الحرارة أو لا؟ كيف ترتفع إذا جاءت الحرارة، ولابد إذا تليت علينا آيات الله، واعظة مذكرة أو آمرة ناهية، أن يرتفع إيماننا. وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]. ومن باب التوضيح، ومن باب هداية إخواننا وطلب كمالهم وسعادتهم نذكر عيوبنا، ونزيح الستار عن بعضها؛ علَّنا نفيق من هذه السكرة. وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي: لا يتوكلون على غير الله، فنقول: الذي يعمل في بنك ربوي، وتقول له: أي بني! اخرج من هذا البنك حتى يخرج كل إخوانك، ويغلق البنك بابه، ويستريح أهله، ويدخلون في رحمة الله، فتكون أنت السبب. فيقول: أسرتي ومعاشي، كيف أترك؟ فنقول: توكل على الله .. فوّض أمرك إليه .. اطّرح بين يديه: ربي! أنقذني، فإنه يتولى إنقاذك.فإن قال أحد كما قلت، وبقي في تلك الحمأة فهذا ما توكل على الله، بل توكل على الراتب الذي يتسلمه.ونقول للذي فتح استيريو لبيع أشرطة الأغاني وأفلام الخلاعة والدعارة: يا عبد الله! هذا لا يصح من مؤمن يؤمن بالله، فأنت تؤذي المؤمنين والمؤمنات، تعرضهم لفتنة نفوسهم وقلوبهم، فاتق الله، واستبدل هذه الأشرطة ببيع الكزبرة والبصل والفلفل، ولا تبع ما يؤذي المؤمنين والمؤمنات. فإن قال: كيف أعيش؟ فهل توكل على الله أو على الدكان؟ هذا ما توكل على الله.والذين يستوردون مجلات الدعارة والخلاعة، ويبيعون جرائد تحمل الكفر في كثير من صفحاتها، وتقول له: أي أخي! أنت صاحب دكان تبيع أنواع البقلاوة فيكفيك ذلك، ولا تبع هذه المجلات التي تعرف أنها تحمل راية الدعوة إلى الباطل والشر والفساد، يقول: الزبائن، إذا لم أحضر هذه الجريدة أو المجلة لا يشترون، فأنا لا أستطيع. على من توكل هذا؟ على الدكان.وآخر: يا عبد الله! احجب امرأتك، وأبقها في بيتك، لا تجعلها تشتغل مع الفحول والرجال. يقول: هكذا العيش في الحياة، ماذا نصنع؟ نقول: توكل على الله، واترك امرأتك في بيتك، تعدّه لك وتهيؤه، وتسعدك فيه؛ خيراً من أن تكون جوالة بين الرجال من أجل راتب، فإن قال: لا أستطيع، الظروف والحياة هكذا. فهل توكل على الله؟!وسلسلة آخرها: فتح صالون حلاقة يحلق للفحول وجوههم: يا عم! يا خال! هذا لا ينبغي، الرسول يأمر بكذا، وأنت تعاكسه، أنت تحلق وجوه الفحول من أجل الريال والعشرة، نعم إن أراد أن تحسن له شعره حسِّن، أما أن تحلق له وجهه وشاربه وتتركه كالمرأة فهذا إثم لا يتحمل ولا يطاق، فاتق الله، قال: لا نستطيع، عيشي على هذا الدكان.وأخيراً: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4].معاشر الأبناء والإخوان! هل نحن إن شاء الله منهم؟إلى عرض آخر من سورة التوبة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ دخل الإناث هنا، لِم؟ الأمر خطير وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] وقد علمتم زادني الله وإياكم علماً أن الولاء هنا الحب والنصرة.وعلى كل مؤمن أن يحب المؤمنين: عمشاً .. غمصاً .. عجزة .. فقرة .. متسخين، قل ما شئت، مؤمن ينبغي أن تحبه، مؤمنة تحب كل مؤمن ومؤمنة، والنصرة: إذا قال عبد الله: وا إخوانه! قل: لبيك، ومد يدك وانصره.هذا هو الولاء: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، الصيني، والكَندي، والأوروبي، والإفريقي، والأسيوي، ليس هناك فرق؛ مؤمن صادق أحبه، وإذا استنصرك وطلب نصرتك فمد يدك وانصره، وبدون حب لا إيمان حق، مؤمن يكره عبيد الله وأولياءه كيف يكون مؤمناً؟مؤمن يبغض ويكره أولياء الله المؤمنين المتقين، والله ما هو بمؤمن، لِم؟ ما عرف الإيمان، وما استقر الإيمان في نفسه، وما فهم ما هو الإيمان. وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71]، ابدأ ببيتك يا عبد الله، إن شاهدت امرأتك ترتكب منكراً انهها، تترك معروفاً واجباً مرها لتفعله، ومن امرأتك إلى ابنك، وابنتك، وأبيك، وأخيك إذا كانوا معك، ثم اخرج من البيت إلى جيرانك، الذين تلاقيهم ويلاقونك في كل ساعات النهار، ثم إلى أهل العمل معك، إن كنت في دائرة أو مزرعة، ويبقى أخيراً السوق فقط والشوارع، فإذا رأيت منكراً، وعرفت أنه مما أنكره الله ورسوله؛ لأنه يجر من البلاء والخسران على المؤمنين، قل: يا عبد الله! هذا لا ينبغي، افعل كذا، فإنه خير لك. بأدب واحترام، وإذا مررت بمنكر يغشاه أخوك فقل: أي أخي! هذا لا يجوز، فهذا أنكره الشارع، قال الله كذا، وقال الرسول كذا.هذه خطوة من خطوات الإيمان: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ . وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].أعيد الآيات وانظر: هل نحن بينهم؟ وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71]، إن شاء الله .. رأيتمونا بينهم؟ الحمد لله. والذي ما رؤي إن شاء الله يرى.

جزاء أهل الإيمان يوم القيامة

أما الجزاء عند الله: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:62]، لا في الدنيا ولا عند الموت، ولا في القبر، ولا في البرزخ، ولا في ساحة فصل القضاء بين يدي الله تعالى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]، لا اليوم ولا غداً، فأولياء الله لا يصيبهم الحزن أبداً، فإن مات الولد يدفنه وهو يحمد الله، فإن جاع ربط عصابة على بطنه وهو يحمد الله، فلا حزن، ولا خوف أبداً، لا في الدنيا، ولا في الآخرة.أما أهل الخوف والحزن والعياذ بالله هم أعداء الله الذين ما عاشوا في رياض لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخذ الميثاق والوفاء به

قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ [البقرة:63]، قلنا: ونحن أعطينا القرآن أو لا؟ أخذ علينا الميثاق أو لا؟ فهل وفينا لله، واقرءوا قول الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ [المائدة:7] متى؟ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، فكل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، قد أعطى عهداً وميثاقاً أن يعبد الله وحده بما شاء وشرع أن يعبد به.فهل وفينا لله وأخذنا ما في القرآن؟الجواب معلوم يا أبنائي، ودعنا من أفراد قليلين واحد في المليون، هذه أمة ذات الألف مليون، هل حقاً أخذنا بكتاب الله، فقرأناه وتعرفنا إلى ما فيه من هدى وأحكام، وأخذنا نطبق ذلك على أنفسنا، ونستشهد بآيات ربنا، ونسبة الناجين منا نسبة قليلة، والله يقول لليهود: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ [البقرة:63]، لا تنسوا ما فيه من أمر ونهي، رجاء أن تتقوا: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:63].ثم قال لهم: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة:64] بعد ما أخذ عليهم العهد والميثاق والجبل فوق رءوسهم، يكاد يسقط عليهم، وعاهدوا وأخذوا، فما إن خرجوا من المحنة حتى أعرضوا وتولوا.وقال بعد ذلك: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [البقرة:64] كان يبيدهم كما يبيد الأمم والشعوب، لكن منة الله ورحمته اقتضت ألا يصيبهم بوباء يفنيهم به، أو يسلط عليهم من يعدمهم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ...)

جاءت حادثة أخرى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [البقرة:65] أي: يوم السبت، فالأيام سبعة: أول يوم السبت، ثم الأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة.هذه الأيام كما علمتم أن الله عز وجل خلق في يوم الجمعة آدم، وأنزله إلى الأرض يوم الجمعة - ذكرى عظيمة هذه- وأن يوم القيامة سيكون يوم الجمعة، وقد قرأتم كيف أن الملائكة تكون على أبواب المساجد يكتبون القادمين إلى المسجد الأول فالأول، حتى إذا خرج الإمام طووا الصحف، ودخلوا يستمعون الذكر.فهذا يوم الجمعة عرضه الله تعالى على اليهود فرفضوا، وأفسد قلوبهم علماؤهم وقسسهم ورهبانهم، وعدلوا عن الجمعة إلى السبت.فلما أخذوا السبت مكابرين معاندين فرض الله تعالى عليهم ترك العمل يوم السبت، ومن آخر سورة النحل: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل:124] لو تركوا الجمعة كانوا آمنين، ولكن اختلفوا وقالوا: السبت، بحجة أن الله ابتدأ الخلق يوم السبت، وأن الله استراح يوم السبت، وحاشاه أن يستريح.ومن سورة (ق) يقول تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] أي: نصب أو تعب. فقال الضالون المضللون: هذا اليوم أولى بالاحتفال فيه! وترك العمل؛ لأنه يوم ابتدأ الله فيه الخلق، وختم به الخلق واستراح.فهل الذي يخلق العوالم في ستة أيام يطلب الراحة أو يتعب؟ ولكن هذا هو فساد القلوب والعقول، قالوا للرسول هذا! وردَّ الله هذه الفرية بقوله: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ق:38-39].ففرض عليهم السبت، ومنعهم من صيد السمك في يوم السبت؛ لأنه يوم المساجد والبيع والعبادة، فاحتالوا على الصيد كما جاء ذلك في سورة الأعراف، فوضعوا شراك الصيد في البحر يوم الجمعة؛ ليجتمع فيها الحوت وتمتلئ يوم السبت، وصباح الأحد يأخذونها، وقالوا: ما صدنا يوم السبت! نحن على وعدنا مع الله، الشراك وضعوها بليلة، وأخذوا الحوت في اليوم الثاني، وهذه هي الحيل التي قال لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم: ( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ).والشاهد عندنا في أهل هذه القرية -وكانت مدينة على ساحل البحر- أن أهلها ارتكبوا هذا الجرم. فلنقرأ الآية الكريمة، قال تعالى من سورة الأعراف: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ [الأعراف:163] والقرية في عرف القرآن هي المدينة الكبيرة، مأخوذة من التقري الذي هو التجمع، وليست هي القرية باصطلاح الغربيين. وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163].فسقوا، ماذا فعلوا؟ اصطادوا، ارتكبوا جريمة، ونحن الآن عامة المسلمين: وإن زنى ما فسق! وإن كذب! وإن اغتاب، وإن سرق.ما هو الفسق؟ اصطادوا بالحيلة أيضاً، ما تحدوا الله، احتالوا، قال: فسقوا أم لا؟ وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163] هنا وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:164-166].إذاً: أهل المدينة انقسموا ثلاثة أقسام: قسم أنكروا وتبرءوا، وقالوا: هذه حيلة واعتداء على الشريعة بالحيل، فلقد صدتم، حيث وضعتم الشراك قبل السبت، وأخذتموها يوم الأحد، فتجمع الحوت يوم السبت، فأنتم صائدون، والله حرم العمل في هذا اليوم.وطائفة أخرى سكتوا، إما آيسون كأكثرنا، نقول: ليس هناك من يستجيب، ليس هناك من يقبل، اترك، خل الناس فيما هم فيه!وطائفة ارتكبت الجريمة.قال تعالى: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165] وهو أنه مسخهم قردة، فأصبحوا في الصباح يخرجون من بيوتهم قردة! ثلاثة أيام وهم في أبأس الأحوال، وأسوأ الظروف، وبعد ثلاثة أيام أصابهم الله بوباء؛ فهلكوا في يومهم، ثم دفعوهم إلى البحر، وكنسوا البلاد، وطهروها من رجسهم.وهذا قد ذكره تعالى في قوله: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65] بعيدين عن الخير أذلاء هالكين! وأنتم تعرفون القردة والعياذ بالله، نعم كان بالأمس يبتسم ويضحك، مرتفع القامة، يأكل ويشرب، وإذا به أصبح قرداً في الشوارع ثلاثة أيام، وابن عباس يقول: هذه سنة الله في من مسخهم، لا يعيشون أكثر من ثلاثة أيام.وبعضهم يقول: اليهود الآن قردة، لا ما هم قردة، القردة ماتوا، وإنما هم إخوان القردة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوه لبني قريظة لما طوقهم ناداهم: ( يا إخوان القردة والخنازير! ) ما قال: هم قردة هم إخوانهم.
تفسير قوله تعالى: (فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين)
قال تعالى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا [البقرة:66] أي: تلك القرية وَمَا خَلْفَهَا [البقرة:66] ما بين يديها من القرى والسكان يشاهدون، تعالوا، الرجل يجد امرأته قردة! يجد أخاه وعمه قرداً، ويشاهدون ثلاثة أيام. نَكَالًا أي: لينكل من الناس من يريد أن يخرج عن أمر الله، ويفسق عن طاعته.النكال: هو الذي يجعله ينكل، ويجفل، ويتأخر، وما يقدم على المعصية؛ لما شاهد من آثارها. لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا أي: ممن يأتون بعدها من الأمم والشعوب.ثالثاً: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:66]، لم المتقون فقط يجدون الموعظة في هذه؟ لأن قلوبهم حية، ونفوسهم طاهرة، فما إن يشاهدوا حدثاً كهذا إلا يتعظون به، فيبعدون عن ساحة الفسق والخروج عن طاعة الله ورسوله، ولا يرضون أبداً بفسق بينهم ولا فيهم، لما هم عليه من النور والبصيرة.أما الذين لا يتقون فلا يجدون عظة ولا عبرة، ما يتقون عذاب الله، ولا سخطه، ولا غضبه، منغمسون في المعاصي والجرائم، هل يجدون في هذه عظة؟ ما يجدون.المتقي حي، مؤمن، يتقي الله عز وجل، وأدنى حادثة ينتفع بها، والذين قلوبهم ميتة لا يفهمون، ولا يسمعون.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معاشر المستمعين! نقرأ هذه الآيات من الكتاب.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:63-66].

شرح الكلمات

قال المؤلف: [شرح الكلمات: الميثاق: العهد المؤكد باليمين]، عهد يؤكده بالحلف بالله.[الطور: جبل أو هو الجبل الذي ناجى الله تعالى موسى عليه السلام.بقوة: بجد وحزم وعزم]، خذ الكتاب بقوة أي: بجد، وحزم، وعزم، لمعرفة ما فيه، والعمل به.[توليتم: رجعتم عما التزمتم القيام به من العمل بما في التوراة.اعتدوا في السبت: تجاوزوا الحد فيه، حيث حرم عليهم الصيد فيه فصادوا.قردة: القردة جمع قرد، حيوان معروف مسخ الله تعالى المعتدين في السبت على نحوه.خاسئين: مبعدين عن الخير، ذليلين مهانين.نكالاً: عقوبة شديدة، تمنع من رآها أو علم بها من فعل ما كانت سبباً فيه.لما بين يديها وما خلفها: لما بين يدي العقوبة من الناس ولمن يأتي بعدهم] من أمثالنا.[وموعظة للمتقين: يتعظون بها، فلا يقدمون على معاصي الله عز وجل]. هذه هي الكلمات الإلهية.

معنى الآيات

قال: [معنى الآيات الإجمالي: يذكر الحق عز وجل اليهود بما كان لأسلافهم ] الذين مضوا قبلهم أيام داود وسليمان، [ من أحداث لعلهم يعتبرون، فيذكرهم بحادثة امتناعهم من تحمل العمل بالتوراة، وإصرارهم على ذلك حتى رفع الله تعالى فوقهم جبلاً فأصبح كالظلة فوق رءوسهم، حينئذ أذعنوا]، وقد عرفتم كيف سجدوا على خدودهم؛ لأنهم ينظرون متى يسقط الجبل! وهذه السجدة يفضلونها على سجودنا، قالوا: لأن الله أنجى بني إسرائيل بها.قال: [فأصبح كالظلة فوق رءوسهم، حينئذ أذعنوا وأعطوا العهد غير أنهم تراجعوا بعد ذلك، ولم يفوا بما التزموا به؛ فاستوجبوا الخسران لولا رحمة الله بهم] فلولا أن الله أراد أن يبيدهم لأبادهم كعاد وثمود، لكنهم أبناء الأنبياء والمرسلين.قال: [كما يذكرهم بجريمة كانت لبعض أسلافهم، وهي أنه تعالى حرم عليهم الصيد يوم السبت، فاحتالت طائفة منهم على الشرع، واصطادوا، فنكل الله تعالى بهم، فمسخهم قردة، وجعلهم عظة وعبرة للمعتبرين].وهنا نذكر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي رواه أحمد بسنده الجيد عن أبي هريرة رضي الله عنه إذ قال -فداه أبي وأمي، والعالم أجمع-: ( ولا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ) ولو تتبع هذا الموضوع لوجدت ملايين المسلمين منغمسين في الحيل، فيستحلون محارم الله لا بالمواجهة.على سبيل المثال: السفور، لم تقول: السفور يا شيخ؟!لأن العالم الإسلامي وقع وتورط، وها هم يعملون الليل والنهار على إنهاء الحجاب عندنا، ونحن نعلم يقيناً من طريق أبي القاسم صلى الله عليه وسلم أن المرأة إذا سقط حجابها، واختلطت بالرجال عم الخبث، فلا عاصم إلا الله، وإذا كثر الخبث في إقليم نزل البلاء، ولا سعادة بعد ذلك.الخصوم عرفوا هذا، ونحن أغبياء ما عرفنا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول اسمعوا: ( اتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) كيف شربوا الخمر؟ كيف ارتكبوا الجرائم؟ كيف اشتروا الدنيا والمال؟ من أجل النساء! فكل من يدعو تحت ستار تحرير المرأة فإنما هو عامل من عوامل الدمار، تحركه أصابع الماسونية اليهودية.

هداية الآيات

قال: [من هداية الآيات: أولاً: وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق]، يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يفي بوعد أعطاه لله، وميثاق أخذه عنه الله، فيجب الوفاء بأي عهد تعطيه ليهودي، أو تعطيه لنصراني، وشعارنا: الوفاء بالعهود، من واعد .. من عاهد، سواء وثق العهد بالحلف أو لم يوثقه يجب الوفاء، فإن شاع بيننا خلف الوعد فاعلموا أننا راحلون إلى الهاوية!أيوبخ الله اليهود على نقضهم العهد ونحن لا؟ نقول: لا بأس، أيعقل هذا الكلام؟ نحن أحرى بأن نفي بالعهود؛ لأننا شاهدنا ما أصاب اليهود من خزي، وذل، وعار.وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق، سواء كان بين المؤمنين والمؤمنين، أو بين المؤمنين والكافرين.قال: [ثانيا:ً يجب أخذ أحكام الشرع بحزم، وذكرها وعدم نسيانها أو تناسيها].كيف يتم هذا يا شيخ؟! لا سبيل إلى تحقيق هذا إلا من طريق كتاب: (المسجد وبيت المسلم) .. إلا من طريق أن نعرف أننا مسلمون، وأننا غير اليهود، والنصارى، والمجوس، والمشركين، وأننا أمة ممتازة ذات شأن عظيم؛ فنترك العمل من غروب الشمس فلا دكان، ولا مقهى، ولا مصنع، ولا مزرعة، ونحمل بنينا وبناتنا ونساءنا إلى بيوت الله، ونوسع جامعنا؛ حتى يتسع لأهل الحي كلهم أو لأهل القرية أجمعين. ونجلس بين يدي الله كل ليلة طول العمر، ونحن ندرس كتاب الله، ونتعلم ما فيه، ونطبقه على أنفسنا، والله لا طريق إلا هذا.ثم يا شيخ! أنت تحملنا على ما لا يطاق! ما يطاق؟! ما يطاق الجلوس في المسجد؟! بين المغرب والعشاء ما الذي يتوقف؟! اليهود والنصارى يوقفون العمل، وينقطعون من الساعة السادسة، ونحن لم؟ أي عذر عندنا؟! هم قد يعذرون أما نحن فكيف نعيش على دين نجهله؟ على آداب وأخلاق لا نعرفها؟ على حقائق وشرائع وأحكام ما عرفنا منها شيئاً، لا قليلاً ولا كثيراً؟ كيف يصح؟!وأعود فأقول: جربوا، فاجتمعوا يا أهل القرية، على ليلة آية وأخرى حديثاً، سنة فقط وانظروا بأعينكم، وهاتوا علماء النفس وخبراء الكون، وليشاهدوا كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.إن ثبت عندهم في القرية من يزني بنسائها أو بنات إخوانه، أو يعرضهم للفتنة، أو يؤذي أخاه أو ابنه، أو يؤذي جاره، أو يشح برياله وأخوه جائع، اذبحوني! تنتهي مظاهر الفقر والخبث الذي ساد العالم الإسلامي.يتغير وضعنا بهذه الوسيلة الربانية، وسيلة الإيمان الحق، لنحقق إيماننا، ونترجمه عملاً ناصعاً، صادقاً، بيننا! أن نجتمع في القرية هكذا، النساء وراء، والأطفال دونهن، والفحول أمام الكل، والمربي أمامهم يقرأ معهم آية، ويتغنون بها جميعاً حتى تحفظ، ويقرءون حديثاً؛ فتنتهي المذهبية، والله ما يبقى من يقول: أنا مالكي .. أنا شافعي .. أنا زيدي، نحن مع الله ورسوله، قال الله وقال رسوله.تبقى حزبية ونظامية: نحن ننتمي إلى كذا؟ والله لا تبقى.تبقى وطنية: أنا من وطن كذا؟ لا وجود لها، أمة واحدة. قال الله وقال رسوله.يا علماء! احملوا هذه الرسالة وانشروها، لكنهم عجزوا وما استطاعوا، لو قام علماء المسلمين بحملة كما قمنا بها لكان المسلمون الآن كلهم في بيت الرب. كيف يكون حالهم؟ العالم يتحرك ويهتز: كيف أقبل المسلمون هذا الإقبال على بيوت الرب؟ ماذا يريدون؟!ولنترك الأمر لله.ومما هو هداية في هذه الآية الكريمة قال: [ ثالثاً: لا تتم التقوى لعبد إلا إذا أخذ أحكام الشرع بحزم وعزم]، ما هو إن شاء فعل، وإن شاء ما يفعل!قال: [رابعاً: حرمة الاحتيال لإباحة المحرم، وسوء عاقبة المحتالين المعتدين] والعياذ بالله تعالى رب العالمين. وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-10-30, 11:25 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (58)
الحلقة (65)



تفسير سورة البقرة (29)


اصطفى الله عز وجل من عباده رسلاً، وجعل توقيرهم توقيراً له سبحانه؛ لأن أوامرهم ونواهيهم وحي من الله، وفي قصة قرآنية آخرى يتجلى الجهل وسوء الأدب مع عباد الله المصطفين، كان أبطال هذه القصة بني إسرائيل! حيث قتل أحدهم وجُهل القاتل فأمرهم موسى بأن يذبحوا بقرة، فيضربوا المقتول ببعضها، لتعود إليه روحه -بإذن الله- ويكشف عن مرتكب الجريمة، فما كان من هؤلاء القوم إلا أن أكثروا الأسئلة، وأطالوا المراوغة، حتى فعلوا في نهاية الأمر، وكادوا ألا يفعلوا.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:67-70] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!

القصص القرآني من آيات النبوة المحمدية

مثل هذا القصص يقصه رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب قط، وبعد أن تجاوز سن الأربعين، فهل يعقل أن يكون هذا من غير نبي ورسول يوحي الله إليه؟ لا يعقل أبداً، بل يستحيل!فلهذا القصص القرآني من آيات النبوة المحمدية، ولن يستطيع ذو عقل من العرب والعجم أن يرد هذه الحقيقة.وهذا الحدث الجلل مضى عليه آلاف السنين، فكيف يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفصل هذا التفصيل، وأهل الكتاب -وبخاصة اليهود وهم معنيون- يسمعون هذا بآذانهم، ويشهدون أنه الواقع الذي وقع في أمتهم؟!والله يقول لرسوله: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] وفي هذا القصص فائدة جلية وعظمى أن الله يثبت بذلك رسوله كيف وقد رفع صوته في الأرض كلها يشهد أن لا إله إلا الله، والعالم كله ضده؟ فلهذا يجد في هذا القصص ما يقوي عزيمته، ويشد ساعديه، ويقويه في دعوته.ثم هذا القصص جاء في عرض أحداث كانت لبني إسرائيل، وهذه الأحداث العظيمة كلها تشهد بانحراف اليهود وضلالهم، وبعدهم عن الحق، وتشهد أيضاً بعنادهم، ومكابرتهم، وحسدهم، وذلك من أول ما قال: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا ... وإلى الموضع الذي نحن فيه وما زال القصص مستمراً.ومن بين ذلك القصص أو تلك الأحداث هذه الحادثة العظيمة؛ إذ يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: اذكر وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ [البقرة:67] أو اذكروا أنتم يا بني إسرائيل المعاصرين للنبي في المدينة! اذكروا وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67].وهذه الآيات تضمنت قصصاً، قيل: هي عبارة عن قصتين. ولا مانع أن تكون قصتين؛ إذ الأحداث لا حد لها، ولكن كونها قصة تقدم ما ينبغي أن يتأخر، وتؤخر منها ما ينبغي أن يتقدم؛ لأن القرآن ليس كتاب قصص، بل هو كتاب هداية، وتعليم، وإصلاح، وتربية للبشرية.وما دامت الأحداث الأولى أشد قساوة على اليهود فقد بدأ بها.

سبب أمر بني إسرائيل بذبح بقرة

قوله تعالى هنا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] لم؟ لأن أبناء أخ وجدوا عمهم ثرياً -ذا ثروة مالية كبيرة- ولا يرثه إلا ولد له، وما زال صغيراً، فقالوا: نقتل هذا الطفل وبعد أيام أو أعوام يموت العم الكبير، وقد أسن وشاخ، ونرث هذا المال، بخلاف إذا تركنا الولد يكبر، فإذا مات والده ورث المال وحرمنا منه!وسبحان الله! هذه الحادثة وقع لها نظير في قريتي التي نشأت فيها وتربيت: كان هناك رجل صعلوك كبير عنده ابن أخ، وهو عمه، فذبحه وألقاه تحت نخلة، وجاء يصرخ في القرية ويبكي: ابن أخي ذبح! واستمر البحث من قبل السلطة الفرنسية في ذلك الوقت، فما هي إلا جولة حتى اعترف بأنه هو الذي ذبح ابن أخيه، مع أن هذا الابن كان من تلاميذنا، بل من أحسنهم، فذبحه لأجل أن يرث المال الذي عنده، وحتى لا يقاسمه النخل الذي كان بينه وبين أخيه.هذا حدث في الإسلام أم لا؟ والله في الإسلام، وكما تسمعون! فلا عجب أن يحدث هذا في بني إسرائيل، وكانوا في تلك الأيام يعيشون على الجهل والضعف العقلي؛ لأني -والله أعلم- بحثت كثيراً فما وجدت من أهل العلم من ذكر هذه الحادثة أين وقعت، وكونها وقعت في التيه؛ في صحراء سيناء لا يعقل، فلا مال ولا توارث. أليس طعامهم المن والسلوى، وتظللهم السحب والغمام؟!وهذا فيما يظهر لي وقع في مصر أيام كان بنو إسرائيل هناك، فهذه الحادثة تمت في مصر قبل خروجهم من الديار المصرية، ومن عثر على هذا من أبنائنا من أهل العلم فليبشرنا، لأني أريد أن أعرف أين وقعت هذه الأحداث؟ أما أنها وقعت في سيناء فلا! فبعد سيناء مات موسى عليه السلام، وتولى أمرهم يوشع بن نون ، ولكن القصة تمت على عهد موسى وهو بطلها.قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] لم؟ لما قتل الجماعة ابن الشيخ الكبير ليرثوه أخذوه ورموه في قرية بعيدة عن قريتهم، وجاءوا يصرخون إلى موسى: ابننا قتل، أو أبونا قتل، أو عمنا، يقولون ما شاءوا، من قتل؟ وأصبحوا يطالبون بالدية من القرية التي وجد فيها الرجل مذبوحاً أو مقتولاً.فأوحى الله تعالى إلى موسى أن يقول لهم: اذبحوا بقرة، واضربوا الميت بجزء منها، سواء بعظمها أو بلسانها أو بأي جزء اضربوه به ينطق بإذن الله! ويقول: قتلني فلان أو فلان. ولا عجب! فعيسى عليه السلام أحيا الله على يده الموتى، وهذه من معجزات الأنبياء.

جواب بني إسرائيل لموسى بعدما أمرهم بذبح البقرة

لكن اسمع كيف ردوا عليه؟ هو يقول لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] وكلمة بقرة نكرة تتناول هذا الجنس؛ كبيرة .. صغيرة، صفراء .. سوداء، بقرة فقط. قالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67] أتهزأ بنا، وتسخر منا يا موسى؟!وهل هذه الكلمة يقولها مؤمن لرسول؟! يقولها صحابي لمحمد صلى الله عليه وسلم؟!نعم قال الصحابة بدون علم: راعنا يا رسول الله! وهذه الكلمة فيها معنى الرعونة، وهي بالعبرية كلمة سخرية واستهزاء، فاستغلها اليهود والمنافقون فكانوا يقولون: راعنا يا رسول الله! ويضحكون في قلوبهم، فأنزل الله تعالى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104] استبدلوا كلمة راعنا بانظرنا .. أمهلنا حتى نسمع عنك أو نفهم وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104]. والذي يستهزئ بالرسول كفر، والإمام مالك يرى إعدامه، وغيره من الأئمة يرون توبته ثلاثة أيام، فالإمام مالك يقول: ساب الرسول لا يستتاب، ويجب أن يعدم، وعنده شاهد قوي في العجوز التي كان لها عبد يسب النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، فما كان منها إلا أن جاءت وقتلته، وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فسره ذلك وهنأها.والشاهد عندنا: أن سب الرسول والاستهزاء والسخرية به كفر بواح، فانظر موقف هؤلاء اليهود: قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67] أتسخر منا وتستهزئ وتقول: اذبحوا بقرة؟! كيف يحيا بالبقرة إذا ضربناه بلحمها؟!ولا لوم ولا عتاب، والله يقول: قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ [البقرة:67] أي: قال موسى لأولئك المستهزئين: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] أتحصن بجناب الله وألوذ بحمى الله أن أصبح جاهلاً كالجاهلين.وهنا عدنا من حيث بدأنا، قبنو إسرائيل عاشوا شبه رقيق .. شبه عبيد، مستذلين مسخرين للفراعنة، فما درسوا، ولا تعلموا، ولا قرءوا دهراً طويلاً، فجاء موسى عليه السلام وأخوه هارون أيضاً لا يستطيعون أن يعلموا أمة موزعة هنا وهناك في القرى. فهذه مظاهر الجهل.وهنا نذكر قصة أبي ذر لما قال لـبلال : يا ابن السوداء! فشكاه بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) قلَّت أو كثرت، أي: ظلام الجهل، فما كان من أبي ذر إلا أن وضع وجهه على الأرض وقال لـبلال : والله لتطأن على عنقي!هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.فكل الذي نشكوه في أنفسنا، وفي غيرنا، وفي العالم مرده إلى ظلمات الجهل، والذين ما تهذبوا وما تربوا في حجور الصالحين لا يسلم حالهم أبداً، ولا تطمئن إليهم النفس. كيف يستقيمون في ألفاظهم .. كلماتهم .. حركاتهم سكناتهم .. أعمالهم؟ من هذبهم؟! فلهذا احمدوا الله على ما نحن عليه! قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]؛ لأن الجاهل هو الذي يسخر .. هو الذي يستهزئ .. هو الذي يقول ما ليس يعلم .. هو الذي يفعل بدون إرادة وعلمفهذا الجاهل يتخبط.فموسى يقول: كيف آمركم بشيء لم يأمرني الله تعالى به؟! ولولا علمي بأنكم إن ضربتم هذا الميت بقطعة من هذه البقرة حيي، وأجابكم، وأفصح عمن قتله ما قلت لكم.

تفسير قوله تعالى: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ...)

قال تعالى حاكياً عن قوم موسى أنهم قالوا له بعد ذلك: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68] وهذه عندنا أيضاً قبيحة: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ وأنتم ليس بربكم؟! هذا سوء أدب فاضح أم لا؟! ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أنا ربي وحدي .. خالقي .. رازقي .. مدبري، وأنتم: من ربكم؟ من خلقكم؟ من رزقكم؟ من دبر حياتكم؟!هذه من مظاهر الجهل. والمؤمن يستحي أن يقول مثل هذا الكلام، ورسول الله موسى بين أيديهم، وأنقذهم الله به، وشاهدوا تسع آيات تخر الجبال من هولها، وعند رؤيتها.ولهذا لا تبك يا رسول الله! لا تتمزق يا عمر من اليهود، فهذه حالهم منذ آلاف السنين وإلى اليوم، وإن درسوا في مدارس الدنيا، لكن ما زالت هذه الطباع مغروسة في غرائزهم، فلا تزول ولا تتبدل. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68] لم هذا التقعر؟ لم هذا التنطع؟! قال: بقرة، خذوها من الشارع .. أخرجوها من البستان، لفظ مطلق: بقرة! لكن لكونهم شاكين غير مؤمنين بصدق هذه القضية، وأنهم إذا ضربوا به الميت لا يحيا، فهذه عوامل الشك ظاهرة فيهم، أو يتملصون من هذه القضية لأنهم هم الذين ولغوا في الجريمة! وهم الذين قتلوا ونسبوا القتل للقبيلة الفلانية، حتى لا يفضحوا؛ لأنها فضيحة عظيمة؛ كيف يقتلون قريبهم ثم يتهمون قبيلة أخرى بالقتل؟! فمن هنا يتلوون ويتبرمون.قال: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68] ما هذه البقرة؟! قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ [البقرة:68] مسنة: كبيرة، فرضت أسنانها وقطعتها وَلا بِكْرٌ [البقرة:68] ولكنها عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68] وسط؛ ليست صغيرة ولا كبيرة، عوان بين الكبر والصغر، والفارض هي التي فرضت، فرض الشيء قطعه، ومنه الفرض القطع، قطعت أسنانها لكبر سنها، فلا هي فارض، ولا بكر ما أنجبت ولا ولدت. فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] بينتها لكم أم لا؟ قلتم: ما هي؟ قلنا: إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] ابحثوا في السوق .. في المزارع .. في محلات الأبقار، والتي تجدونها ليست مسنة ولا صغيرة خذوها واذبحوها.

تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ...)

ماذا قالوا؟ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة:69] أي قيمة للون: صفراء .. بيضاء .. سوداء؟ الحكمة ليست في لون البقرة، الحكمة في أن يصدر أمر الله إلى الميت أن ينطق قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] شديدة الصفرة، يقال: أحمر قانٍ .. أخضر مدهام .. أبيض ناصع .. أصفر فاقع. تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69] فإذا نظر إليها المرء تعجبه وتفرحه، وتدخل السرور عليه لجمالها.وأين يجدون هذه؟!تقول الروايات: إن شيخاً كبيراً من بني إسرائيل كان عنده طفل صغير، فخاف إذا مات من يتولاه، وعنده عِجْلَة، فمر بمزرعة ذات أشجار ونباتات فرمى بالعِجْلَة هناك وقال: رب! استودعتك هذه العِجْلَة لولدي! تكبر عندك حتى تصبح بقرة، ويصبح ولدي عاقلاً ويأخذها. وتمضي الأيام ويكبر الطفل، ويصبح يقود البقرة بعد أن كانت عِجْلَة، وكانت صفراء فاقع لونها تسر الناظرين؛ فلهذا رآها القوم أعجبتهم وقالوا: هذه هي. فالولد ببركة دعوة أبيه قال: لن تذبح بقرتي على الخمسين ديناراً والألف دينار، لن أسمح إلا بملء جلدها ذهباً، فصاحوا وقاموا وقعدوا، لكن قد تعينت الآن فأين المهرب؟ فجمعوا حلي نسائهم وأموالهم وما عندهم واشتروا البقرة.قالت العلماء: وهذا فيه بركة دعوة الأب لولده، فلما دعا الأب الله عز وجل، واستغاثه، وسأله، واستودعه هذه البقرة ليعيش عليها ولده استجاب الله، وأصبح من أغنى بني إسرائيل! فجلد البقرة مملوء كاملاً بالذهب .. ميزانية دولة.

تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا ...)

قال تعالى حاكياً عنهم: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70] ألوانها مختلفة، وكلما نقول: هذه تظهر واحدة أخرى يقولون: ها هي هذه، ويبدو والله أعلم أنهم متهربون من القضية؛ خشية أن ينطق الميت ويقول: قتلني فلان من بني فلان؛ فلهذا يتخفون من القضية ويتهربون. وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] هذه الكلمة من أين جاءت؟ من الله، وما هم أهل لها. قالت العلماء: لولا أنهم قالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ لما وصلوا إليها، ولما وجدوها ولا عرفوها، وفي هذا بركة الاستثناء، وقد حرمه رجالنا ونساؤنا، فلو كان كل واحد منا إذا حلف يقول: إن شاء الله، أو إلا أن يشاء الله؛ لم يحنث، ولم يتلطخ قلبه بظلمة المعصية، ولكن مع الأسف قلَّ من يقول: إن شاء الله.وعندنا حادثة بعينها ذكرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أن سليمان عليه السلام لما كان يغزو ويفتح ويوسع الامبراطورية الإسلامية التي يحلم بها الآن اليهود متى يعيدونها؛ قال في ليلة من الليالي: ( لأطأن الليلة مائة جارية تلد كل واحدة ولداً يصبح رجلاً يقاتل في سبيل الله )، فأراد أن يكوِّن جيشاً أو فيلقاً من جماع ليلة! ونسي أن يقول: إن شاء الله. فعاقبه الله تعالى تأديباً له، فوالله ما ولدت واحدة، إلا واحدة جاءت بطفل نصفه مشلول، شبيه بالشلل النصفي الذي عرفناه في هذه الأيام؛ فوضعوه على السرير وجاء أبوه: هذا هو ولدك.قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ( لو قال: إن شاء الله لولدت كل واحدة ولداً ولقاتل في سبيل الله ). وقال تعالى: وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34] الآية.فلما قالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] هداهم الله، فاشتروا البقرة التي كانت عِجْلَة بمتنها ذهباً!

تفسير قوله تعالى: (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ...)

قال تعالى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا [البقرة:71] قال لهم: إن ربي جل جلاله يخبركم فيقول: إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ موجودة، تأكل وتشرب، فما حرثوا عليها الأرض، ولا سنوا عليها السواني، وما ذللت بالخدمة والإرهاق، فلا ذلول تثير الأرض بالحرث، ولا تسقي الحرث أي: تسني بالسواني وتخرج الماء، وهذا ينطبق على بقرة الرجل الصالح الذي تركها في المزرعة تأكل سنين. مُسَلَّمَةٌ ما فيها عيب أبداً لا في قرن ولا في رجل، ولا شِيَةَ فِيهَا أي: لا صفة ولا علامة، فما فيها نقطة سوداء أو بيضاء أو كذا، لون واحد، حتى قرونها صفراء، وحوافرها صفر أيضاً، وما فيها علامة أخرى؛ ولهذا تاهوا في طلبها، فساقهم الله إلى بقرة هذا اليتيم. قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] ذبحوها بمعنى: اشتروها بمسكها ذهباً، وذبحوها طاعة لله ولرسوله.وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ فلولا أن الله ألهمهم بكلمة إن شاء الله لما انتهوا إلى هذا، وهذا يدل على أنهم كانوا يتهربون، فهم خائفون أن يفضح أمرهم؛ لأن الذين طالبوا بقتل القاتل هم القاتلون! وما كادوا يفعلون.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون)

نواصل القصة ونعود الآن إلى بداية القصة، قال تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا [البقرة:72] اذكروا إذ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:72] والتدارؤ: التدافع. فهؤلاء يقولون: قتل هؤلاء، وهؤلاء يقولون: ما قتلنا. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا هذا الشيخ الكبار الذي قتل ليورث، أو الابن الصغير هو الذي قتل حتى يورث عمه. فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ما كانوا قد عرفوا القاتل أم لا؟ عرفوه فهو منهم، وكانوا يغطون، ويسترون، ويتهمون الآخرين، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ وقد أخرجه عما قريب.

تفسير قوله تعالى: (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ...)

قال تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73] اضربوا هذا الميت ببعض هذه البقرة، سواء كان باللسان أو بالرجل، والكلام في هذا لا يفيد شيئاً، المهم خذوا جزءاً منها وبسم الله اضربوا، فإنه ينطق! فضربوه فإذا به يشخب دماً وينطق: قتلني فلان!آمنت بالله. أخذوا جزءاً من البقرة سواء رجلها أو يدها أو قرنها أو لسانها بسم الله! وإذا بالغلام يتدفق دماً كما ذبحوه وهو ينطق: قتلني فلان وفلان، ووضعوني في مكان فلان وفلان. فهذه آيات الله الدالة على وجوده وعلمه وقدرته وحكمته، وتحقيق نصرته لأوليائه.قال تعالى: كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة:73] كهذا الإحياء يحيي الله الموتى، أليس هذا الرجل ميتاً؟ ميت، وبعد فترة من الزمن أحياه أم لا؟ أحياه. وهكذا في الموتى يوم القيامة! ويحيي الموتى في كل زمان ومكان متى شاء ذلك.قال: وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73] وهنا العقل شيء، والعلم شيء آخر، فالعلم أفضل، ولكن العقل إذا كان راجحاً سليماً -حتى ولو كان صاحبه جاهلاً- يستطيع أن يميز بين الحق والباطل .. بين الخير والشر .. بين القبيح والسيئ، لكن إذا فُقِد العقل فقد كل شيء! وإذا فَقد العالم عقله أصبح كالجاهل يخبط ويخلط.فقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73] فتعرفون موقفكم وما أنتم عليه من هذا التهرب والتفصي من الحق، وهذا البعد من الآداب.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

بسم الله الرحمن الرحيم.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ شرح الكلمات: البقرة ] ما معنى البقرة؟ قال: [ واحدة البقر، والذكر ثور، والأنثى بقرة ] والعوام إذا سبوا شخصاً بالجهالة يقولون: يا ثور! اسكت يا ثور! وللمرأة: اسكتي يا بقرة! يجوز هذا؟ والله لا يجوز، حرام، سوء أدب!وكلمة راعنا -وهي عربية بمعنى: انظرنا- ما رضيها الله لرسوله.قال: [ والذبح: قطع الودجين والمارن ]. الودجان: عرقان يكتنفان العنق، والمارن: هذا الذي يمشي فيه الماء والطعام، يجمعها ويذبحها، المارئ والمريء، فلهذا الذي يذبح شاة ولا يذبحها على هذه الطريقة لا تؤكل إلا بكراهة. وكذلك إذا قلصمها؛ فجعل هذه الحنجرة وتركها مع الرقبة، هذا كذلك تؤكل مع كراهة، فالذبح الحقيقي الشرعي أن يجمع بين الودجين والمارن، ويقطعهما قطعة واحدة.قال: [ والهزؤ: السخرية واللعب ]. أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67] تلعب وتسخر بنا.قال: [ الجاهل ] من هو الجاهل؟ قال: [ الذي يقول أو يفعل ما لا ينبغي قوله ولا فعله ] اضبطوا هذه: من هو الجاهل؟ هو الذي يقول ويفعل ما لا ينبغي قوله ولا فعله؛ حتى ولو كان يحفظ كتاب الله والتوراة! فالجاهل: الذي يقول ما لا ينبغي أن يقال، أو يفعل ما لا ينبغي أن يفعل. والذي يقول ما ينبغي أن يقال، ويفعل ما ينبغي أن يفعل هذا هو العاقل! فعقله عصمه وحفظه من التخبط والضلال.قال: [ الفارض ] ما هي هذه البقرة؟ قال: [ الفارض: المسنة. والبكر: الصغيرة التي لم تلد بعد. والعوان: النّصفُ، وسط بين المسنة والصغيرة ] العوان هي الوسط أو النصف في عمرها.قال: [ وفاقع: يقال: أصفر فاقع شديد الصفرة، كأحمر قان، وأبيض ناصع ] شديد البياض.قال: [الذلول: المريّضة التي زالت صعوبتها فأصبحت سهلة منقادة ] فذللوها بالعمل، وأصبحت سهلة الانقياد.قال: [تثير الأرض: تقلبها بالمحراث فتثير غبارها، بمعنى: أنها لم تستعمل في الحرث ولا في سقاية الزرع، أي: لم يُسنَ عليها؛ وذلك لصغرها ] أو لاحترام أهلها لها، فأبوا أن يتعبوها.قال: [ مسلّمة: بمعنى سليمة من العيوب كالعور والعرج] وما إلى ذلك.قال: [لا شية فيها: الشية: العلامة، أي: لا يوجد فيها لون غير لونها من سواد أو بياض ] أو حمرة مثلاً. هذه هي المفردات.

معنى الآيات

قال: [ واذكر يا رسولنا لهؤلاء اليهود ] من القائل؟ الله. لماذا لا نقول: واذكر يا محمد؟! انتبهوا، وقد وقع في هذه الغلطة الجلالان: السيوطي والمحلي ، عندما يقول: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ... قل يا محمد! قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] قل يا محمد! وهذه غلطة؛ لم؟ لأن الله تعالى قال: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] فهل يجوز أن تقول: يا محمد؟ لا يجوز. والله ناداه نداءات متعددة بـ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ... ! يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ... ! فكيف تقول أنت: يا محمد؟! كأنك لا تعترف برسالته.قال: [ واذكر يا رسولنا لهؤلاء اليهود عيباً آخر من عيوب أسلافهم الذين يعتزون بهم ]. فهم يريدون ألا يفارقوا ملتهم، ولا ما كان عليه أباؤهم وأجدادهم، انظروا إلى حال أجدادكم. فلو صح لكان العرب يعتزون بـأبي جهل والعاص بن وائل .قال: [ وهو سوء سلوكهم مع أنبيائهم؛ فيكون هذا توبيخاً لهم لعلهم يرجعون عن غيهم، فيؤمنوا بك وبما جئت به من الهدى ودين الحق. اذكر لهم قصة الرجل الذي قتله ابن أخيه استعجالاً لإرثه، ثم ألقاه تعمية في حي غير الحي الذي هو منه، ولما اختلفوا في القاتل قالوا: نذهب إلى موسى يدعو لنا ربه ليبين لنا من هو القاتل. فجاءوه فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] من أجل أن يضربوا القتيل بجزء منها؛ فينطق مبيناً من قتله. فلما قال لهم ذلك قالوا: قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67] فوصفوا نبي الله بالسخرية واللعب، وهذا ذنب قبيح، وما زالوا يسألونه عن البقرة ويتشددون حتى شدد الله تعالى عليهم الأمر الذي كادوا معه لا يذبحون، مع أنهم لو تناولوا بقرة من عرض الشارع وذبحوها لكفتهم ].ولهذا نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشديد، وكم وقع منا في هذه الفتنة، ففي الوضوء يدخل يغتسل ساعتين، وكلما غسل عضواً يقول: ما غسلت الثاني. من الوسوسة. وإذا جاء ووقف يصلي هكذا! وهو يضبط النية كي تقارن: الله أكبر! فنهينا عن التشديد: ( إن هذا الدين يسر، وما شاد الدين أحد إلا غلبه )، ( ويسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ) فهذه تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، فانظر كيف شدد الله عليهم لما شددوا.قال: [ ولكن شددوا فشدد الله عليهم، فعثروا على البقرة المطلوبة بعد جهد جهيد، وغالى فيها صاحبها فباعها منهم بملء جلدها ذهباً ].

هداية الآيات

بعد أن شرحنا الآيات ما هدايتها؟ هل نطلب الهداية من هذه الآيات أم لا؟ هل تخلو آية من هداية؟ والله ما كان!قال: [ من هداية الآيات: أولاً: بيان ما كان عليه قوم موسى من بني إسرائيل من العجرفة وسوء الأخلاق؛ ليتجنب مثلها المسلمون ]. عرفتم الفائدة؟ لم شرح لنا حال بني إسرائيل، وأظهر قبائحهم في سلوكهم؟ من أجل ألا نقع فيما وقعوا فيه، ومن أجل ألا نتورط كما تورطوا. والآن النبي ليس موجوداً، ولو كان موجوداً -والله- لسمعتم العجب أكثر من بني إسرائيل.وعندنا دليل قطعي: العالم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ أليس خليفته يبلغ عنه؟! وها هم يسخرون من العلماء ويستهزئون أكثر من سخرية بني إسرائيل! لعلي واهم؟ والله العظيم لَيُسخر من العلماء، ويستهزأ بهم، ويتهكم بهم، ويقال فيهم قبائح السلوك، وما هو واحد ولا عشرة ولا مليون؛ لأننا ما درسنا هذا الكتاب!أتلومنا يا شيخ! ونحن جهلة؟!أسألكم بالله كونوا على علم: أين الذين جلسوا في حجور الصالحين وتربوا عليهم؟ أشيروا إليهم.نحن الآن تلاميذ الفيديو والدش والشريط، وفي المدارس كما تعلمون الأساتذة من أمثالي همهم الراتب، والتلاميذ همهم متى يتخرجون، وهكذا .. فلا وجود لله عز وجل في أعمالنا، كيف يتخرج أبناؤنا؟ وأصعب من هذا البنات، يهون الأمر مع الذكور، أما مع الإناث فالآن مسابقة عظيمة: أية بنت تتخرج لتصبح موظفة! اللهم استر علينا.المهم من هداية هذه الآية الكريمة: [ بيان ما كان عليه قوم موسى من بني إسرائيل من العجرفة وسوء الأخلاق ليتجنب مثلها المسلمون ] قلتم: لا يستطيعون أن يتجنبوها .. ما عرفوها، هل اجتمعوا على هذا الكتاب ودرسوه؟ المقررات في العالم الإسلامي باستثناء المملكة -وليغضب من شاء أن يغضب- المقررات نتف وجزئيات بسيطة في التعليم لا وزن لها، فكيف يتخرج أبناء المسلمين عالمين بالكتاب والسنة؟! والمقررات عندنا إسلامية، ومع هذا والله يغمسون أنوفهم في الباطل، وتجد عجائب في المقررات لا يتفطن لها إلا ذوو الألباب! قال: [ ثانياً: حرمة الاعتراض على الشارع، ووجوب تسليم أمره أو نهيه، ولو لم تعرف فائدة الأمر والنهي وعلتهما ]. أقول: من هداية الآية: يحرم علينا أن نعترض على الشارع - على الله أو على رسوله .. على الكتاب أو السنة- ووجوب تسليم أمر الله وأمر الرسول ونهيه، وإن لم نعرف الفائدة كذلك، فليس شرطاً أن نعرف العلة، وما دام قد أمر الله أمر، ونهى رسول الله نهى، عرفنا العلة أو لم نعرف، إذ لا بد من التسليم؛ لم؟ لأن الشارع حكيم، وهو أستاذ الحكمة ومعلمها، فكيف إذن تظن في أمر أو نهي أنه خارج عن دائرة الفائدة والمصلحة! هذا مستحيل!إذاً: يحرم الاعتراض على الشارع، ويجب التسليم لأمره أو نهيه، ولو لم تعرف فائدة الأمر والنهي وما هي علته، المهم أن يصح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: [ ثالثاً: الندب إلى الأخذ بالمتيسر، وكراهة التشدد في الأمور ]. هل هذا عرفه المسلمون؟ فالذي تيسر من طعامك .. من شرابك فاحمد الله وكل واشرب. والذي تيسر من نعلك أو من ثوبك لم تتشدد وتطلب ما هو أعظم وما هو أعلى، وما هو أشقى؟!وهذا أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع يقول له ربه: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، فكانت هذه السورة أحب إليه، والله إنه ليقرأ بها في اليوم مرتين أحياناً؛ لم؟ لما فيها من كلمة: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، فقالت أم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله عنها: ( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما )، أنت تجد ثيباً تتزوجها بخمسة آلاف ريال فلم تتزوج بمائة ألف ريال يا عبد الله؟! أنا جاءني أحدهم يشتكي ويبكي، قلت: كيف تعطيه مائة ألف؟ أنت اشتريت هذه أمة؟! أنت تستحل فرجها بالمهر الذي هو مائة ألف ريال. يكفي خمسة آلاف .. لم تعطه مائة ألف؟! والعجب أنهم فقراء، ولو كانوا تجاراً .. أغنياء .. أمراء نقول: لا بأس، والله فقير يقول لك: مائة ألف! ماذا نصنع الآن؟ نطلق أم لا نطلق؟فخذ ما تيسر، ليس في المركب فقط، ولا في المسكن، ولا في الملبس، ولا في المأكل، بل في كل شيء، الذي يسره الله اقتنع وخذه.قال: [رابعاً: بيان فائدة الاستثناء بقول: إن شاء الله ] أما عرفتم هذا؟ الله أدب سليمان أم لا؟ وأدب المصطفى أم لا إذ قال له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] وقد جاءت أسئلة من اليهود جاءوا بها إلى مكة للمكر والخديعة، وسألوا الرسول عنها فقال: أجيبكم غداً. فعاتبه الله بانقطاع الوحي خمسة عشر يوماً، حتى أن امرأة أبي جهل في الشوارع تغني تقول: تركه .. قلاه. ونزلت سورة الضحى، وخففت عن آلام المصطفى وسرَّت عنه، وأقسم الله له أنه ما تركه أبداً: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3]، ونزلت: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].وبلغنا في بلاد العرب والإسلام أنك إذا قلت: إن شاء الله، يقول: لا تقل: إن شاء الله، لا أصدقك، قل: نفعل كذا، فمنعوهم كلمة: إن شاء الله!قال: [ بيان فائدة الاستثناء بقول: إن شاء الله، إذ لو لم يقل اليهود: إن شاء الله لما اهتدوا أبداً، وما كانوا يهتدون إلى معرفة البقرة المطلوبة.خامساً: ينبغي تحاشي الكلمات التي قد يفهم منها انتقاص الأنبياء مثل قولهم: الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71] ] إذاً: قبلُ ما كان يأتي بالحق، فهذه دلالة خفية.قال: [ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71] إذ مفهومه: أنه ما جاءهم بالحق إلا في هذه المرة من عدة مرات سبقت ].معاشر المستمعين! إياي وإياكم والجهل، أزيلوا الجهل بدراسة الكتاب والسنة في بيوت الرب، والله يتولاكم.وصلى الله على نبينا محمد وآله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-01, 02:02 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (59)
الحلقة (66)

تفسير سورة البقرة (3)

الناس ثلاث أصناف: متقون، وكافرون، ومنافقون، وقد جاء في بيان حال المنافقين من الآيات أكثر مما جاء في الصنفين الأولين؛ لعظم خطر هذا الصنف على المجتمع المسلم، فهو يظهر الإسلام ويبطن الكفر، صيانة لدنياه ويظن أنه بهذا العمل يخدع الله ويخدع المسلمين، ولا يدري أنه يخدع نفسه، لأنه سيحاسب ويجازى على كل صغيرة وكبيرة اقترفها في حياته الدنيا، ثم تكون النار هي مصيره الأبدي.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا مع كتاب ربنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها، وها نحن مع سورة البقرة، السورة الحاوية لألف خبر، وألف أمر، وألف نهي.وهذه السورة كان الأصحاب رضوان الله عليهم إذا حفظها أحدهم ولوه القضاء والحكم.وهذه السورة لا تقرأ على الموتى لطولها.وهي إحدى سورتين تظللان صاحبهما يوم القيامة: سورة البقرة وسورة آل عمران، وتسميان بالزهراوين.

الفلاح للمتقين

هذه السورة مفتتحة بقول الله تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1-2]، وقد درسنا هذه الآيات، وخلاصتها من باب تذكير الناسين وتعليم غير العالمين: أن القرآن الكريم لا ريب ولا شك فيه، فإن كان هناك شك أو ريب في نفس أحد فليس السبب هو القرآن، إذ القرآن لوضوحه وبيانه وسلامة ما يحمله من الهدى والنور لا يتطرق إليه الشك ولا الريب بحال.وهذا القرآن يحمل هدى ولكن للمتقين الذين آمنوا بالله ولقائه وكتبه ورسله، فخافوه وأطاعوه بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فهؤلاء لهم في القرآن نور وهداية إذا هم اتقوا ربهم.وقد وصف الله المتقين بصفات نسأل الله أن تكون عندنا ونحن من أهلها، فقال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:3-4]، فيدخل مؤمنو اليهود ومؤمنو النصارى في حضرة المؤمنين المتقين.وهؤلاء المتقون قد قضى الله تعالى وحكم بأنهم هم المفلحون فقال: أُوْلَئِكَ السامون الأعلون عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ أي: متمكنين من ذلك الهدى، كأنما اتخذوه سفينة نجاة، وَأُوْلَئِكَ هُمُ لا سواهم، ولا غيرهم، الْمُفْلِحُونَ أي: الفائزون الناجون من النار، الداخلون للجنة؛ دار الأبرار.ولو سئلت: ما المراد من الفلاح والفوز الذي يذكره الله في القرآن؟ فقل له: أما سمعت هذا البيان من سورة آل عمران فالله يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، هذا هو الفوز.وهذا صنف من الناس: مؤمنون متقون، من العرب ومن العجم، من المشركين ومن أهل الكتابين، آمنوا واتقوا واستقاموا، فحكم الله لهم بالفلاح.

الختم على قلوب الكافرين

هنا صنف آخر وهم الكافرون، قال الله تعالى عنهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7]. وهذا الصنف من الناس يشمل الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، وهم -والعياذ بالله تعالى- قد كفروا، وكفروا بمعنى جحدوا وغطوا وستروا، أو كفروا عناداً ومكابرة فعرفوا وجحدوا.وهؤلاء المكذبون، الجاحدون، المعاندون، المكابرون منهم من هو متهيئ ومستعد لأن يقبل الهداية متى عرضت عليه، ومنهم أفراد يقلون أو يكثرون موجودون في كل زمان ومكان قد ضربوا بسهم عظيم، وتوغلوا في الجحود والعناد والمكابرة والفسق والفجور، فمضت فيهم سنة الله، فختم على قلوبهم، فما أصبحوا يفقهون أو يعقلون أو يفهمون أبداً، ولو حدثتهم عن الله وعن لقائه .. عن الإخاء .. عن المودة .. عن الرحمة .. فلكثرة فسقهم وفجورهم وضلالهم وشركهم أصبحوا لا يسمعون الخير، ولا يعقلون أو يفهمون، إذ ختم الله على قلوبهم، فلا يدخلها نور، ولا وعي، ولا فهم، ولا إدراك. وَعَلَى سَمْعِهِمْ أي: لا يسمعون نداء الخير أبداً.وجعل الله تعالى على أبصارهم غشاوة أي: ستراً عليها كالبياض الذي يصيب العينين، فصاحبه لا يشاهد شيئاً فهو أعمى.فهؤلاء قضى الله تعالى عليهم وحكم بكفرهم وعدم إيمانهم، وبخلودهم في دار الشقاء: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] لأنهم كفار في الدرجة الأولى، فمنهم من كفر عناداً ومكابرة، ومنهم من كفر تقليداً، ولكن توغل وضرب بسهم كبير في باب الكفر والضلال، وما أصبح يقبل الهداية، وفي سورة يس يقول تعالى: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [يس:10-11] أي: المؤمن الحي القابل للهداية، أما من تراكمت عليه ذنوبه وآثامه وجرائمه وموبقاته فإن هذا ما أصبح قابلاً للهداية، فلا تكرب عليه يا رسول الله ولا تحزن، ولم يقل له: لا تدعهم ولا تنذرهم؛ لأن هذا غيب، والرسول لا يعلم الغيب، فما يفرق بين أبي جهل وبين أبي طالب ، فمهمته أن ينذر وأن يبلغ، ولكن لما يشعر بالألم في نفسه والحزن من أجل أنهم أعرضوا وعاندوا وكابروا يخفف الله تعالى عنه بمثل قوله: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10]، فهون على نفسك.إذاً: القسم الثاني من أقسام البشر الثلاثة هم الكفرة.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)

القسم الثالث هو قسم المنافقين، ولا رابع بعدهم. فالناس ثلاثة أصناف: مؤمنون متقون، كافرون فاجرون.والمنافق ن هم الذين ينطقون بالشهادتين ويأتون بالأعمال الصالحة ويصومون أمام المسلمين ويجاهدون، وهم مرضى القلوب، فيظهرون الإسلام بالنطق والعمل، ويبطنون الكفر والإلحاد في قلوبهم.قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ [البقرة:8-9] وفي قراءة سبعية (وما يخادعون) إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:9-10].وهؤلاء هم المنافقون، والسياق فيهم إلى كذا آية؛ لأنهم أخطر ما يكونون على المجتمع الإسلامي، فالكافر واضح صريح الكفر، لك أن تدعوه وترغبه، وتنذره وتخوفه، وإن كان قد توغل في الشر والفساد فلن يسمع نداءك، ولا يقبل دعوتك، وإن كان ما توغل في الفساد، وما عنده منافع في كفره يحافظ عليها فإن هذا قد يهتدي، وأما المنافق فهو يخاف أنه إذا أعلن عن كفره فإنه سيقتل أو يتوب، ولكي يحافظ على ماله وعلى شخصيته في المجتمع ماذا يصنع؟ تجده يتزيا بزي المؤمنين، ويأتي ما يأتونه من الأعمال الظاهرة كالصلاة والنفقة والجهاد، وهو مظلم النفس خبيث.

من صفات المنافقين وعلاماتهم

من التعاليم المحمدية؛ وأنتم تعلمون من هو محمد رسول الله، فهو أستاذ الحكمة ومعلمها، أنه أعطانا بطاقة لنا نحن بوصفنا رجال الدولة، وكل مؤمن يجب أن يحمي دولة الإسلام، وأن يحافظ على راية لا إله إلا الله .. محمد رسول الله، وأن يحافظ على الطهر، والصفاء، والأمن، والرخاء في ديار المسلمين.أعطانا بطاقة علنية، ما هي؟ اسمعوا أيها المجاهدون: ( آية المنافق ثلاث )، وبهذه العلامات نعرف بها المنافقين بينكم، والقرآن الكريم ما نزل يسمي المنافقين بأسمائهم؛ لأن النفاق ليس في أيام الصحابة فقط بل هو إلى اليوم، فماذا يسمي؟ إذاً يعطي الخبر العام.قال: ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ). وأنتم تعيشون في مجتمع يوجد فيه منافقون، فكيف نعرفهم حتى نتقيهم، وحتى ننذرهم أو نرغبه؟ كشف الرسول صلى الله عليه وسلم الستار عنهم بهذه البطاقة المحمدية.إذا كنت تحدث جارك أو من معك في العمل أو السفر، أو في المسجد وكلما يحدثك يكذبك؛ لأنه يريد أذاك وإرهاقك وتعبك، فهو كلما أخبرك كذبك، إذا جربت عليه المرة الأولى والثانية والثالثة والرابعة فهذا هو: ألق القبض عليه، هذا منافق.ثانياً: ( إذا وعد أخلف )، مثلاً: تجده يعدك قائلاً: نلتقي غداً إن شاء الله في الساعة الثانية عشرة ظهراً عند باب الكومة. فأنت لإيمانك إذا جاء الموعد ذهبت وجلست تنتظره هناك، وهو في بيته مع أولاده غير مبالٍ، يتلذذ ويقول: دعه في الشمس. هذه المرة الأولى. وفي المرة الثانية تتواعدان على أنكما تسافران غداً الساعة الواحدة ليلاً في المكان الفلاني، فذهبت أنت أيها المؤمن وجلست تنتظره وهو نائم مع زوجته وأولاده فرحان ومسرور. وهكذا: جربته المرة الأولى والثانية والثالثة .. فهذا هو المنافق الذي يبطن الكفر في نفسه، فما آمن بالله ولا بلقائه.والثالثة: ( وإذا اؤتمن خان )، إذا أمنته على فلس .. على عَرَض، على كلمة، تجده المرة الأولى يخون، والمرة ثانية يخون، والثالثة يخون، ولو وضعت عنده كل قوتك في جيبه، وقلت له: حتى أعود. ولما ترجع يقول: لعلك واهم، لست أنا الذي أعطيتني، وما وضعت عندي شيئاً أبداً. وهكذا كلما ائتمنته خانك، فإذا جرب في المرة الأولى والثانية والثالثة عرفنا أنه يتعمد الخيانة؛ لأنه يكره المؤمنين ويبغضهم، ويود خسارهم وهلاكهم.عندكم هذه البطاقة أو لا؟ تعرفون بها المواطن الذي يحمل النور في قلبه؛ نور الإيمان بالله ولقائه، أو هي مجرد صورة خالية فقط، والمؤمن الحق هو الذي لا يكذب إذا حدث، ولا يخلف إذا وعد، ولا يخون إذا ائتمن، نعم قد يحدث منه ذلك مرة في دهره، لكن أن يتكرر هذا منه فوالله لا يكون، إلا إذا كان قلبه ميتاً، يعيش في ظلام كامل، ظلام الكفر والشرك والعياذ بالله. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، والعلة: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]. (عذاب عظيم) ما حدد موعده، فيكون في الدنيا، ويكون في الآخرة.وهل المنافقون أيام الصحابة سعداء؟ والله لأشقياء، عذاب الخزي في الدنيا، وأما عذاب الآخرة فلا تسأل، وأيما مجتمع طاهر يوجد فيه منافقون إلا وهم في خزي وعذاب تام وعظيم، أما عذاب الآخرة فلا تسأل.

فقدان الإيمان عند أهل النفاق

قوله: وَمِنَ النَّاسِ من أين اشتق لفظ (الناس)؟الجواب: إما من ناس ينوس إذا تحرك، وإما من نسي ينسى، أو من الأُنس، وهذا كله محتمل، ولا معنى للاشتقاق، ولا حاجة إليه، فالناس هم الآدميون.لكن من هم في الآية؟ قال: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:8]. والله تعالى يشهد لعلمه بما في قلوبهم وما في نفوسهم بأنهم غير مؤمنين، فقال تعالى: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] ولا تظن أن هذا خاص بالمنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاللفظ يدل على العموم إلى يوم القيامة وَمِنَ النَّاسِ أي: هم أناس شأنهم كذا وكذا؛ والمنافقون قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم انقرضوا وما بقي منافق في المدينة، فكلهم ماتوا وهلكوا، ولكن البشرية هي البشرية، وهداية الله هي هداية الله، وفي كل زمان ومكان يوجد منافقون.يقولون: آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:8] أي: بألسنتهم: أشهد أن لا إله إلا الله، وقد كان ابن أبي رئيس المنافقين يدخل على الرسول صلى الله عليه وسلم في الروضة، ويقول: والله إني لأشهد أنك رسول الله، فأنزل الله في القرآن: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المنافقون:1-2] يجتنون ويتقون ويستترون بها فقط حتى تحفظ أموالهم ودماؤهم لا أقل ولا أكثر، أما الإيمان فما حلّ قلوبهم ولا دخلها.

الإيمان بالله واليوم الآخر هو أصل الإيمان

يقول المنافقون: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:8]، هنا عرف الدارسون والسامعون والسامعات أن الإيمان بالله واليوم الآخر هو أصل الإيمان، وإذا حصل فيه أي ضعف انهار البناء وما بقي إيمان، ومعنى الإيمان بالله: كونه رباً لا رب سواه، وإلهاً معبوداً بحق لا معبود بحق غيره، وموجوداً، عالماً، قديراً، رحيماً، ذا صفات علا، وأسماء حسنى.وإذا وجد الإيمان بالله في قلب العبد هان عليه أن يلاقي ما يلاقي في الحياة، وأصبح أهلاً للكمال، وإذا ضعف هذا الإيمان وخفت نوره هبط، وإذا انطفأ أصبح حجراً ومن شر الخلق.فالإيمان بلقاء الله .. وبيوم القيامة .. وبالبعث والجزاء والدار الآخرة هو الذي يكيف حياة الإنسان، ومتى قوي إيمان العبد بأنه سيلاقي الله وجهاً لوجه، وسيسأله وسيستنطقه وسيحاسبه وسيجزيه بعمله الخير بالخير والشر بالشر، متى رسخت هذه العقيدة في صاحبها فإنه يستطيع أن يصوم الدهر، ويستطيع أن يرابط عشرات السنين، ويستطيع أن يخرج من ماله ويستطيع .. ويستطيع، كل ذلك لقوة هذا النور في قلبه، أما الذي لا يؤمن بحساب ولا جزاء ولا حياة أخرى ولا لقاء، سبحان الله! كيف يصبح ذا كمال وكيف يكون له قلب رقيق؟! وكيف توجد له عاطفة؟! وكيف توجد له رحمة؟ فوالله ما هو إلا شر من الثعابين والحيات.دائماً نقول: الذي لا يوجد في قلبه إيمان بالبعث الآخر والحياة الآخرة والجزاء بالنعيم المقيم أو بالعذاب الأليم، إذا لم يوجد هذا في قلب العبد والله لئن تنام إلى جنب أسد أو ذئب أو ثعبان، وقد تسلم وتقوم في الصباح وأنت بعافية، وإذا نمت إلى هذا المخلوق، واحتاج إليك والله ما تسلم، فلو احتاج إلى دمك امتصه، إلى لحمك أكله، إذ ليس هناك ما يمنع ذلك أبداً، فمن لا يؤمن بلقاء الله والدار الآخرة لا يوثق فيه ولا يصدق، ولا يؤتمن ولا ولا؛ لأنه شر الخليقة.وقد كنا نعجب أيام الاشتراكية في بلاد العرب ممن كان يتمدح بها بصوته العالي، وينظر إلى أهل العلم نظرة استهزاء وسخرية -والعياذ بالله-، والحمد لله قضى الله على الاشتراكية والشيوعية وأساسها: إن حرباً ظاهرة في بلاد الروس اللهم أنهِ وجودهم، وهم لا ينادون بالدين .. بالإسلام، بل ينادون بالقيم الإنسانية! ونحن نعجب من شخص لا يؤمن بالله ولا بلقائه كيف تكون له قيم ويحافظ عليها ويدعو إليها، وهذه كلمة باطلة فيها تدجيل وتضليل، فأي قيم هذه! وهو يعرض عن مصدر القيم ومنبعه وهو شرع الله وتعاليم الله وهداية الله في كتابه وحكمة رسوله، وقد جربناهم وعرفناهم أنهم من أخبث الناس وشرهم.نعم. الإيمان أركانه ستة: الإيمان بالله .. بملائكته .. بكتبه .. برسله .. باليوم الآخر .. بالقضاء والقدر، ولكن الركيزة المتينة هي الإيمان بالله واليوم الآخر، وليس بمعقول أن من آمن بالله رباً وإلهاً فإنه يكفر بالكتاب أو يكذبه بأنه أرسل رسولاً، أو يكذبه في قضائه وقدره وتدبيره لخلقه، هذا غير معقول! لكن قد يؤمن بالله ولا يؤمن بالبعث الآخر.ومن هنا: لو تتبعنا القرآن فإننا نقف على هذه الحقيقة، يقول تعالى: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، ويقول: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [الطلاق:2]، وحتى النساء في قضية الحيض يقول تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228]، فما يجحدن الحيض.وهنا أحب أن تركزوا على أن المحرك القوي الدافع للإنسان والموجه له هو الإيمان بالله وبلقائه، فمن ضعف إيمانه بالله أو بلقائه هبط، وإن انطمس النور وكفر بالله وبيوم القيامة أصبح شر الخليقة، فلا تأمنوه أبداً، وإذا به يفرغ تمام الفراغ من شيء اسمه رحمة أو إنسانية، والتمنطق بالإنسانية والقيم كله هراء وباطل، وانكشفت سوءاتهم وعرفهم البشر بكذبهم.

تفسير قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون)

قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8] ناس شأنهم كذا وكذا، أي: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، ولِم يقولون: آمنا؟ قال تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9].وهل يستطيعون مخادعة الله وهو يعلم إسرارهم ونياتهم وخواطرهم، وهو خالق أعمالهم؟ لكنه الجهل، فكفروا بالله، فيفهمون هذا الفهم يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9]، لكن الله تعالى رد عليهم فقال: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9].والخداع هو: أن تظهر الشيء النافع وتخفي الضار من أجل أن تخدع به غيرك، فهذا هو المخادع، تراه يريك زيتوناً ليغرر بك، وإذا هي حصاة حتى تبيت جائعاً.إذاً: هم يرون الله والمؤمنين أنهم مؤمنون يشهدون الصلاة ويخرجون إلى الجهاد مع رسول الله، وما هم بمؤمنين، فإن قيل لهم: لِم تفعلون هذا؟ قالوا: نخادعهم، فسوف تنتهي هذه الدولة وسوف يموت محمد صلى الله عليه وسلم ونعود إلى ما كنا، وما هي إلا أيام فقط. وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]، أي: من أين لهم الشعور والإحساس؟! فهم لا يبصرون، ولا يسمعون، ولا يفقهون، ولا يعقلون. كيف -إذاً- يشعرون بأنهم يخادعون الله وهو خادعهم؟! ما يشعرون.

تعريف الإيمان وصفة المؤمن

هنا مسألة علمية نحاول أن نحفظها إن شاء الله: ما هو الإيمان؟أهل العلم يقولون: الإيمان عقد بالجنان، أي: بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان.فمن اعتقد الحق من وجود الله، وعلم الله، وقدرة الله، ورحمة الله، وحكمة الله، واعتقد أن هذا القرآن كتاب الله، وأن من نزل عليه رسول الله، واعتقد أنه مجزي بعمله، ومحاسب به: إما نعيم وإما جحيم، فإن اعتقد هذا فليترجمه بكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.فهذا اعتقد الحق وعربن عليه، ودلل بالشهادة والنطق، فما أبقى الإيمان في قلبه بل صرح بأنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وآمن بكل ما أمر الله بالإيمان به، ثم دلل على صحة دعواه بأركانه، فصام، وصلى، وجاهد، وصابر، وتجنب ما حرم الله.فإن هو اعتقد الحق وأبى أن ينطق بالشهادتين فهو كافر وإن عرف، وما دام لم يعربن على إيمانه بالنطق بالشهادتين فهو كافر قطعاً، فلا يصح إيمان عبد ما نطق بالشهادتين، وإن قال: أنا عارف، وعرفت، وأنا مؤمن، ولم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فهو كافر.فإن اعتقد الحق ونطق بالشهادتين، وأبى أن يدلل على ذلك بالأعمال الصالحة وترك المحرمات فهو فاسق؛ لأنه اعتقد الحق، ودلل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكنه لم يحرم ما حرم الله، ولم يحل ما أحل الله، ولم ينهض بما أوجب الله، فهذا الفاسق؛ لأن العقيدة سليمة، وأعرب عنها ودلل، لكن سلوكه وأركانه ما استقامت.ويبقى المنافق هو الذي يعتقد الباطل، ولا يعربن عليه، ولا يدلل بل يدلل على الحق فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدلل بالصلاة والجهاد، فهو منافق؛ لأنه ما يحمل الإيمان في قلبه، وهو -فقط- من الخوف شهد: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وفعل ما فعل المؤمنون من صلاة وجهاد وزكاة، واجتنب ما يجتنب المؤمنون من المحرمات والموبقات، لكنه منافق أبطن الكفر وغطاه وغشاه في صندوق قلبه، وأظهر ما يدل على أنه مؤمن.الخلاصة: المؤمن الحق هو الذي يعتقد الحق ويعربن عليه بالنطق، ويدلل على صحته بالأعمال.فإن اعتقد الحق ولم ينطق بالشهادتين ولم يعربن على أنه يعتقد الحق، فهذا نقول فيه: كافر.فإن اعتقد الباطل وعربن عليه بالشهادتين ودلل بالأعمال الصالحة، فهذا منافق؛ لأنه أبطن الكفر وغشاه وغطاه، وما أظهره لمنافع ومصالح دنيوية حفاظاً على مركزه .. على ماله .. على وجوده في المجتمع الإسلامي.وقد يوجد عندنا من هو ضعيف الإيمان، وعربن على إيمانه بالشهادتين بل يؤذن وفي كل صلاة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ولكن يرتكب المعاصي، ويترك الواجبات، وهذا يسمى الفاسق.

الحكم على الناس بالنفاق لله وحده

قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] من حكم عليهم بعدم الإيمان؟ الله، وأما أنا أو أنت أو الطبيب أو الشيخ فما يستطيع، والقلوب من يعلمها؟ الله فقط، أما نحن فلا نقول: فلان منافق، لا نستطيع، إلا إذا دللت بما أعطينا من برهنة: جربته يوم كذا، يوم كذا، وهو يكذب .. يكذب .. يكذب، وجربته في الوعود فيخالفها ويخلفها و.. و، وجربته أيضاً في الأمانة فخاننا وخان الدولة. إذاً: هذا منافق، ونترك للقاضي يحكم عليه.أما إذا ما استعملنا هذه الآلة التي أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما نقول في شخص: منافق؛ لأنه يبطن الكفر وما ندري، هل أنا اطلعت على قلبه، وشققت صدره! وحتى لو شققت فإنك ما تعلم، وهذا لا يعلمه إلا الله، فلهذا عاش المنافقون، ومع هذا ما فضحهم الله، وهم يخادعونه، فستر عليهم حتى يردوا موارد العذاب الأبدي أو يخرج من فتنة النفاق إلى نور الإيمان، ولو شاء لأنزل: يا أيها الذين آمنوا إن ابن أبي وإن فلاناً وفلاناً وفلاناً .. هؤلاء منافقون كافرون، ولأجهز عليهم رسول الله والمؤمنون وذبحوهم واستراحوا، لكن الله الرب، الرءوف، الرحيم علم أن كثيراً منهم سيعودون، وكم وكم من عائد عاد إلى الإيمان، ومن مات على الكفر فقد قضى وحكم أزلاً بأنه من أصحاب الشقاء، والعياذ بالله تعالى.فقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] قلنا: هذا لله أو لا؟!

كيفية خداع المنافقين

قوله: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9]، كيف يخادعون الله؟ يظهرون لو أنهم مؤمنون به، فيغتسلون ويصلون ويجاهدون مع المؤمنين، وهذا خداع إذ يرون الله شيئاً ما هم بمؤمنين به، فالخداع أن تري الشخص ما يحب وتخفي وتجحد عنه ما يكره من أجل أن تتمكن منه، ولهذا الغش والخداع محرمان بين المسلمين.قوله: وَمَا يَخْدَعُونَ وفي قراءة: وما يخادعون إِلَّا أَنفُسَهُمْ ؛ لأن من ارتكب سيئة فهو الذي يجزى بها. أما الله عز وجل ماذا يفعلون معه؟ هذا إن قلنا: المخادعة على بابها، وإن قلنا: إن هذا من خدع يخدع فقط، فقد فرغنا من هذا التعليل، وهذا اللفظ يطلق ولا يراد به المفاعلة مثل: عاقبت اللص، هو عاقب وأنت تعاقب، عاقبت اللص بمعنى عاقبته، كذلك عالجت المريض، هل هذه مفاعلة هو يعالج وأنت تعالج؟ الجواب: لا. إذاً يخدعون الله، فيخادعون بمعنى يخدعون، والله منزه وبعيد عن خداعهم، ولا يصل إليه شيء. وإن قلنا: المخادعة على بابها فيصح؛ لأن الله عز وجل أيضاً خادعهم، ستر وما فضحهم، ولا سماهم بأسمائهم إلى حين، وفي نظرنا أنهم خدعوا الله، فأظهروا له الإيمان فهو يحسبهم مؤمنين، والله هو خالق إيمانهم وخالق قلوبهم، كيف ما يعرف؟ فما ينفعهم خداعهم لله. إذاً: ما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.

تفسير قوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً...)

قال الله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10]. ما هذا المرض؟ هل هي هذه الأمراض المادية التي يعالج الإنسان منها كوجود خفقان في القلب أو انسداد؟ الجواب: لا، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: الشك، والشرك، والنفاق، والكذب، والحسد، والبغض، وما إلى ذلك من الأمراض التي لا تعالج بالأدوية والعقاقير النافعة.ومرض الكفر يذهبه الإيمان، ومرض النفاق يبرزه ويعالجه الصدق، ومرض الحسد يبعده الإيمان بقسمة الله عز وجل، وهكذا. وهذه الأمراض شأنها خطير، وإذا تأصلت في المجتمع فيا ويحه! فلا يسعد ولا يكمل، وكل منا مطالب بتطهير قلبه وتصفيته.وقد كررنا القول: المجتمع الإسلامي من المدينة النبوية إلى اندونيسيا توجد فيه أمراض كثيرة، لكن أمراض القلوب كالحسد والبغض والشح والكبر ما علاجها؟ نعم هناك مستشفيات لعلاج الأمراض المادية التي تعالج بالأدوية، لكن هذه القلوب لا تعالج إلا بالكتاب والحكمة .. بنور الله سبحانه وتعالى.والطريقة الحقيقية هي أن يجتمع أهل القرية في جامعهم بنسائهم وأطفالهم ورجالهم من المغرب إلى العشاء؛ وذلك كل ليلة وطول العام، بل وطول الحياة، فهذا نظام حياتهم، فيتلقون الكتاب والحكمة كل يوم، فهذا الذي يعالج تلك الأمراض، والله ما يبقي شكاً ولا نفاقاً، ولا يبقي ارتياباً، ولا يبقي حسداً، ولا بغضاً، ولا بخلاً، ولا شحاً، ولا .. ولا، إذ العلاج الوحيد: الكتاب والحكمة، قال تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، ولا تسأل عن فوائد ذلك المجتمع وما يتم له.لكن لا بد وأن نقدم قلوبنا للمربي، ولابد أن نجلس بين يديه كما جلس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين والمؤمنات بين يدي رسول الله، فزكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة، فإما أن ندخل هذا المستشفى الرباني الإلهي فنعالج قلوبنا طول العام وطول الحياة؛ لأن الطوايا تطغى، والأحداث تتكرر، وأعراض الحياة واضحة، لكن يومياً أهل القرية في جامعهم، وأهل الحي في المدينة في جامعهم، خالفوا الإنس والجن، وأقبلوا في صدق على ربهم، هذا هو العلاج. هل هناك علاج آخر؟ لا وجود له.نعم قد يوجد أفراد مجتمعون حول شيخ يزكيهم ويربيهم، لكن هؤلاء أفراد وليسوا الأمة كاملة، غير أهل قرية بنسائها وأطفالها، وهذا هو كتاب (المسجد وبيت المسلم).وإلى الآن ما بلغنا أن أهل القرية الفلانية قد اجتمعوا بنسائهم وأطفالهم ورجالهم كل ليلة من المغرب إلى العشاء، وواصلوا الاجتماع، والآن مضى عليهم ستة أشهر، وقلت لكم: والله نزور ديارهم لنشاهد أنوارهم، ولكن ما حصل بعد، فهل هناك من مانع؟ والله أبداً، ولا توجد حكومة في بلاد المسلمين تمنع هذا قط، بل والله ليأتين شيخ القرية والمسئولون ويجلسون معهم. فلِم ما نفعل؟ ما نستطيع. لِم ما نستطيع؟ الجواب: لأن الله كتب علينا هذا الهبوط، ولنبق دائماً في شقاوة وتعاسة وآلام.إذاً: القلوب تحتاج إلى علاج أو لا؟ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] نعم. المرض إذا ما يعالج يزداد، فعندما يظهر المرض في الجسم بادر إلى الطبيب، وبادر إلى الحمية والدواء، فإن أنت تساهلت وما باليت فإن المرض يستشري، والطبيب يقول: فات الوقت وما أصبح قابلاً للعلاج، وهذا هو حال الذين كفروا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] فتأصل المرض فيهم، وتمكن من قلوبهم، وكذلك النفاق فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا.قوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10] العذاب: ألم يزيل عذوبة الحياة، فهناك جوع، عطش، برد، حر، إهانة، ضرب بالسياط، تغليل بالأغلال، وكل هذا يذهب عذوبة الحياة.والأليم هو الموجع، وهذا أيضاً لهم في الدنيا والآخرة.وهل المنافقون سعداء في الدنيا؟ إنهم يبيتون في كرب ويظلون في آخر، وإذا ماتوا يلحقهم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10] بسبب ماذا؟ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] أي: بسبب كذبهم على الله، وعلى رسوله، وعلى المؤمنين، إذ يزعمون أنهم مؤمنون ويتمنطقون ويشهدون، وهم ليسوا بمؤمنين، كذبوا أو لا؟ والكذب هو: خلاف الظاهر، وقول خلاف الحق، ولو أن عنده شيئاً يقول: والله ما عندي. هذا كذب، يقول: فلان سافر وهو في بيته. وهذا كذب.إذاً: يدعون أنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين، فهم كاذبون.وهل يصح من مؤمن كذب؟ والله ما يصح، وهل مؤمن عرف الله ولقاءه يكذب أيضاً؟ نعم ممكن في العام والعامين، وإبراهيم عليه السلام كذب ثلاث مرات في أكثر من مائة وعشرين سنة، وما هو بكذب حقيقة بل تورية، فكون المؤمن كل يوم يكذب فهذا ما هو بالمؤمن، فافهموا هذا، واسألوا الله أن يثبتنا وإياكم.‏
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال المؤلف غفر الله له: [شرح الكلمات: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8]: من بعض الناس. مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:8]: صدقنا بالله رباً وإلهاً لا إله غيره ولا رب سواه. وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:8]: صدقنا بالبعث والجزاء يوم القيامة. يُخَادِعُونَ اللَّهَ [البقرة:9]: بإظهارهم الإيمان وإخفائهم الكفر. وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9]: إذ عاقبة خداعهم تعود عليهم لا على الله، ولا على رسوله، ولا على المؤمنين. وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]: لا يعلمون أن عاقبة خداعهم عائدة عليهم. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10]: في قلوبهم شك ونفاق وألم الخوف من افتضاح أمرهم، والضرب على أيديهم.فَزَادَه مُ اللَّهُ مَرَضًا: شكاً ونفاقاً وألماً وخوفاً حسب سنة الله في أن السيئة لا تعقب إلا سيئة] هذه سنة مطردة فما دام وجد المرض يزداد.[ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10]: موجع شديد الوقع على النفس].

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له: [مناسبة الآية لما قبلها وبيان معناها: لما ذكر تعالى المؤمنين الكاملين في إيمانهم، وذكر مقابلهم وهم الكافرون البالغون في الكفر منتهاه، ذكر المنافقين وهم المؤمنون في الظاهر الكافرون في الباطن، وهم شر من الكافرين البالغين في الكفر أشده، أخبر تعالى أن فريقاً من الناس وهم المنافقون يدعون الإيمان بألسنتهم، ويضمرون الكفر في قلوبهم. يخادعون الله والمؤمنين بهذا النفاق، ولما كانت عاقبة خداعهم عائدة عليهم كانوا بذلك خادعين أنفسهم لا غيرهم، ولكنهم لا يعلمون ذلك ولا يدرون به، كما أخبر تعالى أن في قلوبهم مرضاً، وهو الشك والنفاق والخوف، وأنه زادهم مرضاً عقوبة لهم في الدنيا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الآخرة؛ بسبب كذبهم وكفرهم].

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له: [هداية الآيات: من هداية الآيات: التحذير لنا من الكذب والنفاق والخداع، وأن عاقبة الخداع تعود على صاحبها كما أن السيئة لا يتولد عنها إلا سيئاً مثلها]، والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-02, 10:07 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري ) تفسير سورة البقرة - (60) الحلقة (67)

تفسير سورة البقرة (30)


القلوب لحمة رطبة، لكنها إذا قست غدت أقسى من الحجر، فكم من عيون ماء نبعت، وأنهار جرت من بين ثنايا صخور صماء، أما القلوب القاسية -يا ويحها- لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً، جافة قاحلة، وهكذا كانت قلوب بني إسرائيل، قلوباً سوداء مظلمة، محرّفة لكلام الله وآياته، تنكر الضوء إذا داعبتها خيوطه، ولهذا كان الطمع في إيمانها بعيداً.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:74-75] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قول ربنا جل ذكره: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:74] من المخاطب بهذا؟ إنهم بنو إسرائيل .. إنهم اليهود الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم بل وساكنوه في هذه المدينة.فهذه الآيات تكشف الغطاء، وتزيح الستار عن أمراض تلك الأمة وعللها، وأسقامها، وأوجاعها؛ إذ كما بلغنا وسمعنا، وفهمنا أن ابن أخ قتل عمه ليرثه، ثم أخذوا الجثة ووضعوها في حي قبيلة أخرى، ثم صاحوا: قتل شيخنا .. قتل أبونا، من قتله؟ هو في الحي الفلاني.فأوحى الله تبارك وتعالى إلى نبيه موسى عليه السلام أن يأمرهم بذبح بقرة، فإذا ذبحوها جاءوا بعظم منها كرجل أو لسان أو أي جزء، وضربوا القتيل به فإنه يحيا بإذن الله، وينطق، ويخبر عن قاتله.وقد أشرنا إلى أنهم كانوا يدفعون إلى هذا دفعاً، فلمَّا أخبرهم أن الله أمرهم أن يذبحوا بقرة قالوا تلك الكلمة البشعة التي هي كفر، وهي كونهم يقولون لرسول الله: أتسخر منا؟ أتستهزئ بنا؟ وقد عرفنا أن الاستهزاء والسخرية محرمان على المؤمنين، فلا يجوز أن يسخر مؤمن بمؤمن، ولا يستهزئ مؤمن بآخر، واقرءوا قول الله تعالى من سورة الحجرات المدنية لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات:11].ثم لما أمرهم ورد فريتهم وباطلهم، وعزموا على أن يذبحوا البقرة قالوا: ما لونها؟ ما هي؟ أخذوا يشددون على أنفسهم؛ ولعل هذا من أجل التهرب من القضية؛ وخشية أن يفتضح أمرهم بين الناس؛ لأن الذين طالبوا بالقتل هم الذين قتلوا عمهم أو أخاهم، فخافوا أن يفضحوا، فقالوا: ما هي؟ فقال: إنها كذا وكذا، لا فارض ولا بكر؛ عوان أي: نصف بين ذلك، ثم زادوا فقالوا: ادع لنا ربك ليبين لنا ما لونها: صفراء .. سوداء .. بيضاء؟ قال: إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69]، وهكذا حتى ساقهم القدر إلى تلك العِجْلَة التي هي نتيجة دعوة الرجل المؤمن الصالح، ليرزق الله ولده بمال ما كان يحلم به، إذ ساوموه بالألف والألفين، ولم يبعهم إلا بملء مسكها ذهباً، واشتروها.وعرفنا أنهم قالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] فنفعهم الاستثناء، ولو لم يقولوا: إن شاء الله ما كانوا يصلون إلى نتيجة. وذبحوها وجاءوا بقطعة منها وضربوا الميت، فقام تشخب عروقه بالدماء كأنه الآن سقط، وهو يقول: قتلني فلان.

تفسير قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة ...)

هذه الحادثة حادثة جُلَّى وعظيمة، فهذا ميت مضى عليه كذا يوم، ثم يحيا حياة كاملة، وينطق ويقول: قتلني فلان، ثم يموت مرة أخرى! حقيقة الذين شاهدوا هذه الواقعة لانت قلوبهم .. خجلوا .. رجعوا إلى الصواب .. عادوا إلى الحق، لكن ما هي إلا فترة، فما إن مات أولئك الذين شاهدوا الحادثة وإذ قلوب أبنائهم وأحفادهم تقسو، بدليل قوله تعال: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة:74]، وهو يخاطب بني إسرائيل الأموات والأحياء؛ لأن الأحياء متشددون، متمسكون بعقيدة أسلافهم ونحلتهم وما هم عليه، فأصبحوا كأنهم مجتمعون والقرآن ينزل على الجميع، ويخاطب الحاضرين، والغائبين، والميتين. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ في قساوتها كَالْحِجَارَةِ [البقرة:74] والقلب قطعة لحم، وقساوته ليست في تلك اللحمة، قساوته فيما يرتكب صاحبه، فالذي يذبح عمه أو أخاه هل في قلبه رقة أو لين؟ هذا أشد من الحجارة، والذي يشاهد هذه الآيات عياناً ثم يفسق ويفجر، بل ويكفر هل في قلبه لين أو رقة؟! قلبه كالحجر. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ [البقرة:74] بل أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] من الحجارة، و(أو) هنا بمعنى بل.ثم بين تعالى أن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، صخور في الجبال تتفجر منها الأنهار وتتدفق، ومنها ما يخرج منه الماء ينابيع، وأما قلوب هؤلاء فلا رحمة، ولا عطف، ولا رقة، ولا.. ولا.. ولا.. العجب العجاب. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ [البقرة:74] كم من عيون تفجرت من الصخور الجبلية، ومنها ما ينبع منه الماء الرقيق العذب القليل. وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74] وحادثة الجبل الذي ارتفع فوقهم كأنه ظلة، كيف ارتفع؟ ارتفع لأن الله أمره فأطاعه وخضع وذل لأمر الجبار فارتفع، وفوق ذلك لما سأل موسى ربه أن يريه وجهه الكريم فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143] فهذا الجبل تجلى له الرحمن عز وجل فصار دكاً، أي: ذاب ذوباناً، وأصبح هباءً.وعندنا جبل أحد لما علاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أبو بكر وعمر وعثمان ماد تحته واضطرب، فقال: ( اسكن أحد؛ ما عليك إلا نبي وصدِّيق وشهيدان ) الصديق هو أبو بكر ، والشهيدان هما عمر وعثمان ، وهل ماتا في ساحة القتال؟ أين مات عمر وعثمان ؟ في المدينة، عمر في المسجد وعثمان قريباً من المسجد، لكنهما شهيدان أو لا؟ فمن الشهادة ما تكون في ساحة القتال، وإن من سأل الله تعالى الشهادة بحق أعطيها ولو مات على فراشه.ثم قال تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74] هذا توبيخ .. تأديب .. تحريك لقلوبهم .. فكشف النقاب عن صنائعهم المدمرة؛ المخربة، ومؤامراتهم اليهودية المنتنة؛ إذ حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، ولكن الله أذلهم وأخزاهم، فقوله: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74] معناه حيثما تحركتم للكيد والمكر برسولنا والمؤمنين فنحن على علم بما تحدثونه وما ترتكبونه، إذاً فخافوا الله.وانتهت هذه القصة.

تفسير قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ...)

قال تعالى يخاطب رسوله والمؤمنين: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة:75] الذي نعلمه، ويعلمه المسلمون أن الصحابة وخاصة المهاجرين مثل أبي بكر وعمر ومن إليهم كانوا يطمعون -حقيقة- في أن اليهود سيدخلون في الإسلام، بل كانوا يرجون رجاء أن اليهود سوف يدخلون في الإسلام، لم؟ لأنهم أهل كتاب يؤمنون بالله .. يؤمنون بلقائه .. يؤمنون بالوحي الإلهي .. يؤمنون بالتشريع الإلهي، فهم موحدون قبل كل شيء، وليسوا بمشركين، فما المانع أن يدخلوا في الإسلام جماعات؟!هذا الطمع كان بالفعل، ولو لم يكن كيف يخبر تعالى عن شيء ما كان؟! أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة:75] أي: يتابعوكم على دينكم الإسلامي. وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75]. ولنعد إلى الوراء، فقد كانوا يسمعون كلام الله ويحرفونه، فلما رفع الجبل فوق رءوسهم وسجدوا تلك السجدة ما التزموا، وما إن رفع الجبل عنهم عادوا وحرفوا ما سمعوا، فهم يحرفون الكلام من بعد ما سمعوه، وهم يعلمون أنهم محرفون.وهذا تسجيل إلهي على اليهود، فإنهم أهل مكر، وأهل تحريف وتضليل، فصفات النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته بين أيديهم، فيحرفون الصفة، ويحرفون صاحبها.ولما يحتج عليهم إخوانهم: أليس هذا هو النبي المنتظر؟ يقولون: لا، ما زال لم يأت، ليس هذا، ذاك أزرق العينين .. طويل القامة .. سبط الشعر، فيحرفون صفات الرسول لأولادهم ونسائهم ويقولون: هذا لم يأت، وما خرج بعد. ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] أنهم محتالون يحرفون الكلم لأجل الحفاظ على حياتهم المادية الهابطة.وقد قررنا غير ما مرة أن تفكيرهم في إعادة مملكتهم التي كانت على عهد سليمان عليه السلام، وأنهم سادة أهل الأرض، وأنهم وأنهم ..، فهذا الذي جعلهم لا يمتزجون بأية أمة، وبقوا مستقلين إلى الآن استقلالاً بدنياً كاملاً.هكذا يقول تعالى لرسوله والمؤمنين، فيخفف عنهم ما في نفوسهم من تلك الرغبة التي كانت تدفعهم إلى أن يقول اليهود ما يقولون، قال لهم: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة:75] بمعنى: يتابعوكم إلى أن يؤمنوا بكم، ويؤمنوا لكم أي: يتابعوكم على دينكم الإسلامي. وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:75] وما زال يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75].

تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ...)

قال تعالى بعد ذلك: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:76] هؤلاء منافقوهم؛ إذ كان من اليهود بالمدينة منافقون أعلنوا عن إسلامهم، ويجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلون معه وهم كافرون؛ فقط من أجل التغطية، والتدليس، والتعمية، وللحفاظ على وجودهم، وعلى أموالهم وديارهم.فكان بينهم منافقون، وتقدم في أول السورة بيان نفاقهم.هؤلاء وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:76]، نحن وإياكم على دين حق .. ملة إبراهيم .. التوحيد، وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ [البقرة:76] وجلسوا في سقائفهم .. في دورهم .. في مجالسهم أنكر بعضهم على بعض: أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:76] لأنهم يقولون: والله إن هذا هو النبي، وهذه صفته .. هذه قامته .. هذا لونه .. هذا شعره .. هذا هو .. هذا هو، ويتلون عليهم صفات التوراة، فهذا يقولونه للمؤمنين لما يكونون بينهم وهم أقلية، فإذا خلوا في دورهم ومجالسهم يأخذون في اللوم والعتاب، ويقول بعضهم لبعض: أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:76] من العلم والمعرفة، وتؤكدون صفات النبي، وأنه هو النبي المنتظر، لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:76].والمعروف في عقيدة اليهود أنهم يصفون الله عز وجل بصفات النقص، منها أنه يعطي ويندم .. منها أنه ينسى. فهي صفات لا تليق بجناب الله عز وجل، وهي من صفات المحدثين والخلق، فانظر كيف قالوا: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [البقرة:76] يوم القيامة، فيغلبوكم؛ لأنهم سيقولون: يا رب! هؤلاء أخبرونا أن الإسلام دين حق، وأن محمداً رسول الله، وهؤلاء أنكروا هذا ..فاليهود فيهم أيضاً سذاجة وبساطة تفكير؛ وهذا ناتج عن الجهل، فما هم بالعلماء كما سيأتي، بل هم أميون، فيتصورون هذا التصور، ويرون أنهم ليس من حقهم أن يخبروا المؤمنين بأن هذا الدين الحق، وأن هذا النبي المنتظر، فتقوم الحجة يوم القيامة عليهم، فيقولون: لا، اجحدوا. ظناً منهم أنهم إذا جحدوا وما تكلموا أن هذا يخفى على الله عز وجل، ويحاجهم المسلمون يوم القيامة ويغلبونهم. فهذه سذاجة، وهي موجودة إلى الآن، وهي نتيجة عن الجهل المركب.واسمع ماذا قالوا، وما أخبر تعالى عنهم، قال تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي: الصادقين المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالُوا آمَنَّا هذا هو الدين الحق .. هذا الذي كنا ننتظره، ونستفتح به على الأمم، وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ أي: في مجالسهم الخاصة قالوا: كيف تفعلون هذا؟ أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي: بما علمكم الله، وأعطاكم من علم التوراة، فتخبروهم بتلك النعوت والصفات، فتزيدون في إيمانهم، وتقوية معتقدهم لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:76]؟ أين يُذهب بعقولكم؟هذا الكلام السري في خلواتهم، ولكن العليم الخبير أنزله قرآناً يقرأ، فيسمعه المسلمون واليهود وغيرهم؛ لأن الله علّام الغيوب.

تفسير قوله تعالى: (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ...)

قال تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ [البقرة:77] أيقفون هذا الموقف، ويتكلمون بهذا الكلام، ويعتقدون هذا الاعتقاد الباطل أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [البقرة:77] كيف يخفى على الله هذا؟فهذه الآية تدل حقيقة على أنهم كانوا يجهلون صفات الله الحقة، وينسبون إليه ما هو من صفات المخلوقين من التردد، والعجز، والنسيان، وما إلى ذلك أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [البقرة:77].

تفسير قوله تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ...)

قال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] وهذا الذي كشف النقاب عن الحقيقة.وَمِنْه مْ أُمِّيُّونَ الأمي: المنسوب إلى أمه، فما درس، ولا تعلم، ولا قرأ، لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ أي: التوراة إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] إلا قراءة.وهذا الذي يعنيه الله عز وجل ويورده مع اليهود حصل لنا، فتدخل المسجد يوم الجمعة في العالم الإسلامي، تجد أمة تقرأ القرآن، والمصاحف بأيديها تتلو، ولا يعرفون من كلام الله شيئاً، ولا يعرفون إلا القراءة، بل وتجد من حفظة القرآن ملايين؛ يحفظون من البقرة إلى الناس -كما يقولون- عن ظهر قلب، ولا يفقهون منه شيئاً، وما لهم إلا التلاوة، والذي عاش عليه بنو إسرائيل انتقل إلينا، كما استعرضنا مواقف كثيرة، نحن وإياهم سواء، لم؟ لأننا بشر، فلسنا جنساً يخالفهم، ولا هم بجنس يخالفنا، فإن أقبلنا على الله عز وجل، واجتمعنا على أهل العلم، وتعلمنا ارتفعنا وسمونا، وعرفنا، واتقينا الله، فإن أعرضنا، وأعرض الله عنا هبطنا كغيرنا.اسمع هذا النعي الإلهي وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] أي: إلا قراءة.قال:تمنى كتاب الله أول ليلهوآخره لاقى حمام المقادرتلا: بمعنى قرأ.إذاً: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ أي: التوراة إِلَّا أَمَانِيَّ. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] فمعلوماتهم، ومعارفهم، وما عندهم لم تتجاوز حد الظن، فلا يقين أبداً، ولا بصيرة.والآن حال المسلمين! أكثر ما عندهم ما هو إلا الظن، فلو كانت يقينيات لأقاموا دعوة الله، ولنصروا دينه، وأقاموا شريعته، ومن معايب الجهل أنه يفقد اليقين، فإذا علم حصل اليقين بعد العلم، فإذا كان جاهلاً كيف يوقن؟! أدنى هزة تفضحه. وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] أي: ما هم إلا يقولون بالظن، يظنون فقط، واليقينيات لا وجود لها، وعلة ذلك: أنه مرت عليهم فترات طويلة انعدم فيها العلم.وفي سورة الحديد يقول تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] قالت الصحابة: ما هي إلا سنيات واستبطأ الله قلوبنا، فنزلت هذه الآية: أَلَمْ يَأْنِ يحن الوقت لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] في كتاب الله وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].ونحن ما بين الرسول إلى اليوم ألف وأربعمائة سنة، فأيما أهل بلد أو إقليم أو دار نسوا ذكر الله، وتركوا معرفة الله، لا بد وأن يقع لهم ما وقع لغيرهم، فتقسو القلوب وتتحجر، وإذا قست القلوب من يرحم؟ من يرهب الله ويخافه؟ من يطمع فيما عند الله؟!ويأتي بعد ذلك الفسق، وهو الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

دواء قساوة القلوب

معاشر المستمعين! قساوة القلوب وضع لها الرحمن دواء نافعاً، ومما يقضي على قساوة القلب: ذكر الموت والدار الآخرة، حتى إن بعض السلف كان يأتي إلى المقبرة ويجلس الساعات، ويتفكر في مصير إخوانه ومصيره الذي لا بد وأن يلحق بهم، فيرجع من المقبرة وقلبه رقيق ليّن كالزبدة، واقرءوا قول الله تعالى: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] أي: الدار الآخرة، فذكر مجموعة من أوليائه، وصالحي عباده وقال: أخلصناهم بخصوصية هي ذكرى الدار الآخرة.والشاهد من الحديث: ذكر الموت، ومن لم يتعظ بالموت فلا وعظه الله، وكفى بالموت واعظاً، فإذا ذكر الإنسان مصيره ومآله، وما ينتهى إليه شأنه وأمره يرق قلبه.ثانياً: قراءة القرآن بالتدبر والتفكر ومراجعة الآيات، فهذا من شأنه أن يرقق القلب.ثالثاً: الجلوس مع الفقراء والمساكين والنظر في أحوالهم، وهذا من شأنه أن يرقق القلب.أما الغفلة عن الدار الآخرة ونسيان الموت، والبعد عن الفقراء والمساكين، والعيش في الرفاهية وفي جماعات الثراء والغنى، فهذه عوامل تقسي قلب العبد، ومن قسا قلبه لا يرحم نفسه، فضلاً عن غيره.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها ...) من كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال: [ شرح الكلمات:((نَفْسا )): نفس الرجل الذي قتله وارثه استعجالاً للإرث.((فَادَّار أْتُمْ فِيهَا)): تدافعتم أمر قتلها كل قبيل يقول: قتلها القبيل الآخر.((مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)): من أمر القاتل ستراً عليه دفعاً للعقوبة والفضيحة.((بِبَع ضِهَا)): ببعض أجزاء البقرة كلسانها أو رجلها مثلاً ].

معنى الآيات

قال: [ معنى الآيات: يقول تعالى لليهود موبخاً لهم اذكروا إذ قتل أحد أسلافكم قريبه ليرثه، فاختصم في شأن القتل، كل جماعة تنفي أن يكون القاتل منها، والحال أن الله تعالى مظهر ما تكتمونه لا محالة؛ إحقاقاً للحق وفضيحة للقاتلين، فأمركم أن تضربوا القتيل ببعض أجزاء البقرة، فيحيا ويخبر عن قاتله، ففعلتم وأحيا الله القتيل، وأخبر بقاتله، فقتل به ] قصاصاً [ فأراكم الله تعالى بهذه القصة آية من آياته الدالة على حلمه وعلمه وقدرته، وكان المفروض أن تعقلوا عن الله آياته فتكملوا في إيمانكم وأخلاقكم وطاعتكم، ولكن بدل هذا قست قلوبكم وتحجرت وأصبحت أشد قساوة من الحجارة؛ فهي لا ترق، ولا تلين، ولا تخشع على عكس الحجارة، إذ منها ما تتفجر منه العيون، ومنها ما يلين فيهبط من خشية الله؛ كما اندك جبل الطور لما تجلى له الرب تعالى، وكما أضطرب أُحد تحت قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ثم توعدكم الرب تعالى بأنه ليس بغافل عما تعملون من الذنوب والآثام، وسيجزيكم به جزاء عادلاً إن لم تتوبوا إليه وتنيبوا].

هداية الآيات

قال: [من هداية الآيات:أولاً: صدق نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتقريرها أمام اليهود؛ إذ يخبرهم بأمور جرت لأسلافهم لم يكن يعلمها غيرهم، وذلك إقامة للحجة عليهم ]. فما كان العرب يعرفون هذه الحادثة أبداً ولا غيرهم، ولا يعرفها إلا اليهود الموجودة في كتبهم، فيخبر بها النبي؛ إذاً هو رسول الله.قال: [ ثانياً: الكشف عن نفسيات اليهود وأنهم يتوارثون الرعونات والمكر والخداع ]. والله العظيم إلى الآن يتوارثون؛ الكبير يورث الصغير، والصغير يرث عن الكبير الرعونات والخداع والمكر.قال: [ ثالثاً: اليهود من أقسى البشر قلوباً إلى اليوم، إذ كل عام يرمون البشرية بقاصمة الظهر وهم ضاحكون ]. الحروب التي دارت في قروننا هذه ما وجدت حرب إلا وأصابع اليهود هم الذين أشعلوا نارها، لا الحرب الأولى ولا الثانية ولا الثالثة ولا المنتظرة، والعلة عرفناها؛ لأنهم يرون البشرية نجس، وأنهم هم الشعب المختار، وأن السيادة والحكم لن تكون إلا لهم. قال: [رابعاً: من علامات الشقاء قساوة القلوب، وفي الحديث: ( من لا يَرحم لا يُرحم )].
قراءة في تفسير قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ...) من كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال: [ شرح الكلمات:((أَفَتَ ْمَعُونَ)): الهمزة للإنكار الاستبعادي، والطمع: تعلق النفس بالشيء رغبة فيه.((يُؤْمِنُوا لَكُمْ)): يتابعونكم على دينكم الإسلام.((كَلامَ اللَّهِ)): في كتبه؛ كالتوراة والإنجيل والقرآن.((يُحَرّ فُونَهُ)): التحريف: الميل بالكلام على وجه لا يدل على معناه، كما قالوا في نعت الرسول صلى الله عليه وسلم في التوراة: أكحل العينين .. ربعة .. جعد الشعر .. حسن الوجه، قالوا في التحريف: طويل .. أزرق العينين .. سبط الشعر ] حرفوا الكلمات.قال: [ ((وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا)): إذا لقي منافقو اليهود المؤمنين قالوا: آمنا بنبيكم ودينكم.((أَتُحَد ِثُونَهُمْ)): الهمزة: للاستفهام الإنكاري ] لا ينبغي هذا [ وتحديثهم إخبار المؤمنين بنعوت النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة.((بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)): إذا خلا منافقو اليهود برؤسائهم أنكروا عليهم إخبارهم المؤمنين بنعوت النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة، وهو مما فتح الله به عليهم ولم يعلمه غيرهم] من الأمم.قال: [((لِيُحَاجُّوكُم ْ بِهِ)): يقولون لهم: لا تخبروا المؤمنين بما خصكم الله به من العلم حتى لا يحتجوا عليكم به، فيغلبوكم وتقوم الحجة عليكم فيعذبكم الله.((أُمِّيُّو َ)): الأمي: المنسوب إلى أمه، كأنه ما زال في حجر أمه لم يفارقه، فلذا هو لم يتعلم الكتابة والقراءة] فهو أمي.قال: [ ((أَمَانِيَّ)): الأماني: جمع أمنية، وهي إما ما يتمناه المرء في نفسه من شيء يريد الحصول عليه، وإما القراءة من تمنى الكتاب إذا قرأه ]. أماني إما من الأمنيات أو من القراءة.

معنى الآيات

قال: [ معنى الآيات: ينكر تعالى على المؤمنين طمعهم في إيمان اليهود لهم بنبيهم ودينهم، ويذكر وجه استبعاده بما عرف به اليهود سلفاً وخلفاً من الغش والاحتيال بتحريف الكلام وتبديله، تعمية وتضليلاً حتى لا يُهتدى إلى وجه الحق فيه، ومن كان هذا حاله يبعد جداً تخلصه من النفاق والكذب وكتمان الحق ((وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا)) وهم كاذبون، وإذا خلا بعضهم ببعض أنكروا على أنفسهم ما فاه به بعضهم للمسلمين من صدق نبوة الرسول وصحة دينه، متعللين بأن مثل هذا الاعتراف يؤدي إلى احتجاج المسلمين به عليهم وغلبهم في الحجة.وسبحان الله! كيف فسد ذوق القوم وساء فهمهم حتى ظنوا أن ما يخفونه يمكن إخفاؤه على الله، قال تعالى في التنديد بهذا الموقف الشائن: ((أَوَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)).وم جهل بعضهم بما في التوراة وعدم العلم بما فيها من الحق والهدى والنور ما دل عليه قوله تعالى: ((وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ)) أي: إلا مجرد قراءة فقط، أما إدراك المعاني الموجبة لمعرفة الحق والإيمان به واتباعه فليس لهم فيها نصيب، وما يقولونه ويتفوهون به لم يعد الخرص والظن الكاذب].

هداية الآيات

قال: [ من هداية الآيات: أولاً: إن أبعد الناس عن قبول الحق والإذعان له اليهود ] واحلف على هذا ولا تتردد؛ إن أبعد الناس عن قبول الحق والإذعان له في العالم اليهود.قال: [ ثانياً: قبح إنكار الحق بعد معرفته ] ما أقبح حال المرء عندما يعرف الحق وينكره، وهذا طبع اليهود، يعرفون أنه الحق ولا يقبلونه، ويصرحون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإسلام هو دين إبراهيم، ومع هذا ينكرون ويكذبون.قال: [ ثالثاً: قبح الجهل بالله وبصفاته العلا وأسمائه الحسنى ] ومن أين أخذنا هذا؟ لأنهم يقولون: إن أنتم أخبرتموهم بنعوت محمد ولم تؤمنوا، يحتجون عليكم يوم القيامة، ويقولون: يا ألله! أخبرونا بأن النبي محمد نبي الحق، ودينه الدين الحق، ولم يؤمنوا! وهذا من ضعف عقولهم، أو من فساد إيمانهم؛ إذ يجعلون بعض الصفات البشرية للخالق كالعجز والنسيان والتردد والغفلة .. وما إلى ذلك.وهل المسلمون يعرفون صفات الله وأسماءه؟الجواب: ثلاثة أرباع لا يعرفون، لم لا يعرفون؟ لأنهم ما طلبوا .. ما قرعوا باب العلم وحرموه .. ما جلسوا بين يدي المعلمين والمربين. إن قرى بالآلاف .. بالملايين لا تجد فيها عالماً، فمن يعلمهم؟ الآن نحن في المملكة أحسن حالاً من غيرنا، والله يوجد ناس وقرى لا يعرفون أسماء الله.الآن نشتكي ونبكي؛ لأن العلم هذا ما يأتي بالوراثة كالطبائع والغرائز، يأتي بالتعلم، وقد قرر هذا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( إنما العلم بالتعلم )، ( ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، نرد على الرسول نقول: لا، لا العلم ليس بالتعلم! كيف يأتي! ( إنما العلم بالتعلم، وإنما الفقه بالتفقه )، ( ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ).قال: [ رابعاً: ما كل من يقرأ الكتاب يفهم معانيه ] وقد قلت لكم: تدخل مساجدنا في الشرق والغرب يوم الجمعة وهذه ظاهرة: تجد الناس بأيديهم المصاحف، يقرءون بأصوات، ولا (5%) يفهمون ما يقرءون، لماذا؟ لأنهم ما تعلموا .. ما سألوا، فلهذا هذا يصدق علينا بالحرف الواحد، ومنا أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] إذا لاح له معنى في آية ما هو يقيني أبداً، ظناً منه أن مراد الآية كذا أو كذا.والذي يقرأ وهو لا يفهم يعطى أجر القراءة أو ما يعطى؟ يعطى، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.إذا كان قرأ، فلوجود القراءة يُعطى الأجر، لكن هل هو عالم لما يقرأ؟ ما هو بعالم، فلهذا يخرج من المسجد ويكذب.وعلى كل حال أنا أقول: الحرف بعشر حسنات سواء كنت عالماً أو غير عالم، فالذي يقرأ الم ألف حرف، لام حرف، ميم حرف .. كل حرف بعشر حسنات، وكونه عالماً بالمعنى، وعاملاً بما دل عليه: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].قال: [ رابعاً: ما كل من يقرأ الكتاب يفهم معانيه فضلاً عن معرفة حكمه وأسراره، وواقع أكثر المسلمين اليوم شاهد على هذا، فإن حفظة القرآن منهم من لا يعرفون معانيه فضلاً عن غير الحافظين له ].ما هو السبب؟ مشغولون بالدنيا، فتنتنا هي هذه الحياة، ثم ما وجدنا من يوجهنا أو يرشدنا، فعشنا كالبهائم سارحين بالمسارح، وإلا فإن الدنيا لا تتنافى مع طلب العلم أبداً.من المغرب إلى العشاء ليس هناك عمل، غربت الشمس: الفلاح وضع المسحاة من على كتفه، والصانع وضع الحديد من يده، والتاجر أغلق باب تجارته، أين يذهب المؤمنون والمؤمنات؟ إلى بيوت ربهم. فمن المغرب إلى العشاء طول الدهر ما هو عام فقط، طول حياتنا، والله لا يبقى بيننا جاهل ولا جاهلة، ولا فرق بين المدينة والقرية، فالكل على حد سواء، لكن صرفونا وما انتبهنا، أسكرونا وما صحونا، وما عرفنا أن الجهل الذي أصابنا هو الذي قعد بنا، وهو الذي سلط علينا هذه المصائب والويلات والنكبات، وهو الذي حال بيننا وبين تحقيق ولاية الله عز وجل.فلهذا أكرر: إن أراد أهل قرية أو أهل حي في مدينة في العالم الإسلامي أن يحققوا ولاية الله لهم، وأن تزول مظاهر العجز، والضعف، والفقر، والخبث، والشر، والفساد، فالطريق الوحيد أن يرجعوا إلى الله كما رجع رسول الله وأصحابه، ويتعهدوا ملتزمين في صدق ألا يتخلف رجل ولا امرأة كل ليلة ما بين المغرب والعشاء في جامعنا، إلا إذا وجد عذر كمرض أو ما إلى ذلك، وكل ليلة نتعلم العلم ونعمل، فما تمضي سنوات إلا ولا يوجد في القرية ولا المدينة جاهل. ومن غير هذا الطريق يا معاشر المستمعين ما نصل إلى غايتنا من معرفة الله وطاعته.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-04, 09:58 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (61)
الحلقة (68)



تفسير سورة البقرة (31)

أنزل الله الكتب لتكون سراجاً منيراً للناس، وأعلاماً هادية لهم، وأملاً مشرقاً حين تدلهم الخطوب، وبدلاً من أن يعتصم بنو إسرائيل بكتابهم إذا بهم يعدون عليه تأويلاً وتحريفاً، زيادة ونقصاً، وهم في كل ذلك يحاولون إلصاقه بالوحي الإلهي، ولكن عبثاً يحاولون، فويل لهم، أما خشوا مكرهم أن يحيق بهم، وسيئتهم أن تهلكهم أم تراهم ركنوا إلى أمانيهم، وجهلوا أن الأماني لا تغني من الحق شيئاً.

تابع تفسير قوله تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة ومع آياتها المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ * وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:78-81] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال السياق في الحديث عن بني إسرائيل .. عن اليهود الذين عايشوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة، وقد علمنا الله الكثير من أحوالهم الظاهرة والباطنة، وما زال السياق فيهم.قوله جل وعز: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] هو كما أخبر؛ والله العظيم إن من اليهود لأميين لا يعلمون من الكتاب إلا مجرد القراءة فقط، وأما المعاني .. أما الفقه .. أما المعرفة فلا نصيب لهم في ذلك، وهذا ذم وتقبيح لحالهم، وها نحن أيضاً أصبحنا مثلهم، فالذين يقرءون القرآن بالملايين ولكنهم لا يعرفون منه شيئاً، بل مجرد قراءة فقط.ومن هنا نسلّي أنفسنا ونعزيها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، ها نحن في تلك الورطة، فأكثر المسلمين من إندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً لا يعلمون من الكتاب إلا مجرد القراءة فقط، فلا يعرفون عقيدة، ولا أدباً، ولا خلقاً، ولا حلالاً، ولا حراماً، ولا جهاداً، ولا حرباً، ولا سلماً، مع أن القرآن يحوي ذلك كله، فما هو السبب؟ السبب أننا ما جلسنا في مجالس أهل العلم، ولا أصغينا لأهل العلم، ولا رغبنا في أن نتعلم، فاكتفينا بقراءة القرآن، فالكثيرون يحسنون القراءة، ولكن لا معرفة، ولا فهم، ولا بصيرة.فماذا ترجو منهم؟ أترجو أن يكونوا ربانيين وأولياء لله وهم لا يعرفون ما أحل الله ولا ما حرم الله، لا يعرفون ما يحب الله ولا ما يكره؟ هذا من جهة.ومن جهة أخرى -وقد علمتم-: أمَّا حالَ أعداء الدين بيننا وبين فهم كلام الله؟ أما وضعوا تلك القاعدة وهي: أن تفسير القرآن الكريم صوابه خطأ، وخطؤه كفر؟ فحرموا المسلمين من أن يفسروا كلام الله، أو يتدبروه ويستخرجوا الهدى وأنوار الهداية منه، فأصبح القرآن يقرأ على الأموات، فمن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب لا يجتمع على القرآن إلا من أجل ميت يقرأ عليه.لما بعدنا عن الكتاب، وبعدنا عن السنة النبوية اكتفينا بمصنفات صنفها علماؤنا في مذاهبنا المتعددة، وأصبحنا لا نجتمع على سنة رسول الله وأحاديثه، وإذا تقدمنا نجتمع على السنة للبركة، فندرس صحيح البخاري للبركة، لا لمعرفة الآداب، والأحكام، والشرائع أبداً، بل للبركة، فما أصبح في القرية من يقول: قال الله، ولا من يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسادنا الجهل، وانتظمنا عدم المعرفة.ومن أراد أن يدلل، أو يبرهن، أو يجادل فنقول: لو كنا عالمين، ربانيين، أولياء للرحمن هل يسلط علينا الكفرة الفجرة، الفسقة، فيسوسوننا، ويحكموننا، ويسودوننا، ويفعلون ما يفعلون فينا، أيعقل هذا الكلام؟ ممكن يسلط الله أعداءه على أوليائه؟ هذه برهنة، وهذا دليل قطعي.وما زلنا نتهيأ أيضاً لمحنة أخرى؛ إذ انفجرت الثورات، واستقل العالم الإسلامي عن سيادة الكفر وحكمه، وقد عرفتم أن من ورث الحكم هم تلامذتهم، وخريجو كلياتهم وجامعاتهم، فكما قلنا: خرجوا من الباب، ودخلوا من النافذة، وإلى الآن ما بلغنا أن الإقليم الفلاني أصدر حكّامه أمراً بإقامة الصلاة إجبارياً على المدني والعسكري .. على الكبير والصغير، فلا ينبغي أن يوجد بيننا من يتهاون في الصلاة أو يضيعها أو لا يصلي، كيف ترون هذا؟ أصحيح أم باطل، أم لغتي بربرية لا تفهمونها؟نيف وأربعون دولة، ذات رايات، وجيوش، وطائرات، ما استطاعت دولة واحدة أن ترضي الله عز وجل بإقامة الصلاة؛ لأن الإنسان مخلوق للصلاة، والصلاة هي ذكر الله وشكره، فتلتقي مع ربك خمس مرات في مواعيد منتظمة على لباس خاص، في مكان خاص، خمس مرات، فهذه هي العبادة التي من أجلها خلق الإنسان، أما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]؟ فهل أمروا بإقامة الصلاة؟ لا، إذاً ما هو الفرق؟!مع أن الله تعالى يعلمهم ويخبرهم أن إقامة الصلاة من شأنها أن تقلل الفاحشة في الديار، وأن تبعد المنكر عنهم إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فلو أقاموا الصلاة في قرية .. في مدينة تقل الجريمة قلة عجباً، ممكن لا يبقى (5 %) مما كان يرتكب في الأسبوع أو في الشهر.حقيقة ما يعاب على بني إسرائيل أصبح يعاب علينا ونحن أهله، وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، إلا مجرد قراءة فقط، أو أمانٍ وظنون، لا يقين -أبداً- عندهم فيما أحل الله، ولا: فيما حرم، ولا فيما أوجب، ولا فيما نهى وترك.وهيا بنا نخرج من هذه الورطة، فنعتبر، كيف نعمل حتى لا يبقى في قريتنا رجل ولا امرأة إلا وهو يعلم ما في كتاب الله من حلال وحرام، وآداب وأخلاق، وشرائع عامة وخاصة؟قالوا: لا نستطيع. قلنا: كيف لا تستطيعون؟

المخرج من فتنة المعاصي

ما الحيلة يا شيخ؟ ما هو الطريق؟ ما السبيل؟أيها السامعون! الذين سئموا هذا الكلام، هذا الكلام لا يترك إلا إذا نفذ مراده، وطبق ما أريد به، وإلا حرام السكوت، ليس هناك وسيلة ولا سبيل يمكننا أن ننتقل به من هذه الورطة إلا أن نعود إلى بيوت الرب تعالى.وكيف العودة يا أبناء الإسلام؟ إنها كاجتماعكم هذا فأهل القرية ذات الثلاثة آلاف نسمة أو الألفين أو الألف أو أقل أو أكثر، يوسعون جامعهم حتى يتسع لكافة أفرادهم نساء ورجالاً، بالخشب والحطب، لا بالحديد، ولا بالإسمنت، ويجتمعون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، نساء وراء الستار، والأطفال أمامهن أو دونهن، والمربي بين يديهم، ليلة آية يقرءونها بصوت واحد، ويتغنون بها فتحفظ عن ظهر قلب، فيشرحها المربي ويبين مراد الله منها، ثم يضع أيديهم على المطلوب إن كان معتقداً اعتقدوه، وإن كان حراماً عرفوه وتخلو عنه، وإن كان أدباً تأدبوا به، وإن كان وإن كان .. والليلة الثانية بعدها: حديث من أحاديث نبيهم الصحيحة السليمة، وهكذا طوال العام! لا. طوال الحياة، وهل هذا يعتبر صعباً؟قلنا لهم: إن أعداءكم من أهل الملل الخاسرة الهابطة .. من أهل النار إذا غابت الشمس ذهبوا إلى الملاهي والمقاهي، والمقاصف، ودور السينما و.. و..، وأنتم لستم مثلهم، أنتم تريدون أن تنزلوا الملكوت الأعلى؟ تريدون أن تخلدوا في دار السلام؟ شأنكم غير شأنهم.إذاً: أنتم إذا غربت الشمس ذهبتم إلى بيوت ربكم، بنسائكم وأطفالكم، وما الذي يحدث لكم سوى أن تستنير قلوبكم، وتشرق بالزكاة نفوسكم، وتطهر أرواحكم، وتعلو آدابكم وأخلاقكم، وينعدم بينكم السوء، فلم يبق في القرية سوء، ولا باطل، ولا منكر، ولا جريمة، ولا قبح أبداً؛ لأنها سنن الله التي لا تتبدل، فالطعام يشبع .. الماء يروي .. النار تحرق .. الحديد يقطع .. العلم ينير القلب والسمع والبصر، فيمشي عبد الله في هداية الله، فلا يسرق .. لا يزني .. لا يكذب .. لا يغتاب، ولا ينمم .. لا يحسد .. لا يبغض.. لا لا، ولن تتخلف سنن الله.فهل نحن فاعلون؟يا شيخ! كيف نفعل؟ لو أن هناك كتاباً نبتدئ به.وجد كتاب: ( المسجد وبيت المسلم) وقد حوى ثلاثمائة وستين آية وحديثاً بمعدل السنة الكاملة.يا شيخ! وهل جربتموه؟درسناه هنا عاماً وثلث العام وحده، لنعلم الناس كيف يفعلون، لكن ولا حركة.. موت. كيف نخرج من هذه الفتن؟ ما نحن إلا نتهيأ لغضبة أخرى من غضب الرب، فإذا بنا في أسوأها وأقبحها. أنعجز عن هذا؟!إذاً وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ [البقرة:78] ومنا، بل كلنا أميون إلا من ندر منا، اليهود كلهم على الأقل خمسة ملايين، ومئات الملايين من هذه الأمة، اليوم ومن أكثر من ستمائة سنة وهم لا يعرفون من الكتاب إلا قراءته، ولا يجتمعون عليه، ولا يقول المؤمن: قال الله أبداً، ولا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.وحصل الذي حصل، وتم الذي تم، وإن أردتم أن تفتحوا أعينكم فإخوانكم الآن في شرق أوروبا جمهوريات إسلامية كيف ابتلعتها الشيوعية؟ كيف أصبحوا ملاحدة؟ كيف تم هذا؟ لو كانوا عالمين ربانيين -والله- ما استطاع العدو أن يكفرهم أو يصبغهم بصبغة الباطل والشر.قلنا: يا جماعة! المسلمون يتنصرون، وجمعيات التنصير عاملة عملها، وتستغل بلاد الضعف والحاجة والفقر فتبني المساجد، وتبني المصحات والمستشفيات، وتوزع الدواء، والمسلمون يتنصرون بالآلاف .. بالملايين!ماذا نصنع؟ هيا نجمع المال، وهيا لنعمل مؤسسة الإغاثة، التي تحول بين الصليبيين وبين نشر الصليبية.وقلت وما زلت أقول: ليست قضية فقر أبداً ولا حاجة، القضية أنهم ما عرفوا الله، وما أحبوه، ولا رغبوا فيما عنده، ولا رهبوا ما لديه من عذاب، فأدنى كلمة تلقى في قلبه تجد محلها؛ فالقلب فارغ ليس فيه نور ولا هداية، فقد عاش هو وأمه وأبوه وجده قروناً ما عرفوا الله بأسمائه وصفاته، أميون؛ لا يعرفون الكتاب إلا أماني، فأدنى شبهة تلقى في قلوبهم يذعنون لها ويخضعون.وإن كنتم جادّين أيها المسلمون علّموهم، فإذا عرف وأصبح عالماً لو يمزق ويقطع .. لو يصلب لا يرتد عن دينه، ما هي قضية مال وطعام ولباس.إذاً: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] وهكذا عقائد المسلمين (95%) ما هي إلا ظنون، ليس هناك عقيدة راسخة تجري مع الدم، وملتحمة مع اللحم لا تتبدل، ولا تتغير أبداً، مهما كانت الأحوال؛ لأنه ليس هناك يقينيات، ومن أين يأتي اليقين؟ بالدراسة .. بالعلم بقال الله وقال رسوله، ما قال زيد أو قال فلان وفلان، سبحان الله العظيم! هذه الآية كأنها نزلت فينا اليوم لا في اليهود.
تفسير قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ...)
قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:79] هذه محنة أخرى. هنا توعد الله عز وجل بالعذاب الأليم .. بالعذاب الشديد، وكلمة ويل في لسان العرب: العذاب الذي لا يطاق، وواد في جهنم يقال له: الويل، وجهنم كلها ويلات.فويل لمن؟ قال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:79] لم؟ ما الغرض؟ ما الهدف؟ ما القصد؟ قال: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:79] وإن شئت حلفت لكم: لقد وضعت كتب، وخرج بها أهلها عن دائرة الحق والإسلام تحت هذا الشعار.وعلى سبيل المثال: كم عدد مذاهب هذه الأمة؟توجد مذاهب لا يوجد فيها أكثر من (75%) حق، و(25%) باطل، ومن وضع هذا الباطل؟ أليس علماؤهم؟ بلى. لماذا؟ ليرأسوا، ويسودوا فقط، ويعيشوا على حساب تلك الأمة الجائعة.لعل الشيخ واهم أو ساهٍ!أتحداهم! لو قالوا: نعم، نحن نريد الحق لحضروا واجتمعنا، وقررنا الحق، وأبطلنا الباطل، لا كل أهل مذهب يحتفظون بمذهبهم، ويعضون عليه بالأسنان، ووضعت لهم المصنفات، ووضع لهم ما ينسب إلى الله، والله منه بريء، لماذا؟ ليسود أولئك العالمون، ويبقى لهم مكانتهم في المجتمع، وتبقى آراؤهم وأقوالهم، وهذا حصل في بني إسرائيل، والله ينعى هذا عليهم ويتوعدهم، والله لقد حصل في أهل الإسلام. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:79] هذا كلام الله .. هذا كلام رسوله .. هذا هو الإسلام .. ووضعت كتب في التصوف بالذات، لا علاقة لها بالشريعة، إنما أوهام وضلالات، وتنسب إلى الله: هذا هو كلام الله!وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) أعطيكم صورة لهذه، أخفف عنكم قليلاً من الآلام، خطيب يخطب الجمعة في بلاد عربية فسر لهم جحر الضب بالبنطلون، وجحر الضب معروف في الأرض، هل كان المسلمون سراويلهم ضيقة طويلة؟ لا. أبداً، الجيوش في تركيا العثمانية سراويلهم عريضة أو لا؟إذاً: لما دخل اليهود والنصارى هذا البنطلون دخلنا فيه، وصدق أبو القاسم.والإسلام لا يرضى للمؤمن أن تظهر إليتاه بارزتان، بل لا بد من ثوب، إزار ورداء يغطي به عورته، فما تصبح إليتاه ناتئتان ظاهرتان، فالإسلام لا يقبل هذا.فكان المسلمون بجيوشهم لا يدخلون في هذا البنطلون.يا شيخ! لقد دخلت فيه بناتنا.إذاً صدق رسول الله أو لا؟ والله إنه لرسول الله.وهكذا هو الويل لمن؟ ما هو للأبيض أو الأسود، عربي أو عجمي، لا .. لا لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:79] لم؟ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:79] وإن كانت رئاسة، وإن كانت رواتب، وإن كان ..، لكن هذا الثمن بالنسبة إلى الآخرة قليل، ولا قيمة له.فلو أن علماء المذاهب والطوائف عندنا يعرفون الطريق ويبكون، والله لاجتمعوا في يوم واحد، وما بقيت مذاهب بيننا أبداً، ولسلكنا مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ما دامت لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:79] فلا اتفاق ولا تلاقي أبداً.قال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79] الذي يأكلونه من الحرام يستحيل إلى نار في بطونهم، وويل لهم -أيضاً- وعذاب من الكذب على الله عز وجل، ونسبة كلامهم إليه، والله منه بريء، ويدعون أفرادهم وأتباعهم إلى اعتقاد باطل، والله العظيم إلى اعتقاد باطل.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ...)

قال تعالى عن اليهود: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80]، ومن سورة آل عمران: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [آل عمران:24]، والكل واحد. لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا معناه أننا معترفون بذنوبنا وجرائمنا، وبظلمنا وفسادنا، وندخل النار، ولكن لأيام معدودة، لم يقولون هذا؟ ليخففوا الجريمة، ليخففوا عن أنفسهم وعن إخوانهم آلام الرهبة والخوف من الله، حتى يواصلوا البغاء، والسرقة، والإجرام، والربا، والباطل، فلا تخافوا، الحمد لله أنتم أمة الخير .. أمة الرحمة، من دخل النار يبقى فيها أياماً ويخرج، وهذا معناه: ابق يا زاني على زناك، ويا مرابي على رباك، ويا لص على لصوصيتك، ويا ساحر على سحرك.. لا تخافوا، ما تمسكم النار؛ لأنكم شعب الله المختار، إنما هي أيام معدودة.فهذا في بني إسرائيل أو لا؟والله لقد انتقل إلينا، وسلكنا مسلكهم، وكم من مشايخ، وكم من رؤساء يهونون على الناس الجرائم والموبقات، ويقولون: الجنة للمسلمين فلا تخافوا، ومن دخل النار يخرج منها، وسلكنا نفس المسلك.واليهود يقولون: كم عبدنا العجل؟ أربعين يوماً، مدة غيبة موسى فقط، فنعذب أربعين يوماً، وهذا هو التدجيل والتضليل؛ لأن أربعين يوماً تدرون كم؟ اليوم بألف سنة، والنتيجة أربعون ألف سنة، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، أربعون ألف سنة، هذه أيام معدودات؟!وهذا المراد منه التخفيف على المجرمين، والتهوين من الجريمة، ليرتكبوا الفواحش والمنكرات، وليأكلوا أموال الناس، وليضروا بالبشرية، ويحطموها، ويؤذوها، بسبب فتاوى علمائهم. وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ قل يا رسولنا .. قل لهم: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا [البقرة:80] عندكم عهد من الله .. صك أنكم لا تعيشون في النار إلا أربعين يوماً؟ هل عندهم؟ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا [البقرة:80] بل تقولون على الله ما لا تعلمون، أم هنا للإضراب فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80] أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون.لو اتخذتم عهداً من الله فالله لا يخلف وعده أبداً، وحاشاه؛ لأنه قوي قدير، والذي يخلف الوعد هو العاجز فيضطر إلى خلف الوعد، أما القوي القدير الذي بيده كل شيء ويملك كل شيء، كيف يخلف وعده؟! ما أخلف أحد عهده إلا للعجز والضعف القائم به، أما الله فهو غني غنى مطلق، فكيف يخلف عهده؟! فلهذا قال تعالى: فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ . أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80] هذه الحقيقة، أنكم تكذبون على الله، وتنسبون إليه ما لم يقله، ولم يقرره في كتابه، ولا على ألسنة رسله.وهذا التوبيخ لليهود، ونحن -أيضاً- متأهلون له فمنا من يقول كذلك، ففي بعض الطرق يعدون أتباعهم بالجنة رسمياً تماماً: إخوان الشيخ الفلاني لن يدخلوا النار! وإن كنتم لا تعرفون فهذا واقع في ديار الإسلام: إخوان سيدي فلان .. مريدو فلان كلهم إلى الجنة، ولا تمسهم النار، وإن دخلوها يخرجون منها بعد أيام.فاسمعوا كيف وبخهم الله بعدما أورد قولهم: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] قال الله لرسوله: قل لهم .. اسألهم أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80]؟ الجواب: يقولون على الله ما لا يعلمون.لكن ما جرأهم على القول على الله؟إنه الجهل، فما عرفوا الله حتى لا يكذبوا عليه، ولا ينسبوا إليه ما لم يقل، فما ملأت معرفة الله في قلوبهم، ولا في أذهانهم، ولا في نفوسهم؛ فلهذا يقولون ويكذبون.

تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ...)

قال تعالى: بَلَى [البقرة:81] ليس الأمر كما تتصورون، وهذا للجميع .. للبشرية كلها بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة:81].

معنى السيئة

ما هي السيئة يرحمكم الله؟السيئة حركة عملية .. فعل، قد تكون كلمة .. قد تكون نظرة؛ تسيء إلى النفس البشرية .. إلى الروح، فتوضع فوقها كنكتة سوداء، والعياذ بالله.والسيئة تجمع على سيئات، والسيئة تؤثر في النفس البشرية، وسببها: كلمة حرمها الله .. نظرة حرمها الله .. لقمة حرمها الله، فإذا فعلها العبد انعكست على نفسه فأصبحت نكتة سوداء، والرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا أيما تبيين، ووضح أيما توضيح فقال: ( إذا أذنب العبد ذنباً ) تعرفون الذنب ما هو؟ ما يؤاخذ عليه العبد، والحيوان من أين نأخذه إذا هرب؟ من ذيله أو لا؟ من ذنبه، فكذلك نؤخذ بذنوبنا.( إذا أذنب العبد ذنباً ) سب إبراهيم .. نظر إلى امرأة زيد .. اغتاب فلاناً وهو غائب .. أدخل يده إلى جيبه فأخرج رياله، فهذا الذنب إذا أذنبه العبد نكت على قلبه نكتة سوداء، فإن هو تاب، وأناب، ورجع، صُقل الأثر، وزال ومُسح؛ لأن الروح كالزجاجة الصافية، فإذا لم يتب، وزاد ذنباً آخر، وضعت نكتة أخرى إلى الأولى، فإن ما تاب، ولا رجع، وزاد ذنباً ثالثاً وضعت نكتة أخرى .. وهكذا حتى تسودّ النفس، وذلكم الران الذي قال الله تعالى فيه: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] فإذا تغطى القلب بالسيئات أصبح المخلوق كالحيوان .. كالأفعى ينهش ولا يرحم .. كالثعبان يعض ويسمم .. كاللص يبقر البطن، ويأخذ الفلوس، انتهى. فلا يصدق، ولا يؤمن، ولا يعرف فضيلة ولا حق، فانطمس نوره.

كواسب الإنسان

مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة:81] أنتم تعرفون الكواسب يا معاشر الدارسين أو لا؟ ما هي الجوارح التي نجترح بها السيئات؟ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] ما هي جوارحك يا هذا التي تجترح بها؟ ما هي كواسبك التي تكتسب بها؟إنها سبعة: أولاً: السمع، وهل السمع يكتسب السيئة؟ نعم، كيف هذا؟ يسمع امرأة جاره تتكلم فيتلذذ بكلامها، ويبقى يسمع .. يسمع عاهرة تغني، وتلين الكلام، وترققه لتثير الغرائز والشهوات فينساب ويسمع، اجترح بأذنه أو لا؟ بآلة السمع .. يسمع الباطل، والغيبة، والنميمة، وسب الصالحين، وهو في المجلس يتلذذ بذلك الكلام.لعلي واهم! والله العظيم لَيَجلسون للطعن، والسب، والشتم في أولياء الله، والغافلون يضحكون. اكتسب أو ما اكتسب؟ اكتسب.ثانياً: البصر، البصر كاسبة أو لا؟ جارحة من الجوارح، فالذي ينظر إلى امرأة لا تحل له مما حرم الله عليه نظرة يتعمدها ليتلذذ بها فقد اكتسب ببصره السيئة، وانعكس على قلبه، أحب أم كره، فإما أن يتوب على الفور ويلهج بالاستغفار والندم، وإلا تنكت نكتة أخرى.يا شيخ! كيف تقول هذا ونحن ندعو إلى توظيف النساء، وقد وظفناهن في الدوائر .. في الفنادق .. في كل مكان، فكيف نغض أبصارنا؟آلله أمركم بهذا أم اليهود والنصارى؟ من يجيبني؟ الله الذي أمر؟!لقد عاش نساؤنا وبناتنا أكثر من ألف وثلاثمائة سنة ما توظفن، وعشن صالحات أو لا؟ الآن فقط إذا ما توظفت المرأة الحياة مرة، والجوع والفقر والفاقة .. هكذا؟!ومما علمناه أن طبيباً مختصاً في العظام والدماغ في مستشفى الطائف عنده امرأة غير موظفة، فلا يسمح لها بالوظيفة، ولا أن تخرج، قالوا: لم؟ قال: لا أرضى أن امرأتي تنظرون إليها، وتشتغل معكم. هذا ألماني كافر لكنه كأنه عرف، فاستدعيناه فجاء لفندق شيراتون وجلسنا معه ساعة، وعرضنا عليه الإسلام، وهو متهيئ، وبالفطرة عرف: كيف امرأتي تنظرون إليها؟يا شيخ! لعل هذا ليس بصحيح، أنا أسمع.. اسمع الله يقول: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، نقول: لا .. لا .. كيف نغض أبصارنا؟! كيف نمشي؟ كيف نعمل؟من قال هذه الكلمة كفر، كفر بالله، وانمحى اسمه من ديون المسلمين.غضوا، ما قال: أغمضوا. كيف تمشي؟ لما تشاهد المرأة أغمض عينيك.نعم! من اليسر عندنا -كما في المملكة- أن تغض بصرك؛ لأنه نادر ما تمر بين يديك امرأة كاشفة عن وجهها، أليس كذلك؟ لكن لما تكون في بلد نساؤه في الشوارع كيف تغض بصرك؟ فأنتم بين خيارين قلت لهم: إما أن تحجبوا نساءكم أو احجبوا رجالكم فقط. أما الاختلاط، وغض بصرك فما هو معقول، ولا يمكن أبداً، فكيف تغض بصرك؟!نعم! الحجاب مضروب، وكلما تشاهد امرأة غض بصرك، لكن إذا كنت معها في كل مكان فكيف تغض؟ إما أننا نحجب النساء، وهذا أرحم؛ لأن رحمة الله اقتضته، فالمرأة في بيتها قائمة بدولة: تغسل .. تنظف .. تطبخ .. تعمل .. تربي، عمل، وأنت يا فحل تقضي الساعات في المزرعة، أو المتجر، أو المصنع وتعود، أما أن تخرج المرأة وتخالط الأجانب والرجال وتقول: غضوا أبصاركم، كيف نغض أبصارنا؟! فهذا ليس بمعقول؟!إذاً: العين تكتسب بها بالنظر، فهي جارحة، وقد عرفتم أن مصيبة البصر أعظم، فالنظرة هذه تؤدي إلى الهاوية، وكم من نظرة أنتجت مقتلة ودماء تسيل، نعم! كل الحوادث من مستصغر الشرر.ثالثاً: اللسان، ولهذا يقول المثل المصري: لسانك حصانك؛ إن صنته صانك؛ وإن خنته خانك.دعك من هذا المثل، ها هو ذا رسول صلى الله عليه وسلم يقول، وقد أخذ لسانه بيده: ( كف عنك هذا، فقال الصاحب: أو إنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ )، والفتن كلها قائمة من طريق اللسان: الحروب، والبلاء، والنزاع، والصراع والطلاق، وكل الفتن مبدؤها باللسان.ولو التزمنا بمبدأ وهو: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، فمن كان منكم يا معاشر المؤمنين والمؤمنات يؤمن بالله والدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم أو عذاب أليم فليقل خيراً إذا تكلم أو يسكت، وإن وجد كلمة خير تنفع ولا تضر .. تطعم ولا تجوِّع .. ترفع ولا تضع قالها، وإن كانت تضر ولا تنفع لا يقولها.رابعاً: الأيدي .. أيدي السباع، الأيدي جارحة أو لا؟ هل هناك ضرب بدون يد .. سلب بدون يد .. قتل بدون يد؟ فاليد جارحة من أعظم الجوارح، ولا يحل لمؤمن أبداً أن يرفعها في غير حق، فضرب المؤمن .. كسلب ماله .. كقتله هذه محرمات وتتم باليد.خامساً: الرجلان .. الرجل، كيف الرجل؟ تجترح بها ماذا؟ الذي يمشي إلى دور الخنا والباطل والشر يمشي برجليه أو لا؟ برجليه. والذي يمشي إلى البدعة والخرافة ما يمشي برجليه؟ الذي يمشي إلى مجالس الغيبة والنميمة مشى برجليه، وهكذا .. الرجل جارحة يجترح بها الإنسان الذنب.سادساً: البطن، وهل البطن يكتسب به الإنسان السيئات؟ شرب الحشيش والأفيون، الكوكايين والدخان والشيشة هذا بماذا تتم؟ بالبطن أو لا؟ شرب الخمر .. أكل الخنزير .. أكل الحرام .. أكل الربا في البطن أو لا؟ فالبطن جارحة، وأية جارحة هذه! قاتلة.سابعاً وأخيراً: الفرج، ولهذا يقول أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( من يضمن لي ما بين لحييه )، وهو الفم ( وفخذيه ) وورد أيضاً البطن.على كلٍّ البطن والفرج، والفرج أعظمها؛ لأن فاحشة الزنا ما فوقها فاحشة إلا القتل والكفر، أما اللواط ما نقول عنه؟ لم؟ كيف يوجد اللواط في المسلمين.وعندنا مثل: هذه الديار التي أهلها الله للنور والكمال، وأوجد فيها بيته، لماذا ما أوجد هذا البيت في المغرب أو في الهند أو في أوروبا واختار فقط هذه الديار؟ لأن هذه الديار ما عرفوا اللواط قط قروناً إلى عهد خلافة عمر ، فلما تولى عمر الخلافة رفعت قضية أن أعجميين في بلاد البحرين ارتكبوا هذه الجريمة. والخليفة عبد الملك بن مروان يحلف على المنبر، ويقول: والله لولا أن الله تعالى أخبر في كتابه عن فاحشة اللواط فما كان يخطر ببالنا أن الذكر ينزو على الذكر.ويؤيد هذه أن هذا البلاد ما عرفت بغلة فيها ولا بغل، فما وجد البغال في هذه الديار لم؟ لأن البغل يوجد من إنزاء الحمار على الفرس، تعرفون هذا أو لا؟ كيف يولد البغل؟ يُنزى الحمار المعروف بالداب على الفرس فتلد الفرس بغلاً، وهو حيوان بين الحمار والفرس، وهذه البلاد والعرب من أولاد إسماعيل من قبل لا يعرفون هذا، كيف ينزون الحمار عن الفرس! وأول بغلة دخلت الحجاز بغلة أهداها المقوقس ملك مصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مارية القبطية اسمها الدُلْدُل، عرفتم أو لا؟الآن لو تعرفون ما يجري في أوروبا: أندية خاصة باللواط، وهذه الفاحشة تترفع عنها الحيوانات، والله إن ذكران الحيوان ليترفعون عنها ولا يقبلونها، هل رأيتم جملاً ينزو على جمل؟ أو تيساً على تيس؟ فكيف بالإنسان؟!إذاً: فاحشة الزنا هذه هي السابعة، فمن حفظ جوارحه، واستعصم، وثبت زكت نفسه، وطابت وطهرت بأدنى الأعمال من الصالحات، ومن كان يخبثها ويلوثها ولو يبيت مصلياً ويظل صائماً، فزنية واحدة تمحو ذلك كله وتغطيه، لكن إذا هو تجنب السيئات، وحسبه أنه يؤدي هذه الواجبات، وبذلك تزكو نفسه، وتطيب، وتطهر.

سوء عاقبة أصحاب السيئات والخطايا

وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81]، كيف أحاطت به؟ اليوم وغداً و.. كما بينها الرسول، نكتة إلى نكتة إلى نكتة فتغطى القلب، فيصبح مظلماً؛ لا يعي، ولا يفهم، ولا يسمع.هذا معنى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ [البقرة:81] البعداء أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81].عرفتم من أصحاب النار؟ البيض أو السود؟ من هم؟ الذين أحاطت الخطايا بنفوسهم، ومن أحاطها بنفوسهم؟ هم؛ لأنهم ما رجعوا ولا تابوا، بل ولا سألوا، ولا عرفوا، ولا تعلموا ما هي السيئة، وكيف تحدث أثراً في النفس، لأنهم جهلة عاشوا في الغابات، والبساتين، والمصانع، والمتاجر، فما سألوا عن الله، ولا عرفوا. فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81] كم سنة يرحمكم الله؟ أبداً، عالمان لا يفنيان: عالم علوي دار السلام، وعالم سفلي النار، وباقي العوالم كلها تتبخر، فيبقى عالم الشقاء وعالم السعادة، وانتهت سنة الله في الخلق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-06, 05:29 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (62)
الحلقة (69)



تفسير سورة البقرة (32)






من أسلوب القرآن أنه يجمع بين الترهيب والترغيب، فهو يهدد من كفر، ويحذره عاقبة جحوده، وأن النار هي مصيره، خالداً فيها مخلداً، وبالمقابل يرغب المؤمن بأن له جنة عرضها السماوات والأرض، خالداً مخلداً فيها أبداً، ولكن ذلك لا يكون إلا للمؤمن، الذي حقق الإيمان اعتقاداً وقولاً وعملاً، فلا يضره شك الشاكين، ولا يؤثر فيه جحد الجاحدين.

تابع تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة وآياتها المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:81-83]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اعلموا -والعلم ينفع- أن الإنس والجن -هذان العالَمان: عالم الإنس وعالم الجن- نسبتهم إلى الله أنه ربهم .. خالقهم .. مدبر حياتهم، فما هناك من يتعزز أو يترفع أو يتسامى بنسبة خاصة عنده إلى الله عز وجل، وفي الحديث: ( كلكم لآدم، وآدم من تراب ). فالله عز وجل يُدخل دار السلام .. الجنة .. دار الأبرار مِن الإنس والجن مَن تهيئوا لذلك، وطلبوه، وعملوا على الحصول عليه، سواء كانوا بيضاً أو سوداً، عرباً أو عجماً، أشرافاً أو أوضاعاً، إنساً أو جناً. ويدخل عالم الشقاء .. النار؛ دار البوار -أعاذنا الله وإياكم منها- مِن الإنس والجن مَن تهيئوا لها، وعملوا لها واستعدوا لدخولها.وها نحن مع أشرف الناس .. مع بني إسرائيل، حيث يقول تعالى لهم بعد ما أبطل دعاواهم ومزاعمهم وجهالاتهم: بَلَى [البقرة:81]، أي: ليس الأمر كما تزعمون أو تدَّعون أو تقولون: إننا لا نعذب بالنار إلا أياماً معدودة، فالقضية أن مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة:81]، وكلمة (مَنْ): اسم موصول من ألفاظ العموم، يدخل فيه الذكر والأنثى، والعربي والعجمي، والشريف والوضيع.قال: مَنْ كَسَبَ أي: بنفسه، وقد علمتم سابقاً الكواسب والجوارح السبع التي بها نكتسب ونجترح. فالسيئة هي: كل قول أو عمل أو اعتقاد يحدث السوء في النفس بالظلمة والخبث والعفن والنتن. فذاك هو السوء، والواحدة سيئة.وقوله: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ، أي: مع العلم بأنه يكون مريداً لا مكرهاً، مختاراً لا مغالَطاً، فمن كسب سيئة بعمده وإرادته فهذه هي السيئة التي تحدث له المساءة في نفسه، أما مع الإكراه فلا تكون سيئة.ومن كسب سيئة واحدة ثم توالت عليه السيئات واحدة بعد أخرى فقد أحاطت به، وقد مثل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الإحاطة عند قوله تعالى: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، إذ بين لنا أن العبد المكلف، العاقل، البالغ، المريد، المختار إذا اكتسب سيئة وقعت نكتة سوداء على قلبه، فإن تاب مسحت وصقلت كما تصقل الزجاجة، وإن هو لم يتب وزاد سيئة أخرى وقعت إلى جنب الأولى، وهكذا الثالثة، والرابعة، والخامسة حتى يغطى القلب، وذلكم هو الران الذي قال الله تعالى فيه: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، أي: يكسبونه بجوارجهم: بالسمع .. بالبصر .. باللسان .. باليد .. بالرجل .. بالبطن .. بالفرج.وهذا قضاء الله وحكمه، فلا تقل: أنا ابن الأنبياء .. أنا حفيد أو سليل الأشراف، فكل هذا لا قيمة له؛ إذ هذا الكلام وجهه الله تعالى رداً على مزاعم بني إسرائيل.وقال تعالى بعد ذلك: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، أي: أهلها الذين تصاحبهم ويصاحبونها أبداً، فلا مفارقة. وقد عرفتم أن نار الآخرة صورتها موجودة في النار التي نوقدها للطبخ والاستدفاء، فهي آية من آيات الله الدالة على النار التي هي عالم الشقاء، ومن غفل أو ما تبين كيف أن ذلك العالم كله جحيم .. كله نار فليرفع رأسه إلى الشمس، الكوكب النهاري المضيء، وليذكر ما قاله أهل العلم من أن كوكب الشمس أكبر من كوكب الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فالشمس نار ملتهبة، ومن شدة حرارتها تصل إلينا بالصورة التي تعرفون، ولو جمعنا الإنس والجن -وكنا نقدر على ذلك- ووضعناهم في الشمس فإنهم لا يسدون عشر ما في الشمس، ويبقى ذلك العالم.فهذه هي الأرض قد ملأتنا وملأناها، وحملتنا موزعين فيها، ولو بعث أسلافنا الذين ماتوا لوقفوا في الأرض ووسعتهم!فإذا كانت الشمس لو جمعنا لها البشرية والجن ما سددنا جزءاً منها فكيف بعد ذلك تسألني عن النار أو عن أي عالم آخر؟!وهذا العالم بكواكبه ونجومه وشمسه كله يتبخر، ويصبح سديماً وبخاراً كما كان، وأما الجنة فتكون في الأعلى، ويكون عالم الشقاء في الأسفل.قال تعالى: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ والجمع: خطيئات، وهذا تنويع: السيئة والخطيئة، فلما يخطئ تحدث المساءة.وقوله: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فلم يبق ما يتعزز به المرء من نسب أو شرف أو قوة مالية أو بدنية أو .. أو .. لا، ما هو إلا حكم الله النافذ.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)

قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:82]، ما لهم؟ ما الخبر؟ اخبر عنهم! أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82]، أولئك هم الأشراف، السامون، الأعلون، وليسوا بالهابطين كأصحاب النار، فأصحاب الجنة هم الذين لا يفارقونها أبداً، وهم فيها خالدون.والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا صورة لندرك حقيقة العالم الآخر فيقول: ( مثل الدنيا في الآخرة كمثل أن يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع )، أي: ما هي كمية البلل التي علقت بالأصبع من النيل أو الفرات أو المحيط؟ وما هي نسبة ذلك البلل إلى البحر؟ إنها لا شيء.وبين لنا الله كذلك حال الناس؛ فأخبرنا أن آخر من يدخل الجنة يعطى مثل الدنيا مرتين، وأن هناك من يعطى مثل الدنيا عشر مرات من السابقين، أي: عشرة كواكب. ولا تقل: كيف؟ فإن المجرة كبيرة، وقد تستطيع أن تعد حصباء أو حصى الأرض ولكن لا تستطيع أن تعد الكواكب والمجرات، فقولوا: آمنا بالله!نحن الآن على الأرض بمثابة الجنين في بطن أمه سواء بسواء، ويوم نولد، ونخرج من بطون أمهاتنا هو يوم نفارق الحياة، ونخرج من الأرض، وتغمض العينان ويقال: مات فلان، فينتقل إلى العالم الآخر، ليرى العجب! والآن الدنيا كرحم، ها نحن فيها ما رأينا شيئاً، وما ولدنا بعد، فإذا مات أحدنا - وكلنا يموت- انتقل من هذا الرحم الضيق المنتن إلى عالم لا حد له ولا نهاية، واسمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن ما بين كتفي الكافر في النار كما بين مكة وقديد )، فهذا عرض الكافر في جهنم .. في عالم الشقاء المسمى بالنار.ويقول صلى الله عليه وسلم: ( ضرس الكافر في النار كجبل أحد )، كما في صحيح البخاري ، فعرفنا أن ضرس الكافر كجبل أحد! وتعجبنا من حال هذا الكافر أن ضرسه كجبل أحد فكيف بذاته؟! ولما قرأنا قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما بين كتفي الكافر في النار كما بين مكة وقديد ) عرفنا أن هذا الضرس يتلاءم مع شخصية وحال الكافر.وإن قلت: كيف أن هذه النار تُبقي عليهم؟قلت: عرفنا ذلك من الحديث السابق فأجسامهم بتلك الحال تأكلها النار خلال الدهر كله، قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:56]، فيحترق جلد الكافر، والجلد الآخر ينبت تحت الاحتراق، وهذه أجسامنا على ضعفها يحترق الجلد الأول، وينبت بعده جلد آخر؛ لأن العذاب في ذلك الجلد.فهل عرفتم إلى أين المصير أو لا؟ وأنه ليس وراء الجنة والنار عالم آخر، فقد انطوى الكون كله ولم يبق إلا عالمان: عالم الشقاء وعالم السعادة.

صدق الأنبياء فيما يخبرون به

فإن قال قائل: يا شيخ! مَن رأى الجنة ومَن رأى النار؟ فهذه أخبار غيب، فكيف تطمئن قلوبنا، وتسكن نفوسنا؟الجواب: أخبر الرحمن بآلاف الأخبار، فصدق في كل خبر، ولم يوجد خبر واحد أخبر الله به وما صح.وأخبر عن الجنة والنار ولم يبقَ للعاقل أن يقول: كيف؟ أو أن هذا غير ممكن؟!والمخبر هو خالق الصدق وقد أخبر بهذا، والمخبرون عنه هم رسله الذين اصطفاهم وهم في أرحام أمهاتهم بل وهم في أصلاب آبائهم وأجدادهم نطفٌ طاهرة قد أعدهم للإيحاء إلى الناس، وإبلاغهم ما أراد أن يبلغوا به. فهل الرسل يكذبون؟وإذا كنا نكذب الرسل فما بقي من يصدق في البشر، وقد انتهينا وهلكنا، فإذا قال الرسول: إن في السوق الفلاني كذا وكذا فإنه لا يصدق، وإن قال: مات كذا وكذا فلا يصدق، وهنا نكون قد انتهينا وأصبحنا شر الخلق. فلابد من الصدق والتصديق. ورسل الله عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر، ما منهم إلا ووصف دار السلام ودار البوار، أفيكون بعد هذا شك وارتياب؟!وأعظم دليل على ذلك موجود في الكتاب الذي تحدى الله به الإنس والجن، وما زال التحدي قائماً إلى الآن أن يأتوا بمثله، فهل استطاع جماعات الأدباء أن يعقدوا المؤتمرات، ويألفوا الكتب ليخرجوا على البشرية بكتاب يضاهون به كتاب الله؟ والله ما كان.وتحدى العرب على أن يأتوا بسورة فقط، فطأطئوا رءوسهم وانحنوا وما رفعوها إلى اليوم؛ ألف وأربعمائة سنة وزيادة، قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة:23]، أي: استعينوا بمن شئتم إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24] فعجلوا قبل أن تلتهمكم.

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن الملكوت الأعلى

ومع هذا عندنا الرائد الأعظم صلى الله عليه وسلم .. الرائد الذي ارتاد العالم الأعلى، فمن بيت أم هاني بجوار المسجد الحرام إلى المسجد الحرام إلى زمزم حيث أجريت له أول عملية جراحية للقلب تسمع بها الدنيا، فشق صدره، وغسل قلبه، وحشي بالنور والإيمان والحكمة، فتهيأ لأن يعيش في الملكوت الأعلى لحظات، فأسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، واقرءوا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1]، ومن المسجد الحرام إلى الملكوت الأعلى، والله لقد اخترق السبع السماوات؛ سماء بعد سماء، وانتهى إلى جنة المأوى، واقرءوا لذلك قول الله عز وجل يا أهل القرآن: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1]، تعرفون اليمين والحلف أو لا؟ أو كلكم بربر مثلي؟ هذه صيغة يمين أو لا؟ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2]، وصاحبنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:4-9]، هذا جبريل، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَه ُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:10-13]، مرة أخرى أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18].فصعد إلى السماوات بالبراق، والتقى ببعض الأنبياء والرسل في السماوات، وتحدث معهم.وعاش تلك اللحظات في دار السلام، وذكر أنه رأى قصراً فيه حوراء، فقال: لمن هذه؟ قيل: هذا قصر عمر رضي الله عنه، وهذه حوراه. فما كان منه إلا أن أغمض عينيه، وقال: ( إني ذكرت غيرتك يا عمر ! )، وأنتم أيها الفحول ما زالت الغيرة موجودة أو ماتت؟! فالفحل لا يرضى ولا يقبل أن ينظر فحل آخر إلى امرأته بعينيه، وهذا عمر عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسيته، وعرف غيرته وفحولته، فاستحى أن ينظر إلى تلك الحوراء في ذلك القصر احتراماً لـعمر لما يعرف من غيرته، ( فقال عمر : أعليك يا رسول الله أغار؟! )، أي: أغار منك.أعيد القول: أيها الفحول! زيدوا في طاقات غَيرتكم، ولا تجعلوها كغِيرة النساء، فلا ترض أن يكشف الفحل عن امرأتك إلا في حال الضرر المتأكد للإنقاذ أو التطبيب والعلاج، أما أن تقدمها وهي تمشي معك في الشارع: هذه مدامي .. هذه مدامي! فهذا معناه: أننا أصبحنا شبيهين بالنصارى.فإن قال قائل: ماذا هناك إذا رأى وجهها؟أقول: كيف تقول: ماذا هناك؟! كأنك تقول: هذا ليس فيه شيء، فما سقطت الكواكب، ولا التهمت النار، ولا ولا ..، نعم هناك أعظم شيء وهو أن الله أمرها أن تستر محاسنها، وتغطي وجهها، وأنت تتحدى الله وتكشف له وجهها.فكيف تقول: ماذا هناك! والله طلب منها أن تغض بصرها، وطلب منك أيضاً أن تغض بصرك عن محارم الرجال.وكيف تقول: ماذا هناك! أتبطل شرع الله بكلمة: (ماذا هناك؟) بهذه الكلمة الهاوية الباطلة.وقد مر صلى الله عليه وسلم بالكوثر أيضاً، وهل هناك حوض يسمى الكوثر؟ إي والله، أخبر عنه خالقه واقرءوا: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، وعدد كيزانه كعدد النجوم، وقال هكذا جبريل في تربته، فأخرجها تربة رائحتها أطيب -والله- من ريح المسك، وهذا الكوثر أعطاه الله للرسول صلى الله عليه وسلم.فإن قال قائل: هل لنا أن نشرب منه؟نقول: نعم إن شاء الله نشرب في حالة نحن أشد فيها ظمأً وعطشاً، في حالة أن نكون من أهل دار السلام. وذلك في عرصات القيامة .. في ساحة فصل القضاء. وهذا الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضاً من اللبن .. وأشد برودة من الثلج.فإن قال قائل: ومن أين هذا الماء؟الجواب: إنه من النهر الذي في الجنة، وفيه مرزابان يصبان في هذا الحوض.وقد بلغنا: أن رجالاً يريدون أن يقدموا على الحوض ليشربوا فتردهم الملائكة، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أصحابي! فيقولون: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. قال: فأقول: سحقاً سحقاً سحقاً )، فيردون إلى العطش والظمأ في ساحة فصل القضاء.يا معاشر المستمعين والمستمعات! عما قريب تعيشون تلك الأحداث: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا [غافر:59]، وإننا في آخر أيامها، فانتبهوا!

معنى الإيمان

قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:82].إن سأل سائل: ما معنى (آمَنُوا)؟فالجوا ب: معنى (آمَنُوا): صدقوا تصديقاً جازماً، خالياً من التردد .. خالياً من الشك، وبعيداً من الريب، بكل ما أخبر الله تعالى به، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو المؤمن.وإذا أخبر تعالى عن وجوده .. عن علمه .. عن قدرته .. عن حكمته .. عن رحمته لم تجد في نفسك إلا التصديق الجازم بما أخبر الله تعالى.وكذلك إذا أخبر رسوله وصح الخبر؛ لأن الحديث دخلت فيه شياطين الأنس، فقدموا وأخروا، وزادوا ونقصوا، ولكن الله حماه، فهيأ له رجالاً في كل زمان ومكان، ينفون عنه ما ألصق به المبطلون، أما القرآن فمعصوم محفوظ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].فإذا أخبر الله أو أخبر رسوله وقلت: آمنت، فأنت المؤمن، فإن ترددت وقدمت رجلاً وأخرت أخرى وتساءلت: كيف؟ فما آمنت.

بيان أركان الإيمان

لقد جاء القرآن الكريم ببيان أركان الإيمان، وجمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث واحد، والواجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحفظها عن ظهر قلب، ولا يحل أبداً أن يعيش المؤمن خمسين سنة وهو لا يحفظ هذه الأركان.وهذه الأركان جاءت مبينة في القرآن الكريم، فآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... [البقرة:177] جمعت حوالي خمسة أركان، وركن القضاء والقدر جاء في سورة القمر.أما حديث جبريل في صحيح مسلم فسنذكره لنتلذذ بذكره، وليحفظه السامعون، والذي ما حفظه يجري وراء الطلاب ويقول لهم: والله لتعلمونني هذا الحديث، حتى يحفظه.لما أكثر الصحابة من سؤال الرسول وأتعبوه وأرهقوه؛ فهم بشر. ماذا فعل الله عز وجل تأديباً لأوليائه، ورحمة برسوله؟ أنزل آية من سورة المجادلة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12]، أي: إذا كنت تريد أن تخلو برسول الله، فكيف يفعل الرسول! ففي كل دقيقة هناك واحد يريد أن يكلمه، فقال: من أراد أن يخلو بالرسول ليكلمه خاصة فعليه أن يدفع صدقة ويتفضل بنجواه. فتأخر الصحابة وما استطاعوا أن يخلوا به؛ لأن أكثرهم فقراء، وليس عندهم شيء، فرحمة من الله تعالى نزل التخفيف فقال: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المجادلة:13]، فنسخ الله ذلك الحكم، وعرفوا لماذا كل من عنده سؤال لا يخلو بالرسول؟ فكيف سيعيش؟! وهذا في الخلوة.وفي الأسئلة أيضاً قال تعالى: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]، فليس كل من في قلبه شيء يسأل، فإن الرسول لا يطيق هذا، فلما أدبهم وأصبحوا لا يسألون كانوا يفرحون بقدوم الأعرابي إذا دخل يسأل، والأعرابي ليس عنده علم، فما تحضّر ولا تأدب، فيأتي يسأل، وعندما يسأل يرتاحون، ويسمعون الهدى.وبناءً على هذا شاء الرحمن جل جلاله أن يبعث بجبريل في صورة رجل قال واصفه: ( شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر )، أي: ليس فيه شيب، ( لا يرى عليه أثر السفر )؛ لأن المسافر في تلك الأيام إذا جاء من السفر يكون مليئاً بالغبار، و.. و.. ولا تسأل، ( ولا يعرفه منا أحد )، فدخل المسجد ومشى حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمهم كيف يجلس طالب العلم، قال: ( فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه ) فقواه الكامنة والباطنة جمعها، وأخذ يسأل، والصحابة يسمعون.وأول سؤال قاله: ( أخبرني عن الإيمان؟ ) أي: ما هو الإيمان؟ ( قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال الصحابة: فعجبنا له يسأله ويصدقه! ) إذاً هو أعلم أو ماذا؟.( قال: أخبرني عن الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت )، وهذه هي قواعد الإسلام الخمس، ولو سقطت قاعدة يسقط السقف ولا يبقى، ولا إسلام لمن سقطت قاعدة الإسلام منه.

مرتبة الإحسان

ثم قال: ( أخبرني عن الإحسان؟ قال: الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )، الإحسان: أنك عندما تعبد الله بأنواع العبادات كالطواف .. أو السعي .. أو الوقوف في عرفة .. أو الاغتسال والوضوء .. أو الصلاة .. أو الصدقة، وعندما تباشر العبادة تفعلها وكأنك تنظر إلى الله، فإن عجزت عن هذا المستوى وما وصلت إليه فدونك المستوى الثاني، ولا عذر بعده، وهو أن تعبد الله بتلك العبادة وأنت تعلم أن الله ينظر إليك.ومن لم يعبد الله على حال من الحالين فما صحت عبادته ولا عبد الله، بل أساء وأفسد، وما أصلح ولا أحسن، إذ لابد للعابد عند مباشرة العبادة أن يكون مع الله كأنه يراه، فإن نزل عن هذا المستوى يُشعر ويعلم نفسه أن الله ينظر إليه، ومن ثَمَّ لا يقدم ولا يؤخر، ولا يزيد ولا ينقص، ولا يلتفت، حتى يكملها، ولهذا هذا الركن الواحد بدونه تسقط تلك الدعائم والأركان.فالإحس ن: هو إتقان العمل وتجويده حتى يكون منتجاً للطاقة النورانية .. مولداً للحسنات؛ لأن العبادة من حيث هي عندما تقول: سبحان الله! إن كنت مؤمناً، وعارفاً، وسبحت الله؛ نزهته وقدسته وكأنك تنظر إليه، أو أنت تعلم أنه يراك، فأنتجت هذه الكلمة مادة نورانية سماها الشارع الحسنة؛ لأن النفس تحسن وتجمل بها، فلا تقبح وتتعفن كالسيئة.فلهذا: يا عباد الله! كلنا في هذا الباب متخلف وما تقدمنا، فيجب أن نعبد الله في حالة من الحالتين: إما وكأننا نراه، فإن عجزنا عن هذا المستوى وما استطعنا فعلى الأقل نعبده ونحن موقنون أنه ينظر إلينا، ومن ثم لا نزيد ولا ننقص، ولا نخافت ولا نسارع، ولا نفسد العباده عنا، فتنتج الطاقة النورانية المطلوبة.إذاً عرفتم الإحسان؟ عرفتم الإيمان؟ الإسلام؟فالإيما ن عقيدة، والإسلام عمل؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، صوم رمضان، حج البيت الحرام مع القدرة عليه. والإحسان معناه مثلاً أن الخياط الذي يخيط الثوب يجب أن يراقب الله وأن يحسن الخياطة وإلا غش الناس. وقد وصلنا إلى مستوى أن أصبح الخياط يقول: هذه خياطة السوق، وهذه خياطة الذمة. فخياطة السوق يبيعها في السوق، ويلبسها الفحل يومين .. ثلاثة ثم تتمزق، وهناك خياطة أخرى تسمى خياطة الذمة. وأسألكم بالله: أيجوز هذا؟ كيف يصح؟ ولا لوم ولا عتاب فما عرفنا الله بعد، ولا تعلمنا الهدى والطريق إليه، فنحن مشغولون بدنيانا.

أمارات الساعة

ثم قال: ( أخبرني عن الساعة؟ )، أي: أتدرون ما الساعة؟ وهي نهاية هذه الحياة الدنيا، ( فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل ). المسئول هو الرسول، والسائل هو جبريل، فقال الرسول: ما أنا أعلم منك، أي: أبداً ما المسئول بأعلم من السائل في هذه القضية، وهل جبريل يعلم متى الساعة؟ والله لا يعلم، قال تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف:187]، فالعالم العلوي ما عَرَف، وليس له أن يعرف؛ لحكمة إلهية أخفاها عن الملائكة .. عن الإنس .. عن الجن.ثم قال: ( أخبرني عن أماراتها )، يصح أن تقول: أماراتها أو إماراتها؟ والعوام يقولون: الأمارة. وأين الأمارة؟ الأمارة هي التي فيها الأمير. والإمارة: من أمر يأمر أمراً فهو آمر، والإمارة مكان الأمر والنهي. والأمارات جمع أمارة، بمعنى: علامة، والعامة يعرفون الأمارة والعلامة: أمارته وعلامته كذا وكذا.قال: ( أخبرني عن أماراتها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أن تلد الأمة ربتها )، والآن ليس عندنا إماء ولا عبيد. ويا ليتنا نكون عبيداً لله، صادقين في العبودية؛ لأن الإماء يوجدن أيام الجهاد؛ وذلك لما نحمل راية لا إله إلا الله وننشر الهدى، فمن وقف في طريق النور وأراد الظلم للبشرية نصفعه، وأسراهم عبيد لنا حتى يدخلوا في رحمة الله.وقوله: ( أن تلد الأمة ربتها ) معناه: يظهر الجهل ويعم، فالأمة تلد، ثم تلك المولودة تجد الأمة والتي هي أمها تباع في السوق فتشتريها فتصبح ربتها، للجهل واختلاط الأمر.ثم قال: ( وأن ترى الحفاة )، جمع: حافي، أي: ليس في رجليه نعلان ولا حذاء، ( العراة ) ليس فيه إلا ستارة تسمى: إزاراً أو رداء يرتديه، ( رعاء الشاء أو رعاة الغنم يتطاولون في البنيان ) وهذا قد وقع، فتجد من يقول: أيهم عمارته أطول، لقد بلغت عمارة فلان عشرين طابقاً .. ثلاثين طابقاً .. عشرة طوابق .. خمسة طوابق، عجباً لهذا الرسول! وليس هذا في المملكة والحجاز بل في العالم بأسره، فرعاة البقر في أوروبا يتطاولون بها، ورعاة الإبل يتطاولون بها؛ لأن هذا حكم عام.إذاً: قربت الساعة!قال: ( وترى الحفاة العراة العالة )، أي: الفقراء ( رعاء الشاء يتطاولون في البنيان )، أي: أيهم يكون بناؤه أطول وأعلى.والشاهد عندنا أنكم عرفتم الإيمان والإسلام والإحسان، ولو رجعت إلى البيت عليك أن تفكر فيما قلناه، فإذا غابت عنك كلمة فاسأل أي مؤمن وقل له: من فضلك! أنا نسيت كذا فذكرني. وبمجرد ما تعزم هذه العزيمة وتطبقها فإنك ستتعلم، أما أن نجلس ولا نحفظ، ولا نعمل، فما قيمة جلوسنا؟!

أثر الإيمان في حياة القلوب

أقول معاشر المستمعين والمستمعات: يقول تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:82]، بم؟ بما علمتم.وهذا الإيمان قررناه مئات المرات أنه بمثابة الطاقة الدافعة، وإذا نفدت الطاقة من السيارة فإنها لا تمشي، وبطارية السيارة إذا نفدت فإنها لا تشغل شيئاً بل تصاب بالحشرجة التي في الصدر، وصوتها كصوت المريض الذي يموت، فهذه الطاقة هي الإيمان، فإذا كانت صحيحة وسليمة وقوية فإنها تدفع صاحبها إلى أن يقوم الليل كله .. إلى أن يعتزل النساء طول حياته .. إلى أن يرابط في الجهاد فلا يخرج.والإيمان طاقة قوية حملت بعضهم على أن يخرج من ماله كله، ولولا هذه الطاقة الإيمانية ما استطاعها إنسان، وهذه الطاقة إذا سلمت من الحيف، والزيادة، والنقص، والخرافة وعرفتها كما عرفك الله، ثم قويتها وزدتها دائماً وأبداً فإنها تثمر وتنتج باستمرار.لكن بم تزيد هذه الطاقة؟من مظاهر زيادة هذه الطاقة أنك إذا شعرت بضعف في هذه الطاقة فقم وصلِّ ركعتين، أو أخرج من جيبك ريالاً أو ريالين وتصدق.فلما تشعر بفتور أو ضعف في طاقتك قوها بعمل صالح؛ ولهذا قالت العلماء: الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، فيوالي معصية بعد معصية فيخفت ذلك النور وينتهي.ولهذا عرض القرآن عرضين، فشاهدوا، هل تجدون أنفسكم -أيها المؤمنون- موجودين أو لا؟العرض الأول من سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ بصدق وحق الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4]، إن شاء الله معهم؟ما رأيتمونا؟ ما رأيتم أنفسكم؟ موجودون إن شاء الله.وأنت إذا قلت لأحدهم: يا سيد! كيف تبيع مجلات الخلاعة وصحف الباطل من أجل الريال! لا تبع هذا الباطل. يقول -مع الأسف-: الزبائن لا يشترون الأشياء الأخرى إلا إذا بعت هذه.قلنا: هل هذا توكل على الله أو على المجلة؟أين التوكل على الله: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-08, 03:27 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (63)
الحلقة (70)



تفسير سورة البقرة (33)


أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل بأن لا يعبدوا إلا الله وحده، ولا يعبدوا معه غيره، وهذا البند هو أكثر ما أكد عليه القرآن، ومع هذا نجد كثيراً من المسلمين لا يحققونه، ولا أدلّ على ذلك من انتشار الأضرحة، ومظاهر التعبد لغير الله، أما البند الثاني من الميثاق فكان متعلقاً بالإحسان إلى الوالدين، وهذا معنى يشمل كل ما يسمى أحياناً بما في ذلك صلة أهل ودّهم.

تابع تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:81-83]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

تدسية النفس بكسب الخطايا والسيئات

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81-82]، هذا قضاء الله .. هذا حكم الله، وقد عرفنا -والحمد لله- الآية التي تحمل هذا الحكم الإلهي، وأصبح من الضروريات عندنا معشر أهل هذا الدرس! وهو قول الله تعالى بعد ذلكم الإقسام العظيم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فكن ابن من شئت فإن نسبتك إلى الآباء والأمهات لا تغني عنك شيئاً، وما هو إلا أن تزكي نفسك فتنجو من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، أو تدسيها فتذل، وتهون، وتخسر في الدنيا والآخرة.أعيد هذا الحكم وتأملوه، وأعيدوه، وتحدثوا به، وبلغوه اليهود والنصارى والمجوس والمشركين؛ إذ الكل عبيد لله، خلقهم ورزقهم، وإليه مصيرهم، أحبوا أم كرهوا، فتَجاهلهم لا يجدي ولا ينفعهم، فهم مخلوقون مربوبون، يجب أن يتعرفوا إلى خالقهم وربهم، وهذا حكمه فيهم بعد أن أقسم تعالى بأعظم إقسام: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، هذه تسعة أيمان، حتى أقسم بنفسه.لكن على ماذا أقسم؟ أقسم على هذا الحكم الذي لا ينقض بحال من الأحوال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: نفسه، فطهرها وطيبها حتى تكون كأرواح أهل الملكوت الأعلى صفاءً وطهراً، وَقَدْ خَابَ خسر مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10].وكأنكم تسمعون رسول الله وهو ينادي: ( يا بني فلان! يا بني فلان! أنقذوا أنفسكم من النار )، حتى قال: ( يا فاطمة ! إني لا أغني عنك من الله شيئاً ).والآية تبين لنا الآن ما تدسى وتزكى به النفس، فقال تعالى: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81]، تدست نفسه، وخبثت، وتلوثت فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81].إذاً: النفس تتدسى وتخبث بالسيئات، وبتلك الأقوال والأعمال والاعتقادات التي حرمها الله، وأودع فيها مادة الخبث، وما من عبد يفعلها إلا وتخبث نفسه، وخالق السم في العقرب والأفعى هو جاعل هذه التدسية في الكذبة يكذبها عبد الله.

تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح

بم تزكو النفس؟قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82]، فبين لنا ما تزكو به النفس، وهو الإيمان والعمل الصالح.فسبحان الله العظيم! أبعد هذا نطلب مزيداً؟!أيحلف الجبار على أن من زكَّى نفسه فاز، فزحزح عن النار وأدخل الجنة، ومن دساها فقد خاب وخسر، ونطلب غير ذلك؟!بين الله لنا الفوز بقوله: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، وبين التدسية أيضاً ومعنى الخسران فقال: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].

تعجيل التوبة من الخطايا

معاشر المؤمنين والمؤمنات! إذاً: هذه الآية تخاطب بني إسرائيل .. اليهود الذين كانوا يجادلون رسول الله في المدينة، فلما ادعوا تلك الدعاوى أبطلها الله، وبين أنه لا قيمة للنسب. بَلَى [البقرة:81] أي: ليس الأمر كما تدعون، كيف إذاً يا ألله؟! قال: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81]، لأن الخطايا لا تأتي إلا بعد أن تكون خطيئة، فلهذا إذا اقترفت ذنباً فعجِّل بالتوبة وإلا فستتوالى الخطايا، والتوبة تجب على الفور بإجماع هذه الأمة؛ لأنك إذا أذنبت وتساهلت فسوف تتوالى الخطايا، وتحيط بنفسك، وحينئذ يكون قد فُرغ منك، ولن ينفعك شيء.قال: فَأُوْلَئِكَ [البقرة:81] البعداء أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، فالنار عالم، وما عالمنا هذا إليه إلا كقطرة ماء في المحيطات الخمسة، واللسان فقط يقول: النار، وكوكب الشمس المضيء؛ الملتهب، الذي هو أكبر من الأرض بمليون أو نصف مليون مرة، لو كان هو النار فلن تملؤه البشرية ولو كانت مثل هذا خمسين مرة، لكن هذا الكوكب سيحترق وينطفي، والنار وراء ذلك.

التلازم بين الإيمان والعمل الصالح

قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82]، فلولا الإيمان ما عمل عبد الله العمل الصالح، وإياك أن تتصور إيماناً بدون عمل صالح، أو تتصور عملاً صالحاً بدون إيمان، فإنك ما أصبت الحق.كيف هذا؟إذا وجد الإيمان الحق المطلوب فأنت تجري وتطلب أهل الأرض: دلوني على عمل يحبه ربي .. دلوني على ما يكره مولاي. فلا تستطيع أن تؤمن بالله ولقائه ولا تعمل ما يرضيه، ولا تترك ما يسخطه، هذا مستحيل.فالإيمان بمثابة الروح، وإذ حيي العبد أمكنه أن يسمع ويبصر، ويقول ويعمل، لكن قبل الحياة كيف يعمل؟ لا يستطيع.فلا تتصورن وجود إيمان حق بدون عمل صالح، إلا لمن آمن ومات مباشرة. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم أدركه الموت، فلا اغتسل، ولا صام، ولا صلى.أما أن تتصور أن إنساناً أو جاناً يعيش مؤمناً اليوم واليومين .. والعام والعامين ولا يطلب مرضاة ربه بالعمل الصالح، وترك سخطه بالعمل الفاسد، فوالله ما كان ولن يكون، ومن عنده دليل فليأتنا به؟فكونك تجد عملاً صالحاً بدون إيمان هذا لا يمكن، ولا يمكن أن يكون العمل -حقيقة- صالحاً وناتجاً عن غير إيمان بالله ولقائه، فلهذا هما مقرونان في كل آيات القرآن: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، حتى إذا ذكر الصالحات أولاً يأتي بالإيمان بعد ذلك: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، أي: والحال أنه مؤمن.إذاً: هذه الآية الكريمة تكفينا وتكفي أهل الأرض، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله عن سورة (والعصر): لو ما أنزل الله تعالى إلا هذه السورة لكفت. لأن الله عز وجل أقسم بالعصر، وله أن يحلف بما يشاء. فحلف على أن هذا الإنسان مخلوق في خسر، واستثنى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ...)

الآن مع هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى وهو يخاطب نبيه فيقول: اذكر لهم، أي: لهؤلاء المتعنتين الخصوم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83]، ومن الذي أخذ ميثاق بني إسرائيل؟ الله.ما هو الميثاق؟ الميثاق هو العهد المؤكد بالأيمان .. العهد المغلظ المشدد الموثق بالأيمان، كأن يقول: والله لا أخلف وعدي معك، أو لأفعلن ما قلت، أو لأنهضن بما كلفت.قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وبنو إسرائيل -يرحمكم الله- هم اليهود.ولم قيل فيهم: بنو إسرائيل؟ ذلك لأن جدهم إسرائيل: عبد الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، هم بنو إسرائيل.ومن عجائب الحياة أن هذا النوع من البشر احتفظ بجنسيته، فلا يقبلون من يدخل في دينهم، ولا يدعون الناس إلى دينهم، ومن شك فليسأل أبناءنا وإخواننا الذين لهم الآن خمسة وأربعين سنة مع اليهود، بل من قبل: هل حاولوا أن يدخلوا فلسطينياً في اليهودية؟ أبداً، وقد يعيشون في أوروبا .. في آسيا .. في أفريقيا ولا يدعون أحداً لأن يدخل إلى دينهم، ولا يقبلون من ينتسب إليهم، إلا نادراً ولأغراض سياسية، ولا يقع هذا إلا مرة واحدة في مائة سنة.فلهذا يخاطبهم الله بهذا اللقب: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فليس فيهم دخيل، لم هذا؟ لأن علماءهم غشوهم، وأحبارهم ضللوهم بأنهم هم الشعب المختار عند الله .. وأنهم هم أفضل المخلوقين من بني آدم، وهذا كان في أيام الطهر والصفاء، نعم! فضلهم الله على العالمين، وهم عباده، وله أن يفضل من يشاء؛ ففضلهم لما كان فيهم من أنوار الهداية الإلهية، ولما كان في كل بيت منهم يوجد نبي، لكن لما انتكسوا وهبطوا، وقتلوا الأنبياء والعلماء، وحرفوا دين الله لعنهم الله. والمغضوب عليهم هم اليهود؛ لأنهم عرفوا الحق وأعرضوا عنه، وهم المغضوب عليهم في سورة الفاتحة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]. ولم غضب عليهم؟ لأنهم حرفوا كلام الله، وأفسدوا دين الله، ونقضوا العهود مع الله، فلعنهم الله، وغضب عليهم.ومن يسلك سلوكهم يحل محلهم؛ إذ البشرية كلها جنس واحد، وفي الحديث: ( كلكم لآدم، وآدم من تراب )، ( لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى )، ولم التقوى؟ لأنها تزكي النفس وتطهرها، فالمتقي هو الذي يعمل بمزكيات نفسه ومطهراتها من الإيمان والعمل الصالح، ويعيش يتهرب ويتجنب مدسيات النفس من الشرك والمعاصي، فهذا ولي الله الذي ينزل الملكوت الأعلى، سواء كان أبيض أو أسود.

أخذ الميثاق من بني إسرائيل

قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83]، فما مضمون هذا الميثاق؟ وما هي بنوده ومواده؟من الجائز أن تكون الوصايا العشر، والوصايا العشر يعتز بها اليهود اليوم، ومنذ عهد موسى، ولكن اعتزاز المسلمين اليوم ومنذ ألف سنة بالقرآن أكثر، ولكن بلا عمل.فاليهود إلى الآن لو تتصلون بهم وتدارسونهم لوجدتهم معتزين اعتزازاً بالوصايا العشر وهي وصايا الرب تعالى، وقد أخذ عليهم فيها العهد والميثاق.أما نحن فقد أعطانا الوصايا العشر، وزادنا العشرات بل المئات، فهل أخذنا بتلك الوصايا.اسألوا المؤمنين: هل عرفوا هذه الوصايا؟ وأين هذه الوصايا؟إنها عشر وصايا تعدل وصايا بني إسرائيل وتفوق بحسب مستوانا وقربنا من ربنا.هل تسمعون عن الوصايا العشر؛ لتعرفوا هل أنتم نفذتم الوصايا أو لا؟ أو ليس لكم حاجة؟!أعوذ بالله! كيف نأكل ونشرب ونحيا إذاً ونحن لا نعرف هل مرضي عنا أم مسخوط علينا؟!وها نحن نقرأ فقط من باب العرض التلفازي، فشاهدوا أنفسكم هل طبقتم هذه الوصايا العشر أو بقيت وصايا ما كملناها، ومن ثم نعزم ونصحح العزم على أن نطبقها؛ إذ هي ليست وصايا من الصعوبة أنها مستحيلة، لا، أبداً، فما كلفنا الله بما نعجز عنه.لقد جاء ذكر الوصايا العشر في سورة الأنعام، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم. وسورة الأنعام لما نزلت جملة واحدة زفها سبعون ألف ملك نزلوا معها. وكم طالبنا وصحنا عشرات السنين: هذه السورة يجب أن يفرض حفظها ودراستها في كل معهد .. في كل مدرسة .. في كل كلية في العالم الإسلامي. ومع هذا:لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تناديبسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153].لمن هذه الوصايا؟ أليست للمؤمنين المسلمين؟كم وصية؟ عشر وصايا.كيف حالكم معها؟ نحمد الله، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، إما أن توفي الكيل والميزان أو تطفف.والشاهد عندنا: ليس بنو إسرائيل وحدهم أخذت عليهم المواثيق والعهود، بل نحن أكثر منهم، وتقدم لكم أن من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقد أعطى العهد والميثاق لله أن ينهض بكل تكليف، وأن يترك ويتجنب كل محرم ومنهي عنه، وإلا خان عهده ونقضه.

أخذ الميثاق بعبادة الله وترك عبادة غيره

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83] بنوده: أولاً: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83].أول بند هو ألا يعبدوا إلا الله، وهذا لازم أن يعبدوا الله أولاً، ثم لا يعبدون معه غيره، فليس معناه: لا تشرك فقط، ولا يقال: لا تشرك إلا إذا كنت تعبد، ومعنى هذا: اعبد الله وحده، وهو معنى لا إله إلا الله.وهذه هي المادة الأولى أو البند الأول في هذا الميثاق الإلهي، الذي أعطاه بني إسرائيل على عهد موسى.وقوله: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ جملة خبرية معناها الإنشاء، أي: اعبدوا الله وحده.فإن قال قائل: يا شيخ! كيف نعبد الله وحده؟الجواب: اسأل أهل العلم: بم يعبد الله، وكيف يعبد؟ ولا بد أن تسأل: كيف يُعبد الله، وكيف أعبده؟ ومن لم يسأل لم يعرف، ومن لم يعرف هل يقال فيه: عبدَ الله؟ كيف عبده؟! فلا بد وأن يسأل أهل العلم، والله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].فكل من لا يعلم يجب أن يسأل حتى يعلم، وكل من سئل وهو يعلم عليه أن يُعلِّم حتى يعلم السائل ما طلب.ومن هنا المفروض أن أمة الإسلام وإن بلغت خمسمائة مليون لا يوجد بينها رجل ولا امرأة جاهل. صح هذا أم كذب؟ هذا هو الواجب، فلا ينبغي أن يعيش من المسلمين رجل أو امرأة العام والعامين والعشرة الأعوام وهو لا يعرف كيف يعبد الله، ولا بم يعبد الله! لأنه مأمور؛ فالله هو القائل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فنسأل أهل الذكر، والذكر هو القرآن: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1].هذا إن كنتم لا تعلمون، أما إذا كنت عالماً فلا تسأل، وإنما تهيأ فقط لأن تُسأل فتُعلِّم.لكن متى يفيق النائمون؟ ومتى يصحو السكارى بحب المال والدنيا؟ ومتى يصبح العالم الإسلامي نساء ورجالاً كلهم علماء؛ فيعرفون ربهم معرفة تثمر لهم حبه في قلوبهم، فيحبون الله أكثر من أنفسهم، وأموالهم، وأهليهم، وتصفو لهم خشيته في قلوبهم، فيرهبونه، ويرتعدون من ذكره، ثم يطيعونه.فإذا أحل لنا الحلوى نأكل: بسم الله .. وإذا حرَّم الدخان والشيشة امتنعنا .. وإذا أمرنا أن نلبس خاتم الفضة لبسناه .. وإذا نهانا عن خاتم الذهب تركناه، وهكذا فعل وترك، والفعل مستطاع وفي قدرة الآدمي إن خلا من علل وأمراض، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.ماذا نقول: هل من عودة؟ نعم، عائدون!هل هناك طريق قريب يا أبنائي؟!الطريق البعيد هو أحلام الغافلين من أمثالنا كأن يقول: هذا يوم تكون الخلافة! ونحن نعمل على إيجاد الخلافة الإسلامية.لكن متى توجد الخلافة؟!وإذا وجد الخليفة نكفره، ونرميه بقواصم الظهر حتى لا يطاع، وهذا هو واقعنا.أنا قلت غير ما مرة: لو أن عمر رضي الله عنه خرج في هذا المجتمع فلا يستطيع أن يفعل شيئاً أبداً، فالقلوب متفرقة، والأهواء والرغائب متنازعة، والشهوات عارمة، فكيف يجمعهم؟!إذاً علينا أولاً: أن نؤمن، وأن نحقق إيماننا بالله ولقائه، فإذا آمنا وحيينا فحينئذ كلف يا عمر ! ومر فإنك تطاع، أما ولا إيمان حق فكيف يكلفنا؟!

طريق النجاة

إذاً: ما هي الطريق؟أيها المفكرون! يا علماء الإسلام! نبحث عن طريق للخلاص والنجاة، فقد كونا منظمات وجمعيات فما نفع! فما الطريق؟وهنا عدنا من حيث بدأنا، فعلينا أن نسلك مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.ماذا كان يفعل في مكة وهو محاصر، كان إخوانه مضطهدون يعذبون أمامه، وهو قد منع من المسجد الحرام، فجمع المؤمنين في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، وما جمعهم في هذه الدار لأكل البقلاوة، والحلاوة، والرز، واللحم، لا والله، إنما جمعهم ليعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، ويطهرهم من أدران الأوساخ، والشرك، والمعاصي، والذنوب.ثم هاجر إلى المدينة النبوية في السنة الثالثة عشرة من البعثة، فنزل بديار عوف بن مالك بقباء، ونزل هناك مع زميله .. مع رفيقه .. مع خليله، وإن قال في الحديث: ( لو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن حسبي خلة ربي ). وما مضى عليه أسبوع إلى ثلاثة عشر يوماً حتى بنى مسجد قباء، فبنى المسجد في سبعة أيام أو ثمانية أيام، وبنى هذا المسجد ليجمع المؤمنين والمؤمنات -وهم أقليات- من أجل أن يعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم.أصحيح هذا الكلام أم لا؟ والله إنه لصحيح. وخرج من دار عوف بن مالك في موكب النور، وبطون وأفخاذ وقبائل الأنصار تقول: عندنا يا رسول الله! هنا النزول .. هنا النزول .. انزل عندنا، فيقول: ( اتركوا القصواء فإنها مأمورة ). فيمسكون بخطامها: انزل! لا .. لا، اتركوها، فتمشي وتمشي، والناس وراءه وأمامه، والدنيا كلها فرح، ولم لا ورسول الله بينهم؟ حتى وصلت إلى تلك الروضة وبركت، فأرادوا أن يقيموها فقال: ( دعوها فإنها مأمورة. هنا يبنى المسجد ).ودار أبي أيوب بينه وبين المسجد خمسة أمتار أو ستة.وبنى المسجد، فطلب عوناً من ربه، والله كأنكم ترونه وهو يحمل الحجارة على كتفيه، من هو هذا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو يتقاول بتلك الكلمة:اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرةوالناس يقولون معه؛ حتى يتشجعوا على البناء ومواصلة العمل:اللهم لا عيش إلا عيش الآخرةفاغفر للأنصار والمهاجرةوبنى المسجد، وأي مسجد هذا؟ هو هذا الملاصق لحجراته، وبنى بعد ذلك الحجرات، واشترى هذه التربة من يتامى، إلا أن أولياء اليتامى قالوا: لن نأخذ ثمناً، نحن سندفع الثمن.ولم بنى المسجد؟ ليجمع المؤمنين والمؤمنات؛ فيعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم.وجمعهم أم لا؟ وتعلموا أم لا؟والله ما اكتحلت عين الوجود بخريجي مدرسة أو جامعة أو مسجد كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الواحد منهم يزن الدنيا!وسأعطيكم نماذج لتعرفوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تخرجوا من المسجد، لا أقل ولا أكثر:لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي الخلافة أبو بكر ، وكان يسكن في العوالي، فإذا به يسمع جارية تقول: آه! أبو بكر الآن ولي أمر المسلمين، فمن يحلب لنا؟ نعم كان أبو بكر يحلب لأهل الحي أغنامهم، فقال: لا يا بنيتي! ما زلت أحلب لكم.انظروا إذا تجدون في العالم هذا النوع من البشر!ونحن يعلق أحدنا خيطاً عسكرياً فيرتفع رأسه في السماء، ولا يعرف شيئاً.وأما إذا حصل على مليون ريال فحدث ولا حرج!وهذا سلمان الفارسي يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ( سلمان منا آل البيت )، كان أبوه -عليه لعائن الله- هو الذي يوقد نار الشرك، أي: المسئول عن تأجيج النار التي تعبد في بلاد فارس، وهو القيّم على الإله.فأنقذ الله هذا الولد بعدما تجرع الغصص، وتذوق آلام الحياة وأتعابها، فما وصل إلى المدينة حتى بيع عبداً مرتين أو ثلاثاً، وهو يتنقل من إقليم إلى إقليم يسأل عن الهدى، فما اطمأنت نفسه إلى عبادة النار، وقد وجد من رجال المسيحية بصراء عقلاء مَن يرشده قائلين: إننا في انتظار نبي آخر الزمان. فيقول: صفوه لي وأعطوني علاماته. حتى قالوا: يوجد في قرية ذات نخيل وسبخة يقال لها: يثرب. فتنقل حتى وصل المدينة بعد عشرين سنة.فلما حكم عمر أو أبو بكر ولاه ولاية البصرة، فجاءت قافلة تجارية كبيرة من الشام ودخلت البلاد، فوضعوا أمتعتهم، وأناخوا إبلهم، أو ربطوا بغالهم وحميرهم، فليس هناك سيارات ولا قطارات يومئذ.وجاء سلمان وفي يده عصا.قالوا: من هذا؟ هذا لا نعرفه. تعال يا حمال.قال: ماذا تريدون؟قالوا: احمل معنا هذه الأمتعة إلى الفندق. فوالله لقد حمل حقيبتين أو ثلاثاً، واحدة على رأسه، وأخرى بيمينه وأخرى بشماله، ومشى إلى الفندق، فمر بهم بصري: يا جماعة! ويلكم هذا والي المدينة.قالوا: الله؟! قال: نعم. فأخذوا: يا والي! لوجه الله سامحنا. قال: اسكتوا، والله لا أضعها حتى أصل إلى الفندق.أرأيتم خريجي المسجد النبوي أم لا؟! وحسبنا هذا.فإن أردنا أن نصل إلى السماء، وننزل الملكوت الأعلى فهذا هو الطريق، فلا حزبية، ولا تكتلات، ولا تجمعات ولا أحلام، ولا تكفير، ولا عمل، إلا أن نعرف ربنا المعرفة الحقة، فنعرف كيف نعبده، وبماذا نعبده، والطريق يكون في العودة إلى بيوت الله؛ فلا كبر، ولا غطرسة، ولا مال، ولا شرف، بل نجتمع في بيت ربنا في الحي أو القرية، الغني كالفقير، العالم كالجاهل، الذكر كالأنثى، إلا أن النساء وراء الستارة، والفحول أمامهن، وكل ليلة وطول العام ندرس ماذا؟ تاريخ أفلاطون ! وسياسة نابليون ! ندرس قال الله وقال رسوله. وبعد عام .. عامين فقط تتجلى أنوار تتحير لها عقول البشر: كيف استقامت هذه الأمة؟! أين درست؟ ماذا تعلمت؟هذا هو الطريق.وهل هناك طريق آخر؟والله لا أراه، والتجارب كافية، فدعونا، وقد صحنا منذ ستين سنة وما تحركنا، وما زلنا في أماكننا! والآن معاشر المستمعين! أنتم في مسجد رسول الله أم لا؟ في دار النبوة أم لا؟ هل تسمعون غير الحق والهدى؟ والله ما كان ولن يكون.وإن قلتم: ها نحن مع اليهود، والله يقول لهم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83] أولاً: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83] وثلاثة أرباع المسلمين يعبدون الأولياء، فهذا يحلف بهم، وهذا يعكف على قبورهم، وهذا ينذر لهم، وهذا يدعوهم ويستغيث بهم، وإن خَفَّ هذا نوعاً ما لانتشار الدعوة. فثلاثة أرباع المسلمين لا يفكرون في لقاء ربهم، ولا يسألون عن محابه ولا مساخطه، ولا ما هو المصير ولا المنتهى، فهم مشغولون بالطعام والشراب والنساء، وهكذا! فكيف نعود؟من جديد نعود إلى المسجد، وكتاب: (المسجد وبيت المسلم) هذه هي الحيلة التي يسرها الله، وأعلناها للمسلمين، وما بلغنا أن قرية أو مدينة أو أهل إقليم في الشرق أو في الغرب عرفوا هذه الحقيقة واجتمعوا على هذا الكتاب إلى الآن!لعلي واهم .. لعلي غافل؟!وقد يقول قائل: ما هذا؟ وماذا ينفع؟تعال أتحداك! هيا نجمع أهل قرية سنة بنسائهم ورجالهم يتعلمون الهدى، ثم ننظر إلى حالهم بعد العام كيف سيكون! فإن وجدت من يقول: فلان زنى اذبحني، أو فلان قتل فلاناً، أو غش فلاناً، أو خدع فلاناً، أو سب أو شتم.إنني أتكلم عن علم، والشاهد في نفسي، فقد عشت ستين سنة أو سبعين والله ما ضربت مؤمناً، ولا أخذت ريالاً لمؤمن، ولا شتمت ولا سببت، لم هذا؟ عرفت فقط، وأمثالي بالملايين عرفوا، فالذين ما عرفوا لا يمكن أن تعول عليهم أبداً في أن يستقيموا، مستحيل.العلم نور، والعلم روح وحياة، وبدونه لا تأمن جاهلاً أبداً، ومن شك فلينظر أحوال المسلمين حكاماً، ووزراء ومسئولين، وكل دولة فيها عشرات المسئولين في وزارة المال .. وزارة الصحة .. وزارة التعليم .. وزارة كذا وكذا فأين آثار ذلك؟! لأنهم ما هم بأهل .. ما هم بصراء .. ما هم واعون .. ما هم عارفون بالله .. لا يبكون من خشيته .. لا يبيتون يتململون ودموعهم تسيل يطلبون رضا الله. فكيف تعول عليهم؟! وكيف يستقيمون؟!

مظاهر الإحسان إلى الوالدين

قال تعالى: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83] الإحسان إلى الوالدين، ومن سأل: كيف أحسن إلى والدي؟ ومن هم والداي؟ ذكران أو إناث أو أب وأم؟الوالدان: الأم والأب، والأم يجوز أن يقال لها: الوالد والوالدة أيضاً، كالحائض، إذ ليس هناك رجل حائض حتى نقول: المرأة حائضة، بل حائض. كذلك هل يوجد رجل يلد من بطنه؟ لا يوجد. إذاً: المرأة نقول فيها: الوالد .. هذه الوالد، بمعنى الوالدة.ما هو الإحسان إلى الوالدين؟في أربع كلمات:أولاً: إيصال الخير إليهما. والخير: الطعام .. الشراب .. الكساء .. السكنى .. المروحة، وكل خير تصل به إليهم.ثانياً: كف الأذى عنهما، حتى ولو كان كلمة غضب: أف! فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، ومنع الأذى تماماً حتى كلمة تحدث المساءة في نفسيهما لا تقال.ثالثاً: طاعتهما في المعروف، فإذا قالت أمك: طلق هذه لا تصلح عندنا، طلقها، لم؟ لأن إبراهيم عليه السلام قال لإسماعيل: غير عتبة بابك. فغير أم لا؟ وذلك عندما جاء إبراهيم من الشام؛ من القدس يتعهد تركة ولده إسماعيل في الوادي الأمين، وقد تزوج جرهمية، إذ نزلت هذه القبيلة عندهم، فجاء فسأل: أين بعلك؟ أين زوجك؟ قالت: ذهب يطلب لنا الرزق. قال: من أين؟ قالت: يصيد غزالاً .. أرنباً. إذ ليس عندهم إلا اللحم والماء فقط، فلا يوجد لديهم عنب أو فاكهة أو خبز. وإلى الآن يقول أهل العلم: يستطيع أهل مكة أن يعيشوا على اللحم والماء، ولا يستطيع أي شعب أو بلد أن يعيش على هذا!فقال: كيف حالكم؟ قالت: إننا في بؤس .. إننا في شقاء .. إننا في كذا.قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه!فجاء إسماعيل بعد يوم أو يومين من الصحارى وهو يحمل الغزلان والضباء: السلام عليكم! قالت: وعليكم السلام. قال: هل زارنا أحد؟ فراسة .. تباشير النبوة. قالت: نعم. قال: ماذا قال؟ قالت: يقرئك السلام ويقول لك: كذا وكذا، قال: ذاك أبي، وقد أمرني بفراقك، الحقي بأهلك! فطلقها أم لا؟!ثم غاب عاماً آخر، وجاء إبراهيم زائراً فقال: السلام عليكم، كيف الحال؟ قالت: إننا في خير .. إننا في نعمة .. في فضل الله .. في رحمة الله .. في بيت الله.إي! هذه خلاف الزوجة الأولى، الأولى كأنها خريجة جامعة تريد الوظيفة والمال.قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له يثبت عتبة بابه. أي: يركزها.ثم جاء إسماعيل فقال: هل زارنا أحد؟ قالت: نعم. ماذا قال؟ يقول: كذا وكذا. قال: ذاك أبي، وقد أمرني بأن أثبتك في البيت. لتنجب بعد ذلك عدنان أبا سيد المرسلين.هذا درس علمي لا تجده في جامعات الدنيا.فنقول: إذا كان أبوك صالحاً وأمك صالحة وقالا: طلق هذه، فيجب أن تطلق؛ لأنهما عرفا عنها، فلا تصلح لك، ولئلا تنجب لك الأولاد.أما إذا كان الأبوان كما نحن عليه الآن أهل أهواء، ودنيا، وشهوات، وغيرة، وحسد فلا تطعهما، فإن قالا: طلق. فلا تطلق، قل: هي امرأة مؤمنة، تقية، صالحة، متحجبة فلم أطلقها؟وهذه النقطة خير من خمسين كيلو غرام ذهب لمن يعلم، ويعي، ويحفظ.إذاً: ثالثاً: طاعتهما في المعروف، وهو ما عرفه الشرع من عبادات وطاعات .. من خير وإحسان، أما إن أمرا بمنكر فـ (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ).قالت أمك: لا تصلِّ فهل تطيعها؟! قالت: لا بد أن تشرب الحشيش؟!فوالله لا طاعة لها: ( إنما الطاعة في المعروف )، والقرآن يصرح بهذا: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].رابعاً: صلة من تربطهم بك رحم واحدة، فالذين يرتبطون مع أمك أو أبيك برحم تصل الجميع.خامساً: أن تصل من كان صديقاً لأبيك أو أمك، فمن كانت لأمك صديقة ثم ماتت أمك، فزرتها فوجدتها، فينبغي أن تحسن إليها وتكرمها؛ لأنها صديقة أمك. وجدت أن فلاناً كان صديقاً لأبيك رحمة الله عليه، فتحبه وتكرمه، وتبجله، وتعظمه؛ لأنه كان صديقاً لوالدك.وانظر إلى هذا المنظر: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجع من مكة حاجاً؛ وقد كان يغزو عاماً ويحج عاماً، هكذا ثلاثين أو أربعين سنة، فنام في الطريق وإذا بأعرابي يقول: يا مؤمن! أعطني شيئاً. فنظر إليه وقال: من أنت؟ قال: أنا ابن فلان صديق عمر . فأعطاه عمامة كان يربط بها رأسه في الليل، وأعطاه حماراً كان يروح عليه، أي: يركب الجمل ساعتين وثلاثاً ثم يخفف عليه فيركب الحمار، فأعطاه العمامة والحمار، فجاء مولاه نافع : يا سيدي! كيف تفعل هذا؟ هذا أعرابي تكفيه حفنة من تمر أو قرص عيش، فكيف تعطيه عمامتك؟! قال: يا نافع ! هذا والده كان صديقاً لـعمر . وفي الحديث: ( من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه ).وكل هذا لتتماسك الأسر والعائلات والسكان، ويصبحوا كالجسد الواحد.معاشر المستمعين! حسبنا ما سمعنا. والله نسأل أن يوفقنا للعمل. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-09, 02:14 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (64)
الحلقة (71)



تفسير سورة البقرة (34)


نص القرآن على ميثاق أخذه الله من بني إسرائيل، لم يكن ميثاقاً عادياً، لقد كان شاملاً كاملاً، تتقاسمه العبادة والمعاملة: توحيد الله، والإحسان إلى كل من الوالدين، وذي القربى، واليتامى، والمساكين، والإحسان في القول، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لكن هؤلاء القوم نبذوا كل هذا وراء ظهورهم إلا قليلاً منهم، والمؤسف أن أمة القرآن قد أصابها هذا الداء.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ... [البقرة:83-85] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

أخذ الميثاق بعبادة الله وحده وعدم الإشراك به

معاشر المستمعين! كنا قد عرفنا أن الميثاق هو العهد المؤكد باليمين؛ من التوثيق الذي هو الربط والحزم بشدة.والله عز وجل هو الذي يقول لليهود الذين يمثلون بني إسرائيل: اذكروا إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83].وهذا الميثاق له بنود، وقد تكلمنا عن بند واحد.فالبند الأول من البنود التي تضمنها الميثاق: ألا يعبدوا إلا الله: أولاً: يعبدون الله بما شرع أن يعبد به.ثانياً: ألا يشركوا في عبادته غيره، وهذا معنى لا إله إلا الله.فلو سئلت عن معنى لا إله إلا الله، فإنك تقول: لا يستحق العبادة إلا الله، وبحكم أنك شهدت أنه لا معبود بحق إلا الله فوجب عليك أن تعبده، وإلا فإن شهادتك باطلة!ثانيا: ألا تقر عبادة غيره، وإلا ما معنى أنك تشهد على علم أنه لا يعبد إلا الله، وفي نفس الوقت تقر بعبادة سواه؟!وهذه القضية المهمة يا ليت إخواننا يفهمونها، فأنت تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فعلى أي شيء أقمت شهادتك؟ قطعاً ستقول: على علم، فأنا لا أشهد أن إبراهيم بن فلان أو أن خالداً ضرب فلاناً إلا إذا رأيت هذا، فالإخبار شيء، والشهادة شيء آخر، فأنا أشهد على علم أنه لا يستحق العبادة إلا الله.إذاً: فما دمت تشهد على علم فينبغي أن تعبد الله، وإن لم تعبده فشهادتك باطلة. وأنت تكذب!ثانياً: أن تعبده وحده، ولا تعبد معه سواه، وإلا تناقضت من أول يوم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وفلان! ثالثاً: لا نقر عبادة غير الله، ولو نُسأل عن عبادة اليهود .. النصارى .. المجوس .. عبدة عيسى .. عبدة الملائكة .. عبدة الجن .. عبدة الكواكب؛ نقول: هذه عبادة باطلة، ولا نقرها أبداً؛ لأنهم عبدوا ما لا يستحق العبادة، فالعبادة يستحقها الخالق للعبد .. الرازق للعبد .. الكالئ والحافظ له إلى نهاية أجله. أما الذي ما خلق، ولا رزق، ولا حفظ فكيف يعبد! وبأي منطق وبأي حق؟ إنها عبادة باطلة!إذاً: أول بند من بنود هذا الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل وهم في جبل الطور أو في غيره هو ألا يعبدوا إلا الله.

أخذ الميثاق بالإحسان إلى الوالدين

ثانياً: قال تعالى: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83] أي: وأن يحسنوا بالوالدين إحساناً عاماً بالآباء والأمهات، وقد عرفتم أن من الإحسان بالوالدين أن يصل بالخير إليهما.وهنا لطيفة: لم قال: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وما قال: وإلى الوالدين إحساناً؟(إلى) حرف جر تصل به إلى الغاية، فقال: (وبالوالدين)، ومعنى هذا: إذا احتاج الوالد، بل ولو لم يحتج، فلا تضع أمامه الكأس وتقول: اشرب! بل خذ الكأس بيدك وضعه في يده. ولا ترم السجادة وتقول له: افترش، لا! افرشها أنت وقل له: اجلس! ولا تركب في السيارة وتقول له: اركب، بل أنت تفتح الباب وانتظر حتى يركب. وهذا دل عليه حرف باء الإلصاق، فما قال: وأحسنوا إلى الوالدين، إنما قال: أحسنوا بالوالدين. فالباء باء الإلصاق، فليكن الخير الذي تقدمه لهم كأنك تلصقه بهم. ومن ذلك لا تقل: يا أبت! المشلح في المشجب البس واخرج، فهذا لا يجوز، بل ائت به أنت وألبسه إياه، حتى تكون قد أحسنت به.فهل فهم الأبناء هذه: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]؟

صور الإحسان إلى الوالدين

قد عرفتم أن الإحسان بالوالدين يدور حول أربع مسائل:الأولى: أن تصل بالخير إليهما من الطعام .. الشراب .. الكساء .. المركوب .. السكن .. الدواء، تصل به إليهما، ما داموا محتاجين إليك وأنت في غنى عنهم.ثانياً: أن تكف الأذى عنهما، حتى ولو كانت كلمة نابعة أو صوتاً مرتفعاً، والله عز وجل يقول: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] فهذه الكلمة محرمة، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يواجه بها أحد أبويه، فإنها من كبائر الذنوب، فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23] أما أن ترفع صوتك لا، فليكن صوتك منخفضاً دون صوتهما، ومن كان غير مربَّى ولا مهيأ فليتربَّ من الآن، ويخفض صوته عند أبويه، وليكن صوته دون صوتهما وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24] وقد مثلت لكم: افرض أنك طويل وأبوك دونك في الطول، فحاول إذا مشيت معه أن تتقاصر؛ حتى لا تفوقه في الطول، وإذا مشيت معه فلا تمش أمامه بل امش وراءه أو إلى جنبه وأنت متطامن، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وكن ليناً هشاً جداً، لا قسوة ولا شدة ولا غلاظة، وإنما لين وتطامن.ثالثاً: طاعتهما في المعروف، فإذا أمرك أبوك أن تقول أو تفعل أو تعتقد؛ فانظر إذا كان أمره من أمر الله ورسوله فيجب أن تطيعه ولا تتردد، وإن كان أمره مناقضاً لأمر الله ورسوله فأمر الله أولاً! فأنت فُرِض عليك طاعة الوالدين نظراً إلى المعروف الذي قدماه لك، والإحسان الذي بذلاه لك، فأمك حملتك تسعة أشهر، وأنت من صلب أبيك؛ من مائه فكيف إذاً لا تشكر هذا النعيم؟! ولكن شكر الله أولى؛ لأنه خالقك، وخالق أبويك، وخالق الكون لك.وقوله: ( إنما الطاعة في المعروف ) هذا الحكم يتناول أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتناول إمام المسلمين، فالكل لا طاعة إلا في المعروف، ومن قال: وكيف تقول والرسول صلى الله عليه وسلم؟! فليسمع، أقرأ عليه مادة في هذا الكتاب الكريم إذ يقول تعالى للنساء في آية البيعة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ... [الممتحنة:12] فانظر كيف قيد العصيان بالمعروف، وهذا معناه فرضاًً: لو أمر الرسول بغير طاعة الله فلا يطاع! وهذا من باب الفرض فقط لتعليم الخلق، وإلا حاشى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر بغير ما في رضا الله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]. فكل أقضيته وأحكامه وسننه كلها من الله عز وجل، وهذا من باب: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] أما إن أمرك بغير المعروف فلا حق لك في الطاعة، فكيف إذاً في غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!فإذا أمرك أبوك بألا تصلي فهل تطيعه؟! إذا أمرك ألا تشهد صلاة الجماعة فهل تطيعه؟! إذا أمرك الحاكم أن تشرب خمراً فهل تطيعه؟! إذا أمرك أن تقتل عمراً فهل تطيعه؟! إذا أمرك أن تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل تطيعه؟! الجواب: لا، ( إنما الطاعة في المعروف ).رابعاً: صلة الرحم التي تربطك بهما كجدك وابن أخيك وبقية الأقارب سواء كانوا من الأدنين أو من الأباعد، فما دامت الرحم جمعت الكل فلا بد من هذه الصلة.وأخيراً: بر صديقهما. فإذا كان لأبيك صديق أو لأمك صديقة فينبغي أن تبر هذا الصديق وهذه الصديقة لبر أبويك! وفي الحديث: ( إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه )، وقد ذكرت لكم حادثة عبد الله بن عمر في طريقه من المدينة إلى مكة عندما نزل منزلاً، وإذا بأعرابي يقف ويطلب من ابن عمر مساعدة، فيعطيه عمامته وحماره، والعمامة كان يستعملها في الليل يشد بها رأسه لينام، والحمار يروح به على نفسه، لما يملّ من ركوب الجمل يركب الحمار، والمسافة عشرة أيام في الطريق. فلما أعطى الرجل الحمار والعمامة سأله مولاه نافع : كيف يا مولاي تعطيه مع أن حفنة التمر تكفيه، وليس أن تعطيه هذه العمامة التي تستعملها في ليلك، وهذا الحمار الذي تروح به على نفسك؟! فقال ابن عمر له: إن أباه كان صديقاً لـعمر ! وهذا بعد موت عمر .وبهكذا يوثق الإسلام الروابط بين الأسر .. بين الأصدقاء .. بين الجيران .. بين .. بين .. لتصبح أمة الإسلام أمة واحدة، وقوة واحدة، وحق لها؛ لأنها تحمل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، والتي يبغضها الأبيض والأسود والعجم. فإذا لم تتماسك وإذا لم تقوَ لا تستطيع حملها أبداً؛ ولهذا اسمع كيف أمرنا الله بصلة الأرحام: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36].أريد أن يفهم المستمعون أن هذه الأمة غالية عزيزة؛ لأنها أسعد أهل الأرض وأطهرهم .. لأنها مهيأة للسماء والنزول في الملكوت الأعلى .. لأنها عدو لكل كافر وكافرة، ومشرك ومشركة. وهي القائدة الرائدة السائدة فلا بد وأن تكون جسماً واحداً، وإلا فلا تقوى أبداً على أن تخوض هذه المعارك مع الإنس والجن.ولهذا كل ما يدعو إلى الفرقة حرام، ولو تتبعت المعاملات المحرمة من أولها إلى آخرها في البيع .. في الإيجار .. في الشراء .. في كل المعاملات؛ تجدها تدور على شيء واحد، وهو ألا يحصل أو يحدث خلل في قلوب المؤمنين! فهذه المعاملات التي بين الناس كل معاملة محرمة، وعلة تحريمها أنها توجد الضغينة في قلوب المؤمنين، وتوجد العداء والبغضاء بينهم، وكل ما يسبب العداء والفرقة حرام!وما أخذ على بني إسرائيل أخذ علينا نحن.

أخذ الميثاق بالإحسان إلى الأقارب

قال تعالى: وَذِي الْقُرْبَى [البقرة:83] قرابة الإنسان معروفون، وهي جمع قريب، واليتامى جمع يتيم، فاليتيم يجب أن يحسن إليه، وهذا قد أخذ الله به عهداً على بني إسرائيل، ونحن أيضاً أخذ علينا ذلك، كما في آية النساء السابقة وهي لنا وليست لبني إسرائيل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36] عشرة حقوق! فهذا الميثاق فيه عشر مواد، وتسمى هذه الآية بآية الحقوق العشرة، حتى الجار ثلاثة جيران: جار قريب، وجار بعيد، وجار قريب من جهة وقرابة من جهة أخرى. فالجار اليهودي أو النصراني يجب أن نحسن إليه ولا نسيء إليه!

أخذ الميثاق بالإحسان إلى اليتامى

قال تعالى: وَالْيَتَامَى [البقرة:83] اليتامى: جمع يتيم.من هو اليتيم يا عباد الله؟!هو من فقد أباه لا من فقد أمه، فالذي مات والده إذ هو العائل والمنفق والقيم؛ فأصبح هذه الغلام يتيماً لموت والده، ويستمر يتمه حتى يبلغ سن التكليف، وهذا اليتيم يجب أن يجد بين المواطنين مأمناً حيث لا يخاف أبداً، ويجد بينهم رزقاً حيث لا يجوع ولا يعرى، ويجد بينهم مدرسة تربيه؛ حتى يتخرج ربانياً صالحاً، فلا يهمل ويطرح في الشوارع ليعيش على الجهل.وحسبنا أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ) أرأيتم كيف يرغب أم لا؟ ( أنا وكافل اليتيم كهاتين ) مقترنان السبابة والوسطى.فاليتيم يجب وقد فقد أباه ألا يفقد شيئاً مما كان يغدقه عليه أبوه ويعطيه إياه؛ من تربيته .. من الحفاظ عليه .. من إطعامه .. من كسوته .. من من .. فهذا شأن اليتامى.والحمد لله هذه البلاد وفق الله أهلها إلى إنشاء -وما عرفنا هذا في أي بلد- دور اليتامى، والمفروض أن يكون كل بلد فيها دار لليتامى الذين فقدوا الآباء، فدار اليتامى في المدينة تخرج منها مسئولون، حيث يؤخذ الغلام إلى الدار فيجد من يربيه ويعلمه ويطعمه ويعينه، حتى يبلغ سن الرشد، وبعد ذلك يخرج فيذهب حيث شاء، فإن عجزنا عن بناء دور اليتامى فعلى الأقل كل مؤمن يرعى هذا الحق مع من يراه يتيماً في جواره أو في قريته أو في حيه.أما إضاعتهم .. أما أخذ حقوقهم .. فلا تجوز، ولكن وللأسف الشديد إنهم يأخذون حقوقهم، ويأكلون أموالهم، ويلهونهم، ويعبثون بهم؛ فقط لأنه فاقد والديه أو فاقد أبيه.والشاهد عندنا في هذا البند أيضاً: وَالْيَتَامَى .

أخذ الميثاق بالإحسان إلى المساكين

قال تعالى: وَالْمَسَاكِينِ [البقرة:83] أخذ على بني إسرائيل العهد والميثاق بالإحسان إلى المساكين.ما هو المسكين؟المسكين هو الذي أذلته الحاجة والمسكنة، فلا يجد غذاء ولا كساء ولا دواء، فهذا ينبغي أن يحسن إليه، فإن لم تجد ما تحسن إليه فعلى الأقل ابتسم في وجهه، ولا ترفع صوتك عليه، ولا تظهر في مظهر أنك متفوق عليه، والقائد الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول: ( ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق )، ومن لم يجد ما يتصدق به فالكلمة الطيبة صدقة، فإذا قال المسكين: يا أبتاه! أو يا أباه! أنا جائع فعليك أن تطعمه، فإن لم تجد ما تطعمه فقل له كلمة طيبة ينشرح لها صدره، وتطمئن نفسه، أما أن تدفعه بقوة وتقول له: اذهب ليس عندنا، فهذا خطأ، ونستغفر الله منه، ونتوب إليه.والواجب ألا يشعر المسكين في القرية أو الحي أو المدينة بأن فيه ضعفاً أو أنه يهان أو لا يبالى به، بل يجب أن يحترم كما يحترم الأغنياء.وهذه تعاليم الله لعباده، فإن هم وفوا بهذه العهود كملوا وسعدوا، وإن أعرضوا عنها وأهملوها فحسبهم الذل والعار الذي يلاقونه.

أخذ الميثاق بالقول الحسن للناس

قال تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] هذا بند آخر: قولوا للناس الحسن لا القبح، فإذا ناديت الشخص فقل له: يا أبتاه! إن كان أكبر منك .. يا أخاه! إن كان مساوياً لك .. يا ولدي! أو يا بني! إن كان أصغر منك.أما أن يقول أحدنا: يا أعمش! يا أعرج! يا طويل! يا بدوي! يا كذا! فهذا حرام ولا يجوز! ولا يحل أبداً. بل لا بد وأن تقول الحسنى في القول والعمل لهذا المؤمن.وكلمة (الناس) عامة تشمل حتى الكافر، فهل إذا مر بك كافر وقال: يا فلان! ناولني كأساً أشرب، تقول: يا ملعون! لا أعطيك؟! فهذا لا يجوز أبداً؛ لأن الله قال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا والكلمة الحسنة هي التي يظهر أثرها في وجه من تتكلم معه.أما الإساءة فهي محرمة، ومن هنا لا ينبغي لا سب ولا شتم، ولا تعيير، ولا تقبيح، ولا سخرية، ولا لمز، ولا همز، فكل هذا محرم عنها في كتاب الله. واقرءوا آخر سورة الحجرات: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].وأنتم تسمعون وتعرفون ماذا يحدث في مجتمعاتنا من السخرية والاستهزاء بالفقراء .. بالأغنياء .. بالجهال .. والله بالعلماء! وما سر هذا؟ إنه الجهل، فوالله ما علمناهم، وما ربيناهم، وما ضممناهم إلى حجور الصالحين؛ فكانت النتيجة أن تخرجوا ضائعين تائهين، فلا أدب ولا خلق ولا معرفة. وماذا ترجو من شخص ما جلس طول حياته بين يدي مرب يربيه ليلة من الليالي؟! ماذا تريد أن يكون؟!فإن عرفنا العلة فهيا إذاً من جديد نتربى، فإن قلتم: لا نستطيع، أقول: لم لا تستطيع؟ هل هذا حمل ثقيل لا تطيقه؟ يقولون: لا نستطيع؛ نحن عندنا أعمال، فهذا عنده مصنع، وهذا عنده متجر، وهذا عنده مزرعة، فكيف نعمل؟قلنا: اعمل من صلاة الصبح، فصلِّ الصبح في بيت الرب واحمل فأسك أو مطرقتك أو نقودك وإلى السوق والمزرعة واعمل إلى غروب الشمس، أما يكفي هذا النهار كاملاً؟! فإذا مالت الشمس إلى الغروب غير ثيابك في بيتك، واصحب زوجتك وبناتك وأولادك إلى بيت الرب، واجلسوا، ويجلس لكم ربانيّ ذو علم وحكمة ليعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك كل ليلة ولطول العمر.أسألكم بالله: هل هذا فيه مشقة أو تكليف ما يطاق؟!قولوا لي: اليهود .. النصارى .. الملاحدة .. العالم بأسره إذا غابت الشمس تركوا العمل، وذهبوا إلى المقاهي والملاعب، والمراقص، والمقاصف، ودور السينما أم لا؟أما نحن فلسنا مثلهم، والفرق بيننا وبينهم كالذي يريد أن يهبط إلى أسفل الأرض، وآخر يريد أن يطلع إلى أعلى السماء فهل يستويان؟ هذا هبوط بسهولة، فلا يتكلف ولا يجهد نفسه، أطلق نفسك يهبط إلى أعماق الأرض، لكن تطلع كيف تشق الملكوت. فرق كبير أم لا؟!وفرق آخر: المؤمنون أحياء، والكافرون أموات، فهل تكلف الميت أن يسمع ويبصر ويعقل عنك، ويعطي ويأخذ؟! هذا ميت! وأما المؤمن فحي، يسمع ويبصر، ويأخذ ويعطي، لوجود الحياة فيه.فإن قال قائل: لم يكرر الشيخ هذه القضية؟ قد مللناها وسئمنا منها، فهو في كل درس يعيدها؟قلنا: هذا هو سؤالكم؟! هو هذا! وأنا قلت لكم: والله لا سبيل لإنقاذ هذه الأمة وقد غرقت إلا بالعودة إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كلفناها أن تبني المدارس والكليات! فليس عندها أموال، وما كلفناها أن توقف الفلاحة أو التجارة، فإنها لا تستطيع؛ لأنها ستجوع، وما قلنا هذا أبداً، فقط من المغرب إلى العشاء نرجع إلى الله في بيته، وليس في بيتنا أو بيت أخيك فتقول: لا يتسع لنا، ضايقتمونا! نقول: في بيت الرب جل جلاله، وعظم سلطانه، النساء وراء الستار، والأولاد دونهن، والفحول أمام الكل، وهم يتلقون الكتاب والحكمة، قال الله وقال رسوله، فلا مذهب أبداً، ولا حزب، ولا جماعة، ولا وطنية، بل قال الله يا عباد الله! وقال رسوله يا مؤمن!أسألكم بالله يا من فهمتم عني: هل بعد عامين .. ثلاثة .. أربعة هل يبقى في القرية جاهل أو جاهلة؟والله ما كان أبداً، وإن لم يكتبوا، وإن لم يقرءوا، فهذا العلم لا يتوقف على الكتاب والقراءة، إنما يتوقف على الفهم، والعمل، والتطبيق، فإذا أصبح أهل القرية علماء هل تتصور أن يوجد في القرية من يزني؟ أن يوجد في القرية من يخون ويغش؟ والله لا يوجد، هل يوجد في القرية من يموت جائعاً وهم شباع؟ والله لا يكون. أن يوجد في القرية من يمشي عارياً حافياً وهم منتعلون مكسوون؟ والله لا يكون، فلا يستطيعون أبداً.وفوق ذلك هل يستطيع الإنس أو الجن أن يذلهم أو يقهرهم وهم أولياء الله؟ والله لا يستطيعون. أقسم بالله؛ لأنهم أولياء الله، وليست قضية بركة فقط، إذا استووا على هذا المستوى من الفهم والإدراك والعلم؛ هؤلاء يكونون أقوى الناس طاقات بدنية .. أقوى الناس مالاً .. أقوى الناس عملاً.إذاً: عرفتم لم نكرر هذا القول؟فإن قيل: متى نسكت؟نقول: لما يبلغنا أن الإقليم الفلاني نهض علماؤهم وأخذوا يجمعون النساء والرجال والأطفال في بيوت الرب تعالى من المغرب إلى العشاء، فالدكاكين مغلقة .. المقاهي مغلقة .. العمل وقف، أين الأمة؟ في بيت الرب! ليلة قال الله، وليلة أخرى قال رسول الله، فيحفظون الآية ويتغنون بها، ويدخرونها في نفوسهم، ويحفظون الحديث، ويتلذذون بكلام رسولهم، ويفهمون معنى تلك الحكمة، وتأخذ آثارها تتجلى في منطقهم .. في لباسهم .. في أكلهم .. في شربهم؛ حتى تصحوا الأمة، وما كلفنا هذا شيئاً، ولا نطلب من أهل القرية ريالاً واحداً أبداً، ولا تخافوا!إذاً: لا تلوموا الشيخ: لم يعيد هذا القول ويكرره! ونحن كمن ضاعت دابته، وهو طول عمره ينادي عنها ليحصل عليها! فهل يسكت؟!إذاً: قال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] فيا بني إسرائيل! ويا أبناء الأنبياء وأحفاد المرسلين! قولوا للناس حسناً، ولا تسيئوا إلى البشر، ولا تقولوا البذاء والمنطق السيئ، ولا سخرية ولا كذب.ألسنا نحن أحق بهذا؟ نعم. أمرنا كما أمروا، وآية الحقوق العشرة موجودة في سورة النساء.

أخذ الميثاق بإقام الصلاة

قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:83] يا بني إسرائيل! أقيموا الصلاة، فأُخِذ عليهم عهد من الله في عهد موسى بأن يقيموا الصلاة.وما معنى يقيموا الصلاة؟أي: يؤدونها أداء حسناً صالحاً حتى تنتج لهم الطاقة النورانية، وحتى تولد لهم النور في قلوبهم، وهذا النور إذا كثر يظهر على البصر .. على السمع .. على المنطق .. على اليد .. على الرجل، فيصبح عبد الله كالملك، فلا ينظر إلا حيث يأذن الله له بالنظر، ولا يسمع إلا حيث يأذن الله له بالسماع، ولا يأكل إلا حيث أذن الله له بالأكل، ولا ينطق إلا حيث أذن الله تعالى له أن ينطق، فغشاه النور؛ ولأن أكبر مولد للنور والمعبر عنه بالحسنات هو إقام الصلاة! فأكبر مولد ليس الصيام ولا الحج ولا العمرة، بل إقام الصلاة!وهنا نقول: يا شيخ! إخوانك في الشرق والغرب بعد أن استقلوا من سلطة الكفر وخرج المستعمرون من ديارهم فاستقلوا وكونوا الدويلات: الدولة الباكستانية .. الأفغانية .. الأندونيسية .. الدول العربية، دول! فهل سألوا أهل العلم: نحن الآن استقللنا فعلى أي شيء نقيم هذه الدولة؟ هذه الدولة لله أليست لله؟ نعم، نحن عبيد لله. كيف نقيمها؟ ابعثوا إلى العلماء واسألوهم عرباً أو عجماً؛ فيقول لهم العالم: أنتم الآن استقللتم، وأردتم أن تقيموا دولة، وإن الله عز وجل قد وضع لها أربع دعائم .. أربع ركائز، فأقيموا دولتكم على هذه الدعائم، فإنها تقوى ويشتد أمرها، وتصبح قادرة على إسعادكم، وتطهيركم، ونجاتكم.فهل سألوا؟ دلوني.أقول: دعني من أبنائي الأحداث! أنا أخاطب الكبار ذوي اللحى البيضاء! لما استقل إقليم في الشرق والغرب هل سأل: كيف نقيم دولة الإسلام؟فكوّنا دويلات منهارة، فلا سعادة، ولا طهر، ولا صفاء، ولا مودة، ولا محبة، ولا إخاء، كأننا ما ذقنا طعم الإسلام، ولا تحلينا بحلية الإيمان! ما السبب؟!هل تذكرون دعائم الدولة الإسلامية؟يوجد في القرآن الكريم ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، وكل آية هي نور يضيء الظلام، وخذ آية واحدة من هذه تجد فيها دعائم الدولة الإسلامية، وقد جاء من سورة الحج بين الأنبياء والمؤمنون: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الحج:1] هذه السورة في وسطها جاء قول الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] استقلوا أم لا؟ حكموا الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]. كم قاعدة هذه؟ أربع. (أقاموا الصلاة)؛ لأن إقام الصلاة هو الذي يطهر المجتمع .. هو الذي ينفي الخبث .. هو الذي يبعد المنكر .. هو الذي يشيع المعروف بين المواطنين، أما أي وسيلة أخرى فوالله إنها لا تجدي! ولو توزع على المواطنين يومياً الأموال والله لن تزكيهم ولن تطهرهم! ولن ينتهي الخبث والظلم والشر والفساد، فما هناك عامل إلا أن تقام الصلاة، وإذا أقيمت الصلاة في القرية .. في المدينة .. في الإقليم فنصف الميزانية التي كانت معدة للأمن كلها يستغنى عنها.قالوا: يا شيخ! النصف كثير؟نقول: نعم، والله لأكثر من النصف، ولا نحتاج إلى قوى أمنية أبداً، فكل مؤمن حامي للحمى، وحارس للفضيلة! وذلكم لأن الله المشرع الحكيم طابع الطبائع، وغارز الغرائز، وخالق الأنفس هو الذي قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لم يا ألله؟! علل! إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].وكم كررنا هذا وقلنا: هيا بنا نمشي إلى المحافظ أو مدير الشرطة في أي بلد، ونقول له: أعطنا قائمة بأسماء المجرمين في هذا الأسبوع: السارق والساب والشاتم .. فإن أعطانا قائمة أقول له: أقسم بالله! لن نجد بين هؤلاء المجرمين أو الظالمين نسبة (5%) من مقيمي الصلاة، و(95%) من تاركي الصلاة والمصلين، وإلى الآن ما زلنا نطالب وما تحداني واحد، وهذا الكلام قلناه في الشرق والغرب!الله يقول: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] ونحن نشاهد المقيمين للصلاة ما عصوا الله، ولا فسقوا عن أمر الله، ولا آذوا، ولا اعتدوا، ولا زنوا، ونجد الأذى والاعتداء والعنترية والفساد كله من تاركي الصلاة، والمتهاونين فيها.ماذا تقولون يا أهل الإسلام في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] لم لما يستقل إقليم ما يقيم نفسه على إقام الصلاة؟ وهل إقام الصلاة يعوق الأمة من العمل؟!إن الصلاة مقسمة تقسيماً إلهياً: أولاً: صلاة الصبح، هل صلاة الصبح تعوق عن العمل؟والله إنها لتنشط عليه، والله إنها لتساعد عليه، أقسم بالله! لأن الشعب الحي قبل الفجر وهم في يقظة، صلوا الصبح واندفعوا وراء أعمالهم، يشتغلون ساعتين .. ثلاث ساعات، أما الكفار فنائمون، لا يبتدئون العمل إلا في الساعة الثامنة.أما صلاة الظهر ففي الساعة الثانية عشرة وعندها يتوقف العمل، والذين يشتغلون من السادسة حتى الواحدة ليس هؤلاء ببشر، لكن عند الثانية عشرة أو الحادية عشرة يتوقف العمل، فصلاة الظهر تقع في وقت الراحة، فيزدادون قوة.وأما صلاة العصر فيمتحنهم الله بها، فإذا قال المؤذن: الله أكبر! وقف العمل، وأقبلوا على الله واقفين بين يديه، فهذه الطاقة تساوي طاقة الذرة.والمغرب والعشاء وقت الراحة، فلا عمل، والمؤمنون في بيوت ربهم يصلون المغرب والعشاء.فإقام الصلاة فقط يرفع من قيمة الشعب، ويعلي مكانته، ويحقق له الكمالات، ونحن مع الأسف ما أجبرت دولة رعيتها على إقام الصلاة!

أخذ الميثاق بإيتاء الزكاة

أما جباية الزكاة من المواطنين فما استقلت دولة وأمرت بالزكاة أبداً، بل عوضوا عن الزكاة بالضرائب، والفادحة أنك تعجب للضريبة فأحياناً تجدها نصف المال!لم ما نطالب بالزكاة ليرضى الله أولاً! وفيها بركة أفضل من الضرائب مليون مرة، لأنها طاعة لله، قالوا: لا .. لا .. لا، ليس هناك زكاة. ومعنى هذا: ما تذكروا الله ولا الإسلام.هل وجد في أي بلد رجال تعدهم الحكومة ليأمروا الناس بالمعروف وينهوا عن المنكر ويمشون في الأسواق .. في المقاهي؟ لا، أبداً. فكيف حال دويلاتنا الإسلامية؟!والذ يؤسف له أنه لو ما أوجد الله هذه الدولة على يد عبد العزيز رحمه الله لكنا نُعذر؛ فما عرفنا، لكن والله ما استقل إقليم من إندونيسيا إلى موريتانيا إلا وهو يعرف عن هذه البلاد! وأن الصلاة فيها إجبارية، والزكاة إلزامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له رجال في القرى .. في المدن .. في كل مكان، فلم لا نعمل هكذا؟ معاشر المستمعين! متى نعود إلى الله فيعود الله إلينا؟ ما وجدنا حيلة إلا هذه، فهيا بنا: إذا مالت الشمس إلى الغروب نأتي إلى بيوت الله بنسائنا وأطفالنا ونبكي بين يدي الله، وسوف يوجد الله تعالى لنا من يعلمنا الكتاب والحكمة وفي أي مكان، فإذا علم الله رغبتنا، ورأى صدقنا فسوف يهيئ لكل قرية من يعلمهم الكتاب والحكمة.
تولي بني إسرائيل مع أخذ المواثيق والعهود عليهم
قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ [البقرة:83] بعد هذا الميثاق في هذه البنود العظيمة رجعتم وراء إلا قليلاً؛ وهذا من حكمة الله، فلا يطلق الحكم العام، إذ يوجد من بني إسرائيل من استقاموا حتى لقوا الله، ولكن العبرة بالأكثرية، فأكثرهم نقض هذه المواد، ورماها وراء ظهره، ومن ثم سلط الله عليهم المحن والرزايا والبلايا، فأذلهم البابليون، وأذلهم الرومان، وفعلوا بهم حتى أصبحوا -والعياذ بالله- أذل الخلق.وكذلك المسلمون لما أعرضوا عن هذه العهود وتولوا، كيف أصبحت حالهم؟ أما استعمرتهم بلجيكا .. فرنسا .. إيطاليا .. وهولندا العجوز استعمرت مائة مليون مسلم! فما الذي فعل بالمسلمين هذا؟الجواب: أعرضوا عن هذه العهود والمواثيق، فتكبروا، وتجاهلوا، وأعرضوا عنها، هكذا إلا القليل، والقليل لا قيمة له؛ لأن الفتنة إذا جاءت عمت، والقليل يدخل الجنة بالبلاء الذي أصابه.قال: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:83] كما هي حال المسلمين الآن حيث الإعراض، فليس هناك من يفكر أبداً أن يعود إلى الله، وخاصة المسئولين في العالم الإسلامي، فقد أعطوا عرضهم تماماً ولا التفات إلى هذا الدين! سبحان الله! هذه الآيات تنزل في بني إسرائيل لتصبح في يوم من الأيام كأنما نزلت في المسلمين! وهذه هداية القرآن، فالآيات تخاطب اليهود، والقرآن ينزل وهم في المدينة فتكشف الغطاء، وتزيح الستار، وتريهم أسوأ أحوالهم علَّهم يتوبون إلى الله ويرجعون. نعم آمن البعض منهم وأسلم، ودخلوا في رحمة الله، لكن أكثريتهم أعرضت إعراضاً كاملاً.وتمضي القرون، وتصاب أمة الإسلام بما أصيبت به أمة بني إسرائيل، وتصبح الآيات منطبقة على المسلمين بالحرف الواحد! فنتلوها فقط من أجل أن نعرف أننا نحن الذين نقضنا هذه العهود ونكثناها: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا .. [البقرة:83] رجعتم عن هذا النور وعن هذه الهداية إلى الظلام والباطل إلا قليلاً منكم، والحال أنكم معرضون؛ لأن الذي تولى إذا كان قلبه ما زال حياً .. ما زال يفكر في العودة .. ما زال يفكر أن يتوب؛ هذا فيه خير، لكن إذا أعرض تماماً فمعناه: لا يعود إلى الحق والصواب أبداً.والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما نتلو ونسمع. وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-11, 02:52 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (65)
الحلقة (72)



تفسير سورة البقرة (35)

كانت لبني إسرائيل دولة، لكنها ما لبثت أن انهارت، وذهب اليهود شذر مذر، واستقر ببعضهم القرار في المدينة وعقدوا الأحلاف مع قبيلتيها، فكانت الحروب، وسفك الدماء، والتظاهر بالإثم والعدوان، ونقض اليهود ميثاق الله، حيث كان قد نهاهم عن كل ذلك، لكن اليهود كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فكانت عاقبتهم وكل من يسلك مسلكهم الخزي في الدنيا، وأشد العذاب في الآخرة.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:83-85] والعياذ بالله تعالى.

الخطاب لبني إسرائيل شامل للبشرية

أعيد إلى أذهان السامعين والمستمعين والسامعات والمستمعات: إنه لا فرق بيننا وبين بني إسرائيل وبين كل آدمي على صدر هذه الأرض، فنسبتنا إلى الله واحدة، ونحن عبيد لسيد واحد، فقط مَن آمن وعمل صالحاً ارتقى، وسما وعلا، وارتفع فوق الذين ما آمنوا ولا عملوا الصالحات، أما الاعتبار بالجنس فلا اعتبار له أبداً: عربي .. عجمي إسرائيلي .. فارسي .. قل ما شئت، فالكل عبيد الله.والله عز وجل لما يوجه هذا الخطاب لبني إسرائيل فإنه من باب أن تهتدي البشرية عليه، لا أنه خاص بمجموعة من اليهود كانوا في المدينة! من أجلهم فقط ينزل الله هذه البيانات؟ لا والله، ولو كان من أجلهم نسخه؛ لأنهم انتهوا، ولكن هذا الكتاب -القرآن الكريم- يتضمن هداية البشرية أبيضها كأسودها .. عربيها كأعجميها .. أولها كآخرها.والسر يا معاشر المستمعين والمستمعات أن الإيمان طاقة تدفع صاحبها إلى أن ينهض بالتكاليف، فالمؤمن بحق حي، يقوى ويقدر على أن يسمع .. على أن يعقل .. على أن يأخذ .. على أن يعطي .. على أن يصوم أو يفطر، فهو مؤمن حي، فهذه الحياة تحمله وتدفعه وتعينه على أن يستخدم المواد المزكية للنفس المطهرة لها.لكن ما هذه المواد المزكية للنفس المطهرة لها؟هذه المواد لا يضعها إلا الله، فلو تجتمع البشرية كلها على أن تضع عملاً ما على أن من فعله تزكو نفسه وتطهر، والله ما استطاعت ولا قدرت عليه، وبيان ذلك: هل تستطيع البشرية أن تجعل الحصباء، والرمال، والطين والتربة غذاء للإنسان فتدس فيه مادة الفيتامينات ويتغذى به الآدمي؟ هذا مستحيل.ومن أودع تلك المغذيات في الفواكه، والخضار، والخبز، واللحوم، وأخلى التراب، والطين، والحجارة، والأخشاب منها؟ إنه نفسه الذي إذا قال لكم: قولوا: سبحان الله، وقلتموها مؤمنين بالله، وكان لها أثر على نفوسكم بالطهر والصفاء، كما أنه إذا حرَّم كلمة فلأن فيها مادة مخبثة للنفس أشد من مادة السم الموجود في العقرب والأفعى، وما قالها عبد تمرداً على الله، وفسقاً عن أمره إلا اسودت نفسه، وأصيبت بالظلمة والعفن والنتن، وهذه سنن الله.فلهذا لما يُذكِّر بني إسرائيل كأنه من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة، فهو لنا نحن كذلك، ونحن الذين انتفعنا به، فمن رفع تلك الأمة إلى عنان السماء وإلى مستوى لم تبلغه أمة؟ والله ما هو إلا هذه الهداية الإلهية.

ميثاق العبودية ألا تكون إلا لله

ما هذا الميثاق وماذا تضمن؟وإن كنا قد تدارسنا هذا الموضوع مرتين، لكن سنعيده ليستقر في أذهاننا، ولننظر هل أخذنا والتزمنا بهذه العهود والمواثيق أو ما زلنا لم نلتزم؟!أولاً: قال الله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83] فأول ميثاق: (لا تعبدون إلا الله).معشر المستمعين والمستمعات! هل فينا أو بيننا من يرغب أن يعبد مع الله غيره؟ ما فينا.ولكن بيننا من لا يفهم، فإذا أراد مثلاً أن يقوم يقول: يا ألله ورجال البلاد، فلا يفهم أنه عبد غير الله. وتسقط المسبحة فيقول: يا ألله ويا رسول الله، فما عبد الله وحده.كيف نصنع إذاً؟الطريقة أن يأتوا إلى مجالس العلم في بيوت ربهم وطول عمرهم فلا يتخلفون ليلة واحدة؛ ليتعلموا الهدى، وليعرفوا ما تزكو به النفس وما تتدسى به، أما بدون العلم فإنك قد تجد من يقول: أنا لا أعبد إلا الله، وهو يعبد مع الله غيره.ما هي العبادة؟ وكيف يعبد الله؟ وكيف يعبد غير الله؟لا بد من العلم، ومن لم يتعلم لا يسلم من الوقوع في هذه السراديب والمهاوي، ولا عذر لأحد، فإياك أن تقول: أنا شيخ كبير، وهذا فقير، وأنا بدوي، لا، لا بد وأن تسأل أهل العلم حتى تعلم، فلا تحمل كتاباً، ولا قرطاساً، ولا تقرأ، ولا تكتب، فقط اسأل أهل العلم واعمل بما تعلم، ولا تزال تعلم وتعمل حتى تصبح من أولياء الله، وأنت لا تفرق بين الألف والباء، فليس من شرطه الكتابة والقراءة أبداً، ولا توقف عملك، ولا سانيتك، ولا حرثك، ولا مزرعتك، فكما تذهب وتقضي حاجتك عند الحاجة أو تسد جوعتك عند الجوع، تذهب إلى العالم حولك تقول له: علمني كيف أذكر الله. فإن أعرضت يا بني فالله في غنى عنك، وأنت الذي تصاب بالمحنة.

فضل الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين

ثانياً: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]، ثالثاً: وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [البقرة:83].كيف أنتم مع هؤلاء أيها المستمعون والمستمعات؟!هل أحسنتم إلى والديكم وما أسأتم إليهم؟!هل أحسنتم إلى قراباتكم من العمة إلى الخالة .. إلى العم والخال، وما أسأتم إليهم لا بسب ولا شتم ولا أذى؟واليتامى كيف حالكم معهم؟ هل تهينونهم .. تأكلون أموالهم .. تسخرون منهم أو تعطفون عليهم وترحمونهم وتبشون في وجوههم وتهشون، وتطعمونهم إذا جاعوا، وتكسونهم إذا عروا؟والمساكين اللاصقين بالأرض فلا دينار ولا درهم هم إخوانكم، فأحسنوا إليهم، ولو بالوجه الطلق، والعبارة الطيبة، أو دس في كفه ريالاً أو قرصاً من الخبز.فهذا المسكين هو أخوك، وهو عبد الله تحت الامتحان، قد ينجح في يوم من الأيام ويصبح ولياً للرحمن، وما أفقره الله إلا ليبتليه .. ليمتحنه هل يصبر فيتخرج ولياً من أولياء الله أو ينتكس والعياذ بالله؟

الوصية بالقول الحسن للناس

قال تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] أبيض الناس كأسودهم، عربيهم كأعجميهم، فالكل اسمه ناس: يهودي .. صليبي .. بوذي، ولا تقل لهم سوى القول الحسن، أما الشتم والتعيير، والقدح، والاستهزاء، والسخرية كما نفعل مع إخواننا المؤمنين فلا، فهذا الشتم، والسخرية، والاستهزاء، والتكبر لا يصح حتى على اليهود والنصارى .. حتى على المشركين عبدة الأصنام والفروج والأهواء، فطبعنا ونظام حياتنا وسبيلنا الإحسان، لم؟ لأننا رشداء .. علماء .. ربانيون، ومستوانا ليس بهابط كالكافرين والمشركين، الذين لا يفرقون بين الخير والشر، نحن علماء وأولياء، فتتجلى هذه الحقائق في سلوكنا: لا ظلم .. لا اعتداء .. لا بغي .. لا عدوان .. لا، لا، وكل مظاهر الباطل لا توجد فينا؛ لأننا أولياء الله. وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا أي: لا قبحاً.وقد عايشنا أمتنا وعرفناها، ومن يوم أن بعدت عن بيوت الرب وكتاب الله وهدي رسوله وهي تعيش على أسوأ الأحوال، والله إنك لتسمع السخرية، والاستهزاء، ومظاهر الكبر على إخوانهم وفيما بينهم، وليس مع اليهود والنصارى.وما سبب هذا؟ السبب أنهم ما عرفوا .. جهلوا.ولم جهلوا؟ لأنهم ما طلبوا العلم.ومن منعهم وصدهم؟ أهواؤهم وشهواتهم ودنياهم، إذاً: فهي عائدة عليهم، ولا عذر أبداً.

أخذ الميثاق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة

قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:83]، يا بني إسرائيل! يا معشر المسلمين! أقيموا الصلاة، هل قال: وصلوا؟ قال: (وأقيموا الصلاة) لم يا رب؟! نصلي يكفي؟ لا، أنت لا تدري يا عبد الله أن هذه العملية مركبة تركيباً كيميائياً وضعه العليم الحكيم، وإذا لم تؤدها كما هي ظاهراً وباطناً بكل جزئياتها فإنها لا تولد النور، ولا تثمر لك الحسنات، ولا تزكي نفسك ولا تطهرها.والأدلة عندنا أنك ترى أحدهم يخرج من الصلاة وإذا به يكذب .. يخرج من الصلاة وإذا به يشرب الحرام ويأكل الحرام .. يخرج من المسجد! بل في المسجد يسب أخاه. وهذه الأمور واقعة في حياة كثير من الناس فأين آثار الصلاة؟! ولم ما زكت نفسه؟ الجواب: لأنه ما أداها على الوجه المطلوب الذي من شأنه أن تولد النور له في قلبه.وإليكم هداية الله توجه إلى رسوله ليأخذها أتباعه منا: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، أي: اقرأ ما أوحي إليك من الكتاب، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه الكتاب، وعلمه جبريل، وحفظه يؤمر بأن يقرأ، وأنتم: لا .. لا، مشغولون فلا نقرأ.(اتل) ماذا؟ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا ألله؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].هنا عدة خطوات: الخطوة الأولى إلى سماء الكمالات .. إلى الرقي .. إلى دار السلام .. إلى الطهر والصفاء: تلاوة القرآن، لا على الموتى .. لا من أجل الحصول على المال الدنيوي، وإنما من أجل التدبر والتفكر، واستخراج درر المعاني وأنوار الآيات؛ لتحيا عليها، وتكمل في آدابك، وأخلاقك، وقلبك، وعباداتك.الثاني : إقام الصلاة، وهذا البند لا يقل عن البند الأول؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].

ولذكر الله أكبر

الثالثة: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، ومعنى (ذكر الله) ألا تغفل ساعة، ولا نصف ساعة، ولا دقيقة، إلا إذا شغلت بكلمة: السلام عليكم، أو: يا غلام! أحضر كذا، أو: يا فلانة! قدمي كذا. فما دمت فارغاً فأنت مع الله بقلبك ولسانك.ولعل قائلاً يقول: إن هذا لا يتأكد، ولا يتحقق!فنقول: ولو كان لا يتحقق فهل يأمر الله به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ [الأحزاب:41] كم؟ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وإذا كان الله العظيم يقول: (كثيراً) كم -إذاً- يكون نصيبك المطلوب حتى لا تنسى الله أبداً؟وهذا عبد الله بن عمر قال: ( كنا نعد -أي: نحسب- لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد قوله: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، مائة مرة )، هذا في المجلس الواحد، أما مجالس الطامعين في دار السلام بالأحلام والأوهام فيجلسون الساعة والساعتين والثلاث على موائد اللهو واللعب، لا يذكرون الله فيها، ويجلسون مجالس الأكل والشرب وأنواع الطعام فيهرفون، ويتحدثون، ويتضاحكون، ويتكلمون، ولا يذكرون الله.وتجد سيارة الحافلة من المدينة إلى دمشق، لا تخرج من المدينة إلا والأغاني، والمزامير، وأصوات العواهر تهيج النفوس إلى دمشق، فمن أي جنس هذه الأمة؟ آلله أذن بهذا؟! وكذلك تجد الفيديو، والتلفاز، والصحن الهوائي، آه، يا ويحهم .. يا ويلهم: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14]، فالله بالمرصاد ينظر ماذا نعمل، ويراقب تحركاتنا قائمين أو قاعدين، نائمين أو يقظين، وهذه هي الخطوة الرابعة من هذا التوجيه الإلهي: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45] خيره وشره، حقه وباطله، صحيحه وفاسده، ومعنى هذا أنه يجزيكم بصنيعكم؛ لأنه الحكيم العليم.

المعاصي سبب لتسلّط الأعداء

لكن هل ظهرت آثار هذا التهديد أو لا؟اليهود الذين توجه إليهم هذه النداءات سلط الله عليهم البابليين في زمن ما ففعلوا بهم الأعاجيب: مزقوهم .. شتتوهم .. دمروهم .. بقروا بطونهم، وحولوا بيت المقدس التي بناه إبراهيم عليه السلام إلى مخرأة، فكان الجندي البابلي في تلك الحملة إذا جاءه الغائط ودفعه يذهب إلى المسجد ليبول ويخرأ فيه، وهذا يحصل مع أبناء الأنبياء .. أبناء إسرائيل.ثم تابوا فتاب الله عليهم، وباب الله مفتوح، فتكونت لهم دولة داود وسليمان فسادوا العالم أجمع، فهل سادوه بالسحر .. بالخرافات والتضليل .. بالأهواء والشهوات .. بالمزامير والطبول؟! أسألكم بالله بم؟سادوه بالاستقامة على منهج الحق، إيمان الصدق والاستقامة، فأحلوا ما أحل الله، وحرموا ما حرم الله، ونهضوا بما أوجب الله، فسادوا وارتفعوا، وكانت الإمبراطورية الأولى في العالم.ثم مائة وخمسون عاماً وظهر فيهم الترف، فأخذوا يهبطون حتى عرفنا عنهم أنهم هم الذين صنعوا الكعب العالي، وبعض الناس لا يفهم هذه اللغة، ما هو الكعب العالي؟ امش للدكاكين واسأل، قل لهم: أريد كعباً عالياً لابنتي، وقد يستوردونه من إسرائيل، مع أن الرسول يحذرنا.لم صنعوا الكعب العالي؟ لأنها قصيرة وهي تريد أن تظهر أمام الشبان والفحول أنها طويلة، فيصنع لها صانع الأحذية حذاء كعبه طويل، فتمشي به، فتشاهد من بعيد: هذه زليقة.وجزى الله أحد الدكاترة حيث قال: يا شيخ! ليست القضية أنها ترتفع وتعلو، لا، هذا الكعب العالي يجعلها تتمايل وتتغنج في مشيتها، وهذا موجود ومشاهد عندكم.إذاً: فسلط الله عليهم الرومان فاكتسحوهم .. شردوهم .. مزقوهم، حتى شردوا إلى المدينة فتركوا بلاد العسل والزبدة؛ بلاد الشام، ونزلوا في هذه الصحراء ذات النخيل، والسبخة، والحر، والبرد.ولم لجئوا هنا؟ لجئوا إلى العرب لأنهم كرماء، ولأنهم بنو عمهم سيرحمونهم.لكن كيف شردوا، وفرقوا، وطردوا، وتسلط عليهم الرومان الكفرة؟لأنهم فسقوا عن أمر ربهم .. نقضوا العهود والمواثيق، وفعلوا كما فعل العرب والمسلمون في هذا العصر، فسلط الله عليهم فرنسا، وإيطاليا، وأسبانيا، وبلجيكا، وهولندا، وبريطانيا، فالله بالمرصاد.وجاء الإسلام فوجدهم شذر مذر، ملعونين مضطهدين، فإذا مشى اليهودي أمام الصليبي يكاد يأكله من تغيظه عليه، يقول: هذا قاتل إلهي. ومع هذا فتح الله لهم باب الهداية والرحمة، وناداهم، وعرض عليهم كل درجات الكمال وسبل السلام، فتكبروا، وقالوا: لن نتابع هذا الرجل، ولن ندخل في دينه؛ لأننا سنذوب فيه، ولن يبقى لنا وجود، وسينتهي بنو إسرائيل، فلا مملكة، ولا دولة، ولا سلطان، وهذا كلام رؤسائهم وأحبارهم وعلمائهم، وهو حق، فلو دخلوا في الإسلام لن يبقى يهودي، فحافظوا على النسمة الهالكة ونجحوا بعض الشيء، وكونوا دولة إسرائيل.هل هناك دولة تسمى إسرائيل أو لا؟ نعم موجودة.وأين كونوها؟ في فلسطين .. في قلب العالم الإسلامي.كيف يتم هذا؟ أنت تقول الخيال فلا وجود لهذه الدولة أبداً، كيف يمكن هذا الكلام؟ لو يأتي جيل بعد جيل لا ينكر ذلك، أما الآن فهي موجودة، وقد أذلت العرب والمسلمين، ودسّت أنفوهم في التراب.كيف يتم هذا يا شيخ؟هذا يتم حسب نظام الله في الكون وتدبيره في خلقه، أيفسق المسلمون ويفجرون، ويعتزلون دين الله بالمرة في أكثر بلادهم ثم يباركهم ويرفع من قيمتهم؟ فسلط الله عليهم حفنة من اليهود لعلهم يرجعون، فهل رجعوا هذه الأيام؟ ما رجعوا، وما زالوا في غمرة ساهون.قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:83]. عرفتم هاتين الدعامتين؟!

معنى إقامة الصلاة

إقامة الصلاة معناها: لا يُشاهد رجل سواء كان عسكرياً أو مدنياً، شريفاً أو وضيعاً، عالماً أو جاهلاً، فقيراً أو غنياً، شريفاً أو وضيعاً، فلا يمكن أن يقر وجود مؤمن لا يشهد الصلاة في بيوت الله، فإذا قيل: حي على الصلاة وقف دولاب العمل.والله لقد كان أحدهم في يده الإبرة وما كانت الآلات كالآن، فالخياط يخيط بالإبرة والخيط، يقول هكذا يغرز الإبرة في الثوب، ولما يسمع حي على الصلاة لا يكملها .. لا يتمها.والآخر يرفع الميزان ويضع البضاعة فإذا سمع حي على الصلاة وقف.ومن شك في هذا فليقرأ من نور الله من سورة النور: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37]، حق هذا؟ ولولا هذا كيف سادوا العالم، واتسعت دولتهم في المدينة حتى رمت جناحها على أقصى الغرب وأقصى الشرق في خمسة وعشرين سنة فقط؟!والآن في بلاد العالم بأسره ليس هناك دولة أبداً تأمر جيشها أو أفرادها بالصلاة كأنهم ضد الله أو لا يؤمنون بالله.أنت حاكم أو لا؟ هذه مهمتك، فهذا الشعب خلق ليصلي؟ وبالله عظيم ما خلق إلا ليذكر الله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، لا لشيء آخر، وكونك تحرث وتصنع فهذا -والله- من أجل أن تصلي، فضيعت الصلاة وتركت، وكان من نتائج تركها انتشار: السرقة .. الزنا .. القمار .. الكذب .. الغش .. السفك للدماء .. القتل.فإن قيل: يا شيخ لم تبالغ؟أقول: أبالغ! أليس هذا موجوداً؟ ما سببه؟ الإيمان وذكر الله؟! هل المؤمنون الذاكرون لله يسفكون الدماء ويفجرون بالنساء؟ أتحداكم، من يقول هذا؟!ولقد أرانا الله عز وجل هذه الدولة، وجعلها آية من آياته، فأقيمت فيها الصلاة إجبارياً بين المدنيين والعسكريين وكل مؤمن، فهل حط هذا الأمر من قيمتها؟ وهل عوقها عن الأكل والشرب؟ وهل جر إليها المحنة؟ والله ما أفادها إلا أمناً وطهراً، فما المانع إذن من أن نفعل مثلهم؟ولقد جبيت الزكاة حتى صاع الشعير. ولم لا نجبي الزكاة باسم الله؛ ليرضى الله عنا؟ وإن فرضنا بعد ذلك الضرائب فللضرورة وأفتى بها العلماء، أما أن تعطل فريضة الله .. قاعدة الإسلام، وتغفل عنها الحكومة ورجالها، والأمة معرضة، فهذا معناه باللغة الواضحة أننا رفضنا الإسلام، وما اعترفنا به.

تولي وإعراض بني إسرائيل عن الالتزام بالمواثيق والعهود

قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [البقرة:83] أي: توليتم وأعرضتم عن هذه التعاليم العشرة، إلا قليلاً منكم لازموا باب الله، وثبتوا على ما هم عليه، ونعم. كل بلد .. كل أمة .. كل جيل لا بد أن يبقى فيه الربانيون الصالحون. وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:83] أي: لما توليتم، فلو كان في نفوسكم الرغبة إلى التوبة .. الرغبة إلى العودة .. الرغبة إلى أن نراجع طريقنا كما كنا، فلا بأس، لا .. لا، فتوليتم وأنتم معرضون إعراضاً كاملاً؛ لا تريدون هذا الإسلام.وهذه التوجيهات الربانية إلى يهود بني إسرائيل في المدينة هي نبراس هداية لنا، وسلّم رقي ونجاح لأمة القرآن. وكذلك كان، فقد أديت هذه الحقوق -كما أمر بها الله وبينها- في تلك الأمة السعيدة ذات القرون الذهبية الثلاثة، وما كان يعقل أن مواطناً لا يصلي أبداً؛ رجل أو امرأة، فالإعدام سبيله، فلها خُلقنا!ثم لما تقام الصلاة فلسنا في حاجة إلى قوى الأمن، والشرط، والبوليس، والجواسيس، لا، كل مؤمن ومؤمنة رباني، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وتمضي العشرون سنة لا تحدث حادثة، وإن حدثت لاختلال يكون في صاحبها في عقله أو في إيمانه، أما أن مؤمناً يتكلم مع الله، ويجلس بين يديه، ويناجيه، ويبكي بين يديه كل يوم وكل ليلة خمس مرات ويعصيه فلا يمكن، ولا يحصل هذا أبداً.

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ...)

الآن يذكر الله تعالى بني إسرائيل، ومن باب: إياك أعني واسمعي يا جارة يقول لهم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:84]. عرفتم الميثاق أو هو ميثاق الأمم المتحدة؟! ما هو الميثاق؟الميثاق هو العهد المؤكد باليمين، وقد قلت لكم: من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد أعطى العهد والميثاق من نفسه والتزم، فإن خان فقد أهلكته خيانته، والله يقول: وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ [المائدة:7]، متى؟ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، هذا خطابه لنا.وهنا قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:84] في أي شيء؟ لا تَسْفِكُونَ [البقرة:84] أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، فأنتم شعب الله كما تقولون، وأبناء الأنبياء والمرسلين، فكيف يقدم أحدكم على قتل أخيه؟ وليس شرطاً أن يكون أخوه من أبيه وأمه بل يكفي أن يكون يهودياً، فأنتم أبناء الأنبياء قد أخذ الله عليكم ميثاقاً: ألا يقتل يهودي يهودياً لا تَسْفِكُونَ [البقرة:84].ثانياً: وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ [البقرة:84] فإذا شنت الغارة في الزمن الأول وإلى الآن يخرجون من هم في بيوتهم ويحتلونها.والقض ة تعود إلى أن اليهود لما نزلوا المدينة في الجاهلية هاربين لاجئين أو منتظرين النبوة المحمدية كما جاءت بها التباشير في الإنجيل والتوراة، كانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وكان أهل المدينة من الأوس والخزرج، وهم قحطانيون من اليمن، ولم جاءوا من اليمن؟لما فسق أولئك الأقوام عن أمر الله، وخرجوا عن طاعته غرَّق ذلك السد وهدمه، وانتهى ذاك الطهر وذاك النعيم فشردوا، لقد كانت بلادهم زروعاً ونخيلاً .. وكانت وكانت، جنات عن يمين وشمال، فلما شربوا الشيشة والحشيشة وغنوا ابتلاهم الله بحيوان يقال له: جربوع أو يربوع أخذ يأكل الخشب من تحت الأرض حتى ثقب السد وتدمر، فهاجروا تلك الأراضي، والتحقوا بالشام وبتبوك، ومكث الأوس والخزرج في المدينة.الشاهد عندنا: كانت القبيلتان أحياناً تقوم بينهما حرب لمدة أربعين سنة، ومن يصلح، فلا أمم متحدة، ولا أمم متفرقة، والبلاد متباعدة، فأربعون سنة والنار مشتعلة بين قبيلتين من أسرة واحدة؛ ولهذا امتن الله عليهم بقوله: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [آل عمران:103]، بعدما كانوا متعادين متحاربين. فاليهود لضعفهم وعجزهم وهم في وسط العرب أقاموا عدة تحالفات، فبنو قينقاع وبنو النضير تحالفوا مع الأوس، وبنو قريظة تحالفوا مع الخزرج، ومعنى حالفوهم: دماؤنا واحدة، وأرواحنا واحدة، فإذا عدى علينا عدو فأنتم معنا ونحن معكم. فهذه هي الأحلاف.فلما تطول الحرب بين الأوس والخزرج يقاتل اليهود بعضهم بعضاً، فأحلاف الخزرج يقاتلون أحلاف الأوس، فيتسبب ذلك في قتل اليهودي لأخيه اليهودي، وإذا هاجموهم وأخرجوهم من الحي واحتلوا ديارهم كذلك اليهودي يحتل دار اليهودي ويخرجه من بيته.واسمع كيف يوبخهم الرحمن: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا [البقرة:84] أي: بأن لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:84] كيف تخرج يهودياً من بيته وتسكن أنت فيه؟ فأين الرحمة وأين الأخوة؟ وأنتم أبناء الأنبياء أولاد إسرائيل.قال: تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [البقرة:84] فهذا العهد وهذا الميثاق أخذ عليهم في جبل الطور، وبعضه جاء في التوراة: يا بني إسرائيل! نأخذ عليكم عهداً وميثاقاً أنه لا يقتل إسرائيلي أخاه، ولا يخرجه من داره أبداً، وإذا أسر أخوه يجب أن يفاديه ولو بأن يبيع فراشه وكساءه.سبحان الله الرحمن الرحيم، فهذه كرامة الله لأولئك الأنبياء والصالحين، فهؤلاء أحفادهم وأولادهم، يعطف الله عليهم أكثر من عطف الأم على ولدها، وما عرفوا هذا.

تفسير قوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ...)

قال تعالى مخاطباً اليهود وهم يسمعون على عهد النبوة، والقرآن ينزل: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ [البقرة:85] أي: الموجودون الآن .. الحاضرون في المدينة، ماذا تفعلون؟ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:85] كما هو الواقع، فها أنتم الآن تقتلون أنفسكم، فاليهودي المناصر للأوس يقتل اليهودي المحالف للخزرج، وذلك بمقتضى الاتفاقية، وبموجب الحلف. وتخرجونهم من دياركم، فإذا استولى الأوس على إقليم .. منطقة يطردونهم، وينزلون في ديارهم، ويذهب أولئك إلى الصحراء.قال: تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [البقرة:85]. ينتصرون عليهم بالإثم والعدوان، فالأوس والخزرج ليس عندهم نبوة أو رسالة أو شريعة أو قانون وإنما قوانين جاهلية، وكلها باطل.قال: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ [البقرة:85] إذا ما تفهمون هذا فعندنا له بيانات، فاليهود إذا اختطف يهودي من فلسطين أو من فرنسا، فإنهم يعرفون أن من اختطفه هم الفلسطينيون العرب فيفادونه بعشرين عربي .. بثلاثين .. بمائتين، وأنتم تسمعون بهذا، ولو تطالبوهم بألف واحد فلا يمكن أن يتركوا اليهودي أسيراً، لم؟ طاعة لله، فقد أمر الله بهذا: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ .قال: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ [البقرة:85] وهذا واقع، فالآن لو يختطف يهودي من ذوي المنصب ويطالب خاطفوه بإطلاق خمسين أسيراً أو مائة سجين يقولون: تفضلوا، خذوا. وهذا إيمان، فآمنوا بالله وأطاعوه في هذه القضية.وقوله: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ [البقرة:85] أي: بالملايين، فالمفاداة ليست دائماً بالأشخاص، إنما تكون بالأموال، فلو يبيع قميصه ولا يترك اليهودي أسيراً تحت مشرك، أبداً، لا حياة عندنا إذا سكتنا عن هذا، فهكذا كانوا، وما زالوا.

الكفر ببعض الكتاب وعاقبته

ثم قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]. فالله وبّخهم، وهذا الاستفهام للتقريع والتأنيب والتأديب والتوبيخ. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ تبيحون قتله وإخراجه من داره لا بأس، وإذا أسر تفاديه بأموالك ولو تجوع الدهر كله، فهذا إيمان ببعض وكفر ببعض.وهيا نطبق هذه الآية على المسلمين كيف حالهم؟نضرب مثلاً: أهل القرية صائمون إيماناً بالله ولا يصلون، ويصلون تلك الصلاة ولا يزكون، فهذا إيمان ببعض وكفر ببعض وإلا لا؟! أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ .ثم قال: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:85]. الله أكبر! عجب هذا القرآن، أسألكم بالله: هل هناك أذل وأخزى من المسلمين؟ لا إله إلا الله! فما توعد بعذاب النار ولا ولا، لا إله إلا الله! خزي، هل هناك أذل من العرب والمسلمين؟ لا سيما أيام الاستعمار فقد كانت أذل المخلوقات، وإلى الآن ما زال خزيهم واضحاً، لا ينكره عاقل أبداً.قال: إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وسببه أننا نعمل ببعض الشريعة ونترك بعضها كأننا أحرار، أو نعترض على الله، فالذي يناسب هوانا وشهواتنا نفعله، والذي يتعارض معها نتركه، والله لو يسمع المؤمنون بهذا وهم في مجلس لتمرغوا على الأرض، لكن ألف سنة والقرآن يقرأ على الموتى، ويقرأ على العبرة أن هذا في اليهود، والمدرس لهم يقول: هذا في اليهود، ولا يلفت النظر إلى أن هذا هو واقعنا نحن، واليهود انتهوا.قال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] إذاً فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85].فمن يقول بأنه مؤمن يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله وأنه من أهل الجنة، فهذا الكلام باطل باطل باطل، فالنسبة لا تغني شيئاً، وإن أردت أن تصدقني فانظر إلى من يقول: إني شبعان والبطن مملوءة، فأنا معي في جيبي ألف ريال وأنت ليس عندك شيء، فهل ينفع هذا الكلام؟ لا ينفع.قال: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ [البقرة:85] من يردهم؟ الله، إلى أين؟ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85] أي: أقساه وأمره، فما هو عذاب الخزي في الدنيا أو الفقر فيها.

الاعتصام بالدين هو المخرج

سبحان الله العظيم! هذه الآية لم ما تبلغ إلى العالم الإسلامي؟!ما الطريق وكيف نبلغها؟ دلونا يرحمكم الله.الطريق هو أن نؤمن الإيمان الحق، ونطلب الله في بيته، فنأتي إليه بأطفالنا ونسائنا ورجالنا، ونعكف في بيته وأكفنا إليه، وأصواتنا تتضرع بين يديه، وكل ليلة وطول الحياة حتى ينقذنا، وليس معنى هذا فقط أن نكتفي بالبكاء فمن أين تأتي الدموع إذا القلب قاسي؟ فلا بد من تلقي الكتاب والحكمة كما نتلقاها الآن، والكتاب والحكمة هي قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فتنمو المعارف وتفيض أنوارها على القلوب وعلى الجوارح، ونصبح حقاً أحياء، وهذا هو الطريق.وأنا موقن لو أن أهل إقليم التزموا ما قلت، فلا نفارق بيت الله كل ليلة، والله ليأتين أمراؤهم ومسئولوهم ويجلسون معهم.فالأمير أو الضابط -كما يقولون- يلتفت لا يجد أحداً فيسأل: أين ذهب الناس؟ فيقال له: في بيت الله. فيقول: لم؟ فيقال له: من أجل الرحمة الإلهية. فييأس ويقول: خليهم، ثم والله ليأتين ويصبح يسبقهم، ويعين له مكاناً يجلس فيه.فإذا ما نحن تعرفنا إلى الله فعرفنا وعرفناه، واطرحنا بين يديه، فرفعنا وأصبحنا علماء ربانيين؛ أولياء، فلو كادنا أهل الأرض لن يستطيعوا أن يزلزلوا أقدامنا.فإن قالوا: يا شيخ كيف تقول هذا؟نقول: غزا جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة غزوا بلاد الروم، فاستقبلهم الروم بمائتي ألف مقاتل، وهم ثلاثة آلاف، فثلاثة آلاف يقاتلون مائتي ألف، ومع هذا نصرهم الله. بل قال إمامنا الأعظم صلى الله عليه وسلم: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )، فخرج من المدينة باثني عشر ألفاً بعد أن تجمع روم أوروبا بكاملها يزحفون، فما إن وصل تبوك حتى أيسوا، وصدرت القرارات الجمهورية والحاكمة: لا فائدة من قتال محمد فاتركوه، وعاد بسلام مع رجاله إلى المدينة.كذلك المؤامرة التي تمت منذ ثلاث سنوات لإطفاء نور الله، فمن صرفها؟ الذي لا يقول: إن الله هو الذي صرفها فهو كافر، وليخرج من المسجد. فالله هو الذي صرف تلك المحنة وتلك المؤامرة التي كانت من أجل إطفاء نور الله، فلم يبق من يرفع رأسه بلا إله إلا الله.ومعنى هذا: أيما مؤمنون صادقون يحتمون بحمى الله، ويقيمون دين الله، ويعيشون على نور الله لو كادهم أهل الأرض أجمعون فلن يستطيعوا أن يزلزلوهم، ولكن إذا فسقنا عن أمره، وخرجنا عن طاعته، وعبثنا بشرعه، وأخذنا البعض، وآمنا ببعض، فهذا يصلي وهذا يغني، فلنتهيأ ليسلط علينا أحقر الناس وأذلهم.أما سلط الله اليهود على ألف مليون مسلم أو لا؟ ومن هم؟ اليهود. وكم عددهم؟قالوا: خمسة ملايين بنسائهم وأطفالهم ورجالهم أذلوا العالم الإسلامي بكامله.هل هذا منام أو يقظة؟!قولوا: آمنا بالله، آمنا بالله، آمنا بالله.

الله محيط بكل شيء

وآخر الخطاب: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85] معناه: هيا نتحصن ونستر أنفسنا أمام الله: فمن كان يكذب فلا كذب .. ومن كان يسرق فلا سرقة .. ومن كان يحسد فلا يحسد .. ومن كان يؤخر الصلاة عن وقتها فلا يؤخرها .. ومن كان يرغب في كشف وجه امرأته فلا يكشفها .. ومن كان يحتال ويغش في معاملته فلا يغش ولا يحتال .. ومن كان لا يذكر الله في كل أحايينه فمن الآن لا ينسى ذكر الله .. وهكذا؛ لأنه يراقبنا: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].ومن أصيب بفقر أو مرض فليفرح بذلك ويقول: رب هو الذي طهرني. فيتلذذ بالجوع، ويتلذذ بالبرد؛ لأنه يعيش مع الله، والله ليكونن في حال أطيب وأسلم وأسعد من حال الذي يتمرغ في الذهب والحرير. فإذا اتصل بالله، وعرف أن سيده هو الذي ابتلاه، والله لتكون حاله أسعد من أهل الدنيا. وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-13, 05:40 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (66)
الحلقة (73)



تفسير سورة البقرة (36)


عجب أمر هؤلاء اليهود، أنزل الله عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل والأنبياء، وجاءهم النور من كل اتجاه ومع هذا أعرضوا، اصطفاهم الله، وخصّهم بتشريعات فيها عزهم، وكرامتهم، وصيانة دمائهم وأعراضهم، ومع هذا خالفوا، لقد باعوا دينهم بدنيا قليلة، فكان جزاؤهم العذاب الأليم، والخزي والهوان والذلة في الدارين؛ الدنيا والآخرة.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:86-88].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

إيمان اليهود ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [البقرة:86] من هؤلاء الذين أشير لهم بلام البعد، إذ هم في متاهات لا حد لها؟(اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة) أي: استبدلوا الآخرة بالدنيا، وهم يؤمنون بالآخرة، ويعرفون ما فيها، وما يتم فيها للناس، ومع هذا استبدلوا الآخرة بالدنيا؛ لأن الدنيا عاجلة حاضرة بين أيديهم، وكل ما فيها يشاهدونه، فأعمتهم عن الآخرة أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [البقرة:86]، فهل هناك في أذهاننا مما سبق حتى أشير إليهم بهذه الإشارة وهو عيب لهم؟سبق أن عرفنا أنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.فإن قيل: لم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؟الجواب: لأن الآية إذا كانت تدعوهم إلى تحقيق رغائبهم الدنيوية قالوا: أهلاً وسهلاً ومرحباً، هذا كلام الله .. وحي الله .. تنزيل الله ومن ثم يعملون، وإذا كانت الآية تريد أن تبعدهم عن شهواتهم، وأطماعهم، وأهوائهم، وتحول بينهم وبين رغائبهم كفروا بها، ولم يعملوا بما فيها.ولهذا مثل سبق لنا، فقد أخذ عليهم في التوراة وعلى لسان موسى عليه السلام: أن لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من داره، وأُعطوا على هذا العهد والميثاق، وأَعطوهم أيضاً العهد والميثاق، وإذا بالأيام والقرون تمضي فيقعون في هذه الفتنة، فتجد اليهودي يقتل أخاه اليهودي، ويخرجه من داره ليسكنه.

سبب هروب اليهود إلى بلاد العرب

وسبب هذا أنهم كانوا شبه لاجئين في هذه الديار، فقد نزحوا من بلاد الشام لمِا كان ينالهم من الاضطهاد والتعذيب والتنكيل من أعدائهم المسيحيين الصليبيين؛ لأن الصليبيين كانوا يرون أن اليهود هم الذين قتلوا إلههم، والذي يقتل إلهك أو نبيك وأنت مؤمن به فإنك لا تفتح عينيك فيه، ولا تحب أن تراه أو تسمع كلامه.والنصارى يعتقدون إلى اليوم أن اليهود هم الذين قتلوا السيد المسيح بل صلبوه أولاً وقتلوه، والله عز وجل أبطل هذه الفرية فقال: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].والقضية كما علمتم أنهم عزموا حقاً على قتل عيسى، فطوقوا منزله بالشرط والدرك ورجال الأمن، كما هو حال دولة يهود، فلما أبى عيسى أن يفتح الباب دخل رئيس الشرطة في عهدهم، فما إن دخل حتى رفع الله تعالى عيسى إليه من روزنة المنزل وإلى السماء والملكوت الأعلى، فانتظر رجال الشرطة خروج رئيسهم لينظروا ماذا فعل، فلما استبطئوه دخلوا، وما إن دخلوا حتى ألقى الله تعالى عليهم الشبه في رئيس الشرطة، فما إن رأوه حتى قالوا: هذا عيسى، والتفوا حوله وكبلوه بالحديد أو بالحبال وأخرجوه، وصدر الحكم بصلبه وقتله، وبالفعل صلبوه على الأخشاب وقتلوه.فانظر! فمن السخف، والجهل، والعمى، والضلال كيف أن الإله يُقتل؟ وما فائدة إله يقتله أعداؤه؟ كيف يرحمه؟ كيف يدخله الجنة؟ كيف ينصره؟ كيف .. كيف، وهم قد قتلوه وصلبوه. أرأيتم، ويا ليت قساً من القسس بيننا يسمع هذا الكلام فيتململ ويتغايظ، فهذا واقعه.وإن قال لنا: كيف تقولون مثل هذا الكلام؟ قلنا له: ها أنت تعلق صورة الصليب في عنقك تتبركون بها، وتذكركم بعداوة اليهود؛ فهم الذين صلبوا عيسى وقتلوه.وقد أرانا الله تعالى آية أيام كنا في باب المجيدي، فقد سمعنا في الإذاعات أن بولس الثامن رئيس الكنيسة العالمية أصدر بياناً قال فيه: إن اليهود برآء من دم السيد المسيح، فاهتز العالم كيف مضت ألفا سنة إلا عشرين عاماً والنصارى يعتقدون أن اليهود قتلوا إلههم، والآن يصدر هذا البيان، فهل هذا الرجل مسحور بالمال .. بالسحر، وكيف أن رئيس الكنيسة في العالم يقول ويصرح بمثل هذا التصريح؟!فهللنا وكبرنا وقلنا: الحمد لله، هذا هو معتقدنا، وبهذا نزل كتاب الله إلينا، إذ الله يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، وأغمضوا أعينهم، ودسوا رءوسهم في الرمال كالنعام، وما زالوا يعتقدون أن اليهود هم الذين قتلوا السيد المسيح.إذاً: هؤلاء اليهود نزلوا هذه الديار لعلتين واضحتين بيناهما كثيراً:الأولى: اضطهاد الرومان لهم؛ لأنهم قتلة إلههم.والثانية: انتظار النبوة التي بشرت بها الكتب الإلهية: التوراة والإنجيل، وهي أن نبياً قد أظل زمانه، وأنه يخرج من جبال فاران، أي: جبال مكة، وأن مهاجره قرية ذات سَبِخة ونخيل تسمى يثرب، فقالوا: ننزح إلى هذه الديار انتظاراً للنبي الجديد فنؤمن به، ونلتف حوله، ونسترد أمجادنا، ونعيد مملكتنا.عرفتم إذاً علتي دخولهم المدينة، أو عندكم شك فلا تستطيعون أن تتحدثوا بهذا أو أن هذه خرافة؟ كلا والله لن تسمعوا هنا سوى ما هو حق، فلا خرافة، ولا ضلالة، ولا باطل.والآيات أمامنا، غداً -إن شاء الله- تقرر هذه الحقيقة.والشاهد عندنا: أنهم تواجدوا في المدينة وفي تيماء وفدك نازحين، ولما كانوا في المدينة كانوا ثلاث قبائل: بنو النضير، وبنو قينقاع، وبنو قريظة، وكانت الحرب تدور بين الأوس والخزرج حتى تدوم عشرات السنين، وهاتان القبيلتان من قح العرب، نزحوا من اليمن بسبب خراب سد مأرب، فشاع الفقر والضعف فنزحوا إلى الشام والشمال، فحالف بنو النضير وبنو قينقاع الأوس، وحالف بنو قريظة الخزرج، أو العكس، وكانت إذا اشتعلت نار الحرب كان الأحلاف يقاتلون مع أحلافهم، فهذه فطرة الناس؛ لأنهم أيضاً يقاتلون معهم، فلما يبدأ القتال كان اليهودي يقتل أخاه اليهودي الآخر، وإذا هاجموهم في القرية وأخرجوهم من ديارهم كان اليهودي يخرج أخاه اليهودي من داره، ثم لما تنتهي الحرب يفادون إخوانهم بالدينار والدرهم، يقولون: لا يحل لنا أن نترك إخواننا أسرى في أيدي العدو فلا بد من الفداء، فيفادونهم حتى بلباس نسائهم إيماناً بالله وطاعة لهم، فقد فرض الله علينا هذا، فانظر كيف يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فمن جهة يقتلون إخوانهم ويخرجونهم من ديارهم، ومن جهة أخرى لا بد من مفاداة الأسرى.وقد رأينا هذا في أيامنا هذه بأعيننا، فإذا اختطف الفلسطينيون يهودياً فإنهم يفدونه بعشرين .. بمائة .. بستمائة عربي، ولا يسمحون أن يتركوا أسيراً بل يفادونه بالملايين إذا طولبوا بالمال، ويفادونه بالأسرى الذين عندهم ولو بالمئات، كل هذا إيماناً بالله وبشرع الله، فالله قد فرض على بني إسرائيل أن يفادوا إخوانهم، فلا يسمحون أن يبقوا في يد العدو العام والعامين والسنين، ولو يبيعون حلي نسائهم كله، فهذا عجب، والقرآن يخبر بهذا.وهل يختلف ما حدث عما هو واقع؟والله ولا قيد شبر أو قيد شعرة؛ لأنه كلام الله .. وحي الله، فلنقرأ لهذا قول الله عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:84-85].

تحذير المسلمين من مشابهة اليهود في أخلاقهم وطبائعهم

قلنا: القرآن كتاب هداية .. كتاب إنجاء من الغرق، وإخراج من المحن والفتن .. كتاب إسعاد وإكمال، فهل المسلمون اليوم ما سلكوا مسلك اليهود؟ الجواب: سلكوه وأعظم، فأسرانا لا نفاديهم، ولا نستطيع أن نعطيهم فلوساً أبداً، واليهود يفادون أسراهم، فهم أشرف؛ لأنهم يفادون أسراهم بالملايين، ونحن نقول: دعه في الأسفل، كيف نجمع المال، وكيف نفادي ونعطي الأموال للعدو من أجل أن يطلق فلاناً أو فلاناً، خليهم، فهذا هو الواقع.ثانياً: هل طبقنا شريعة الله كاملة؟!نعم، الصلاة لا بأس يصلون، لكن الزكاة لا يزكون، كذلك الصيام لا بأس يصومون، ولكن كشف العورات والسوآت، وتبرج النساء واختلاطهن بالرجال، وانتشار الزنا لا بأس، يقولون: هذا فيه مضايقة على الشعب، فدعوهم.وتتبعوا غير ذلك، فإنكم ستجدون أن أكثر المسلمين هذا صنيعهم، كأنهم يؤمنون ببعض الآيات ويكفرون بالبعض الآخر، فهل يلامون أو لا يلامون؟ أو هم أشراف وسادة الدنيا لا يلامون؟ اليهود وهم أبناء الأنبياء، وهم بنو إسرائيل عليه ألف سلام ومع هذا وبخهم الله وقبح سلوكهم .. عيّرهم .. انتقدهم .. توعدهم .. لعنهم، ونحن لا، يكفي أنه مسلم.وهل أصاب المسلمين ذل وخزي في الدنيا أو لا؟آه، نعم أصابهم، وهذه آية من آيات الله، ومن عجب أن سلّط عليهم حفنة من اليهود لا يساوون واحداً ونصف في المائة من المسلمين، فخمسة ملايين أذل الله بهم ألف مليون، ومن ينظر بعيني العلم والبصيرة يشاهد ما أقول، أليس المسلمون ألف مليون من إندونيسيا إلى موريتانيا، واليهود خمسة ملايين؟!وليس اليهود هم الذين أذلونا، لا والله، ما هم ومَن هم! ولكن الله قواهم وسلطهم علينا، وخذَّلنا وأنزلنا في الحضيض؛ لتتجلى هذه الآية في الكون؛ لأننا نؤمن ببعض ونكفر ببعض.وقد وجد من يقول: ما يلائم الطبع، والفطرة، والحضارة، والمدنية، والسير وراء أوروبا هذا هو الدين، وما عاكس ذلك وخالف فلا نريده، ولا نريد أن نعود إلى التخلف والوراء والرجعية و.. و، فالزمان تقدم، والعلم تطور.وأنتم تسمعون هذه اللغة، ووالله العظيم إن هذه حال المسلمين، والمؤمنون الصادقون يتململون، ويبكون ويرفعون أكفهم إلى الله أن يجيرهم من خزيه وعذابه، ولكن إذا حلت النقمة تحل بالجميع، والمؤمنون يثابون على ابتلائهم ومحنتهم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، لكن الأخذ بالعموم لا بد منه.الآن عرفتم هداية القرآن أو لا؟لا تفهموا فقط إلا قول من يقول: هذا من شأن اليهود، وهذه حال اليهود، فهم الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فجازاهم الله بالذل، والعار، والخزي، وعذاب الآخرة، أما نحن فلا، فهذا القرآن نزل في اليهود، نعم هذا صحيح، لكنه نزل علينا لا عليهم .. وهذا الكتاب نزل على نبينا، وهو كتاب الله إلينا، فيه هدى وموعظة للمتقين.والله لقد عاشت أمتنا أربعة .. خمسة .. ستة قرون، والمفسرون -فقط- يقولون: هذا نزل في اليهود .. هذا نزل في أهل الكتاب، ونحن ما نزل فينا؟ نعم، نحن نزل علينا؛ من أجل إكمالنا وإسعادنا .. من أجل هدايتنا .. من أجل ترقيتنا واصطفائنا؛ لأنه فقط يلوم اليهود، ويعتب عليهم، فهذا كتاب البشرية جمعاء، والإنسانية كلها، والحمد لله زال ذلك الظلام والجهل، وأصبحنا نفسر كلام الله على مراد الله، فهذه نعمة والحمد لله.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ...)

قال تعالى في الطابع الأخير: أُوْلَئِكَ [البقرة:86] أي: البعداء الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [البقرة:86] في الدنيا والآخرة، وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86] لا في الدنيا، ولا في الآخرة.وقد يقول قائل: هذه الآية في الآخرة؟ نقول: نعم في الآخرة، وفي الدنيا كذلك، وهذا الأسلوب الحكيم.قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ أي: أعطوا الآخرة بما فيها من نعيم مقيم وأخذوا الدنيا.وهل لهذا من أمثلة عندنا؟فكم من إنسان يتخبط في الربا .. في الزنا .. في القمار .. في الجرائم، قد نسي الآخرة، ويتلذذ في الدنيا فقط، فيلبس الحرير، ويتختم بالذهب، أما يقال فيه: اشترى الحياة الدنيا بالآخرة وإلا ما معنى: استبدال الدنيا بالآخرة؟!تجده يقول: دعنا يا فلان؛ فالدنيا ماضية، دعنا نتنعم، هي أيام فقط وتنتهي، فكل واشرب وغنِّ وفرفش، فيبيت هو وزوجته وأولاده على الخمر، فهؤلاء من الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.قال: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [البقرة:86] أي: يوم القيامة وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86] أي: يوم القيامة، والدنيا أيضاً.وإن قلت: هاهم انتصروا. نقول: هل انتصر اليهود على إيطاليا .. على اليونان .. على سويسرا .. على من انتصروا؟ على المسلمين.لكن السؤال: كيف انتصروا على المسلمين؟الجواب : لأن الله أراد أن يري عباده آية من آياته، فلو انتصر اليهود على إيطاليا فهذا معقول، أما أن ينتصروا على ألف مليون مسلم فهذا لا يعقل؟ وليس هم الذين انتصروا بل الله تعالى هو الذي نصرهم؛ ليرينا آياته فينا علَّنا نفيق ونرجع، ولكن ما زلنا سكرى، فلا إفاقة.وكم قد دعونا إلى اجتماع يعقده رؤساء وحكماء العالم الإسلامي في الروضة، فيتعاهدون ويبايعون خليفة لهم ويطبقون شرع الله.قد يقولون: كيف لنا أن نعرف هذا؟قلنا لهم: هذه الدولة بناها الله، وجاء بـعبد العزيز فطبق شريعة الله وسادها الأمن، وسادها الطهر، والصفاء، والكتاب موجود، والسنة قائمة، فخذوا وتفضلوا.وقد قلت غير مرة: وجدت هذه الدولة في عالم مظلم؛ لتكون حجة الله على المسلمين، فلا يستطيع أن يقول قائل: كيف نعمل؟ كيف نطبق هذه الشريعة؟ لقد مضى عليها الدهر والأحاديث موضوعة وكذا وكذا، فدعونا من هذا، وخذوا القانون الذي يتلاءم مع المجتمع من فرنسا أو إيطاليا، كيف نعرف نحن؟!ولقد أراهم الله هذه الدولة؛ فأهل البادية والإبل والغنم يعيشون في أمن وطهر وصفاء لم تر الدنيا مثله إلا أيام القرون الذهبية، فلا هيدروجين، ولا ذرة، ولا ملايين الجيوش .. ولا ولا، وبدأت هذه الدولة بحفنة الشعير ورأس الماعز فلا بترول، ولا ذهب، ولا فضة، وكانت البلاد فوضى، فالنار مشتعلة: الجرائم .. القتل .. الشرك .. الباطل.. العجب، وفي سنيات معدودة أصبح الرجل يمشي من أقصى الجزيرة إلى أقصاها لا يخاف إلا الله.وفي عشر سنوات .. عشرين سنة قد يقام حد الزنا مرة واحدة، وهذا نادر جداً، فكيف تحقق هذا؟ هل بالسحر أو بالقوة والمدافع؟! الجواب: والله ما تحقق هذا إلا بفضل الله وبتطبيق شرع الله، قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، ماذا فعلوا؟ أقاموا الحفلات والزغاريد، وشربوا الخمر، والرقص في حفلات عيد استقلال!!أما تعرفون أعياد الاستقلال أو لا؟ كم يشرب فيها من براميل خمر؟ كم وكم، وكم تترك فيها الصلاة وكم .. هذا هو عيد الاستقلال.أما قرءوا هذه الآية؟!الآن أكثر من خمسة وأربعين عاماً، وجواسيسهم وعيونهم ومسئولوهم يسمعون هذا ويعرفون، ونحن نصرخ: استقل هذا الإقليم من الاستعمار البريطاني، فيجب عليه أن يقيم دولة قرآنية أهلها مسلمون.

دعائم الدولة الإسلامية

فإن قال قائل: كيف نقيم الدولة؟نقول له: تعال نطبق آية واحدة من كتاب الله، فالله يقول: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، فإذا استقل الإقليم يقول حاكمهم: اسمعوا أيها المواطنون! خلقنا لنعبد الله، وهذا سر حياتنا، ومن اليوم لو يُشاهد أحد يترك الصلاة يعاقب بالموت، فلا فرق بين عسكري ومدني، وغني وفقير، لا بد وأن نشهد الصلاة في بيوت الله، ولا يتخلف عنها إلا مريض أو ذو عذر، وتقام الصلاة، ولو أقيمت الصلاة أربعين يوماً فقط في أقطارنا التي استقلت لتجلت الأنوار والطهارة والأمور التي هي عجب، لكنهم أماتوها، فما أقيمت الصلاة.أقول: لعلي واهم!من يقوم ويقول: نعم قد أقمنا الصلاة في ديارنا بمجرد أن استولينا على الحكم وأصبحنا حاكمين؟أقول: لا يوجد أحد.آه، يا هؤلاء! يا أهل لا إله إلا الله! إن الله تعالى يقول: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ [الحج:41] أي: حكمناهم، فأصبحوا متمكنين من حكم البلاد، وماذا فعلوا؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41]، فلا يتخلف عنها عاقل بلغ سن الرشد؛ رجلاً أو امرأة، كيفما كان.أما كررنا هذه الكلمة في القرى الضائعة!كان إمام المسجد هنا يقرأ كل صباح قائمة بأسماء أهل الحي أو القرية، ويسجل من حضر ومن لم يحضر.لكن تعال معنا وادخل إلى الثكنة العسكرية وشاهد هل تقام الصلاة فيها أو لا إلى الآن؟لو دخلت إلى الثكنات العسكرية في العالم الإسلامي لوجدت خمسمائة يصلون وخمسين ألفاً لا يصلون، ولا تجد جنرالاً أو قائداً يقول: لم ما صلى فلان، أبداً.أما الزكاة في هذه البلاد فقد جبيت، ولو يحدثكم الشيوخ الكبار لقالوا: لقد كانت الزكاة تؤخذ من التمر والشعير ورءوس الغنم، وليس هناك من أموال عند هذا الشعب، فهو مقطوع عن الدنيا تماماً، ومع هذا جبيت الزكاة إيماناً بالله، وطاعة لله ورسوله، وبارك الله في ذلك الصاع، وذلك الغنم.أما دولنا الأخرى فلا زكاة جبيت، ولكن فرضت الضرائب، فأثقلوا كواهل المواطنين بالضريبة، وأما الزكاة فلم ينظروا إليها، لأنها تذكر بالله، فهي تُفهِم أن هناك ديناً وشرعاً ألا وهو الإسلام يجب أن يطبق ويعمل به من أجل إكمال الشعب وإسعاده.وأما الأمر بالمعروف فهل هناك أفراد تسند إليهم هذه المهمة فيقال: يا فلان! أنت في قريتك إذا شاهدت من يتخلف عن الصلاة .. من يغني .. من يعبث .. من يقول كذا فاستدعه إلى المكتب ويؤدب. لكن لا شيء من ذلك، بل من شاء أن يفسق علناً فليفجر كما يحب، دعه فهو مواطن، فالدولة ما منعت هذا.معشر المستمعين! هل نبكي أم نفرح ونضحك؟!أما أصابع الحاقدين والحاسدين فهي في هذه البلاد تعمل ليل نهار أن ينتهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووالله لولا أن الحكام أولاد عبد العزيز -وفيهم هذه البقية من الخير- لانتهى هذا الأمر من عشرين سنة، فهؤلاء الحاقدون يحرضون على ترك الصلاة ويقولون: لم هذا النداء؟! ولم تغلق أبواب المتاجر؟ ولم .. ولم؟ فهم يعملون الليل والنهار.ولهذا نسأل الله أن يبقي هذه البقية، فأولاد عبد العزيز هم بركة الآباء في الأبناء، ولو يكون ما يريده الحاقدون لرأيتم ماذا سيفعل الماسونيون؛ لخرجوا في الشوارع يغنون، ولخرجن النساء كاشفات؛ عاريات.إذاً: نبكي أو نسكت؟! وماذا نعمل مع قول ربنا: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] فهذا توبيخ وتقريع. فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:85-86].

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ...)

قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87] مَن المخبر؟ إنه الله.يقول تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ هو موسى بن عمران .. موسى الكليم .. موسى رسول الله عليه السلام، آتيناه الكتاب الفخم .. الكتاب الجليل .. الكتاب العظيم، لأن (أل) هنا تدل على هذا المعنى، ألا وهو التوراة، والتوراة مشتقة من النور، مِن: ورى الزند إذا أوقد النار وأشعلها، فهو كتاب نوراني أنزله الله للهداية، ولتبديد الظلام، فهو النور.قال: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة:87] أي: واحداً بعد واحد، فما يذهب رسول إلا ويأتي من بعده رسول ثانٍ، ويأتي بعد الثاني رسول ثالث وهكذا، هم سلسلة من الأنبياء والرسل من أجل ماذا؟ حتى يغني الشعب، ويرقص، ويأكل البقلاوة والبطاطس، ألهذا بعث الرسل؟ لا، إنما من أجل تطهير النفوس .. تزكية الأرواح .. إعداد الأمة إلى السمو والكمال حتى لا ترى منظر سوء، ولا تشاهد حادثة مؤلمة، فلا خيانة، ولا تلصص، ولا إجرام، ولا كذب، ولا كفر، ولا شرك، ولا باطل، كأنهم يعيشون في السماء بطهرهم وصفائهم، فيكملون ويسعدون. وهذه هي مهمة الرسل.

سبب تتابع الرسل

ولم قفّى بالرسل واحداً بعد واحد؟الجواب: لهداية الخلق .. لإصلاح الأمة .. لتطهيرها .. لإعدادها للسماء، والنزول في الملكوت الأعلى بعد نهاية هذه الحياة. فهذه منة الله، وهو المخبر بهذا الخبر، يقول: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة:87]، وعدد الرسل -كما علمتم- ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، أولهم نوح، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، أما الأنبياء فبلغ عددهم مائة ألف وأربع وعشرون ألف نبي، فالرسول يُتابع ويُطاع، وأما النبي فيُؤمن به، وتُقبل هدايته وإرشاده، ولكنه لا يقنن، ولا يشرع، ولا ينزل عليه تشريع، بل هو يتبع الرسول الذي أرسل قبله.

سبب نسبة عيسى عليه السلام إلى أمه مريم

قال: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [البقرة:87] عيسى هذا هو عيسى ابن مريم. ومريم هي العذراء بنت حنة امرأة عمران .فإن قيل: لم قال: عيسى ابن مريم ولم يقل: عيسى بن سعيد أو عثمان؟ والعامة منا يقولون: الله ينادي الإنسان يوم القيامة بأمه، ولا يناديه بأبيه، ويقولون: إن منكراً ونكيراً لما يجلسان العبد يسألانه عن أمه لا عن أبيه: أنت فلان بن فلانة، أو يا فلان بن فلانة، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا * يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:70-71] يعني: بشيخهم فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [الإسراء:71] ويقولون أيضاً: يدعو الله الناس بأمهاتهم لا بآبائهم ستراً على عيسى حتى لا يفضح في عرصات القيامة أنه ما له أب. وغير ذلك من الكلام الذي ملئوا به الكتب.الجواب: الشاهد عندنا في عيسى ابن مريم أن عيسى لم يكن له أب، فمريم لم يتزوجها فحل، ولم تنجب كما تنجب النساء بواسطة المني، وإنما عيسى كان بكلمة الله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]. فجبريل روح القدس نزل ونفخ في كم مريم، أي: كم الدرع، فسرت النفخة حتى انتهت إلى رحمها، وقال الله: كن يا عيسى فكان، وفي ساعة واحدة جاءها المخاض يهزها، والطلق يدفعها إلى النخلة لتلد عندها، فلا عام ولا تسعة أشهر أبداً، بل كان بكلمة التكوين، وعيسى ابن مريم هو آخر أنبياء بني إسرائيل، وآخر رسلهم.قال: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:87] أي: الدلائل .. البراهين .. الحجج .. المعجزات، فكل ما يبين الطريق إلى الله أعطاه الله لعيسى، فمن أراد أن يدخل دار السلام فليمش وراء عيسى، فقد أعطاه الله البينات .. المعجزات .. الحجج .. البراهين، ومنها: أنه يحيي الموتى بإذن الله.ومن الروايات في ذلك: أن ولداً مات وحمل على النعش، فكانت الأم تصرخ، والناس في طريقهم إلى المقبرة فقالت: يا روح الله! ادع الله لي أن يرد عليَّ ولدي. فدعا الله وقال: يا فلان! تعال لأمك. فقام في النعش، وأزال الغطاء، وهبط ومشى مع والدته. فقال اليهود: هذه مؤامرة. فقد تآمرت هذه العجوز مع عيسى وقالت له: تعال في الطريق، وأنا أصرخ بك، وأنت قل له: اهبط واحيا فهو يحيا.

الكفار يقلبون الحقائق

أتعرفون قلب الحقائق؟!والعرب قد بلغوا المنتهى في طريق المكر والحيل، لكن الله أخبر بنفسه: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ... [المائدة:110]. أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد نادى من نادى في المقبرة وأجابه حياً.والشاهد عندنا في قوله: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:87] أن اليهود قالوا: بسحر ابن مريم، وأنه ابن زنا .. وليس له أب و.. ، مع أنهم يشاهدون الآيات. فلا تتألم يا رسولنا من كفر اليهود، وهذه هي حالهم مع نبي من آبائهم .. نبي من أهلهم .. نبي بعث فيهم، فرسول الله عيسى قالوا فيه: ساحر .. دجال .. ابن زنا، وقالوا وقالوا، فكيف يؤمنون بك يا محمد؟ وهذا كله يسلي به الله، ويسري به عن نبيه من آلامه وحزنه، وقد كان عمر وغيره من أصحاب رسول الله يعجبون: كيف أن اليهود لا يؤمنون بمحمد والإسلام؛ فهم أهل كتاب يقرءون التوراة، ويعرفون كل شيء، ويؤمنون بالله ولقائه؟! والله كانوا يعجبون. أما قرأنا: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] أي: فكيف تحزن أيها المؤمن من عدم إيمان هذه الأمة التي هذه صفاتها؟!وفي قوله: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ سؤال: هل بعث رسول من الله واستجاب له اليهود مع التقفية بالرسل؟الجواب: أما على عهد داود وسليمان فقد استجابوا لكن بالهراوة والحديد والنار، فالجن أخضعهم الله لداود ولسليمان. أما اليهود فكانوا يقولون: آمنا. ولكنهم في البيوت يضحكون ويسخرون، وقد قالوا في سليمان: إنه ساحر.فإن قيل لهم: إن سليمان قد أعطاه الله ما لم يعط غيره، فقد سخر الله له الجن يستخدمهم في الصناعة، وفي غوص البحر واستخراج اللآلئ .. وفي كذا وكذا، فما زالوا يقولون: ساحر، وليس برسول. وإلى الآن يقولون: سليمان ساحر، هو منا نعم، ولكنه كان يستعمل السحر، ولهذا هم الآن ينشرون السحر، ووالله لقد وصلوا إلى المدينة، وبلغنا أن بعض السحرة تحاول الهيئة أن تلقي القبض عليهم لكنهم كالشياطين يتلونون، وكل سحر في العالم لا بد أن تجد فيه أصابع اليهود، فهم الذين صنعوه، وقد برزوا في هذا الباب، حتى سحروا النبي صلى الله عليه وسلم، ووجد السحر عند بئر ذروان حتى أصبح الرسول يتكلم بالكلمة ولا يفهم ما يقول، فظل يوماً .. يومين في حيرة، قد سحره لبيد ببناته الشيطانيات.إذاً: اليهود كلما جاءهم رسول كفروا به، وهكذا هم، فقط لا يريدون إلا الدينار، والدرهم، والشهوة، وهذا هو مبدؤهم وما هم عليه، فهم الذين نشروا أنواع الشر والباطل في العالم.أتعرفون أوروبا أو لا؟ لقد شاهدت بعيني امرأة الحاكم الفرنسي لما يأتي إلى القرية والله كان على وجهها هذا الخمار الخفيف الذي عندنا، وتستحي. ومن ثم انسلخت الأوروبيات، وخرجن عاهرات كاشفات! والله إن اليهود هم وراء كل خراب في العالم؛ لأنهم يريدون أن يصلوا إلى هدف عال، وهو أن يحكموا العالم، والطريق أن يفسدوا الأديان، والأخلاق، والآداب، والكمالات الروحية؛ لتصبح البشرية لا همَّ لها إلا الفروج والرقص والطعام، ومن ثَمَّ يسوقونهم لأن المال بأيديهم.وقد نجحوا في ذلك، وما زالوا حتى تظهر أنوار الإسلام ويطأطئ العالم رأسه.

تأييد الله لعيسى بجبريل

ثم قال: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87] روح القدس هو جبريل فهو إلى جنبه يسترشده .. يبين له .. يعين له ما يقول .. يشفع له عند الله، فلا يفارقه تأييداً؛ لأنه وحده، فاليهود كلهم أعداؤه، فعيسى كان يعيش مع والدته، ومجموعة من الحواريين على رءوس الأصابع، وبعد ذلك اضطروا إلى الجبال وهربوا، فأيد الله عيسى بسيد الملائكة .. بجبريل عليه السلام .. بروح القدس.كان حسان بن ثابت شاعر الدعوة .. شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون واليهود يهجون النبي صلى الله عليه وسلم، فمن يدافع عن رسول الله؟! كان حسان بن ثابت يهاجم الشعراء المجرمين والرسول يقول: ( اهجهم، ومعك روح القدس ). فنبينا أيده الله بـحسان ، وحسان أيده الله بجبريل؛ روح القدس.

موقف اليهود من الرسل

وكل هذه الآيات يذكرها الله تعالى من باب كشف عورات اليهود، وإزاحة الستار عن أمراضهم وأسقامهم ومحنهم لعلهم يرجعون، وهذا هو السر، فهو لا يريد التعيير والانتقام منهم، ولو أراد أن ينتقم لمسخهم قردة وخنازير كما فعل بأسلافهم على ساحل البحر، ولكن رجاء أن يهتدوا لتقوم الحجة عليهم بهذه البينات.ثم قال لهم: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ [البقرة:87] أي: كلما جاءهم رسول بما لا تحبه أنفسهم كأن يأمرهم بالتقوى، والصبر، والصلاة فالكبر سبيلهم، فإذا جاءهم بما لا تهوى أنفسهم أي: بالأمر بالصلاة، والطهر، والصفاء، والعدل، والرحمة، ففريقاً كذبوه وفريقاً يذبحونه.ولم ما قال: ففريقاً كذبتم وفريقاً قتلتم، إنما قال: تَقْتُلُونَ [البقرة:87]؟الجواب: لأنهم ما زالوا مستعدين للقتل، فلو يبعث الله ألف رسول فإنهم يحاولون قتله، والبرهنة على هذا أنهم حاولوا قتل نبينا صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، فمرة سقوه السم بالفعل، ومرة سحروه، ومرة تآمروا على قتله بأن يطلقوا عليه صخرة رحى من السطح على رأسه وهو جالس تحت الأرض، وهذا يعتبر في مقام القتل، فلهذا نحن لا ننكر أن اليهود أرادوا قتلوا نبينا، ولكن الله ما مكنهم.أما السحر فقد أخبر الرسول عنه وقال: ( هذه أكلة فلانة في خيبر، تكاد تعمل في أبهري كذا ) الحديث.والشاهد عندنا، انظر ماذا يقول تعالى عنهم: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ [البقرة:87] والآن العرب والمسلمون إذا جاء الحاكم بغير ما يهوون تجدهم يقومون عليه بانقلاب في الليل ويقولون: كيف يأمر بالصلاة والزكاة والمعروف؟ وقد فعلوا وإن كنا لا نسمي، فقد ظهر حاكم في يوم من الأيام ودعا إلى الإسلام والصلاة .. وما شعرنا إلا وقد قلبوا عصاه، وجعلوه بهلولاً في الشوارع، لا يعرف الحق من الباطل؛ لأنهم ألفوا الرقص، والعبث، والحرام، واللهو، فهم لا يريدون إسلاماً أبداً، وهذا طبع من يألف الشر والمنكر فيصبح وصفاً لازماً له، فلا يرضى بما يقوله العلماء، فإذا جاء العالم إلى بلدهم يأمرهم بالتوحيد يقولون: هذا وهابي، ويعلنون الحرب عليه في أي بلد إسلامي.وفي بداية الدعوة الإصلاحية كان الذي يدعو إلى التوحيد يقولون عنه: هذا وهابي ويلعنونه. لكن لما انتشرت الدعوة بوسائط جعلها الله من: ظهور الإذاعة، وانتشار الكتاب، واستقلال العرب والمسلمين، وتطور الاتصالات زالت تلك الأوهام والخرافات.وعندن هنا العقبي مات وما زالوا يقولون عنه: إنه وهابي. والعوام يحكون فقط، يقولون: هذا مذهب وهابي خامس.وهنا حكاية: فعندما كنا أطفالاً ندرس في الكُتَّاب، ولما بدأت الدعوة جاء بعض الإخوان من الحج ومعهم كتاب للشيخ محمد بن عبد الوهاب تغمده الله برحمته الذي يسمى الأصول الثلاثة، وهي رُسيلة صغيرة يفهمها العامي والطالب، فيها ثلاثة أصول ينجو بها صاحبها من الشرك والخرافة والضلالة.فأحد أقربائنا كان في العاصمة فجاء بهذه الرسالة ووزعت، بل وطبعت في مطبعة في الجزائر. فقدمتها للشيخ الذي نتعلم عنده القرآن، رحمة الله عليه، فتصفحها وقلبها ونظر فيها ثم قال: يا أبا بكر ! هذه الرسالة طيبة .. وهي حق، ولكن صاحبها يقولون عنه: إنه صاحب مذهب وهابي خامس. والله كما تسمعون!إذاً ما الفرق بيننا وبين بني إسرائيل؟ ولو كانت فيها مدائح وقصائد وأباطيل وو .. لغنينا بها، أما أن تحمل لا إله إلا الله والتوحيد فلا وألف لا.المهم نستغفر الله لنا ولهم ولسائر المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-16, 05:42 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (67)
الحلقة (74)



تفسير سورة البقرة (37)

ما أتعس الإنسان الذي يرى النور والهدى فيغطي عينيه وقلبه، وما أضلّه حين يبحث عن الأعذار الواهية، هكذا كان اليهود، يعتذرون بصمم قلوبهم، فكانت عاقبتهم اللعنة، لم لا، وهم يجدون القرآن مصدقاً لما عندهم من الحق. لم لا، وهم يعرفون رسول الله أكثر من أبنائهم. لم لا، وهم كانوا يستفتحون قتالهم بذكره ونبوته، وبدل أن يسارعوا إلى الإيمان بعد هذا كله إذا بهم يكفرون ويجحدون ويعرضون.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة:88-90] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال الحديث عن بني إسرائيل الذين كانوا يسكنون هذه المدينة الطيبة المباركة، والقرآن كتاب هداية وإصلاح، فلهذا إذا ذم الله عز وجل خُلق إنسان فهو مذموم في كل إنسان، وإذا أثنى الله على خُلق إنسان فهو أيضاً محمود في كل إنسان، فالقرآن كتاب هداية وإصلاح للبشرية عامة؛ لأن المنزل عليه والمبعوث به أرسله الله إلى الناس عامة كافة، وحسبنا أن نقرأ قول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] فلا يفهمن فاهم، ولا يقولن قائل: هذا نزل في بني فلان، أو نزل في فلان ونحن لا علاقة لنا بذلك، فهذه النظرية باطلة، وقد اعتنقها وقال بها من سبقنا من علمائنا ممن هبطوا وأصبحوا يقرءون القرآن كأنما يقرءون على الموتى، ولا علاقة للأحياء به، وهذا خطأ كبير، وله ظروفه وعوامله وأسبابه، والحمد لله أن فتح الله علينا، وعرفنا أن هذا الكتاب كتاب هداية وإصلاح لكل البشرية.

معنى قوله تعالى: (قلوبنا غلف )

قال تعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] وقرأ ابن عباس : (غُلُفْ). والمعنى إما أنهم قالوا: قلوبنا مملوءة بالعلم والمعرفة، قلوبنا أوعية مملوءة تفيض بالمعارف، فلسنا في حاجة إلى ما يقوله هذا الرسول. ومعنى هذا: أنهم يريدون التخلص .. التنحي .. البعد من القرآن الكريم؛ ليبقوا على كفرهم والعياذ بالله تعالى.وقطعاً أن الذين يقولون هذا هم علماؤهم .. أحبارهم .. رجال الدين عندهم والعلم، أما العوام فهم يساقون كالبهائم، لا يستطيعون أن يستقلوا برأي ولا بفهم. وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] وقد فسر هذا بمعنيين: إما أنها في أغطية وأغشية لا تستطيع أن تسمع ما تقول ولا تفهم، فلا تتعب نفسك يا محمد.أو أنهم يقولون: قلوبنا ملأى بالعلوم والمعارف قد ورثناها عن آبائنا وأسلافنا، وهذا كتاب الله بين أيدينا فلسنا في حاجة إلى أن نسمع لك أو نأخذ عنك. وعلى كلا الحالين هم لا يريدون الإسلام بل يريدون البقاء على اليهودية والبدعة التي ابتدعوها، والله ما جعل يهودية ولا نصرانية، فقد قالوا هذه القولة فرد الله تعالى عليهم بقوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] فكلمة يهودية .. نصرانية بدعة ابتدعها اليهود والنصارى، أما الله فما شرع يهودية ولا نصرانية قط.فهم يتهربون بقولهم: إن قلوبنا عليها أغطية وأغشية لا تستطيع أن تصل إليها يا محمد بكلامك، وقد يقول هذا عالم، ويقول الآخر: لسنا في حاجة إلى ما تقول، فقلوبنا ملأى بالعلوم والمعارف ورثناها عن الأنبياء من بني إسرائيل، ومعنى هذا: اصرف عنا وجهك، ولا توجه إلينا هذا الكلام. وكل هذا من أجل الحفاظ على ملتهم الهابطة الباطلة، ولتبقى اليهودية اللعينة، ويبقى لهم ما ادعوه من أنهم شعب الله المختار.وقد علم المستمعون والمستمعات القضية التي ما زلت أعيدها تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين: وهي أنهم مصممون على عودة مملكة بني إسرائيل، وهذه هي الحقيقة، فقالوا: إن نحن دخلنا في الإسلام ذبنا فيه، وما بقي لنا وجود، وهو كذلك؛ فالإسلام من دخل فيه انتهت عنصريته ووطنه وكل ذلك، فهو مسلم أبيض .. أسود .. طويل .. قصير .. عربي .. عجمي .. شريف .. وضيعمسلم: أي: أسلمت قلبي ووجهي لله، فإذا أمرني أن أصوم صمت، وإذا أمرني أن أفطر أفطرت، وإذا أمرني أن أسكت سكت الدهر كله، وإذا أمرني أن أتكلم تكلمت لأني عبده، فقد أسلمت له قلبي ووجهي: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] فللهروب من هذه الحقيقة أخذوا يصطنعون الدعاوى والأباطيل، وهم في حقيقة أمرهم يريدون أن يعيدوا مملكة بني إسرائيل، إذ لو قبلوا الإسلام ودخلوا فيه ما بقيت مملكة ولا ملك لبني إسرائيل.فإن قيل: هل هناك من برهنة أو تدليل على هذه الحقيقة؟الجواب: الواقع أكبر دليل، أما كونوا دولة إسرائيل، وأوجدت في قلب العالم الإسلامي .. في أرض القدس .. في المسجد الأقصى؟فإن قيل: ولم -إذاً- ما قالوا: مملكة، وقالوا: دولة إسرائيل؟قلنا: لم يقولوا: مملكة؛ حتى يتحقق لهم الأمل يوم يحكمون العرب من النيل إلى الفرات، فيومئذ يعلنون عن مملكة إسرائيل، ومنذ سنوات كان معنا طالب استشهد في الأفغان من الصالحين المربين، وبأذنه سمع موشي ديان وقد قام خطيباً في المجلس اليهودي، فلما خطب بهر السامعين من رجال اليهود، فقام أحدهم وقال: أنت الملك .. أنت .. فقال: اسكت اسكت، لم يحن الوقت بعد. لا تقل: ملك ولا مملكة. لكن ذلك يوم يحكمون من النيل إلى الفرات، وهذه خطوة أولى فقط، فمملكتهم إمبراطورية عالمية، وسليمان عليه السلام قد حكم العالم الموجود يومئذ من الشرق إلى الغرب كـالإسكندر .فهذا الأمل يعملون له الليل والنهار، وقد مشوا فيه خطوات عجيبة فتحقق لهم وجود دولة إسرائيل ولم يكتمل بعد حتى يطلق عليها مملكة بني إسرائيل، فلهذا فاوضوهم .. صالحوهم .. ادخلوا معهم في ما شئتم، فلن تنتفعوا قط لما يحملونه من أمل في إعادة مملكة بني إسرائيل.والحمد لله من عشرات السنين ونحن في الدرس نقول للعرب: تفاوضوا معهم .. صالحوهم .. خذوا فرصة على الأقل تزيلوا آلامكم وأتعابكم، ويأمن إخوانكم، فإن اليهود لن يستمروا على مصالحة، ولا عهد، ولا عقد، فكلما عاهدوا عهداً نقضوه، فخذوا فقط فرصة حتى يلتئم إخوانكم، وتعالج جراحاتهم، وإذا تقويتم، واتفقتم، وسدتم فسوف تقاتلون، لكنهم يقولون: لا، هم الذين يقاتلون. فيضحك العرب، فهم لا يفهمون هذا. وهذا شأن من يعرض عن كتاب الله عز وجل، ويصبح أجهل الخلق.

معنى قوله تعالى: (بل لعنهم الله بكفرهم)

قال الله تعالى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:88] ليس الأمر كما يقولون، وإنما طبع الله على قلوبهم بسبب كفرهم، فأبعدهم عن الرحمة .. أبعدهم عن ساحة الخير .. أبعدهم من أن يدخلوا في رحمة الله، ويصبحوا أولياء مع المسلمين والمسلمات، وهذا هو السر، فليس السبب أن قلوبهم غلف، بل السبب أن الله لعنهم بسبب كفرهم، وعنادهم، ومكرهم، فطبع على قلوبهم فهم لا يؤمنون.

معنى قوله تعالى: (فقليلاً ما يؤمنون)

قال: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88] إما أن تقول: الإيمان القليل هو إيمانهم بالله عز وجل أو إيمانهم بالبعث الآخر، أو إيمانهم برسل الله على التخير والاختيار، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، أو قل: قليلاً من يؤمن بالرسل، فالذين آمنوا ودخلوا في الإسلام عدد لا يزيد عن العشرة وإن صاروا عشرين، وهم يعرفون معرفة حقيقية، ورضي الله عن عبد الله بن سلام وأخيه، فهم مجموعة قليلة وهم كذلك إلى الآن.أما النصارى فيدخلون في الإسلام، والله لو وجدوا دعاة حق وعليهم النور لدخل الناس في دين الله أفواجاً، لكن اليهود تمضي مائة سنة ولا يدخل واحد في الإسلام، ومع أنهم يفهمون لغة الإسلام فإنهم لا يدخلون؛ لأنهم يريدون إعادة مملكتهم، وإعادة مجدهم، وأنى لهم ذلك، فهذا من باب المستحيل، وقد لعنهم الله، وأخزاهم، وأذلهم إلى يوم القيامة.
ظهور دولة بني إسرائيل من جديد

أما إن قال قائل: هاهم ظهروا من جديد وسادوا وحكموا في مكان ما؟فالجواب: أما قال تعالى وقوله الحق: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:163-167]، فهنا أعلم الله عز وجل: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ [الأعراف:167] يا رسول الله، أعلم بماذا؟ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] فمن قال: هاهم قد ارتفعوا نقول له: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112].والشاهد عندنا في حبل الله أن يدخلوا في الإسلام، وحبل الناس أن يتفقوا مع دولة كبيرة كبريطانيا أو فرنسا فتؤمنهم، وهذا الذي حصل، فما أقاموا دولة إسرائيل إلا بالمعاهدات التي كانت تربطهم ببريطانيا، وفرنسا، وأوروبا وأمريكا، ولو أن الأوربيين والأمريكان يتخلون عن اليهود ساعة واحدة للصقوا بالأرض. إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112] والحبل هو ما به يربط العهد والميثاق: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112].فإن قال قائل: إن الله تعالى يقول: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] أليس كذلك؟ فها هم قد حكموا وسادوا ورفعت الذلة عنهم، فما هو الجواب؟الجواب: قول الله تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وحبل الله هو الإسلام، فلو دخلوا في الإسلام ما بقي ذل، ولا هون، ولا دون، ونجوا، لكنهم ما دخلوا في الإسلام، ومع ذلك عزوا في هذه الأيام بسبب حبل من الناس، فبريطانيا هي التي شجعتهم وقوتهم، وأتت بهم وساعدتهم، وأعطتهم دولة إسرائيل، وأوروبا الآن كلها تدين لهم، وهي خاضعة لسلطانهم، وأمريكا فوق ذلك؛ لأنهم ملكوا قلوب الرجال، وتسلطوا عليهم بالأموال، وسادوا العالم بالمال، فهذا حبل قوي، فقولوا: صدق الله العظيم، آمنا بالله .. آمنا بالله.ولو تكتشف أمريكا مؤامرة يهودية لنسفها وتدميرها فإنها سترفع يدها وتلعنهم، وتلعنهم كذلك أوروبا فوالله سيصبحون أذل الخلق، ولن يستطيعوا أن يثبتوا وجودهم وعزهم كما هم اليوم، فقط لو يتمزق هذا الحبل، ونحن ننتظر تمزقه، وذلك عندما يستقيم أمر المسلمين، ويعودون إلى الله عز وجل.فلهذا لما ترفع القضايا إلى الأمم المتحدة، وتجد العجب من الناس بمناشدتهم أمريكا .. أمريكا، والصحيح أن يقولوا: يا ألله! يا ألله! ولا يقولوا: أمريكا. فيا ألله! لو أن المسلمين عادوا إلى الطريق المستقيم، وأسلموا حق الإسلام والله لتتخلين عنهم أمريكا وأوروبا. وإنما هي أسباب، كأن يكتشفوا مؤامرة أن اليهود يريدون أن ينسفوا أوروبا، فإذا تخلت عنهم أوروبا وأمريكا فمن لهم؟! قد وقعوا بين أيدي المسلمين أذلاء، مهانين، مداسين بالنعال.هل عرفتم هذه القضية السياسية المحضة؟فالله عز وجل يخبرنا في سورة الأعراف فيقول: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ [الأعراف:167] يا رسولنا لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] ومعنى سوم العذاب: ألوان العذاب.فإن قال قائل: ها هم أعزة، فأين وعد الله؟ لم ما نفذه الآن؟الجواب: أنسيت قوله من سورة آل عمران: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112] ووجدوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112] فهذه الآية مخصصة لعموم آية الأعراف ولا نقول: ناسخة، فهي مخصصة لذلك العموم وهو: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ فيرفع الذل والمسكنة عليهم، وحبل الله هو وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] ألا إنه الإسلام الحق، فلو دخل اليهود في الإسلام لأصبحوا أطهاراً، أصفياء .. لله أولياء .. سادة العالم، لأنهم أبناء الأنبياء وأولاد المرسلين، لكن هذا الحبل رفضوه .. مزقوه .. حاربوه، وأعلنوا الحرب عليه منذ أن بعث رسول الله إلى اليوم؛ كل ذلك خشية أن يذوبوا في نور الإسلام، وينتهي أمر وجود بني إسرائيل.يا أيها المستمعون! اليهود يحاربون الإسلام خشية أن يذوبوا فيه، ويعلِّمون أطفالهم، والله لكتب اللغة عندهم ككتب اللغة عندنا، من القاموس وغيره، فيأتون بعبارات تهاجم الإسلام والمسلمين، وتحذر اليهودي واليهودية من قبول هذه الملة أو الرضا بها أو السكوت عنها، فإنها تقضي على وجود بني إسرائيل.وكتبنا مرة رسالة في هذا الباب، فكتب اللغة عندهم إذا ذكروا محمداً أو أحمد أو إسلام يأخذون في شرحها والتنكير لها، وتقبيحها، وتحذير بني إسرائيل منها.إذاً: حبل الناس موجود، وسبب وجوده: فسقنا .. فجورنا .. جهلنا .. ضلالنا .. هبوطنا .. تمزقنا فهو الذي أوجد الحبل. أرأيتم لو كنا كما كنا في القرون الذهبية أمة واحدة، فلا حزبية، ولا فرقة، ولا انقسام، ولا تشتت، فقط مسلم، وأمرنا واحد: لا إله إلا الله، ونحن على ذلك ثلاثمائة سنة، فهل يستطيعون أن يوجدوا حبلاً يربطهم أو يشد من أعصابهم؟ لا يستطيعون، لكن لما تعاونوا علينا فضللونا، وجهلونا، وأبعدونا عن نصر الله ورحمته، وأصبحنا بدل الدولة دويلات، وبدل الأمة أمما، وبدل المذهب الواحد مذاهب.ويكفي أن القرآن يقرأ على الموتى، فالروح الذي فيه الحياة صرفناه إلى الموتى، وحرمنا منه الأحياء، والسنة لا تقول: قال الرسول! اسكت، قل: قال سيدي فلان، وقال الشيخ الفلاني.فمن هم الذين أعطوا اليهود حبلاً متيناً وخنقونا به؟ إنهم نحن وبأيدينا.لكن متى يتمزق هذا الحبل؟ ومتى تتنكر أوروبا لليهود كما تنكر هتلر ؟هذا ضربنا به مثل، فهتلر غضب على اليهود وأذلهم، وقتل منهم الآلاف لما أراد الله ذلك، فلو أن المسلمين فزعوا إلى الله عز وجل ولاذوا بجنابه، وعادوا إلى طريقه المستقيم لكانت مؤامرة تظهر في العالم ضد أمريكا سببها اليهود، فيقضون على اليهود.كذلك أوروبا لو اكتشفت أن اليهود يعدون حرباً ذرية للقضاء على أوروبا، وتظهر البينات، فإن أوروبا سيطاردون اليهود ويذبحونهم، ويقلونهم في الزيت كما كانوا يفعلون معهم، وينتهي أمر اليهود، لكن لن يكون هذا حتى توجد أمة الإسلام، وتستحق ولاية الله عز وجل، فالقضية -إذاً- بأيدينا، والله أعطانا هذا، فإن شئنا قوينا اليهود وورثناهم وملكناهم، وإن شئنا أذللناهم وأهناهم، فالأمر جعله الله في أيدينا، الحمد لله.هذه نعمة الإسلام .. أنوار الإسلام .. بركة الإسلام الذي جهلناه، وحاربناه في أنفسنا وفي بيوتنا وأسرنا وفي ديارنا. وسنفيق متى يأذن الله عز وجل.قول ربنا عز وجل وهو يقول لرسوله ولنا: وَقَالُوا أي: اليهود قُلُوبُنَا غُلْفٌ قال تعالى: لا، بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:88] فليس في قلوبهم العلم الفياض الزائد عن الحاجة، وليست قلوبهم مربوطة ومغشى عليها، وإنما القضية هي أن الله لعنهم فطبع على قلوبهم حتى لا يدخلوا في رحمة الله، بل طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون. قال: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ وبناءً على هذا: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88] أي: قليلاً ما يؤمنون بالمعنيين السابق ذكرهما: إما لا يؤمن منهم إلا أفراد قلائل وهذا هو الحق، وإما إيمانهم قليل، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، يؤمنون بالرسالات الإلهية والأنبياء والرسل، لكن كفروا بعيسى، وكفروا بمحمد، وجعلوا سليمان ساحراً، وقتلوا الأنبياء، أو يؤمنون بالبعث الآخر، والدار الآخرة، والجنة والنار، ولكن لا يؤمنون بالعمل لها، وإعداد النفوس طيبة طاهرة لتدخل الجنة وتنجو من النار، فهو إيمان جزئي، بنسبة واحد إلى ألف.
تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ...)

مجيء القرآن مصدقاً لما مع اليهود في كتبهم

قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ [البقرة:89] التنكير في كتاب للتفخيم والتعظيم، فهو كتاب لا يوزن بميزان، وكتابه هذا هو القرآن العظيم. وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:89] فقد جاءهم به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، من عند الله، فقد أوحاه إليه في ثلاث وعشرين سنة، فالوحي ينزل، والقرآن يتوالى حتى كمل، وأصبح كتاب الله في الأرض كما هو في السماء، في اللوح المحفوظ، عدد سوره مائة وأربعة عشر سورة، فيها ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، وأما كلماته فعشرات الآلاف، فهذا كله كلام الله، جاءهم من عند الله.قال: مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:89]، ما مع اليهود؟ معهم أن الله لا إله إلا هو، ولا رب سواه .. أن الله عز وجل أعد دار النعيم لأوليائه، ودار العذاب لأعدائه، فهذا الكتاب فيه الدعوة إلى الإخاء .. إلى المودة .. إلى الصدق .. إلى العدل .. إلى الرحمة .. إلى .. وما معهم من عقائد سليمة صحيحة بقيت في التوراة إلا جاء بها القرآن، ما تنافى معها ولا أبطلها أبداً، بل صدقها، وما ابتكروه واخترعوه ولفقوا به وشرحوا به التوراة وأضافوا إليها فالقرآن بريء منه، بل كشف الباطل وأبانه للناس. وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ عظيم مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ أي: لما في التوراة من أصول الإيمان وحقائق الدين.

اليهود يستفتحون على العرب قبل الإسلام

قال: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ [البقرة:89] أي: من قبل أن يأتيهم الكتاب العظيم وهو القرآن الكريم.وقوله: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ لماذا ( قبلُ ) مرفوعة؟ أليست (مِن) جارة؟ والأصل أن تقول: من قبلِ، فمِن حرف جر؟الجواب: هنا قاعدة خاصة في (قبل وبعد): فإذا ذكر المضاف بعدهما جرتا، فمثلاً نقول: وإن كانوا من قبلِ نزول الوحي، فلا بد أن نقول: من قبلِ، وإذا حذف المضاف، ونوي معناه دون لفظه بنيت قبل وبعد على الرفع، فنقول: وإن كانوا من قبلُ، والمعنى: من قبل وجود الرسول ونزول الوحي.قال: يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89] معنى يستفتحون عليهم: يخبرونهم بالنصر والفتح عليهم، وقد كان اليهود في المدينة إذا غاضبهم العرب أو دخلوا معهم في صراع ولو جدلي يقولون: اسمعوا! إن نبياً قد أظل زمانه، ولاح في الأفق تباشير وجوده، وسوف نؤمن به، وننضم إلى أمته، ونقاتلكم وننتصر عليكم، فانتظروا، ولا تستعجلونا. وكانوا يقولون هذا على علم واعتقاد؛ لأنهم ما تبين لهم أن هذا النبي سيكون من أولاد إسماعيل، وقد كانوا يحلمون أنه يكون منهم.فكان اليهود يقولون: إن نبياً قد أظلنا زمانه وقرب منا، وسوف نؤمن به ونقاتلكم، وننتقم منكم، وأنتم الآن تستضعفوننا لأنا أقلية بينكم، ومحصورين في دياركم، لكن انتظروا يوماً سيأتي يبعث فيه نبي آخر الزمان، ونقاتلكم معه قتال عاد وإرم، فهذا معنى قوله: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ أي: من قبل نزول الوحي المحمدي وبعثة الرسول النبي الأمي، ومعنى يَسْتَفْتِحُونَ : يطلبون الفتح، والفتح هو النصر.وأنتم تعلمون أن فرنسا فتحت ألمانيا، ومعنى فتحتها: أنها دخلت بلادها، وانتصرت عليها.لكن يستفتحون على من؟ قال: عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89] أي: الذين كفروا بالله وبتوحيده، وهم المشركون من كل فئات العرب وقبائلهم، الذين كانوا يعايشونهم ويعيشون معهم قبل البعثة المحمدية.والعرب كانوا قد كفروا، فما كانوا كما كانوا على عهد إسماعيل وأحفاده وأولاده، فقد جاءتهم الأصنام والتماثيل فعبدوها، ولعنة الله على عمرو بن لحي فهو الذي جاء بها من الشام.إذاً: فهذا القرآن يسجل كفر العرب قبل الإسلام: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا .

الحسد أورد اليهود مهالك الخزي والهوان

قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة:89] فلما جاء اليهود ما عرفوا وما كانوا ينتظرونه، ووجدوه من أولاد إسماعيل قالوا: لن نؤمن به، فلا ينتقل الشرف من أولاد إسحاق إلى أولاد إسماعيل أبداً.فإن قيل لهم: هؤلاء بنو عمكم؟قالوا: وإن كانوا بني عمنا.وهذا هو الحسد الذي مزقنا كما مزقهم، وشتتنا كما شتتهم، فوالله لولا الحسد لدخل المسلمون كلهم تحت راية لا إله إلا الله، أما يريدون الإسلام؟ فرفعت راية لا إله إلا الله فأصبح كلهم مسلمين، لكن الحسد: كيف يصبح هؤلاء يحكموننا؟!وقد سمعنا مداحاً يمدح: يا سعودي يا يهودي!!لا إله إلا الله، سبحان الله العظيم! الحسد يفعل هكذا؟ نعم.يا شيخ! لا تعجب، أما قتل هابيل قابيل، أخاه ابن أمه وأبيه؟ فقتله الحسد: كيف أنت يقبل الله منك صدقتك وأنا لا يقبلها مني؟ هل أنت أفضل مني؟ هل أنت خيراً مني؟ فقتله.فكذلك اليهود ما منعهم من الدخول في الإسلام إلا الحسد، فالحسد عامل قوي، وها أنتم تعيشون بين إخوانكم في الشرق والغرب حتى أهل البيت الواحد يتحاسدون.وخذوا قاعدة: الحسود لا يسود، وإن ساد اليوم فسوف يتحطم ويذل غداً. ولهذا أنزل الله سورة كاملة يعلمنا فيها كيف نتعوذ من الحسد، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5].

قراءة سورة الفلق تمنع الحسد بإذن الله

أيها المستمعون! هل لكم في فائدة عظيمة خير لكم من أن تعودوا إلى بلادكم بشيك فيه خمسمائة مليون دولار أمريكي؟! وهذا فيما أظن هو أغلى شيء هذه الأيام.إن أولي النهى والبصائر -والله- ليفرحون بهذه الفائدة كفرحنا بالبقلاوة والدجاج المشوي والشاي الأخضر و.. أو أشد.لما سُحِر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وقد سحره حاسده اليهودي لبيد بن الأعصم عليه لعائن الله وبناته شيطانات السحر، وقد قلت لكم: إن السحر موجود في المدينة، ونعجب لوجوده؛ لأن الساحر يقتل حيث بان سحره، ولكن لمكرهم ما استطاعت الهيئة أن تعثر عليهم، فهم يهاجمون البيوت ولا يعرفون. فاليهود هم الذي ينشرون السحر في العالم، وهم ممتازون في هذا الباب.فلما سحر النبي صلى الله عليه وسلم وتأثر به عدة أيام والله عاصمه، أنزل الله هذه السورة: الفلق، فما تعوذ متعوذ بمثلها قط، وهذه السورة ما إن تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ذاب ذلك السحر والحسد، وهي خمس آيات.قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] رب الفلق هو الذي يفلق رءوس اليهودي، ويسلطنا عليهم عما قريب، وذلك لما نسلم.فالله يفلق الظلام الدامس فيفجر منه الضياء، وإذا الأنوار تلح، والأضواء في الشرق والغرب.ومن رب الفلق؟ الله. ولو اجتمع العالم كله على أن يستعجلوا الليل بساعتين قبل انقضائه فيفجرون الفجر لا يستطيعون، فرب الفلق هو الله.فهذا المتعوذ قد تحصن بالله، والذي يقوى على هذا الكون يستطيع أن يحفظك إذا لذت بجنابه، واحتميت بالإيمان.قال: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2] هل الله تعالى يخلق الشر؟ نعم الله يخلق الشر والخير، أما خلق النار والجنة؟! أما خلق الظمأ والعطش والري وو؟! فهو خالق كل شيء لحكم عالية. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ من الشرور.قال: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] أي: إذا كان القمر في السماء فإنه يضيء المنطقة أو البلد، وإذا به يغيب ويحل محله الظلام، فأتيحت الفرصة للسراق، والمجرمين، واللصوص، والحيات، والعقارب، والثعابين في الظلام، وهنا عليك أن تفزع إلى الله، فتتعوذ من شر غاسق إذا وقب.وهنا فائدة يذكرها بعض أهل التفسير من السلف فيقولون: إن هذا يشمل أيضاً إذا انتصب ذكر الفحل وحينئذ عليه أن يستعيذ بالله منه، فقد يوقعه في معصية الله، وإذا هاجت الغريزة والشهوة وانتصب ذكر الفحل ففي هذه الحال عليه أن يفزع إلى الله وإلا حمله على الفسق، ومن هنا استعذ بالله دائماً بهذه السورة: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3].قال: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] والنفاثات هن الساحرات اللاتي ينفثن في العقد والخيوط بتعليم شياطين السحر لذلك، والنفاثات جمع نفاثة، فتجدها تعقد العقدة وتنفخ فيها وتقول كلمات الكفر، والشيطان يقويها، وتسحر بها من شاءت، إلا من عصمه الله، وقد سُحر حتى نبي الأنبياء ورسول المرسلين.قال: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] فهذه خمس آيات أنزلها الله لعباده المؤمنين من أجل أن يستعيذوا بربهم من هذه الشرور العامة، الطامة، الهالكة، المهلكة.

ما يمنع العين

إذا رأيتَ عائناً يحمل السم في عينيه، فالله هو الذي خلق ذلك فيه كما خلق السم في العقرب والأفعى، فالعقرب ليست هي التي أوجدت سمها، بل هو الله الذي أوجده بتدبيره وقضائه في خلقه، فإذا وجد شخص في القرية .. في المدينة .. في الفصل .. في المسجد عنده هذا المرض، فنقول له: يا عبد الله! كف أذاك وشرك عن عباد الله. فإن قال: لا أستطيع؟ نقول له: لا، خذ هذا الدواء، فإذا نظرت إلى شيء وأعجبك فقل: تبارك الله .. ما شاء الله. وهنا سمك لا يتحرك، ولا ينطلق، ولا ينفع شيئاً، قال تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39] فعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أعجبه شيء ولو كان طفلاً رضيعاً .. ولو مشيك .. ولو عمامتك على رأسك، فعليه أن يبادر إلى هذه الكلمة فيقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، تبارك الله! فلا يصل إلى ذلك الشيء المعجب به شيء، فقد أمن.فيا عباد الله! من أعجبه شيء مثل: بناية .. سيارة .. أكلة لذيذة .. شخص جميل .. كذا، فليبادر بكلمة: تبارك الله .. ما شاء الله، ويضع سداً مانعاً لا يصل إليه حسده.وهل هذا العلاج يوجد عند غيرنا؟ والله لا يوجد، ولكننا ما طلبناه .. ما سألنا عنه وما عرفناه، فألف مليون لا يعرف هذا! ممكن مليون من الألف مليون؛ لأنهم لا يجتمعون على كتاب الله.إذاً من أعجبه شيء فليبرك وليقل: ما شاء الله، ولا يضره حينئذ شيء، فيأمن.الحمد لله أنّى ما خلقت هذا في عيني، بل الله خلقه، فلله الحمد والمنة، وحتى لا يعذبني أعطاني هذه المناعة، فقل: تبارك الله ما شاء الله! لن يضر أخاك شيئاً.فمن هنا إذا وجدت حاسداً ورأيته لم يترك، وخفت من بلائه وعذابه فإنك تقرأ هذه السورة: بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5] ولن يضرك، فهو لو استعمل هذه المناعة لانتهينا، لكن أكثرهم لا يستعملها.وكنا نعرف في القرى: فلاناً معيان، فإما أن تمر بغنمك وإلا عليك أن تذهب بعيداً. فما عندنا المناعة.أما الآن فقد أعطانا الله المناعة بأن نقول: تبارك الله .. ما شاء الله.ونحن إذا ما قالوها نقرأ هذه السورة، فكان المؤمنون والمؤمنات يتحصنون بها من أذى الحسدة إذا شاهدوهم.إذاً: مضى زمان ونسي المسلمون هذه المناعة مع أنها خمس آيات، لكن الكسل والعجز بدل ما يقرأ هذه السورة تجده يقول: خمسة في عينيك، فمن التعب لا يقول: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] ويقرأها كاملة بل يقول: خمسة في عينيك. فمضت قرون، ونسوا أن هذه الآيات الخمس هي التي تدفع الحسد، وظنوا أنها الأصابع، فيقولون: خمسة في عينيك.وجاءت أيام فمن التعب صوّروا الكف فقط عند باب البيت أو وراء السيارة، فما تتعب حتى تقول: خمسة، اجعلها صورة، وقد وجدت هذه الكف في أمام المنازل الجميلة، وفي السيارات لتدفع الحسد .. لتدفع العين، وهي والله لا تدفع أبداً، والذي يدفع هو أن تقرأ الخمس الآيات إيماناً ورجاءً في الله أن يدفع عنك العين والحاسد بهذه الآيات، لكن كونك من الكسل تقول هكذا، ولا تقرأ فلا تنتفع، حتى ولو كنت تعرف أن معناها خمس آيات في عينيك، لكن مع الأسف أنسانا الشيطان هذا كله، وأبقى لنا الأصابع، فإذا قلت هكذا هل يرد العين؟ والله ما يردها.ونتائج كل ذلك أن أمتنا هبطت. أما كانت تستخدم الآيات لصلاحها، فجهلتها وما عرفتها، وأصبحت تشير بالأصابع، وعجزت حتى عن الإشارة بالأصابع فجعلتها صورة في البناء أو في غيره.

معنى قوله تعالى: (فلعنة الله على الكافرين)

قال تعالى: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89] فما قال: فلعنة الله عليهم أي اليهود، لا. لعنة الله على الكافرين من يهود، أو نصارى، أو عرب، أو كل كافر، وهذا من عجائب القرآن، فما قال: لعنة الله عليهم، بل كل كافر؛ لأن لعنة الله كانت من أجل الكفر؛ فإذا كفر الشريف كما يكفر الوضيع فالكل لعنة الله عليه، إذ نسبتنا إلى الله واحدة: عبيد لمالك واحد، وسيد واحد. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-17, 05:45 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (68)
الحلقة (75)



تفسير سورة البقرة (38)

يكشف القرآن عن صفة قبيحة لازمت اليهود، وهي التعصب المطلق، فبدلاً من قبول الحق، وهو الإسلام والقرآن، عاندوا وجحدوا لا لشيء إلا لأن التوراة أنزلت عليهم، وأنها كتابهم، بخلاف القرآن الذي أنزل على غيرهم! وتصرفهم هذا ليس مستغرباً فقد عبدوا عجلاً صنماً رغم معايشتهم لمعجزات موسى، وكان أخذهم للتوراة والتسليم بما فيها بعد أن رفع جبل الطور على رءوسهم، لكن رءوسهم هذه لم تعقل!

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91-93].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال السياق الكريم في الحديث مع بني إسرائيل، وهو حديث التأنيب والتقريع إلى جانب الدعوة إلى الحق والانخراط في سلك المؤمنين، والله يدخل في رحمته من يشاء.فقول ربنا جل ذكره: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ [البقرة:91] القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضوان الله عليهم، إذ هم الذين كانوا مع اليهود في المدينة، وإلى الآن لو قلت ليهودي: آمن بما أنزل الله، فإنه يقول لك: أنا مؤمن بما أنزل الله، أي: بالتوراة، وأنا لست في حاجة إلى غيرها، وإلى أن تقوم القيامة؛ لأن شأنهم واحد .. كلمتهم واحدة .. وجهتهم واحدة، فلهذا تخاطب هذا بما تخاطب به الأولين من أربعة آلاف سنة، وهذا شأن بني إسرائيل.قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [البقرة:91] أي: بالقرآن، وهم يعرفون أن القرآن أنزله الله، ويعرفون أن النبي أمِّي، والأمي أنى له أن يتكلم بالعلوم والمعارف، ثم إن القرآن قد احتوى على ما في التوراة من حقائق الشرع والدين، كالإيمان بالله، ولقائه، والبعث الآخر، والجزاء بالنعيم المقيم والعذاب الأليم، فكل هذا حواه القرآن وهو في التوراة.ولا ننسى أنهم لحسدهم لبني إسماعيل، وللخوف من أن يذوبوا في روح الإسلام كرهوا الإسلام وحاربوه وحاربوا أهله إلى اليوم، وتقدم هذا في السياق الكريم، وكل ذلك بغياً وحسداً من عند أنفسهم: كيف نصبح أتباعاً لولد إسماعيل، ونحن أشرف أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.قال: قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا [البقرة:91] انظر إلى العصبية في قولهم: (علينا) أي: نحن بني إسرائيل، أما عليكم يا أبناء إسماعيل فلا وألف لا. والدين لا يرضى بالعصبية، فالبشرية كلها نسبتها إلى الله واحدة، وهم عبيد لمالك واحد هو الله، والتحيز من اليهود ظاهر: نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا .قال: وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ [البقرة:91] لم ما قال: وكفروا أو ونكفر بما وراءه؟ الجواب: لأن كفرهم مستمر فيقولون هذه الكلمة، ويكفرون بما وراء القرآن.قال: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:91] القرآن حق، ومصدق للذي معهم في التوراة كما قدمنا من عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة .. من وجود عالم شقاء وعالم سعادة .. من التوحيد وألا يعبد إلا الله .. من الإيمان بكتب الله ورسل الله، فهذه كلها موجودة في التوراة.إذاً: كفرهم بالقرآن يلزم منه كفرهم بالتوراة؛ لأن القرآن يقرر ما في التوراة ويثبتها، وهم يقولون: القرآن باطل لا نؤمن به، فإذاً كفروا حتى بالتوراة، وهكذا السيئة تجر سيئة، والخطأ يقود إلى خطأ.قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا فقط وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ [البقرة:91] أي: بما ادعوه أنه أنزل عليهم من التوراة وهو القرآن الكريم، كأنهم قالوا: نكفر بالقرآن، ولا نعترف به، ولا نأخذ به في هدايتنا وصلاحنا.قال: وَهُوَ الْحَقُّ والحال أنه الحق مُصَدِّقًا من ربهم، وكررنا القول في مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ أن الذي معهم في التوراة لا إله إلا الله، وأن الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل مقرر في التوراة .. وأن الإيمان بالبعث الآخر في التوراة .. وأن الحق، والعدل، والخير، والمعروف، والإحسان، والبر كلها موجودة في التوراة، فالقرآن مصدق لما معهم، فالمفروض لا يكفرون به، إذ ما فيه منافاة بين ما يؤمنون به وبالقرآن الذي دعوا إلى الإيمان به، ولو كان هناك تصادم أو تعارض فقد يعذرون، فالقرآن مصدق لما معهم.إذاً: بكّتهم، وأخزهم، وقل لهم: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ [البقرة:91] فهل التوراة فيها الإذن بقتل الأنبياء والعلماء؟ والله ليس فيها، فلم -إذاً- تقتلون الأنبياء، وقد قتلوا زكريا وولده يحيى، وتآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وادعوا أنهم قتلوا عيسى، وبالفعل صلبوا من شبه لهم، بل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في بعض الأيام كانوا يقتلون سبعين نبياً، وفي المساء كانت أسواقهم قائمة للبيع والشراء كأن شيئاً ما وقع. إذاً فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ [البقرة:91] وهم يعترفون بأنهم قتلوا عيسى؛ لأنه ساحر وكذا وكذا، وقتلوا زكريا، وقتلوا يحيى، وقتلوا غيرهم، فهل الإيمان الحق بكتاب الله التوراة النورانية يسمح بقتل الأنبياء؛ إذاً ما أنتم بالمؤمنين بالتوراة، وحقاً هم كفار بالقرآن وبالتوراة؛ لأن إيمانهم صوري، فهم مؤمنون بالتوراة لكن هل صدقتم الله فيما جاء فيها؟ وهل امتثلتم أوامر الله فيها؟ وهل امتثلتم نواهي الله فاجتنبتموها في التوراة؟ إذاً ما معنى هذا الإيمان بالتوراة؟فهذا هو التقريع والتوبيخ، فقل لهم يا رسولنا: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91].
تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات ...)

مجيء موسى بالبينات

هنا الآن جولة أخرى أيضاً مع اليهود، قال تعالى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ [البقرة:92] ولك أن تقول: قل يا رسولنا لهم: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ [البقرة:92] أي: بالمعجزات، ومعجزات موسى عليه السلام تسع آيات.وأولى تلك الآيات أن العصا تستحيل إلى حية تهتز كأنها جان، وأما يوم المباراة العظمى فإن تلك العصا ابتلعت وتلقفت كل ما ألقاه السحرة في تلك الساحة من الثعابين والحيات، فتلقفتها بكاملها، ويده يدخلها في جيبه ويخرجها بيضاء كأنها -والله- فلقة قمر.وأعظم آية شاهدوها في صالحيهم مع فرعون كانت هي انفلاق البحر، وهي كونه يضرب البحر الأحمر بعصاه: باسم الله، فينفلق اثنتي عشرة فلقة، أي: اثني عشر طريقاً، لكل قبيلة تسلك طريقها. فأية آية أعظم من هذه؟والحجر الذي يحملونه معهم يضربه بعصاه فتتفجر منه اثنتا عشرة عيناً حتى لا يصطدم بعضهم ببعض، وكل قبيلة تشرب من عينها الخاصة.فهل هذه الآيات وغيرها جاءتكم فآمنتم؟!وهذا هو التقريع .. التوبيخ.. التأنيب، ولكن من لم يشأ الله هدايته ما اهتدى.

اتخاذ بني إسرائيل للعجل إلهاً

قال تعالى بعد ذلك: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:92] بعدما خرجوا من البحر ونجوا من فرعون وحكمه، ونزلوا بالساحل، استدعي موسى عليه السلام -كما عرفتم- إلى جبل الطور لمناجاة الله تعالى، بل ذهب ليأتي بالدستور الذي يحكم به بني إسرائيل.وهذه الجملة الحمد لله كررناها مئات المرات، لعلها تنقل إلى العرب والمسلمين لكن ليس هناك من ينقل.لما استقل بنو إسرائيل، وقد كانوا محكومين بحكم فرعون دهراً طويلاً، فلما خرج بهم موسى بعد أن ظهر على فرعون وقهره نزلوا على الساحل، فكيف يحكمهم موسى؟ وما هو الدستور، وما هو القانون؟ فقال: اجلسوا أنا أذهب إلى ربي وآتيكم بالدستور.ونحن نقول لإخواننا المسلمين: لما استقل الإقليم الفلاني من هولندا وبريطانيا وفرنسا فهل بلغكم أن إقليماً استقل فقال: يجب علينا أن نطلب دستور الإسلام فنذهب إلى العلماء: يا علماء الأزهر! يا علماء الحرمين! اجتمعوا وضعوا لنا دستوراً، وعجلوا كيف نحكم هذه الأمة .. هذا الشعب؟ هل فعلوا؟ ما فعلوا.إذاً: موسى أذكى منهم، وأعلم منهم، ولكن نحن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بهذا، ولكن إلى الآن ما اجتمع علماء أي بلد وقالوا: لابد من وضع دستور إسلامي، مصدره قال الله وقال رسوله، وما أجمع عليه أئمة الفقه الإسلامي من تلك الزمرة النورانية في العهد السالف، ويحكمون المسلمين بشرع ربهم، فإن افتقروا فهذا الذي أعطاهم .. وإن استغنوا فهذا الذي أعطاهم .. وإن مرضوا وصحوا فيقول لهم: نحن الحاكمين غير مسئولين عنكم، هذا دينكم وشريعتكم، ونحن حكمناكم بها فلا تلومونا، وليس هناك من يلومهم. فسبحان الله! مظهر من مظاهر القرآن الكريم أن يترك موسى بني إسرائيل على الساحل -والخليفة فيهم هارون عليه السلام- ويقول لهم: اجلسوا حتى آتيكم بالدستور.واسمعو قوله تعالى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:92] فما هذا العجل الذي اتخذوه من بعد موسى؟سبق أن عرفنا هذا وكررناه مع المستمعين والمستمعات ونعيد تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين: كان بينهم رجل -وما من حقنا أن نقول: رجل أبداً فهو ممسوخ- هو السامري ، فجاء إلى نساء بني إسرائيل وقال لهن: هذا الحلي الذي عندكن هو حلي القبطيات. ولا يبعد أن نساء بني إسرائيل لما أعلمن بالرحيل والخروج من مصر احتلن على القبطيات الغافلات، واستعرن منهن الحلي من الذهب والفضة، ولما خرجن خرجن بذلك الحلي، واليهود كما تعرفون يحبون الذهب.فـالسامري قال: هذا الحلي لا يحل لكنَّ استعماله، فكيف تستعملن ما حرم الله، فهذا غش وخيانة، وأنصح لكن أن تجمعن هذا الذهب وأحرقه أنا، وتبرأ بذلك ذممكن. وهذا كلام معقول، لكن هو يريد غير هذا، فجمع الحلي وصاغ منه عجلاً -الذي هو ابن البقرة وليس شرطاً أن يكون ثوراً- فصنعه بالصياغة صياغة الذهب، ولما ذهب موسى قال لهم: هذا هو إلهكم وإله موسى، قد نسيه.وانظر إلى بلاهة اليهود وغباوتهم، وإلى الآن كما قلت: فيهم أغبياء العجب؛ كيف قال لهم: هذا هو إلهكم وإله موسى، قد نسيه؟! أما قال تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [طه:89] ولو كان رباً حقاً لسألوه: أنت الله؟ لقال: نعم. أين ذهب موسى؟ ذهب إلينا مثلاً. لكن قبلوا، والتفوا حوله يعبدونه.أما هارون عليه السلام فهو مسئول الخليفة الذي استخلفه فيهم، وقد صاح فيهم: يا عباد الله! لا تكفروا، يا عباد الله! هذه فتنة .. هذا كذا، فكانوا يضحكون، إلا من نجَّى الله عز وجل من ذاك الشعب الذي قوامه ستمائة ألف، وما نجى إلا القليل.فهذا الذي أراده تعالى بقوله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [البقرة:51] أي: اتخذتموه إلهاً، لكن الله ما قال: إلهاً، فهو معروف، وهل يصح أن تقول في العجل: إله؟ والآدمي أو السلطان لا يقال فيه: إله، فكيف بالعجل! وهذا من عجائب القرآن.قال: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ [البقرة:51] أي: من بعد غياب موسى؛ لأن موسى ذهب إلى جبل الطور، ولا أدري كم المسافة من هذه المنطقة التي نزلوا فيها إلى جبل الطور وقطعاً هي في سيناء.

تعريف الظلم

قال: وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ أي: والحال أنكم ظالمون، نعم ظالمون؛ لأن الظلم -كما عرفتم زادكم الله معرفة- وضع الشيء في غير موضعه.لم لا يحفظ أبناؤنا وإخواننا هذه الكلمة، ولماذا يتركونها فقط للطلاب؟! يعني: هل يتعب أحدنا إذا قال: الظلم وضع الشيء في غير موضعه؟وهنا مثال على ذلك: لو قام أحدكم الآن ودفع إخوانه: خلوني أنام هنا، ويطرح في حلقة العلم نائماً. فهذا ظلم ووضع للشيء في غير موضعه.كذلك الذي يأتي إلى باب المسجد ويشمر عن ثيابه ويأخذ يتغوط، تقول له: كيف تفعل هذا؟ يقول لك: أنا خرجت من المسجد، والشارع ممر المسلمين والمسلمات يجوز تلويثه، تقول له: وهذا المرحاض في الحمام لماذا وضع؟! فوضع البول في هذا الموضع ظلم، وهو وضع للشيء في غير موضعه.كذلك الذي يدعو غير الله فيقول مثلاً: يا سيدة! الغوث الغوث. هذا وضع للنداء في غير موضعه؛ لأن الذي ناداه لا يسمعه، ولا يراه، ولا يقدر على إمداده وإعطائه، فهذا النداء ينبغي أن يكون للسميع العليم، الذي يسمع نداءك ويراك في مكانك، ويقدر على إسعافك وإنقاذك، والذي يعكف على صنم أو كوكب أو قبر أو إنسان يعبده، فهذه العبادة ما وضعها في موضعها؛ لأن هذا المخلوق لا يعبد. إذاً: هذا ظلم.ولقمان الحكيم كان يقول لابنه وهو يربيه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13] لم يا أبتاه؟ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فالظلم يتفاوت، فالذي يبول في المسجد ظلم، والذي يذبح فلاناً ظلم، لكن شتان ما بين هذه وهذه، فالظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولكنه يتفاوت.فأعلى مستويات الظلم الشرك؛ لأنه أخذ حق الرب تعالى الذي استوجبه بخلقه للعوالم وما فيها، وبخلقك أنت وإيجادك وإمدادك، ثم هذا الحق الذي من أجله خلقك وهو أن تعبده كيف تصرفه إلى غيره، فأي ظلم أفظع من هذا؟فالله هو الذي خلقني ورزقني وخلق كل شيء في الكون من أجلي خلقني لأعبده، وتركته يخلقني ويرزقني ويحفظني وو.. ثم إذا بي أعبد غيره، فهذا أفظع أنواع الظلم.إذاً اسمعوا الله تعالى يقول: وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ والحال أنكم ظالمون بوضعكم العبادة في عجل، وهي ملك لله الرحمن الرحيم الخالق الرازق المدبر.فإياك أن تظلم، وهذا إعلان أبي القاسم صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح يقول: ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، وحملهم على سفك دمائهم واستحلال حرماتهم ).
تفسير قوله تعالى: (وإذا أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ...)

أخذ الميثاق على بني إسرائيل

قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:93] أي: اذكروا يا بني إسرائيل أو اذكر لهم يا رسولنا وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:93] أتدرون ما الميثاق؟ ليس بميثاق الأمم المتحدة، إنما الميثاق هو العقد الموثق بالأيمان، فهو حبل متين، والله عز وجل هو الذي أخذ الميثاق من اليهود: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:93] بأن لا تعبدوا إلا الله .. بأن تحلوا ما حرم الله وتحلوا ما حرم الله .. بأن تطيعوا موسى وأنبياء الله، فهذا عهد وميثاق أن يعبدوا الله بما شرع لهم، وكلفهم به.

قصة رفع الطور

قال: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:93] الطور جبل بسيناء، فما رفعه عليهم أجمعين، ولا على الذين في المدينة، والزمان كان ثلاثة آلاف سنة، وإنما كما قلت وعلمتم أنهم نحلة وملة واحدة يؤاخذون به كلهم، فذنب أحدهم اليوم يؤاخذ به الأولون، والأولون يؤاخذون بذنوبهم؛ لأنهم على عقيدة واحدة. وهذه القضية هي أن موسى عليه السلام لما وقعت فتنة عبادة العجل، وتورطوا، وجاء موسى وصاح فيهم ووبخهم، وقرعهم، وتابوا، وندموا، وقد قام موسى فيهم كالأسد، وأخذ العجل وأحرقه، ثم برده بالمبارد ونشره حتى أصبح تراباً وذره في البحر؛ حتى لا يبقى للعجل أثر يتعلق به قلوبهم.فهنا اختار موسى منهم سبعين رجلاً من خيارهم يذهب بهم إلى الله عز وجل ليكلمه في جبل الطور، ويطلب التوبة لهؤلاء الذين زلت أقدامهم، فهؤلاء يمثلون الشعب الإسرائيلي، فلما وصلوا وسمعوا كلام الله ما ارتضوا وقالوا: نريد أن نرى وجه ربنا. وعرض عليهم تحمل المسئولية فرفضوا، فما كان من الله تعالى إلا أن رفع الجبل فوق رءوسهم؛ نقضه من أسفله ورفعه كالسحابة: هيا خذوا، وتعهدوا والتزموا، فخروا ساجدين، وهي سجدة إلى الآن يفضلونها على الذهب، فسجدوا على خدهم الأيمن أو الأيسر، وتركوا الآخر ينظرون إلى الجبل من جبنهم وخوفهم، وهم الآن يسجدون في بِيعهم -أي: مساجدهم- هذه السجدة.فالتزموا باللسان وقالوا: سمعنا وعصوا، فهذا ما أخبر تعالى به عنهم في هذا السياق وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:93] أي: جبل الطور.وقلنا لكم: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا [البقرة:93] بمعنى أطيعوا، يقال: فلان لا يسمع لي، أي: لا يطيعني، وليس من السماع بالأذن. وقوله: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ هي التوراة فيها حكم الله .. فيها شرائع الله .. فيها ما تقوم به الحياة .. فيها ما تكملون وتسعدون عليه، فالتزموا، وجاء من سورة الأعراف: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:171].فأعطوا عهداً وهم تحت الحجر أو تحت الجبل ثم نقضوه كأن لم يكن شيء والعياذ بالله، فهم أنقض الخلق للعهود.ونعود للسياسة؛ فمنذ أربعين سنة ونحن نقول للعرب: يا عرب! عاهدوا اليهود -وإن كان هذا الكلام لا يعرفه إلا العقلاء- فعاهدوهم معاهدة سلمية حتى تتقووا وتتجمعوا وتصبحوا أمة واحدة ربانية قوية، ولا تقولوا: إذاً كيف ننقض عهد الله؟ لا، لا. والله لينقضونه لكم، فهم مفطورون ومجبولون على نقض العهود. فلا تخافوا، أعطوهم فرصة لتستفيدوا منها، فإخوانكم يُرفع عنهم العذاب، والبلاء، والشقاء، وأنتم تتقوون وتصنعون وتتحدون، فإذا قويتم على نسفهم وإبادتهم فحينئذ سوف ينقضون العهد، ولا تخافوا أنتم وتقولوا لي: كيف نعطيهم عهداً وميثاقاً، وبعد ننقض هذا؟! نحن لا ننقض العهد أبداً، وإذا عاهدنا نموت ولا ننقض، لكن العدو هو الذي سينقضه؛ وذلكم لأن الله تعالى قال: أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100] فهذا شأنهم، وانظر كيف رفع الجبل فوقهم، وأعطوا العهود والمواثيق أن يفعلوا بما في التوراة، وما هي إلا أن خرجوا وإذا بهم يحلون ويحرمون ويعطلون بما تقول أهواءهم وشهواتهم. قال: قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة:93] فهم لا يقولون هكذا: سمعنا، بل يقولون: سمعنا وعصوا، وهذا أمر مفروغ منه.

معنى قوله تعالى: (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم)

قال تعالى بعد ذلك: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93] ومعنى أشربوا: تغلغل حب العجل في نفوسهم كما يشرب الثوب من الماء، ويدخل في كل جزئياته.وأي عجل هذا؟هذا العجل هو الذي صنعه الحداد أو الصائغ السامري .. هذا العجل الذي ادعى أنه هو الله .. هذا إله بني إسرائيل وموسى ضاع عنه وتاه وما عرفه، وهذا العجل قد عبدوه قرابة الشهر؛ لأن غيبة موسى كانت أربعين يوماً، فتمكن حب العجل من قلوبهم. فإن قال قائل: يا شيخ! هل هذا صحيح؟نقول: لا تسأل، نسأل الذين يشربون الشيشة والأفيون وو.. هل تمكن حبها من قلوبهم أو لا؟ ومن قال: لا، فليرم بالتجارة خارج المسجد.فهذه سنن الله في الخلق، والذي عرف أن هذا الأمر باطل ومنكر ثم يفعله ويستمر يفعله فسوف يأتي بطابع خاص به، ولا يتحول عنه أبداً.فتلك النظرة، وتلك الالتفافة، وذلك الاجتماع حول العجل وهم يصرخون، وينادون، ويرقصون، حتى قيل -وهو حق-: إن حفلات المتصوفة مأخوذة من الحفلات اليهودية، فتجد الرقص والرقص حتى تصعق المرأة، وهم يستغيثون بالأولياء، وفي الأخير يقولون: هذه عبادة، أي: مأخوذة عن بني إسرائيل، عبدة العجل .. وقد بقيت عند اليهود أيضاً.والشاهد في قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة:93] أي: عجل الذهب، ولهذا إلى الآن اليهود هم الشعب أو الأمة التي لا تعرف أبداً إلا الذهب، وهم الذين أسسوا البنوك.مع العلم أن الله عز وجل حرم عليهم الربا في التوراة بصراحة اللفظ ووضوحه، وندد القرآن بهم، واستحلوا الربا بعد علمهم بحرمته، ولكن قد يعذرون؛ لأنهم يريدون أن يحققوا أملهم في مملكة بني إسرائيل، فكيف الوصول إليها وهم شعب عدد سكانه خمس ملايين فقط، فلا يعادلون سكان القاهرة ولا باريس، فكيف يحكمون العالم؟!

وسائل اليهود في إخضاع العالم

إذاً لابد من استعمال وسائل من شأنها أن تخضع العالم لهم، فاستعملوا:أولاً: السحر، وكثيراً ما أقول بدون علم- أنا متوقع ولا تقولوا: الشيخ جازم-: أنهم يسحرون بعض الساسة والمسئولين في العالم الإسلامي؛ لأنهم متنكرون؛ فلديهم جوازات عديدة: فرنسي .. سويسري .. أمريكاني، ويجتمعون في اجتماعات الأمم المتحدة، وممكن يكلفون من يصب الشاي أو القهوة، ويجعل فيها مادة مسحرة، هذا ممكن، فهم أهل السحر، والسحر هو تحويل القلب من كرهه إلى حبه، فكما يكره الرجل امرأته، والمرأة تكره الرجل، فهم أيضاً سحروا الناس من الأوروبيين وغيرهم، وجعلوهم يحبونهم، وعلى الأقل لا يسبون، ولا يشتمون، ولا يتغيضون، ولا ولا ولا.. وهذا حاصل، ولا يبعد.ثانياً: استعملوا المال من الدينار والدرهم، فعرفوا أن العالم يخضع لسلطان المادة والمال، فابتكروا فكرة البنوك وأسسوها، ووضعوها، وهم قائمون عليها في الشرق والغرب، وضربوا العالم ضربة ليس لها نظير، فالربا إذا شاع وأصبح من مبادئنا ومن سياستنا السياسية والاجتماعية، فهو الذي يقضي على المحبة، والألفة، والأخوة، والولاء بين المسلمين.ولو فعلوا من السحر ما فعلوا فإنهم لا يستطيعون أن يفرقوا بين المؤمنين كلهم، نعم قد يسحر شخص أو عشرة ألف، لكن الربا معناه: لا تبقى سلفة، ولا قرض، ولا مضاربة، ولا تعاون ولا ولا.. وكل ما نحتاج إليه هو البنك. فتلك الرابطة القوية التي تربط بين المواطنين في أي شبر من الأرض لما حل محلها البنك ما أصبح هناك من يسلف أحداً، ولا من يقرض أحداً، وحتى الذين يسلفونهم أو يقرضونهم لا يردّون، فهناك دعوة شيطانية: يأتيك ويقول: أقرضني. فتقرضه، ولا يرجع أبداً، وبذلك تمزقت أواصر الأخوة بين المسلمين. أرأيتم لو كان المسلمون على حقيقتهم فهذا المال الذي لا يودعونه في البنك ماذا سيصنعون به؟إذا جاءني إبراهيم أو سليمان أو عثمان وهو أخي المؤمن عبد الله الذي لا يفارق بيت الله وقال: أريد أن تقرضني كذا إلى سنة، والله ليفرحن المؤمن، فيحصل على أجر أعظم من أجر الصدقة، واستراح من ذلك المال الذي هو مودع في صندوقه، وانتفع به أخوه، وذلك الذي استقرض يعيش ليل نهار يحافظ على عهده وميثاقه، فما إن يحين وقت القضاء، وتدق الساعة إلا وهو يقرع الباب: هذا مالك يا أخي. فانظر إلى الصلة كيف قويت.كذلك لو رغبت في أن ينمو مالك، فيأتيك أخوك الحاذق، اللبيب، الفطن، الصابر، الصادق يقول: أريد أن أفتح متجراً فأعطني ما عندك، لا تبقه هكذا، ولك نصف الربح أو ثلثه. فيفرح المؤمن ويبتسم، ويقول: الحمد لله؛ لم يبقى هذا المال مدفوناً عندي أو مودعاً في البنك لا قدر الله؟! فيعطيه أخاه ويبارك الله فيه، وينفعه، وينفع نفسه.لكن هذه الحال الآن قد انتهت، فأصبح الذين لهم أموال يضعونها في البنوك، ولا يوجد قرض ولا سلفة، فهبطنا، حتى أن من أقرضته لله لا يرد أو يماطلك، وتقطعت صلات الأخوة الإسلامية بيننا، وكل ذلك بسبب بنوك الربا.ثم أنا أعجب من هذا الصوت! ففي كل البلاد الإسلامية لا يوجد واحد من الخطباء والمدرسين وغيرهم يقول: يا مسلمون! تعاملوا بالربا إن كنتم تريدون كسب المال وجمع الثروة، فوالله ما قال هذا أحد، لا في العجم، ولا في العرب ولا ولا .. فكيف وقعنا في هذا؟ من يعلل لنا هذه الظاهرة؟ولو كانت هناك فتاوى أذنت وأباحت فإنه قد يعذر الناس، فالله قال، وقالت العلماء، لكن ليس هناك.إذاً: كيف نعرف هذا ونعصي الله، ونفسق عن أمره، ونخرج عن طاعته ونتحداه، ونرابي مع المرابين؟!الجوا عندنا: لأننا أعرضنا عن الله فأعرض الله عنا، فعيشوا كما تريدون. وقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93] هذه الباء هي باء السببية؛ إذ لو كانوا مؤمنين موقنين ربانيين والله ما أحبوا العجل، ولا عبدوه.والآن نقول: الذين يعلمون ويرتمون في الربا ما سببه؟ والله إنه لكفرهم بشرائع الله وتعاليمه، فما عرفوا وما أيقنوا، وما كل من قال: أنا مؤمن فهو مؤمن، فالإيمان نور في القلب يولد طاقة تجعل المؤمن حياً، فيسمع ويبصر ويعطي ويمنع، فإذا اهتز ذاك الإيمان، وتحلل وتخلل، وأصبح ضعيفاً كالذي يؤمن ببعض ويكفر ببعض فإنه لا ينتفع به.قال: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بسبب ماذا؟ بِكُفْرِهِمْ فالباء باء السببية فلما كفروا بنعم الله عليهم .. كفروا برسالاته ورسله .. كفروا بلقائه، وتنكروا له .. غطوا .. جحدوا .. فحصل هذا بكفرهم.

معنى قوله تعالى: (بئسما يأمركم به إيمانكم ...)

أخيراً يوجه الله تعالى لرسوله هذا الأمر فيقول لهم: قل يا رسولنا أيها المبلغ عنا، قل: بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ [البقرة:93] فإذا كان إيمانكم يأمركم بالربا، وقتل الأنبياء، وعبادة دون الله فبئس هذا الإيمان، فقبحه بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:93] أي: كما تزعمون وتدعون.

تحذير المسلمين من مشابهة ومتابعة بني إسرائيل في مخالفاتهم الشرعية

ما أحوج المسلمين إلى هذه الآيات أن يجتمعوا عليها ويقرءوها ويتفهموها، فهذا من باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، فإذا كان بنو عمنا قد تورطوا فهبطوا، ولعنوا، واحترقوا، والقرآن يذكر ما أنزل الله بهم؛ أليس معنى هذا: إياكم أن تسلكوا مسالكهم! إياكم أن تمشوا في طريقهم! إياكم أن تقفوا مواقفهم! فإنكم ستهلكون كما هلكوا.هذه ورقة أعطانيها مؤمن يتألم، وفيها أن هذا الكاتب في هذه الجريدة يقول: صوت المرأة عورة! خرافة شائعة. كم من مرة قلنا: إن صوت المرأة عورة آلاف المرات، فهل نكذب أن صوت المرأة عورة، وما معنى عورة؟ هل هو شيء يستحى من سماعه فينبغي أن يستر كما تستر العورات، والعورة ليس معناها السوءة.أيها العامي! كل ما يستحى من كشفه هو عورة تستر كعورة البيت، وهي النافذة، وهذا قال: صوت المرأة عورة خرافة!اسمعوا! روى الشيخان ومالك وأهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أنابه شيء في صلاته فليسبح ) أي: يقول: سبحان الله، فإذا قرع عليك الباب أحد أو ناداك بأعلى صوته: يا فلان! وأنت في الصلاة فلا تقطع الصلاة، واحذر فإنك تتكلم مع الله فلا تعرض عنه وتقبل على هذا المخلوق، فهذه مصيبة لا حد لها، وقد أرشدنا العليم الحكيم صلى الله عليه وسلم أن نقول: سبحان الله، فيفهم طالبك ومناديك بأنك مشغول مع الله فيسكت وينتظر. ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( التسبيح للرجال والتصفيق للنساء )، وفي لفظ: ( والتصفيح )، هكذا، ممكن هذا الصوت يطرب. اسمع! الصوت هكذا يطرب أو لا؟ هذا هو التصفيق، أما التصفيح فهو يضرب بظهر اليد فلا يطرب، والتصفيح للنساء.أيكم أيها الفحول واصدقوني: يرضى أن تتحدث امرأته مع أجنبي؟الجواب: والله لا نرضى أن يسمع صوتها أجنبي.فأين قولهم: من ادعى أن صوت المرأة عورة أنه يقول بالخرافة، وهذه جريدة إسلامية تكتب هذا العنوان، ولا ندخل معهم في كلام، فلقد هبطوا ونزلوا من علياء الكرامات إلى حضيض التراب، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ [النحل:21] فلهذا نتركهم لله.وصوت المرأة عورة عندنا.تقول الصديقة : الديوثة من النساء التي يسمع ضيفها صوتها في حجرتها. وما زالت الطاهرات إلى الآن ما يرفعن أصواتهن إذا هناك ضيوف في البيت.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-19, 05:56 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (69)
الحلقة (76)



تفسير سورة البقرة (39)

ادّعى اليهود أن الجنة خالصة لهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم للمباهلة، فلم يفعلوا، ولن يفعلوا؛ لأنهم يدركون فداحة سيئاتهم، وعظم جرائمهم، ولهذا يتمسكون بالحياة، ويعضون عليها بأسنانهم، ولا فرق عندهم بين حياة كريمة وأخرى دنيئة، المهم أن يبقوا على ظهر البسيطة، يتنفسون، ويأكلون، ويشربون، ولا يدركون هم وغيرهم من المشركين أنهم لو عمّروا ألف سنة فإن مصيرهم في نهاية المطاف إلى جهنم وبئس المصير.

تفسير قوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:94-98] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بالأمس كنا مع ربنا تعالى وهو يقرّع اليهود ويؤنبهم، ويكشف الستار عنهم، ويضعهم أمام ما تأهلوا له من الخزي، والهون، والدون.ولا بأس أن يؤنب أو يقرع أو يؤدب من يطغى، ويتمرد، ويفسق، ويفجر، فهذه سنة الله في الناس، وقد قرّع اليهود وأنّبهم كما في الآيات.

مباهلة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود

ها نحن الآن مع قول ربنا جل وعز وهو يقول لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: قُلْ أي: لليهود الذين يجادلون ويعاندون، إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94] فاليهود قد ادعوا أن الآخرة لهم وقالوا: لسنا في حاجة إلى هذا الدين، وإلى هذا الرسول والكتاب، فنحن شعب خصنا الله عز وجل بنعيم الجنة والدار الآخرة، ولسنا في حاجة إلى أن نؤمن بك، ولا إلى أن نمشي وراءك، وإلى أن نأخذ بكتابك وما جئت به من الدين، لسنا في حاجة إلى هذا كله.أما قال اليهود: قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] أي: مملوءة بالعلم والمعرفة فما نحن في حاجة إلى ما تدعونا إليه.أما ادعوا أنهم هم أهل الجنة، وأنهم إن دخلوا النار لا يبقون فيها أكثر من أربعين يوماً، وهي مدة عبادتهم للعجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24]. فأحبارهم يكذبون، ويلفقون الكذب، ويكتبونه، ويهمشونه على التوراة، والعوام يقلدون ويقولون: لن تمسنا النار أكثر من أربعين يوماً، ولهذا إن فجرنا .. إن رابينا .. إن قتلنا الأنبياء .. إن عذبنا العلماء كل هذا مغفور لنا، وقد نؤاخذ به مدة محدودة أربعين يوماً ثم نعود إلى الجنة. والرب تبارك وتعالى يقول لرسوله قل لهم: إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ [البقرة:94] والدار الآخرة هي نعيم الدار الآخرة في دار السلام، فالمعنى: إن كانت لكم الدار الآخرة -لا لغيركم- خالصة من دون الناس؛ أبيضهم وأسودهم .. أولهم وآخرهم فهيا تمنوا الموت، وهذا يسمى بالمباهلة، فتعالوا واسألوا الله تعالى أمامنا الموت: اللهم أمتنا -يا ربنا- لندخل الجنة؛ دار السلام. فاسألوها صادقين من قلوبكم لتوافق ألسنتكم، وانظروا فإنكم تموتون.فوالله ما استطاعوا، وعجزوا، وخافوا، ولو وقفوا في صف واحد وقالوا أمام رسول الله: اللهم إنا نسألك أن تتوفانا الآن لنستريح من أعباء الدنيا وتكاليفها، ومحنها، ولندخل الجنة دار السلام، لو قالوها لما بقيت فيهم عين تطرف.

مباهلة الرسول صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران

حدث للنصارى مباهلة -أيضاً- في مسجدنا هذا؛ ليتقرر عندنا أن اليهودية بدعة من البدع، ما جاء بها كتاب ولا بعث بها رسول، وأن النصرانية -والله- ما هي إلا بدعة مبتدعة، ما جاء بها عيسى ولا غيره.والنصارى كانوا يسكنون في جنوب الجزيرة؛ في نجران، فسمعوا بالدعوة الإسلامية، فجاء وفد منهم مؤلف من ستين فارساً، جلّهم علماء، ونزلوا ضيوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوزعهم على المؤمنين، ودعاهم للمباهلة، فقالوا: باسم الله، فمن كان منا على الحق لا يموت، ومن كان منا على الباطل يهلك.وبالفعل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بـفاطمة والحسنين إلى المسجد، فما إن شاهد النصارى تلك الزمرة النورانية حتى انهاروا وقالوا: لا نباهل، وقال قائلهم: والله لو باهلتم هؤلاء ما بقيت فيكم عين تطرف.فذلوا، وخضعوا، وضرب عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية، وعادوا إلى ديارهم، وقد جاء هذا من سورة آل عمران، إذ قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:59-61]. فخافوا كما خاف الآن اليهود، وما استطاعوا المباهلة.
دعاء اليهود على أنفسهم بالموت

الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ أي: الجنة خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة:94] فالآن موتوا لكي تستريحوا، فلم الحصاد والزرع، والتجارة، والآلام، والأمراض، والأوجاع وأنتم أهل الجنة، فمن الآن: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94].
تفسير قوله تعالى: (ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم ...)

اليهود بين تمني الموت وما قدمته أيديهم

سبق الله تعالى اليهود إلى ما في صدورهم .. إلى ما يريدونه فقال لرسوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ [البقرة:95] بـ(لن) الزمخشرية إن شئتم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا لم؟ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فما من جريمة إلا اقترفوها، وحسبهم من ذلك قتلهم الأنبياء والعلماء .. استباحتهم الربا والمحرمات، فالخبث بكامله قد انغمسوا فيه، ومع ذلك يتمنون الدار الآخرة، فهم مؤمنون بها، فكيف يتمنون الموت، أليلقوا في أتون الجحيم؟!فأخبر تعالى بما يعلمه من قلوبهم، ومن طبائعهم، وما فطروا عليه: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95] أي: لا يخفى عليه من أمرهم شيء، وهم ظالمون، فسجل عليهم الظلم، ووالله إنهم لظالمون.والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالله أرسل الرسل وأمر بحبهم، وتبجيلهم، وتعظيمهم، واتباعهم، والانقياد لهم، وهم ذبحوهم .. كذبوهم .. قتلوهم .. مكروا بهم، وهذا ظلم.والله تعالى أمرهم بطاعته وطاعة رسله، ففسقوا عن طاعته وعن طاعة رسله، وأي ظلم أفظع من هذا؟!وهم ظالمون والله عليم بهم، فلهذا لا يستطيعون أبداً أن يتمنوا الموت وأن يقولوا: اللهم توفنا الآن، فإنا أولياؤك وعبيدك، مع أنهم كانوا يدّعون أنهم أولياء الله، والبشرية كلها نجس، وهم أقرب الناس إلى الله، فلهذا ترفعوا وسادوا وارتفعوا ولم يرضوا لأحد أن يدخل في دينهم.لكن الله أبطل فريتهم .. أبطل دعواهم فقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة:95] أي: إلى يوم القيامة، فما جاء يوم من الأيام وتمنوا الموت، فما هناك من هو أجبن من اليهودي، لا يقوى على الموت أبداً؛ لما يعرف من مصيره المظلم؛ ولما يعرف أين ينزل بعد موته في الدركات السفلى من عذاب الله.قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة:95] بسبب: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95].

لا تمايز بين الخلق إلا بالتقوى والعمل الصالح

نحن أيها المستمعون والمستمعات ماذا قدمت أيدينا؟ أو نقول هذا في بني إسرائيل فقط!وكذلك نحن إذا قدمنا الخير نثاب عليه، وإذا قدمنا الشر نجزى به، وليس عندنا امتيازات خاصة أو وعود من الله عز وجل أو صكوك أننا إذا فسقنا .. فجرنا .. كذبنا .. ترابينا .. سببنا .. شتمنا فلا نؤاخذ، ليس هناك من ذلك شيء.وقد قيل: الدنيا مزرعة الآخرة، فمن زرع الآن البرتقال، والرطب، والعنب فسوف يحصد ذلك يوم القيامة، ومن زرع الشوك، والسدر، والحنظل وما إلى ذلك فسوف يجني ما زرع، فمن زرع اليوم الإيمان وصالح الأعمال سوف يحصد رضوان الرحمن، وسكنى الجنان. ومن زرع الكذب، والخيانة، والكبر، والحسد، والتعالي، والظلم، والشر، والفساد والله لن يحصد إلا مثيله، ولسنا بأشرف من اليهود أبداً.والحقيقة أن نسبتنا إلى الله واحدة فنحن عبيد إلى سيد، فكونه بيَّضك وسوَّدني .. قصَّرك وطوَّلني .. أغناك وأفقرني هذا لا قيمة له، فهو ابتلاء فقط في العمل، أما نسبتنا فهي أننا عبيد لله، فمن أطاعوا سيدهم، وخنعوا، وخضعوا له، وذلوا، واستكانوا رفعهم، ومن تكبروا عنه، وتعالوا، وحاربوه أذلهم وأهانهم. ولا فرق بين أحد وأحد إلا بتقوى الله عز وجل، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قرر هذه الحقيقة وعلمناها فقال: ( لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى )، وقال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

النفس البشرية بين التزكية والتدسية

قد قررنا وعرفنا -أيها السامعون- حكم الله في البشرية، واسمعوا الله تعالى يحلف لكم لتطمئن نفوسكم، وتسكن قلوبكم إلى صدق هذا الخبر، بسم الله الرحمن الرحيم: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]. فإن قال قائل: لم تحلف يا ربنا؟ فالجواب: لتعرفوا حكمنا في البشرية، فتسلكوا سبل النجاة، وتبتعدوا عن طرق الهلاك والخسران، فمن أجلكم حلف الرب تعالى.لكن ما هذا الحكم الذي حلف من أجله؟اسمع واحفظ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] واطوِ الصحيفة.فقوله: (قد أفلح) هل الرئيس .. الشريف .. الغني؟! الجواب: ( من زكاها) أي: زكى نفسه، ومعنى (زكاها): طيبها وطهرها بأدوات التزكية والتطهير التي وضعها الله لذلك، والفلاح هو الفوز، يقال: فلان فاز أي: نجح في الصفقة التجارية الفلانية .. نجح في الامتحان، ومعناه هنا: أُبعد عن النار، وأُدخل الجنة؛ دار الأبرار.والله سبحانه وتعالى هو الذي بين لنا هذا الفوز، وقد قال من سورة آل عمران: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] هل هناك: إلا نفس فلان وفلان أو إلا أنفس بني فلان؟ لا يوجد، وهذا الحكم لم يتخلف، ولذلك الحكم الثاني أيضاً -والله- لا يتخلف قال تعالى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]. فوجب على كل مؤمن ومؤمنة .. عرب وعجم أن يحفظوا هذا الحكم الإلهي.إذاً صدر الحكم على البشرية ونصه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فهنا يتم تقرير المصير وليس في يوم القيامة، وكل عاقل مكلف بلغ سن الرشد هو الذي يقرر مصيره بيده، قال الحاكم العدل رب العالمين: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] فأسند الفلاح والتزكية له، أي: أفلح من زكى نفسه وخاب من دسى نفسه؛ لأن النفس الزكية، الطاهرة، النقية هي التي يقبلها الله في جواره، وهي التي يرضى بأن تسكن في دار السلام.أما النفس الخبيثة المنتنة العفنة فلا يرضاها الله أبداً، ولا يتلاءم معها الطهر والكمال في دار السلام، إنما يتلاءم معها حفر الجحيم، ولظاها، ولهبها، ودخانها.وهنا مثل عامي: فلو يدخل الآن علينا رجل قد تلطخت ثيابه بالبول، والخر، والأوساخ، والدموع، والدماء فهل تفسحون له ليجلس معكم؟ أكثركم سيقول له: اذهب .. اخرج .. خذوه .. طهروه، هذا لا يدخل هنا! وهذا المعنى واضح.كذلك الذي يأتي بنفس عفنة، منتنة، كيف يدخل الجنة؟! وقد قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14].فإن قال قائل: لم الأبرار في النعيم، والفجار في الجحيم؟فالجواب: الأبرار لبرورهم، والفجار لفجورهم، فالأبرار المطيعون الذين زكوا أنفسهم وطهروها مآلهم إلى الجنة، والفجار الذين فجروا عن تعاليم الله، وفسقوا، ولطخوا أرواحهم، وخبثوها، هؤلاء يتلاءم معهم أتون الجحيم.اسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نادى بني هاشم رجع إلى ابنته وقال: ( يا فاطمة ) فيناديها باسمها العلم وهي تسمع ( إني لا أملك لك من الله شيئاً فأنقذي نفسك من النار )، أي: آمني واعملي الصالحات.إذاً: هذه الآيات كلها هي فينا، وهي كذلك في اليهود، فإنهم لما ادعوا أن الجنة لهم قال تعالى لهم: هيا اطلبوا الموت حتى تدخلوا، لكنهم -والله- لا يطلبونه.ولو نطالب به نحن فإن الصالحين الطاهرين يفرحون بدار السلام، ولو ندعى إلى الجهاد لتسابق المؤمنون إلى دار السلام.

سوء ما قدمه اليهود من أعمال

نعود إلى السياق الكريم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ [البقرة:95] أي: الموت، أبداً لم؟ بما والباء سببية، أي: بسبب ما قدمته أيديهم من ذبح الأنبياء والعلماء، وأكل الربا، وإباحة الزنا، والخيانة والغش، والخداع، وكل أنواع الجرائم التي انغمسوا فيها، وما زالوا فيها إلى الآن.

سعة علم الله بأحوال عباده

قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95] فيجزيهم بحسب ظلمهم يهوداً كانوا أو غير يهود .. عرباً أو عجماً .. في الأولين أو الآخرين.وهل هناك ظالمون لا يعلم الله بهم؟!يقول قائل: بعض الظالمين عندهم حيل وستائر عجيبة لا يطلع الله عليها.تقول له: يا هذا! الله تعالى يقول: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].ومن ذلك على سبيل المثال أن تظهر فتاة من على السطح، أو ينكشف الستار عنها وهي على الجمل فتجد من الناس من يتكلم معك وهو يخون ويسترق النظر.فإن قال قائل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟! هل هذا معناه أنه لا يجوز لنا أن ننظر إلى النساء؟! وقد قالت إحدى الصحف: القول بأن صوت المرأة عورة خرافة، فدعوها تغني.أقول: نحن نمشي مع بني إسرائيل خطوة خطوة إلا من سلم الله عز وجل، فالذين يقولون: صوت المرأة ليس عورة، أما يعلمون أن الله يقول: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ [غافر:19] فالعين تخون، وخيانة العين تكون بالنظر إلى شيء حرمه الله، ولقد كتب الله تعالى صالحات الصالحين وسيئات المسيئين في كتاب المقادير قبل أن يخلقهم، فكيف هذا يسأل: كيف أن الله يعرف أو لا يعرف؟!
تفسير قوله تعالى: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ...)

حرص اليهود والمشركين على أي حياة

قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إذ هو الذي يجابه هؤلاء الطغاة من اليهود قال له: وَلَتَجِدَنَّهُ مْ وهذه اللام موطئه للقسم المقدر: وعزتنا، وجلالنا يا رسولنا لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]. وإخواننا الفلسطينيون هم الذين يعرفون أن اليهودي أجبن وأذل ما يكون. لم؟ لأنهم خائفين من الموت؛ لأن وراء الموت جحيماً، وسموماً، وعذاباً أليماً، وهم موقنون أشد اليقين بأن جزاءً لابد منه للكسب الدنيوي، فلما تلطخوا بكل أنواع الجرائم لا يتمنون الموت، ولا يرضى أحدهم أن يموت.أما أهل دار السلام فوالله إنهم يطربون، وقد كان أحدهم يرقص فرحاً بالموت كما في بدر وأحد.إذاً: كل من كان ملطخاً بالذنوب والآثام فإنه لا يفرح بالموت، ولا يطرب له فضلاً عن أن يتمناه، وكل من زكت نفسه، وطابت، وطهرت فهو يفرح بالموت، ولو رأى رؤيا تبشره بالموت لفرح، فالجنة خير، فالدنيا فيها مشاق وآلام، وأتعاب، وأمراض، وسقم، وفي الجنة نعيم مقيم، يأكلون ويشربون تفكهاً فقط، لا يمرضون، ولا ينامون .. ولا يكبرون، ولا يهرمون، ولا ولا .. أما طعامهم وشرابهم فيتحول إلى عرق وجشاء رائحته أطيب من ريح المسك، قد خلقهم الله على هيئة لا تقبل الفناء أبداً، فكيف لا يفرح العاملون الصالحون بالجنة والموت.قال: وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] هل قال: (على حياة) أو (على الحياة)؟ قال: (على حياة) أي: ولو كانت أخس حياة وأرخصها، فهي نكرة في سياق نفي تفيد العموم، فهم أحرص الناس على أوسخ حياة، وأقلّها، وأدناها، فليست حياة العز والكمال والسعادة، وهذه لا يلامون عليها، فأرخص حياة يقبلونها: وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96].وهناك نوع آخر من البشر يحبون الدنيا، والحياة، والخلود قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة:96] فمن المشركين والمجوس والنصارى و.. من يود أن يعيش ألف سنة، وممكن أن يوجد حتى بين المسلمين الضائعين من يود أن يعيش ثمانين عاماً .. مائة عام.قوله: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة:96] فما قال: وكل المشركين، فهذا العليم العظيم يعرف النفسيات والطباع، فيوجد من المشركين من يود أن يعيش ألف سنة، أما اليهود فلا يريدون الموت أبداً، لا يتمنونه، ولا يريدونه بحال من الأحوال؛ لعلمهم بالمصير المظلم الذي سيصيرون إليه بعد أخذ أرواحهم؛ لأنهم يؤمنون بالبعث والجزاء والدار الآخرة.أما المشركون فمنهم من لا يؤمن بلقاء الله بالمرة، فلهذا يكره الموت ويريد أن يعيش ألف سنة.قال تعالى: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] لو يعمر الإنسان مليون سنة ممكن لا يعذب لهذا العمر؟ فلا ينفع، فمن الآن أحسن، وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ والزحزحة هي الإبعاد.قال: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ أَلْفَ سَنَةٍ فلو عمر أحدهم ألف سنة، فهل هذا التعمير، وهذا الطول في العمر يبعده عن النار؟ لا يبعد عن النار، طال العمر أو قصر، إنما يبعده عنها زكاة النفس وطهارتها فقط.

وسائل تزكية النفس

إن قال قائل: يا شيخ! أنت تقول: زكاة النفس، فدلنا يرحمك الله على أدوات التزكية أين توجد وأين تباع وفي أي صيدلية؟ وهذا السؤال ضروري للعقلاء الذين ما علموا: ما دامت القضية منوطة بتزكية أنفسنا فمن فضلك دلنا على هذه الأدوات والعقاقير التي نزكي بها أنفسنا، أو ليس هناك عقاقير ولا أدوية؟الجواب: والله توجد، والصيدلية هي صيدلية الله ورسوله، وقال الله، قال رسوله؛ الكتاب والسنة، فإنك تجد فيهما كل أدوات التزكية من كلمة: لا إله إلا الله إلى إماطة وإزالة الأذى من طريق المؤمنين والمؤمنات.فكل عبادة من أعمال القلوب أو الألسن أو الجوارح هي عبارة عن أداة تزكية للنفس البشرية وتطهيرها، ولا بد من استعمالها حسب الشروط التي وضعت لها؛ إذ لابد من مراعاة الكيفية فلا تقدم ولا تؤخر، ومراعاة الزمن فلا توقعها في غير زمانها، ومراعاة العدد، فلا تزيد ولا تنقص وإلا ما تنتج.وأعظم أداة في تزكية النفس البشرية وتطهيرها ذكر الله، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] وذكر الله شرطه أن تكون في مكان طاهر، وأن يتحد قلبك ولسانك معاً، فعندما تقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم فلابد أن يكون قلبك مع لسانك، فإن قلت بلسانك وقلبك غافل فإن ذلك لا ينتج، ولا يولد الطاقة، وإن ذكرت فقط بالقلب واللسان فذلك لا ينفع، ولا ينتج.إذاً لابد من توافق القلب واللسان، ومن هنا كانت الصلاة أعظم مولد للنور أو للطاقة النورانية، فلا توجد عبادة أكثر توليداً للحسنات وللطاقة النورانية من الصلاة أبداً، وبعض السامعين لا يعرفون كيف تولد الصلاة النور؟ كالماكينة الصغيرة التي تولد الكهرباء وتدور الآلات، فإذا خربت لا تولد.فالصلاة أعظم مولد للطاقة النورانية، واقرءوا إن شئتم: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا ألله؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] أي: في توليد هذه الطاقة، إلا أن الصلاة لا تنتج نتاجها، وتؤدي ثمارها إلا إذا استوفت شروطها.وقد بينا سابقاً أن للصلاة شروطاً لابد من استيفائها، ومن ذلك الطهارة، والتي تشمل: طهارة المكان، وطهارة البدن، وطهارة الثياب، فأنت في الصلاة كيف تقف أمام الله، وتتكلم معه، وأنت نجس؟ هذا لا يجوز، وكيف تقف في مكان نجس وتناجي الله في الصلاة، فهذا لا يصح، وكيف تقف في الصلاة وجسمك ملطخ بالقذى والأذى، وتتكلم مع الله، هذا حرام -يا عبد الله- وعليك أن تتطهر.والصلاة إذا كان لها وقت معين كصلاة العشاء بقي عليها ثلثها فلو قلتم: هيا نصلِّها الآن، فهذه الصلاة لا تولد لك النور، ووالله لا تولد حسنة، فهي كالعملية الفاشلة؛ لأنه يشترط لها وقت تقع فيه، وإلا ما أنتجت. والوقت ضروري لأية عبادة مربوطة بوقتها، ومن ذلك أيضاً: ( الحج عرفة ) الذي هو تاسع شهر ذي الحجة، فلو اتفقت الأمة بملوكها ورؤسائها أن الحج هذا العام يقع في المدينة، وعلى جبل أحد الذي هو أشرف من عرفات، فوقف الحجاج على جبل أحد لقلنا لهم: حجكم غير صحيح، ولا يصح هذا الحج.وكذلك لو قالوا: هذا العام الحر شديد، فدعنا نعمل الحج هذا العام في الشتاء، ووقفوا فعلاً في الشتاء فهل يقال: حجوا؟ كلاء والله ما حجوا.وهكذا كل عبادة وضعت لتزكية النفس وتطهيرها بما تولده من الحسنات لابد وأن يراعى فيها أن يكون الله قد شرعها لذلك، ولهذا لو أن مليون بدعة أنفقت فيها مالك كله، وتبدد طاقاتك وجهدك كله، فهذه والله لا تولد جرام حسنة؛ لأن البدعة ما شرعها الله، والذي لم يشرعه الله من يوجد فيه المادة النورانية؟ من يقوى؟ وهذا والله ليس بممكن.وهل يستطيع أحدنا أن يوجد مادة الغذاء في الرمل .. في الحصى .. في الطين .. في التراب؟ لا يستطيع؛ لأن الله ما أودعها هناك، إنما أودعها في البطيخ، والعنب، واللحم، والخبز.وهل يستطيع البشر -لو اجتمعوا كلهم- أن يوجدوا عبادة ولو بالقول على أن من عملها تزكو نفسه عليها وتطيب وتطهر؟ الجواب: لن يستطيعوا، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] فهذا الأمر لله وحده.ولهذا الصلاة لو توقعها في غير وقتها فإن الفقيه يقول: بطلت، ونحن نقول: ما أنتجت. فالصلاة عندما تنقص شروطها أو تقدم أو تؤخر فيها يقول الفقيه: صلاتك باطلة يا ولد. ولو تصلي أمام فقيه، ولا تطمئن في الركوع، ولا السجود يقول الفقيه: صلاتك باطلة. ونحن لا نقول: باطلة، إنما نقول: لا تزكي نفسك، ولا تولد لك النور الذي هو الحسنات، فأعد صلاتك.وهكذا كل العبادات.

أهمية الإيمان والعمل الصالح

نعود إلى السياق الكريم قال: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] أي: تعميره الألف سنة والمليون لا يزحزحه من عذاب الله.وما الذي يزحزح عن العذاب؟الجواب: الإيمان وصالح الأعمال؛ لأن الإيمان يدفع إلى اكتساب الحسنات، والحسنات هي التي تزكي النفس وتطهرها. واقرءوا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107]، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [البروج:11]، فتجد الإيمان والعمل الصالح، فالإيمان يقوي نفسك وقدرتك على أن تصلي وتصوم وتجاهد وتتصدق، وتلك الأعمال الصالحة هي أدوات التزكية .. هي التي تنظف القلب البشري وتطهره. والسيئات هي التي تصيب القلب بالظلمة، والنتن، والعفونة.واسمع رسول الله يقول: ( إذا أذنب العبد ذنباً ) أي: اقترف خطيئة سيئة، وسمي الذنب ذنباً لأنه يؤخذ به الإنسان كما يؤخذ الحيوان من ذنبه، ونحن نؤاخذ بذنوبنا، والحيوانات تؤخذ بذيولها وأذنابها.قال: ( إذا أذنب العبد ذنباً وقع نكتة سوداء في قلبه )، كهذه، ( فإذا تاب ونزع صقل ذلك المكان وطهر ) كالزجاجة المشرقة إذا وقع فيها شيء ما لطخها، ومن الممكن أن تمسحها ويزول على الفور، ويبقى النور والإضاءة، وكذلك قلب الإنسان أو نفسه.قال: ( وإذا لم يتب وأذنب ذنباً آخر وقع إلى جنب النكتة الأولى )، وهكذا تتزايد الذنوب حتى تتسع الرقعة، فالذنب إلى الذنب إلى الذنب بلا توبة، ولا مسح ولا صقل حتى يلطخ القلب كله، ويحجب عن الإيمان، وعن عمل الصالحات.قال صلى الله عليه وسلم: ( فذلكم الران الذي قال الله فيه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] ) ولهذا من لطف الله بأوليائه ورحمته بعباده المؤمنين أنه شرع لهم التوبة الفورية، فإذا شعرت بالذنب فعلى الفور قل: أستغفر الله وأتوب إليه. وابتعد عن الخطيئة ينمحي ذلك الأثر، وقل: آمنت بالله.فإن أنت أصررت وما باليت، وواصلت الذنب إلى الذنب، فسيأتي يوم لو تعرض عليك التوبة -والله- ما تقبلها، بل لو قيل لك: استغفر الله. تهزأ وتسخر. أما سمعنا الله تعالى يقول من سورة النساء: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] لمن؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]. قال: (من قريب) لأنه إذا واصل في الذنب فإنه سينطبع في نفسه طابع، ويصبح لا يرضى إلا ذلك الذنب. واسألوا الذين تعودوا الأفيون والكوكاين تجدوهم يقولون إنهم الآن يستعملون الإبر، ولا ينفع أن يأخذ بدلها حبة.وكذلك هو حال الذي قد تعود اللواط .. السرقة .. الخيانة، فهذا شأنه.قال بعض علماء النفس: الذي تعود السرقة وتمرن عليها، لما يلقى عليه القبض، وتوضع الحديدة في يده ويمشي، فتعرفه بأنه سارق، وأنت في ذلك الوقت تخاف وترتعد وتقول: يا ويله. لكن السارق في ذلك الوقت يفكر كيف يسرق مرة ثانية! وكذلك عندما يصل إلى السجن تجده يفكر كيف يسرق إذا فكوه بعد عام أو عامين؟ فانظر بماذا يفكر هو، وبماذا تفكر أنت، فتجد العكس.والله سبحانه وتعالى خالق الأنفس، وطابع الطبائع، وغارز الغرائز هو الذي يقول: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17].وإذا واصل الجريمة فقد يحال بينه وبين التوبة قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، الآن! لا، قد فات الوقت .. فات الأوان يا بني: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، فإذا حشرجت في الصدر، وقال الطبيب: ودعوا أخاكم، فلو استغفر وتشهد، فوالله لا ينفع، فقد انتهى أمره.وهذا من باب الرحمة المحمدية، يقول: ( إن الله يقبل توبة العبد .. )، والله لحق، لكن لا يستطيع أن يتوب عبد غرق في بحور الآثام والذنوب، فسفك الدماء، ومزق الأعراض، ودلوني على واحد تاب من هذا النوع، فما عنده قابلية التوبة، لكن إن تاب هل يرده الله؟ لا والله: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، فإن حشرجت في الصدر، وعرف المودعون والزوار فحينئذٍ لا عودة، قد انتهى أمره.وهكذا يقول تعالى وقوله الحق: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] أي: التعمير: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96]، فالله أسأل أن يتوب علينا وعليهم، وأن يغفر لنا ولهم، وأن يرحمنا وإياهم، وصل اللهم على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-20, 06:03 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (70)
الحلقة (77)



تفسير سورة البقرة (4)

أخبر سبحانه وتعالى عن المنافقين أنهم إذا قال لهم المؤمنون: لا تفسدوا في الأرض بالمعاصي وموالاة الكافرين كان جوابهم بأنهم هم المصلحون لا غيرهم، وأن صلاحهم ظاهر للعيان، فلا يمكن إنكاره، فإذا قال لهم المؤمنون: آمنوا كما آمن الناس، أجابوا بأن من آمن هم سفهاء العقول، الذين لا رشد لديهم ولا بصيرة، فرد الله عليهم دعواهم بأنهم هم أهل السفه والجهل، ونفاه عن المؤمنين.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السياق الكريم ما زال في كشف عورات المنافقين، وإظهار ما هم عليه من الخبث والنفاق.وقبل ذلك نشير إلى ما سبق من أن الناس ثلاثة أصناف: مؤمنون أتقياء، كافرون مشركون، منافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.

طائفة المؤمنين المتقين

الطائفة الناجية الكاملة السعيدة هي طائفة المؤمنين المتقين، الذين قال تعالى فيهم: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5]، أي: الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار.إيمان، وتقوى، وإنفاق في سبيل الله عز وجل، وإيمان بكل ما أمر الله بالإيمان به من الكتب والرسل، والدار الآخرة وما فيها من حساب وعقاب وجزاء، فالمتصفون بهذه الصفات هم المفلحون، وهم الذين يجدون في القرآن الكريم الهداية، ويهتدون بها وينتفعون.

صنف الكفار

الفريق الثاني: الكفار، أي: الجاحدون لله تعالى في وحدانيته، في إلوهيته، في أسمائه، في صفاته، في عباداته، وكل كافر مشرك، وكل كافر ظالم.وخلاصة القول: أن من لم يؤمن بالله ولقائه وما أمر الله تعالى بالإيمان به من شأن الغيب، فهذا هو الكافر، بمعنى الجاحد المكذب، وقد يكون كافراً كفر عناد، والعياذ بالله.وهذا الصنف من الكفار قد علم الله أن منهم من يموت على كفره، فيصر على الجحود والمكابرة والتكذيب، حتى يموت على كفره فيخلد في عذاب النار.والرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقول له ربه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7]، علمنا: أنه ليس من حق أحد أن يقول: إذاً من ينذر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم ينذر الذين كفروا فمن ينذر؟ وعلمنا أن الله عز وجل أخبره بأن بين الكافرين أفراداً ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وعميت أبصارهم، فلا يدخلون في رحمة الله.إذاً: واصل دعوتك وإنذارك للناس، وإن أصر أناس على الكفر فلا تحزن؛ لأن منهم من كتب الله أزلاً شقوتهم وشقاءهم على بعض.ولا يقولن قائل: إذاً: لِم الإنذار والتخويف والترغيب والترهيب ما دام قد حكم الله بشقائهم وموتهم على الكفر؟نقول: لا تقل هذا، فلم يقل الله تعالى: إن أبا لهب ، إن عمرو بن فلان .. إن فلاناً، لو أنزل تعالى فيهم قرآناً بأسمائهم ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعب، ولا يشقى ولا يأتيهم إلى أبوابهم، ولا يطالبهم، لكن الله عز وجل أمره بأن ينذر ويبلغ ويدعو، فلما رأى أناساً مصرين معاندين مكابرين هون عليه تعالى ذلك، وقال: لا تحزن ولا تأسف عليهم، فقد كتب الله شقوتهم أزلاً.ثم ذكرنا -ولا ننسى- أنهم ما ولدوا كفاراً معاندين، وإنما ولدوا على الفطرة، ثم أخذت الشياطين تزين لهم الباطل وتحسنه لهم، فكفروا وأشركوا، ثم تعمدوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام، وأخذوا يتوغلون في الفتنة، ويسعون فيها ليل نهار، يستهزئون، ويسخرون، ويكذبون، ويعاندون، فما زالوا كذلك والنور ينطمس، والفطرة تفسد شيئاً فشيئاً، حتى ختم الله على قلوبهم، فما أصبح يجد الإيمان منفذاً إلى قلوبهم، فقد ختم عليها بالكامل، وعلى سمعهم ما يسمعون، أي: ما أصبحوا يرتاحون لسماع الحق، فيسمع كل شيء إلا إذا ذكرت لا إله إلا الله أو محمد رسول الله أو الإسلام فلا يسمع.وقد جاء من سورة هود قول الله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ [هود:20]. وأيام الطفولة والصبا والطلب، كنا نعجب كيف ما يستطيعون السماع؟! كيف له أذن يسمع وما يقدر وما يستطيع؟ً وما وجدنا من نسأل، فبقي في أذهاننا العجب: كيف لا يستطيعون السماع؟ وتمضي الأيام، وبلغنا أشدنا وعاصرنا الأحداث والمشكلات، فتحقق ذلك، فأصبحنا لا نقدر على سماع هذا الكلام، والله ما أستطيعه.وشاء الله أن أسافر من المدينة إلى الديار المغربية بطريق البر، فركبنا السيارة من القاهرة إلى تونس، وفي طريقنا ليلاً في الأراضي الليبية سمعنا إذاعة صوت العرب، وفيها أكاذيب وأباطيل وحقائق، فسمعت لأول مرة أن الملك سعود -تغمده الله برحمته- مر بموكب من مواكبه وإذا ببدوية على حمارة فأمرهم فاختطفوها له! والله لا إله إلا الله، كيف يقال هذا الكلام! كيف يسمع؟ لصالح من هذا الكلام؟! فمن ثم ما أصبحت والله العظيم أطيق سماع صوت العرب.وأنتم تعرفون إذا أبغضتَ إنساناً أو إنسانة -كما يقولون- ما ترتاح لكلامهم، يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [البقرة:19] لِم؟ ما يقدرون أن يسمعوا الكلام الحق.إذاً: له سمع وما يستطيع، له بصر وعليه غشاوة وبياض فما يبصر، ما سبب هذا؟ المشي خطوة خطوة في الضلال، وفي الخبث، وفي الشر، وفي الفساد، حتى يأتي الطبع والختم، وحينئذٍ يصبح لا يعقل، ولا يفهم، ولا يفكر.فما هي -إذاً- زبدة هذا؟ أن نتحاشى الإسرار والاستمرار في الباطل، فإنه يقودك إلى أن تصبح تنكر الحق، وهذه هي الثمرة التي يجنيها أهل القرآن، فمن أذنب ذنباً ووقع فيه فليعجل بالتوبة إلى الله، حتى يمحى ذلك الأثر ويزول، أما الاستدامة والاستمرار فيؤدي به إلى أن يفقد حاسة السمع والبصر والعقل، والآيات تكشف هذه الحقيقة.

صنف المنافقين

الصنف الثالث: المنافقون. من هم المنافقون؟قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، يعلنون عن إيمانهم: آمنت بالله وبلقائه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ومع ذلك الله يحكم بعدم إيمانهم؛ لأنه خالق طباعهم وغارز غرائزهم، فهو الذي يقلب القلوب، فعلم أنهم ما هم بمؤمنين، يقولون: مؤمنون، مسلمون، آمنا، في المجامع والمحافل وبين الناس. وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]. أي: ما اعتقدوا عقيدة الحق، أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن هذا الكلام كلام الله، وأن لقاء الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، فما اعتقدوا وما صدقوا، ما استساغوا أبداً العقيدة الصحيحة، واضطرتهم الظروف التي يعيشون فيها، حيث ظهر الإسلام وعلا، وأصبح له دولة في المدينة، وهم منافقون من المشركين ومن اليهود، ومنافقو اليهود أكثر.إذاً: فها هو تعالى يكشف الستار عنهم من أجل علاجهم، وهل نفعهم هذا؟ إي نفعهم، فما مات الرسول صلى الله عليه وسلم -وهي عشر سنوات فقط- وما بقي منافق في المدينة، وما سبب ذهابهم؟ عدد قليل منهم مات، وأكثرهم عرفوا الحق واتبعوه بواسطة هذه الدعوة الربانية، وهذه الآيات القرآنية.قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8] ناس، ما يسميهم مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، إذاً: لِم يقولون هذا؟ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9]، يظهرون الإيمان باللسان وبالأركان، أما العقد والجنان فهو فارغ، ففيه الكفر، ما آمنوا أبداً بلقاء الله، ولا أن هذا رسول الله، ولا أن هذا كلام الله.إذاً: يخادعون الله، فيظهرون له وللمؤمنين أنهم مؤمنون، وهو يخادعهم، فهو ما أنزل قرآناً فيه: إن فلاناً وفلاناً منافقون كافرون، بل ستر عليهم وما فضحهم حتى يمضي أمر الله وحكمه فيهم.قال تعالى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]، فلو كانوا يحسون أو يعقلون أو يفهمون ما يرضون بالنفاق، فإما أن يصرحوا بكفرهم ويلتحقوا بالكافرين، أو يقاتلوا وإن تحطموا وخسروا، أو يؤمنوا ويسلموا، لكنهم فقدوا الشعور الحي الحق النافع، والإحساس الحقيقي ما عندهم، وسببه ظلمة الجهل وأنهم جهال، وأكثرهم مقلدون أتباع لرؤساء الفتنة من شياطين المنافقين من العرب واليهود في المدينة.وزادهم بياناً فقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10]. مرض الشك والشرك والنفاق والحسد والكبر، وتلك العلل والأسقام إذا تجمعت في القلب حالت بين العبد وبين الاستقامة على منهج الله.إذاً: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] هذه الجملة ليست دعائية، بل هي الواقع، لماذا؟ المرض إذا لم يعالج ويترك وتزيد أسبابه وعوامله يزيد ويزيد حتى يهلك صاحبه: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] حسب سنته؛ في أن من يصاب بمرض في جسمه وقلبه إذا لم يعالج فيبرأ ويشفى، واستمر على استعمال عوامل المرض وأسبابه ينمو ويزداد المرض، فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا حسب سنته، أكل ملعقة ثم مات، فإذا زاد ملعقة أخرى وثالثة ورابعة هلك.وتوعدهم الله علهم يرجعون إلى الحق ويئوبون إلى الصواب، فأخبر وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10]، أي: موجع يذهب بعذوبة حياتهم، لم يستعذبوا طعاماً، ولا شراباً، ولا مناماً، ولا نكاحاً، ولا راحة أبداً، فهو عذاب من شأنه أن يذهب تلك العذوبة، ولهذا يسمى العذاب الأليم الموجع، الذي يحمل الألم الشديد، وعلل تعالى ذلك؛ لأنه يريد هدايتهم، فقال: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10]، أي: بسبب كذبهم على الله وعلى المؤمنين وعلى رسول الله، والمنافق إذا حدث كذب، وذلك الكذب كان حائلاً بينه وبين قبول دعوة الحق والاندماج في جماعة المسلمين، فهم يصرفون أنفسهم عما طلب منهم من الهدى بالكذب، فكانت النتيجة هذا الوعيد الشديد، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10] بسبب ماذا؟ بتكذيبهم، قرئ: (يُكذِّبون) و(يَكذِبون).
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)
قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11]، من القائل لهم؟ الله. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11]، ننظر أن هناك رؤساء النفاق يوجدون في حي بني فلان في بني فلان، هؤلاء لهم صلات بالمشركين في مكة وفي غيرها، ويعملون على تأليبهم على رسول الله والمسلمين.أو شخص مؤمن صادق الإيمان وأخوه، أو أبوه، أو عمه، أو جاره، يشاهد فيه مظاهر الاستهزاء والتلاعب وعدم الإيمان، فينصح له: يا فلان! لا تفسد في الأرض، فهذه الأرض أرض الطهر، كيف توالي الكافرين؟! كيف تخلو بهم وتتحدث معهم؟! كيف توءاكلهم؟! ما حالك؟ ما شأنك؟ ما أنت بمؤمن؟!يردون عليهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، لِم؟ نحن ما ندري هل هذه الدعوة تنتصر؟ غداً تنكسر ويحكمنا الفلانيون والفلانيون، كيف يكون موقفنا وموقف أولادنا ونسائنا؟ فنحن نريد أن نعمل عملاً يجدينا وينفعنا، فاتصالنا بفلان وفلان من أجل أنه ربما يقع الذي يحوجنا إليهم، فنحن في هذا مصلحون ولسنا بمفسدين. وليس الرسول هو الذي يقول لهم هذا، هذا يقوله المؤمنون لبعضهم، ممن له أخ أو قريب من المنافقين: لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11].والإفساد في الأرض معاشر المستمعين والمستمعات! لا يكون بحفر الأرض أو إسقاط المباني أو هدم الجبال، بل الإفساد في الأرض يكون بمعصية الله ورسوله، فارتكاب المعاصي، وغشيان المحرمات، وترك الواجبات والله لهو الفساد.وجاء في غير ما موضع: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56] فالفساد في الأرض هو أن يعطل شرع الله وقوانينه التي شرعها وأنزلها لإسعاد البشرية وإكمالها .. لإبعاد البلاء والشقاء عنها .. لتحقيق سعادتها في الدنيا والآخرة، فمن رفض تلك القوانين الإلهية والشرائع الربانية وعمل بضدها، فأحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله، وترك ما أوجب الله، وفعل ما حرم الله فهذا هو المفسد في الأرض. وهذا القرآن عجب، جملة كهذه: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [الأعراف:56] كيف يفسدون فيها؟ بموالاتهم للكافرين ولرؤساء النفاق، وهذا ينتج عنه ترك طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وينتج عنه الإصرار على الكفر وزيادة النفاق والمنافقين، وهذا فساد في المدينة أو لا؟ هو الفساد بعينه، لكن بعبارة موجزة العجب: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11].وهل هذا الآن موجود؟ إيه، ما أكثر الرؤساء والزعماء والفنيون وأرباب العلوم و.. و.. و.. يعتقدون أن بنوك الربا مما تفتقر إليه الأمة وتحتاج إليه، وهذا إصلاح وليس بفساد أبداً، ويفتحون مصانع للخمور ويصدرونها ويبيعونها ويدعون أن حياة الأمة متوقفة على هذا: هل تريدون أن تلصق الأمة بالأرض أو تمد يديها للكفار؟ فيستبيحون الربا: صنعاً، وشرباً، وبيعاً.يصرفون المؤمنين عن تعاليم الله ورسوله، ويضعون خططاً في مناهج التعليم، حتى أصبح في العالم الإسلامي حصة التوحيد؟ لا، حصة الدين حصة أو حصتين في الأسبوع -باستثناء هذه المملكة- فيأخذ الطالب الشهادة الأولى والثانية والثالثة وهو ما عرف معنى لا إله إلا الله، ويدعون أنهم في هذا مصلحون: كيف يرتقي الشعب؟ كيف يخرج من دائرة التخلف إذا لم نحفظ ونعمل ونقرأ ونتعلم؟ ودعونا من كلمة دين، واعبدوا الله كما شئتم.فأفسدوا مناهج التربية والتعليم في العالم الإسلامي تحت هذا الشعار: نحن مصلحون. نريد رقي الشعب وتحركه وتحرره لا اللصوق بالأرض والهبوط. فهمتم هذا أو لا؟ لأن هذا القرآن ما نزل لثلاثة أيام فقط أو لأيام المدينة: عشر سنوات، هذا كتاب الهداية الإلهية إلى يوم القيامة.فكثير من المعاصي الكبيرة والجرائم أوقعوا فيها أمة الإسلام تحت هذا الشعار: نحن مصلحون، أنتم تتصورون أننا نفسد بل نحن نصلح، وهذا لصالح الأمة، وصالح الشعب.يبقى: هل هم على علم؟ منهم من يعرف أن هذا العمل ضد شرع الله وقوانينه، ومنهم المقلدون الجامدون يقلدون غيرهم ويقولون ما لا يعلمون.

تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)

قال تعالى: أَلا [البقرة:12] ألو. لماذا دائماً نقول: ألو؟ أسري عليكم، لأنكم ألفتموها، فبناتكم ونساؤكم ورجالكم حتى الطفل الصغير: ألو، فهم معناها، وتأتي (ألا) شبيهة لها، لكن ما فهمنا. أَلا [البقرة:12] اسمع، أحضر مشاعرك وحواسك فالأمر والخطب عظيم، فهي تقال عند إلقاء الأخبار باستعداد النفوس لقبولها وأخذها، فاسمع ماذا قال تعالى؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:11-12] هذه الكلمة ما قالها علي بن أبي طالب أو أبو بكر ، وما قالها حتى رسول الله، هذه قالها الله ربهم ورب كل شيء ومليكه والأعلم بهم أكثر من أنفسهم. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12] المفسدون لأي شيء؟ إذا عرفنا الإصلاح بم يكون نعرف الفساد بم يكون. وأصل الفساد هو ما يفقد الشيء ثمرته الطيبة، تقول: فسد الطعام، فسد الخبز، فسدت الفاكهة، بمعنى: طرأ عليها ما أفقدنا طعمها ولذتها ومنفعتها، فأصبحت لا تجدي ولا تنفع.إذاً: العمل بشرع الله وقوانينه يسعد الإنسان في هذه الدنيا وفي الدار الآخرة وإذا أعرضنا عن ذلك القانون وأهملناه وتركناه واستبدلنا به غيره فمعنى هذا أننا نعمل على الفساد، ونحن المفسدون، ولا تتردد.قال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12] لم ما يشعرون؟ ماتت أحاسيسهم، وتجمدت، وتلبدت، فما يذكرون الله، ولا يناجون الله، ولا يقفون ساعة بين يديه، ولا يقرءون كتابه، ولا يذكرون لقاءه، ولم يطلبوا حبه ولا معرفته، فمن أين لهم العلم والمعرفة والشعور؟ فقد فقدوا حتى الشعور كالبهائم.عرفتم هذه؟ من المخبر يرحمكم الله؟ الله. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12].وكل من أراد أن يعطل شرع الله فيبطل الصيام، الصلاة، الزكاة، الحجاب، الأمن وغير ذلك، فمعناه أنه يفسد في البلاد وهو لا يشعر بذلك، وكل من يعمل على أن يعبد الله في القرية .. في البلد .. في الإقليم بما شرع بعد معرفة لا إله إلا الله محمد رسول الله فهو عامل على إصلاح البلاد، وهو من المصلحين والصالحين، ومن أراد أن يحول المسلمين إلى أن يصبحوا كالكافرين حتى في الزي والذوق والفطرة والطعم فهذا -والله- يفسد بمعاول الفساد، ويدمر البلاد.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ...)

ثم قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا [البقرة:13] من القائل؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] المنافق اليهودي يقول له أخوه ممن آمن: آمن كما آمن عبد الله بن سلام، أنت أعلم منه؟ وأنت أعرف منه بدين الله؟ فيقول: نعم، نؤمن كما آمن السفهاء! ماذا أصابنا! هل أصابنا الجنون؟ كيف نؤمن إيمان فلان وفلان؟!فيردون هذه الدعوى على إخوانهم بهذه الجملة التي ذكرها الله، والله حرفياً قالوها: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13].أقسم لكم بالله! إن كثيرين من العرب والمسلمين إذا قيل لهم: لم ما تحجبون بناتكم ونساءكم كما في السعودية؟ يقولون: هم متخلفون. لم ما تجبون الزكاة؟ يقولون: دعك من هذه المسائل الرجعية، فالضرائب سدت مسدها وهي أقوى وأكثر نفعاً. لم ما تصومون مع السعودية؟ يقولون: دعنا من المتخلفين والرجعيين، ونحن عندنا آلات وعندنا مراصد وعندنا.. كيف نمشي وراءهم؟ والله كما تسمعون. لمَ ما تطبقون حدود الله؟ يقولون: نطبق حدود الله، نقطع اليد! نترك المواطن يعيش هكذا بيد واحدة! كيف يشتغل؟ كيف يعمل؟ هذه السعودية تفعل، يقولون: دعنا من هؤلاء الرجعيين الجامدين، سوف يأتي يوم يفيقون ويخرجون من هذه الورطة.فهمتم أو ما فهمتم؟ والله إني لعلى علم مما أقول.لكن ما هو السبب؟ جهال، فما بكوا ليلة بين يدي الله، وما جلسوا في حجور الصالحين، ولا تربوا بين أيديهم. كيف يعلمون؟ كيف يشعرون؟ كيف يوقنون؟ ما هي أسباب ذلك؟ من مدرسة مدنية أو عسكرية أصبح جنرالاً أو وزيراً، فكيف يعرف الله؟ كيف يخشى الله؟ قد تتحدث معه وتذكره فلا يتذوق لكلامك طعماً أبداً، بل يتهمك بالقصور: أنت هابط، وإن جاملك يقول: الظروف.وما العلاج يا شيخ؟العلاج أن نتوب إلى الله، وأن نطرح بين يدي الله، آمنا به رباً، يملك كل شيء ويدير الكون كله، اطرحنا بين يديه: ارفعنا، أعزنا، أكرمنا، سودنا، وقد فعل، أيام لا فلسفة ولا كذب ولا ولا.. وإنما قال الله وقال رسوله، فرفع الله تلك الأجيال الثلاثة إلى سماء الكمال البشري، وقد قلت وحلفت: ما اكتحلت عين الوجود بأمة أعدل، وأرحم، وأطهر، وأعز، وأقوى، وأكمل من تلك الأمة التي ما كانت تعرف إلا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم. أأنتم مصدقي أو لا؟ راجعوا التاريخ الحقيقي، وليس المزور.إذاً هيا نجرب، والله! لو أن أهل قرية في العالم الإسلامي، عدد سكانها ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف، واسمحوا لنا أن نجرب: هل صحيح أن هذا النور الإلهي يهدي .. هذا الروح الإلهي يحيي؟ حتى نعرف الحقيقة. ويتعانق أهل القرية وباسم الله فقط إذا مالت الشمس إلى الغروب وضع الفلاح المسحاة ووضع المنجل فتوضأ وجاء بامرأته وبناته وأولاده إلى المسجد، والصانع رمى المرزبة أو الحديدة وتوضأ وجاء، والتاجر أغلق باب المتجر، وجاءوا بنسائهم وأطفالهم ورجالهم إلى بيت ربهم، إلى المسجد الجامع، فيجلسون جلوسنا هذا، والنساء وراء الستائر، ومكبرات الصوت عندهن، والأولاد في صفوف بين النساء والرجال في آداب، وليلة آية، وليلة حديثاً، فيمر العام الأول والثاني والثالث، يا شيخ! كثير؟ والله ما هي إلا سنة، وما نحتاج إلى سنين، سنة فقط يذوقون طعم الإسلام، ويعرفون لذة الإيمان، فتتجلى فيهم حقائق منها: ألا يبقى بينهم من يفكر في أن يزني بامرأة أخيه أو بنته، ولا يبقى فيهم من يأتي بالحشيشة ويوردها ويبيعها لأفراد القرية، ولا يبقى بينهم من يمد لسانه فيسب أو يشتم أخاه، ولا يبقى بينهم من يترف أو يسرف وحوله فقراء ما شبعوا، ولا يبقى بينهم من يهجر بيت الله أو يقال: فلان لا يصلي أو امرأته لا تصلي، وكل هذه المظاهر تنتهي.كيف هذا يا شيخ؟ كيف! ألم يسم الله كتابه روحاً؟ أما سماه نوراً؟ فالذي حيي وأنار الله الطريق أمامه تقول: كيف يسعد أو كيف يكمل؟! ما هو معقول هذا أبداً! أيمكن أن تقول في الذي يأكل: كيف يشبع؟! وفي الذي يشرب الماء: كيف يرتوي؟! تعطل سنن الله أنت؟وهذا فقط ما استطاع المسلمون يفعلونه، ولعل هذه الدعوى ما بلغتهم، أنا أعرف أنها ما بلغت، فهذا الصوت جديد، كتاب (المسجد وبيت المسلم) كم له عندهم؟ سنة وبعض الأشهر. ولو طبقنا هذا في قرية من قرانا في العالم الإسلامي لشاهدنا أنوار كتاب الله وهدي رسوله، وعرفنا كيف نتقاسم آلامنا وسعادتنا.إذاً: ما دمنا هكذا لم نلوم الحكام؟ لم ما طبقوا الشريعة؟ لم ما نفذوا كتاب الله؟ نلوم في الهواء، ما هم أهل مثلنا. هل عرفوا كما عرفت أنا وأعرضوا؟ هؤلاء يحرقون بالنار، لأنهم ما عرفوا. جلسوا بين يدي من؟أسألكم بالله: تعرفون زعيماً، رئيساً، وزيراً .. جلس مجلسكم هذا؟ سنتين، ثلاث يتعلم الهدى؟ هات، أتحداك. فلو جلس هذا لكان بصيص نور في تلك الوزارة، فلا يسمع عنه إلا الهدى، ولا يعرف عنه إلا الخير، وإن كان في حدود ضيقة؛ لأنه وحده.عوامنا ضلال، فجار، فاسدون أفسد من الحكام، ما السبب؟ الجهل، فما عرفوا الله حتى يحبوه، وما عرفوا الله حتى يخافوه، وما عرفوا محاب الله حتى يتملقوا بها إليه، وما عرفوا مكارهه يسمعون فقط كلاماً هنا وهناك، وما استقر في أذهانهم، ولا أنار قلوبهم، كيف تريد منهم ذلك؟! وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] من هم السفهاء؟ أصحاب العقول الخفيفة التي ما تحسن التصرف ولا التدبير كالمرأة في المال والولد، قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] من هم؟ المرأة والولد. قالوا: اسكت، أعط المرأة، الآن ذوقوها، فالمرأة الآن تتحكم، وهي التي في يدها المال، وما يعاني أزواج الموظفات، عندنا بلاد النور والرحمة، أما البلاد الأخرى إذا ما تصفعه على خده هو في خير.. ولما رضي واحد منا أن يعلم ابنته لتتوظف، أعلمها لتعبد الله، تريد الوظيفة؟ لا، لا أحرق ابنتي أبداً، ولا أشقي زوجها ولا أقاربها.هذا الكلام تتذوقونه؟ والله إني لأقول على علم: لو يحضر هنا ألف خريج كليات السياسة والله ما استطاع أن يقف أمام الحق، هذا ليس كلاماً عادياً، وما نحن في حاجة إلى هذا، نحن في حاجة إلى ربانية، وإلى أن نكون أولياء الله، فإذا رفعنا أكفنا إلى الله لن يردها خائبة، ونريد أن نشعر بسعادة وطهر وصفاء، وتصبح الآخرة أحب إلينا من أوساخ الدنيا.قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] سبحان الله! وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] مع أنهم ساسة لهم اتصالات بقريش واتصالات بالكافرين حتى بالروم والشام، أليس كذلك؟ ومع هذا قال: لا يعلمون، ما عندهم علم حقيقي يقيني، فما عرفوا الله، وما عرفوا ما عند الله ولا آمنوا بلقاء الله، فمن أين يأتيهم العلم؟ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] لا الذين قالوا لهم: أنتم سفهاء أو نؤمن كما يؤمن السفهاء. وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13].قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وقال: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] اللهم لا لا، لا يستوون. وقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]. قالوا: نعم. العلم علم الهندسية والفيزياء والتقنية وعلم وعلم.. تلك صناعات، ما نجمع الأمة كلها بنسائها وأطفالها على مواد كهذه، ولا ينجح منها إلا خمسة في المائة، نختار مائة شاب ونغمسه في مادة من هذه المواد يتخرج تقني، أما أن نجعل مواد الهدى والنور من الابتدائي إلى الجامعة كلها عن المادة، فأين الروح، وأين الإسلام؟ عرفتم أو لا.والله العظيم! إن المواد المادية التي تدرسونها أربع سنوات في روسيا أو بريطانيا، والله العظيم ليتعلمها المؤمنون أصحاب النور في أربعين يوماً. وقد مررت هذه الأيام وزوروني جزاهم الله خيراً مدننا الصناعية عندنا -زادها الله قوة- وتجولنا فيها، قالوا: انظر هذا الفريق، هذه المهنة في أيديهم، قال: قالوا لنا: يحتاج إلى أربع سنوات حتى يتعلمها أولادكم أو أفرادكم. قال: والله تعلموها في أربعة أشهر، وهم الذين أمامك، لتعرفوا أني أتكلم عن علم. التمريض، الطب، اجمع لك مائة بنت وأكثر ما يكون ثلاثة أشهر إلا وهي ممرضة، وتدرس الأخرى عشرين عاماً ممرضة وهي لا تطيع الله ولا رسوله، ولا تحسن العمل، أليس كذلك؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] فلان وفلان. قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ .. [البقرة:13] لو علموا أنهم سفهاء: لا رشد، ولا بصيرة، ولا علم، ولا هدى ما وقفوا هذا الموقف، لكن ما علموا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال المؤلف: [شرح الكلمات: الفساد في الأرض: الكفر وارتكاب المعاصي فيها]. ما الفساد في الأرض يا شيخ؟ الكفر، وارتكاب المعاصي فيها بترك الواجبات وفعل المحرمات من الغش إلى الخدع إلى اللواط إلى الجرائم.قال: [الإصلاح في الأرض] ما هو؟ بالفئوس والحراثات، أما كيف الإصلاح؟ قال: [يكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح]، بالإيمان الصحيح الذي إن عرضناه على الكتاب وقع عليه: أنت مؤمن. الإيمان الصحيح والعمل الصالح، أي عمل صالح؟ كل ما شرع الله لنا أن نقوله وأن نعمله طول حياتنا فهو العمل الصالح، وما عداه فاسد. قال: [وترك الشرك والمعاصي]، لو نؤمن ونعمل صالحات ونحن نأتي الشرك ونأتي المعاصي، فهذا ليس بصلاح، ولا بد من التخلي أولاً عن هذه المصيبة وهي الشرك في عبادة الله والذنوب والمعاصي، وبعد الإيمان والعمل الصالح ينير الحياة.ما معنى: (لا يشعرون)؟ قال: [لا يدرون ولا يعلمون].ما معنى: (السفهاء)؟ قال: [جمع سفيه، خفيف العقل لا يحسن التصرف والتدبير]، كالسفهاء الذين عندهم مال ولا يعرفون كيف يتصرفون، بعد عام أو عامين أنفق كل الذي عنده.

معنى الآيات

قال: [معنى الآيات: يخبر تعالى عن المنافقين]. من هم المنافقون يا أبناء الإسلام؟ الذين يبطنون ويخفون الكفر ويظهرون الإيمان. بلسانه يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقلبه يقول: لا إله والحياة مادة.قال: [يخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين: لا تفسدوا في الأرض بالنفاق وموالاة لليهود والكافرين، ردوا عليه قائلين: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] في زعمهم، فأبطل الله تعالى هذا الزعم، وقرر أنهم هم وحدهم المفسدون لا من عرَّضوا بهم من المؤمنين] كـعبد الله بن سلام وغيره، بل هم المفسدون، فدافع الله عن أوليائه، [إلا أنهم لا يعلمون ذلك، لاستيلاء الكفر على قلوبهم]، ما يعلمون أنهم مفسدون، ولا أن المؤمنين مصلحون بسبب أن الكفر استولى على قلوبهم، غشاها وغطاها ما أصبحوا يعلمون ولا يفهمون.قال: [كما أخبر تعالى عنهم بأنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين: اصدقوا في إيمانكم وآمنوا إيمان فلان وفلان مثل عبد الله بن سلام ] تعرفون عن عبد الله بن سلام شيء؟ هذا حبر اليهود في المدينة، ورزقه الله كان يرتقب متى يأتي محمد المدينة، من يوم ما سمع به في مكة وهو ينتظر، وما إن جاء الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جاءه وطرح عليه ثلاثة أسئلة فقط فآمن، ولما آمن وحسن إيمانه وإسلامه قال للرسول: تعال! نمتحن اليهود، أجلسني وراء الستارة واسألهم عني، فجاء كبار اليهود. ما تقولون في عبد الله بن سلام ؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، أعلمنا، أشرفنا. فقال لهم عبد الله بن سلام : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قالوا: هذا كلام ما يقال، ولهذا قال الرسول: ( إنهم قوم بهت ).وعبد الله بن سلام بشره الرسول بالجنة، فقد رأى رؤيا أن السلسلة نزلت من السماء فيها حلقة، فأخذ فيها وتمسك، فعبر له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنك على الإسلام وتموت عليه فأبشر بالجنة.قال: [ردوا قائلين: أنؤمن إيمان السفهاء] أي: الذين لا رشد لهم ولا بصيرة؟ [فرد الله تعالى عليهم دعواهم وأثبت السفه لهم، ونفاه عن المؤمنين الصادقين، ووصفهم بالجهل وعدم العلم]، وهو كذلك.

هداية الآيات

قال: [من هداية الآيات: أولاً: ذم الادعاء الكاذب، وهو لا يكون غالباً إلا من صفات المنافقين]. فهذه الآيات تهدينا، تبصرنا، تعلمنا بأن الادعاء الكاذب الذي يدعي ما ليس عنده، هذا الادعاء الكاذب صاحبه يتصف بصفات المنافقين، فلهذا ما ندعي ادعاء الكاذب، نحن أهل الصدق، ولا نعرف إلا الصدق.تعرفون أنه لما هزمتنا إسرائيل كم من مرة كنا نقول: قواتنا الضاربة. كلام نتعجب منه، وإذا بجماعة اليهود في ليلة من الليالي سلبوهم كل شيء، أين قواتنا الضاربة في الأرض؟ هذا الادعاء الكاذب باطل، فاعرف منزلتك وقدرك، ما عندك قوة اتصل بذي العرش، بت راكعاً ساجداً يمدك بالقوة، أما أن تتنكر، وتغمض عينيك، وتظل في المعاصي والجرائم وتقول: قوانا الضاربة في الأرض. نفعت؟ ما نفعت. والآن لولا الله ثم وجود مؤمنين ومؤمنات في العالم الإسلامي لكانت الفرصة متاحة لليهود والنصارى أن يسودوننا أسوأ سيادة. انتبهتم؟ ولن نستطيع أن ندفعهم، لم؟ لأن الله غير راضٍ عنا، إذاً يسلطهم كما سلطهم أمس، سلطهم أو لا؟ أما حكمونا؟ أما سادونا؟ أين ممالك الهند؟ أين الممالك الإسلامية؟ ما هي ألف ومائة ألف، ملايين وضعتها بريطانيا تحت رجليها. أين ملايين المسلمين في إندونيسيا؟ هولندا العجوز وضعتها تحت رجليها. أين أبطال المغرب الإسلامي؟ أين هم؟ أذلوهم، وكسروهم، وحطموهم. أين أين أين؟ فعل الله ما فعل، هو الذي فعل، ما هي بريطانيا ولا فرنسا، والله لو كنا أولياءه فاجتمعوا كلهم ما نالوا منا منالاً. هل عرف الناس هذه السنة الإلهية؟ ما عرفوا.في أُحد ثلاثون مؤمناً جعلوا رماة في جبل، فعصوا رسول الله ونزلوا فضربهم الله ضربة ما ذاقوا مثلها، ونبيهم كسرت رباعيته، وشج وجهه، ونحن نعيش على الفسق والفجور وينصرنا الله، والله لولا لطف الله ورحمته ووجود مؤمنين ومؤمنات يبكون بين يديه لكانت الفرصة متاحة لليهود ولغيرهم، الهزيمة مرة.يا شيخ! لم تقول هذا؟ توبوا، أقبلوا على ربكم، وتجردوا له، وادخلوا بيوته، وتخلوا عن معاصيه، ستكونون أنتم سادة الدنيا، ويركع لكم العالم ويسجد. قال: [ثانياً: الإصلاح في الأرض يكون بالعمل بطاعة الله ورسوله، والإفساد فيها يكون بمعصية الله ورسوله.ثالثاً: العاملون بالفساد في الأرض يبررون دائماً إفسادهم بأنه إصلاح وليس بإفساد].وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-23, 06:14 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (71)
الحلقة (78)



تفسير سورة البقرة (40)

اعتذر بعض اليهود عن الدخول في الإسلام ببغضهم لجبريل، وزعموا أنهم يحبون ميكائيل، وأنه لو كان هو من ينزل بالوحي على رسول الله لآمنوا، فقرعهم الله بأن من يعادي ملكاً فإنما يعادي الله سبحانه، وأن الوحي الذي ينزل به جبريل فيه الهدى والنور، والبشرى للمؤمنين، وفيه التصديق بالكتب السابقة، فما قاله هؤلاء فيه معاداة لله ومشيئته، ورسله وكتبه، ومن كان كذلك فإن الله عدو له.

القرآن كلام الله المعجز

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ * وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:97-100] .. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!هذا الكلام الذي سمعناه هو كلام الله، وملايين الناس لا يؤمنون بالله.كلام الله .. أيعقل أن يوجد كلام بدون متكلم؟ والله ما كان، ولن يكون.لكن كيف ينكر وجود الله؟الجواب: المنكرون لوجود الله هم اثنان:أحدهما: ينكر بلسانه، ليستمر في غيه وضلاله .. في شهواته وأطماعه، حتى لا يقف عند حد.وآخر ما عرف .. ما بلغته الدعوة واضحة صريحة .. ما حملت إليه الدعوة المحمدية، فهو لا يعرف.ثم هذا الكلام الذي نسمع قد حواه كتابه، وليس مجرد كلمات تقال هنا وهناك، بل هو كتاب كريم.ومما يدلك على كرم هذا الكتاب: أن البكر تستطيع في خدر بيتها أن تقرأه أمام أبيها وبين إخوتها، ولا تشعر أبداً بأن هناك ما ينبغي أن تستحيي منه، فهو مثلاً يعبر عن الجماع بالمباشرة: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، ولن تجد في القرآن -وهو عشرات الآلاف- كلمة واحدة تسيء وتؤذي أبداً، فهذا كلام الله.وفيه آلاف الأخبار، وعشرات الآلاف، ولا يمكن أن لا يصدق في تلك الأخبار خبر واحد.وفيه من الحكم ما تعجز العقول البشرية حتى عن محاكاته، فهذا كلام الله.ثم كيف ينكر ويكذب برسالة الذي نزل عليه هذا القرآن .. هذا الكلام الإلهي، وهو أمي؛ لا يقرأ ولا يكتب، فكيف يكذب برسالته، ويقول القائل: لست رسولاً، ولن نؤمن برسالتك ولا بنبوتك، ولكن الأطماع .. الشهوات .. الأغراض .. حب الحياة والدنيا، هي التي تحمله على هذا، وإلا لو نظرنا من حيث العقل، والمنطق، والذوق، والفطرة البشرية فهو أمي يقرأ كلام الله، ونحن نسمع ذلك الكلام الطاهر، الحكيم، العزيز، البين، فهل نستطيع أن نقول: أنت لست برسول الله، وهذا الكلام ممن؟!

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

ها هم اليهود -عليهم لعائن الله- تورطوا في حب الحياة .. وقعوا في فتنة حب الحياة الدنيا، وإن أحدهم يود أن يعيش ألف سنة، بل آلاف السنين، حتى لا يموت، ولنستمع إلى ما سبق أن قرأناه من كتاب ربنا في شأنهم.

دعوة اليهود إلى المباهلة وتمني الموت

قال تعالى في المباهلة العظيمة، تلك المباهلة التي أسكتتهم وقطعت ألسنتهم، فهم يتبجحون بأنهم أولياء الله .. أحباء الله .. الجنة لهم .. هم شعب الله المختار .. أبرّ الخليقة .. البشرية نجس، وهم.. وهم، فقيل لهم: تعالوا نتباهل، ونرفع أكفنا إلى الله، ونسأله: من كان منا على باطل فليهلكه الله على الفور. فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة في مجمع بين الناس، فتمنوا بقلوبكم واسألوا الله تعالى الموت ينزل بكم الآن إن كنتم صادقين فيما تدعون وتقولون، وتهرفون، وتكذبون من الدعاوى الباطلة.نعم هم يدعون أن الجنة لهم، وأنهم شعب الله المختار، وأنهم أحباء الله، وأنهم أولياؤه، وأن البشرية كلها سافلة وهابطة لا قيمة لها عند الله، فإذا كنتم كما تزعمون فتمنوا الموت لتموتوا الآن، وتستريحوا من أعباء الدنيا، وتستريحوا من المعاش الضيق .. من الآلام والأمراض .. من الحروب والفتن، فالجنة خير من الدنيا بمليون مرة، بلا مناسبة: ( إن سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ).فلما أكثروا من التبجح بين العرب بأنهم.. وأنهم، أنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم، قل لهم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ [البقرة:94] وقطعاً هي الجنة، أما الدار الآخرة ففيها النار أيضاً .. عالمان: عالم الشقاء، وعالم السعادة.قال: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ [البقرة:94] فلا يدخل الجنة أبيض ولا أصفر، لا عرب ولا عجم إلا أنتم، فتعالوا: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94]، وليحضروا بعلمائهم، وليرفعوا أكفهم، وليسألوا الله تعالى أن يميتهم ليدخلوا الجنة إن كانوا صادقين. فوالله ما استطاعوا .. فشلوا، وخافوا، وهربوا.

كراهية اليهود تمني الموت لسوء ما قدمت أيديهم

يقول الله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]، ولن يتمنوه يا رسولنا، فاتركهم، ودعهم وحالهم، فلا يصلحون للمباهلة، فإنهم لن يتمنوا الموت أبداً إلى يوم القيامة، ولا يأتي يوم يتمنون فيه الموت، حتى ولو كان أحدهم في أعماق السجون والزنازن يقول: لا أريد الموت. ولو كان أحدهم قد قتله الفقر، والتعب، والذل، والمهانة، ولا يزال يقول: لا.. لا، ولا يتمنى الموت. لِم؟ لعلمهم بجرائمهم التي تدخلهم جهنم، وتصليهم نارها، وأنهم ليسوا بأهل للجنة، لقد قدموا من الجرائم ما لا يتفق أبداً مع دخول الجنة بحال من الأحوال.وقد عرفنا من كتاب ربنا أنهم قتلوا الأنبياء والرسل، أرأيتم من يقتل نبياً كيف يسعد؟!فقتلوا زكريا عليه السلام وقتلوا ولده يحيى عليه السلام، وحاولوا قتل عيسى، وصلبوا من شبه لهم وقتلوه، وحاولوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم، فمرة بإطعامه السم، ومرتين بالمؤامرة عليه ليقتلوه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في بعض الظروف كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم، وفي المساء كانت أسواقهم عامرة، طافحة بالبيع والشراء والضحك، كأن شيئاً ما وقع، وقد قتلوا سبعين نبياً.كما أنهم استباحوا ما حرم الله عليهم، ومن أعظم ما ندد القرآن بهم في أكلهم الحرام: الربا، فهم الذين استباحوه وأباحوه، وهم الذين ورطوا العالم فيه أيضاً، وقد قلت لكم: إن البنوك العالمية منشؤها أصابع اليهود، حتى لا تبقى رحمة، ولا صلة، ولا سلف، ولا قرض، ولا تعاون بين الناس؛ لأنهم عبدة الدينار والدرهم، ويكفي أنهم قد عبدوا العجل.قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا لِم يا رب؟ بسبب ما .. قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]، وقد قدمت أيديهم الجرائم: الفسوق، والفجور، والكفر، والباطل، والشر، وذنوب لا تعد ولا تحصى، وأصحابها مكتوب عليهم: أنهم في جهنم، فكيف يتمنون أن يدخلوا النار؟! ولو يبقى في الدنيا مليون سنة جائعاً مريضاً ولا يدخل جهنم، وهو كذلك: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95] من الظلم، والشر، والخبث، والفساد. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95] فسوف يجزيهم بظلمهم، قد أشركوا بالله .. كفروا بالله .. قتلوا الأنبياء .. حاربوا الأولياء، ما تركوا جريمة إلا ولغوا فيها، وانغمسوا في أوضارها، فكيف يتمنون الموت؟ لن يتمنوه أبداً؛ ولهذا يلاحظ خوفهم من الموت بصورة عجيبة، والذين يخالطونهم ويعايشونهم ويساكنونهم يشاهدون هذا، فما يريد أن يموت.

حرص اليهود والمشركين على أدنى حياة في الدنيا

قال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] أدنى حياة .. أرخصها .. أقلها .. أدناها .. أسفلها يحرصون عليها، كما قلت لكم: أحدهم مريض، فقير، في السجن، ولديه آلام ولكن لا يقول: الموت خير أبداً، يريد أن يعيش على أية حال كان، فهو حريص على الحياة. وَلَتَجِدَنَّهُ مْ يا رسولنا! إن طلبت ذلك، وأردت الوقوف عليه لتجدنهم أَحْرَصَ النَّاسِ مطلقاً عَلَى حَيَاةٍ وإن كانت رخيصة، والنكرة هنا تدل على عموم فأدنى حياة المهم لا يموت؛ لأنه إذا مات انتقل إلى عالم الشقاء ليخلد فيه أبداً، ولا أمل في الخروج، فلا شفاعة تنفع ولا شافع يوجد؛ لأنهم كفروا.وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96]، فهذا الحب للحياة يشاركهم فيه الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولقائه، ولا يؤمنون بما عند الله، وما أعده لأوليائه من نعيم مقيم فوق السماوات السبع في دار السلام، وهؤلاء الكفار كذلك يود أحدهم لو يعمر ألف سنة.فأمثال هؤلاء لو قاتلهم المؤمنون ينتصرون عليهم، فالذي يحب الحياة مهزوم، ولا شجاعة له، ولا إقدام، ولا .. ولا، يقتله خوفه، بخلاف المؤمن بالدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم، تجده يتمنى على الله متى يقرع باب دار السلام، فهذا يرقص عند قدومه على المعركة، وقد شوهد كثير من الصحابة يهتزون اهتزازاً فرحاً بلقاء الله.وهذا السياق وقفنا عليه ودرسناه في الدرس الماضي.
تفسير قوله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ...)

كراهية اليهود لجبريل عليه السلام

الآن مع قول ربنا جل ذكره: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [البقرة:97]، قل يا رسولنا، أيها المبلغ عنا، قل لـابن صوريا الأعور ومجموعة من علماء اليهود الذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، وقالوا: يا محمد! ما من نبي نبأه الله، ولا رسول أرسله الله إلا أوحى إليه، وأعطاه من الآيات والمعجزات ما تسد به رسالته، وأنت من الذي يوحي إليك ويأتيك بالوحي، فعلمنا حتى نؤمن برسالتك، ونتبعك، ونمشي معك؟فقال لهم: أنا كذلك يأتيني رسول ربي؛ جبريل عليه السلام.قالوا: يأتيك جبريل؟قال: نعم.قالوا: إذاً: لن نتابعك، لو قلت: ميكائيل، نعم، أما جبريل فلا، هو عدونا، لا ينزل إلا بالحروب والدماء والقتال، فلهذا لا نستطيع أبداً أن نؤمن بك، ولا أن نتابعك.

التحذير من سلوك مسلك اليهود

هذه الأفكار يستنتجها، ويولدها، ويلقيها لليهود أحبارهم ورؤساؤهم الذين هم مسيطرون على العوام ليستغلوهم، فيستعبدوهم.وهذه الفتنة -أيضاً- كانت في النصارى، فرجال الكنيسة يشوهون الإسلام للعوام من النصارى حتى لا يدخلوا فيه، ويفعلون معهم الأفاعيل، وبلغنا أنهم يشترون منهم صكوك الغفران، فإذا عندك مليار .. ملياران من الدولارات، يستطيع رئيس الكنيسة يعطيك صكاً بأنه مغفور لك، وضع هذا المال للكنيسة -فقط- لنشر المسيحية.والرسو الكريم -اسمع ما يقول، واحفظ ما يقول- يقول لنا: ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، فهو يخبر بالواقع، ويتلقى الوحي من الله، قال: لتتبعن أي: أيها المسلمون طرق من قبلكم، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم.وقد وجد -أيضاً- في المسلمين رؤساء أديان في المذاهب المختلفة يشوهون الإسلام ويصرفون عنه أهله بالأباطيل والتراهات من أجل أن يستغلوا أولئك العوام والجهال ليقدسوهم، ويكرموهم، ويعبدوهم، فيحلون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال، ولو نفتح صفحة لهذه الأحداث لرأيتم العجب.إن وجود مذاهب في الإسلام، وطرق مختلفة لا يرضى به الإسلام، فالقرآن يقول: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:102-103]، ولقد بلغ عدد المذاهب في العالم الإسلامي أكثر من سبعين مذهباً، وسببها أن الرؤساء يريدون أن يستغلوا أتباعهم، فهناك مذاهب قليلة -كما يقولون: حفنة من الناس- لِم لا يدخلون مع أهل السنة والجماعة، فهم جماعة تعدادهم خمسة إلى مائة بالنسبة إلى المسلمين، وقد رضوا بأن يعيشوا مستقلين يقولون: مذهبنا، قد سيطر عليهم رؤساء الدين، وأئمة المذهب العارفون به، حتى يبقى لهم مركزهم ومكانتهم بين إخوانهم، فلا يسمحون لهم أبداً أن يدخلوا في جماعة المسلمين، وإن شئتم حلفت لكم بالله.وهؤلاء لو كانوا مجردين من الهوى، والدنيا وأطماعها، وحب الرئاسة والسيطرة أو الملك والحكم، والله ما رضوا أبداً ولا أربعين يوماً أن يعيشوا منقسمين على المسلمين، بل لوجدتهم يتباحثون معهم يقولون لهم: بينوا لنا الطريق؟ هذا ما عندنا فسددونا وصوبونا، وأنتم أكثرية ونحن أقلية، وهل هذه الأقلية هي التي على الحق ونحن على الباطل؟ للأسف لا يسمح لهم بهذا أبداً، والكتب تؤلف في ذلك وتدرس، وكل كتاب يدعو إلى استقلال تلك الجماعة، وأن لا تتصل بالجماعات الأخرى، وأحياناً يكفرون بعضهم بعضاً، وينسبونهم إلى الكفر، والزيغ، والخروج من الإسلام.فهذا واقع قد أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لابد وأن يقع: ( لتتبعن سنن من قبلكم -أي: طرائق من قبلكم- شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ).وهنا أضحككم وأنفس عليكم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفس على أصحابه: يذكر أن أحد العلماء كان يخطب في مسجد، ففسر هذا جحر ضب بالبنطلون! أي: السراويل الطويلة، وهذه السراويل ما كان المسلم يلبسها قط، حتى الجيوش الإسلامية -والله- ما كانت تلبسها، وآخر جيش إسلامي في الخلافة العثمانية كان يلبسون السراويل الواسعة والعريضة، وقد شاهدناهم، ولا يمكن أن تكون السراويل -كما هي الآن- مضغوطة، فتظهر إلية الرجل، فقال هذا الخطيب: هذا البنطلون هو جحر الضب، فالكفار قد دخلوا فيه، ونحن دخلنا فيه بعدهم، وهو كذلك! لأن جحر الضب لا يمكن أن يدخل فيه إنسان، ولو دخلوا لدخلنا مثلهم، مع أن هذا البنطلون ضيق تبرز فيه إلية المؤمن، وقد كان الحياء يمنع المسلمين من هذا، لكن لما لبسه الغرب وتجملوا به تبعناهم كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) .فكان اليهود مُستغَلين لرؤسائهم، فقد كفروهم .. مسخوهم .. منعوهم من دار السلام.وجاء النصارى كذلك، فرجال الكنيسة -والله العظيم- إلى الآن يصرفون الناس عن الإسلام، مع علمهم أن الإسلام هو سبيل الله .. وأن فيه النجاة، ويدلك على هذا أنك تجد مع الوقت أن من رؤساء الكنائس من يؤمن، وإذا عرف الحق فإنه يبكي، ويشكو لك هذا، وما كان منا للأسف إلا أن اتبعناهم.أما في داخل أهل السنة والجماعة فتجد الطرق: هذا قادري، هذا رحماني، هذا عيساوي، هذا زيدوني .. هذا نقشبندي .. هذا عيدروسي، هذا كذا، وفي أيام الغفلة والجهل كل جماعة وطريقة كأنهم هم المسلمون، وغيرهم لا، فلا ولاء، ولا حب ولا .. إلا قولهم: هؤلاء من إخواننا.وجاءت أيضاً الأحزاب والجمعيات، وكل حزب يطعن في الحزب الثاني، من قبل رؤسائهم، حتى تبقى لهم المجموعة، وتحت أيديهم.لا إله إلا الله: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع )، وكان ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبب هذا حب الدنيا والشهوات والجري وراءها، من الفروج، والأموال، واللباس، والمنصب، وكل هذا يعمي الإنسان ويصمه، ويجعله لا يرى إلا شهوته، فيكذب، ويحلف بالباطل، ويخون ويفجر، حتى يحقق هذا الهدف الهابط؛ الساقط، وهذا شأن اليهود، ونحن مشينا وراءهم.

نزول جبريل عليه السلام بالقرآن مصدقاً للكتب السابقة

يقول تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ [البقرة:97] أي: أن القرآن العظيم جاء به جبريل، ونزله على قلب سيد المرسلين. فالقرآن يلقى من طريق الوحي .. بواسطة الوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم فيفهم، ويعي، ويحفظ، ويقول، وينطق.قال: نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:97]، لا أن جبريل باختياره استغل الموقف وجاء بالوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو بأمر الله عز وجل، فهو الذي أرسله، ونزل القرآن على قلبه.قال: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [البقرة:97] من هو المصدق لما بين يديه؟ القرآن. وما الذي بين يديه؟ الكتب السابقة، فلو تأتي إلى التوراة أو الإنجيل أو الزبور فتحذف منها الأباطيل والتراهات، والزيادات، والشروح فسيبقى النور الإلهي، وهو أولاً نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته، فهي والله لموجودة إلى الآن، وهم يهمشون ويشرحون بأن هذا ما وجد بعد، وأنه سيوجد فيما بعد، وأن هذا وصفه يختلف مع هذا، ويؤولون ذلك للناس.وقوله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أي: في أصول الدين من الإيمان بالله، والبعث الآخر .. دار السلام .. دار البوار والعذاب .. إحقاق الحق .. إهباط الباطل .. العدل .. فكل الكمالات التي في تلك الكتب يصدقها القرآن، ولا يرد منها شيئاً، ولا يكذبها، بل يقويها ويدعمها، فكيف لا يكون كلام الله ووحيه.ولو تنافى مع ما عندكم من التوراة والإنجيل لقلنا: هذه أباطيل أو خرافات، لكننا وجدناه يصدقها، ويوقع على ما فيها من أصول الدين: من التوحيد، وعبادة الرحمن، والإيمان بالله، ولقائه، وكتبه، ورسله.

القرآن كتاب هداية وبشرى للمؤمنين

ثم قال: وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]، ومن يستطع أن يقول: لا يوجد هدى في القرآن؟ والله لا يقولها ذو عقل، ولا ذو دين ومروءة، والله ما أخذ عبد بالقرآن في عقيدته وآدابه وأخلاقه وعباداته وضل أبداً.ما من إنسي ولا جني يأخذ بما في هذا الكتاب كما هو إلا وكمل، وسعد، ونجا، ووصل إلى رضا الله عز وجل ورضوانه، على شرط أن يفهم كلام الله ومراده، وهنا يحتاج إلى رسول الله المبين .. المفسر .. الشارح، ولا تقل: أنا أستغني عن الرسول بالقرآن؛ لأن الله قال: (فيه هدى) فهذه غلطة منكرة وفاحشة، فهل يستطيع أي إنسان بدون أن يقرأ سنة الرسول وبيان الرسول أن يفهم عن الله كل كلامه؟!وهذا هو سر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فلا بد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالهدى والله لفي هذا الكتاب، وما أخذ به عبد أبيض ولا أسود وضل أبداً، ومن لم يأخذ به لا يهتدي ولن يهتدي، إذ الهدى هو العلامات التي تصل بك إلى هدفك، فأنت مثلاً إذا كنت ذاهباً إلى بيت فلان، فالهداية تكون بالعلامات المؤدية إليه من الشارع الفلاني، والباب الفلاني، والطريق الفلاني.فالكتاب يحمل هداية، تهدي العبد السائر إلى رضوان الله حتى يدخل الجنة.قال تعالى: وَبُشْرَى [البقرة:97] هل البشرى للمغنين .. لأصحاب الأموال .. للكافرين؟ لا، لا! بل: وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]، بشرى بسعادة الدنيا والآخرة، وأعظمها الزحزحة عن النار، ودخول الجنة؛ دار الأبرار، كما قال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ .. [البقرة:25] إلى آخر الآيات. فبشرهم يا رسولنا.والقرآن يحمل البشرى بالسعادة والكمال للمؤمنين؛ لأن المؤمنين أحياء، والحي يسمع ويبصر، يعقل ويفهم، فلما نودوا إلى الله أجابوا، وسلكوا الطريقة، فرضيهم الله وأرضاهم، أما الكافر فميت، فكيف تكون له بشرى وهو لا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ولا يعتمر، ولا يرابط، ولا يجاهد، ولا يتقي سيئة من السيئات، ولا يتجنب باطلاً من الأباطيل.نعم القرآن هو بشرى للمؤمنين الكمّل في إيمانهم .. الصادقين فيه .. الموقنين: وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97].

تفسير قوله تعالى: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ...)

قال تعالى الآن رداً على ابن صوريا الأعور وجماعته الذين قالوا: نعتذر، فما دام يأتيك جبريل نحن لا نستطيع، فهذا عدو بني إسرائيل، ولو كان ينزل عليك ميكائيل فنحن معك؛ لأنه يأتي بالمطر والرحمة .. وما إلى ذلك، أما هذا الذي يأتي بالدماء والحروب فلا، لا. والذي زين لهم هذا هو الشيطان.وهذه فرية؛ حتى يستطيعوا أن يردوا على الرسول، ويعتذروا أنهم ما قبلوا دينه لهذا الغرض. فقال تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98]، فأسكتهم وقطع أنفاسهم.قوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ هل يوجد عدو لله؟ وكيف هذه العداوة؟أصل العداوة مأخوذة من عدوة الوادي، فالوادي في الوسط، وهناك الطرف الآخر الذي يسمى عدوة، فالذي لا يلتقي مع الله والفاصل بينهما عدو لله، فالله يأمر بالخير، والرحمة، والهدى، والطهر، والصفاء، واليقين، وذاك يأمر بالشر والخبث، والفساد، فلا يلتقيان، كل عدو للآخر، فالله يأمر بالخير، وهو يأمر بالشر .. الله يأمر بالصدق، وهو يأمر بالكذب .. الله يأمر بالطهر، وهو يأمر بالخبث. فيصبح عدواً لله.قال: وَمَلائِكَتِهِ وما داموا يقولون: جبرائيل عدونا، فعدو الملائكة عدو لله، وهذا ملك ربنا، ينزله على من يشاء من عباده بالوحي الإلهي وأنت تقول: هذا عدو، ومن يقول: إن جبريل عدو لنا يكون قد كفر بالله.قال: وَرُسُلِهِ وهم كذلك، يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض، فعيسى رسول الله حاولوا قتله وصلبه، وقالوا: ساحر، وقالوا: ابن زنا، وقالوا فيه الأعاجيب، وكل هذا لأن عيسى جاء ليؤدبهم .. ليحل الحلال، ويحرم الحرام. واليهود هم أرباب الدنيا، والمال، والشهوات قالوا: هذا سينغص علينا حياتنا، ويفسد وجودنا، فلا تصدقوه، وقد قال عيسى: ( بعثت إلى خراف بني إسرائيل )، فلما تاهوا بعثه الله إليهم لهدايتهم وهو منهم، فأمه مريم الإسرائيلية، فحاولوا قتله وطاردوه، وطردوا أتباعه؛ لأنهم فقط ضد الشهوات والأهواء والأطماع وحب الدنيا.فكفروا برسل الله، ومن كفر برسول واحد فقد كفر بعامة الرسل، ومن كفر بكتاب واحد من كتب الله فإنه يعتبر كافراً بكل الكتب، ومن كفر بملك واحد من ملائكة الله فقد كفر بملائكته.وعندنا نحن أكثر من أربعين ألف آية، ومن كذب بآية واحدة فقد كفر، وليس بكتاب كامل كالتوراة أو الإنجيل، فمن قال: لا أومن بآية واحدة من القرآن، فوالله لقد أجمع المسلمون على كفره، وهو ليس بمؤمن. فكيف إذاً بالذي يكذّب بالكثير.فإن قيل: ولِم خص جبرائيل وميكائيل وأفردهما بالذكر، وهم يدخلان في الملائكة؟الجواب : لأن المحنة دارت عليهما.وجبريل فيه لغات أفصحها: جبريل وجبرائيل وجبرين بالنون، وكذلك في ميكائيل لغات أفصحها: ميكائيل وميكال وميكئل.وجبريل معناه: عبد الله، وميكائيل معناه: عبيد الله، وكل ما فيه إيل: إسرافيل .. عزرائيل فهو كعبد الله وعبد الرحمن وعبد العزيز، إذ الكل عباد الله، ولهذا (إيل) الأخيرة معناها: الله، كما نقول: عبد الله، عبد العزيز، عبد الرحيم، عبد الحكيم.قال: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] أي: فقد كفر، والله عدو للكافرين، فدخل ضمن من يعادي الله عز وجل، والعياذ بالله!وهل يوجد كافر ليس عدواً لله؟! هذا غير ممكن؛ لأن معنى العداوة أن الله يحب كذا، والكافر يحب غيره، والله يكره كذا وهو يحب غيره، فهذه هي العداوة، فصديقك هو الذي يوافقك فيما تحب وفيما تكره، فإن كنت أنت تحب كذا وهو يحب شيئاً آخر، فما يمضي عليكما يومان .. ثلاثة أيام حتى تتضاربا، ولا تتفقا أبداً.إذاً: فالكافر عدو الله؛ لأنه يحب ما يكره الله، فالله يكره الزنا، والكافر يحبه .. الله يكره الظلم، والبغي، والعدوان، والكافر يحب الظلم، والبغي، والعدوان، ويريده، إذاً: فقل ما شئت: إن الكافر عدو الله بلا خلاف.

كيف تكون ولياً لله

لكن من هو الذي يكون ولياً لله لا عدواً لله؟ هو الذي يوافق الله في محابه ومكارهه.وهذه الفائدة أعطيناها للسامعين -من فضل الله- من سنين، فمن منكم أيها المستمعون يرغب في أن يكون ولياً الله فيأخذها.إذاً من أراد أن يكون ولياً لله، راغباً في ولاية الله، فإليه الطريق إلى ولاية الله: إذا وافقت الله فيما يحب وفيما يكره فأنت وليه، فقط جاهد نفسك، وروضها، وأدبها حتى تحب ما يحبه الله، وتكره ما يكره الله، فقط وافقه تكن وليه، فإن عاكسته وخالفته كنت عدواً لله، فالموافقة هي الولاية.فإن قال قائل: يا شيخ! في ماذا نوافقه؟ في حب البقلاوة والدجاج المشوي أو في ماذا؟الجواب: يا بني! موافقة الله تكون في ما يحب وفي ما يكره، وأقسم بالله: إن الله ليحب أشياء ويكره أخرى، والقرآن شاهد، فكوني أريد أن أكون وليه فأوافقه على ما يحب وعلى ما يكره، يجب عليّ أن أسأل أهل العلم أو أقرأ القرآن لأعرف ما يحب الله وما يكره، فما عرفت أنه يحبه أحببته، وإن كان عدواً لي قد ذبح أبي، وما عرفت أنه يكرهه كرهته، ولو كان الدينار والدرهم.فلابد -إذاً- من أن نعرف يوماً بعد يوم جميع ما يحب الله، ونعرف كذلك جميع ما يكره الله، ونحن كلما علمنا أن الله يحب شيئاً أحببناه، وجاهدنا أنفسنا حتى نحبه، وكلما عرفنا أن الله يكره شيئاً كرهناه؛ لأننا نريد ولاية الله.وهنا: لابد من طلب العلم، فما هناك حيلة أبداً، لابد وأن نسأل ما يحب الله من الاعتقادات .. من الأقوال والكلمات .. من الأفعال والحركات .. من الصفات والذوات.على سبيل المثال: لو أن أباك ارتد وكفر، فإن هذا الرجل يكرهه الله، ويجب عليك أنت أن تكره أباك، فليس أبوك، وقد خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال آبائهم؛ لأنهم كانوا على الكفر فكرهوهم.فإذا عرفت أن الله يكره فلاناً فيجب أن تكرهه ولو كان ابنك، وإذا عرفت أن الله يحب فلاناً فيجب أن تحبه وتُكرِه نفسك على أن تحبه، ولو كان أعمش، أعمى، والدماء تسيل والقيوح، وقل ما شئت من العيوب الخلقية، فما دمت قد علمت أن الله يحبه فيجب أن تحبه، فبهذا تتحقق ولاية الله للعبد، وهي أن يوافقه في محابه ومساخطه، فنحب ما يحب، ونكره ما يكره في حدود ما نعلم.بلغنا أن الله يحب (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، فنقولها في الليل والنهار؛ لأن ربنا يحبها.بلغنا أن الله يكره صوت المغنية، وصوت النائحة، فلا نجد أغنية أبداً تنشرح لها صدورنا، أو تميل إليها نفوسنا إلا ونبغضها؛ لأن الله يبغض هذا الصوت.وهكذا معاشر الأبناء والإخوان: ولاية الله تكون في موافقة الله؛ بدليل قوله عز وجل: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:63] من هم يا رب؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فإذا آمنت فهنيئاً لك، وبقي أن نتقي أن نكره ما يحبه الله، أو أن نحب ما يكره الله، وبذلك تتم الولاية: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فيتقون ما يكره الله فلا يعتقدونه، ولا يقولون به، ولا يعملونه، ويتقون أن يسخطوا الله بترك ما يحب من الطاعات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى أصحابه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-11-29, 05:42 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (72)
الحلقة (79)



تفسير سورة البقرة (41)

الفسق، الكفر، نقض العهود، مخالفة الشرع.. وغيرها كثير من الصفات التي يتمتع بها اليهود، وبيّنها القرآن، فهم يرون الآيات واضحات جليات كالشمس، ثم يعمهون عنها، ويعاهدون ثم ينقضون، أما الكتب السماوية المنزلة فتراهم يضعونها وراء ظهورهم، معرضين عنها، مخالفين لها، وكأنهم لا يعلمون شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون)

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ .. [البقرة:99-102] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا كتاب الله، وهذه كلمة الله جل جلاله وعظم سلطانه، والواسطة في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عليه أنزل هذا الكتاب الكريم، ولنستمع إلى هذه الكلمات الإلهية.

المراد بالآيات البينات

يقول تعالى وهو يخاطب رسوله ومصطفاه محمداً صلى الله عليه وسلم، يقول: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [البقرة:99] حقاً حقاً، فالله هو الذي أنزل على رسوله آيات بينات، وهي آيات القرآن الكريم، إذ لفظ الآية قد يطلق ويراد به المعجزة الدالة على صدق النبي، والمقررة لنبوته ورسالته، وقد يكون بمعنى الآيات التي تحوي الهدى، وتحمل الشرائع والأحكام.والمرا من الآيات هنا آيات القرآن العظيم، وهي ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، وكل آية هي علامة على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فكل آية كأنما تصرخ: يا عباد الله! إنه لا إله إلا الله الذي أنزلني وأن محمداً عبده ورسوله إذ أنزلني عليه، والآية هي العلامة الهادية إلى الشيء، فالآية أنزلها الله، وهو موجود، عليم، حكيم، قوي، قدير، فلا يعبد إلا هو، فهي تقول: لا إله إلا الله. والذي أنزلت عليه لن يكون إلا رسول الله. فتقول: محمداً رسول الله.ولهذا كل الشرائع والأحكام والعبادات تدخل ضمن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمن أراد أن يدخل في رحمة الله فليقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم يغتسل ويصلي، وهو مستعد لتحمل أعباء هذه الملة، فإن كانت جهاداً جاهد، وإن كانت صياماً صام، وإن كانت زكاة زكى .. وهكذا؛ لأنه عرف عن علم وشهد شهادة عالم أنه لا إله إلا الله، فلم يعبد إلا الله، وليعبد الله بما يريد الله أن يعبد به.إذاً: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [البقرة:99] واضحة فيما تدل عليه، فلا غموض، ولا خفاء، ولا لبس، ولا إشكال، ولا .. فهي بينة كالشمس، فالقرآن لا توجد فيه آية غامضة أبداً، بل آياته واضحة وضوح الليل والنهار.

معنى قوله تعالى: (وما يكفر بها إلا الفاسقون)

قال: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، أي: وما يجحد بتلك الآيات البينات ويغطيها، ويسترها، ويتجاهلها إلا القوم الفاسقون.فإن قيل: ما السر؟ ما العلة؟ ما الحكمة؟ أيها المناطقة! لِم لا يكفر بها إلا الفاسقون؟الجواب أيها الأحباب: لأن الفاسقين غرقوا في الأهواء، والشهوات، والأطماع، والأموال، والدنيا، فإذا جاءت الآية تريد أن تمنعهم من شرب الكأس يكفرون بها .. جاءت الآية تريد أن تصرفهم عن اللهو، والباطل، والعبث، لا يقبلون .. جاءت الآية تأمرهم بالعدل وهم ظلمة لا يقبلونها .. جاءت الآية تأمرهم بالاستقامة فلا يريدونها؛ لأنهم ألفوا الاعوجاج والحياة عليه.فقوله: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا [البقرة:99] أي: وما يجحدها ويتنكر لها بعد أن عرفها، وعرف ما تدعو إليه، وتهدي إليه: إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]. والفاسقون: جمع فاسق.فإن قيل: لِم ما قال: (والفاسقات)؟الحم د لله .. الحمد لله .. الحمد لله. أكرمنا الله، فعرف أننا ذوو غيرة، فلا نقبل أن يتحدث الناس عن نسائنا، أو يتكلم عن حلائلنا، أبداً، ومن إكرام الله لهذه الأمة أن لا يدخل النساء في كل كلام.وقد سمعنا ما جاء في تلك الورقة التي يقول فيها أحدهم: صوت النساء عورة! خرافة.فإن قيل له: لِم يا عم خرافة؟الجواب: لأنه يريد للمرأة أن تحاضر، وتخطب، وتتكلم في المذياع والتلفاز بصوتها الرفيع، وهي تلوي رأسها بعد أن تحسن حالها وشعرها، وتجعل الأحمر في خديها، فلهذا الغرض فقط!! فما قالوا: ليس بعورة إلا لهذا! فهم يريدونها أن تعهر وتفجر، وتخرج من دائرة كمالها وحشمتها واحترامها إلى أن تصبح صعلوكة من صعاليك النساء، تجادل وتخاصم، وتحاضر، فكشفهم الله، وعرفنا خباياهم.ونحن نقول: من منع المرأة أن تتكلم للضرورة .. تتكلم للحاجة الماسة التي لابد منها، وإذا تكلمت في حدود المصلحة، ولو تزيد كلمة فإنها تكون قد عصت ربها، وفسقت عن أمره.وكثيراً ما بينا هذا، وعرفه الصالحات، فإذا قرع أحد بابها فإنها تقول: من، ولا تقل: (مِـيِين) وهذه الإمالة لا وجود لها في لسان العرب، فهذا الحرف لا يمال، إنما يمال: موسى .. عيسى، أما أن تقول: (مِـيين) هكذا بالإمالة فلا، بل تقول: (مَنْ) قاسية هكذا. فإن قيل لها: أين زوجك؟ فإن كانت تعرف تقول: في البيت .. في السوق .. في المسجد. ولا تزيد على الجار والمجرور حرفاً واحداً أبداً، فإن زادت كلمة أخرى فهي آثمة، كأن تقول: عفواً قد يكون الآن في السوق .. مع الأسف في مثل هذا الوقت لا يكون في السوق.. إذاً ممكن الآن في طريقه إلى كذا. فهذا الكلام حرام.فإن قيل: من أين لك يا هذا يا شيخ؟ فإنك تدعي هذه الدعاوى الباطلة، فدلل وبرهن من قال الله .. وقال رسوله؟الجواب: نعم، أما قال الله تعالى للأميرات أزواج محمد وبناته: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:32-33]، ومعنى قوله: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا أي: ما فيه الحاجة، أما أن تسترسل في الكلام مع الأجنبي فقد فتحت له باب المحنة.ويغالطون ا ويقولون: ماذا هناك؟ ونحن نعرف أن الفحل إذا سمع صوت الأنثى فإنه يهتز وتتحرك أعطافه.ومع ذلك يقول: لا.. لا، هذا ليس بمعقول.نقول: هؤلاء يخادعون ويغالطون من؟! فهذه الغرائز غرزها الله .. هذه الطبائع طبعها الله، فمن يبدل خلقة الله، ويقول: ماذ هناك إذا تكلمت معها أو ضاحكتها أو صافحتها؟نعم، إذا كان هذا الفحل لا يرى طاعة لله .. لا يرى فسقاً عن دين الله، لا يرى غيرة .. فسيقول: ماذا هناك؟أما إذا كان يحافظ على زكاة نفسه حتى لا تتحول إلى خبث، وإلى زكاة نفس تلك المؤمنة حتى لا يحولها إلى خبث، فهو يحاول أن يقلل ما استطاع من كلمه وحديثه مع هذه المؤمنة.والشاهد غرقوا في الفسق.ومعنى الفاسق: خارج عن الطاعة. مأخوذ من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وسميت الفأرة فويسقة؛ لأنها تخرج من جحرها على أهل البيت، وتريد أن توقد عليهم النار، أو تأكل عجينهم.فمن فسق عن أمر الله أي: عدل عنه وخرج عنه فقد فسق، ولا يزال المرء يفسق يوماً بعد يوم حتى يطبع على قلبه، فلا يسمع نداء، ولا يعرف إجابة إلى هدى، فقد انتهى أمره لمغالاته في الفسق، وهذه الحقيقة واضحة.

الإسلام يحذر من الاستمرار في المعصية ويدعو إلى التوبة الفورية

الذي يألف شيئاً ويعتاده زمناً طويلاً يتعذر عليه أن يتركه، وقلّ من يستطيع أن يترك عادة تعودها وأشربها في دمه ولحمه، فلهذا الإسلام يحذر من الاستمرار على المعصية، ففرض التوبة وشرعها وأوجبها، وأوجب أيضاً الفورية فيها، لا تقل: سأتوب بعد يوم أو عام، أو بعد شهر أو كذا كذا، كل هذا باطل، فإذا زلت القدم وسقطت، وفعلت المعصية، فمن ثم وأنت تصرخ: لا إله إلا الله قل: أستغفر الله، وأتوب إليه، وكلك عزم على أن لا تعود إليها، ولو صلبت، وذبحت، وقتلت، وهذه هي التوبة على الفور.أما أن تقول: سأتوب فهذا حرام، فمن يحييك غداً حتى تتوب.وكلنا يعرف آية سورة النساء فهي محفوظة لدى المؤمنين والمؤمنات، وفيها بيان كافٍ شافٍ، إذ قال تعالى وقوله الحق: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] فالله هو الذي تكرم وامتن وأنعم، فجعل التوبة عليه واجبة، وأوجبها على نفسه، فهو يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، وتعهد بذلك لأوليائه وعباده فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17].ولنتأمل هذا الهدى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ فأثبتها وأوجبها على نفسه تفضلاً منه وامتناناً، ولا يوجب على الله مخلوق من المخلوقات شيئاً، بل هو الذي أوجب على نفسه بنفسه بهذه الصيغة: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ والسوء هو ما يسيء إلى نفسك، كأن يقع عليها مثل الدخان، فتسود وتظلم، ثم تعفن وتنتن وأنت لا تشعر، لكن لما تتلطخ النفس وتخبث يظهر ذلك حتى في البهائم، ولا يبقى سراً مكتوماً، فيظهر أثر ذلك في سلوكك .. في منطقك .. في مشيتك .. في معاملاتك .. في حياتك كلها، كالمرض يظهر في سلوك المريض، فيصبح لا يقوى على الكلام .. لا يقدر على الأكل .. لا يستطيع النوم .. لا يقوى على المشي، فأعراض المرض قد ظهرت فيه، فإذا مرضت النفس والله ليظهرن ذلك في سلوك هذا المسكين، كما يظهر المرض في جسمه سواء بسواء.إذاً: ما يسيء هو السيئة وهو السوء.قال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17] أي: ما يسيء إلى نفسه.وعلى سبيل المثال: فإن الكذب.. السب والشتم .. الخيانة .. الغش .. السرقة .. الكبر .. العجب، كل هذه تسيء، وغيرها من سائر الذنوب والمعاصي وتحدث أثراً سيئاً على النفس البشرية التي هي السلطان في الجسم.ثم قال: بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، فهو يعمل المعصية وهو لا يريد أن يتحدى الله، أما الطغاة والجبابرة الذين يعلمون ويريدون أن يتحدوا الله قائلين: افعل ما تشاء فأنا ضدك، فهذا لن يتوب الله عليه، ولا توبة له.وإنما المقصود بأهل التوبة من يعملها مع نوع من الجهل، وقد فسرنا ذلك غير ما مرة، فتجده يقوله: ها هو الشيخ الفلاني يفعل كذا، وأنا مثله؟ وآخر يقول: لو كان هذا حراماً فكيف تأذن به الحكومة؟ وآخر يقول: إن شاء الله إذا تزوجنا نترك هذه المعصية، وآخر يقول: إذا توظفت إن شاء الله كذا، فهذه أنواع الجهالة، لا أنه يتحدى الله فيقول: أمرتني وأنا لا أفعل، وافعل ما تشاء. فذاك صاحبه لا توبة له، فلهذا تأمل هذا القيد: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]. وقد تجد من يقول: ممكن هذا غير حرام، فها هو فلان يفعله، فيسهل عليه أن يفعل هذا. هذا هو نوع الجهالة.ثم قال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، والقرب نسبي، فمن الجائز أن المرء قد يقارف ذنباً عشر سنوات ويمكن أن يتوب منه، ومن الجائز أن يقارفه مرة ولن يتوب، ففي ليلة واحدة فقط يسهر في مخمرة ومزناة ثم يخرج لا يعرف الله.فما دامت أن القضية بهذه الصورة فلا ينفعك إلا الفورية في التوبة، والإسراع على الفور، فأنت لا تضمن أنك تعيش عشر سنوات أو عشرين سنة، ولا تضمن أنك تتوب أو لا تتوب، ولا تضمن شيئاً أبداً، لأنك في قبضة الله، ولست في قبضة نفسك، والله قد أرشدك إلى أن تتوب على الفور.ولهذا بالإجماع أن التوبة لا تؤجل حتى الحج .. حتى رمضان. فإذا زلت القدم، ووقعت على الأرض فقل: أستغفر الله وأتوب إليه.

المراد بقوله تعالى: (الفاسقون)

قول ربنا: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا [البقرة:99]، فما قال: إلا اليهود أو إلا النصارى .. إلا المشركون .. إلا الأغنياء .. إلا الفقراء. إنما قال: إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، والسر في هذا أن الذي يتوغل ويمشي في طريق الضلال دهراً طويلاً يتعذر عليه أن يعود، فلا يستطيع؛ فلهذا الذي يفسق ويفسق في: الزنا .. الربا .. قتل النفس .. الخيانة .. الكذب .. ألـ .. ألـ، يصبح غير قابل للتوبة، فيكفر بالقرآن قائلاً: دعنا من هذا، أنا لا أؤمن بهذه الكلمات التي تمنعنا، وتحول دون رقينا وسعادتنا، وكل هذا نشاهده ونسمعه.أما الإنسان النقي الطاهر سواء كان يهودياً أو نصرانياً فإنه إذا سمع آيات الله تتلى، وفهم ما تدل عليه، وتهدي إليه، فإنه يقبلها، ويرغب فيها ويحبها، وليس هناك موانع.أما من كانت لديه موانع كحال رؤساء الكنائس والبيع اليهودية، وحال رؤساء مشايخ الطرق، وكذلك هو حال رؤساء الشعوب، فهم لا يريدون أن تخرج الشعوب من أيديهم؛ لأنهم استغلوهم، وتحكموا فيهم، فلا يقبلون هدى الله لذلك.والمراد في قوله: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99] هم فساق اليهود، فما كل اليهود يرفضون آيات الله، ولكن فيهم أمثال ابن صوريا الأعور وفلان وفلان الذين لهم سلطة يتحكمون بها في الشعب اليهودي فيرفضون الآيات، ويكفرون بها؛ لأنها تحول بينهم وبين مرادهم، وهذا ما هو ببعيد أبداً، فإنك تجده بيننا، والذي توغل في أية معصية لا يستطيع أن يتخلى عن المعصية، ولا يؤمن بالآيات.
تفسير قوله تعالى: (أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم ...)

سجية اليهود وطبيعتهم في نقض العهود

قال تعالى: أيفعلون .. أيقولون .. كذا.. كذا أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ [البقرة:100]، هذه شهادة الله على بني إسرائيل، فهم كلما عاهدوا عهداً جاءت جماعة أخرى ونقضته: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]، سواء كان فريقاً كبيراً أو صغيراً. ومن هنا لا تثق في أي معاهدة يهودية أبداً، وإن اضطررت إلى أن تعقد معاهدة فعاهد، واكتب، وأشهد، لكن إياك أن تطمئن فتقول: بيننا وبينهم عهد، والله إن احتاجوا إليك وقدروا عليك ما تركوك لأجل العهد؛ لأنهم طبعوا على نقض العهد، ولقد كان الله يخاطبهم والجبل فوقهم، ومع ذلك نقضوا العهد، فكيف -إذاً- تطمئن إلى عهودهم.هذا الموضوع تكلمنا فيه بحمد لله، وقلنا للعرب: يا عرب! توبوا وأسلموا، وحدوا دولتكم، وحدوا قوانينكم، فأمتكم أمة واحدة، ودينكم دين واحد، فلا مذهبية، ولا فرقة، ولا وطنية، ولا نعرات خارجة عن دائرة الحق، بل أمة واحدة، وما عليكم إلا أن تجتمعوا، وسوف يهرب اليهود منكم، فوالله ما إن يسمعوا بوحدة المسلمين الحقة فلن يبقى يهودي يطالب بإسرائيل، ولا يبقون فيها، بل يرحلون.فإن قالوا: ما زلنا غير مستعدين للإسلام والوحدة و.. و.نقول: لا مانع من التدريج. وبإمكانكم أن تعاهدوا اليهود، وتعقدوا بينكم وبينهم معاهدات سلم وعدم اعتداء حتى يخف الألم على إخوانكم الفلسطينيين، وتزول همومهم، ومخاوفهم، فأمنوهم على الأقل، ولا تقولوا: إذا عاهدناهم لا نستطيع أن ننقض العهد، وهذا معناه أننا أعطيناهم فلسطين للأبد، نقول: هذا الكلام باطل؛ لأنهم هم الذين سينقضون العهد، وليس أنتم، فهذا طبعهم، وهذه غرائزهم، وهكذا عاش أسلافهم إلى اليوم.وقلنا: إن شككتم فانظروا إلى حال رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإنه لما نزل المدينة مهاجراً وتقدمه فحول هاجروا إليها قبله، وأصبح الإيمان في كل بيت، فعقد الاتفاقيات والمعاهدات على السلم وعدم الاعتداء، فهل أنتم أعلم من رسول الله الذي معه الله والملائكة، ولله جند السماوات والأرض، ومع هذا كان من الحكمة والرشد والعقل والمعرفة عقد اتفاقية مع اليهود من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريضة، ونصوصها موجودة، ولو تقرأها تجد فيها العجب، ولا تستطيع أمة الآن تقوم بهذا.

نقض يهود بني قينقاع للعهد

وأول من نقض العهد هم بنو قينقاع، فقد كان لديهم صائغ، نسميه قين أو حداد بلغتنا الدارجة، فهذا الصائغ وهو يصوغ جاءته امرأة مؤمنة تريد أن تشتري وتصنع، فكانت جالسة محتشمة، وعليها حجابها وملاءتها، فجاء هذا اليهودي الخبيث يضحك من خمارها على وجهها يقول: لِم أنت مغطية وجهك؟ لم أنت كذا؟وهذا الكلام يقوله الآن الذين ينتسبون إلى الله والإسلام.يقول اليهودي: لِم أنت هكذا؟ ما هذا التجمد والتحجر؟ كأنه يعيش اليوم؛ فاغتاظ كيف تحجب نفسها، وكيف تغطي جمالها ووجهها. فأبت أن تلتفت إليه أو تتكلم معه، فجاء من الوراء، وأخذ ملاءتها وربطها مع غطاء رأسها، فلما قامت انكشفت عورتها، وصعقت على الأرض تصرخ: واإسلاماه، فشعر بها أهل السوق من المؤمنين، فجاءوا فرفسوه على الأرض، ومن ثم جاء رجال بني قينقاع ودارت فتنة ما هدأها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن نقض يهود بني قينقاع للعهد، وأراد أن يقيم حكم الله فيهم، فشفع لهم أحد رجالات الأنصار، فأعطاه الرسول إياهم، فأجلاهم من المدينة لنقضهم العهد، فما قتل أحداً، ولا سلب مال أحد، فأخرجوا، ونزلوا بالشام بأرض تسمى أذرعات.

نقض يهود بني النضير للعهد

أما بنو النضير فقد دامت المعاهدة معهم أكثر من أربع سنوات، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم مع رجال له كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي يطالب بموجب الاتفاقية أن يعطوه مالاً ليسدد دية مقتول، والاتفاقية تقول: أننا نتعاون حتى على تسديد الديات، فإذا لزمت اليهود دية فالرسول يساهم فيها، وهم كذلك، فلما حصل أن مسلماً قتل شخصاً ظنه كافراً وهو مسلم من بني عامر، فجاء يطالب بالمساهمة في الدية.فقالوا: تفضل يا أبا القاسم اجلس، ففرشوا له الفراش وأجلسوه تحت جدار مع أصحابه، وأخذوا يتآمرون: هذه فرصة، وهذا اليوم يوم السعد، واليوم ننهي هذه المشكلة، فقالوا: ائتوا بمطحنة -رحى، معروفة عندنا- وألقوها على رأسه من السطح، فإن قيل لنا في ذلك قلنا: لقد سقطت. وما زالوا كذلك وهم يبحثون كيف يرفعون المطحنة كيف يرسلونها في داخل البيت، فنزل الوحي: قم يا رسول الله. وأخذ رداءه وخرج هو ورجاله؛ فوصل الرسول إلى المدينة، وأعلن الحرب عليهم، فقد نقضوا العهد، وهل هناك نقض أكثر من أن يريدوا أن يقتلوا رئيس الدولة؟!فأجلب الرسول على بني النضير برجاله، وطوق المنطقة واستسلموا وانقادوا، واقرءوا قول الله تعالى من سورة الحشر: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:1-2].لكن أين أولو الأبصار؟؟يا رب! لا يوجد أحد، فما اعتبر العرب ولا المسلمون، وهذه الآيات ما تقرأ إلا على الموتى.نعم لقد نقضوا المعاهدة بأيديهم فطوقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستسلموا، وما قال: اقتلوهم ولا مرغوهم في التراب، ولا أذلوهم، لا، إنما هي عدالة السماء، ونور الله، وما كان منه إلا أن قال لهم: ( اخرجوا واحملوا معكم ما تستطيعون حمله )؛ فأخذوا كل شيء من الفرش والأسرة، والعيدان، وآلات الطبخ .. وحملوا كل ما يستطيعون، حتى إن بعضهم أخذ شباك النافذة فينزعه ويأخذه معه، وبعضهم لديه خشب ممتاز فيهدم البيت ويأخذ الخشب على البعير: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ .

نقض يهود بني قريظة للعهد

أما بنو قريظة في جنوب المدينة فقد استسلموا وانقادوا وعرفوا ما جرى لإخوانهم من بني قينقاع وبني النضير، فثبتوا يتحينون الفرصة لينتقموا ويشفوا صدورهم، ثم جاءت محنة الأحزاب المؤامرة الكبرى، التي ما بلغنا مؤامرة في التاريخ تشبهها إلا مؤامرة الخليج، وإن كان الناس لا يعرفون هذا، فلا نظير لتلك المؤامرة؛ لإنهاء الإسلام وإطفائه.فهذا الزعيم حيي بن أخطب النضري عليه لعائن الله، ما إن خرج مع بني عمه ونزلوا في خيبر في فدك في تبوك في الطريق إلى الشام، قال: والله لأبيتن لكم، ولأنهين هذا الدين وهذا الرسول، وأخذ يركض بين قبائل العرب في الشرق .. في الجنوب .. في الغرب .. في مكة: هيا بنا ننهي المشكلة، فحزب الأحزاب وجمع القوات من الشرق والغرب، وطوقوا المدينة تطويقاً كاملاً، وحشر الرسول ورجاله في جبل سلع خمسة وعشرين يوماً، فلما شاهد بنو قريظة الحصار انضموا إلى المؤامرة ودخلوا مع الأحزاب بوسائط معروفة، وأصبحوا ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكشفوا النقاب عن وجوههم، وشاء الله عز وجل أن يطرد الأحزاب شر طردة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:9-10]، ليس معنى من فوق: من السماء، وليس معنى من أسفل: من تحت الماء، وإنما ذلك بالنسبة للمدينة من جهة الفوقية والسفلية. وهكذا: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:10-11]، وما هي إلا خمسة وعشرون ليلة وإذا بريح الصبا لا الدبور، قال صلى الله عليه وسلم: ( هلكت عاد بالدبور، ونصرت بالصبا )، ريح شمالية شرقية، وهذه الريح لو شاهدتموها لا تسألوا، ففي أول الأيام والليالي برد لا حد له، كأنكم في أوروبا حيث الناس يرتعدون أيام الشتاء، وإذا بهذه الريح -والله- تقتلع الخيم وتضربها، وتقلب القدور التي فيها طعام الجيش، فما كان منهم إلا أن أعلن رئيس المؤامرة -رضي الله عنه الآن- أبو سفيان الرحيل، ونادى المنادي بالرحيل في الليل، فقال الرسول: ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا )، أي: من الآن نحن الذين نغزوهم، وليس هم الذين يغزوننا.أما بنو قريظة فلم يذهبوا مع الأحزاب، لأنهم مقيمون في المدينة، فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم الظهر، وإذا بجبريل على فرس الحيزوم: ( يا رسول الله وضعت السلاح؟! أما نحن فما وضعنا السلاح، انطلق إلى بني قريظة، وأذن مؤذن في داخل المسجد: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة )، فلبسوا دروعهم وحملوا سلاحهم إلى بني قريظة، وحاصرهم رسول الله، وما سمعوا كلمة إلا واحدة: يا إخوان القردة والخنازير فقط، وفاوضهم وفاوضوه، واتفقوا على تحكيم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات: أن يقتل الرجال، ويسبى النساء والأطفال؛ لأنهم رضوا بحكمه ووافقوا، فلما حكم سعد قال الرسول: ( لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات ).فجمع الرجال مكبلين، مسلسلين هنا في المناخة في طرف المسجد، وحفرت لهم حفرة، والسيف يقطع الرءوس، فلا إهانة، لا سب، لا شتم، لا.. لا.. تطهير فقط، وكانوا قرابة السبعمائة رجل، والنساء والأطفال وزعوا على المؤمنين، وما هي إلا أيام حتى دخلوا في رحمة الله وأصبحوا مسلمين.فهل عرف المسلمون هذا؟ ما عرفوه أبداً.إلى الآن في غضب: كيف تتم مفاوضات، وكيف يرضى بهذا؟ تفضلوا، لا نستطيع.عجائب التاريخ! قلنا لهم: يا هؤلاء! ليست القضية قضية تراب، وأرض، وفلسطين، القضية أن يدخل البشر في دين الله، ونحن مطالبون بأن نغزو أوروبا وأمريكا والصين واليابان، وندخل الناس في رحمة الله، وليست القضية قضية أرض لا نعطيها لليهود!! وأي قيمة للأرض والتراب والطين؟ولكن هذا الكلام لا يفهمونه، وما عرفوه بعد، فهل جلسوا هذا المجلس وتعلموا؟فهم لا يعرفون.الشاهد عندنا في قوله تعالى: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، فاحذر يا عبد الله الفسق، واحذري يا أمة الله الفسق، والفسق هو: الخروج عن طاعة الله ورسوله بترك الواجب وفعل الحرام، فمن أخذ يترك الواجبات، ويتخلى عنها واحداً بعد واحد، وأخذ ينغمس في المعاصي، ويرتكبها معصية معصية، فسيأتي يوم يكفر بالله ولقائه، لا بآياته فقط.وما قال: إلا اليهود .. إلا بنو فلان.. لا، قال: إِلَّا الْفَاسِقُونَ ليحذر من الفسق ويبين نتائجه، فإن الفاسق يوماً بعد يوم يعمى البصيرة، ولا يصبح يعرف شيئاً، ويكذب الله ورسوله وبآياته.ثم قال تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]، فما يجمعون على نقضه، ولابد فريق ينقض ويسكتون، وهذا الذي يحصل.

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ...)

قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:101]، أي: ولما جاءهم رسول عظيم الشأن .. رسول جليل القدر .. رسول فوق الرسل .. رسول إمام الرسل، ليس رسولاً عادياً قد لا يبالون به أو لا يصدقونه. وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ وهذا التنكير في لغة العرب يدل على التعظيم.وهذا الرسول ليس يحيى، بل هو محمد صلى الله عليه وسلم.وقد جاءهم بالفعل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]؛ فهو إلى اليهود والنصارى، والبوذيين، والمشركين، والمجوس، وكل الملل والنحل، فهو رسول الله إليهم.وتريدون دليلاً أو برهنة؟من يوم أن توفي الرسول من قبل حوالي أربعة عشر قرناً، ما جاء رسول أو نبي في الأرض كلها؛ لأن الله أعلم أنه ختم النبوات بهذه النبوة، وختم الرسالات بهذه الرسالة، فلهذا ما جاء رسول، وهذه وحدها تجعل العاقل يشهد أن محمداً رسول الله، فما كانت البشرية تمضي عليها السنون وعشرات الأعوام وليس فيها نبي ولا رسول، فلابد من نبي ينبئها ويخبرها؛ لأنها خلقت لتعبد الله، وتذكره، وتشكره، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].قال: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:101] ما الذي حصل؟ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة:101]، وكتاب الله هنا التوراة .. الإنجيل، إذ فيهما نعوت الرسول وصفاته واضحة كالشمس، حتى المكان الذي يخرج منه: بين جبال فاران .. مدينة طيبة .. بلد تسمى يثرب .. أرض سبخة فيها كذا، ففيها نعوت كل من يفتح عينيه يرى الرسول. ومع هذا عموا عمى كاملاً، وأنكروا نكراناً كاملاً.ثم هذا الرسول مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فلو جاء بدين يتناقض مع دينهم لقالوا: لا نقبل هذا، هذا جاء يحرم علينا ما أحل الله، أو يحل لنا ما حرم الله، أو يأمرنا بما لا نطيق، فهذا ليس بدين الله، وقد يكونون معذورين، لكنه والله جاءهم بما عندهم، فكل الأديان قامت على لا إله إلا الله، وأن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وبين رسوله الذي أرسله، وكل الأديان مجمعة على هذا، وكل الأديان تعرف أنه لابد من لقاء لله عز وجل، وأنه لابد من الجزاء على الكسب الدنيوي، وأنه إما عالم شقاء أو عالم سعادة فلابد منهما، وأن الظلم حرام، والخبث حرام، والسرقة حرام، والربا حرام .. و.. و.. وكل المحرمات عندنا محرمة في الكتب؛ لأنها ضارة بالناس، فلا يحرم الله إلا ما يضر بالناس.إذاً: مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فليس هناك تناقض ولا منافاة ولا مضادة، فلم لا يقبلونه؟ قال: (نبذه) النبذ: الرمي، فلا تلتفت إلى ما يقوله هذا الرسول فارمه وراء ظهرك، (نبذه فريق) كبير منهم، وهذا الفريق هم الرؤساء المستغلون للشعب اليهودي، الذين يعيشون على حسابه فهم الذي يرفضون الحق.وبعض البهاليل يقولون لـأبي عبد الله وأبي سالم : كيف تجعلون القرآن وراء ظهوركم؟ فيأتون يشتكون إلي يقولون: الله يقول: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187]، فكيف يجعل هؤلاء القرآن وراء ظهرهم؟فقلنا لهم: معنى جعله وراء ظهره أي: ما عمل به؛ لأنهم وضعوه وراء ظهورهم، فما الفائدة أن يضعوه وراء ظهورهم، فلا يلتفتون إليه ولا يقبلون عليه، وإخواننا هؤلاء مضطرين لكبر سنهم يتكئون على العمود، والمصاحف خلفهم في الدولاب. لكنهم أصروا وقالوا: لا تعطه ظهرك، فالله يقول: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ !وهذا سوء فهم؛ فقوله: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ معناه: ما عملوا به، ولا قرءوه، ولا فتحوه، ولا ولا؛ لأنه جاء ضد أهدافهم وأغراضهم.ثم قال: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:101]، أي: لا يعلمون شيئاً، لا صفة الرسول ولا نعته ولا صفة الإسلام ولا أمة الإسلام ولا.. ولا، فهذه النعوت حتى للأمة موجودة.وماذا فعلوا؟تركوا التوراة؛ لأنها تتفق مع القرآن وتمشي معه، ولجئوا إلى السحر والباطل، فالشياطين كتبت كتاباً؛ شياطين الإنس مع شياطين الجن على عهد سليمان، ودسوه تحت السرير بواسطة آصف ، فلما مات سليمان أخرجوا الكتاب وصاحوا في الأمة: انظروا لقد كان سليمان يحكمكم بهذا الكتاب الذي فيه السحر، فسليمان ليس بنبي ولا برسول بل هو ساحر، ولهذا استخدم الإنس والجن، وتحكم في العالمين بالسحر، وهذا الكلام سيأتي الحديث عنه إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-03, 06:14 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (72)
الحلقة (79)



تفسير سورة البقرة (42)

عرف السحر منذ قديم الزمن، يوم أن تعلمه الناس على يد هاروت وماروت، ورغم أن هذين الملكين نصحا الناس بعدم تعلمه، وأنهما فتنة للناس، وأن السحر كفر بالله تعالى، إلا أن كثيرين أصروا على تعلمه وتعليمه وممارسته، فتعلموا كيف يفرقون بين الرجل وزوجه، وكيف يفسدون حياة الناس ومعايشهم، ولكن كل هذا ليس بمعزل عن قدرة الله ومشيئته، أما أولئك فقد خسروا جنة عرضها السموات والأرض.

تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين عل ملك سليمان...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.وقراءتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102-103].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قول ربنا جل ذكره: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، هذا كلام الله جل جلاله وعظم سلطانه .. هذا إخبار الله عز وجل عن بني إسرائيل .. عن اليهود، والسياق فيهم من قبل ومن بعد.

اتباع اليهود لما تتلوه الشياطين

يقول تعالى: وَاتَّبَعُوا أي: واتبع اليهود من بني إسرائيل ما تتلوا الشياطين، وقد سبق أن عرفنا أنهم لما وجدوا التوراة لا تتصادم مع القرآن، بل وجدوها متفقة معه في أصول الدين: في إثبات النبوة، والتوحيد، والبعث والجزاء، فلما وجدوها متفقة معه رموها وراء ظهورهم، أي: تخلوا عنها، وما أصبحوا يحتجون بها، ولا ينقلون منها؛ لأنهم وجدوها مثل القرآن، فهم كانوا يعتزون بها، ويجادلون ويتكلمون، ويقولون: نحن أولو كتاب وأولو علم، ولسنا في حاجة إلى هذا العلم، ولا إلى صاحبه، لكن لما وجدوا التوراة تتفق تمام الاتفاق مع القرآن الكريم في أصول الدين تركوها.ومعنى: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187]، خلوها وراءهم، ولا يقبلون عليها لا بالقراءة، ولا بالأخذ منها والاحتجاج بها؛ لأنها تمشي مع القرآن، إذ القرآن كلام الله، والتوراة كلام الله.فماذا يفعلون بعد؟ قال تعالى عنهم: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، لكن ما هذا الذي اتبعوه؟تقول الأخبار السليمة الصحيحة: أن سليمان عليه السلام لما حصل له ذلك الحادث، وترك قول: إن شاء الله، وغفل تلك الغفلة، ففي تلك الأثناء استغل شياطين الجن ومردتهم تلك الفرصة فاجتمعوا وكتبوا كتاباً يحمل أصول السحر ومبادئه وآثاره، وكان كاتب سليمان عليه السلام هو آصف بن بلخيا ، فاستطاعوا بواسطته أن يدسوه تحت كرسي سليمان، ولما توفي سليمان عليه السلام استخرجوا ذلك الكتاب، وأشاعوا في عالم الجن والإنس أن سليمان عليه السلام كان ساحراً، وكان يحكم الإنس والجن، ويتصرف ذلك التصرف العظيم بواسطة السحر، فأبعدوا عن الناس والجن أن سليمان كان نبياً رسولاً، وكان يسود الناس بقدرة الله وتوفيقه، وعونه، وتسخيره، حتى إن الله سخر له الجن، وسخر له الريح، وكلام الله شاهد: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ:10].. الآيات من سورة سبأ: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ [الأنبياء:82]. فهذا الكتاب وسعوه، وشرحوه، وأضافوا إليه، وأصبح اليهود سحرة العالم.قال الله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أي: على عهد ملك سليمان، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن سليمان لم يكن نبياً، ولا رسولاً، فكيف تذكره مع المرسلين، وإنما كان ساحراً يحكم الإنس والجن بالسحر.. فأبطل الله هذه الدعوى بقوله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ .
نفي الكفر عن سليمان عليه السلام
قال تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، نفى الله تعالى عن نبيه ورسوله سليمان الكفر، وهل يبقى لأحد أن يتكلم بعد ذلك؟ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ بل هو أحد المرسلين الثلاثمائة والأربعة عشرة، ووالده كذلك: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل:15]. فانظر كيف كفر اليهود بتكفيرهم نبي الله ورسول الله.ونحن عندنا قاعدة عامة: من قال لأخيه المسلم: يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان الذي قال صدق فيما قال والمقول فيه حقاً كافر نجا، أما إذا كفر مؤمناً غير كافر فقد كفر، فكيف بالذي يكفر أنبياء الله ورسله؟!وهذا الذي جاءت به السنة: ( من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما ).إذاً: فكيف بالذين يكفرون أنبياء الله ورسله، وكيف بالذين يكفرون أولياء الله وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله، ونبرأ إليه أن نكفر مؤمناً أو مؤمنة.والكفر يكون بإنكار وتكذيب الله .. بإنكار وتكذيب رسول الله .. بجحود ما شرع الله وما قنن لعباده، أما مجرد معصية، حتى ولو كانت قتل نفس فصاحبها لا يكفُر ولا يكفَّر، إذ الكفر لابد فيه من استباحة ما حرم الله، وعدم اعتقاد أن هذا حرمه الله.إذاً: قوله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، ولكن كفر اليهود الذين كفروا سليمان.

قصة الملكين هاروت وماروت

قال تعالى: (( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ )) أي: بالعراق (( هَارُوتَ وَمَارُوتَ )) وهذه القصة علماء هذه الأمة المعتبرون ما أنكروها، ولا داعي لإنكارها، ولا كذبوها، وقالوا بها، إلا أنها لم ترفع إلى الحضرة النبوية، ولم يثبت فيها كلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاعت بين الأصحاب كـابن عمر رضي الله عنهما وابن عباس وفلان وفلان، وأغلب الظن كما يقول أهل العلم أنهم رووها عن كعب الأحبار أحد علماء بني إسرائيل الأجلة، الذين أسلموا ودخلوا في الإسلام، فيكون هذا مأثوراً منقولاً عنهم ولا غرابة.لكن ما هذه الحادثة التاريخية؟تقول الرواية: إن الملائكة عليهم السلام تعجبوا من بني آدم كيف يفجرون؟ كيف يكذبون؟ كيف يقتل بعضهم بعضاً؟ كيف.. كيف؟ لما يشاهدون ما يجري بين الناس من السوء والشر والباطل، فتحدثوا فيما بينهم وتعجبوا، فقال لهم الرب تبارك وتعالى: أنتم تتعجبون من بني آدم كيف يخرجون عن طاعة ربهم، ويفسقون عن أمره؟! فهيا اختاروا اثنين منكم، ونغرز فيهم غرائز بني آدم، ونطبعهم بطابع البشرية، وننزلهم إلى الأرض، ويعيشون كما يعيش بنو آدم، وانظروا هل يعصون الله، ويخرجون عن أمره أو لا؟ قالوا: يا حبذا، فاختاروا ملكين هما: هاروت وماروت، ونزلا إلى الأرض، وما هي إلا أيام أو أعوام حتى انغمسوا، فهذا زنا، وهذا كذب، وهذا .. فارتكبوا كبائر الذنوب.فخيرهما الله عز وجل بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فإن شئتما أن تبقيا هنا هكذا في هذه الحياة ولا تعذبان في الدار الآخرة، وإن شئتما جازيتكما، فرضيا بالبقاء، وأخذا يعلمان السحر بأرض بابل من العراق، فيلهمان إلهاماً وليس بوحي من الله، فإذا جاءهم من يريد أن يتعلم السحر ينصحان له، فيقولون له: لا تكفر، فإن الذي يتعاطى السحر، ويعمل به يخرج من ملة الإسلام، ويكفر تماماً، ويصبح في عداد الكافرين، فإن أصر على أن يتعلم ليتخرج ساحراً، وليأكل بالسحر ويشرب علموه أو وكلوه إلى شيطان مارد يعلمه ما به ينمسخ، ولا يصبح في قلبه ذرة من إيمان، فيعلمه سيئات يرتكبها، يتقزز منها الإنسان، وبعدها يصبح ساحراً ماهراً.ولنستمع إلى الآية الكريمة إذ قال تعالى: (( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ )) بل كفر من كفروه، وهم اليهود، (( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ )) هم الذين ((كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ))، وما هناك حاجة إلى أن تقول: (ما) نافية، (( وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ))، فالحادثة ثابتة، فما تنفى بـ(ما) أبداً، فهي موصولة: والذي أنزل على الملكين، لكن ليس إنزال وحي وإنما إلهام، فكما أوجد الله السم في العقرب والأفعى أوجد فيهم هذا الفهم، وأصبحوا يعلمونه الناس.(( وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ )) الموجودين (( بِبَابِلَ ))، وبابل بلاد بأرض العراق، ودخلها أناس وعرفوها من أهل المجلس، وهي ديار الخليل وآبائه عليه السلام، لكنه هاجر منها إلى أرض الشام: (( بِبَابِلَ )) هكذا: (( هَارُوتَ وَمَارُوتَ )).

حكم الساحر

قال تعالى: (( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ )) ذكراً أو أنثى، إنسياً أو جنياً؛ لأن لفظ (أحد) نكرة في سياق النفي فتعم (( حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ )) فيقولان: انتبه يا هذا وتفطن لموقفك، فأنت مقدم على بلاء، ونحن لسنا برسل الله، أو معلمي الهدى والخير، لا: (( نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ )) ومن هنا أجمع أهل السنة والجماعة على أن الذين يتعاطى السحر يكفر، فمن أخذ يتعلم السحر ويعمل به ويسحر به قد كفر، ولعله لا يصل إلى مستوى يستطيع أن يفرق به بين المرء وزوجه، أو يستطيع أن يقتل به، أو يفقد الرجل عقله أو قلبه، فلن يصل إلى هذا إلا بعد أن يتعاطى من المكفرات ما يمسح الإيمان من قلبه.وإن كان هناك ساحر يأتي ويقول لنا: أنا مؤمن، أنا كذا، أقوم الليل، ولكنني أسحر، وأستطيع أن أفرق بين كذا وكذا؛ لا يستطيع لأن حد الساحر ضربة بالسيف، ولهذا مالك رحمه الله إمام دار الهجرة، وإمامنا في مدينة الرسول، يرى أن الساحر حيث بان سحره، وظهر منه وعلم، فإنه يقتل، ولا يستتاب، ولا تقبل له توبة؛ لأن الحكم الشرعي أن الشخص إذا كفر وارتد يهودياً أو نصرانياً أو سب الله والرسول أو كذب الله أو الرسول فإنه لا يقتل على الفور، والحكم الشرعي أنه يستتاب ثلاثة أيام؛ فيدخل السجن أو الحبس، وتعرض عليه التوبة ثلاثة أيام، فإن تاب تاب الله عليه وخرج، وإن أصر على معتقده الباطل، وعلى إرادته الكافرة وارتد فإنه يقتل كفراً لا حداً، ومصيره مصير كل كافر وكافرة، إلا الساحر فإن الإمام مالك يقول: لا يستتاب؛ لأنه يعمل في الخفاء، فيقول: أنا تائب، وما رأينا رجلاً يسحر، فالسحر في الظلام والخفاء، فلهذا لا معنى لتوبته واستتابته لأنه قد يقول: تبت إلى الله ولن أعود إلى هذا الإثم أبداً، ثم يخرج من السجن، وإذا به يثير الفتن.وأكثر علماء الأمة على أن الساحر إذا قتل بسحره يقتل، فإذا أفسد عضواً؛ كأن يصيب إنساناً بالشلل أو بفقد بصره فإنه يقتل، فإذا لم يقتل ولم يصب ما هو كالقتل في الدية، فهذا يعزر ولا يقتل، وهذا الذي عليه جمهور أهل الملة الإسلامية.فقوله تعالى: (( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ )) أي: هاروت وماروت: (( حَتَّى يَقُولا )) ناصحين: لا تكفر يا عبد الله. ومن هنا: من شك في أن من يتعاطى السحر، ويعمل به، ويصنعه، وينشره بين الناس كاليهود فقد كذب الله وكفر، فالساحر كافر.

انتشار السحر في بلاد المسلمين وكيفية العلاج

العجيب أن السحر شائع الآن بين المسلمين في الشرق والغرب، ولا عجب! أما شاعت السرقة، والزنا، والربا، والكذب، والخيانة، وعقوق الوالدين، وبيع المحرمات، والسحر أيضاً من جملتها! وعلة ذلك كما علمتم أنها الجهل .. عدم البصيرة .. انطفاء نور الإيمان.وخذوا هذه الحقيقة: فالإيمان نور، فإذا ضعف يصبح المؤمن مريضاً، يرى ولا يرى، يحس أحياناً ولا يحس، يشعر ولا يشعر، وهنا في إمكانه ومن السهولة عليه أن يعصي الله ورسوله.أما مع العلم والبصيرة، فالناظر في الأحداث التي تقع في التاريخ، يمكن في مائة سنة أن عالماً يفجر أو يرتكب كبيرة من كبائر الذنوب، فالنور الإلهي الذي في قلبه لا يستطيع أن يفجر معه، والرجل الذي يمشي في الظلام ممكن أن يطأ على حية .. يمكن أن يطأ على شوك .. يمكن أن يجلس على عذرة؛ لأنه لا بصيرة له في الظلام، لكن صاحب النور، والذي بين يديه نور وهو ماش هل من الممكن أن يدوس حية تنهشه، أو أن يجلس على عذرة وقذر؟ الجواب: لا، لأنه على نور، فإذا خفت النور، وأصبح ساعة وساعة، فإنه ساعة ما يخفت يقع في المعصية ويرتكبها.ولهذا نعيد القول: كل الذي تشكوه البشرية هو الجهل بالله عز وجل، وبمحابه، ومساخطه، وبما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه، والله لهذا هو العلة.فمن أراد أن يطهر المجتمع من الرذائل .. من الأوساخ والقاذورات .. من الشرك، والكفر، والمعاصي، والذنوب، فالطريق الوحيد أن يعلمهم الكتاب والحكمة، كما كان رسول الله في هذا المسجد يفعل: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فالرجل كالمرأة، والصغير كالكبير، فإذا عرف وانشرح صدره ولاحت الأنوار له لا يرتاح أبداً إلا إذا دخل في عبادة الله، وتضيق به الأرض إذا نسي الله.وأقسم بالله لا علاج لإنهاء هذه الخبائث، والشرور، والمفاسد في الأرض إلا أن يعرف الله، وتعرف محابه ومكارهه، وما عنده وما لديه، والطريق: قال الله وقال رسوله، فلا علم وراء الكتاب والسنة، وعلى شرط أن يقوم بذلك علماء ربانيون يخلفون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، فيعلمون الكتاب والحكمة ويزكون النفوس والأخلاق والآداب ويهذبونها.

افتتان الناس بهاروت وماروت

قال تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فتنة؟ نعم، فتن الله بهم البشرية كما فتنهم بالشياطين، و اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، فهو الذي خلق السموم في الحيات وهو خالق الأسباب والمسببات، وهذا الذي يقتضيه الابتلاء في دار الابتلاء، إذ ليست هذه دار الجزاء، فلابد من وجود خير وشر، وخبث وطهر، وصلاح وفساد؛ للامتحان.قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا أولئك الذين آثروا الكفر على الإيمان، والباطل على الحق، والشر على الخير يتعلمون من هاروت وماروت علماً يفرقون به بين المرء وزوجه، ولم ما قال: بين المرء وزوجته؟ الجواب: لأن الرجل يصبح زوجاً إذا تزوج، والمرأة تصبح زوجاً إذا تزوجت، فإذا قرنت أحدهما مع الآخر قلت: زوجان.قال: فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا ماذا؟ مَا أي: شيئاً: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ألا إنه السحر.

توقف ضرر السحر على إذن الله ومشيئته

قال تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فرد الأمر له، نعم، الله هو الذي خلق السم فالعقرب تقتل والأفعى تقتل، وإذا شاء الله أن السم لا يقتل فلا يقتل، وكم من لديغ وملسوع ما مات، وكم ممن لدغ فمات، والله هو الذي خلق النار فتحرق بسنة الله، ولكنها -والله- ما حرقت إبراهيم، وبطل مفعولها؛ لأن الله قال لها: يَا نَارُ فقالت: لبيك وسعديك، قال: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فبردت، ولم تبرد بروداً قاتلاً كالثلج، بل بردت برداً سالماً وسليماً.وكذلك الحديد يقطع، فبه نذبح النعجة أو البقرة أو الإنسان، وكم من آلاف ذبحوا، ولما أخذ إبراهيم مدياه ووضعها على عنق ابنه إسماعيل ما قطعت، كالعصا: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].إذاً قوله: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ مطلق إلا بإذن الله ، فإذا كتب الله في كتاب المقادير: أن فلاناً يسحر ويتقلب قلبه عن زوجه، ويصبح يبغضها ولا يحبها، ويطلب البعد منها، فهذا كان بتدبير الله وقضائه وقدره، وقد يكتب كذلك أنه يأتي إلى فلان ويعلمه الرقية والتعوذات فيتعوذ بها ويشفى ويبرأ ويعود كما كان، فهو كالمريض يمرض، يُمرضه الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، ثم لما يتم وعد الله يشفيه بحبة أسبرين أو بكأس عسل، أو بكية من نار، فهذا تدبير الله في دار الابتلاء؛ لأن هذه الحياة ليست بخالدة وباقية، فقط دار ابتلاء، فمنهم من ينجو ويكمل ويسعد، ومنهم من يهبط ويُخفض. وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: إذا أذن الله كان الضرر، فإذا ما أذن تجده يسحر ويسحر ويعطيه ويسقيه فلا ينفع.ولا تتألموا فهذا نبي الله ورسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم اليهودي، وهذا شاهد للجمهور أن الرسول ما أمر بقتل لبيد ؛ لأنه ما قتل، ولا كسر عضواً، ولا أفسد من الرسول شيئاً، إلا أنه ظل يومين .. ثلاثة أيام يخيل إليه أشياء ما قالها أو قالها، وما هي إلا ثلاثة أيام أو أقل وإذا بسورة الفلق تنزل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5]، فتلاها ثلاث مرات، فزال كل ذاك الذي كان في ذهنه والحمد لله. فما تعوذ متعوذ بمثل سورة الفلق في هذا الباب، فـلبيد بن الأعصم اليهودي ما قتل، وبئر ذروان الذي ألقي فيه السحر كانت قبل ثلاثين سنة موجودة.

غلبة تعلم السحر على اليهود

قال تعالى: (( وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ )) الذين يذهبون إلى السحرة في تل أبيب، ليسوا في تل ألبيب هم موجودون في بلاد العرب أيضاً، واليهود موجودون في كثير من بلاد المسلمين، وما زالوا إلى الآن يعلمون السحر ويحرضون أيضاً على تعليمه، حتى قلت غير ما مرة: أخشى أن يكون كثير من المسئولين في العالم الإسلامي قد سحروهم، فلهذا تراهم يسوسون أمة الإسلام ولا يتكلمون عن الإسلام أبداً كالمسحوريين! وهو مسلم يحكم أمة مسلمة، ولا يتكلم معها بالإسلام، ولا يتداول الكلام معها، ولا يفعل شيئاً، كما يسحر الرجل عن امرأته، ولا يبعد هذا؛ لأننا مختلطون بهم، وإذا ما اختلطنا بهم في البلاد اختلطنا بهم في الخارج: في الفنادق والجمعيات والمنظمات، واليهود قد برزوا في هذا الباب، عليهم لعائن الله.ولقد عرفنا أن الساحر كافر خارج من الملة، فما يتعلمه قد يبدو أنه نفعه بريال أو بعشرة أو بمليون، لكن هذا ليس هو النفع الحقيقي، فكل الناس يأكلون ويشربون ويلبسون، فما امتاز عنهم، ولكن كما أخبر الحق عز وجل: يتعلمون الذي يضرهم لا الذي ينفعهم.

من تعلم السحر ليس له نصيب يوم القيامة

قال تعالى: (( وَلَقَدْ عَلِمُوا ))، أي: عرفوا وفهموا من طريق التوراة والقرآن والإنجيل، وهذا الخطاب لليهود: (( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ))، فالذي يشتري هذا العلم، ويسهر على تعلمه، وينتقل من كلية إلى كلية، أو من سرداب إلى سرداب؛ إذ ما يتعلمون هذا في الكليات علناً، بل يتعلمونه في الخفاء: (( لَمَنِ اشْتَرَاهُ )) وطلبه، ودفع الثمن له: (( مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ )) أي: من نصيب، فالخلاق بمعنى النصيب، فما له من حظ ولا نصيب يوم القيامة، آيس من رحمة الله.أسألكم بالله: لو أن أهل القرى عندنا والمدن في العالم الإسلامي درسوا هذه الآيات دراستنا هذه وسمعوا، هل يتعاطون السحر؟الجواب: والله لا يتعاطوه، لكنهم للأسف ما علموا وما عرفوا، بل وجدوا من يسهل لهم القضية ويخفف الآلام عنهم، فوقعوا في السحر الذي هو الكفر وهم لا يشعرون، وأكثرهم لا يفهم أنه كافر أبداً، ويصلي ويصوم.ولقد علم بنو إسرائيل وعلم اليهود وعلمنا نحن الآن: (( لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ))، فلا حظ له ولا نصيب في دار السلام؛ الجنة دار الأبرار؛ لأنه كافر شر الكفر.قال تعالى: (( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ )) قَبُحَ هذا الثمن الذي باعوا به أنفسهم، فشرى بمعنى باع: (( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ )) فباعوها رخيصة للشياطين؛ لتصبح في النار ومآل النار.

أهمية العلم للوقاية من السحر والضلال

قال: (( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ))، فمن هنا الذين يتعاطون السحر من اليهود وغير اليهود والله لو كانوا يعلمون ما وقعوا في هذه الفتنة، ولا تورطوا في هذه المحنة أبداً.ومن هنا نعود إلى ما قلناه: هيا نعلم، فبدون علم لا تطمئن إلى أن ابنك أو امرأتك أو أمك أو أباك يستقيم على منهج الله، فلا رياء، ولا نفاق، ولا كذب، ولا ظلم، ولا سحر، ولا باطل، فهو جاهل، وهيهات هيهات، فلا يمكن، ومن أراد أن يتأكد -كما نقول- يسأل المسئولين في أي بلد عن المجرمين بالقتل والجرائم و.. و.. هل تجد بينهم عالماً ربانياً؟ والله لا تجد، وإن وجدت في خمسين سنة فالشواذ لا حكم لهم، ولن تجد فاعلي الجرائم والموبقات والمهلكات إلا جهلة وإن صاموا وصلوا، وهذه الآية نص قطعي قال: (( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )).فهيا نتعلم.ولسان الحال: كيف نتعلم؟ وما الطريق يا شيخ؟ أليست المدارس والحمد لله فيها من العلم ما يكفي، فكيف تطالبنا بأن نتعلم؟!الجواب: نحن نقول: هذه المدارس ما أسست من أجل أن يعبد الله وحده .. ما أسست من أجل التهذيب للآداب والأخلاق .. ما أسست لأجل تطهير النفوس وتزكية الأرواح، إنما أسست للمادة، حتى ولو كان الذي اقترح المدرسة ربانياً صالحاً، فنحن لما جئنا بأولادنا ما جئنا بهم ليتعلموا كيف يعبدون الله؛ إنما جئنا بهم ليتعلموا كيف يتوظفون.هل هناك من يرد علي من الأبناء؟!الواحد منا يبعث ابنه ويقول له: تعلم .. تعلم حتى تصبح كذا وكذا.وتساهلنا وقلنا: إن كان هذا في الذكور فلا بأس، خلهم يطلبون الدنيا، لكن المصيبة وقعت كذلك في البنات؟! فيأتي بابنته ويبعث بها إلى المدرسة ويقول لها: تعلمي. هل لتتعلم الحياء، والآداب، والأخلاق، والاحتشام؟ لا.. لا.. لا.. تعلمي لتكوني كذا وكذا .. لتتوظفي في الوظيفة.أين آثار العلم: أما يوجد زنا، وفجور، وحشيشة، وخمور، وسفك الدماء، والجرائم ..؟ليس هناك من آثار للعلم؛ لأن العلم ما أريد به وجه الله، واعرفوا هذا وافهموه، وسوف تعلمون يوم القيامة.ومن احتج علينا بقول الفقيه المالكي، وهو أحد العلماء الفطاحلة الأجلاء من علماء الأندلس حيث قال: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، وهذا يتناقض مع ما قلته أنا الآن في الظاهر، وهو في الباطن -والله- لا تناقض؛ لأن الذي تعلم -حقاً- علماً عرف به الله عز وجل وجلاله، وكماله، ومحابه، ومساخطه، وأصبح عالماً حقاً، والله لن يكون علمه إلا لله.لكن هذه العلوم المادية التي نتعلمها لا تتجاوز معرفة كذا للحصول على الوظيفة، فيتخرج كل عام في العالم الإسلامي خمسة ملايين خريج، والله لن تجد فيهم إلا نسبة (1 أو 2%)، والباقون ما تخرجوا لله، بل من أجل الوظيفة؛ لأن هذا العلم ما هو واف كافٍ، والذي جعله لا يكفي ولا يفي حال الامتحانات والشهادات، فيدخل الأستاذ يعلّم، ويصرف جهده في المادة التي يدرسها فقط، والطلاب عقولهم منصبة على تلك المادة: كيف ينجحون فقط؟ وقلَّ من يريد أن يعبد الله أو يتخلق بالإسلام، وآداب الإسلام.إذاً: من طلب العلم لله لو طلبه لغير الله وعلم لأصبح العلم يدعوه إلى الله، لكن إذا كان العلم فتاتاً وجزئيات، والله لو يأتي عالم من أولئك الذين نعنيهم ما صح لي أن أجلس إليكم وأحدثكم، فلو يظهر عالم من أولئك العلماء لا يستطيع مثلي أن يجلس في مسجد رسول الله ويتكلم عن الله، وهذا يدلكم على أن العلم الآن علم سطحي، ما هو عميق في النفوس، وما أثر فيها، فلهذا الخريج همه الوظيفة والعمل الدنيوي، وليس همه أن يبيت يتململ ويبكي بين يدي الله.قال تعالى: (( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) لو علموا ما شروا بإيمانهم الكفر، ولما اشتروا جهنم وعذابها بأوساخ الدنيا وآثارها، لكن ما علموا، وإن كانوا يقرءون، ويكتبون، ويخطبون، فلا ينفع هذا.
تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون)

معنى الإيمان

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا [البقرة:103] قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا هذا عرض الله على عباده، فاليهود يقولون هم مؤمنون، والإيمان شيء آخر، فآمنوا معناها: صدقوا بوجود الله، وبعلمه، وحكمته، وقدرته، وعرفوا أنهم عبيده يتصرف فيهم كيف يشاء، ويسخرهم كما يشاء، فذلوا له، وانكسروا بين يديه، وأصبحوا لا ينظر أحدهم إلا بإذن ربه .. لا يتكلم كلمة إلا بإذن مولاه .. لا يأكل لقمة إلا بإذن مولاه .. لا يتحرك، ولا يذهب، ولا يجيء إلا في نطاق إذن ربه له؛ لأنه عبده، فهذا هو الإيمان.أما دعوى أنا مؤمن فلا تنفع هذه أبداً، بل مؤمنون بيوم القيامة، والبعث والجزاء، وبكتب الله، والله يقول: لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .. بالقرآن العظيم .. بما جاء به موسى وعيسى والأنبياء عليه السلام.

معنى التقوى

قال: وَاتَّقَوْا ومعنى وَاتَّقَوْا : اتقوا مساخط الله، واتقوا أي موقف يقفه العبد فيغضب الرب، ويبعده عنه، واتقوا أي: جعلوا بين مساخط الله وأنفسهم وقاية، بالسمع والطاعة، وبفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه.يا عباد الله! بم يتقى الجبار ذو الجلال والإكرام، الذي يقبض السماوات بيده، والأرض في يده، الذي يقول للشيء: كن فيكون، الذي خلق الموت وخلق الحياة، ورفع الكون وأوجده، كيف يتقى إذا غضب؟ هل نتقيه بالحصون والأسوار وبالجيوش الجرارة؟! إن هذا لا يقينا شيئاً أبداً، وإنما نتقيه بالإسلام له، فأعطه قلبك ووجهك، وأسلم له أعز ما تملك؛ ألا وهو القلب والوجه، فقلبك لا يتقلب دائماً إلا في مرضاته، ووجهك لا ينظر إلا إليه، ولا يلتفت إلى غيره: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125].يتقى الله -يا عباد الله- بالإسلام، أي: إسلام القلب والوجه، فلا تنظر إلا بإذنه، قال: لا تنظر، فغمض عينك، فلا تأكل إلا ما أذن لك أن تأكل، ولا تلبس إلا ما أذن أن تلبس.. وهكذا، وبهذا يتقى الله.

المقصود بالمثوبة

قال: لَمَثُوبَةٌ [البقرة:103]، المثوبة من الثواب، أي: عطية وجائزة يكرمه الله بها فهي مثوبة من عند الله، أما مثوبة فلان وفلان كمائة ألف ريال أو مليون فلا تكفي، ولا تنفع، والمثوبة والعطية إذا كانت من الله: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هي دار السلام؛ الجنة.يا عباد الرحمن! أين هذه الجنة؟الجنة قد ارتادها أبو القاسم، أعظم رائد عرفته الدنيا والبشرية، ارتادها ووطئ أرضها بقدميه، ورأى حورها، وقصورها، وأنهارها، وما يجري فيها من ذلك الكمال المعد لأولياء الله، فقط فوق السبع الطباق: السماء الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، وفوق السابعة دار السلام، والمسافة بسيطة، مسافة: سبعة آلاف وخمسمائة عام للطائرة حتى تصل إليها!الله أكبر، من بيت أم هانئ من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، وفي لحظات إلى الجنة دار السلام، وجاء يصفها كما وصفها خالقها جل جلاله وعظم سلطانه، فهذه هي المثوبة التي عند الله، وليست امرأة، ولا كرسي، ولا وظيفة، وهذا ابتلاء، فالمثوبة هي الجنة عند الله.قال: خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:103]، فهيا نتعلم، وإذا أردنا في الشرق أو الغرب فنلزم المواطنين والمواطنات كل ليلة في مسجد الحي أو القرية طول العام ننفض أيدينا، ونغسل ثيابنا نتوضأ، ونأتي بيت الرب، وكل ليلة لا يتخلف إلا مريض أو امرأة مريضة أو نفساء، والنساء وراء الرجال، ونتعلم الكتاب والحكمة بكل هدوء وسكينة واستقرار، ويوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، فلا يبقى جاهل ولا جاهلة في القرية أو في الحي، وينتهي الخبث، والشر، والفساد، والظلم، والطغيان و.. و.. ونصبح كالكواكب في السماء؛ يرهبنا الإنس والجن بسهولة.فإن قالوا: لا نستطيع هذا، نقول: إذاً: ابقوا على ما أنتم عليه، والحكم لله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-03, 06:22 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (73)
الحلقة (80)



تفسير سورة البقرة (43)

كان اليهود يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: (راعنا) وكان المسلمون يقولون هذه الكلمة، فنهاهم الله عنها، وأبدلها بكلمة: (انظرنا) لما في تلك الكلمة من معنى الرعونة، وكان هذا خبثاً وسوء أدب من اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم الذي يجب تعظيمه وتوقيره، ولهذا وجه القرآن الصحابة إلى جملة آداب في تعاملهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا السباقين في ذلك.

بعض طرق علاج السحر

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:104-106].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.أعود بالأبناء والإخوان إلى الدرس الماضي، إذ فاتني أن أذكر لهم فائدة يعالج بها السحر، نجانا الله وإياكم منه، فقد ذكر السلف أن من أصيب بالسحر يأتي بسبع ورقات خضر من شجر السدر، وهو موجود في بلاد العالم، ويدقها بين حجرين، ثم يضعها في ماء، ويقرأ عليه آية الكرسي، ومن الخير أن تكون القراءة ثلاث مرات أو سبع مرات كعهدنا بالرسول صلى الله عليه وسلم فأحياناً ثلاثاً وأحياناً سبعاً، ثم يحسو منها ثلاث حسيات، وما بقي يغسل به جسمه، مع تعلق قلبه بالرب عز وجل، إذ لا يقع شيء في ملكه إلا بإذنه، فهو الذي خلق الداء والدواء، فلابد من تعلق القلب بالله، وما هذا العلاج إلا سبب عرفه السلف وأذنوا فيه، فيعمله المؤمن رجاء أن يشفيه الله من هذا الألم الطارئ عليه بواسطة السحرة عليهم لعائن الله.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ...)


واجب المسلم مع الآيات التي يتصدرها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)
هنا نداء إلهي جليل عظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104]، فالمفروض أن نقول بألسنتنا وبقلوبنا: لبيك اللهم لبيك، فقد نادانا بعنوان الإيمان، والمؤمن حي يسمع ويبصر، يعقل، ويفهم، ويقوى على العمل، ويقدر على الترك؛ لوجود الحياة الكاملة، وقد اكتسب هذه الحياة من الإيمان بالله، ومن معرفة الله، فأصبح حياً متهيئاً لأن تأمره فيأتمر، ولأن تنهاه فينتهي؛ لكمال حياته.أما الكافر فهو ميت، لا يسمع نداء المعروف والخير، ولا ينهض بعمل استحبه الله أو ندب إليه، أو أوجبه على عباده، ولا يتخلى أيضاً عن فعل كرهه الله وأبغضه وأبغض أهله، وذلك لفقدانه الحياة.ومن تساءل يريد برهنة أو تدليلاً، فالجواب: أن أهل الذمة الذين يعيشون في ديارنا الإسلامية من اليهود والنصارى والمشركين وغيرهم لا نكلفهم بالصلاة، ولا نأمرهم بالصيام؛ لأنهم أموات، أفتكلف ميتاً؟! أفتأمر ميتاً وتنهاه؟! هذا من غير المعقول.لكن يوم أن تنفخ فيه الروح، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمن تلك الساعة إذا قلت له: اغتسل، فإنه يغتسل من جناباته .. قلت له: طهر ثيابك فإنه يطهرها .. قلت له: اشهد صلاة ربك في بيته، فإنه يشهدها، فأصبح قادراً على أن يعمل، قلت له: غداً الصيام فيصبح صائماً؛ وذلك لدخول الحياة فيه، إذ الإيمان روح، فإذا سرت الروح في الجسم أصبحت العين تبصر، والأذن تسمع، واللسان ينطق إلى غير ذلك.
نهي المؤمنين عن قول: (راعنا) للرسول صلى الله عليه وسلم واستبدالها بـ(انظرنا)
قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نادانا لأي شيء؟ هل ينادينا لغير شيء؟ تعالى الله عن اللهو واللعب، ينادينا إما ليأمرنا أو لينهانا أو ليبشرنا أو لينذرنا أو ليعلمنا .. فحاشاه أن ينادي أولياءه وعباده المؤمنين لا لغرض سامٍ وشريف.وبعد هذا النداء قال: لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104] وهذا -يا معاشر المستمعين والمستمعات- كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين رجاله، قبل وفاته صلى الله عليه وسلم.ولم نهاهم عن هذه الكلمة وهي: رَاعِنَا واستبدلها بأخرى بمعناها وهي: انظُرْنَا ؟سبب هذا أن اليهود استغلوا فرصة سنحت لهم يتمكنون بواسطتها من أذية رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حسدة مكرة، وهذه الفرصة أنهم سمعوا بعض المؤمنين يقولون: راعنا يا رسول الله، فلما يكلمهم ويلقي الحكمة أو الحكم بينهم، كان بعضهم يسهو ويغفل، ثم يطالب الرسول أن يتمهل في إلقاء كلامه حتى يسمع ويفهم، فيقول: راعنا -يا رسول الله- في كلامك حتى نحفظ ونفهم. وراعنا باللغة العبرية فيها معنى الازدراء والتهكم والسخرية، إذ هي من الرعونة، فتراهم -عليهم لعائن الله- وهم في المجلس قد يتغامزون ويتضاحكون، ويقولون: راعنا يا رسول الله، وأنتم تعرفون، واعرفوا من الآن أن السخرية برسول الله كفرٌ بواح، ولا حظ في الإسلام لمن يسخر من رسول الله أو يستهزئ به، أو يقول له كلمة سوء؛ لأن مقام النبوة مقام سامٍ، وشريف، وعالٍ، وسنستعرض بإذن الله الآيات الآمرة لنا بالتأدب مع رسول الله.فلما كانت هذه الكلمة تدل في لغتهم وعرفهم وما هم عليه في بيوتهم على الاستهزاء والسخرية أصبحوا يتبجحون: راعنا يا محمد. فنادى الله عز وجل أولياءه من عباده المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا لرسولنا لنبينا: رَاعِنَا وهذه الكلمة من الآن لا يقولها مؤمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وَقُولُوا انظُرْنَا ومعناها: أمهلنا وأنظرنا حتى نسمع: وَاسْمَعُوا لأن بعض الغافلين من أمثالنا قد يكون جالساً في حلقة العلم وإذا به يسرح بخاطره هنا وهناك، فلما تفوته الكلمة يقول: أنظرني، وهذا لا يحل أبداً، فيجب أن تسمع، ولا تنصرف بذهنك، ولا بقلبك، ولا بسمعك، وبعد ذلك تراجع وتقول: أنظرني أو أمهلني، فقوله: وَاسْمَعُوا أي: ما يقول لكم رسول الله؛ إذ لا يقول إلا حقاً، ولا يقول إلا آمراً بمعروف أو ناهياً عن منكر، أو ناشراً للآداب والأخلاق فيكم، فكل كلمة ينبغي أن لا تضيع؛ لأنها الحكمة.وإياك أن تفهم أنك تستطيع أن تأخذ كلمة من كلام الرسول لا فائدة فيها، والله ما كان، أليس هو الذي قال الله فيه: يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129].وبالفعل ما بقي من أولئك الأصحاب من يقول: راعنا يا رسول الله، ولا من يقول: أنظرنا بعد أن يسرح بذهنه وقلبه، ويفوت الفرصة عليه، ثم يريد أن يراجع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم بشر، وأكثرهم ما تعلموا، فهذا دخل في الإسلام من أسبوع، وهذا من ستة أشهر، ومن هنا كان الله عز وجل يؤدبهم ويعلمهم.والأصل في الإنسان الواعي البصير أن سؤالاً واحداً يلقى في حلقة علم يدل على حكمة .. أو على معنىً سامٍ فيكفيه أن يقول: أنا سأحفظ هذا السؤال وجوابه، وأعلمه، وأعمل به، ولا أريد أكثر من ذلك.لكن العلة أننا فارغون، ولسنا مستعدين لأن نعلم فنعمل ونعلِّم، ولو كنا نشعر بهذه المسئولية فالجدير بي أن أقول: لا تزدني كلمة أخرى، فأنا ما أقدر، وحسبي هذه القضية -الآن قد فهمتها- تبقى في نفسي أراجعها، وأخرج من المسجد ألقيها في أرض تنبت لنا البقل والزرع فألقيها إلى امرأتي .. إلى ابني .. إلى جاري حتى تستقر، وهكذا ننمو ننمو حتى نبلغ الكمال.
أدب المناجاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم

أولئك الصحابة أدبهم الله تعالى فاسمع إلى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12].فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ أي: إذا أردتم أن تخلوا به، وتتكلموا معه، ومن الطبيعي أن كل واحد يريد أن يخلو مع رسول الله، لكن هذا الرسول كم يكون؟ وكيف سيقسم الوقت؟نعم، أنتم تحبون رسول الله، وتريدون أن تدخلوه في أحشائكم وقلوبكم ولكنه إنسان؛ بشر، ولا يمكن أن يوجد في كل مكان، وأنتم تعرفون رغبة الطلاب مع علمائهم، كل واحد يريد خمس دقائق، فكيف بالصحابة مع رسول الله، فأدبهم الله تعالى وقال لهم: إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12] أي: إذا عزمت على المناجاة فقدم بين يدي مناجاتك صدقة، فأولاً ألق ريالاً في يد الفقير وتعال، أو ضع عرجوناً في المسجد من التمر وتعال تكلم مع الرسول.فما إن بلغهم هذا الخبر حتى جفلوا، ولو استعملناها عندنا، لا يبقى أحد يسأل.إذاً: فلما تأدبوا وعرف الله عز وجل -وهو العليم الحكيم- أدبهم واستقامتهم نسخ هذا الحكم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12] أي: هذا العمل خير وأطهر فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12] لأنهم كَلَّوا وشحوا، فرفع الله عنهم ذلك القيد، ونسخه إلى غير شيء، وأصبحوا يشتاقون إلى رؤية من يأتي من البادية أو من مكان بعيد ليسأل حتى يستفيدوا.ومن ذلك أن الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام وهم في حلقتهم في تلك الروضة النورانية، والرسول بين أيديهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وإذا بهذا الرجل من طرف الحلقة يشق الصفوف، حتى ينتهى إلى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجلس بين يدي رسول الله، ( وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه ) فأعطى كله للرسول .. قلبه .. مشاعره .. وجهه .. جسمه، وهكذا حتى ما يقوى على الالتفات، ووضع يديه على فخذيه صلى الله عليه وسلم، وأعطاهم صورة مثالية لتعلم العلم وتلقيه، وأخذ يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله -أولاً- عن الإسلام، فأجابه، وقال: صدقت. وسأله عن الإيمان فأجابه وقال: صدقت. وسأله عن الإحسان فأجابه، وقال: صدقت، قالوا: ( فعجبنا له يسأله ويصدقه ) فهذا معناه أنه عالم بما يقول، وهو كذلك، فلما سأله عن الساعة قال: ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟ ) فالمسئول هو الرسول والسائل هو جبريل، فقال: ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) وما قال: ما أنا بأعلم منك يا رسول الله؛ لأنه كان متنكراً.ثم سأله جبريل فقال: ( أخبرني عن أماراتها وعلاماتها ) وأنتم تقولون: أنا سأذهب الآن إلى الأمارة، وهذا خطأ، والصواب: إلى الإمارة، وكذلك عندنا (الإمارات) البعض يسميها الأمارات، والأصح: الإمارات.وجبريل هنا قال: ( أخبرني عن أماراتها ) والأمارات: جمع أمارة، وهي العلامة، وبالفعل أخبره عن أمارة، والله لقد وقعت، وهي مشاهدة وموجودة في أوروبا، وفي الشرق، وفي الغرب، وفي المدينة.ما هذه الأمارة؟قال: ( أن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ) فما كانوا قبل يعرفون التطاول في البنيان هذا، وكان أكبر طابق عندهم علوي وسفلي فقط، والمدن كلها كالفلل، ليس هناك بيت أعلى من الثاني، والآن العمارات تجد فيها عشرة طوابق، وأخرى عشرين طابقاً، وهذا هو التطاول في البنيان الذي قد وقع.فالحفاة، العراة، رعاء الإبل أو الشاء أو البقر في العالم أصبحوا يتطاولون في البنيان، وهذه علامة من علامات الساعة وقعت كالشمس من أكثر من مائة سنة تقريباً.فلما خرج السائل قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون من هذا؟ قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ) فعلمهم كيف تكون الأسئلة، وكيف يكون الجلوس، وكيف يكون التلقي. هذا الأدب الأول.

أدب عدم التقديم بين يدي الله ورسوله

هنا أدب ثان كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1] فهنا منعهم من أن يقدم أحدهم رأيه أو ما يراه والرسول موجود.فقوله: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1] أي: لا تقدموا آراءكم وما تعلمون وما تفهمون، فإذا أمر الله فافعلوا، وإذا نهى الله فاتركوا، وإذا أمر رسول الله فافعلوا، وإذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتركوا، وهذا الأدب والحكم يستمر إلى يوم القيامة، فليس من حق إنسان مهما ارتفع أن يقدم على آي القرآن رأياً أو يقدم على أحاديث الرسول رأيه، بل هو دائماً وراءه، فإن عدمنا القرآن والسنة فحينئذ ننظر في أقوال أهل البصائر والنهى والعقول الذين يعملون على الإصلاح لا الإفساد .. يعملون على تزكية النفوس لا تخبيثها، ولهم أن يجتهدوا، ويوفقهم الله عز وجل.وهذا حديث معاذ إذ بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن، فسأله: ( بم تحكم يا معاذ ؟ فقال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ -أي: في كتاب الله- قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ) فهو -أولاً- قد أحاط وألم بكتاب الله؛ القرآن، ثم أحاط وألم بالسنة، فأصبح ذا نور، فعرف مقاصد الشرع وأهداف الشريعة وما تدعو وتهدف إليه، وهو الإصلاح للفرد والجماعة .. للأبدان والأرواح، فما وجد ما يحقق هذا فهو مما أمر الله به أو أمر به رسوله، فإن وجد ما ينقض هذا فهو باطل، من وحي الشيطان.

أدب عدم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم

هنا أدب ثالث أدب الله تعالى فيه صحابته فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] فمنعهم منعاً باتاً أن يتكلم أحدهم مع رسول الله، ويكون سؤاله أعلى من صوت رسول الله.فقوله: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ فأنت عندما تتكلم مع الرسول تسأله أو تريد أن تأخذ أو تعطي يجب أن يكون صوتك أخفض من صوت الرسول، مع أن صوت الرسول ما هو كصوت عامة الناس، بل كله أدب وخلق فاضل.ثم قال: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات:2] وأيضاً صوتك يجب أن يكون دون صوت الرسول، فلما تتكلم مع الرسول لا تتكلم معه كما تتكلم مع عمر أو خالد أو فلان، فتستطيع أن تتبجح، وتعلي صوتك، وتلتفت، أما مع الرسول فلا.اسمع ماذا قال بعد ذلك: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ [الحجرات:2] فتبطل كلها وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، فخافوا هذا الموقف مخافة أن تحبط أعمالكم، وحبوط العمل بطلانه، فلا ثواب عليه ولا جزاء فيه.

أدب عدم مناداة الرسول كمناداة غيره

هنا أدب آخر أدبهم الله به، فقال عز وجل: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] فإذا ناديت أخاك أو أباك فقل: يا عمر! يا خالد! يا عثمان! أما الرسول فتناديه بـ يا أحمد؟ فلا والله -واسمه أحمد ورد في سورة الصف وفي الإنجيل- لأنك تكون قد سويته بسائر الناس، ولا تقل: يا محمد، لا لا أبداً.ولما ناداه الله عدة نداءات، هل ناداه بـ يا محمد؟هذا القرآن بين أيديكم، ما ناداه إلا بعنواني: النبوة والرسالة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]، يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:59]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41]، والله ما ناداه إلا بعنوان النبوة والرسالة، وكان بعض الأعراب يأتي وينادي: يا محمد! وهذا معناه أنك سلبته النبوة، وإن سلبته النبوة كفرت، وإذا تنكرت للرسالة وما قلت: يا رسول الله، فمعنى هذا أنك كافر، إلا أنه لا يكفَّر؛ لأنه لا يدري.إذاً: نحن نهينا عن مناداة الرسول كمناداة لغيرنا من الناس، لأن معنى ذلك أنني ما اعترفت بنبوته فتقول: يا فلان: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63].وهذه الآداب يجب على المؤمن والمؤمنة أن يعرفها ويعيش عليها.

أدب السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قبره

الآن لو نقف أمام الحجرة الشريفة ونشاهد إخواننا كيف يسلمون على الرسول، لو كنا بصراء، عقلاء، لو كنا معلمين كيف يكون السلام؟وهنا أريكم صورة: الذين يدخلون على الملوك والرؤساء، كيف يأتي الزوار يسلمون عليهم، الملك أو الرئيس جالس والزوار كل واحد يقول: السلام عليكم ويمشي، السلام عليكم ويمشي، السلام عليكم ويمشي، فيسلم الألف في لحظات، وفي دقائق، مع احترام، وتبجيل، وإكبار.أما كيف يسلم الناس الآن على رسول الله؟ كتل متضاربة، فهذا يسلم، وهذا يقرأ، وهذا كذا، وهذا يدعو، وكل ذلك لأنهم ما عرفوا.أما كان أصحاب رسول الله يسلمون عليه؟ وهل بلغكم أن أحدهم لما كان يأتي من مكة بعد الفتح أو من مكان آخر يقول: السلام عليك يا رسول الله ويأخذ في الدعاء، والله ما حصل، فكيف يحصل الآن، ولا فرق بين حياة الرسول وموته؟ والأدب الذي يكون له أيام حياته يجب أن يكون له أيام موته، وهل هذا هو الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟المفروض كما قلنا: ليس هناك جماعات واقفة، بل الناس في صفوف تجيء المرأة، ويجيء الرجل يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا أبا بكر الصديق ، السلام عليك يا عمر الفاروق ويمشي إلى بيته أو إلى المسجد فيلف من جهة ثانية، ولا توجد هذه التكتلات، والتجمعات، والأدعية، والكتب و.. و.. لأن كل هذا من سوء الأدب مع رسول الله.قد يقول قائل: هذا حبي، وهذا كذا.نقول: لا ينفع، فقد سبقك من هم أحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مليون مرة، وما كانوا يفعلون.ولم يثبت في السنن -ومصادرها معروفة- وفي الصحاح أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يأتون إلى الحجرة ويسلمون على الرسول، إلا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فكان إذا سافر وعاد يأتي الحجرة ويسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كنا نعرف ما السر في هذا؟ حتى فتح الله علينا أجمعين وعرفنا.وأحد المؤمنين يصلي كل صلاة صبح عند الباب، ويحمل سجادته بعد السلام، ويمشي ليسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم كل يوم. وهذا ليس عنده علم، زادكم الله علماً.وقد فتح الله علينا وبينا للناس، فنحن نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاً لوجه، كفاحاً كلما نصلي ركعتين، وقد نسلم على الرسول خمسين مرة في اليوم، فأنت لما تصلي الركعتين في الفريضة تجلس بين كل ركعتين تقول: التحيات لله، فأنت بين يدي الله تعالى وتحييه في تلك الجلسة، والتحيات جمع تحية، ولا توجد تحية عرفتها البشرية إلا لله.وسبحان الله! الصلاة هذه لم يعطاها سواكم، وجميع أجزاء الصلاة تحيات، والواقع يشهد، فالقومة المعتدلة يقفها العسكري تحية أمام الجنرال، وإذا وقف بشكل غير صحيح أو تمايل صفعه الجنرال.وقال تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150] ولهذا لا يحصل لمن يقول: الله أكبر في الصلاة، وهو مطأطئ رأسه، فوجهك هكذا، وهذه تحية.ونحن نحيي ربنا بكلتي يدينا، إلا إذا كان مشلولاً أو مقطوع اليد، فترفع يديك استسلاماً، وخضوعاً، وانقياداً لربك عز وجل، وهي تشابه التحية الفرنسية.كذلك الركوع بامتداد الصلب، واستواء الظهر، وأنت بين يديه ممدود، هذه تحية، وحيا بها البشر عظماءهم.أما السجود فهو أفظعها وأعظمها، فيضع وجهه على التراب، وكفيه، وركبتيه خضوعاً لله عز وجل، وهذه تحية.وأما التشهد فهو رمز للوحدانية، فأنت تتشهد وأنت تقول هكذا، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أحد المؤمنين اليمنيين جاء يطوف وهو يعمل هكذا بيديه الاثنتين، فقال الرسول: ( وحد وحد ) يعني: إصبع واحدة فقط؛ لأنها تشير إلى الوحدانية: لا إله إلا الله، فهذا في التشهد بمجرد ما تبدأ وأنت هكذا وتؤكد كلامك: ( التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي )، وكان يحركها يدعو بها أي: يؤكد بها دعاءه.إذاً: نحن حيينا ربنا.ونبدأ بعد ذلك برسول الله، إذ لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبعد التحيات والصلوات والطيبات نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فوالله العظيم إنها لتصله فوراً.فإن قال قائل: يا شيخ! لا يحتاج إلى الحلف.أقول: الآن وأنت في بيت الله تستطيع أن تتكلم مع اليابان والصين، فقبل هذه الصناعات نعم كان المؤمن فقط هو من يصدق، أما الآن فلا تشك في هذا، أليس عندك عقل؟ وأمواج الأثير من خلقها؟ ومن ينقلها؟ونحن عندنا في الأحاديث أنك إذا قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر فإنها تأخذ تتموج وتتموج حتى تملأ الجو كله، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ( وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )، قلنا: كيف تملأ هذه؟ أنت تقولها: سبحان الله والحمد لله فتأخذ تتموج في الهواء حتى تملأ الفراغ ما بين السماء والأرض، وتعطى الأجر كاملاً.إذاً: عرفتم السر، وصار ليس هناك حاجة إلى أن تذهب إلى القبر وتسلم أبدا، فإذا جئت من بعيد، وأنت مشتاق تريد أن تقف أمام قبر رسول الله فنعم، لكن أن تكون في المسجد كل يوم، وكل ساعة فهذا قد كرهه مالك لأهل المدينة، فلا ينبغي هذا.لكن الآن عرفنا، لسنا نحن في حاجة، فقط كن واعياً، وكم من مصلٍ لا يشعر أبداً أنه تكلم مع الرسول، والله أحياناً أعيدها مرة ثانية، وقلت لكم لما أقول: السلام عليك أيها النبي وأنا غافل أرجع مرة ثانية وأقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وجهاً لوجه.وأقص عليكم رؤيا؛ لأن هذا الموقف للتعليم، فقد كنت أشعر في أيام مضت لماذا لما أسلم على الرسول في قبره كل يوم إلى أن أسافر فأشعر بألم نفسي، فرأيت الحجرة النبوية في بيتنا، وأنا أقول: سبحان الله! الحجرة بين يدي وأنا في هذا الشوق، كيف هذا؟! فعرفت أننا إذا سلمنا عليه في صلاتنا فنحن مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقط كن شاعراً، حاساً، واعياً، فاهماً أنك تسلم على رسول الله وهو يسمع كلامك، وقد قال: ( صلوا علي وسلموا حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) وهذه قالها في حياته، ولا فرق بين من هو في الصين أو في أمريكا أو في كندا، ولو وعى المؤمنون هذا لا يتزاحمون، لكن لا علم، وما تعلموا.وها نحن مع هذه الآداب النبوية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104] حتى لا يفوتكم الكلام وتقولوا: راعنا أو أنظرنا. وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104] هذا حكم الله، وللكافرين بالله ورسوله، وكتابه، وشرائعه لهم عذاب أليم، وهذه ضربة على رءوس اليهود الذين يمكرون ذلك المكر.

تفسير قوله تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ...)

قال تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105] لما نزلت هذه الآية اغتاظ اليهود؛ لأنهم صفعوا صفعة عنيفة، فالله أخبرنا بواقع، أنه -والله- لا يود بريطاني، ولا فرنسي، ولا ياباني، ولا صيني، ولا روسي، ولا عربي، ولا أعجمي من غير المؤمنين، لا يودون أن ينزل علينا خير من ربنا، لا مطر، ولا وقرآن، ولا شيء اسمه خير.وإياك أن تفهم أن مجوسياً أو صابئاً أو يهودياً أو نصرانياً يحب لك الخير، وأن يحفك الله به، والله ما كان. والتجارب واقعة.إذاً: فلم نحبهم نحن؟!هذه آيات الله: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105] فالقرآن، والأحكام، والشرائع، والرحمات، والبركات، والخيرات تنزل من عند الله، وهي كلها خير، حتى الصحة والأمن لا يريدون، عيشوا مرضى فقراء حتى يستغلونا أو يستعبدونا. ثم قال: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:105] فافزعوا إلى الله وارفعوا أكفكم إليه، وعلقوا قلوبكم به، ولا يضركم حسد اليهود، ولا النصارى، ولا المشركين، ولا البوذيين؛ فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ . وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105] والفضل ما زاد عن حاجتك وأصبحت لست في حاجة إليه، كثوب قديم أو ريال زائد، والله عز وجل لو يعطينا ما بين السماء والأرض ما هو إلا فضل، لأنه غني غنىً مطلقاً، وليس في حاجة إلى إبل ولا غنم ولا ذهب ولا فضة، فكل هذه المخلوقات هو في غنى عنها، وأصبحت كلها فضل: ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يؤتي من يشاء من فضله، وهو ذو الفضل العظيم.معاشر المستمعين! استفدنا شيئاً ممكن نعمل به، ونعلمه، ونصبح عظماء في السماء؟روى مالك في موطئه: أن من علم وعمل بما علم وعلَّمه -أي: الناس- دعي في السماء عظيماً. فمن هم عظماء الرجال والنساء؟!كنا نقول: إن أفلاطون ونابليون هؤلاء من عظماء الرجال الذين درسنا عنهم في الكليات.الله أكبر! مَن عظماء الرجال والنساء؟هم الذين يتعلمون العلم الإلهي، ويعملون به، ويعلمونه، فيدعون في الملكوت الأعلى بالعظماء.وهذه الكلمة ما فهمها الناس، ولا واحد من مليون مسلم، فلهذا قلَّ من يتعلم مسألة في مجلس كهذا، ويعمل بها فوراً، ويعلمها على الفور، مؤمناً بهذه التعاليم وهذه الآيات، ولا لوم؛ لأننا ما جلسنا في حجور الصالحين.والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعلى سائر المؤمنين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-05, 06:04 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (74)
الحلقة (81)



تفسير سورة البقرة (44)


يعتبر النسخ من القضايا المهمة التي بحثها علماء الإسلام، حيث نص القرآن على وجوده، ومن خلال هذا النص قسَّم العلماء النسخ إلى عدة أقسام منها: النسخ إلى بدل أثقل كنسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، ونسخ إلى بدل أخف كنسخ وجوب قتال المسلم لعشرة إلى قتال اثنين، ونسخ إلى بدل مساوٍ كنسخ استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة، والأمر كله لله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب، سميع الدعاء.وهذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:106-108].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زالت الآيات في تقريع وتأديب بني عمنا بني إسرائيل؛ اليهود، وبنو عمنا هم أولاد إسحاق، ونحن أولاد إسماعيل، وما حسدونا إلا لأنهم بنو عمنا، وقالوا: كيف ينتقل الوحي والرسالة والنبوة إلى أولاد إسماعيل ويحرم منها بنو إسرائيل؟ومن تدبير الله عز وجل أن القرآن لما كان ينزل في هذه الديار كان اليهود موجودين بالمدينة وفي الحجاز، ليتم ما أراد الله من فضح وكشف سرائرهم، وبيان مكرهم وخداعهم.أرأيتم لو كانوا غير موجودين في المدينة والقرآن ينزل؟! فسبحان الله العظيم! والله إنه لتدبير العليم الحكيم.

الرد على اليهود الذين ينكرون وجود النسخ في شرائع الله

قوله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] نمحها من قلب رسولنا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]. وقالت اليهود: لا وجود للنسخ في شرائع الله، ومن أين يأتي هذا النبي بما يقول؟ولهم في ذلك مكر وخداع، فهم لا يريدون أن يكمل الله هذه الأمة، ويتدرج بها من حال إلى حال؛ لتسعد وتكمل، وهم في هذا -والله- لكاذبون وماكرون.وهم يقولون في افترائهم: كيف يشرع الله عز وجل حكماً وبعد ذلك ينسخه؟ أما كان يعلم صلاحه من فساده؟فقال لهم علماء هذه الملة المباركة:أولاً: كم سنة كان آدم عليه السلام وهو يزوج بناته بأولاده، وكيف تناسلنا؟ وكيف تواجدنا على سطح الأرض؟كان آدم يزوج بنته من هذا البطن مع ابنه من البطن الثاني فترة من الزمن، ثم نسخ الله ذلك، وحرم نكاح الأخوات بالإجماع، أليس هذا نسخاً واضحاً كالشمس.ثانياً: في عهد نوح عليه السلام حدث الطوفان على الأرض فما نجا منه إلا أصحاب السفينة، فكل من على سطح هذه الأرض من أبيض وأسود وأصفر غرقوا إلا أصحاب السفينة، وهم نيف وثمانون رجلاً وامرأة فقط، ولهذا يعتبر نوح أبا البشرية الثاني، فآدم تناسل مع حواء، وكان نوح مع تلك الزمرة المعدودة المحدودة في سفينة، فأذن الله تعالى له ولمن معه أن يأكلوا سائر الحيوانات، فلما رست السفينة، وانتهى الطوفان، وهبطوا إلى الأرض كانوا مضطرين أن يأكلوا كل ما يحصلون عليه، ونسخ الله عز وجل ما شاء من تلك الحيوانات، وأبقى ما شاء.ثالثاً: وكذلك إبراهيم عليه السلام نسخ الله أمره، إذ قال له وقوله الحق من سورة الصافات أو اليقطين: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] فيقول إبراهيم الخليل عليه السلام لغلامه وطفله الصغير، وهو في الثامنة أو التاسعة من عمره: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102]، ورؤيا الأنبياء المنامية حكمها حكم الوحي سواءً بسواء، فيوحي الله إلى الرسول وهو يقظان، ويوحي إليه وهو نومان، ولا فرق، إذ الإلقاء يكون في القلب النقي الطاهر فيتلقى سواء كان صاحبه نائماً أو كان يقظاناً.قال: فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] يا إسماعيل.فأجاب ذاك الطفل النوراني ابن هاجر القبطية المصرية: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102] ما قال: افعل ما تريد .. افعل ما تحب، لا. قال: افعل ما تؤمر به، فإذا أمرك سيدك بذبحي فاذبحني، وإذا أمر سيدك بإبعادي فأبعدني: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] فهذا هو الغلام الذكي الطاهر النقي؛ لأنه من شجرة مباركة هي هاجر .وقد حفظنا لها كلمة، لو نجمع جامعيات نساء العالم -والله- ما وقفن هذا الموقف. فإن قال قائل: لم الشيخ ينكت على الجامعيات؟أقول: لأننا ذقنا المرارة، وما زلنا نتجرع الألم من خروج النساء وسفورهن في وظائفهن، واختلاطهن بالفحول، فخمت الدنيا، وتعفنت بالفجور.فإن قال قائل: ما هذه الكلمة؟أقول: لما أمر إبراهيم عليه السلام بأن ينقل هاجر وطفلها إسماعيل من القدس إلى مكة بأمر الله، والعلة في ذلك أن سارة عليها السلام امرأة إبراهيم وبنت عمه كانت لا تلد، فهي عاقر أو عقيم، فلما تسرى إبراهيم هاجر التي وهبته إياها، فـسارة كان لها هاجر وقد أعطاها إياها ملك مصر، وذلك لما شاهد الآيات الإلهية فما كان منه إلا أن أكرمها، ومن جملة ما أكرمها به أن أعطاها خادمة تخدمها، وكانت هاجر أم إسماعيل، فوهبتها له يتسراها.والتسري أن يكون للفحل جارية خادمة، رقيقة؛ مستعبدة، سواء أخذها من نصيبه في الغزو والفتح أو اشتراها أو ورثها، وهذه الجارية الخادمة من لطف الله .. من رحمة الله .. من إحسان الله إلى عباده أن أذن لمن يملكها أن يحسن فراشها وثيابها، ويقلل من خدمتها، ويطأها عسى أن تلد له ولداً، فتصبح أم ولد، ومن يعرف هذا الكمال وهذا التشريع سوى الله؟!فأهدتها إبراهيم فتسراها فأنجبت له إسماعيل، وبدأت الغَيرة في النساء فأخذت الغيرة سارة قالت: كيف هي الحرة .. هي امرأة النبي .. ما تلد؟ وقلبها متمزق على الولد، وهذه ابنة أمس تلد؟فما أطاقت أن ترى هذا الولد ولا أمه، فألهم إبراهيم أو أوحي إليه أن انقل هاجر إلى جبال فاران، إلى الوادي الأمين، فأخذها وطفلها، وكانت هاجر تعفي الأثر حتى لا تعرف سارة إلى أين ذهبوا، ودخل وادي مكة، وما به عريب ولا أنيس، جبال فقط، ووضعها وطفلها، ومعها زاد لا يكفي لأكثر من ثلاثة أيام: جراب فيه خبز، وآنية فيها ماء وتركهم.وتركهما في حجر إسماعيل، وقفل راجعاً، فلما تجاوز مسافة عشر خطوات .. عشرين نادته وقالت: آلله أمرك بهذا يا إبراهيم، فتتركني وطفلي في هذا الوادي لا أنيس ولا عريب؟ قال: نعم. قالت: إذاً فاذهب، فإنه لا يضيعنا.أعطوني مؤمناً من هذا النوع يقول: اذهب فإنه لا يضيعنا، فهذه هي هاجر أم إسماعيل، فهل نملك هذا المعتقد، وهذا النور في قلوبنا؟إن أحدنا إذا أرشد إلى ترك معصية تجده يقول: مع الأسف إن الظروف والأحوال والعيش والحياة تغيرت فكيف نترك هذا؟أقول: أين التوكل على الله؟فإن قال قائل: يا شيخ! لا تلمنا إننا ما عرفنا الله، من حدثنا عنه؟ من عرفنا به؟ نجلس عشرين .. ثلاثين سنة في المقاهي، والملاهي، ومجالس الكلام لا نتحدث يوماً عن الله، فكيف نعرف الله؟أقول: إذاً أستغفر الله لي ولكم، هو هذا.ونعود إلى النسخ؛ إذ قال إبراهيم للغلام الصغير: يا إسماعيل! إني أرى في المنام أني أذبحك، فقال: فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102] سبحان الله! إبراهيم النبي الرسول يؤمر؟ فلا يستطيع أن يفعل برأيه أبداً، وهل يستطيع أحد منا لو كنا مسلمين أن يعمل شيئاً برأيه؟ والله لا يستطيع، فلا بد من أمر الله عز وجل في كتابه أو على لسان رسوله، في جل أفعالنا، فلا نقول، ولا نتكلم، ولا ننام، ولا نأكل، ولا نشرب، ولا نبيع، ولا نشتري، ولا نتزوج، ولا نطلق إلا بأوامر.لعلي واهم! والله كما تعلمون. هل تستطيع أن تأكل بدون إذن الله؟! فإن استطعت فكل الخنزير والجيفة.هل تستطيع أن تبني بدون ما تكون هناك حاجة إلى البناء؟ والله ما كان.وهكذا: هل تستطيع أن تتزوج بدون حاجة .. أن تطلق بدون ضرورة؟إذاً ما عندنا عمل يصدر عن غير تعليم من الله ورسوله.وشاء الله وخرج به من بيت هاجر يمشي معه وودع أمه: نستودعكم الله إلى منى حيث يراق الدم، وجملته وحسنته؛ هذا لله، وانتهى به إلى منى، واعترضه العدو الألد الخصم المبين إبليس في جمرة العقبة الجمرة الكبرى، وقال: أي إبراهيم! ماذا تفعل بهذا الغلام؟ تذبح فلذة كبدك؟ الله يأمر بهذا؟ ارجع بابنك خيراً لك. فعرفه ورماه بسبع حصيات، وبقيت لنا إلى اليوم، ثم مشى فاعترضه عند الجمرة الوسطى: أي إبراهيم! يا خليل الرحمن! ربك في غنى عن هذا الغلام فكيف تذبحه؟ فطرده حتى الجمرة الأخيرة ثلاث مرات، وإبراهيم ثابت موقن أن الله أمره وعرف العدو من هو، وانتهى إلى مكان الذبح عند مسجد الخيف وهناك: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] أي: صرعه على جبينه، والمدية في يده: باسم الله، فوضعها فوقفت وتحول الحديد إلى حطب.قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ [الصافات:104] فالتفت وإذا بجبريل معه كبش سمين جميل ذبيح: خذ هذا، واترك هذا وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:107-110] لا المسيئين في أعمالهم وأقوالهم وحياتهم.وهذا نسخ، فقد أمره أن يذبح، وخرج لأداء أمر الله ثم شاء الله أن ينسخ لما امتحن؟ وبرز إبراهيم وظهر؛ لأنه يتهيأ للإمامة الكبرى قال: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].وهل ينسى هذا اليهود؟ كلا، والله إنهم ليعرفونه، إلا أنهم يتبجحون ويقولون: الذبيح إسحاق وليس إسماعيل، وهذا عناد ومكابرة، فإسحاق ما وجد بعد.إذاً: هذا نسخ فكيف يجهله اليهود؟لا يجهلون يا شيخ، إنهم يعاندون ويريدون إطفاء نور الله لزعزعة القلوب والإيمان فيها بين المؤمنين، وهذا لأنهم كانوا يتكلمون بلسان العرب ويعيشون معهم، والآن إذا لم تخالطهم وتتكلم بلسانهم قد لا تعرف عنهم شيئاً، لكن الصفات والنعوت التي نعتها الله موجودة فيهم بالحرف الواحد، ظاهرة لمن خالطهم ومارس الحياة معهم.إذاً: بطل ما ادعاه اليهود وافتروه وكذبوه، وثبت أن لله أن ينسخ ما يشاء، وهاهو ذا تعالى قد أنزل هذه الآيات في الرد عليهم، وقال: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] أي: نمحها من قلب نبينا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا [البقرة:106] مصلحة وفائدة وكمال ورقي للأمة، أو بخير منها.

أقسام النسخ

عندنا في أقسام النسخ وأنواعه ما يلي:أولاً: هناك النسخ من أصعب إلى أسهل وأيسر؛ لأن الدين ما نزل في وعاء واحد وفي يوم واحد، فهو دين التربية والرقي بالإنسان والكمال، وشرع الله عز وجل في خلال ثلاثة وعشرين سنة وهو ينزل.ومن الأمثلة على ذلك ما شرعه الله للمؤمنين من الإذن لهم بالقتال بعد أن لم يأذن لهم سنوات، فلما تواجدوا وتكاملوا، وقويت شوكتهم أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39] وكان القتال ممنوعاً.وكذلك نزل قول الله تعالى من سورة الأنفال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا [الأنفال:65] فانظر هذه النسبة: الواحد بعشرة، فيجب أن يثبت الواحد منا أمام عشرة، والمائة منا أيها المؤمنون لا يحل لهم أن يفروا أو ينهزموا أمام ألف من الكفار مهما كان شأوهم، وكل هذا لأن المسلمين كانوا أقلية، وكان الإيمان يغير مجرى الحياة، وكانوا أقوياء، ولكن الله علم أنه سيأتي بعد الصحابة وبعد أولادهم وأحفادهم من لا يقاتل اثنين بل يهرب؛ لأن هذا التشريع ليس شرعاً خاصاً بالصحابة، بل هو شرع عام للبشرية كلها في كل أزمنتها وديارها، فنسخ الله ذلك الحكم بأن نكتفي بواحد مع اثنين، وعشرة مع عشرين، ومائة مع مائتين، وألف مع ألفين، وعندك الآيات حيث قال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال:65] ثم قال: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال:66]، وهذا نسخ من أصعب وشاق إلى أهون وأيسر، وهذه رحمة الله بالمؤمنين. وأنتم لا تشعرون بأن الذي ينهزم أمام يهودي أو نصراني أو مشرك معناه: أنه ذاب وتمزق وخسر حياته.وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:15] لبيك اللهم لبيك إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15-16]. وهذه الآية والله ليست بمنسوخة.فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا أي: زاحفين وجهاً لوجه فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ أي: لا تعطوهم ظهوركم وتهربون، صورة بشعة، وسبحان الله! ما قال: فلا تعطوهم ظهوركم، إنما قال: أدباركم. وصاحب اللسان يذوق هذا المعنى، فما قال: فلا تولوهم ظهوركم، وإنما: فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ، ودبر الإنسان مؤخره، فلا تعطوهم أدباركم، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ ساعة الزحف دُبُرَهُ اللهم إلا في حالين:في حال أن يتحيز إلى جماعة من إخوانه يقاتلون لينضم إليهم؛ لأن من معه هلكوا واستشهدوا، فلا يبقى وحده، بل ينضم إليهم.أو في حال أن يتحيز إلى فئة وهي التي فيها القيادة كالرسول صلى الله عليه وسلم ومن ينوب منابه.وإذا لم يكن هكذا فالجزاء: فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16].وعندي صورة أحفظها قديماً ففي أيام إخواننا العثمانيين الأتراك، في بداية الخلافة عندما فتحوا شرق أوروبا وروعوا العالم، كان الجندي إذا كان في يده المدفع فإنه يربط نفسه بالسلسلة في المدفع ويقاتل، فيرمي، ويرمي، ويرمي حتى ينفد سلاحه من الرصاص والقنابل، ويبقى كالأسد حتى يصل إليه العدو ويقتله هكذا، ولا يولي الدبر؛ لأن الذي يعطي العدو دبره ويهرب حسبه ما حكم الله به عليه، فقد رجع بغضب إلى بيته الذي هرب إليه، ومأواه جهنم وبئس المصير.وهذه الشجاعة أعطيها المؤمنون بإيمانهم، وبعلمهم، ومعرفتهم، والله علمهم، ورباهم، وهداهم.ثانياً: ويكون النسخ أيضاً من السهل إلى الصعب، ولله أن يفعل ما يشاء، ولكنه العليم الحكيم. مثاله: في بداية الأمر فرض الله الصيام على المؤمنين أن يصوموا يوم عاشوراء فقط، فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ دار الهجرة فوجد فيها اليهود يصومون يوم عاشوراء بنسائهم وأطفالهم، فسألهم فقالوا: ( هذا يوم نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من الغرق من البحر، فقال: نحن أولى بموسى منكم ). لأنهم كفروا بموسى، وعبثوا، وفسدوا، وفعلوا، فنحن أولى بهذا منكم، فصام وأمر المؤمنين بالصيام؛ النساء والرجال والأطفال.وبعد ذلك نسخ الله هذا بصيام شهر رمضان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] إلى أن قال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا ... [البقرة:185] الآيات. فهذا نسخ من السهل إلى الصعب، وهو عكس الأول، فالأول نسخ من الصعب إلى السهل لحال المسلمين وضعفهم، وهنا صيام يوم فماذا يفعل هذا اليوم في صاحبه؟ أما صيام شهر كامل فهو يهذب النفس، ويزكي الروح، ويصحح الجسم، وتتفتت الشحوم التي في البطن، فهذا الشهر له قيمته، ولكنه أصعب من يوم واحد.فهذا نسخ عكس الأول، من السهل إلى الصعب.ثالثاً: نسخ لا صعوبة فيه ولا سهولة، لا في الأول ولا في الثاني، وهذا قضاء الله وتدبيره.مثاله: كانت قبلتنا التي نصلي إليها الصلوات الخمس في المدينة النبوية إلى بيت المقدس غرباً، وبالتحديد في الشمال الغربي كانت القبلة، وخلال سنة وخمسة أشهر كان المؤمنون يصلي بهم رسول الله، ويستقبلون بيت المقدس، فاغتاظ اليهود: آه! يدعي أن ديننا باطل ومنسوخ وهو يستقبل قبلتنا. فنسخ الله هذه وهو يصلي، ولا أذكر هل نسخ هذا في الروضة أو في مسجد بني سلمة.ومنهم من يقول: كان عليه الصلاة والسلام مدعواً في وليمة في ديار بني سلمة في مسجد القبلتين، وعندما كان في الصلاة شرع الله الاستقبال إلى البيت فدار ودار الصحابة معه إلى الكعبة، فلهذا سموه مسجد القبلتين.وأما أهل قباء فكانوا يصلون الصبح فأتاهم آت يقول: يرحمكم الله! لقد تحولت القبلة إلى الكعبة، فاستداروا كما هم عليه بإمامهم وصفوفهم.وهنا أقول: لو تمرن المسلمين بالعصا عشرين سنة فإنهم لا يستطيعون أن يستديروا هكذا وهم في صلاتهم، ووددنا لو تم هذا فقط في رمي الجمرات، فما وجد أن يصدم بعضنا بعضاً، ونحن هائجون كالجمال، وأحياناً نصرخ: يا جماعة! ليس اليهود هنا، ولا يوجد رشاشات.من يهذبنا؟! من يربينا؟! من يعلمنا؟!تلك الزمرة المؤمنة يأتيهم المخبر: إن القبلة قد تحولت، فيستديرون كلهم بصفوفهم وبنظام حتى يتحول من كان في الشمال إلى الغرب، وهم من وراء.أقول: أيها المسلم! درب جماعتك بالعصا، وخذ طلاب المدرسة فقط فإنك لا تستطيع، ولا تأخذ الشيوخ والكبار.المهم عندنا كلمة خالدة! نحن هابطون وهم طالعون، فهل يستوي الهابط مع الطالع؟!مثال على هذا: عندنا المرأة .. الشاب .. الرجل، يسمع الإمام يقرأ بالفاتحة جهراً، والله لا يحفظها، مع أنه يصلي مع الإمام عشرين سنة، ولا يستطيع أن يحفظها كما نزلت، بل يقرأ: يكا نعبد ويكا نستعين.وهذه أم الفضل امرأة العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أم عبد الله تقول: ( صليت وراء رسول الله المغرب فقرأ بسورة المرسلات عرفاً فحفظتها ) فأعطني مسلماً الآن يسمعها لأول مرة يحفظها فنعطيه مليار دولار، مستحيل! وهذا واقع، وعرفنا شبيبة يسمع أغنية من عاهر في شريط أو في إذاعة فيحفظها باللحن، حتى بالصيغة.ما الفرق؟كانوا طالعين ونحن هابطون.تجد الرجل يصلي وراء الإمام أربعين عاماً لا يحفظ الفاتحة، وهو يسمعها في الصباح والمساء. والعلة أنهم جهلونا وأبعدونا عن الروح الإلهي فمتنا، وأصبح القرآن لا يقرأ إلا على الموتى، فإذا دخلت مدينة من المدن ومررت في أزقة ضيقة وسمعت القرآن فاعلم أن عندهم ميتاً، فلا يجتمعون إلا على القرآن للميت، ولن تجد من يقول لك: أي بني أو يا أُخيَّ! تعال أسمعني شيئاً من القرآن.أنا عشت سبعين سنة ما رأيت إلا واحداً فقط رحمة الله عليه، سمع هذا الكلام فصار يأتي يقول لي: يا أبا بكر! سمعني شيئاً من القرآن، فأقرأ عليه وهكذا.مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي سن هذا الطريق فقال لـعبد الله بن مسعود : ( يا ابن أم عبد ! أسمعني شيئاً من القرآن ) وجلس وأصغى يسمع، فعجب عبد الله وقال: ( أعليك أنزل وعليك أقرأ؟ قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري ).هل عرفت رجلاً قال لك: تعال من فضلك اقرأ علي شيئاً من القرآن إلا إذا كان مريضاً يريد الشفاء، أما ليتعلم الهدى فلا .. لا. فكيف إذاً لا نهبط إلى الحضيض؟!إذاً: فنسخ الله القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وليس في هذا تفاضل أو عسر وصعوبة أبداً، فاستقبل هكذا أو هكذا، فليس فيه انتقال من صعب إلى يسير أو من يسير إلى صعب.رابعاً: هناك نسخ آخر، وهو أن ترفع الآيات نهائياً فلا تبقى في كتاب الله ويبقى حكمها معمول به.وقد ثبت بالإجماع قول الله تعالى: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) ومن ثَمَّ نسخ اللفظ وبقي الحكم، فطبق هذا رسول الله وعمر وأصحابه، فالمحصن وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وغير المحصنين يجلدون مائة جلدة، ويغربون سنة، وهذه الآية لا يصلى بها أبداً، ولا توجد في المصحف، ولكن نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآناً ثم نسخها الله، أما قال: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106]؟ بلى.خامساً: النسخ من حكم إلى حكم.وقد علمتم أن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يعيا ويتعب، ويأخذه النعاس، والجوع، والعطش، فليس بملك، وتعرفون ماذا يفعل حب رسول الله في النفوس، فكل مؤمن يريد أن يخلو بالرسول دقيقة، ومن هو الذي يظفر بدقيقة فقط.ولو ترك لهم الرسول الأمر فكيف سيأكل ويشرب .. وكيف سينام؟ لأن كل واحد يريد أن يجلس معه، فأدبهم الله عز وجل وأنزل قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12] ففهموا أن القضية ليست قضية مال، وإنما قضية إيجاد وقت للرسول صلى الله عليه وسلم ينام فيه أو يأكل فيه أو يستريح، فلما فهموا عرفوا، وما أصبح من يقدم على أن يتكلم مع الرسول سراً.ويروى أن أول من فعل هذا وهو الأول والأخير هو علي رضي الله عنه، فتصدق بصدقة، وجاء يقرع باب رسول صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية تنسخ هذا؛ إذ قال تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ... [المجادلة:13] الآية. فنسخ الله الحكم الأول بالثاني، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.هذه أمثلة وغيرها كثير.

مجمل تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ...)

قول ربنا تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] يُنسيها الرسول سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [الأعلى:6] نعم، وإذا أراد أن يُنسي ما قرأه يفعل الله ما يشاء.قال: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] وعلل لذلك بقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ يا رسولنا! أيها العاقل يا من يسمع! أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106] بلى، مَن مِن المؤمنين لا يعرف هذا؟ ما يصعب على الله أبداً أو يعز عليه أن يستبدل حكماً بحكم أو سورة بسورة أو آية بآية، فهو يفعل ما يشاء، وهو على كل شيء قدير.ولكن اعلم أنه لا يشرع إلا من أجل إكمال الإنسان وإسعاده، فإن كانت واجبات فلتزكية نفسه وتطهيرها، وإن كان نهياً عن موبقات وآثام فمن أجل الإبقاء على ذلك الطهر والصفاء حتى لا يتلوث، فهذا الأصل.وفي نفس الوقت ما شرع الله أمراً أمر به إلا وفيه فائدة لجسم الإنسان .. لماله .. لعقله .. لحريمه .. لحياته.والله الذي لا إله غيره! ما شرع الله شرعاً لا أمر بأمر ولا نهى عن نهي إلا لصالح الآدمي المؤمن، وتتبع ذلك تجد الآثار واضحة كالشمس.

تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ..)

قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:107] بلى؟ فكل مملوك في السماء والأرض لله. فله أن يعطي .. يمنع .. يرفع .. يضع .. يعز .. يذل .. يقدم، فهو ملكه، أيجوز أن تعترض؟!وهذه صفعة لليهود، كيف تعترضون على الله؟وقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فما دام له ملك السماوات والأرض فأنت لما تطلب امرأة تريد أن تتزوج تقول: يا رسول الله! أنا في حماك .. أنا في بلدك .. أنا بين يديك، فادع الله لي، هذا لا يجوز لأن الرسول لا يملك، وآخر يقول: يا سيدي عبد القادر ! يا راعي الحمراء! أنا كذا.لا يطلب شيء من غير الله.فإن قال قائل: لم هذا يا شيخ؟قلنا: بلغنا أن كل مملوك لله، فكيف تطلب ممن ليس له ملك!وهذا يشبه من كان في أرض خربة ليس فيها أحد، وإذا به يدعو ويصيح: يا أهل الدار! أنا جائع، أنا ضمآن. وليس في الخربة واحد أبداً. فيمر به أخونا ينصحه: حرام عليك؛ طول الليل وأنت تصرخ، وليس في البيت أحد، اقصد بيتاً فيه ناس يسمعون.وهذا مثل حالتنا، تجد الرجل العالم يمر بأخيه يدعو عند الحسين أو فاطمة : يا سيدي! ويبكي، ويصرخ، ويطلب، وما يقول له: يا عبد الله! هذا لا ينفع، ولا يعطيك شيئاً أبداً، وهذا واقع من إندونيسيا إلى المغرب.فهذه الأمة هبطت؛ لأنها هجرت هذا الكتاب.وقالوا لها: القرآن الكريم إذا فسرته وأصبت فأنت مخطئ، وإذا أخطأت كفرت. فصوابه خطأ، وخطؤه كفر، فحجبوا أمة الإسلام عن النور، وأبعدوها عن الحياة فماتت، وذبحوها، وسلخوها.فإن قال قائل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟أقول ذلك؛ لأن خمسة ملايين يهودي قهروا ألف مليون مسلم، وأذلوهم إلى الآن .. وإلى هذه الساعة، فهذا واقع أو نحن نائمون؟لكن من فعل بنا هذا؟الجواب: الله، وإياك أن تعيش مع التائهين: أمريكا، بريطانيا، فرنسا، فهذا الكلام هراء، والله لا فاعل إلا هو، فهو مالك الملك، فلما تمردنا عليه وعصيناه، وخرجنا عن طاعته، وهبطنا عن كمالاتنا أدبنا الله بأعظم آية ما عرفت في التاريخ، فأذل الخلق وأجبنهم على الإطلاق يحكمون العالم الإسلامي، وهذه آية من الآيات.. وهي أعظم آية في هذا الكون.قال تعالى: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:107] وللأسف أن هناك من يقول: لا لا، هناك أولياء لنا، وأنصار ينصروننا.وليس من المعقول أنك تجد من دون الله ولياً ونصيراً والله يقول: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي: يتولاكم وَلا نَصِيرٍ [البقرة:107] ينصركم أبداً، فافزعوا إلى الله، ولوذوا بجنابه، واطرحوا بين يديه، واطلبوا رضاه، واسلكوا سبيله فتكملوا، وتسعدوا، وتنجوا.قالوا: لا لا لا، خلينا مع الخرافات.فإن قلت: إذاً أذلنا الله. قال قائلهم: يا شيخ! كيف تقول هذا؟أنا أقول: أسألكم بالله: ما بلغكم أن العالم الإسلامي استعمرته بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا .. فأذلوهم وقهروهم، وتم هذا لأننا هبطنا، وتخلينا عن الروح فمتنا، لا أقل ولا أكثر، تأديب الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ...)

يقول تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ [البقرة:108] بل تريدون، أم بمعنى بل تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [البقرة:108] وهذه لنا، تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل إذ قالوا له: أرنا الله جهرة، فهم يسمعون كلام الله بجبل الطور قالوا: لا، نريد أن نرى الله جهرة. فهل تريدون أنتم هكذا؟قال: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:108] أخطأ وسط الطريق المنجي، المزكي، المفلح، المسعد.فقوله: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ أي: يأخذ الكفر ويعطي الإيمان، ويترك شرع الله ويأخذ قوانين الشرق والغرب، كمبادئ الاشتراكية. فَقَدْ ضَلَّ وسط الطريق، فهلك وتمزق.وما زال العالم الإسلامي نائماً، فما عرفوا، ولو فتحوا أعينهم وعرفوا -والله- لاجتمعوا في الروضة أو في الكعبة وتعاهدوا: أنت إمام المسلمين، وكل البلاد الإسلامية ولايات، والحكم واحد، والشريعة واحدة، وفي أربعة وعشرين ساعة والدنيا كلها نور، وقد دعونا إلى هذا، وكتبنا رسائل من أربعين سنة، ولكن لا التفاتة.إذاً: لعلنا مسحورون، وأنا خائف أن يكون اليهود قد سحرونا، فأصبحنا لا نقبل على الله، ولا على دينه، والسحر هو هذا، الرجل يسحر عن امرأته فيصبح يكرهها، وجائز أن اليهود سحرونا.على كل حال! نترك الأمر لله، والذي يجب علينا أن نعرف أننا عبيد الله، فلنفزع إليه حتى تنتهي هذه الفتن والإحن، والمحن، والفوضى، وكل مؤمن يقول: أنا مسلم، ويلزم الصمت، ويعبد الله عز وجل، ويكف لسانه وفرجه.وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-05, 06:13 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (75)
الحلقة (82)



تفسير سورة البقرة (45)


كثيراً ما نغفل عن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا نحن المسلمين، وهي نعمة الإسلام، في حين عرف اليهود عظم هذه النعمة، فحسدونا عليها، وتمنوا لو نرجع مثلهم كفاراً، نصارى أو وثنيين أو أي شيء آخر، إلا أن نكون مسلمين، فتباً لهم كيف عرفوا الحق وأعرضوا عنه، ومع هذا أمرنا الله سبحانه بالعفو والصفح عنهم حتى يأتي أمره بشيء آخر، كما أمرنا بالثبات على الإسلام؛ لأن فيه الفلاح لنا، والغيظ لأولئك.

تفسير قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:109-110].

كيد كثير من أهل الكتاب للمؤمنين وإرادة كفرهم

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البقرة:109] هذا خبر، والمخبر هو الله جل جلاله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109] ونحن نصدق خبر الله.ومن الجائز أن يكذب غير الله والمرسلين والأنبياء، أما الله عز وجل؛ العليم الحكيم فهذا خبره، ومن شك فيه كفر.قوله: وَدَّ بمعنى: أحب ورغب فوق العادة كَثِيرٌ وهذا من الاحتراز المطلوب، ولم يقل: ود الذين كفروا من أهل الكتاب إنما قال: وَدَّ كَثِيرٌ وقد يوجد فرد وأفراد في المدينة .. في القرية .. في الإقليم .. في قرن من القرون لا يودون هذا الود الباطل الفاسد الناتج عن الحسد، لكن صيغة (كثير) دالة على أن كثيراً من أهل الكتاب -وهم اليهود والنصارى- يودون كفرنا، وأن نخرج من إسلامناً؛ لنتساوى معهم. لا يريدوننا أن نظفر، ونفوز، ونعلو، ونسمو، ونسود، ونقود، ونحكم، ونعلم، وهم جهلة .. فسقة .. فسدة بمعنى الكلمة، فما يرضون بهذا، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109].أما جمعيات التنصير ورجالها فهم يعملون إلى هذه الدقيقة ليل نهار، والأموال تغدق عليهم من المنظمات والشركات والمؤسسات، ولا همّ لهم إلا أن يخرجوا المسلمين من دين الله، أما اليهود فلا تسأل، فهم أقلية وضعفة، ولكن مكرهم وكيدهم أمر عظيم، فيستطيعون أن يخرجوا المسلمين من دينهم بالابتسامة.إذاً: ماذا نفعل والواقع هو هذا؟إن الله عز وجل أراد بهذا أن يحذرنا لنحذر .. أن ينبهنا لننتبه، ولنعرف من هو العدو الذي يريد أن يسلبنا نور الله، وأن يرمي بنا في مزابل الحياة، إنهم الكثير من اليهود والنصارى.قوله: لَوْ وهذه للتمني لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ [البقرة:109] بالله ولقائه .. بالله وكتبه ورسله .. بالله وقضائه وقدره .. بالله ووعده ووعيده، إذ هذه هي الطاقات الدافعة.وكثيراً ما نقول: الإيمان الحق بمثابة الطاقة الدافعة، والقطار ذو العشرين عربة، تدفعه طاقة واحدة، والطائرة التي تحمل ستمائة نفس تدفعها الطاقة، فالإيمان بمثابة الطاقة الدافعة، فإذا قوي تحول الآدمي إلى أسد، وإذا ضعف أهان العبد، وأصبح كالهر أو دوناً من الهر، وإذا قويت هذه الطاقة في النفس صام الدهر .. خاض المعارك .. جاع .. صبر، واستطاع أن يصبر على الغريزة خمساً وعشرين سنة، وهو ينتقل من ثغر إلى آخر .. يجاهد، ولم يعرف النساء، ولم يفكر في الخروج.وصاحب هذه الطاقة إذا وضعت بين يديه أطنان الذهب والفضة، وهو يعرف أن هذا ليس له، وأنها محرمة عليه، فوالله لن يمد يده إليها، ولا التمس منها ريالاً واحداً.ونؤمن بما أمرنا الله أن نؤمن به من الغيب والشهادة، فلو أخبرنا تعالى أو أخبرنا رسوله بأن هذا الجدار سيتصدع وتخرج منه دابة، قلنا: آمنا بالله، ولا نقول كيف؟ أو متى؟ أو لم؟ أو مستحيل، أو هذا غير معقول، والله ما نقول هذا، وهذا الإيمان صاحبه كأنه يشاهد الله .. كأنه يعيش مع الله، وهو كذلك، والله إننا لمع الله، ولكننا غافلون ومخدرون؛ ما نشعر، أما قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]؟ بلى. فكيف -إذاً- نجرؤ على أن نقول الباطل، أو نرتكب المنكر، أو نفحش في قول أو عمل، وأنت مع الله، والله ينظر إليك؟ولا يفهمن عاقل أن هذه دعوة إلى الحلولية، معاذ الله، فالله فوق عرشه بائن من خلقه، وإنما نحن بين يديه، فهذا القمر؛ الكوكب المنير، الآن يطلع وحيثما كنت هو معك، وليس بلاصق بك أو جالس معك، إنما هو معك، والله الذي يقول عن نفسه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].فهل تريد أن تفهم أنك لست مع الله؟حركاتك .. سكناتك .. خواطر قلبك ونفسك، والكل بين يدي الله.الله الله لو تغلغل هذا الإيمان في قلوب البشر، وأصبحوا يعيشون مع الله، فمن يجرؤ أن يسب مؤمناً أو أخاك؟من يقدر على أن ينظر نظرة حرمها الله، فتأمن البلاد والعباد، فلا سرقة .. ولا زنا .. ولا كذب .. ولا غش .. ولا خداع .. ولا شح .. ولا بخل .. ولا باطل .. ولا زور، سبحان الله! فأصبحنا في جنة الدنيا، وكأننا في الملكوت الأعلى، وهذا الذي من أجله أنزل الله الكتاب وبعث الرسول.إذاً: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109]، والكفار: جمع كافر.والكفر لغة هو: التغطية، حتى إن الفلاح الذي يبذر البذر في الأرض ويكفره بالتراب؛ حتى لا تلتقطه الطيور، يقال فيه: كافر، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد:20]، كمثل مطر نزل فأعجب الفلاحين نباته.فالكفر: التغطية والدس.فكيف يكفر الله يا عبد؟! هل هناك من يقدر على أن يستر الله ويغطيه؟نعم، يكفر الله فيقول: لا وجود له. يقال له: أين الله؟ يقول: غير معلوم، ولا معروف، ولا موجود، ولا ظاهر، فهذا قد كفر الله بالنسبة إليه، ولمن يعلمهم الكفر. فالكفر هو الجحود والتغطية.ويريد أعداء الإسلام من أهل الكتاب في الزمان الماضي والحالي والمقبل والمستقبل، يريدون ألا نقول: لا إله إلا الله. يريدون أن نقول: الآلهة ثلاثة أقانيم: الروح القدس، والأب، والابن.والعجب من هذه الخرافة كيف تستقر في عقول الحكماء .. الأطباء .. الطيارين .. الخبراء، وتستقر في أذهانهم: أن الله مكون من ثلاثة أقانيم، وهذا هو الإله.ولنترك هذا إذ عافانا الله منه ونجانا، ولكن فقط نذكر أعداءنا؛ لنحترس منهم، ونتحفظ منهم، ونعرف ما يحملون لنا من مكر وكيد لإطفاء هذا النور علينا ونصبح أمثالهم.فأندية اللواط الآن في أوروبا تفتح علانية، أما الإجرام، والتلصص، والخيانة، والكذب فحدث ولا حرج، أما المروءة والفحولة فقد انتهيتا، أما أما.. ومع هذا ما شعروا بالنقص أبداً، فما زالوا منتفخين؛ منتفشين؛ ولعل السر في ذلك أنهم يريدون أن يجذبونا إليهم، وأن ينقلونا إلى ساحاتهم؛ لنصبح مثلهم، إذ هذا الذي أخبر تعالى به: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109].

حسد اليهود هو سبب عدائهم للمؤمنين

قال تعالى بعد ذلك: حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ [البقرة:109]، فذكر العلة والسبب التي من أجلها يودون كفرنا، وإخراجنا من ملة الإسلام، ألا وهو الحسد.ما هو الحسد؟الحسد معاشر المستمعين والمستمعات: داء الأمم من قبلنا، وهو داء خطير، أخطر من أدواء الجسم، من الإيدز إلى الملاريا، وهذا الداء هو الذي يتسبب في كل فتنة تقع.

أنواع الحسد

والحسد عندنا ثلاثة أنواع:النوع الأول: أن يتمنى -وأعيذك بالله يا سامعي- المرء زوال النعمة عن فلان، فلو كان فلان غنياً فإن الحاسد يود في قلبه .. في نفسه، وقد ينطق بلسانه فيقول: لو سلب الله هذا المال، وأصبح فقيراً مثلنا. هذا نوع.وأخطر منه: أن يتمنى زوال النعمة عن فلان ولو لم تحصل له هو.ومثال النوع الأول أيضاً أن ترى رجلاً جميلاً سليماً صحيحاً فتقول: آه لو كنت مثله، وتحب من كل قلبك أن تكون هذه النعمة لك أنت دونه، وهذا النوع أخف من النوع الثاني الذي يتمنى فيه صاحبه زوال النعمة عن فلان ولو لم تحصل له، فالمهم أن يراه فقيراً أو أعمى أو ذليلاً، ولو لم يحصل له ذلك النعيم الذي حسده من أجله.فهيا نطهر قلوبنا، فلا يبيتن أحدنا ليلة إلا وقلبه خال من هذه الأمنيات الكاذبة الفاسدة.فإذا أعطى الله فلاناً! فهذا ربه الذي أعطاه وليس أنت، فوهبه علماً .. مالاً .. شرفاً .. صحة بدنية، ووهبه ما شاء، فاسأل الله أن يعطيك مثله، فأنت عبده وهو عبده، أما أن تعترض على الله وتقول: لم أعطاه وأنا ما أعطاني، فهذا الموقف لا يقفه ذو إيمان؛ لأنه سفَّه الله عز وجل، وادعى أنه ظلم ولم يعدل، فكيف يعطي فلاناً ولا يعطيني؟ وهذا الموقف لا يقفه مؤمن بحق.أما النوع الثاني: فيتمنى زوال هذه النعمة ولو لم تحصل له، فالمهم ألا يراه يركب هذه السيارة أو هذه البغلة أو الدابة.وهناك نوع ثالث أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ الحسد، وهو في الحقيقة غبطة وليس بحسد، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين )، الأولى: أن ترى رجلاً ذا علم يعمل بعلمه ويعلمه، فتتمنى على الله أن لو تكون مثله، فأنت تعلم وتعمل بعلمك وتعلمه الليل والنهار، قال: ( رجل آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ليل نهاراً )، فهذا الاغتباط محمود.أو ترى رجلاً غنياً؛ ثرياً؛ كثير المال، ينفقه ليل نهار، ويده سحاء الليل والنهار، فتسأل الله أن لو يكون لك مال فتفعل مثلما يفعل هذا الرجل السخي الكريم، الذي يطعم الفقراء والمساكين، وهذا التمني محمود، وإن سماه الرسول حسداً؛ لأن فيه معنى الحسد؛ لنظره إلى نعمة الغير، لكن ما نظر إليها ليسلبها صاحبها أو يتمنى سلبها، وإنما ود أن لو كان مثله ليفعل ما يفعل، فذاك أعطاه الله القرآن، والعلم، والحكمة، فهو يعلم، ويعمل، ويهدي الناس، وطبعاً كل ذي رغبة في الكمال يود لو كان مثله. والثاني: يرى ثرياً من أثرياء الناس، وهو ينفق ماله الليل والنهار، فيود لو كان له مثل هذا المال، ليفعل مثلما فعل هذا المؤمن، فهذا الحسد المحمود.

ظهور الحق لليهود وإعراضهم عنه

قال تعالى بعد ذلك ذاكراً علة أخرى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، وقد عرفتم أن اليهود كانوا يتطلعون إلى النبوة المحمدية، فنزحوا من الشام إلى المدينة من أجلها، إذ بشارات عيسى وموسى عليهما السلام موجودة في الإنجيل والتوراة، فنزحوا إلى هذه البلاد، وسكنوا المدينة مهاجر النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم انتظاراً للبعثة المحمدية، ليؤمنوا به، ويقاتلوا العرب والعجم دونه، ويستردوا ملكهم، وشرفهم، وكمالهم.وكانوا يتطلعون لاسيما لما بعث الرسول، فقضى ثلاث عشرة سنة في مكة وهم بالمدينة يتحسسون الأخبار، ويترصدون الأنباء بصورة عجيبة، وينتظرون، فما إن نزل المدينة في السنة الأولى من الهجرة، وشاء الله أن تتم وقعة بدر، وينتصر فيها، فاسودت وجوههم، وتغيرت قلوبهم، وانتكسوا، وأعلنوا عن عدائهم، فالأمل الذي كانوا يأملونه ضاع، وعرفوا أنه ليس لهم، فتواصوا ألا يدخل أحد في دينه، ونافق من نافق، ودخل نفاقاً فقط لإفساد الملة، وإحباطاً لهذه الدعوة، وكان خيارهم .. أفاضلهم -بالنسبة إليهم- في الصباح يأتون إلى المسجد ويشهدون شهادة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويظلون مع الرسول، وفي الليل يكفرون للفتنة، آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، فيوجدون الفتنة والبلبلة في نفوس الناس: فلان دخل الإسلام فكيف خرج؟ هل وجده لا شيء؟ فينشرون مجموعة من الخرافات أو الضلالات فقط، وهذا هو الطابور الخامس للفتنة أو الشائعات الباطلة، إلى هذا الحد.ولا عجب في قول الله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ [البقرة:109]، أنه أي: الإسلام ورسوله وكتابه هو الحق، الذي ما وراءه إلا الباطل، فهذا الذي حملهم وجمع قلوبهم على العداء للإسلام والمسلمين: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، أما قبل أن يعرفوه فكانوا مترددين أو متحفظين، لكن بعدما ظهر أنه هو الذي يرفع، ويعز، ويكرم، ويعلي شأن العبد عرفوا هذا، فناصبوه العداء، وأعلنوا الحرب عليه.

معنى قوله تعالى: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)

قال تعالى في خطابنا أيها المؤمنون: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109]، والعفو معناه: عدم المؤاخذة، والصفح معناه: الإعراض، أي: أن تعطي عدوك صفحة وجهك، فتعرض عنه، لا تسب، ولا تشتم، ولا تعير، ولا تقبح.قوله: فَاعْفُوا أي: أيها المؤمنون! لأن ساعة الجهاد ما حلت .. ما دقت، ولا سب، ولا شتم، ولا كذب، ولا تصفعه، ولا ترفع يديك عليه، بل أعرض عنه، وأعطه صفحة وجهك، وامش.قوله: وَاصْفَحُوا أي: عمن يؤذيكم، ويريد إلقاءكم في الفتنة، وإيقاد النار بينكم، ففي هذا الظرف بالذات ليس لكم قدرة على القتال، ولا عدة ولا عتاد، فما عليكم إلا العفو والصفح.وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إلى متى؟ قال حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ متى؟ الله أعلم، أي: حتى تتحد الكلمة، وتكون لكم عدة وعتاد، فحينئذٍ بسم الله.وأمر الله آت لا يعجزه شيء، وهذا الأمر هو أن يؤهلكم لحمل السلاح والقتال وإعلان الحرب، وما دمتم ضعفة .. عجزة .. مشتتين، فخمسة هنا وعشرة هناك، لا يشكلون مدينة واحدة، فما أذن ربكم في القتال؛ لأنه لا يريد إهلاككم وتدميركم.قال: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .دعونا ندخل في السياسة قليلاً، فالآن قلوب المؤمنين تقطر دماً مما يصيب إخواننا في فلسطين، فأنواع العذاب تصب عليهم، ونحن نبكي فقط، ولو كنا صادقين لأقبلنا على الله عز وجل فتبنا إليه، وأقبلنا في صدق عليه، فحرمنا ما حرم، وأحللنا ما أحل، وعمرنا بيوته بالبكاء والدموع، وتآخينا، وتواددنا، وتحاببنا، وتقوينا، وأصبحنا ذوي قدرة وقوة، فيأذن الله لنا بالقتال، وينصرنا؛ لأنه وعد.والذي آلمنا وأحزننا وأكربنا أننا نجد إخواننا يعذبون، ونحن نشجعهم، ونسمي تلك الحال الانتفاضة، الانتفاضة! ونحن مطوقون إسرائيل تطويقاً كاملاً: من الجنوب .. من الشمال .. من الشرق.. من الغرب، ونحن نملك من العتاد والسلاح ما لا تملكه، ونقول للعزل المساكين الذين هم تحت الحصار ووراء الأسوار: قاتلوا بالسب، والشتم، والحجارة والبطاطس و.. و.. وهذا المظهر كم من مرة نحلف ونقول: والله لو كان رسول الله بيننا ما سمح لهم بهذا أبداً، ولا يطلب إليهم أن يعلنوا عداهم لليهود أعداءهم حتى يفرج الله ما بهم، ونأخذ هذا من قوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109].فالمسلمون الآن مع الضعف والعجز، المفروض أن يسلكوا هذا المسلك الرباني، إذ قال لهم: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وقد كنت أود من إذاعاتنا الإسلامية وكتابنا أن يقولوا لإخواننا: اصبروا، املئوا بيوت الله بالبكاء، والصلاة، والدعاء، وتحابوا، وتوادوا، وأظهروا الإسلام حتى يفرج الله عز وجل، ولا نقول لهم: اثبتوا على السب، والشتم، والتعيير، والاغتيالات، كأننا ما عرفنا كتاب الله، ولا عرفنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول كان أصحابه يعذبون في مكة بأبشع أنواع العذاب، ويغمسون في الماء حتى الموت، ويسحبون على الرمضاء والأرض الحارة، وما قال لواحد: سب ولا اشتم، بل قال: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، ويشكون فيقول: اصبروا اصبروا!وجاء المدينة، فحصل الذي حصل بمكة، واسمع ما يقول لهم: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، إلى متى؟ إلى ساعة، وهي أن توجد لنا القدرة على القتال، والطاقة على الدفع، وحينئذٍ القتال كما سيأتي.لماذا لا يفهم المسلمون هذا؟لأنهم بعدوا عن القرآن، فالقرآن يقرأ على الموتى فقط، ولا يقرأ على الأحياء، وهذا الذي نقوله: دلوني على رجل يمر بأخيه يقول له: من فضلك اجلس اقرأ علي من القرآن، فأتدبر، وأتأمل فيه. هاتوا؟ لا أحد.إذاً: هذه عبر الكتاب الكريم.قال تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، بعدما تبين لنا، وعلمنا أن أعداءنا اليهود والنصارى، وأنهم لا يودون أن نفتقر فقط أو نذل، بل يودون أن نكفر، وما بعد مصيبة الكفر من مصيبة، ومع هذا يقول: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، لأنكم أقلية وضعفة لا تقدرون على خوض المعركة والحرب، فاصبروا حتى يتم عددكم وعتادكم، وحينئذٍ يأتي الإذن من مولى الجميع .. من رب العالمين.

استقلال المسلمين عن الاستعمار وتنكرهم للإسلام

أذن الله تعالى بالقتال كما في سورة الحج: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:39-40] وعزة الله لينصرن الله من ينصره، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:40-41].ولقد استقل المسلمون استقلالاً كاملاً من سلطة الاستعمار الغربي، من أسبانيا إلى هولندا، فما استطاع إقليم واحد أو مملكة أو سلطنة أو جمهورية أن يطيعوا الله في أربع كلمات، أمسحورون أو ماذا؟!الحمد لله أننا في بعض الخير.الله عز وجل أذن لنا في القتال لما تقوينا وقدرنا، وعلمنا أن هذا القتال ضروري وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، ثق بالله العظيم ما تخلف وعد الله، فما من أحد نصر الله إلا نصره الله.لكن كيف أنصر ربي؟أنصره في دينه .. في رسوله .. في أوليائه .. في شرعه. وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ [الحج:40]، هل هناك قوة خرجت عن هبة الله؟ ما من قوة إلا والله واهبها، فهو على كل شيء قدير، عزيز لا يمانع في شيء، كيف -إذاً- يعد ويخلف؟ والله ما أخلف: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40].اسمع.. اسمع! تكونت تلك المملكة الإسلامية من وراء نهر السند إلى وراء الأسبان في خمس وعشرين سنة فقط بأيامها ولياليها، فهذا وعد الله: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:40-41] ماذا فعلوا؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].أعود فأقول وابكوا إن شئتم أو اضحكوا: استقلت ثلاثة وأربعون دولة من إندونيسيا إلى موريتانيا فما أقيمت الصلاة في بلد، فقط من شاء أن يصلي ومن شاء أن يغني، وما جبيت زكاة ووزعت على فقراء المؤمنين في تلك الديار وخارجها أبداً.وما وجد من يأمر بالمعروف وينهى عن منكر.ولو أن منظمة تكون في كل قرية من ثلاثة أنصار، من رجال العلم وكبار السن: أنتم مسئولون عن القرية، فإذا شاهدتم منكراً أطفئوه وأحبطوه، وغيروه وأزيلوه، وإذا شاهدتم معروفاً ترك بين إخوانكم فمروا به، وألزموا به حتى يفعله الناس.يحار العقل كيف نستقل من سلطة بريطانيا من أجل أن نقيم شرع الله ودين الله؛ لنعبد الله، ثم ننتكس ونتغير ونتنكر لدين الله، وما زالت غضبة الله ما هي ببعيدة، فلا يفرحن الغافلون.سئل أحدهم: أين الله؟ فقال: بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14].وآية هذا أن الله أذلنا لليهود، وليس اليهود هم الذين أذلونا، فهم حفنة عددها خمسة ملايين، فوالله لا أذلنا إلا الله، وهو الذي سلب معارفنا، وعقولنا، وطاقاتنا، وتركنا كالبهائم.وفعل بنا هذا؛ لأنه مكننا فطردنا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا من ديارنا، وأصبحنا نحن السادة الحاكمون، وما علينا إلا أن نأمر الناس بعبادة الله، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، لكن كان قولنا: لا لا.هل فهم السامعون والسامعات أو لا؟فإن قال قائل: يا شيخ! دعنا من الماضي.

مقومات النصر والتمكين

أقول: ما المانع لأي بلد إسلامي أن يجبر المؤمنين على أن يغشوا بيوت الله، ويشهدوا الصلوات الخمس، ولا يتخلف أحد أبداً؟ما المانع أن تجبى الزكاة باسم الزكاة فريضة الله، وقاعدة الإسلام الخامسة؟ما المانع أن يوجد في كل قرية وفي كل حي مجموعة موظفون براتب، ومهمتهم أن يشاهدوا أحوال الناس، فإذا شاهدوا منكراً غيروه، فإن الرسول ألزمنا بهذا: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه )، وإذا رأوا معروفاً متروكاً أمروا الناس به ليفعلوه.فاحفظوا لنا هذه النعمة؛ حتى يبقى أمننا، ورخاؤنا، وطهرنا، وصفاؤنا، ونخشى أن نسلب هذا النعيم إذا ما سلكنا هذا السبيل؛ سبيل الله عز وجل.هل وجد هذا؟ نعم وجد من يقول: هذا تأخر ورجعية، ولكن الله أرانا آية من آياتها.وهذه الديار ديار الإيمان قبل وجود دولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كيف كانت هذه البلاد؟ ما حدثكم آباؤكم؟آه، كان الحاج يسقونه الماء الحار حتى يخرج الدينار من بطنه.كانت القبور تعبد أكثر مما تعبد في دياركم، وكانت الأشجار تعبد، وكانت جاهلية عمياء.كيف تحولت؟ والله ما تستطيع أمريكا ولا روسيا الحمراء ولا أي بلد أن يفعل هذا، فيتحقق أمن تمشي من طرف المملكة إلى آخرها لا تخاف إلا الله، والله إن بيوتاً تبيت بلا أبواب، والله إن باعة الذهب لا يضعون إلا خرقة على دكاكينهم.كيف تم كل هذا؟ هل تم بالسحر .. بالمال؟أين المسلمون؟ ما لهم عموا؟ ألا يشاهدون هذا؟فقط؛ لأن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود غفر الله له ورحمه، لما حاول أن يوجد الدولة الإسلامية عزم أن يقيمها على هذه الدعائم الأربعة التي لا تقوم دولة أبداً إلا عليها، وإلا فهي دولة هاوية السلك، وسلطانها -وإن طال الزمان- إلى هلاك، فأوجد الأمر بالصلاة كما قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وهذا وقتكم يا عباد الله قبل أن تعلن الحرب؛ لأن إقام الصلاة بالمعنى الذي يريد الله إذا قال: حي على الصلاة لم يبق باب مفتوحاً، والله لقد كان أحدهم في يده المطرقة يرفعها ليضرب الحديد فإذا سمع حي على الصلاة وضعها جانباً، وكان أحدهم الإبرة في يده يخيط بها، فإذا سمع: حي على الصلاة ما يدخلها في الكتان ويأتي الصلاة.أما نحن فما عرفنا إقامة الصلاة، وإنها -والله- لخير من كل قوى الأمن الموجودة في بلاد العالم؛ من بوليس ونظام ودقة، ومع كل ذلك فإن هناك السرقة، والتلصص، والجرائم، فما نفع البوليس، ووالله لو أقيمت الصلاة في قرية أو بلد أو عالم كما يريد الله ما احتجنا إلى شيء اسمه بوليس، وما وجدت سرقة إلا في الدهر مرة، في شاذ من الشواذ.وللأسف أن المسلمين عمي، لا يبصرون أبداً.وإلى الآن ما بلغنا أن حاكماً استفاق وقال: لم لا نؤسس دولتنا من جديد على هذه الدعائم الأربع التي شاهدنا آثارها في هذه الديار، وهل يكلف هذا شيئاً؟ والله لا يكلف شيء.وإنما هو قانون يبتدئ بقضية هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي كل قرية وكل حي مجموعة من خمسة أشخاص أو ستة يقال لهم: أنتم الرقباء .. أنتم الحماة .. أنتم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فلا يتخلف عن الصلاة أحد، وتدخل الأمة في بيوت الله تبكي، وينتهي كل شر وفساد.وقد قلت من أربعين سنة: تعالوا بنا نذهب إلى المحافظة .. إلى مدير الشرطة ونقول له: أعطنا بياناً بجرائم هذا الأسبوع من سرق، ومن سب أباه، ومن فعل كذا، وفعل كذا، ونقول له: والله إن وجدنا من المقيمين للصلاة أسماء مسجلة تزيد على (5%) اذبحوني، و(95%) من تاركي الصلاة ومن المصلين اللاهين، وإلى الآن ما استطاع واحد يرد، في أي بلد إسلام، حتى في المدينة، فإن وجدنا نسبة أكثر من (5%) افعلوا ما شئتم، وذلكم لأن ربي يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، وليست قوى الأمن هي التي تنهى، إنما الصلاة هي التي تنهى، ومع هذا إلى الآن ما بلغنا في بلد الأمر بالصلاة أبداً.

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ...)

قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:110]، هذه هي التربية الربانية الإلهية، فأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وعطف على ذلك فعل الخيرات؛ إذ الزكاة قد لا تكفي للسلاح، والعتاد، والجهاد، والفقراء، والأغنياء. إذاً: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة:110] مطلق خير تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:110]، وهذا ترغيب.

إحاطة علم الله بكل شيء

وأخيراً يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:110]، وهل نحن مؤمنون بأن الله بصير بأعمالنا، مطلع عليها؟ وهل نذكر هذا؟والله ما ذكره أحد واستطاع أن يغش أو يخدع، بل بلغ بنا الحد أن الخياط يخيط ثوبين: هذا للسوق، وهذا للذمة، وثوب السوق لا يحسن خياطته، وهذا لا، موصى به أو مطالب منه، هذا مثال.ومظاهر الغش والخداع بين المسلمين يعجز القلب عن تصورها، والسر أنهم لا يراقبون الله، والمراقبة ذات أثر، وكما في الحديث: ( اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).وأسألكم بالله: الذي يفعل فعلاً وهو يرى أن الله يراه هل يسيء عمله ويفسده؟ لا، ولو يذكر أن الله يراه لا يستطيع أن يواصل عمله.وقد بشرنا الرسول وبين لنا هذا، فذاك الإسرائيلي الذي راود ابنة عمه عاماً كاملاً عن نفسها، وهي تتمنع لإيمانها، ولما اضطرتها الحاجة، وألجأها الفقر والخصاصة، وسلمت نفسها مكرهة لجوعها، فما إن جلس منها مجلس الرجل من امرأته وقالت له: أما تخاف الله؟ وبأي حق تفتض هذا الخاتم؟ فقام الشاب يرتعد، وترك المال، وهو يصرخ ويبكي، فهذا ذكرته فذكر؛ لأن قلبه حي، وإنما غشيته غفلة وضلالة، فما إن فطن صرخ.وإن قلنا: هذا في بني إسرائيل والعهد بينهم بعيد، فعندنا في المدينة في سوق التمار على عهد أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، كانت هناك امرأة مؤمنة، وزوجها خرج في غزوة في الجهاد، فاضطرت إلى أن تخرج إلى السوق لتشتري تمراً لأطفالها، وقد كان أغلب قوتهم من التمر، فلما اشترت منه وهي محتجبة لا يرى منها شيئاً، وأرادت أن تخرج يدها وفيها النقود، شاهد كفها يلوح كالقمر فغشيه الشيطان وغطه، وقبّل تلك اليد، فانتزعت يدها منه، فاستفاق، والله إلى جبل أحد وهو يصرخ في الشوارع، يبكي ويحثو التراب على رأسه، وينتف شعره، حتى دخل إلى المسجد النبوي وشكا إلى الرسول ما أصابه، وسلَّاه الرسول وصبره، وقال: ( صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم. قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] ).

مقومات المسلم الرباني

إذاً: ولو أخذنا بهدي القرآن، وعدنا للهداية القرآنية، آية من سورة العنكبوت، يقول الله في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته تابعة له، يقول له مربياً؛ معلماً؛ حتى يتخرج ربانياً، يقول له: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، فهذه خطوة، اقرأ يا رسولنا ما أوحاه الله إليك من الكتاب، والله إن قراءة القرآن ليست على الموتى، ولا من أجل أن يقال: حافظ، إنما قراءة القرآن تكون للتدبر، والتفكر واجتلاء العبر، وأخذ المعاني، والهدى، والنور، فهذه القراءة لا يعادلها شيء إلا ما ذكر معها، اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، فيقوى إيمانك .. تتم قدرتك .. ويحسن ما شئت من آدابك، وأخلاقك، وكمالاتك؛ لأنها طاقة كاملة من النور.قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، يا معاشر المستمعين! سلوا الفقهاء لا يقال: أقامها وهي معوجة أو ناقصة إلا إذا أداها الأداء المشروع، بكامل شروطها، وأركانها، وسننها وآدابها حتى تتولد منها تلك الطاقة النورانية المسماة بالحسنات.قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا الله؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فهذان اثنان، والثالث: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].أرني مؤمناً يذكر الله بقلبه ولسانه، هل يستطيع أن يسب أو يشتم وهو يذكر؟!أرني مؤمناً يذكر الله تقرباً إليه، وتزلفاً وتملقاً إليه بذكر اسمه، وهو ينظر إلى امرأة يتلذذ بالنظر إليها!أرني ذاكراً لله في قلبه ويطفف في كيله أو وزنه! يعد وهو عازم على أن يخلف! يستدين وهو عازم على ألا يقضي ولا يرد! والله ما كان، فكل الجرائم التي ترتكب سببها النسيان، فما ذكروا الله، ولا سألوا عنه، وكل الذي يحدث من الفساد والشر ناتج عن الغفلة عن الله، إما ما عرفوه أو ما عرفوه معرفة كاملة، فنسوه وتركوه، فحصل الذي حصل.والرابعة والأخيرة: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، وهي كقوله: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:110] فحركاتك، وسكناتك، وعملك داخل البيت وخارجه هو تحت نظر الله، فانتبه إلى أنك مراقب في سلوكك، وهذا الذي يشعر بأنه مراقب لا يستطيع أن يغش أو يفسد.وأنا أود أن تدلوني على رجل رباني عرف الله وأحبه، واستقام على طاعته أنه يفسد بينكم، وكل الفساد والشر من الغافلين والجاهلين، والذين لا بصيرة لهم.

طريق الرجوع إلى الله

إذاً: كيف نرجع؟ ما الحل يا عباد الله! ننتظر حتى يأتي عمر بن الخطاب ؟ والله لا يأتي، وإذا جاء عمر يبدأ كما قلنا لكم.عندنا الآن زوار من الشرق والغرب نقول لهم: جربوا، أما عندكم قرى؟فكل قرية فيها ثلاثمائة ساكن إلى ألف، فيتعاهد أهل القرية في صدق ألا يتخلف رجل أو امرأة إلا ذو عذر، فيشهدون كلهم صلاة المغرب والعشاء في مسجد الله .. في بيت الله، فيجتمعون، ولا يبقى في البيت أحد، ولا مقهى ولا دكان، أهل القرية كلهم في المسجد، والنساء وراء حجاب أو ستار، والفحول أمامهن، والمعلم بين أيدي الجميع، ليلة آية وأخرى حديثاً طول العام، فيتعلمون الكتاب والحكمة، وتزكى أنفسهم، وتطهر أخلاقهم، وتسمو آدابهم، وبعد سنة واحدة يتغير حال أهل الحي أو القرية، وتنتهي كل الإحن والمحن، والأباطيل والترهات، والخرافات والضلالات لأنها نور الله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، هذا الكتاب الكريم.أقول: لم لا نعمل هذا؟كذلك كتاب: (المسجد وبيت المسلم) موجود، فأهل البيت في بيتهم يجتمعون: الأطفال وأمهم يجتمعون بين يدي أبيهم، فيقرءون آية من كتاب الله ويتغنون بها بأنغام نبيلة طيبة؛ حتى يحفظوها، ويبين لهم مراد الله منها، والمطلوب ما هو، فإن كان عقيدة عقدوها، فلا تنحل من قلوبهم، وإن كان أدباً فمن تلك الساعة يلتزمون به ويتأدبون، وإن كان خلقاً تخلقوا به، وإن كان واجباً عرفوه، وإن كان منكراً تركوه.لم ما نفعل؟!والله لو جاء عمر لا يفعل إلا هذا، أما السيف فلا ينفع فينا، ما هو إلا أن نعود إلى الله؛ لأننا قادرون والحمد لله.الرسول صلى الله عليه وسلم في خمسة أيام بنى مسجد قباء، وفي أقل من شهر بنى هذا المسجد، فما نحتاج إلى عناء ولا مشقة، فالخشب والحطب موجود، نظلل به الناس عن الشمس والمطر، ونجتمع في بيوت الله.فإن قالوا: لا نستطيع.أقول: إذاً: ماذا تستطيعون؟ كيف تطلعون إلى السماء؟ بالسحر؟ أو ما عندكم أمل بأن تخترقوا السموات السبع؟فإن قال قائل: ما عرفنا يا شيخ!أقول: ما عرفتم؟! كيف أنتم مسلمون ولا تعرفون؟! أما قرأتم حكم الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فهل قام رجل في القرية وقال: يا شيخ! أنا أريد أن أزكي نفسي، فما هي أدوات التزكية؟ ما قام أحد أبداً، ولا يسأل أحد.إذاً: كيف نعرج إلى الملكوت الأعلى ونواكب النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين؟!هل بالأحلام والآمال الكاذبة أو بالأنساب الفارغة؟!إن حكم الله قد صدر: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، والفتن تنتقل من بلد إلى بلد، وهي عارمة، ولا يطفؤها إلا أن نعود إلى الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-06, 10:34 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (76)
الحلقة (83)



تفسير سورة البقرة (46)

كان المجتمع الإنساني -ولا زال- يعج بالأديان والعقائد المختلفة، والتي منها اليهودية والنصرانية، وكان أتباع كل ديانة يدعون أن الجنة حكر عليهم دون دليل أو برهان، فردّ الله عليهم قولهم بأن الأجر الكامل والأمن والفرح إنما هو لمن أسلم وجهه لله سبحانه، محسناً في نيته وقوله وعمله، أما جدال اليهود والنصارى وغيرهم، فالله يحكم فيه بينهم يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب، سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة:111-113]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

معنى قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى)

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، القائلون هم اليهود والنصارى.فاليهو قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً. والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان صليبياً؛ نصرانياً؛ مسيحياً.ونحن نقول: لن يدخل الجنة -والله- إلا من كان مسلماً؛ حنيفياً.والآن هاتوا البرهان، فالدعاوى إذا لم تدعمها بينات دعواها باطلة، فهاتوا البرهنة على أن اليهود هم أهل الجنة وحدهم، آلله أخبر بذلك؟ وهذا كتابه.وكذلك النصارى! آلله أخبر بأنهم أهل الجنة، وسواهم محرومين منها فليتفضلوا، أين الأدلة والبراهين؟إذاً: دعوى باطلة، ولا تعدو كونها أماني كاذبة: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111] فقط، والأماني لا قيمة لها، بل تذهب أدراج الرياح.نعم! إذا تمنيت على الله فاسأله، وادعه، وتضرع إليه، واعمل بمقتضيات النجاح والفوز، لا مجرد أن تتمنى، ولهذا يقول: الأماني بضائع النوكى، أي: الحمقى، فالأحمق بضاعته التمني، تجده جالساً تحت الشجرة أو في ظل الجدار ويتمنى أن تأتيه القصعة مملوءة بالرز واللحم.ونحن أيضاً نتمنى على الله كذا .. فكيف تتمنى أنت؟!إذاً: ادع، وتضرع، وابك، واعمل بالأسباب التي تصل بك إلى مرادك، أما أن تعصي الله في ذلك، ولا تلتفت إلى ما قنن أو شرع أو سن من قوانين وسنن بها يصل العبد إلى أهدافه وأغراضه وتقول: أتمنى على الله. فلا.هؤلاء اليهود والنصارى أصحاب الديانة البارزة العالية في العالم، قص الله علينا خبرهم فقال: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، ليس معناه: أن النصارى واليهود هم الذين يدخلون الجنة، ولكن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، فما عليك إلا أن تتهود وادخل، ومع هذا لحسدهم لا يسمحون لأحد أن يتهود، ومن عرض عليهم أن لديه رغبة في أن يكون -والعياذ بالله- يهودياً فلن يقبلوا، وهذا فيه نوع احتكار للجنة، فلا يدخلها إلا يهودي الأصل والنسب من أولاد إسحاق وإسرائيل، فكيف يدخل الجنة من عداهم.وكذلك النصارى يرغبون في تنصير غيرهم؛ لأنهم يعرفون أنهم إلى الهاوية .. إلى جهنم، فهذا مصير لا حد له، ولهذا بودهم أن البشرية كلها تتنصر، ويبذلون الرخيص والغالي، والنفيس والخسيس من أجل أن ينصروا البشرية، وخاصة المسلمين، وأما البوذا، والهنادك، والمجوس وغيرهم من المشركين فلا يهمهم أن يتنصروا أو لا يتنصروا، لكن المسلمون أهل الجنة، الوارثون لدار السلام، هؤلاء فازوا بها، فنصرفهم عن الإسلام.والله إن عند القسس ومن يسمون برجال الدين، خططاً لتدمير الإسلام الأمر العجب.وقوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ [البقرة:111]، فهم يؤمنون بالآخرة والقيامة والحساب والجزاء، ويؤمنون كذلك بالجنة، لكن النصارى معتقدهم في الجنة أن فيها الأرواح البشرية فقط، فلا أجسام ولا أبدان ولا ذوات، نعيم روحاني فقط، كالنائم روحه في نعيم أو في جحيم، ولا جسم في ذلك ولا بدن، وهذا كفر صراح وبواح، وصاحبه كافر؛ لأنه كذب الله، وكذب رسله، وكذب العقل وكذب وكذب .. من أجل اتباعه لمشايخ الباطل ورؤساء الضلال.والنصارى إلى الآن لا يعرفون الجنة كما نعرفها، وأن ساكنها يسكنها ببدنه، وأن الأجسام ستكمل وستتحد، وتصبح على جسم واحد، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكون أبناء ثلاث وثلاثين سنة، متساويين في هذه السن، وطول الواحد منا ستون ذراعاً، أي: ثلاثون متراً في الهواء، وهذا الذي كان لأبي البشرية آدم، فلما خلق الله آدم وصوره، ونفخ فيه من روحه كان طوله الجسماني ستون ذراعاً.قال الله تعالى: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111]، أي: هذا الذي يعيشون عليه، وقد قدمنا أن الأمنية والتمني إذا لم يعمل العبد على تحقيق أمنيته من طريق الوسائل المشروعة، والسنن المشروعة للوصول لهذه الأمنية، فهو أحمق، لا قيمة له، ولذا قالوا: الأماني بضائع النوكى. فالأحمق هو الذي يجلس في بيته ويتمنى أن يمتلئ حجره دراهم ودنانير.

معنى قوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم ...)

قال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [البقرة:111]، حكى قولهم ومعتقدهم وما يتبجحون به، وأخبر أن هذه مجرد أماني لا تتحقق بحال من الأحوال.ونحن قد عرفنا حكم الله الصادر على البشرية كلها أبيضها وأصفرها فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، وقلنا غير ما مرة: هنا تقرير المصير إلى يوم القيامة أبداً، فالآدمي هو الذي يقرر مصيره بنفسه اليوم قبل أن تتغرغر، وأن تبلغ الروح إلى الحنجرة، فإن هو آمن، وعمل صالحاً حسب ما شرع الشارع الحكيم، فلا قدّم ولا أخّر، ولا زاد ولا نقص، وراعى الزمان والآن، فإن ذلك العلم ينتج زكاة روحه، وطهارة نفسه، وأصبح شبيهاً بأهل الملكوت الأعلى، الملائكة النورانيين الروحانيين، وبذلك أصبح أهلاً للجنة.أما أن يلوثها، ويخبثها، ويدرنها بأوضار الذنوب والمعاصي، ومن أقبحها الشرك والكفر، ويرجو، ويحلم، ويتمنى أن يدخل دار السلام، فوالله ما دخلها، وما هو لها بأهل أبداً.ولقد مضى حكم الله في العالمين: إِنَّ الأَبْرَارَ [الانفطار:13] ما لهم؟ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13]، والله لفي نعيم وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:14]، من هم الأبرار؟ ومن هم الفجار؟كل الناس يعرفون البار المطيع الصادق في طاعته لله ورسوله، فبذلك زكت نفسه، وطابت، وطهرت.والفاجر هو الذي فجر عن القانون، وخرج عن النظام، وفسق عن طاعة الله، وأقبل على معاصيه، فسودت نفسه وخبثت، وتعفنت، وما أصبح إلا كالشياطين، والشياطين لا يدخلون الجنة دار السلام، وقد طرد منها إبليس، وأبلس!إذاً: النصارى يتبجحون بأنه لن يدخل الجنة إلا من كان مسيحياً، ولو تحضر خطب القسس ومواعظهم فإنك تسمع مثل هذا الكلام، واليهود -كذلك أيضاً- في بيعهم يقولون مثل ذلك: بأن الجنة ممنوعة ومحرمة إلا على اليهود.والحمد لله نحن عندنا حكم الله فلا نقول: قال آباؤنا أو أجدادنا أو أسلافنا، بل هذا كتاب الله بين أيدينا.قال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، فالتقليد الأعمى لا قيمة له، فهو مذموم، وإذا قلدت غيرك لابد وأن يكون عندك دليل وبرهان تثبت به ما قلدته فيه، وهم أجيال وأمم يتبع بعضهم بعضاً على التقليد الأعمى، قالوا: الجنة لنا؛ قلنا بعدهم: الجنة لنا.قلنا لهم: ما الدليل؟ هل عندهم صك من الله عز وجل أو كتاب فيه يدرسون؟ من أين؟قال تعالى: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، فهل يستطيعون أن يأتوا ببرهان أي: بحجة، ببيان، بدليل؟والله الذي لا إله غيره ما كان، ولو قدروا عليه لحاجوا به رسول الله، وطرحوه بين يديه، ولكن يطأطئون رءوسهم فيقولون: وجدنا آباءنا، وهكذا قال علماؤنا، وهذه عقيدتنا.ونحن نقول لهم: هاتوا البرهان.

تفسير قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ...)

قال تعالى: بَلَى [البقرة:112]، أي: ليس الأمر كما تزعمون وتدّعون أيها المغفلون، المغرر بهم، المخدوعون، بل القضية: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، فمن أسلم وجهه لله وهو محسن فهو صاحب الجنة ومولاها وساكنها، ومن لم يسلم وجهه لله، ولم يحسن في أمر الله فهيهات هيهات أن يكون في جوار الله، وأن ينزل دار الأبرار والسلام.

معنى قوله تعالى: (أسلم وجهه لله)

ما معنى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112]؟الإسلام عرفتموه، تقول: فلان أسلمك النقود .. أسلمته البضاعة أي: أعطيته، ومنه بيع السلم.إذاً: أسلم بمعنى: أعطى، والإسلام مصدر، تقول: أسلم يسلم إسلاماً، وفلان أسلم، قد نقول: دخل في الإسلام، ولكن حقيقته أنه أعطى قلبه ووجهه لله، فأسلم وجهه لله وأعطاه لله، فأصبح لا ينظر إلا إلى الله، ولا يحب، ولا يكره ولا يعطي، ولا يأخذ، ولا يبني، ولا يهدم، ولا يزوج، ولا يطلق، ولا ولا .. إلا وهو مع الله، فهذا هو الإسلام.

إحسان العمل وأهميته

قال تعالى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] والحال: أنه وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، وهذه الحقيقة لا تنسوها، فقد تصلي ولا تنتج لك صلاتك جراماً أو أوقية، وقد تصوم وتخرج من صيامك بلا شيء، وقد تخوض المعارك والدماء وتخرج بلا شيء، إذ لابد من الإحسان: وهو إتقان العمل وتجويده وتحسينه، حتى ينتج الطاقة التي من شأنه أن يولدها.وهذا جبريل عليه السلام لما سأل أبا القاسم صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان، سأله كذلك عن الإحسان، فمبنى هذا الدين على ثلاث دعائم: إيمان، إسلام، إحسان. وعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف أن هذا الدين يدور على هذه الحقائق الثلاث: إيمان، إسلام، إحسان.لكن ما هو الإحسان؟قلنا: الإحسان هو إتقان العمل، وتجويده، وتحسينه حتى ينتج.وكيف تستطيع أن تحسن عملك وتجوده حتى ينتج؟الجواب: لن تستطيع إلا إذا كنت أثناء العمل كأنك تنظر إلى الله، أو على الأقل تعلم أن الله ينظر إليك.ولا تنخدع فتقول: أنا أحسن عملي، وأتقنه، وأجوده حتى ينتج الطاقة وأنت لا تراقب الله، فلن يكون هذا.فالإحسان كما في الحديث: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه -لضعفك- فإنه يراك )، فأنت بين الحالين، فإذا أخذت تتوضأ، تغتسل، تصلي، تجاهد، تقول، تقرأ، فإن كنت مع الله أحسنت عملك، وأديته على الوجه المطلوب، وبذلك ينتج لك الحسنات، وإن أنت أديتها غافلاً فإنها لا تنتج، وهذه محنتنا عامة، وهذه محنة الكل، إلا من أخذ الله بيديه.فإن سأل سائل: ماذا نصنع؟قلنا: هيا نربي أنفسنا، فنعودها ونروضها حتى نصبح دائماً مع الله، فقلوبنا ذاكرة، وألسنتنا ذاكرة: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، فإذا دخلنا في الصلاة وما شعرنا أننا مع الله، ولا كنا مع الله أبداً، فكيف تنتج هذه العبادة؟!وقد ذكر أهل العلم أن بعض المصلين ليس له من صلاته إلا عُشر، ومنهم من ليس له إلا رُبع .. إلا نصف .. إلا ثلث .. إلا ثلثان، وأكملُنا من تكتب له صلاته كلها؛ لأنه من ساعة ما قال: الله أكبر هو مع الله، فيتكلم معه ويناجيه، ويسأله، ويعظمه، فهو معه لا يلتفت إلى غيره أبداً، فهذا قد صلى، وأنتجت له صلاته النور الذي به يعرف الطريق، ويسلك سبيل الرشاد.إذاً: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] والحال أنه: وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، وإسلام الوجه هو إعطاء القلب والوجه لله، أي: يعطي كله لربه، وكما قلنا دائماً: إن المسلم الحق لا يبني بناية بدون إذن الله، ولا يهدمها بدون إذن الله، ولا يسافر أو يقيم بدون إذن الله، ولا يتزوج أو يطلق بدون إذن الله؛ إذ هو لله، كما قال تعالى: إِنَّا لِلَّهِ [البقرة:156] أي: كلنا آباؤنا وأمهاتنا، فمن خلقنا؟ من رزقنا؟ من أوجدنا؟ أليس هو؟ فكيف نحن لغيره، بل نحن لله، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156].فمن كان لله -إذاً- عندما يأخذ في الطاعة لابد أن يحسنها حتى تثمر .. أن يجودها .. أن يتقنها؛ لأن المقصود ليس ركوعك وسجودك، إنما المقصود أنك تقضي عشر دقائق مع الله، فتتكلم معه وتناجيه، وتعرض حاجتك، وتبكي بين يديه، وتستأنس لحظة وساعة وأنت بين يدي الله، غافل معرض عن العالم بكل ما فيه، فهذا هو الإحسان، أما الدخول في العبادة بدون إحسان فلا تنتج.والشاهد: أن بعضنا يصلي ويخرج من المسجد يقول الباطل والفجر، والآخر يقول: السلام عليكم، قد فرغنا من الصلاة فيخرج يضحك، ويسب، ويشتم، فأين صلاته؟!

ضرورة استيفاء العمل لشروطه وأركانه

إذاً قوله: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ [البقرة:112]، واو الحال، والحال أنه وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، فأيما حج أو عمرة أو صدقة أو صلاة أو أي عبادة تعبدها ولم تحسنها فاعلم أنها ذهبت أدراج الرياح، ولن تنتفع بشيء منها، إلا إذا أحسنتها، وأتقنتها، وجودتها.وهذا الإحسان غير ما مرة يتمثل في أن تكون العبادة تؤدى كما شرعها الله، فلا تزد ولا تنقص منها، ولا تقدم ولا تؤخر، فإذا شرع الله لها مكاناً تؤدى فيه فلا يمكن أن تنتج إلا فيه، وإذا عين لها زماناً ووقتاً معيناً فلا يمكن أن تنتج إذا فعلت في غير وقتها، وهذه كلها مقتضيات الإحسان.إذاً: معشر السامعين والسامعات من المؤمنين والمؤمنات! ادعى اليهود أن الجنة لا يدخلها إلا هم، وادعى النصارى أن الجنة لا يدخلها إلا هم، وممكن أن الذين من قبلهم من المشركين وأنواع الأمم الأخرى يكونون قد ادعوا مثلهم، والحكم الفصل في هذه القضية في قوله تعالى: بَلَى [البقرة:112]، أي: ليس الأمر كما يدعون أو كما أدعي أنا أو أنت، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] والحال أنه: وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، أي: أطاع الله طاعة سليمة، ثابتة، مستوفاة الشروط والأركان، أي: من أجل أن تولد النور، والقضية تدور حول هذا.والحمد لله أنك ترى مثل ذلك في هذه المخترعات، فتجد أن هناك (مكينة) تدور وتولد الكهرباء، ولو اختل هذا الجهاز لا يولد إلا الدخان فقط، قد أصابه الخراب في قطعة من قطعه: إما سقطت أو تغيرت، وهذه العبادات الشرعية كالصوم مثلاً نقول: يا أيها الصائمون! إن لم تحتسب صومك لله، وتلتزم بالشروط التي مشروطة للصيام، فما أنتج لك شيئاً، بل ظللت جائعاً، ظمآن ولا أجر لك.إذاً: الصائم نقول له: صم، وقبل المغرب إن رغبت أن تشرب كأس ليمون فشربت، فإنك لا تعطى أجر الصائم، والله ولا حسنة، فإن قلت: أنا عشر ساعات صائم؟! الجواب: أن القضية ليست قضية جزاء، فإن صمت لله يعطيك أجراً، وتولد الحسنات، لكن هذه العملية فسدت عليك، وأنت الذي أفسدتها، فما تثبت لك ولا حسنة واحدة، وانطفأ ذلك النور.كذلك الصلاة، أنت تصلي أربع ركعات، فإذا قلت: نزيد ركعة، أنا في صحة وعافية، هيا نصلِّ العشاء خمس ركعات، ليس هناك من يقول: صلاتك صحيحة؟ ولم لا تصح؟ هل لأني عصيت الله؟ أنا زدت فقط؟ الجواب: يقول الفقيه: إن العملية بطل مفعولها، فما تنتج لك النور الذي تطلبه، والحسنات تعطلت، فأعد صلاتك.

ثبوت الأجر على الطاعات

قوله تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]، بشراكم أيها المؤمنون. مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ [البقرة:112]، وماذا فعل حتى يكون له أجر؟ وماذا فعل حتى يعطى الأجر؟ فالأجر مقابل عمل؟يا عبد الله! إنه صام، ورابط، وجاهد، وأنفق ماله وجهده وصلى و.. و.. وهذه كلها أعمال لا تذهب سدى: فَلَهُ أَجْرُهُ [البقرة:112] على ما عبد الله به من الطاعات، فقد أسلم وجهه وحياته كلها لله. إذاً: فيكون له أجر: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [البقرة:112] والله هو الذي يتولى جزاءه.

نعمة الأمن

قوله تعالى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]، فهنا أمن وفرح، وماذا بقي بعد ذلك؟وإذا كان العبد فرحاً مسروراً وفي نفس الوقت آمناً من كل خوف، فما بعد هذا النعيم من نعيم؟!ونظير هذه الآية قوله تعالى: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4]، إلا أن مدلول هذه مادية، والأخرى دنيوية.ودائماً نقول: سبحان الله العظيم! أكبر دولتين في العالم كانتا أمريكا وروسيا، والآن اليابان والصين، تعمل كل واحدة منهما الليل والنهار بأجهزة لا حد لها، من أجل أن تحقق لذلك الشعب التي تحكمه وتسوده أمناً، وطعاماً، وغذاء، ووالله ما أفلحت واحدة، فإن وجد الطعام ما وجد الأمن، بل يوجد في البلد الواحد الجائعون، والمجرمون، والظالمون، والخائفون.سبحان الله العظيم! لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [قريش:1-2]، وقد دمر قوى الشر، وهزم أصحاب الفيل من أجلهم، إذاً: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4]، وتحقق لأهل الحرم من الطعام والشراب ما لم يتحقق لأمة، وخاصة في تلك الأيام، فالأمن فقط أربعة أشهر ويعلن عن هدنة، لا يرفع فيها السلاح، وهكذا جبل الله قلوبهم وفطرها، فتتجول في أربعة أشهر حيث شئت لا تخاف، وقريش يرحلون رحلة في الصيف إلى الشام، ورحلة في الشتاء إلى اليمن، فيعودون بأرزاق وخيرات لا حد لها، فيبقون في الحرم يشربون الخمر، ويلعبون القمار، ويأكلون ويشربون، وهم آمنون مطمئنون، وهذا إفضال الله وإنعامه عليهم، لأنهم سكان حمى وحماة حرمه.ولما غزا أبرهة عميل النجاشي الكعبة، وأراد تحطيمها والقضاء على ذلك المجد، سلط الله عليهم نوعاً من الطير، طَيْرًا أَبَابِيلَ [الفيل:3]، كهذه القاذفات التي تحملها النفاثات، ودمرهم فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5]، لأجل ماذا؟ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش:1]، حتى تألف قريش رحلتيها في الشتاء والصيف، ولا تخاف إلا الله. إذاً: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4]، وكلما نقرأ هذه الآية ونفكر نقول: سبحان الله! الدول تعمل ليل نهار بأجهزة مختلفة، ووزارات متعددة من أجل فقط أن يؤمنوا الشعب، فلا سرقة، ولا سلب، ولا تلصص عليه، ولا أذية في عرض، ولا مال، ولا دم، فوالله ما حققوا، ومن أجل أن يحققوا الخبز للجميع ما استطاعوا.

ولاية الله سبب للأمن

لو أقبل أي شعب أو أمة على الله إقبالاً صادقاً لحقق لهم ذلك، فوالله لأطعمهم وما جاعوا، ولأمنهم وما خافوا.لكن العرب أنفسهم والمسلمون يعانون إلى الآن من الجوع والخوف، وإلى الآن ما عرفوا الطريق، وعندما لاحت لهم الاشتراكية ظنوا أنهم وصلوا، فجربوها ووجدوها سماً زعافاً.فقلنا لهم: هيا إلى الإسلام. قالوا: ما استطعنا. قلنا: لعلهم مسحورون.ما المانع أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله ونحن مسلمون؟ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112].والله لقد تحقق في هذه البلاد أمن على يد عبد العزيز والله ما تحقق في الأرض إلا أيام السلف الصالح في القرون الثلاثة، فلا سلاح، ولا طائرات، ولا قنابل، ولا ولا .. فقط قالوا: لا إله إلا الله وأقاموا دولتهم على دعائم أرادها الله، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، أقول هذا حتى تعرفوا أن الله لا يخلف وعده، فباب الله مفتوح، فأيما إقليم .. أيما شعب .. أيما جبل عليه ناس أقبلوا على الله في صدق إلا وتحقق لهم هذا الموعود: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]؛ لأنهم أصبحوا أولياءه. وليس أولياء الله: سيدي عبد القادر .. مبروك .. البدوي .. عيدروس ، إنما أولياء الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].واسمع هذا البيان: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، والقائل هو الله مالك كل شيء، والذي بيده كل شيء، وهذا الإعلان ممكن لا يكون صحيحاً: لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء، فكيف إذاً لا يصدق فيما يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة، في الحيوات الثلاث: في الدنيا لا يخافون، في القبر إلى يوم القيامة لا يحزنون، ولا يخافون، في الآخرة لا يخافون ولا يحزنون.

أولياء الله موجودون في كل زمان

الآن تفتَّح العالم بعض الشيء لأسباب معروفة، منها: الاتصالات العالمية بوسائط متعددة.والله قبل فترة من الزمن عندما تدخل على أهل قرية أو مدينة، وتلقى أول رجل وتقول له: يا سيد! أنا غريب الدار، جئت الآن من بلادي وأريد أن تدلني على ولي من أولياء الله في هذه البلاد أزوره، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، فهو لا يفهم أن هناك ولياً بين الناس، وحتى لو ذهبت إلى القاهرة أو دمشق أو بغداد أو مكة فقلت: يا سيد! أنا غريب جئت إلى البلد، فدلني على ولي من أولياء الله أزوره، فوالله ما يقول إلا: امشِ ورائي حتى يصل بك إلى ضريح سيدي فلان، فهذا الولي عنده، أما أن يكون هناك ولي حي يمشي فما هناك أبداً؛ لأنهم عرفوا أن الله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فمن آذى أو عادى ولي الله فقد أعلن الله الحرب عليه، ومن أعلن الله الحرب عليه ينتصر؟! والله ما هو إلا ينكسر.ومن هنا، أهل المسجد الآن هم أولياء الله، فلا يجوز لك أن تسب أحدنا أو تشتمته أو تؤذيه أو تدفعه، أو تنظر إليه بنظرة شزرة، أو تدس يدك في جيبه تخرج ماله. فهم أولياء الله، وهل تريد أن تعلن الحرب عليك.إذاً: لما يعرف المؤمنون هذا لا تبقى سرقة، ولا خداع، ولا غش، ولا لصوص، ولا جريمة، ولا .. ولا؛ لأنهم أولياء الله، ونحن نعرف أن العامي أمام الولي يرتعد، فإذا دخل الضريح ذاب من الخشوع، فكيف -إذاً- يجد ولياً في الشارع يسبه أو يشتمه ليس بمعقول أبداً.وللأسف أن أعداء الإسلام هم الذين مسخونا، فحولوا القرآن إلى القبور، وأعوذ بالله! أن يكون القرآن يقرأ على القبور، وكيف يقرئ القرآن على ميت: هل سيتحرك .. هل سيقوم ويغتسل من الجنابة .. هل سيرد حقوق الناس، فكيف تعظه وهو ميت، لا إله إلا الله.والمسلمون لهم أكثر من ثمانمائة سنة وهم يقرءون القرآن على الموتى، وهل القرآن نزل ليقرئ على الموتى!ومثل القرآن الأولياء، فلكي يبيحوا أن ينكح الرجل امرأة جاره، ويفسد عليه زوجته ويسلب ماله، قالوا: ما هناك أولياء، فالولي سيدي فلان الذي على قبره قبة خضراء أو بيضاء، أما الشعب كله فما هناك ولي.أرأيتم كيف هبطنا، فهذا أمر عظيم، فمن ادعى أنه ولي يخشى أن يموت على سوء الخاتمة، إذاً: قل: أنا عدو الله أحسن!! أعوذ بالله.إذاً: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:112]، لا في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا يوم القيامة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112] في الحيوات الثلاث: الدنيا، والبرزخ، والقيامة، ومن نفى عنهم الخوف والحزن؟ إنه القدير القوي.
تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء...)

ذكر مباهلة وفد نجران للرسول وجدال اليهود والنصارى فيما بينهم

قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]، هنا اذكروا أن نجران التي في جنوب المملكة كان فيها نصارى كثيرون، والنصرانية تحولت من الشام إليهم بالوسائط، أما اليهودية فقد كانت موجودة في الجنوب وما هناك عجب.جاء وفد مؤلف من ستين فارساً يركبون الخيول جاءوا من نجران إلى المدينة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما أخذ الإسلام ينتشر، وأنواره تطّرد في الجزيرة، جاءوا أيضاً ليجادلوا بالباطل لعلهم ينتصرون، ونزلوا ضيوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك فندق، لا شيراتون، ولا القصر الأحمر، فوزعهم الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصحابة ضيوفاً.إذاً نزلوا في المسجد، وقد كان جلهم علماء؛ قسس ورهبان، فجادلوا في شأن عيسى، وقد عرفتم أن الله أنزل فيهم نيفاً وثمانين آية في آل عمران، وكان الرسول محمد عربياً، لا يعرف عن عيسى ولا عن أمه شيئاً، فظنوا أنهم سيغلبونه، فإذا به يقص عليهم تاريخ جدة عيسى غير تاريخ أمه، فانبهروا، ثم طالبهم بالمباهلة، فما زالوا مصرين أنهم على الحق، فترفع الأيدي إلى الله قائلة: اللهم من كان على الحق فأبقه، ومن كان على الباطلة فأفنه. فاستعدوا! فخرج أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وخرجت فاطمة وراءه، وكان الحسن والحسين عن يمينه وشماله، وكان معهم أيضاً علي ، فما إن شاهدوا تلك الوجوه المشرقة حتى انهاروا انهياراً كاملاً، وقالوا: ويلكم! إن باهلتموه لم تبقَ فيكم عين تطرف، فاستسلموا، ورضوا بالجزية، وأن يعفوا عنهم ويتركهم.وفي خلال هذه الأيام كان اليهود الموجودون متألمين أيضاً من هذا الوفد المسيحي؛ لأنهم أعداء كعداوة الشيطان للإنسان، وهذه الحقيقة -إلى الآن- يجهلها العرب والمسلمون، فاليهودي عدوه الحق هو المسيحي، والمسيحي عدوه الحق اليهودي، أما هذه الظروف فإن السياسة لها سلطانها، وقد استطاع اليهود أن يسيطروا على العالم بالريال والدينار، فأخضعوا أوروبا في سلطانهم، وما أخضعوها بالمال فقط بل أخضعوها بأن كفروهم، فالنصارى ما بقي فيهم من يؤمن بالله، ولقائه، والدار الآخرة نسبة أكثر من (10%) وما عدا ذلك فهم ملاحدة بلاشفة، والذي فعل بهم هذا هم اليهود، بواسطة المذهب الماركسي الشيوعي، القائم على: (لا إله والحياة مادة!) ودرسوا هذا في الكليات والجامعات و.. و.. ما مضت خمسون سنة إلا وجلهم ملاحدة، وما أصبحوا يغضبون لليهود ولا لغيرهم.أما قبل هذا فلئن ينظر النصراني إلى كلب أهون ولا ينظر إلى يهودي، وحسبك أن تعرف أنهم يرون اليهود قتلة إلههم، فهم الذين صلبوا عيسى وقتلوه حسب ما زعموا.

جدال اليهود والنصارى

إذاً لما حضر وفد نجران حضر كذلك اليهود وأخذوا يتجادلون، وهاكم جدالهم في كلمة أنزلها الله في كتابه، قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]، فلا دين عندهم، ولا عقيدة، ولا مبدأ، ولا .. ولا شيء من الدين، وهو والله لكذلك. وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]، فاليهود قالوا: النصارى ليسوا على شيء، والنصارى قالوا: اليهود كذلك أنتم لستم على شيء.قال تعالى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، والحال أنهم يقرءون التوراة والإنجيل، وكفر بعضهم، إذاً: فكانوا بذلك صادقين، ولو تقرأ التوراة والله ما تثبت ديانة لليهود، لأنهم قد انمحوا وخرجوا منها، ولو تقرأ الإنجيل ما يبقى أمامك نصراني، فكلهم كذبة دجالين.ولو أنك تفتح التوراة وتحصل على نسخة قليلة التحريف، وتطبق التوراة على اليهود تقول: والله ما آمنوا، وما هم بالمؤمنين؛ لأنهم يتناقضون مع كلام الله.ولو أنك تأخذ إنجيل لوقا، وتقرأ بتأني، وتنظر إلى النصارى لقلت: ما هم بمؤمنين، وما فيهم مؤمنون، وهو كذلك، ويكفي أنهم كفروا بعضهم بعضاً، وشهد الله على ذلك وأقرهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113] من الدين أو الحق والصحة وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، بمعنى: أن الدعوة التي ادعاها اليهود وهي أن النصارى ليسوا على شيء ليست عن جهل، بل عن علم؛ لأنهم يقرءون التوراة، وأولئك يقرءون الإنجيل، فالكل شهد بالواقع، وبذلك أعلمنا الله أن اليهود كالنصارى ليسوا على شيء من دين الله، فإن أرادوا دين الله فليسلموا، فهذا كتاب الله بين أيديهم.

معنى قوله تعالى: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)

قال تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [البقرة:113]، ليسوا وحدهم، فالذين لا يعلمون كالمجوس والصابئة .. وأمم، والمشركين يقولون هذه الدعوة.فالمجوس يقولون: لا دين إلا ديننا، وأنت إذا مشيت إلى الهند وعايشت البوذا، تجدهم لا يعترفون بدين صحيح أبداً، يقولون: الدين هذا هو الذي عندنا.أين البراهين؟ أين الحجج؟من بيده كتاب الله لم يزغ حرفاً واحداً، وكذلك من بين أيديهم رسول الله، تحلف بالله .. بالحرام مليون مرة -وإن كان لا يصح- على أنه رسول الله، والله ما حنثت ولا أخطأت، ولا يوجد نبي على الإطلاق تحلف عليه أنه موجود في هذا المكان؟هذا هو الدين الحق، لكن صرفهم عنه شهواتهم، وأطماعهم، وأهواءهم، وذنوبهم، ومساوئهم، ولو بقيت لهم عقول يفكرون بها لاهتدوا، ولكانوا يرحلون يطلبون الحق، ورضي الله عن سلمان الفارسي فكم تنقل من بلد إلى بلد، حتى وصل إلى هذه المدينة، وفي أكثر من ثلاثين سنة يبحث عن دين صحيح، وهم يرشدونه هنا وهنا وهنا.وأخيراً قالوا: إن الدين الحق سيظهر مع نبي في هذه الآونة، فنزل المدينة رقيقاً؛ عبداً، فما إن سمع بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم في طوبى حتى هاج وكاد يطير.ولكن الآن من يبحث؟نعم يوجد بعض النصارى يبحثون ويجدون الإسلام، لكنهم نسبة لا تذكر.

معنى قوله تعالى: (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون)

وأخيراً يقول تعالى وقوله الحق: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة:113]، اتركوهم لله، هو الذي يحكم بينهم فيما هم يختلفون فيه، ويجزي صاحب الحق بالحق، والباطل بالباطل، ولا حق إلا في الإسلام والمسلمين.وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-06, 10:45 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (77)
الحلقة (84)



تفسير سورة البقرة (47)


كثيرة هي دعاوى الكفار والمشركين، فتراهم يزعمون أن لله ولداً، ثم يختلفون: فمنهم من يقول: لله بنات هم الملائكة، وهم مشركو العرب، واليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، وترى اليهود يفترون على النبي صلى الله عليه وسلم حين توجه إلى الكعبة بدلاً من بيت المقدس، ويدعون بطلان الإسلام بهذا التشريع، وترى المشركين يدعون أحقيتهم في البيت الحرام، ويمنعون المسلمين منه، ولكن كل هذه الدعاوى الزائفة تتلاشى أمام براهين الإيمان الساطعة.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:114-117].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قد عرفنا -بما عرفنا الله تعالى من فضله في كتابه العزيز- أن اليهود كفَّروا النصارى، والنصارى كفَّروا اليهود، إذ قالت اليهود للنصارى: لستم على شيء، وقالت النصارى لليهود: لستم على شيء. وبعد هذا لا يبقى مجال لأن يشك عاقل في بطلان تلك الديانة اليهودية أو النصرانية، وقد شهد أهلها بالبطلان.ثم الله تعالى يقول: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، فشهادتهم هذه والله شهادة حق؛ لأن اليهود كفَّروا النصارى لعلمهم بما في التوراة والإنجيل، والنصارى كفَّروا اليهود أيضاً لعلمهم لا من باب العناد أو من باب الضدية: إن كفرونا نكفرهم، لا، إنما كما قال تعالى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، إذاً: فلا يهودية ولا نصرانية.وقد تنازع هنا في هذا المسجد اليهود مع وفد نجران: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111] قال تعالى: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111]، والأماني: أحلام ضائعة.إذاً: الجنة لا يدخلها العبد بكونه يهودياً أو نصرانياً، وإنما يدخلها إذا كانت نفسه طاهرة زكية، فتصبح أهلاً لمجاورة أهل الملكوت الأعلى، ولا قضية نسب وشرف، ولا نسبة إلى ملة، وإنما القضية أن عبد الله من البشر أو أمة الله منهم إن زكى نفسه فطيبها .. طهرها .. صفاها أصبحت شبيهة بأنفس وأرواح الملكوت الأعلى، أي: الملائكة. وبهذا يدخل الجنة.أما إذا كانت النفس خبيثة، منتنة، مظلمة كأنفس الشياطين فهي ليست بأهل لأن تدخل الجنة، ومن هنا كن ابن من شئت، فلو كنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أباه أو أخاه أو عمه، والله لن يغني ذلك عنك شيئاً، فانزعوا من أذهانكم فكرة النسب.والقرآن الكريم وضح هذه القضية أيما توضيح، فقد قضى على امرأتي نبيين .. رسولين: لوط ونوح بالدخول في النار، وقضى على كنعان بن نوح النبي الرسول بأنه في النار، وقضى على آزر والد إبراهيم؛ أبي الخليل حكم الله عليه أنه في النار، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لمن سأله عن أبيه فأخبر أنه في النار كأنما تململ وما استراح، قال: ( أبي وأبوك في النار ) فليس أبوك أنت وحدك.وأوضح من هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( يا فاطمة! إني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار ).ونعود إلى القضية لننهيها، فلا تفهمن أبداً أن نسبتك إلى ولي أو نبي أو عبد صالح تشفع لك، وتدخل الجنة إذا كانت النفس خبيثة، وحكم الله الذي ليس فيه تردد: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].ثم لِم الناس لا يطلبون تزكية أنفسهم؟! إذاً: هم الظالمون، فيسمع أحدهم هذا الحكم، ويقرع طبلة أذنه عشرين .. ثلاثين سنة، وهو يعلم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، ولا يسأل يوماً: بِم تزكَّى النفس؟ كيف نزكيها؟فإن قيل له: المسئول عن هذا في أقصى البلاد، في شرقها وغربها، ليركبن مركوبه ويمشي إليه؛ ما دام المصير متوقف على تزكية نفسه.والأصل أن الواحد منا يسأل نفسه: أنا كيف أزكيها، وما هي الأدوات التي أزكيها بها، وكيف أستعملها يا شيخ؟لكن مع الأسف -وهذا واقع البشرية كلها إلا من رحم الله- لا يسألون، يكفي أنه مسلم .. يكفي أنه يهودي .. يكفي أنه بوذي .. يكفي أنه مجوسي .. يكفي أنه كذا، وهذه كلها أوهام وضلالات.إذا لم تزكِ نفسك يا بشري حتى تصبح كأرواح أهل السماء فلن تدخل الجنة، وهذه الحقيقة مضت بنا يوماً فلا ننساها، وقد عرفنا كيف فصل الله الحكم وبينه.لما تنازع اليهود والنصارى قال تعالى: بَلَى [البقرة:112] ليس الأمر كما يزعمون: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]، لا تعطي قلبك ولا وجهك لله وتعرض عن الله ولا تستعمل أدوات التزكية التي شرعها الله، ونفسك منتنة خبيثة، وتقول: ندخل الجنة، والله إنها لحماقة، وجهل وضلال!!
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ...)

التشنيع على من يسعى في خراب المساجد ويمنع ذكر الله فيها

الآن مع هذه الآية الكريمة: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ [البقرة:114]، هذا حكم عام، فلا يوجد على وجه البسيطة من هو أشد ظلماً أو أقبح ظلماً وأسوأه من شخص يمنع مساجد الله: أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114].والمساجد: جمع مسجد، أي: مكان السجود لله تعالى، وأيما بناية بنيت على بسم الله، وأطلق عليها اسم مسجد يسجد فيها لله فهي مسجد، وليس هناك أظلم من إنسان يمنع الناس من الصلاة فيها، وذكر الله فيها، وتعلم الهدى والكتاب فيها.ثم لا يكتفي بالمنع، بل يسعى في خرابها، ويعمل ليل نهار على تدميرها أو إسقاطها أو إغلاق أبوابها، أو طرد الناس منها.فإن قال قائل: وهل حصل مثل هذا في التاريخ؟نقول: نعم، حصل في التاريخ القديم من قبل بختنصر عندما دمر المسجد الأقصى كاملاً، وكذلك من قبل قريش عندما منعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من دخول المسجد الحرام في السنة السادسة عام صلح الحديبية.إذاً: هذا الحكم عام؛ فأيما بشري يسعى في إفساد بيت من بيوت الله بأي نوع من الفساد، إما بمنع الناس من الصلاة فيها أو بإفسادها وهدمها أو تغيير أحوالها فيعتبر من أعظم الناس ظلماً بهذا النص الإلهي الكريم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114]، والخراب والتدمير بمعنى واحد.

حكم دخول المشركين والكفار إلى المساجد

ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:114] البعداء مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ [البقرة:114]، فقضى الله تعالى على هذه الأمة بأن تمنع كل من يريد أن يدخل بيت الله من المشركين والكافرين، وإن أرادت أن يدخل فتأذن له، فلا يدخلها قاهراً مذلاً للمؤمنين، إنما يدخلها بإذنهم لحاجة اقتضت ذلك، أما أن يدخلوا بقوة وعنف، غير مبالين بسلطان المسلمين، فهذا حرام علينا أن نذل لهم، وأن نسكن ونتركهم يدخلون بيوت الله وهم نجس، هذا في عامة المساجد.أما المسجد الحرام فلا يحل لمشرك أن يدخله، ولا يحل للمسلمين أن يأذنوا في دخول هذا المشرك إلى المسجد الحرام، إذ قال تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، والمسجد النبوي كذلك مسجد فيه حرم، وحمى حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( إن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم المدينة، فالمدينة حرام من عير إلى ثور ).إذاً: فهذان المسجدان لهما ميزتهما، فلا يسمح لكافر مشرك يهودي أو نصراني أن يدخلهما، وأما باقي المساجد فإن دخلوا بإذننا فلا حرج، أما إن يدخلوا قاهرين أو متسلطين، فلا، بل يجب أن نجاهد.إذاً قوله: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ [البقرة:114] معناه: إن دخلوا بأمرنا وإذننا وهم أذلاء خائفون فليدخلوا، أما أن يدخلوا قاهرين فلا؛ لأنهم إذا دخلوها قاهرين فقد يبولون فيها ويدمرونها، ولكن إذا دخلوا تحت إشرافنا وبإذننا وهم في ذلك مطأطئو الرءوس منكسرون، فلا حرج، وهذا هو حكم الله: مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ [البقرة:114].

سوء عاقبة من منع الذكر في بيوت الله وسعى في خرابها

قال تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]، من هؤلاء الذين توعدهم الجبار -جل جلاله، وعظم سلطانه- بالخزي في الدنيا وعذاب الآخرة؟ إنهم -باستثناء أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله- اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئة، والبوذا، والهنادك، وكل الملل: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]، لِم؟ لأنهم أعرضوا عن الله، وحاربوا مولاهم، وعادوه، وعادوا أولياءه، وحاربوه، وحاربوا أولياءه فكيف ينعم عليهم بأن يسكنهم في دار السلام؟!ولا تقولن: من الجائز أن يكونوا ما بلغتهم الدعوة.أقول: لقد بلغت هذه الدعوة الآن الشرق والغرب، فلا يوجد بلد في العالم ما بلغ أهله أن هناك ديناً إسلامياً، لا يقبل الله ديناً سواه، وهذا في كل أنحاء المعمورة.وهذا سر أن الله تعالى ختم النبوات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لعلمه أن العالم سيكون في يوم من الأيام كمدينة واحدة، فالآن من طلوع الشمس إلى غروبها هذا العالم المسكون كأنه بلد واحد، والأنباء تتوارد، والأخبار تتساقط عليهم من العلو، والمراكب والطائرات كأنهم في بلد واحد، فلا يحتاجون إلى تعدد الرسالات.أعود فأقول: لعل بعض السامعين ما عرفوا هذه الحقيقة، وهي لِم ختم الله النبوات بنبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والعالم عالم؟الجواب: علماً منه تعالى بأن العالم سيتصل ببعضه البعض، وستصبح هذه الدعوة تبلغهم من أي جانب، والآن الإذاعات من خمسين سنة وهي تذيع، والعالم كامل يسمع، والمسافة التي تمشيها في شهر وشهرين وثلاثة تمشيها الآن في ساعة، فاتصل العالم ببعضه البعض، فمن هنا نبوة واحدة ونبي واحد يكفي، بخلاف ما قبل النبوة المحمدية فالأقاليم متباعدة، فالإقليم هذا لا يعرف عن ذلك الإقليم الآخر حتى يموتوا إلا من ندر، فكان الله يبعث في كل أمة رسولاً، فيبعثه وينبؤه ويعلمها، لكن لعلمه الأزلي القديم أن العالم سيتصل ببعضه البعض، وستبلغ هذه الدعوة الشرق والغرب ختم الرسالات بهذه الرسالة، فلا يقولن قائل: ممكن البلد الفلاني ما بلغته الدعوة، فإنه لا يوجد بلد ما بلغته الدعوة في هذه الأعصر.

تفسير قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ...)

قال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، ذكرنا فيما سبق أن اليهود شنعوا، وقبحوا، وأنكروا على الرسول: لم يترك بيت المقدس بعدما استقبلها سبعة عشر شهراً، والآن يستقبل بلده، ويترك بيت المقدس.وهذه المسألة دار فيها صراع ونزاع كبير في المدينة، وسيأتي بيان ذلك في الآيات الآتية.والشاهد أنهم لما تكلموا قال الله لهم: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، فلا تثيروا زوبعة وفتنة في قضية القبلة، فالمشارق والمغارب كلها لله، وحيثما اتجهتم فثم وجه الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا [البقرة:115] أي: وجوهكم: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].إذاً: بيان هذه القضية، اذكروا ما سمعتموه من أن العوالم هذه يقبضها الجبار في قبضته كما قال تعالى: وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، والأرض يضعها في يده، ويقلبها كحبة خردل، واقرءوا قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، فهذا الذي الملك كله في قبضته.فكيف نقول: لا يوجد؟نقول: أينما اتجهت فثم الله، شرّق أو غرّب، تشاءم أو تيامن، فالله عز وجل فوق الكل، فهو في كل مكان بقدرته، وعلمه مع علوه.والمثل البسيط: الشمس، لما تكون أنت تحتها حيثما اتجهت، فهي ليست معك بل بينك وبينها ما لا يعد ولا يحصى من الأميال، ولكن بكبرها وعظم جسمها -وهي أكبر من الأرض مليون ونصف المليون مرة- هي معك، فهذا المثال يقرب المعنى، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، فهل تضامون في رؤيته )، تتزاحمون حتى تشاهدوه، فحيثما وقفت رأيته.إذاً: فهذه الثورة أو الدعوى التي أقامها اليهود في قضية القبلة دعوى باطلة، فالله عز وجل ليس في بيت المقدس، ولا في مكان آخر، فالله عز وجل فوق خلقه، والخلق كله في قبضته وتحت سلطانه حيثما اتجه عبد الله هو اتجه نحو القبلة: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:115] خلقاً، وملكاً، وتدبيراً فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا [البقرة:115] أيها الناس فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].

حكم استقبال القبلة للصلاة

هنا القاعدة والقضية الفقهية هذا موطنها، نقول: استقبال الكعبة .. استقبال البيت لمن قدر عليه واجب، ولا تصح صلاتك إن لم تستقبل بيت الله، لكن إذا عجزت عن استقبالها، كالمريض على السرير لا يستطيع أن يستقبل البيت، ولا يجد من يوجهه، فتصح صلاته إلى غير القبلة، لقوله: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، فهو أراد الله ليناجيه لكنه ما استطاع أن يستقبل، فلم يكن استقبال الكعبة شرطاً.كذلك الإنسان الخائف الذي لا يستطيع أن يستدبر المكان الذي فيه العدو، فأصبح عاجزاً عن القبلة فإنه يصلي وهو خائف، وإن كان بعيداً، منحرفاً عن القبلة، مطارداً يجري العدو وراءه فإنه يصلي حيث أمكن، وصلاته صحيحة، لأن الله قال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].كذلك الجاهل الذي لا يعرف القبلة وقد اجتهد فقال: ممكن أن هنا القبلة، وقام فصلى سنة كاملة، وجاء من قال: إن هذه القبلة ليست بسليمة، والقبلة التي تركتها جهتها كذا، فصلاة هذا الجاهل صحيحة، ولا شيء عليه، واقرأ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115].

التفريق بين الفريضة والنافلة في استقبال القبلة

أما النافلة فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يركب دابته أو بغلته أو بعيره إلى غير القبلة، وكل من يركب سيارة أو بعيراً أو بغلاً يتنفل حيث اتجهت دابته، ولا يبالي؛ لأن الله قال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي على راحلته، والآن نحن نصلي النافلة على السيارة، ولا حرج، لكن الفريضة لا.فالفريضة على القطار والطائرة والسيارة فيها هذا البيان: فإذا كنت سألت ربانها وقائدها فأجابك أن الطائرة سوف تنزل في المطار الفلاني قبل غروب الشمس بنصف ساعة أو بساعة، ففي هذه الحال لا تصل الظهر والعصر على الطائرة، وأخرهما جامعاً لهما جمع تأخير حتى تنزل في المطار، وتتوضأ وتصلي أو تتيمم وتصلي إن لم تجد ماء.كذلك صلاتي المغرب والعشاء؛ فإذا كنت تعلم أن الطائرة ستنزل بعد نصف الليل أو قبله، والمهم قبل الفجر، فأخر المغرب والعشاء إلى أن تنزل من على الطائرة وتصليهما على الأرض مستقبل القبلة.والصبح هو الوقت الضيق، فكذلك إن عرفت أن الطائرة تنزل في المطار قبل طلوع الشمس أخّر، وإن كنت تعرف أنها لا تنزل إلا بعد طلوع الشمس فصلّ.وهكذا الفريضة لا تصلى إلا على الأرض ما دمت مستطيعاً، والقطار كالسيارة؛ لأن بعض السائقين في غير بلادنا هذه لا يوقف سيارته، بل تجده يصرخ ولا يلتفت إليك، ولا يقف، فأنت انظر إذا خفت أن لا تصل السيارة إلى مكان إلا بعد غروب الشمس فصلّ على السيارة، فإن علمت أنك ستنزل قبل الغروب فصلّ الظهر والعصر على الأرض جمع تأخير، وهكذا المغرب والعشاء، هذا في الفريضة.أما النافلة: فتنفل كما شئت على السيارة .. على الدابة .. على البعير، واستقبل القبلة أو لا تستقبل، كيفما كانت؛ لأنها ذكر وتسبيح، والله حيثما كنت فوجهه هناك، أخذاً من قوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115]، أي: واسع الفضل، والكرم، والإحسان .. واسع الذات جل جلاله وعظم سلطانه، عليم بخلقه، وحاجاتهم، واضطرارهم، وقدراتهم، وضعفهم، وهو الذي أذن لك.وإذا صليت إلى غير القبلة ركعة .. ركعتين، وناداك منادي أن اتجه كذا، إلى يمينك مثلاً، فيجب أن تطيعه بلا تردد.

حكم من صلى إلى غير القبلة

يبقى دقيقة أخرى فقهية: إذا صليت إلى غير القبلة وما زال الوقت، وجاء من علّمك أن القبلة هنا وليست هناك، فيستحب لك أن تعيد صلاتك، هذا إذا لم يخرج الوقت.أما إن صليت وخرج الوقت فلا إعادة إجماعاً على شرط -أيضاً- أن تجتهد، لا أنك تصلي بدون مبالاة أصبت القبلة أو أخطأت، لابد وأن تجتهد في معرفتها في حدود طاقتك، إما بالسؤال، إما بالنظر إلى الكواكب، وإما وإما .. فإن اجتهدت وصليت فصحت صلاتك، وإن أخطأت القبلة وكان الوقت ما زال، فيستحب لك أن تعيد استحباباً كالنافلة، وإن لم تعد فلا حرج.أما إذا دخل المغرب، أو طلع الفجر على المغرب والعشاء، أو طلعت الشمس فلا إعادة.

حكم صلاة النافلة والفريضة على وسائل النقل

بالنسبة إلى المراكب: على السيارة .. على البهيمة .. على أي مركوب تصلى النافلة بلا خلاف.والخلاف فقط في الفريضة، هل تصلى على الطائرة أو فوق السيارة أو القطار أو الحمار؟الجواب: لا تصلي إلا إذا خفت -موقناً- أن الوقت يخرج، أما إذا كان الوقت لا يخرج، وأنك تصل إلى الأرض قبل غروب الشمس فلا تصل الظهر ولا العصر، وأخرهما واجمعهما حتى تصليهما على الأرض، وكذا المغرب والعشاء.والنافل المطلقة صلها على أي مركوب، ونحن الآن نصلي النافلة على السيارة في شوارع المدينة خشية أن تفوتنا هذه النافلة فنصليها، ولا حرج.

حكم صلاة النافلة في الأوقات المكروهة

السؤال: هل نصلي النافلة قبل غروب الشمس .. قبل طلوعها .. بعد الطلوع . بعد الغروب؟الجواب: نقول: هناك خمسة أوقات لا نافلة فيها، وقد نهينا أن نصلي النافلة فيها، لكن ما هذه الأوقات الخمسة؟ أولاً: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، هذا وقت.ثانياً: عندما تبزغ الشمس ويطلع رأسها، فلا نافلة حتى ترتفع من الأرض مقدار متر أو أكثر، هذان وقتان.والوقت الثالث: إذا وقفت الشمس في كبد السماء، فالشمس عندما تراها، تراها طالعة في ارتفاع، ثم تصل إلى مستوى فتقف، حتى تدحض وتميل، فإذا وقفت عبدها عبادها، فلا يحل حينئذ أن تصلي النافلة؛ لأنك تشبهت بعبدة الشمس، فإذا دحضت ومالت إلى الغروب صل، ويستمر الجواز إلى أن يؤذن العصر وتميل الشمس وتصفر.رابعاً: وبعد صلاة العصر لا نافلة حتى تصفر الشمس، هذا وقت.خامساً: ومن اصفرار الشمس إلى غروبها وقت ثاني، فهذه بالتفصيل خمسة أوقات.ولا يستثنى إلا تحية المسجد، أو ركعتي الطواف فقط، فصلاة تحية المسجد إذا كانت الشمس بيضاء نقية لا تتردد، ولا تجلس حتى تصلي ركعتين في بيت الله، وفي أي مسجد دخلته إذا أردت الجلوس.أما عند الغروب والطلوع، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها بصلاة )، فإذا أنت دخلت المسجد، والشمس تكاد تغمض عينها فأنت مخير، إن خفت من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) وما استطعت مخالفة الحديث تصلي ولا حرج، وإن خفت أيضاً من أن الرسول نهى عن الصلاة في هذا الوقت، فهذا تشبه بعباد الشمس الذين -الآن- وقفوا يعبدون، وقلت: أنا لا أقف، فإن جلست فوالله لا شيء عليك، وأنت مأجور، عرفتم، هذا مع الطلوع والغروب.

حكم تحية المسجد والإمام يخطب الجمعة

مسألة أخرى: وهي تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة.للعلماء في هذا بحث طويل، ونحن فتح الله علينا، ووفقنا للجمع؛ حتى لا نفرق بين مالكي وحنبلي وشافعي وحنفي، فنقول: إذا دخلت يوم الجمعة والإمام على المنبر يخطب الناس فصلّ ركعتين خفيفتين، وأنت لما تأخذ تصلي ليس من حق أخيك أن يجذبك من ردائك ويقول لك: اجلس، لا حق له والله، وكذلك إذا جاء أخوك وجلس فليس من حقك أن تدفعه وتقول له: قم فصلّ؛ لأن القضية قضية علم، والرسول صلى الله عليه وسلم قال للذي دخل المسجد: ( اجلس فقد آذيت )، فمن هنا لا يبقى خلاف؛ لأن الذي قرأ الفقه الحنفي أو المالكي وعرف أنه إذا كان الإمام يخطب ما يصلي، وبشواهد وأدلة يجلس فقط، فما هو آثم والله، فأنت كونك تقول له: قم، وتدفعه، لا، هو على علم، والذي جاء فصلى عملاً بما صح من سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم بدون حاجة إلى تأويله، قال: قم فصل، والرسول يخطب، وأصحاب الرأي الآخر يقولون: لأمر ما، وهي قضية بعينها.فنحن نقول: الحمد لله، يجمع الله بيننا ولا نفترق، فمن صلى إياك أن تجذبه وتقول له: حرام عليك. فقد صلى بدليل كالشمس، ومن جلس ولم يقم يصلي فلا تدفعه، ولا تقل: صلّ؛ لأنه جلس على علم أيضاً، وبهذا أصبحنا جماعة واحدة.إذا قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115]، هذا هو الذي به عرفنا أن الأمر واسع، وأنه لا شرط أبداً أن تستقبل القبلة إذا كنت لا تعرفها، أو إذا كنت خائفاً أو هارباً فصلّ حيثما أمكن، أما إذا كنت قادراً فلابد أن تستقبل القبلة وإلا فصلاتك لا تصح؛ لأن استقبال القبلة شرط في صحتها، لكن مع العجز وعدم العلم فلا حرج.
تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون)

ادعاء الكافرين الولد لله سبحانه وتعالى

قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ [البقرة:116]، هذه فرية أخرى وكذبة من الكذب، وقد تورط فيها العرب والعجم: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ [البقرة:116] أنى يكون له ولد.والقائلون هم قبائل بني لحيان من العرب الجهلة قبل الإسلام، كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، فيؤمنون بوجود الملائكة، ويعرفون هذا، لكن ينسبونهم إلى الله، فيقولون: بنات الله، والله عز وجل رد عليهم: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الصافات:153-155]. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [الصافات:158]، قالوا: إن الله تعالى وحاشا أصهر إلى الجن، فأنجب الملائكة: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:158] في جهنم.إذاً: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57].والشاهد عندنا أن هذا مقرر في كتاب الله، وقد انمحى أثره نهائياً من جزيرة العرب، وانتهى من يقول: الملائكة بنات الله.وبقي اليهود يقولون: عزير ابن الله، وما هي الحالة التي دعتهم إلى مثل هذه المقولة الباطلة؟تقول الأخبار: إن عزيراً عليه السلام وهو نبي من الأنبياء لما غزاهم بختنصر -عليه لعائن الله- ودمر البلاد والعباد، ومزقهم، وأخذ التوراة إلى بلاده بابل بالعراق، ففقد اليهود التوراة، والتوراة فيها ألف سورة لا تحفظ، وحفظها غير متأتي للإنسان، فأملاها عليهم عزير، فيكتبون وهو يملي، حتى فرغ منها فقالوا: هذا ابن الله، ولن يكون إلا ابن الله، كيف يحفظها، وشاعت الإشاعة، ونشرها الشيطان، ونفخ فيها، وأيدها العلماء الماديون وقالوا: عزير ابن الله، وأصبحوا يتوسلون به إلى الله، ويعبدونه مع الله.وأما النصارى فمحنتهم واضحة، ما دام عيسى عليه السلام ما له أب، فقد كان بكلمة التكوين الإلهية إذاً: من أبوه؟ قيل لهم: الله، الله هو أبوه، إذاً: عيسى ابن الله، مع أن هذه أضحوكة، فبدلاً أن يعرفوا أن عيسى كان آية من آيات الله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، وحملته في ساعة فقط، نفخ جبريل عليه السلام في كم الدرع، فسرت النفخة وما هي إلا ساعة وتخلق عيسى، وجاءها المخاض إلى النخلة، وولدت: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:22-23].ثم أعظم من هذا أن عيسى كلمهم يوم ولادته، فهل البشري يتكلم في أسبوع الولادة أو في يومها، إنه يحتاج إلى سنتين حتى يتكلم، وهو في يدها كلموه، فقال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:30-33]، فهذا الكلام قاله يوم الولادة، وأخبر بما يؤول أمره إليه، وما كتبه الله له عليه، أبعد هذا يقال: هذا ابن الله، فهو يصرح: إني عبد الله، ولكن رؤساء الفتنة، والشياطين من الإنس والجن، والعوام، والبلهاء، والمغرور والأمم الهابطة إلى الآن، مئات الملايين يعتقدون أن عيسى ابن الله، فأية أضحوكة أعظم من هذه؟!والآن يقول بعض الخواص: لما تضغط على القس يقول: نحن لا نقول: إن الله والده ولكن من باب التشريف والتكريم فقط نقول فيه: ابن الله، أما اعتقادنا فهو يتنافى مع ما نقول، وهذه مجرد حيلة فقط، وكونك تقول: عيسى ابن الله، فإذا قلتها وكنت كاذباً فأنت كافر، ولو قال شخص: عيسى ابن الله، يقول: أنا لست مؤمناً بهذا، ونطق بها، فهذا والله خرج من الملة وكفر، والعياذ بالله، وكذب على الله.

تنزيه الله عن اتخاذ الولد

هذه الطوائف الذين سمعتم عنهم، يقول تعالى -يا للعجب-: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ [البقرة:116]، أي: تقدس وتنزه أن يكون له ولد، فالذي له ملك السماوات والأرض يحتاج إلى ولد؟! أيعقل هذا؟! حدث عقلك ومنطقك عن الذي له كل الخلق من الملائكة والإنس والجن، وكلهم عبيده يستخدمهم، ويتصرف فيهم كيفما يشاء، هل يحتاج إلى ولد؟ وكيف يمكن هذا الكلام؟!قال: سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ هذه البرهنة، فلا يوجد كائن إلا والله مالكه، لا في العوالم العلوية، ولا في السفلية، أمثل هذا الغني يحتاج إلى ولد؟ وكيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة؟ أيعقل أن يوجد ولد بدون زوجة؟ دلونا عليه!ورضي الله عن إخواننا من الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:1-3]، والمراد من الصاحبة: الزوجة؛ لأنها تصحبه طول حياته: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا [الجن:3-4]، فسفهاؤنا كانوا يقولون هذا الكذب الفظيع على الله عز وجل، وهذا الظلم الفاحش.إذاً هؤلاء الجن يقررون هذه الحقيقة، وأما النصارى فيطيرون في السماء، ويغوصون في الماء، ويدعون صناعة الكمبيوتر والعقل الإلكتروني، ونحن هابطون إلى هذا الهبوط، وما صحنا في النصارى يوماً من الأيام: يا نصارى! أين يذهب بعقولكم، ادخلوا في الإسلام وأبناءكم وأطفالكم ورحمة الله معكم، ويؤدبون القسس ورجال الكنائس المضللين الذين يحرفون على البشرية دين الله؛ لأنهم كالبهائم: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21].ثم قال: كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116]، أي: خاضعون ذليلون، فما هناك من يرفع رأسه على الله أبداً، فالكل قانت خاضع، فيجري الله أحكامه عليهم بالموت .. بالحياة .. بالكبر .. بالصغر .. كما يشاء، وليس هناك من يقف في وجه الله، فالكل مطأطئ رأسه.

تفسير قوله تعالى: (بديع السموات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون)

قال تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:117]، وهل الذي ابتدع هذا الكون وخلقه يحتاج إلى الولد، ألا يستحون .. ألا يخجلون، وهذا كشخص -مثلاً- يملك إقليماً كاملاً، وتقول: هذا الجدي له، وهو يحافظ عليه، أيحتاج إلى الجدي وهو يملك الإقليم بكامله! عيب هذا الكلام، ولكن الشياطين هي التي تفسد على البشر عقولهم وقلوبهم، وعلى الذي يسمع لها ويستجيب لها.إذاً: هذه براهين وحجج كالشمس.قال تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وأيضاً وَإِذَا قَضَى أَمْرًا وحكم بوجوده فقط فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117]، فما يحتاج إلى وسائط ولا أسباب، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وشواهد هذا لا حد لها، ولا حصر.فقوله: وَإِذَا قَضَى أَمْرًا [البقرة:117] فإن قضاه أزلاً وأراد أن يكون فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117].وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-09, 05:39 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (78)
الحلقة (85)



تفسير سورة البقرة (48)

الجهل سبب كل الرزايا، بما في ذلك رزية الكفر، فهاهم كفار قريش يشترطون لإيمانهم أن يكلمهم الله كفاحاً، أو تأتيهم آية، رغم أنه قد جاءتهم آيات، ولأن داء مشركي قريش والمشركين السابقين واحد، فقلوبهم واحدة، إذ كان طلب قوم موسى منه أن يروا الله جهرة حتى يؤمنوا! ولأن هذا الموقف يحزن النبي صلى الله عليه وسلم فقد بين سبحانه أن مهمة الأنبياء ومثلهم الدعاة هو البيان، وتبشير المؤمنين، وإنذار الكافرين.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ...)

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ * وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ .. [البقرة:118-120] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

معنى قوله تعالى: (وقال الذين لا يعلمون)

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!إليكم هذا الخبر الإلهي ومن أصدق من الله قولاً أو حديثاً، يخبر تعالى يقول: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118]، حتى يؤمنوا.أولاً: تأملوا قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:118].ومن هنا نعود نذكر أنفسنا وإخواننا وكل من يقبل التذكير فنقول: إن الخبث، والشر، والظلم، والفساد هذه التي تعاني منها البشرية في العالم مردها إلى الجهل، وعلتها عدم العلم.وهذا شاهد قرآني، وخبر من أخبار الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:118]، فلو كانوا يعلمون ما قالوا هذه القولة الرديئة الهابطة، لكن الجهل هو السبب، فمن هنا -وهذه القضية قررناها وتحدثنا فيها ما شاء الله- الشر، والظلم، والفساد، والخبث مبغوض مكروه لكل ذي عقل، وعلة وجود ذلك كله هو الجهل.وقد سبق أن قلنا مرات: لو انعقد مؤتمر لعلماء النفس والاجتماع والسياسة والأدب والفلك والعلوم الكونية على اختلافها، وطرحنا عليهم هذا السؤال: ما سبب الظلم الذي انتشر في العالم، والسرقات، والتلصص، والجرائم، والقتل، والاعتداء، والحروب؟ وما سبب الخبث من اللواط إلى الزنا .. إلى أفظع ما يكون، وقد خمت الدنيا بهذا الشر والفساد؟ وما سبب وجود شر عام في كل مجالات الحياة؟هل ترون أنهم يستطيعون أن يعللوا لهذا؟أما أنا فأقول: والله لا يقدرون على هذا، وما هم له بأهل، وأنتم الآن أصبحتم قادرين على التعليم، وإليكم الدليل والبرهنة، فهل بلغكم أن الأنبياء والرسل يزنون ويفجرون أو يعبثون ويأخذون الباطل ويعملون به؟أبداً، والله ما كان.هل بلغكم أن العلماء الربانيين في العالم الإسلامي يفجرون، ويسرقون، ويكذبون، ويخونون؟ والله ما كان.فهذه برهنة واضحة.أزيد إخواننا فأقول: في أي بيت، الذي يكون أعلمنا بالله وأعرفنا بما عنده هو أتقانا فيه، وأجهلنا هو الذي يكون أظلمنا وأشرنا، والله لا نتردد في هذا: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، وضرب الله الأمثال فقال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وقال لرسوله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].إذاً: هذه فائدة عظيمة جليلة استفدناها من هذه الآية.ثم يجب أن نعلم أنفسنا وإخواننا، فيا من يريدون أن يصلحوا البلاد والعباد! علموا النساء والرجال والأطفال حتى يعرفوا ربهم معرفة يقينية، ويعرفوا ما يحب وما يكره، فيصبحوا أهلاً لأن يستقيموا على منهج الله، وإلا فإن الخبط، والخلط، والاضطراب، والقلق، والفتن لا تنتهي. وإياك أن تفهم أنها تنتهي بالحديد والنار، لا تنتهي إلا بالعلم، ومن أجل هذا أرسل الله الرسل.

معنى قوله تعالى: (لولا يكلمنا الله)

قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:118] ماذا قالوا؟ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ [البقرة:118]، فإذا كلمنا وسمعنا كلامه آمنا بكتابه، ورسوله، وشرعه.وهذا لا يقوله عالم.ولو كلم الله الناس وخاطبهم وسمعوا كلامه ما بقي معنى للتكليف ولا للحياة كلها، إذ لو أراد الله أن يخلق البشر كالملائكة فلا يفسقون، ولا يفجرون، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون لفعل، لكن الله أراد أن يمتحن البشرية والجن فيأمرهم بالإيمان بالغيب، ويكلفهم، فمن أطاعه وطلب رضاه وهداه اهتدى، ورضي عنه، وأكرمه وأنزله في جواره، ومن رغب عن ذلك وأعرض وانصرف هيأ له داراً تناسبه، وهي النار؛ عالم الشقاء.فكون الله يكلمهم كلاماً حتى يؤمنوا هذا يتنافى مع الحكمة من خلق البشر وإرسال الرسل.

معنى قوله تعالى: (أو تأتينا آية)

قوله: أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118] كالتي كانت لموسى عليه السلام، فالعصا انقلبت ثعباناً تهتز كأنها جان، ويده يدخلها في جيبه ويخرجها بيضاء نقية كأنها فلقة قمر.وفي العرض الذي تم مع السحرة الذين ملئوا الوادي بالحيات والثعابين، ثغرت عصا موسى فاها، ودخل فيها كل ذلك الباطل.أو يريدون آيات كآيات عيسى في إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص.فهذا الكلام طلبه من طلبه من الجهال، فقالوا: لا نؤمن بك يا محمد رسولاً، ولا بما جئت به ديناً وشرعاً حتى تأتينا آية أو يكلمنا الله، وهذا عناد ومكابرة، ولا تصح من ذي عقل فضلاً عن ذي علم.

معنى قوله تعالى: (كذلك قال الذين من قبلهم)

قال تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [البقرة:118] أي: فليسوا أول من طالب بهذه المطالب التي لا تقبل ولا تعقل في دار الامتحان والابتلاء والاختبار، بل تقدم لنا أن السبعين رجلاً الذين اختارهم موسى لكلام الله، فلما سمعوا كلام الله قالوا: أرنا وجه الله؟ وبعد أن سمعوا الكلام ما اقتنعوا، فهؤلاء الذين يقولون: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ والله لو كلمهم ما آمنوا، ولا قبلوا، بل يزدادون عناداً.وسبق أن هؤلاء السبعين الممتازين اختارهم موسى إلى جبل الطور، وسمعوا كلام الله: فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]، فالهداية بيد الله، فمن طلبها من الله في صدق هداه الله، ومن استنكف، وتكبر، وأعرض أضله الله.وقوله: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ أي: كما يقولون.

معنى قوله تعالى: (تشابهت قلوبهم)

قال تعالى: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118]، أي: تشابهت قلوب الأولين والآخرين .. قلوب المعاندين والمكابرين.لكن ما سبب تشابه القلوب؟ فالقلوب من حيث هذا العضو الصنوبري متساوية، لكن مختلفة في الفهم والإدراك، والعلم، والمعرفة. فما سر هذا التشابه بين قلوبهم؟إنه الشيطان الذي أغوى آدم حتى أخرجه من الجنة، فالشيطان الذي أغوى من أغوى من البشر والجن واحد، فمن هنا القلوب متشابهة، فالباطل الذي يقوله أحد الناس اليوم يقوله من يأتي بعد قرن، والقول الذي يقوله المبطل اليوم قد قيل من قبله بمئات بل بآلاف السنين؛ لأن الدافع أو المحرك أو المزين أو الباعث واحد، فالصنعة -إذاً- واحدة، والبضاعة واحدة؛ ولأن مروّجها واحد هو الشيطان.قال: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فيمَ تشابهت؟تشابهت في الجهل، والكفر، والظلم، والعناد؛ لأن الباعث على هذا الفساد والشر هو إبليس -عليه لعائن الله-، وقد قال وهو بين يدي الله: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، وقال: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّ هُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39]، فمن هنا تشابهت القلوب، فثقوا وافهموا واعلموا أن ما يقوله الضال اليوم فقد سبق أن قاله الضلال منذ ألف سنة، وعشرة آلاف سنة؛ لأن الدافع واحد، والمحرك واحد، وليس هناك اختلاف.

معنى قوله تعالى: (قد بينا الآيات لقوم يوقنون)

قال تعالى: قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة:118]، الذين أيقنوا بعد أن علموا أنها تنزيل العزيز الحكيم، فآيات القرآن المبينة المفصلة، المظهرة للحق، المميزة له من الباطل، هذه الآيات قد بينت بالأدلة القطعية، والبراهين الساطعة والحجج التي لا ترد ما كذب به هؤلاء المكذبون، وكفر به هؤلاء الكافرون؛ وذلك من وجود الله الحي القيوم، السميع البصير، العليم الخبير، وأنه لا إله إلا هو، وأن سائر الآلهة المدعاة المعبودة باطلة، وأنه رب كل شيء ومليكه، وأنه ذو قدرة لا يعجزها شيء، وعلم أحاط بكل شيء، وحكمة ما خلا منها شيء، أكثر من أن يشاهدوا آية فجأة وتنتهي، كأن يكلمهم ساعة ويسمعون كلامه، ثم يقولون: ما سمعنا، أو يحيي لهم ميت أو أمواتاً ثم يقولون: سحركم، وكيف يحيا الميت!وهذا أخبر تعالى عنه من سورة الحجر: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ [الحجر:14]، وهل هناك أعظم من هذا؟ إنها رحلة إلى الملكوت الأعلى، فتعالوا أنتم وأبناءكم ونساءكم، واصعدوا إلى السماء السابعة، ثم انزلوا، فهل يقولون حقاً: ما رأيناه آمنا به، لا إله إلا الله محمد رسول الله. والله ما قالوا إلا: سحر أعينكم، أنتم مجانين! هل هناك من يصعد إلى السماء؟ لأن الذين يصعدون مجموعة: عشرة .. عشرون .. ثلاثون، فيظلون في الملكوت الأعلى، وفي المساء يقولون: صعدنا. فيقال لهم: أنتم مجانين. وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ [الحجر:14] طول النهار يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:14-15]، لِم هذا؟ لأن أناساً كتب الله شقاءهم في كتاب المقادير، وهم أهل العذاب الدائم الثابت المقيم، وأمثال هؤلاء لن يهتدوا، ولا يقبلون الهداية بأي نوع، ومهما عرضت عليهم.يا من تطالبون بالآيات الكونية! كنزول الشمس أو القمر أو الملائكة أو إحياء الميت، هناك آيات أعظم من هذه، ألا وهي هذا الكلام الإلهي الخالد الباقي، فلو أن الله عز وجل أيد رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم بآيات مادية، وشاهدها أهل مكة وقريش فسوف يأتي الجيل الذي بعد هذا فيقول: خرافة وكذب، ما رأينا نحن هذا.فلهذا ما أعطى ما طالبوا به من الآيات الكونية الحادثة؛ لأن هذا لا يجدي ولا ينفع، أولاً: المصرون على الجاهلية والعناد والظلم لا يؤمنون.ثانياً: ينقلب من شاهد المعجزة والذي جاء بعد ذلك يقول: نحن ما شاهدنا، من أين لنا أن هذا وقع؟فالقرآن -إذاً- هو آية محمد صلى الله عليه وسلم، و( ما من نبي من الأنبياء إلا وأعطاه الله ما آمن عليه مثله البشر، وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ؛ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، وتحقق رجاؤه؛ فهذه الأمة المحمدية يوم القيامة أعظم أمة وأكبر أمة عدداً.وسر ذلك في هذا القرآن، فلو كانت المعجزات فقط، والله في القرن الأول ينتهي الإسلام، وحارب الإسلام الإنس والجن والأبيض والأسود، وما استطاعوا أن ينهوه أو يطووا صفحته أو يقضوا على أهله؛ لأن القرآن بينهم، ولولا القرآن لانتهى الإسلام.لا تعجب!تقدم أن عرفنا أن الدين المسيحي الإلهي ما عاش أكثر من سبعين سنة، ثم تحول إلى تثليث، وإلى شرك، وإلى باطل، لكن الإسلام حفظه الله بما حفظ كتابه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فلهذا الآن ألف وأربعمائة سنة وزيادة والإسلام موجود، ما تغير ولا تبدل أبداً، محفوظ، وكون الناس تبدلوا وتغيروا فهذا شأنهم، أنهم استجابوا للشيطان وأعوانه وخلصائه، لكن من طلب الإسلام فهو موجود كالذهب، لا زيادة ولا نقص، بحفظ الله تعالى.إذاً: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة:118] إنها آيات القرآن، من يشاهد أنوارها؟ من يشاهد عجائبها؟ من يشاهد آثارها؟ إنهم الموقنون بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الدين الإسلامي هو دين الله ولا يقبل ديناً سواه .. فهؤلاء الموقنون هم الذين يشاهدون هذه الآيات. أما الموسوسون، والشاكون، والمرتابون فلا ينتفعون بهذا، وهو كذلك.إذاً: من هم الذين ينتفعون بالقرآن الآن من المسلمين؟الجواب : إنهم المؤمنون، الموقنون بما يحمله هذا القرآن من نور وهداية، وهم الذين يدرسونه، ويتعلمونه، ويطلبونه، ويعملون به، أما الذين لا يقين لهم فيقرءونه على الموتى.
تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ...)

معنى قوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً)

قال تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم مسلياً له مخففاً عنه الحمل: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [البقرة:119]، وهذا خبر من أخبار الله يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أي: رب العزة والجلال أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بالحق لا بالباطل، فالإسلام هو الدين الحق، والقرآن الكريم هو كلام الله الحق، وكل ما جاء به رسول الله من هداية، وتعاليم، وقوانين، وشرائع .. الحق، ولا باطل في جزء منها قط. أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ حال كونك مبشراً ونذيراً .ما المراد بالمبشر؟المبشر: الذي يبشر صاحب الخير بالخير، فيقول له كلمات ينشرح لها صدره، وتتهلل له بشرته بالبشر والطلاقة، فهو يبشر المؤمنين المستقيمين على منهج الله بما وعدهم الله به من إعزاز وإكرام في الدنيا، ونعيم دائم خالد في الآخرة.وهذه مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبشر المؤمنين المتقين .. المؤمنين العاملين للصالحات .. المؤمنين المستقيمين على منهج الله، فلا التواء، ولا خروج، ولا انحراف، فهؤلاء يبشرهم بما يثلج صدورهم وبما يطيب خواطرهم، وبما يظهر في وجوههم من البشر والطلاقة، وهذا هو التبشير.وهو نذير ومنذر لمن أصر على الشرك، والكفر، والشر، والفساد، والفسق، والفجور .. ينذره ويخوفه عواقب هذه الحياة التي يحياها، وينذره بعذاب الله الذي قد يعجل له في الدنيا، أما عذاب الآخرة فهو ثابت لازم لا يتخلف ولا يتأخر.وهذه هي مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست مهمته أن يهدي الناس، ويدخل الإيمان في قلوبهم، أو يغير طباعهم ويحول سجاياهم وفطرهم؛ فهذا لا يقدر عليه، وليس موكولاً إليه، فهذا لله.فهذه الآيات تعزي رسول الله، وتخفف عنه الآلام التي يتلقاها من الطغاة المتكبرين الذين قالوا له الآن: لولا تأتينا بآية، أو يكلمنا الله حتى نؤمن، والذين قالوا له هذا في مكة من أبي جهل إلى عقبة بن أبي معيط إلى العشرات.ماذا يصنع رسول الله فهو لا يملك هداية القلوب؟يخفف الله تعالى عنه، ويسري عنه آلامه، ويقول له: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [البقرة:119] فما كلفناك بهداية الناس، وأنت لا تقدر على ذلك، ولو كان يقدر لهدى عمه أبا طالب ، فما استطاع مع أنه وقف معه طيلة حياته مواقف لا تنسى، وعند وفاته وهو على سرير الموت يعرض عليه كلمة التوحيد فما قبلها، والله كأنكم تسمعون: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله، يا عم! قل: لا إله إلا الله ) فما استطاع؛ لأن الله كتب شقاء أبي طالب وأنه من أهل النار.وكان -مع الأسف- يريد أن يقولها، فينظر إلى الزائرين من رجالات قريش الذين جاءوا يعودونه في مرضه فيخجل وقال له أبو جهل : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فكان آخر ما قاله: هو على ملة عبد المطلب . ومع هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لأستغفرن لك يا أبا طالب ما لم أنه عن ذلك )، وهَمَّ بالاستغفار فنزل قول الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113] ومن احتج بإبراهيم قال تعالى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].وإبراهيم واعد أباه فقال: لَأَسْتَغْفِرَن َّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة:4] فمضت الأيام، وازداد في العناد، والكفر، والباطل، وعرف أن الله قد حكم عليه بالخلود في النار، فتبرأ منه، فلا تحتج باستغفار إبراهيم.وحتى آمنة أم الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آتياً من مكة إلى المدينة أو ذاهباً من المدينة إلى مكة، فمر بالأبواء التي دفنت فيها أمه، فاستأذن من الله أن يزورها فأذن له، ولما وقف على القبر ظل يبكي ويبكي، فسألوه: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: ( لقد استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ).

علّة الفلاح والخسران

والعلة كما عرفنا من قبل في قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] فـأبو طالب أو عبد الله أو آمنة هل قالوا يوماً: ربنا اغفر لنا ذنوبنا؟ هل قالوا يوماً: لا إله إلا الله؟ هل .. هل .. إذاً على أي شيء تزكو نفوسهم وتطيب وتطهر؟!فمن هنا من زكى نفسه، وطيبها، وطهرها قُبِل في الملكوت الأعلى، ومن دساها، وخبثها، وأفرغ عليها أطنان الذنوب والآثام لم يشفع له شافع قط ولن يرى دار السلام، وهذا قضاء الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].والرسول نادى ابنته فقال: ( يا فاطمة ! أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك من الله شيئاً ).ومع هذا العالم كله نائم، يطمعون في الجنة دار السلام، فأين عواملها وأسبابها؟

وظيفة الداعية

قوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [البقرة:119] توضيح لمهمة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي مهمة كل داع .. كل واعظ .. كل مذكر .. كل معلم في القرية والجبل والسهل والوادي والبيت والمسجد، وليست المهمة هداية الخلق، فالهداية بيد الله، ومن أراد هداية أبيه أو أخيه فليسأل الله ذلك، وليبين له ما هو المطلوب، أما أن تحوله أنت فلن تستطيع، ورسول الله ما أسند إليه هذا.

معنى قوله تعالى: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم)

قال تعالى: وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] وقراءة نافع قراءة أهل المدينة: ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم .يقول ابن عباس فيما روي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا ليت شعري ما فعل أبواي؟ ) فنزلت هذه الآية ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم ، أي: فلا تسأل يا رسولنا عن أصحاب الجحيم، اتركهم، واترك أمك وأباك، فما هم أهل دار السلام الآن.وقرأ حفص : وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] أي: لا يسألك الله يوم القيامة: لم ما آمن أبو جهل وأنت رسول الله وما هديته؟ والله ما كان، ولم دخل أبو طالب النار، وهو عمك، وأنت رسول الله، كيف هذا يا محمد؟ الجواب: لا.. لا؛ لأن الله ما بعثه ليهدي البشر ويقلب قلوبها، وإنما ليبشر من استجاب فآمن وعمل صالحاً، وتخلى عن الشرك والفساد، ومنذر من أعرض عن الإيمان والعمل الصالح، وانغمس في أودية الباطل والخبث والشر والفساد، فهذه رسالتك ومهمتك، أما أن تهدي فلا تملك.وحقاً هل هناك من يملك هداية أحد؟الجواب: لو كان هناك من يملك أو يقدر مع بذل أقصى الجهد بالحجج والبراهين لكان إبراهيم أولى بهذا مع والده، لكن هل استجاب آزر وأسلم؟ لا.إذاً: ادع يا عبد الله عباد الله وبشر المستقيمين، وأنذر المعوجين المنحرفين، فهذه هي مهمتك، أما أن تحزن وتبكي وتقول: آه، ما أسلموا .. ما اهتدوا، أو ترمي بالقلم وتقول: تركناكم، لستم من أهل الجنة، فقد دعوناكم وما استجبتم، فعيشوا على الباطل، والخبث، والشر، والفساد..! لا، هذا لا يصح أن تقوله، بل وأنت مطمئن النفس، طاهر القلب ادع الناس بالابتسامة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] والحكمة أن تضع الشيء في موضعه، فالشخص الكيس، الأديب، الراقي الذي عنده تقبل للهداية، لم تتعنتر عليه وتسب وتشتم وتنتفخ أمامه، ادعه بالتي هي أحسن.وكذلك شخص من أقاربك شديد غليظ، فلا بأس أن تغلظ عليه، لكن الليّن شيء، والغليظ شيء ثان، فضع كل شيء في موضعه، وهذه هي الحكمة.والشاهد عندنا في قول ربنا: وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] فهذا يتمم الكلام الأول، فما أنت إلا بشير ونذير، وما أنت بمسئول عن أصحاب الجحيم، والله لا يسأله ربه: لم لم يؤمن فلان وأنت رسولنا، والقرآن أنزلناه إليك، وأيدناك بكذا وكذا، كيف يدخلون النار، أين كنت؟هذا لا وجود له.وشأن رسول الله شأن أمته، فالعالم في القرية .. في البيت .. في السوق يبلغ دعوة الله بالتي هي أحسن، فمن استجاب بشره بحسن العاقبة والمستقبل السعيد، ومن أعرض واستنكف واستكبر أنذره قائلاً: انتبه! مصيرك معروف الخلود في عذاب الله، فانته يا عبد الله، هذه المهمة.

تفسير قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ...)

ثم قال تعالى وقوله الحق: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] الملة: الدين والنحلة.وهل اليهود والنصارى لهم ملة واحدة؟الجواب: لا. اليهودية ملة، والنصرانية ملة، والمجوسية ملة، والصابئة ملة .. فهم ملل.

حكم توارث أصحاب الملل الكفرية فيما بينهم

هنا مسألة فقهية: ذهب مالك رحمه الله وأحمد في بعض الروايات إلى أن اليهود ملة والنصارى ملة، والصابئة والمجوس ملل، واحتجوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يتوارث أهل ملتين ) أي: لا يرث اليهودي النصراني، ولا النصراني اليهودي، ولا الصابئي المجوسي، ولا المجوسي الصابئي.. بل كل ذي ملة يرثه أهله من ملته، وهذا الحديث صحيح.ويبقى قول الجمهور: إن الكفر ملة واحدة، وليس معنى هذا أن اليهودية هي النصرانية أبداً، ولا المجوسية هي البوذية ..! لا، هي ملل ولكن ليس هناك تفاضل فالكفر ملة واحدة، فالكل ضال وإلى النار.إذاً الكفر ملة واحدة، فلا فاضل ولا مفضول، أما من حيث القضاء الشرعي والحكم فاليهودي لا يرث النصراني لخلاف بينهما في معتقدهم وملتهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى)

أي: لن ترضى عنك يا رسولنا، ولن ترضى عنك يا عبدنا، وأمته هي تابعة له، فانتبه .. كل من لبس لباس محمد صلى الله عليه وسلم، وتقمص قميصه، فنهج نهجه، وقام على ما قام عليه رسول الله قبله من العقيدة والتوحيد والطهر والصفاء، وكل من كان هكذا فلن يرضى عنه اليهود ولا النصارى إلى الآن، وممكن يرضى عنك يهودي أو نصراني إذا أنت تخليت عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وأصبحت تشارك في الباطل، والخبث، والشر، والفساد، نعم، أما أن يبقى موقفك موقف لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم ترجو أن يحبك يهودي أو نصراني فهذا لن يكون.الشاهد: أن هذا الخبر من الله يستحيل أن ينقضه أحد، فلن ترضى عنك يا رسولنا اليهود والنصارى إلى غاية أن تتبع ملتهم، فإذا اعتنقت اليهودية رضي عنك اليهود ورحبوا بك، وإذا اعتنقت المسيحية أو الصليبية فرح بك النصارى وقبلوك، أما وأنت على نور الله وهدايته وإسلامه فلا رضا.والآن الكثيرون يتملقون لليهود والنصارى، حتى في المساهمة في أعيادهم، لكن هل يرضون عنهم؟والله لا يرضون، فما دمت تقول: لا إله إلا اله محمد رسول الله ما هناك رضا، وما دمت تقول: الزنا حرام، والربا حرام، وقتل النفس حرام، والخبث ليس يليق بنا، ولا نحن من أهله، فما يرضون عنك أبداً حتى تتقمص قميصهم، فتقول بقولهم، وترقص رقصهم، وتعتقد اعتقادهم، نعم، سواء كنت أبيض أو أسود، ولا معنى لكلمة أوروبي ولا أفريقي فهم إخوان. فيعانقون السود، ويدخلونهم في قلوبهم؛ لأنهم اعتنقوا دينهم، وأصبحوا على ملتهم.هل عرفتم هذا الخبر الإلهي أو لا؟لا أقول: من أراد منا أن يحبه اليهود والنصارى فليكفر، نقول: فقط استقم على منهج الله، ولا يضرك عداؤهم ولا بغضهم لك، ولا عدم حبهم لك؛ لأن هذه فطرتهم، وما دمت على غير دينهم فإنهم لا يحبونك.ومن ردَّ علي يتفضل، يقول: أنا مستقيم على منهج محمد صلى الله عليه وسلم في لباسه .. في أكله .. في طعامه .. في نكاحه .. في تجارته .. في أعماله، وعندي يهود ونصارى يحبوننا، نعم قد يتملقونك بلسانهم، أما أن يكون قلباً وواقعاً فوالله ما كان؛ لأن الله خالق القلوب، وطابع الطبائع، وغارز الغرائز، هو الذي أخبر، وهل تراه لا يصدق؟ أعوذ بالله.ومعنى هذا: لا تطلبوا مودة اليهود والنصارى فإنها مستحيلة، ولن تتم، ولن تحصل، إلا إذا أنت انسلخت من دينك الإسلامي وعايشتهم على الشرك والباطل، نعم هم يريدون هذا، ويبذلون الأموال في سبيل القضاء على الإسلام؛ لأنه الدين الحق، وأكثر رجال الكنائس والبيع يعرفون هذه الجملة، وقد يوجد تلاميذ ضللوهم وغرروا بهم، لكن هناك رؤساء يعرفون أنهم على باطل، وأن الدين الإلهي الحق هو الإسلام، معرفة أكثر منا، لكن لا يستطيعون أن يتخلوا عن مناصبهم، وإن تركوها يقتلون، ولو قامت الكنيسة وقالت: لا إله إلا الله محمد رسول الله، تهتز أركان الدنيا، وتشتعل النيران، فلهذا هم مصرون على الباطل، وقَلَّ من ينجيه الله عز وجل، ونعم يوجد كثيرون من رجال العلم عندهم تركوا الكفر ودخلوا في الإسلام، وآمنوا بالله ولقائه ورسوله.هكذا يخبر تعالى عباده في شخصية رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول أولاً: بلام الزمخشري وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى [البقرة:120] إلى غاية وهي: إلى أن تتبع ملتهم.

معنى قوله تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى)

ماذا تفعل يا رسولنا؟قال له الله تعالى: قُلْ [البقرة:120] في صراحة ووضوح: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة:120] فإذا عرض عليك مسيحي المسيحية .. أو يهودي اليهودية .. أو بوذي البوذية .. أو مجوسي المجوسية.. فماذا تجيب أنت يا رسولنا؟ قال: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة:120].لكن ما هو هدى الله؟هدى الله هو الإسلام الهادي إلى العزة والكرامة، والأمن والرخاء، والطهر والصفاء في الدنيا، والهادي إلى حب الله ورضوانه، ومواكبة النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين بعد الموت.وإياكم أن تفهموا أو يخطر ببالكم أو تصدقوا مفترياً كاذباً أن الإسلام إذا طبق في قرية -لا أقول: في أمة- تطبيقاً كما أراد الله ولم يعز أهل القرية، ولم يصفوا، ولم يطهروا، فوالله لا يتخلف وعد الله.أعيد فأقول: إياك -يا عبد الله- أن تفهم أن الإسلام لو طبق في إقليم .. في قرية .. في مدينة التطبيق الذي يريده الله أن أهل القرية يضامون أو يهانون أو يذلون! والله ما كان، والله إلا أعزهم الله وطهرهم وكملهم في الدنيا، وفتح لهم باب دار السلام في الآخرة.وهل هناك أقليم أو بلد كان على طهر وصفا وإيمان، فأذلهم الله؟!والله لا وجود لهذا، لا في أوروبا الشرقية، ولا الغربية، ولا أفريقيا، ولا في جزيرة العرب، فمستحيل أن يخذل الله أولياءه، أو يسلط عليهم أعداءه، وإنما سلط أعداءه على من فسق عن أمره، وخرج عن طاعته كحال العرب والمسلمين في قرون عديدة إلى هذه الساعة.إذاً: من طلب منك أن تدخل في نصرانية أو يهودية أو ملة من الملل فقل لهم: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة:120] فقط، هدى الله هو: الإسلام وكتابه .. الإسلام ورسوله، فهذا هو الهدى يا من يريد الهدى والهداية إلى العز، والكرامة، والطهر، والصفا في الدنيا، وإلى جوار الله في الملكوت الأعلى؛ في مواكب النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين في الدار الآخرة، بل بعد الموت فقط، لا ننتظر يوم القيامة، والله إن هؤلاء وهم على أسرة الموت، وقد أيس الأطباء من دوائهم، وعلاجهم، وودعوهم، ثم الملائكة تحتفل بهم، وتتنزل عليهم أفواجها تبشرهم وتريهم كرامة الله لهم، ما نحتاج إلى هذه: يوم القيامة، واقرءوا لذلك قول الله جل جلاله وعظم سلطانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] كلمتان فقط، لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم استقام على منهج رسول الله عقيدة، وقولاً، وعملاً، فاستقام وما انحرف يميناً، ولا شمالاً، ولا اعوج، فأحل ما أحل الله، وحرم ما حرم الله، ونهض بما أوجب الله، وتخلى وابتعد عما نهى وحرم الله، ومشى في طريقه إلى ساعة الموت.. فهذا العبد تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] تتنزل فوجاً بعد فوج احتفاء بهذه الروح الطاهرة، لترفع إلى الملكوت الأعلى .. إلى سدرة المنتهى أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]. فمن كان منا ولياً لله ما إن يودعه مودعه، وييأس من علاجه الأطباء في تلك اللحظات فليستعد بهذه البشريات العظيمة: لا تخافوا، ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدونها في كتاب الله، وعلى لسان رسول الله، وعلى لسان عباد الله من الدعاة المبلغين عن الله نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:31] كانوا معهم في الدنيا فصرفوهم عن الباطل والخبث والشر، وحموهم حماية كاملة، فأولياء الله يحميهم الملائكة من أن يقعوا فيما يغضب الله ويسخط الله طول الحياة، وإلا كيف يعيش خمسين .. سبعين سنة لا يزني، ولا يسرق، ولا يكذب، ولا يقتل، ولا يظلم .. لولا حماية الله كيف يتم هذا؟ وإخوانه بالملايين يتخبطون في أودية الخبث، والضلال، والشر، والفساد، وليس ذلك قدرة منه بل حماية: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:31] ادع فقط، اطلب نُزُلًا [فصلت:32] النزل هو الضيافة والقِرى، ولهذا سموا الفندق نزلاً وضيافة، ففيه السكن، والطعام، والشراب والفراش و.. و.. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:32].أيها المستمعون والمستمعات! من منكم يهيأ لهذا؟ قولوا: كلنا إن شاء الله، أو ما تموتون؟ لا بد.إذاً نسأل الله أن نكون منهم إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت:30] ولو سخط العالم كله، وغضبت الدنيا بما فيها: ربنا الله، لا رب لنا سواه ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] والاستقامة ليست هينة، ومثل الاستقامة كالذي يمشي على سطح البحر برجليه، فالمستقيم اليوم في بلاد وقرى وعالم خم بالخبث والشر والفساد، ثم استقام ومشى فذلك أصعب ممن يمشي على سطح الماء، ولهذا قالت العلماء: استقامة خير من ألف كرامة، وخاصة لما يخبث الجو كاملاً، ويتعفن، فكيف تسلم؟!لكن لولايتك لله يحميك الله بملائكته، ويعصمك، ويتلوث غيرك، وأنت لا تتلوث.

معنى قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ...)

قال تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:120] هذه حالكم أيها المسلمون تنطبق تمام المطابقة، فقوله: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ كل البلاد التي لا تطبق شرع الله والله قد اتبعت أهواء اليهود والنصارى أحببنا أم كرهنا، وكل البلاد التي تبيح ما حرم الله، وتأذن فيه، وتسكت عنه اتبعوا أهواءهم؛ لأن أعداء الإسلام يريدون هذا.إذاً قال تعالى بعد ذلك: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:120] والآن هذا حق أو باطل؟!بكينا، وصرخنا، واستغثنا: أنقذونا، ففلسطين -مثلاً- إلى الآن أكثر من خمسة وأربعين سنة وهي محتلة، فما وجدنا ولياً أو نصيراً، وها نحن نصرخ أيضاً على البوسنة والهرسك فما وجدنا من نصير، وغداً نستصرخ لأي مكان آخر فما نجد أبداً، حتى نعرف الله عز وجل.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-09, 05:47 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (79)
الحلقة (86)



تفسير سورة البقرة (49)
أنزل الله الكتب لتكون منار هداية للناس، وكان خاتمة هذه الكتب هو القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولهذا وجب على المسلم أن يتلوه حق تلاوته، وذلك بأن يقيم حروفه، وكلماته، وأحكامه التجويدية، وأن يتدبره ويتأمل ما فيه من معانٍ، وأن يسعى جاهداً للعمل بما فيه، ليبقى دائماً على ذكر بأن هذا الكتاب من أعظم نعم الله عليه، وأنه من مظاهر تفضيل هذه الأمة، وأن الكفر به هو الخسران المبين.

تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ... )

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بنا سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:121-123] .. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إليكم هذا الخبر، فإنه خبر عظيم الشأن، فالمخبر هو الله، والمخبرين هم نحن، والحمد لله رب العالمين، فنحن أهل لأن يحدثنا الله ويكلمنا ويخبرنا، فإنها والله لنعمة.وسبب هذا الإفضال والإنعام هو الإيمان، فآمنا وأصبحنا أهلاً لأن يحدثنا الله ويكلمنا ويخبرنا.وقد قال الضالون: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118] وها نحن يكلمنا بواسطة وحيه الذي ينزله على رسوله، وقد وصل إلينا من طريق الوحي الإلهي على رسول الله، ونحن أهل لذلك بإيماننا، ولو كنا غير مؤمنين -والعياذ بالله- ما يخاطبنا الله ولا يكلمنا، لأننا أموات، والميت لا يخاطب ولا يخبر؛ لأنه لا يسمع ولا يبصر، ولا ينهض بما يكلف ولا يقدر عليه.

المراد بالكتاب في قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب)

قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121] قد يكون المراد من الكتاب التوراة، وقد يكون المراد من الكتاب الإنجيل، ولكن المراد هنا القرآن العظيم.فقوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ أي: أعطيناهم الْكِتَابَ [البقرة:121] وقد أعطانا ربنا الكتاب، وهو في صدورنا، ومكتوب في سطورنا، ويوجد في بيوتنا، وهذا فضل الله علينا، فالحمد لله.

من حقوق تلاوة القرآن إقامة حروفه وتجويده

قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121] ما لهم؟ أخبر عنهم يا رب! يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121] يتلونه بمعنى يقرءونه حق القراءة، فيجودون قراءته، وينطقون بالحروف، ويخرجونها من مخارجها، فلا يقدمون ولا يؤخرون، ولا يزيدون ولا ينقصون، فينطقون بتلك الحروف كما هي في لسان العرب، ولو أن شخصاً يقرأ (عصى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم) فالله يعصي! هذا كفر، وتعالى الله، وكل هذا لأنه ما فرق بين حرفين في مخرجيهما: بين السين والصاد، فعصى بمعنى: ما أطاع، وعسى بمعنى: رجا، ومن هنا إخراج الحروف من مخارجها ضروري، وتستلزم هذه الآية الإلهية أن يتلوه حق تلاوته.كذلك يتدبرونه عندما يتلونه، ويقرءون الآية وينتهون منها ويعيدونها مرة أخرى؛ لأنهم يستدرون لبنها، ويستخرجون حلواها وعسلها .. وهل هذا ممكن؟ إي نعم.ولقد صح يقيناً أن أحد السلف الصالح من الصحابة والتابعين قام يتلو كتاب الله بالليل، فلما انتهى إلى قول الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] فهذه الآية ما استطاع أن يتجاوزها، وما زال يرددها ويبكي حتى طلع الفجر.ولعل السامعين يفهمون معنى هذه الكلمة الإلهية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا أي: فعلوا بجوارحهم السَّيِّئَاتِ أي: المحرمات والمنهيات من كبائر الذنوب والآثام أَنْ نَجْعَلَهُمْ أي: في قضائنا، وحكمنا، ومجازاتنا كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية:21] لا والله ما كان هذا، ولهذا قال: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ أي: قبُح قُبحاً وحكماً يحكمون به، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].إذاً: الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته، هم الذين:أولاً: يجودون النطق ويحسنونه.ثانياً: يتدبرونه عند تلاوته.ثالثاً: إذا مروا بآية رحمة سألوا الله إياها، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا بالله من النار والعذاب. وهذا مأخوذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا قام يتهجد ليصلي إذا مر بآية رحمة وقف وسأل الله تلك الرحمة، وإذا جاءت آية عذاب وقف واستعاذ بالله من العذاب وهو رسول الله الذي لا يدخل الجنة أحد قبله قط، وقد أعطي بذلك المواثيق، وحسبكم أن تقرءوا قول الله عز وجل: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] ألا وهو مقام الشفاعة العظمى، فهو الذي يخر ساجداً بين يدي الله تحت العرش، ويلهم تسابيح، وأذكاراً، ومحامداً ما عرفها إلا تلك الساعة، وهو واضع جبهته على الأرض حتى يقول له الرب تعالى: ( محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع )، ومع هذا كان إذا مر بآية رحمة سأل الله متضرعاً إليه أن يرحمه، وإذا مر بآية عذاب وقف واستعاذ بالله تعالى من العذاب.وهذه أمنا الصديقة عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( افتقدت ليلة رسول الله من فراشه ) إذ كان يقسم الليالي بين نسائه أمهات المؤمنين، فليلة عند عائشة ، وأخرى عند صفية ، وأخرى عند حفصة ، وأخرى عند ميمونة .. ومن يعدل إذا لم يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالت: ( فالتمسته ) فما عندهم كهرباء، ولا فوانيس، لا بالزيت، ولا بالغاز، والله ما عندهم، وفي الظلام، في تلك الحجرة التمسته فما وجدته، فقامت تطلبه، فوجدته قد اغتسل بالماء البارد، وما أشد برد الماء في مدينتنا المنورة أيام الشتاء، فاغتسل بالماء البارد، وإذا هو قائم يصلي؛ يركع ويسجد، والدموع قد عملت خطوطاً هكذا على حصيره، فتعجبت منه وسألته: ( يا رسول الله! أهذا منك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ) فأجابها بقوله الخالد: ( أفلا أكون عبداً شكوراً )، فما دام قد غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ينبغي أن أشكره، وبم يُشكر الله إن لم يُشكر بذكره وعبادته وطاعته؟

من حقوق تلاوة القرآن تدبره

قالت العلماء: تلاوة القرآن حق تلاوته أن تحل ما أحل القرآن، وتحرم ما حرم القرآن، أما الذي يستبيح ما أحل الله وهو يتلو الآيات التي تحرم، ويحرم ما أباح الله وهو يتلو آيات الإباحة فهذا خارج عن طاعة الله، وما تلا القرآن حق تلاوته، والذي لا يقيم حدوده، ويتعداها، ويتجاوزها، وهو يتلوها ويقرؤها والله ما تلا كتاب الله حق تلاوته، فلا بد أن يقيم حدوده كما يقيم حروفه، ولا بد أن يحل ما أحل، ويحرم ما حرم، ولا بد أن يتدبر ويتأمل ويتفكر، لا أن يتلوه كلغة أجنبية لا يدري ما يقرأ ولا ما يقول؛ لأن الله أثنى عليهم فقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة:121] أي: أولئك السامون، الشرفاء الأعلون فأشار إليهم بلام البعد لبعد مكانتهم، وعلو درجتهم، وعظم شأنهم أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة:121] أي: يؤمنون بهذا القرآن.

استحباب سماع القرآن من الغير

هذا ابن أم عبد وهو عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان كالظل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفارقه إلا إذا دخل بيته وأغلق بابه، يقول عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه وأرضاه: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي يوماً: يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن. فقلت: أعليك أنزل وعليك أقرأ؟! ) متعجباً، مستفهماً كيف ينزل عليك وأقرأ عليك، فأنت أحق به وأولى، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إني أحب أن أسمعه من غيري ).وكم نادينا وقلنا للسائلين غير ما مرة، في أي مجتمع كهذا: دلوني على أحد من إخواننا المؤمنين قال يوماً لأخيه: تعال من فضلك يا بني إن كان صغيراً، أو يا أبتاه إن كان كبيراً، أو يا أخاه إن كان مثله ومساوياً له في السن، من فضلك: اقرأ علي شيئاً من القرآن؟هل حصل هذا؟!من الشرق إلى الغرب وعبر القرون، من هو الذي يقول: أي فلان! اقرأ علي شيئاً من القرآن؟وقد حصل هذا مرة كما أخبرتكم، وذلك أن مؤمناً شغالاً -كما يقولون: حمال- دخل في رحمة الله في درس من دروس العلم الحق في تفسير كتاب الله، فسمع هذه الكلمة من شيخ رحمة الله عليه، فكان يأتيني ويقول: أي أبا بكر! اقرأ علي شيئاً من القرآن، وهو عامي لا يقرأ ولا يكتب، ولكن فتح الله عليه فأصبح عالماً ربانياً بالسماع.فهذا هو الوحيد الذي رأيناه في حياتنا يأتي، ويتربع، ويطأطئ رأسه ويقول: اقرأ علي شيئاً من القرآن، وأنا أقرأ وأنا طفل وهو يبكي.إن القرآن الآن يقرأ على الموتى! يقال لقارئ القرآن: تعال خذ ألف ريال، وأقرأ ختمة على أمي؛ فإنها ماتت. أو يجمع الطلبة ويقال لهم: اقرءوا القرآن على والدي فقد توفي، ويضع بين أيديهم أو في جيوبهم ريالات، وهذا موجود من إندونيسيا إلى المغرب، أما أن أقول: اقرأ علي آيات الله؛ أتدبرها، وأخشع عند سماعها، وأبكي، فهذا نادر، ونسينا ونستغفر الله.وكان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كثيراً لما يجلس يقول: من منكم يسمعنا شيئاً من القرآن؟هذا موجود وما ننساه.

استحباب الخشوع عند تلاوة القرآن

إذاً الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121] أي: كما ينبغي أن يتلى، وكما يجب أن يقرأ، وهو تصحيح الألفاظ، والكلمات، والنطق بها سليمة كما نزلت.ثانياً: يتدبرونه، فلا يقرءون قراءة الغافلين والجاهلين، فيقفون عند الآية، ويعرفون ما تدل عليه، وما ترشد إليه، ويحلون ما أحل، ويحرمون ما حرم، ويقيمون حدوده فلا يتعدونها .. وهؤلاء هم المؤمنون.عبد الله بن مسعود لما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أسمعني يا ابن أم عبد )، فكناه بأمه .. ( يا ابن أم عبد ! أسمعني شيئاً من القرآن ) أي: اقرأ علي حتى أسمع، فتعجب عبد الله وقال: ( أعليك أنزل وعليك أقرأ؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري )؛ لأن الذي يصغي يذكر أكثر ممن يتلو، والتالي قد يشغله حفظ الآيات وتتبعها حتى ما يجهل أو يقف، أما السامع متفرغ، وخاصة إذا أصغى واستمع.قال: ( فقرأت بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] حتى انتهيت في حدود الثلاثين آية، إلى قول الله عز وجل: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]. قال: لما انتهيت هنا، فإذا برسول الله عيناه تذرفان الدموع؛ يبكي، ويقول: حسبك .. حسبك .. حسبك )، يعني: يكفي يكفي، فرسول الله يطلب من يقرأ عليه القرآن، ونحن لا نطلب؛ لأننا ما ذقنا حلاوة الإيمان، فإننا مخدرون، تجدنا نبصر ونتحرك، ولكن لا نشعر.وفتح الله علينا في ضرب مثل لعلكم تذكرونه، وأنا أتكلم عن نفسي: أرأيتم قبة زجاجية -والآن يصنعونها كمكان لبيع الدخان وبيع المشروبات- ونحن داخل تلك القبة نشاهد من يمرض، فنراه كما هو يضحك ويبكي ولكن لا نحس بشيء، ولا نسمع صوتاً، ولا نحس بحركة.فهذا الشخص في القبة الزجاجية يشاهد كل شيء، لكن لا يحس، ولا يسمع، ولا يشم رائحة، فهو محجوب بالزجاج، ونحن أشبه بهذا، نعم مؤمنون مسلمون، ونقرأ كتاب الله، ولكننا لا نحس ولا نشعر، ولا نبكي ولا نتألم، ولا نفرح عند آية، ولا نحزن، صح هذا أو لا؟فهذا هو الواقع ولا نخفيه، إلا من فتح الله عليه نافذة، وقد قلت لكم غير ما مرة: أحياناً في العام .. في العامين ينفتح ذلك الزجاج لحظة، تجد أحداً يبكي، يرتعد، لا يشعر بما حوله أبداً، وينتفض، ولا يشعر بمن حوله، يصلي أو يقرأ أو يتلو، كأن العالم كاملاً انفصل عنه، وهذه نادرة.والمفروض فينا أن تكون هذه حالنا دائماً، فإذا تلونا كتاب الله أو وقفنا بين يدي الله نناجيه، ونتكلم معه ونطرح حوائجنا بين يديه مستغفرين سائلين، ينبغي أن نكون هكذا، كأننا لا نشعر بالوجود حولنا، وهؤلاء في صلاتهم خاشعون، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]. ونحن نتكلم مع الله ونناجيه في الصلاة وبالنا مشغول: القدر ماذا فيه؟ والسوق ماذا فيه؟يقول المصلي: الله أكبر.. بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2] فنقرأ والقلوب هناك. فكيف تتكلم مع الله وتعرض عنه ويبقى وجهك أمامه؟!ولو تحدثت مع ذي قدرة ومال عن قضاء حوائجك، تريد أن تسأله ما تريد، فتسلم عليه: السلام عليكم فلان. ثم تبدأ الحديث معه وأنت ذاهل عنه، مشغول ببيتك وسوقك أو كذا، لاندهش قائلاً: ماذا هناك؟ ما له؟ انتبه!فيخاطبك ما لك؟ أين أنت غائب؟فهل نطلب هذا الهدى إن شاء الله؟وأعظم باب جربناه هو أن تعلم وتُعلم نفسك أنك بين يدي الله، والله إنك لبين يديه، وإنه لنصب وجهه لك، ويسمع منك كلماتك، ويرى موقفك.. فإذا ذكرت هذا استحيت أن تتركه، أو تلتفت أو تعبث، لكن كونك لا تذكر هذا فهذا هو البلاء.وقد سأل جبريل عليه السلام رسولنا صلى الله عليه وسلم: ما الإحسان؟ فقال: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) فأنت بين حالين: إما أن تشعر أنك بين يدي الله كأنك تنظر إليه، فلا تستطيع أن تلتفت ولا أن تغفل، ولا أن تعرض عن كلامه أبداً، وأقل شيء أن تعلم أنك بين يديه، وهو يراك، ويرى حركاتك وسكناتك، ويسمع كلماتك، ويعرف دقات قلبك، وما يجري في نفسك.فإذا علمت نفسك هذا لا تستطيع أن تعرض عن الله حتى تفرغ من عبادتك وتقول: السلام عليكم. ثم بع واشتر.آه لو ربينا على هذا.إذاً قول ربنا جل جلاله وعظم سلطانه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121] أعطيناهم التوراة أو القرآن، الذين يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121]، فحق التلاوة تعني التجويد والتغني، ولا بد كذلك من تدبره وتفهم معانيه، وتوطين النفس على العمل بما فيه، فإن كان أمراً نهضت به، وإن كان نهياً تركت وتخليت عما نهاك عنه.

خسران من يكفر بالقرآن الكريم

قال: أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ [البقرة:121] أي: بالقرآن .. بالكتاب فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:121] هذا خبر عظيم، والله لا يعجز أن يعاقب، أن يخسر الشيء تخسيراً كاملاً، فالذين لا يؤمنون بالقرآن أنه كلام الله ووحيه، وحامل شرائعه، وأن فيه الهدى والنور، ولم يعمل بما فيه.. والله لهو الخاسر خسراناً كاملاً.ودائماً نقول: لا تفهم من الخسران أنه خسران الدنيا: فقد وظيفته أو خسر البضاعة كلها أو ضاع ما كان عنده أو خسر امرأته وماتت أو خسر ولده ومات! فهذا الخسران: خسران الدينار، والدرهم، والشاة، والبعير، لا يعتبر خسراناً عند الله.لكن ما هو الخسران الحق؟اسمع الله يبين من سورتي الزمر وحم، يقول تعالى: قُلْ [الزمر:15] يا رسولنا، قل أيها المبلغ عنا، قل إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] من هم؟ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] أَلا [الزمر:15] انتبهوا، اسمعوا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] فتجد نفسك في عالم كله بلاء، وعذاب، وشقاء، ولا تجد امرأة، ولا ولداً، ولا أخاً قريباً، ولا بعيداً، فأنت وحدك في وحشتك .. في غربتك .. في بعدك، تتلقى العذاب في كل لحظة وساعة، فلا يُفتّر أبداً وتشتكي، وتطالب التخفيف، فلا يأتي الجواب إلا بعد ألف عام.وهناك سورة أخرى فيها أنه يوضع أحدهم في صندوق من حديد، ويغلق عليه، ويسمر بالمسامير، ويلقى في ذلك العالم آلاف السنين، والله لا يأكل، والجوع يمزقه، والله لا يشرب، والظمأ يقتله، والله لا يتكلم، ولا يسمع كلاماً في ذلك الصندوق آلاف السنين، لا إله إلا الله، صم، بكم، عمي.. هكذا. فقالوا للرسول: كيف يمشون على وجوههم ويسحبون في النار على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم يستطيع أن يمشيهم على وجوههم.أما رأيتم الأفعى تزحف على وجهها؟ والله إنهم ليمشون على وجوههم، والآية من سورة بني إسرائيل: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97].فقوله: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ على أرجلهم؟ لا عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء:97] فلا يبصرون، ولا ينطقون، ولا يسمعون، وهم على وجوههم، قالوا: يا رسول الله! كيف يمشون على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم يمشيهم على وجوههم، والله لكما تسمعون.هؤلاء الذين لا يؤمنون .. الكفار بالقرآن، وما جاء به بالرسول، وما يدعو إليه، فما اغتسلوا من جنابة، ولا صاموا يوماً لله، ولا صلوا ركعة، ولا قالوا معروفاً، وماتوا على فسقهم وضلالهم .. والله لهذا جزاؤهم وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء:97] لا ينطقون، ولا يبصرون، ولا يسمعون.إذاً: هذا خبر عظيم الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ ما الخبر؟ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:121] يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)

مناداة الله لبني إسرائيل

قال تعالى وقوله الحق: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:122] يا أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم!واليهود وقت نزل هذا القرآن هم الذين كانوا مع رسول الله في المدينة من القبائل أو الطوائف الثلاث: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، لكن قال: بني إسرائيل؛ لأنهم -والله- أولاد إسرائيل وأحفاده إلى اليوم.وسبحان الله! فقد علمتم أنهم لا يسمحون لأحد أن يدخل في دينهم، ولا يزوجون نساءهم إلا لأبنائهم وإخوانهم، وإذا حصل أن زوجوا مسيحياً أو بوذياً فلغرض محدود، ثم يحتالون ويطلقون أو يقتلونها أو يقتلوه فاحتفظوا بأصالتهم .. بعرقهم، ويكفيك أن الله يناديهم بهذا الاسم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فلولا علمه بأنهم من أولاد إسرائيل ما ناداهم بهذا.واليهود في اليمن .. في الشام .. في مصر .. في فلسطين .. في المغرب ما كانوا يزوجون بناتهم للمسلمين، ولا يزوجونهن للنصارى ولا يعطونهم، وذلك للحفاظ على هذه الأصالة؛ لأنهم يحلمون بأن يعيدوا مملكة إسرائيل من النيل إلى الفرات، وقد مشوا خطوات شاسعة في هذا الشأن، وقد رأيتم كيف أذلنا الله لهم، وأصبحوا فوقنا يعتزون، ويصولون، ويجولون، مع أنهم عرق مصاب بمرض الذل والمسكنة، إلا أن الله عز وجل ليؤدب المسلمين علهم يفيقون .. علهم يصحون .. علهم يرجعون، فأراهم أعظم آية لم تعرف الدنيا آية أعظم منها، فألف مليون مسلم من أهل لا إله إلا الله يذلهم خمسة ملايين يهودي، ولو تتحدث بهذا مع من يأتي من أجيال سيقول: هذا مستحيل! كيف يمكن أن ألف مليون يقهرهم ويذلهم خمسة ملايين، كالذي يقول: خمسة آلاف رجل فحل أذلهم خمسة رجال، أهناك من يصدق هذا!ولكن أراد الله آية أخرى، فثلاثة آلاف مؤمن رباني هزموا واستطاعوا أن يتخلصوا من مائتي ألف مقاتل، وذلك في غزوة مؤتة، فقد كان عدد المؤمنين ثلاثة آلاف، وكان عدد الروم مائتا ألف.فهيا يا مسلمون نتوب إلى الله.قالوا: لا نستطيع.أقول: أما تستطيعون أن تتوبوا؟ وهل إذا تركتم الربا، والزنا، والغش، والخداع، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة تصابون بالمرض .. بالفقر؟ بأي شيء يصيبكم؟ لا أدري.هيا نحاول أن نقبل -فقط- على الله، فنجتمع ونبكي بين يديه من المغرب إلى العشاء في كل بيوت الله، ولا يتخلف مؤمن ولا مؤمنة إلا ذو عذر لا يتمكن من الحضور، ونجرب عاماً .. عامين .. ثلاثة فقط، وننظر كيف أن الله سيذل لنا الجبابرة، ويرغم أنوفهم، فلا يمكن أن توالي الله ثم يخزيك ويذلك ويهينك! حاشا لله وكلا.والشاهد عندنا في بني إسرائيل أنهم أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل، ومعنى إسرائيل عبد الله أو عبد الرحمن.

تذكير بني إسرائيل بنعمة الله عليهم

يقول الله تعالى لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا [البقرة:122] فلا تنسوا اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:122] والله هذه الآية الآن لا تليق باليهود، إنما تليق بنا نحن فقط، وذكر النعمة يدفع إلى شكرها، فهو ما أمرهم بالشكر، وما قال: يا بني إسرائيل اشكروا، إنما قال: اذكروا أولاً. فاذكروا أول نعمة أنعم الله بها عليكم، فإذا ذكرتموها دمتم بين يدي الله تشكرونه بالركوع والسجود، والصبر والصلاة، والجهاد والإنفاق، فتلطفوا في هذه وتأملوها.

الفائدة من ذكر النعمة

قوله: (( اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ )) ما الفائدة من ذكر النعمة؟من أجل أن نشكر؛ لأن الذي ينكر النعمة ولا يذكر -والله- لا يشكرها، لكن لما تذكر طبق التمر بين يديك والخبز اللين وأنت تأكل ستقول: الحمد لله.لكن إذا كنت لا تذكر من أين هذا الخبز؟ من أين هذا الرطب؟ كيف هذا الماء؟ كيف أنا جالس؟ فإنك والله لا تعرف الحمد والشكر لله أبداً.كذلك لما ترى قوتك البدنية تظهر، فتنتشل -مثلاً- القنطار، وتحمل الأشد، وتذكر حينئذ أن الذي أعطاك هذه القوة هو الله، وهو يريد منك فقط أن تشكره وتحمده.وهذه المعاني والتأملات لو نقف عندها عشرة أيام، فهذه بيت القصيد.

المسلمون أولى بالخطاب من بني إسرائيل في التذكير بالنعم

أنا قلت الآن: هذا لا يليق مع بني إسرائيل فقد انتهى أمرهم، فهذا الخطاب لنا نحن؛ لأن هذا الكتاب كتاب هداية وإصلاح إلى يوم القيامة، والبشرية كلها خلق الله وعبيده، فأمة الإسلام لو ذكرت ما أنعم الله به عليها من نعمة الإيمان والإسلام، وكيف أن الأمم الكافرة هائجة مائجة، تعيش في الظلام والخبث، ونحن أهل النور والهداية الإلهية، ولو نذكر هذا ما فرطنا في فريضة، ولا قصرنا في أداء واجب، ولا غشينا محرماً أو مكروهاً إلا إذا استغفلنا العدو ورمى الشيطان بنا في ساعة، ثم نستفيق ونصرخ مستغفرين تائبين إلى الله.وهناك نعمة قريبة على المسلمين، فقد كانوا مستعمرين مستذلين، يتحكم فيهم الشرق والغرب؛ من بريطانيا إلى هولندا .. إلى إيطاليا .. إلى فرنسا.أما كنتم كذلك أيها المسلمون فحرركم الله! وكان عليكم أن تشكروه، ومن ذلك أن تقيموا الصلاة فقط ليرى الله عز وجل شكركم، فلا يتركها عسكري، ولا شرطي، ولا مسئول، ولا غني، ولا فقير، فإذا قيل: حي على الصلاة، أقبلت الأمة زرافات ووحداناً إلى بيوت الرب؛ تشكره عشر دقائق أو ربع ساعة ثم تنطلق إلى عملها.لكنهم قالوا: لا نستطيع.أسألكم بالله، أنا أريد أن أعرف: هل أقيمت الصلاة إجبارية في أي بلد غير هذا البلد، في سوريا .. في العراق .. في مصر .. في المغرب .. في باكستان؟ والله ما كان، وأنا أسأل وحيران، أما خلقنا لها؟ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].والله لو أقيمت الصلاة في أي إقليم إسلامي لتجلت أنوار الرحمة، ومحاسن الكمال الإسلامي، وقل الخبث والظلم والشر والفساد، ولا آلمهم فقر ولا جوع -أبداً- وهم مع الله.لكن ما أقيمت الصلاة، وكأنهم تعمدوا ألا تقام، ولعل هناك سحراً يهودياً، فما يدرينا.

ثمرات إقامة الصلاة

نحن إذا أقمنا الصلاة فإن كثيراً من الأمور ستحصل:أولاً: كل خبث وظلم وشر وفساد ينتهي، وإياك أن تفهم أن عبداً يقف بين يدي الله زاكياً، واعياً، بصيراً، يناجي ربه، ويتكلم معه، ويطرح حاجته بين يديه، ثم يخرج يفسق! والله ما كان، فكل ما تشكوه في العالم الإسلامي من الخبث، والسرقة، والجرائم، وشهادة الزور، والكذب، والخيانة، وعدم الرحمة مرده إلى أنهم ما أقاموا الصلاة؛ لأن الله العليم الحكيم يقول: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45] أي: أيها المسلمون! اقرءوا القرآن في بيوتكم، وفي بيوت ربكم، فيزداد إيمانكم، ومعارفكم، وعلومكم، وتسمون، وترتفعون، ثم قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فلن يستطيع بوليس، ولا شرطة، ولا ساحر، ولا غشاش، ولا .. أن يقوم اعوجاج الشعب أو الأمة في القرية أو المدينة كما تقوم الصلاة.ودائماً نقول: تفضلوا وادخلوا أي مكتب من مكاتب الشرط والمسئولين من المحافظات و.. و.. واسألوهم عن عدد الجرائم في هذا الأسبوع؟ قالوا: والله سجلنا مائة جريمة، بعضها سرقة، وبعضها سب وشتم، وبعضها كذا، وبعضها كذا .. نقول: اسمعوا، إن وجدتم من بين المائة أكثر من خمسة من مقيمي الصلاة اذبحوني، وأنا أقول هذا دائماً، وهناك (95) من تاركي الصلاة، والمصلون العابدون بصدق ما عرفوا إقامة الصلاة، تجده يقف بين يدي الله وهو مشغول عن الله، وصارت الصلاة كالعادة فإذا قال: السلام عليكم خرج يدخن عند باب المسجد.وكم صحنا وبكينا أكثر من أربعين سنة، فهل تحرك إقليم واحد وقال: نقيم الصلاة؟ والله ما كان؛ وفقط إقليم واحد.وهذه الدولة المباركة يعمل ليل نهار على إحباطها وإفسادها وتخريبها متعاونون عليها والعياذ بالله، حتى مع الكفار، والله لولا أنهم بنوها على إقام الصلاة ما شاهدوا فيها نوراً ولا كان فيها خير، لكن رحمة الله على مؤسسها عبد العزيز فقد أقامها على ما أراد الله أن تقام عليه الدولة الإسلامية، وذلك من خلال بعض آية فقط: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] فهذه أربع دعامات.فإقام الصلاة أن لا يبقى عسكري، ولا مدني، ولا رجل، ولا امرأة يعيش في ديار الإسلام وهو لا يصلي، فإن شاهدت قريبك أو جارك لا يصلي، فاتصل بالهيئة يأخذوه ويؤدبوه أو يحبسوه حتى يصلي.أما إيتاء الزكاة فهي فريضة الله، ولا بد من رجال مهمتهم أن يجبوا هذه الصدقة من أجل إقامة الدولة.أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتقام هيئات في كل قرية .. في كل مدينة .. في كل حي يأمرون بالخير وينهون عن الشر.لكن ما المانع من إقامة كل هذا؟! فما استطاع إقليم واحد من المسلمين أن يفعل هذا، كأنهم ضد الله، ولا يؤمنون بكلام الله، وهم ليسوا في حاجة إلى القرآن.ثم ماذا جنى المسلمون من استقلالاتهم؟ فازوا؟ كملوا؟ سعدوا؟ نموا؟ تربوا؟سلوهم، وسلوني أخبركم، إنها -والله- محن وبلايا ورزايا، أمرّ مما كانوا عليه أيام الاستعمار.وما أفقنا إلى الآن، ومتى نفيق؟ابدءوا فقط بإقامة الصلاة، وما قلنا لكم افعلوا شيئاً آخر، وإنما أقيموا الصلاة ينفتح باب الهبة والرحمة للمؤمنين والمؤمنات. وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-11, 05:59 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (80)
الحلقة (87)



تفسير سورة البقرة (5)


أخبر الله تعالى أن من صفات المنافقين أنهم إذا لقوا المؤمنين أظهروا الإيمان، فإذا ما ذهبوا إلى رفقائهم وأسيادهم ولاموهم كان جواب المنافقين أنهم ما يزالون باقين على كفرهم، وأنهم ما قالوا ذلك إلا استهزاء بالمؤمنين، وسخرية بالمسلمين، فكان أن جازاهم الله بالمثل، فالله يستهزئ بهم ويزيدهم حسب سنته أن السيئة تلد سيئة، فهؤلاء قد استبدلوا الكفر بالإيمان، فما ربحوا دنيا ولا أخرى.

القرآن نور ومنهج حياة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن ليلتنا هذه ليلة القرآن العظيم، ليلة الروح الإلهي والنور الرباني، وذلكم أن القرآن روح، ولا حياة بدون روح، وأن القرآن نور، ولا هداية بدون نور، والله كما تسمعون.قال تعالى في كون القرآن روحاً به تتم الحياة: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]. وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8].وها نحن نشاهد الواقع، فالبشرية في الشرق أو الغرب إذا لم تقبل على هذا الإسلام، وتأخذ كتابه وتقرؤه وتفهم ما يحمله، وتعمل بما فيه، والله ما سعدت ولا كملت، وحياتها حياة البهائم، ولا فرق بينها وبين البهائم، بل هي شر، واقرءوا قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] والبرية الخليقة، بمعنى: المخلوقة. من شر الخليقة؟ القردة، الخنازير، الكلاب، الذئاب، السباع، القطط؟ لا لا، هم الذين كفروا بربهم، وأعرضوا عن ذكره وكتابه.ومن أراد أن يستقصي الخبر: أيخلقك، ويرزقك، ويهبك حياتك ثم تنكره وتكفر به، وتتعمد الفسق والفجور والعصيان عن أمره؟ هذا ينبغي أن يطحن طحناً، فأولئك الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15].فمن هنا وهب الله تعالى هذه الأمة القرآن الكريم الروح؛ الإلهي والنور الرباني، واحتال عليها خصومها وأعداؤها من أهل الشرك والكفر فزحزحوها وأبعدوها وتركوها تعيش في أغلب أحوالها كما يعيشون، بل بلغ بنا السحر والكيد والمكر حتى أصبحنا نتعشق حياة الكافرين، ونتسابق إليها، وأرقانا من تشبه وأصبح مثلهم.أليس هذا واقعاً يا بني الإسلام؟ فكيف المخرج من هذه الفتنة؟ كيف نعود؟

المخرج من الفتنة

ليس هناك سحر، ولا طاقات، ولا قدرات، ولا ولا.. ليس هناك إلا أن نحقق إيماننا، أنت مؤمن؟ إي نعم مؤمن. صادق الإيمان؟ قال: نعم. إذاً فهيا بنا إلى مصدر قوتنا، وهيا بنا إلى الروح وإلى النور لنحيا ونهتدي إلى الكمال والإسعاد، فنأتي إلى بيت ربنا سواء كنا في رءوس الجبال أو في السفوح والوهاد، كنا في المدن أو القرى، في البادية أو الحاضرة، أردنا أن نقبل على الله ليقبل علينا فيكرمنا ويسعدنا، نجتمع بنسائنا وأطفالنا ومسئولينا في بيت ربنا كل ليلة من المغرب إلى العشاء، طول الحياة. الكفار، المشركون، المجوس، الدنيويون، إذا فرغوا من العمل ذهبوا إلى المراقص والمقاصف والملاهي والملاعب ودور الباطل يروحون عن أنفسهم كما يزعمون، ويخففون آلام النفس والتعب، وأين يذهب المسلمون؟ يجب أن يذهبوا إلى بيت ربهم، فيجتمعون ويتلقون الكتاب والحكمة؛ قال الله وقال رسوله، وما تمضي سنة ولا سنتان أو ثلاث إلا وقد تغير وضع المسلمين، وتغيرت نفسياتهم وآمالهم وأطماعهم واتجاهاتهم، وعادت كلها إلى اتجاه واحد: أن يرضى الله عز وجل ويكرمنا ويسعدنا، فلم يبق زنا، ولا خمر، ولا حشيشة، ولا كذب، ولا كبر، ولا رياء، ولا عجب، ولا نفاق، ولا تلصص، ولا خيانة، ولا ظلم، ولا اعتداء، فلا يبقى من هذا شيء، لأن العلاج قوي، فهو روح الله ونوره، وحينئذ تدين الدنيا كلها لنا، وتخضع بين أيدينا؛ لسمونا وارتفاعنا.والله! لو أن أهل إقليم أو بلد حققوا هذا المبدأ لكان يأتي الكفار ويشاهدون الأنوار ويسلمون بالمشاهدة، وخاصة في هذا الظرف العالمي الذي أصبح الصوت يسمعه كل إنسان، والمنظر يشاهده كل إنسان، وتطير من الشرق إلى الغرب، في يومك وقد طفت بالعالم، فلو يدخلون فقط على أهل قرية وهم زي واحد، سمت واحد، نظام واحد، طهر كامل، صفاء، إخاء، محبة، نظام وعمل لبهرتهم هذه الأفعال.يا شيخ! ما الدليل؟الدليل أنه في خمس وعشرين سنة فقط اتسعت رقعة العالم الإسلامي من وراء نهر السند إلى الأندلس، فهل أجبروا الناس بالحديد على الإسلام؟ لا والله، لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] ولا يوجد مسلم أسلم بالعصا والضرب والتجويع، والله ما كان.دخلوا في الإسلام لأنهم شاهدوا الربانية، وشاهدوا الأنوار تتلألأ، وشاهدوا الصفاء، الرحمة والإخاء، العدل والصدق، فانبهروا ودخلوا في الإسلام. وقد صح هذا، ولا يرده إلا مكابر معاند، نعم كانوا يتلصصون، يجرمون، يسرقون، يكذبون، يتكبرون و.. لكنهم شاهدوا العدل، الرحمة، الإخاء، الطهر، الصفاء، ومن يرفض هذا؟

الدعوة في البلاد غير الإسلامية

بالمناسبة دعنا نقل: بكينا مرات، ومسحنا دموعنا وسكتنا وقلنا: لا تبك، أمة هابطة، من يرفعها سوى الله. وقلنا: هذه الجاليات الموجودة في قارة أمريكا، قارة أوروبا، في اليابان، في الصين، في كل مكان. هذه الجاليات لو نظمت لهم لجنة عليا عالمية إسلامية، وجمعت لهم الدينار والدرهم من المسلمين، ضريبة الإسلام علي وعليك، كل يوم ريال، وكانت ميزانية، ثم وضعت خارطة لتلك الجاليات: هنا مسجد، هنا مدرسة، هنا جماعة من المسلمين، هنا كذا.. ثم قدم لهم أئمة هدى ودعاة نور على حساب اللجنة، وأعطوا كتاباً واحداً لا مذهبية، ولا طرقية، ولا انتظام في حال من الأحوال، مسلم فقط، وأخذت تلك الجاليات تلتئم وتتجمع، والنور يغمرها، فلم يبق هرج ولا مرج، ولا شر ولا فساد ولا باطل، فما تمضي عليهم خمس وعشرون سنة وهم في تلك الأنوار إلا وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً وجماعات.ما المانع من هذا؟ من الذي يمكن أن يقوم بهذا؟رابطة العالم الإسلامي تصدق وتزور العالم الإسلامي، وتكون هذه الجماعة، وتوحد الإمام الداعي والكتاب الذي يدرس، وما تمضي فترة إلا والنصارى بالذات يدخلون في دين الله.ومن قال: كيف؟ نقول: الآن دخل من النصارى مئات الآلاف، مع أن الدعوة ليست بشيء، وإذا شاهدونا يضحكون: مسلم يسرق، مسلم يشرب الخمر، مسلم يفجر ويزني، مسلم معلق صليب، كيف هذا الإسلام؟!وقد فتح الله تلك البلاد فبدل ما نغزو وترسوا بواخرنا الحربية في الموانئ وندخل قال: لا .. لا، البلاد مفتوحة، ادخلوا. لكن كتب الله هذا الهبوط، لم ما يكون هذا؟ أليس واجباً على المسلمين أن يدخلوا الكفار في دين الله؟! من ينقذهم؟ من يهديهم؟ من المسئول؟ المسلمون، القرآن في أيديهم أو لا؟ إذاً هم المسئولون.لو كان لا بد من سلاح وقتال نقول: حتى نتجمع، وحتى نقوى، وحتى.. أما الآن لا، بالمال فقط، والكلمة الطيبة وتحكيم الكتاب والسنة، وإذا بالإسلام ينمو، ومع هذا فيه نماء، من كان يحلم أن فرنسا يوجد فيها ثلاثمائة مسجد؟! من كان يحلم أن بريطانيا عدوة الإسلام الأولى يوجد فيها مئات المساجد؟! وعلى هذا فقس. سمعتم هذه؟ بلغوها، قالوا: لا نستطيع.إذاً نعود إلى النواة الأولى كتاب (المسجد وبيت المسلم) فهيا يا علماء، ويا بصراء، ويا طلاب العلم، كل واحد يجمع كل أهل قرية في جامعها ومسجدها ويأخذ في تربيتها وتطهيرها، غاضاً الطرف عن الخلافات والصراعات والحزبية والجماعات، بل إخوة مؤمنون مسلمون في بيت الله، فتستنير تلك القرية ويستنير ذلك البلد، شيئاً فشيئاً وإذا النور يغمرها، أو ننتظر ماذا؟ عيسى عليه السلام! إذا نزل ابن مريم انتهى الإسلام وغير الإسلام، المسلم مسلم، والكافر كافر، فهو آية من آيات قرب الساعة.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

باسم الله! ما زال السياق الكريم في بيان عورات المنافقين، والصواب: في علاج مرض المنافقين، رجاء أن يشفوا ويبرءوا من سقمهم، ويدخلوا في رحمة ربهم.

صنف المؤمنين المتقين

أشير إلى ما سبق وهو: أن الآيات التي ندرسها صنفت البشرية ثلاثة أصناف: مؤمنون متقون، وهم المفلحون، وانظر إليهم وهم متمكنون من هداية الله، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:5]. وهل الذي متمكن من هداية الله يسرق، يحسد، يبغض، يغتاب وينمم، يفجر ويقتل؟! كيف الهداية هذه؟ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ، هؤلاء هم المفلحون، سواء كانوا من البيض أو الصفر أو الحمر، العجم أو العرب، بل حتى من الجن. الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى [البقرة:1-2] لمن؟ لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] من هم؟ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:3-4] فدخل اليهود والنصارى أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] هؤلاء أسلموا لله القلوب والوجوه، منهم الكافر واليهودي، والنصراني، والعرب، والعجم. هذا صنف السعداء.

صنف الكفار

هناك صنف آخر قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] لم؟ لأنهم توغلوا في الكفر، وضربوا في الفساد والشر، فطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون ولا يفقهون، وبين تعالى العلة فقال: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] فلا يدخلها إيمان ولا نور القرآن ولا حكمة محمد صلى الله عليه وسلم، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فما يسمعون أبداً، يدخلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا الأذان. وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] غطاء أسود فما يشاهدون آية من آيات الله، وهؤلاء لا يؤمنون، وهم أصحاب النار، وأهل الجحيم والخسران.أما الكافرون الذين ما انتهوا إلى هذا المستوى فهم الذين يدخلون في رحمة الله، ويسلمون قبل أن يأتي الطبع والختم.

صنف المنافقين

الصنف الثالث: هم المنافقون، قال تعالى فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]. وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8] ناس عرفهم الله، ناس من أسوأ الناس يقولون: آمنا بالله وباليوم الآخر، وقد عرفتم أن ركيزة الإيمان التي بها يقوى العبد على أن يفعل ويترك هو تحقيق الإيمان بالله وبلقاء الله. أما الإيمان بالرسالة، بالقدر، بالكتب، فأمرها أهون. لكن الإيمان بالله رباً وإلهاً لا إله غيره، يعلم ظاهرك وباطنك، بيده أمرك، حياتك .. مماتك، سعادتك .. شقاؤك، إن شاء أخذ أنفاسك وأماتك، وإن شاء أبقاك وأحياك، والذي لا يملك معه كائن ذرة بالكون. هذا الإيمان بالله، ثم الإيمان بلقائه وجهاً لوجه في ساحة فصل القضاء. ويؤمن بالدار الآخرة، وما يتم ويجري فيها من حساب دقيق وجزاء عظيم، إما نعيم مقيم، وإما جحيم وعذاب أليم. وهذا الإيمان إذا ضعف في النفس ما يستطيع صاحبه حتى يبصق في المزبلة.وهنا نذكر هذه الحقيقة: قوِ يا عبد الله إيمانك بربك، وتعرف إليه، واسأل عنه، وتصفح كتابه، واسمع ما يقول القرآن في صفاته، حتى تكتسب نوراً عظيماً يتولد منه حبك لله وخوفك من الله، فمتى أصبح الآدمي يحب الله أكثر من حبه لنفسه وماله وولده والناس أجمعين، وأصبح يرهبه ويخافه، أصبح يستطيع أن يغض بصره، ويستطيع أن ينطق بالكلمة الطيبة دون الخبيثة، يستطيع أن يموت جوعاً ولا يمد يده، يستطيع أن يعيش أربعين سنة عزباً، ولا يفكر في زنا ولا باطل.قوة الإيمان: حب الله والخوف منه.والإيمان بيوم القيامة وما يجري فيه إذا نماه العبد، وزاده بالنظر في الملكوت، بالنظر في الكتاب، بسماع كلام الله، صير صاحبه وجعله لا يدخل إلى بيته قشة أو إبره وهي حرام أبداً، وما يستطيع أن يسب مؤمناً أو يشتمه فضلاً على أن يذبحه ويمزق بطونه.فالإيمان بالله وباليوم الآخر هو الركن الركين في أركان الإيمان الستة.قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فما استقر هذا الإيمان في قلوبهم، ولا صدقوا الرسول، ولا كتابه، ولا آمنوا. إذاً: كيف؟ قال: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] هؤلاء هم المنافقون.كان المنافقون على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، أما مكة فلم يكن فيها نفاق، والمدينة كان فيها يهود، وفيها عرب مشركون قلوبهم ميتة، وضمائرهم ممزقة، يحبون الدنيا، ويحبون المال والسلطان، فلما وجدوا نور الإسلام غشى البلاد وغطاها أظهروا الإيمان فقط بألسنتهم، أما قلوبهم فليس فيها ذرة من إيمان، فينافقون ويقولون: نحن مؤمنون.كان عبد الله بن أبي يدخل الروضة ويعلن: والله إنك لرسول الله. حتى يزيل التهم عن نفسه، والله يقول: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المنافقون:1-2] أي: وقاية فقط، وهؤلاء عالجهم القرآن فأذهب تلك الأمراض من نفوسهم من يوم إلى آخر، ومن عام إلى آخر، وما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المدينة منافق، فانتهوا. هذا علاج أو لا؟ هذا هو القرآن، هذا هو الشفاء: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82].اسمع ما يقول عنهم؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:8-10] يعني: سرطان؟! مرض القلب هذا هو مرض حب الدنيا والشهوات والأطماع الكاذبة، مرض الشرك والكفر، وحب الباطل، وهذا أخطر من الأمراض العادية. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] نعم، سنة الله أنه إذا استشرى الداء ينتشر بالجسم، وما دام وجد المرض فكل يوم يزدادون مرضاً جديداً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] وفي قراءة: (يكذِّبون)، عرفتم العلة؟ بما كانوا يكذبون على الله ورسوله والمؤمنين بدعوى أنهم مؤمنون، وبما كانوا يكذبون في باطنهم لله ورسوله، فمنهم من يكذِّب ومنهم من يكذِب، والقرآن جمَّاع المعاني.

الادعاء الكاذب من صفات المنافقين

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] من يقول لهم: لا تفسدوا في الأرض؟ أي: لا ترتكبوا المعاصي. مؤمن وتشرب الخمر سراً؟! مؤمن وتغتاب أبا بكر وفلاناً وفلاناً؟! مؤمن وتؤخر الصلاة؟! ما لك! لا تفسد في الأرض، قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] لسنا بمفسدين، وفعلنا كذا وكذا من أجل الإصلاح، لأنهم يبيتون مع الزملاء، فيتآمرون على الحق ودعوته، وإذا قيل: لم هذا؟ يقول: نحن مصلحون، هذا من أجل الإصلاح. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12] هذا البيان ممن؟ من الله. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12] من هم المفسدون اليوم وغداً؟ هم الذين يعملون بمعاصي الله، والله العظيم لهم المفسدون، وما من نعمة تزول إلا بعصيانهم وفسقهم وفجورهم.فهمتم هذه أو لا؟!ولهذا نقول للمسلمين: يا عباد الله! لا ينجيكم من نقم الله وعذابه وسلب نعمه إلا أن تعتصموا بحبله، ما ترضى أبداً أن يكون في بيتك فاسق، ولا أن يكون جارك فاسق ولا مع فاسق، اعمل على تطهير القرية والحي والبلاد، وبهذا تستطيع أن تفرح بنعمة الله ولا تزول.فالذين يعملون بالمعاصي دعوني مع واحد منهم: أنا في حيرة، ما فهمت، هنا مقابل المسجد النبوي بيت متهشم، ما هو عمارة، فيه دش عرض وطول كذا، فما استسغنا أن يكون هذا أمام الرسول، أمام مسجده، في طريق المؤمنين، لم هو عامل ذلك الدش؟ ما بلغه أنه حرام! صدرت الفتيا من كبار العلماء، من أعلم أهل الأرض ولا فخر سماحة الشيخ عبد العزيز وقرأتموها أن الدش حرام، لم؟ لأنه يورث مفاسد عظاماً. فكتبنا له رسالة، وكلما مررنا الدش منصوب، قلنا له: أنت تتحدى رسول الله، كأنك تقول: رغم أنفك يا محمد! أنت كنت تغضب للصورة، أنا آتي بصور الكفار والعواهر في بيتي أمامك، فهل هذا يبقى له إيمان أو وجود؟ أنت يا محمد! تضطرب لما تشاهد الصورة لأن المصور يغاضب ربك عز وجل، وتقول لـعائشة : ( أخرجي، أبعدي عني هذه؛ فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، وأنت تتحدى رسول الله؛ لأنه ميت. تصورتم هذا أو لا؟إذا كان يستفيد ريالاً واحداً في اليوم نقول: معذور، فقير يأكل بالريال، والله ما يفيده ريال، لو كان يهذب أخلاقه وأخلاق بناته وامرأته وأولاده فيسمون ويرتقون، ويصبحون أصفياء نقول: نعم، ولكن -والله- ما يزيدهم إلا دماراً فقط.لعل الشيخ واهم! إن النظرة فقط تدخل على النفس أو على القلب ظلمة قد يهلك معها.إذاً: ما ندري لم؟ إلا إذا أراد الله أن يزيل هذه النعمة وأسبابها، فننتحر بأيدينا، فهم ما يحضرون الدروس، وما يطلبون العلم، ما يسألون، بهائم أو ماذا؟ نحن عشنا على مبدأ: لا يحل لمؤمن أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه. هل سأل أهل العلم؟ يقولون: لا بأس، كيف يقولون: لا بأس؟ ما هي النتيجة إلا أنه يترك الصلاة؟ ما هي النتيجة إلا أنه يحب الزنا والفجور؟ ما هي النتيجة إلا أن تصاب بيته بالخراب والدمار؟ كيف؟ إلا أنه يتحدى رسول الله، هذا الواقع.ما هي العلة؟ النفاق، إيمان صوري فقط، مؤمن .. مسلم، تعال نستعرض إيمانك على ضوء ونور الكتاب والسنة، وانظر أنت مؤمن أو لا؟إذاً: هذه الآية ما هي خاصة بتلك الجماعة على عهد الرسول، هذه آيات هداية للبشر إلى يوم القيامة، نماذج حية وباقية. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ [البقرة:11-13] فلان وفلان، أنت مؤمن؟ لم فلان ما يفعل كذا وكذا؟ آمن إيمانه. قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] هؤلاء رجعيون، متخلفون، متأخرون. منهم هذا الشيخ الذي يتمنطق ويتمشدق في المسجد النبوي، ويسمع له البهاليل، الأمم رقت وطارت في السماء وحلقت في كذا وهو يرجع بنا إلى الوراء، يقول: الصور حرام وكذا. والله لهذا منطقهم: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] ما السفيه؟ خفيف الإرادة، قليل العلم، الذي يتخبط في أودية الشر والفساد، ويظن أنه مترقي، ناجح، خفة العقل والحلم، وقلة العلم هي عناصر السفه.

تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ...)

ثم يقول الله تعالى عن المنافقين: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] فقط، هذه الحلقة موجودة الآن أيضاً ولا تنقطع، يبقى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:14] إذا جمعهم مجلس فيه مؤمنون قالوا: نحن مؤمنون، آمنا. وَإِذَا خَلَوْا إِلَى [البقرة:14] من؟ شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] من هؤلاء الشياطين؟ الشيطان إنسي أو جني، من بعد عن الخير وساحاته كلها، وانغمس في الشر بكله، سواء كان من الآدميين أو من الجن، مأخوذ من شطن الحبل في البئر إذا بعد، فكل من بعد عن الخير، وأصبح لا يميل إلى الخير، ولا يدعو إليه، ولا يفكر فيه، وأصبح همه الشر، والشر هو الذنوب والمعاصي والجرائم، فالذي يغتاب مؤمناً ويمزق عرضه هذا خير؟! الذي يفجر بامرأة أخيه وإلا بنته فيفسد عليها هذا خير؟!إذاً: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] الذين لا خير فيهم، ولا يفكرون في الخير، ولا يعملون على إيجاده، ولا على العيش فيه بل يكرهون رؤيته، هؤلاء إذا اجتمعوا معهم قالوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]. أنت كنت مع الجماعة الفلانيين؟ قال: نعم ولكن الظروف فقط، الظروف فقط وإلا نحن كما عهدتمونا على المبدأ ملتزمون، وإنما للظروف جلسنا معهم، قلنا مثل ما يقولون ونحن نسخر منهم، هل يقع هذا اليوم؟ والله ليقعن، لم؟ لأن القضية قضية إيمان وكفر فقط، فإذا ذهب الإيمان واضمحل أو ما آمن من أول ما عرف الإيمان، هل سأل عن الله أو عن لقائه؟ إذاً فالوضع هو هو. وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] أي: من الإنس لا من الجن، هل هناك شياطين الجن يعقدون اجتماعات؟ لا، هؤلاء إخوانهم في بيوتهم، وفي مجالسهم الخاصة، وفي البساتين، إذا خلوا إليهم أي: أفضوا إليهم، وما قال: خلوا بهم، بل ذهبوا إليهم فعدى بـ(إلى) قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].

تفسير قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)

ثم ماذا قال تعالى لهم؟ قال: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] يا ويلهم! يستهزئون بأولياء الله فيتركهم الله! وهو القائل: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) يستهزئون بأوليائه فيسكت؟ بل يعاملهم بالمثل، إلا أن استهزاء الله كما هي ذاته وصفاته، فلا نشبهه بصفات المحدثين وأخلاق الهابطين.قوله: وَيَمُدُّهُمْ [البقرة:15] أي: يغمسهم ويدفعهم في بحر الضلال والظلام. فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] العمه يكون للقلوب، والعمى يكون للعيون، وعمى القلب أخطر من عمى العين. وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ [البقرة:15] والطغيان هذا هو العصيان، وعدم الطاعة لله والرسول وللمؤمنين، هذا هو الطغيان، أي: مجاوزة حدهم، فبدل أن يؤمنوا ويستقيموا وينهجوا منهج الله كسائر المؤمنين يحتالون ويفكرون، ويعدون العدد، ويتصلون باليهود والنصارى في الشرق والغرب، فيدبرون المؤامرات.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)

ثم يقول تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:16] البعداء من ساحة الإيمان والمؤمنين أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] أعطوا الهدى، وتسلموا الضلالة. والهدى هو الإيمان بالله ولقائه، والاستقامة على منهجه، نهوضاً بالتكاليف، وابتعاداً عن المحرمات والمنهيات، هذا هو الهدى، لكنهم باعوه بالكفر -والعياذ بالله- وبغض الإيمان والمؤمنين، وحرب الإيمان والمؤمنين في الخلوات والجلوات. هل هذا البيع يصلح؟! هذه هي التجارة: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] أعوذ بالله! كالذي يشتري الموت بالحياة؛ يعطي الحياة ويأخذ الموت.قوله: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] هذا التعقيب فمن عقب؟ الله العليم الخبير، خالق كل شيء، ما ننطق حتى يأذن لي فأنطق، هذا الذي أخبر بهذا الخبر، هذا هو التوقيع الأخير.قوله: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] أو ربحت؟ والله لقد عاشوا على عهد الرسول في ذل وكرب، وهم وغم حتى أسلموا، والذين ماتوا على همهم ومصائبهم إلى جهنم، فلا يعرفون السعادة أبداً، لكن الآن الذي نأسف له أنه ما عندنا دعوة في قرانا ومجتمعاتنا تعالج أمراض المنافقين، أمراض العلمانيين، أمراض الشهوانيين. لا يوجد علاج! هذه هي المحنة.أيام كان الرسول موجوداً، والقرآن ينزل، والمؤمنون ينقلون هذا، تنزل آية ما تبيت إلا في كل بيت، عجب! ينزل خبر تجده في كل بيوت المدينة.فلهذا قلنا: ما في إلا كتاب (المسجد وبيت المسلم) سيقال: لعل الشيخ مصاب بشيء من الجنون؟! والله إني لعلى عقل كامل والحمد لله، ووالله لن يرتفع لهذه الأمة راية ولا شأن إلا إذا عادت من جديد إلى العلم بمعرفة الله، ومعرفة ما يحب، وما يكره، ونهضت بذلك. ما الطريق؟ المدارس والكليات! دلوني على بلد إسلامي ليس فيه مدارس وكليات، هل أجدت شيئاً؟ هل نفعت؟! فقط كل ما تقول: هي خير من لا شيء، لكن إذا أردنا أن يحبنا الله، وأن نكون أولياء الله وأن يرهب أعداءنا ويفزعهم بنا فهذا عندما نرجع الرجعة الحقة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.أهل القرية في المسجد بانتظام لا يتخلف أحد إلا إنسان مريض أو امرأة حائض أو نفساء، من المغرب إلى العشاء يتلقون الكتاب والحكمة؛ أنوار الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، عاماً أو عامين إلا والدنيا كلها أنوار، وينتهي الفقر والبلاء والمحائن والجرائم، وتنمحي، هذه سنة الله، القرآن روح أو لا؟ أحيوا. القرآن نور أو لا؟ اهتدوا. مَن مِن العلماء من يفكر هذا التفكير؟ وكلنا الأمر إليكم يا علماء، يا طلاب العلم! دلونا على قرية جمعتم أهلها فنزورها لله تعالى، ودلونا على بلد نسافر لنشاهد هذا النور، ونأتي بالكفار ليشاهدوه: انظروا إلى الإسلام كيف تتلألأ أنواره، انظروا إلى العدل، والصفاء، والرحمة، والطهور، والإخاء. قلتم: ما استطعنا. إيه، تكليف عظيم هذا! بدل أن تلهوا وتلعبوا بين المغرب والعشاء اجتمعوا في بيت الله، ابكوا فقط ولا تقرءوا، فقط البكاء والنحيب بين يدي الله حتى يرفع هذا البلاء. قالوا: ما نستطيع. إذاً ما الذي نستطيع؟ نرد الأمر إلى الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال: [شرح الكلمات: لَقُوا [البقرة:14] اللقاء والملاقاة المواجهة وجهاً لوجه. آمَنُوا [البقرة:14] الإيمان الشرعي: التصديق بالله وبكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، وأهله هم المؤمنون بحق. خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] الخلو بالشيء الانفراد به. شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] الشيطان: كل بعيد عن الخير قريب من الشر، يفسد ولا يصلح من إنسان أو جان، والمراد بهم هنا: رؤساؤهم في الشر والفساد.(مستهزئو ن) الاستهزاء: الاستخفاف والاستسخار بالمرء.(الطغيان): مجاوزة الحد في الأمر والإسراف فيه.(العمه): للقلب كالعمى للبصر، عدم الرؤية، وما ينتج عنه من الحيرة والضلال. اشْتَرَوُا [البقرة:16]: استبدلوا بالهدى الضلالة، أي: تركوا الإيمان وأخذوا الكفر. تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] التجارة: دفع رأس مال لشراء ما يربح إذا باعه. والمنافقون هنا دفعوا رأس مالهم وهو الإيمان لشراء الكفر آملين أن يربحوا عزاً وغنىً في الدنيا فخسروا ولم يربحوا، إذ ذلوا وعذبوا وافتقروا بكفرهم.(المهتدي): السالك سبيلاً قاصدة تصل به إلى ما يريده في أقرب وقت وبلا عناء، والضال خلاف المهتدي وهو السالك سبيلاً غير قاصدة، فلا تصل به إلى مراده حتى يهلك قبل الوصول والعياذ بالله].

معنى الآيات

قال: [معنى الآيات: ما زالت الآيات تخبر عن المنافقين وتصف أحوالهم، إذ أخبر تعالى عنهم في الآية الأولى (14) أنهم لنفاقهم وخبثهم إذا لقوا الذين آمنوا في مكان ما أخبروهم بأنهم مؤمنون بالله والرسول وما جاء به من الدين، وإذا انفردوا برؤسائهم في الفتنة والضلالة فلاموهم عما ادعوه من الإيمان قالوا لهم: إنا معكم على دينكم وما آمنا أبداً، وإنما أظهرنا الإيمان استهزاءً وسخرية بمحمد وأصحابه.كما أخبر في الآية الثانية (15) أنه تعالى يستهزئ بهم معاملة لهم بالمثل جزاءً وفاقاً، ويزيدهم حسب سنته في أن السيئة تلد سيئة في طغيانهم؛ لتزداد حيرتهم، واضطراب نفوسهم، وضلال عقولهم.كما أخبر في الآية (16) أن أولئك البعداء في الضلال قد استبدلوا الإيمان بالكفر، والإخلاص بالنفاق، فلذلك لا تربح تجارتهم، ولا يهتدون إلى سبيل ربح أو نجح بحال من الأحوال ].

هداية الآيات

قال: [من هداية الآيات: أولاً: التنديد بالمنافقين والتحذير من سلوكهم في ملاقاتهم هذا بوجه وهذا بوجه، وفي الحديث الشريف: ( شراركم ذو الوجهين ) ] يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، وإن شاء الله لا يكون بيننا واحد من هذا النوع.[ ثانياً: إن من الناس شياطين يدعون إلى الكفر والمعاصي، ويأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف ].موجودون هؤلاء. أعيد فأقول: من هداية الآية: إنها تخبر أن من الناس شياطين يدعون إلى الكفر والمعاصي، ويأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ينهون عن الصلاة، أبداً: كيف تغلق دكانك أنت وتصلي؟ أليس هذا نهياً عن المعروف؟ الذين يهربون الحشيش والمسكرات ويبيعونها في مدينة الرسول أليسوا هم؟ الذين يوردون الصور الخليعة ويبيعونها أليسوا هم؟قال: [ ثالثاً: بيان نقم الله وإنزالها بأعدائه عز وجل ] طال الزمان أو قصر.والله أسأل أن يعافينا، ويحفظ ديارنا من هذه المحنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-11, 06:11 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (81)
الحلقة (88)



تفسير سورة البقرة (50)


هناك يوم كثير منا لا يحسب حسابه، ولا يُعدّ له جوابه، إنه يوم الدين، يوم مقداره خمسون ألف سنة، يوم تجدب فيه عاطفة الأبوة والبنوة، ويغدو الذهب والفضة حطاماً بعد أن كان سوقاً رائجة، يوم يهرع فيه الناس يمنة ويسرة باحثين عن شفيع لهم، عن منقذ لهم من عذاب لم يكن يدور بخلدهم؛ لأنهم كانوا في حلم عميق، اسمه الدنيا، فمتى سنفيق؟!

تابع تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:122-123].

نعمة القرآن الكريم والعمل به

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!من قال: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:122]؟ والله إنه الله، فهذا كلامه، وهذا كتابه، وذاك رسوله، ونحن شهداء له على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فالحمد لله أن عندنا كلام الله، وقد حرمه الأبيض والأصفر، ونحن أكرمنا الله فأعطانا كلامه، فها نحن نتلو ونسمع، والحمد لله.وهذه نعمة الله، لنا سببها الإيمان، ولو أننا ما آمنا لكنا مبعدين .. ملعونين .. مطرودين .. محرومين، فلا نعرف الله ولا نعرف عنه شيئاً، كما هو مشاهد في (99%) من العالم أبيضه وأسوده، أما نحن فالحمد لله.ربنا .. خالقنا .. رازقنا .. خالق الكون .. مدبر حياتنا .. الذي رزقنا أسماعنا، وأبصارنا، وعقولنا، ينزل كتابه إلينا، وها نحن نتلوه، ونتدبره، ونفهم ما فيه، ونعمل بما فيه، فأي نعمة أجل وأعظم من هذه؟ لا نعمة.فهيا بنا ندرس هذه الآيات الثلاث.

نسب بني إسرائيل

يقول تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:122] من هم بنو إسرائيل؟ إنهم اليهود، وقال فيهم: بنو إسرائيل؛ لأنهم قطعاً من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ويعقوب عليه السلام يلقب بإسرائيل، كعبد الله وعبد الرحمن.وإسرائيل مضى عليه آلاف السنين، وهكذا أولاده، وأحفاده، وأحفاد أحفاد أحفاد أحفاد .. فهم سلسلة، وقد ماتوا، والذين بقوا أحياء على عهد نزول هذا الكتاب كانوا يسكنون هذه المدينة، فهو يخاطبهم تعالى بوصفهم سلسلة ما انقطعت من إسرائيل عليه السلام.وقد علمتم أنهم يحتفظون بأنسابهم، ويحتفظون بيهوديتهم البدعة الباطلة، فلا يفتحون باباً للتهويد كما فعل النصارى الذين فتحوا أبواباً للتنصير، ولا يريدون أن يدخل الناس في دينهم، وهم يعتقدون تلك الفرية الباطلة؛ أنهم شعب الله المختار، في حين أننا علمنا علماً يقينياً أن الله قد غضب عليهم ولعنهم، وما من مؤمن منا ولا مؤمنة إلا ويقرأ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]، فصراط غير المغضوب عليهم هم والله اليهود، فغضب الله عليهم.

أسباب غضب الله على بني إسرائيل

فإن قال قائل: هل لك -يا شيخ- أن تبين لنا أسباب غضب الله عليهم حتى نتقيها؛ لأننا نخشى أن يغضب الله علينا ويطردنا من رحمته؟ فبين لنا -يا شيخ- شيئاً مما استوجب غضب الله على اليهود حتى لعنهم وغضب عليهم؛ خشية أن نقع نحن في ذلك الإثم، وتلك المعاصي، فيغضب الجبار علينا ويلعننا؟الجواب: مما استوجب غضب الله تعالى على اليهود -بني عمنا- يا أولاد إسماعيل عليكم السلام، أنهم قتلوا الأنبياء والعلماء، ونحن ما قلتنا الأنبياء؛ لأنهم غير موجودين، ولو كانوا موجودين من يضمن أننا لا نقتلهم، وقد قتلنا العلماء؟!ثانياً: استوجبوا غضب الله؛ لأنهم أكلوا الربا، واستباحوه، وأشاعوه بينهم، ونشروه في العالم اليوم، فغضب الله عليهم؛ لأنهم تحدوه، وفسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، فاستباحوا الربا، وتعاملوا به، وأكلوه.وهل المسلمون اليوم سلموا من هذه؟الجواب: كلكم يعلم، وما يدرينا أن الله قد غضب، فما هناك وحي جديد أبداً، لكن الرسول والكتاب بيَّنا لنا موجبات الغضب، فالذي يتحدى الجبار، ويخرج عن أمره، ويفسق عن طاعته يغضب عليه.ومن موجبات غضب الله وسخطه أنهم يستبيحون المحرمات بفتاوى يفتونها، ويلصقونها بكتاب الله.وهل فعل المسلمون هذا؟نعم ألفوا كتباً بالقناطير .. بالأطنان، وحشوها كلها باطلاً ونسبوها إلى الله وإلى الإسلام، ففعلوا مثلما فعل اليهود.وعطل المسلمون شرائع الله، واستبدلوها بأهوائهم، وشهواتهم، وأطماعهم، فاستوجبوا غضب الله.وكذلك فعل المسلمون في الجملة فعطلوا شرع الله، وأوقفوه، وأبعدوه من ساحة القضاء والحكم، واستباحوا ما حرم الله، ومن يضمن أننا غير مغضوب علينا؟!

مظاهر غضب الله على بني إسرائيل

غضب الله على بني إسرائيل فسلط الله عليهم ضربتين قاسيتين:الأولى: على يد البابليين، فشردوهم ومزقوهم ونكلوا بهم، وبعد مرور القرون تراجع من تراجع، وتابوا إلى الله وأنابوا، فعادوا وقالوا لأحد أنبيائهم: عين لنا ملكاً نقاتل تحت رايته، ونسترد مجدنا، ونظامنا، ودولتنا، فاستجاب الله، وانتصر داود عليه السلام في تلك المعركة الخالدة، وما إن مات ذلك الحاكم حتى أصبح داود الحاكم والنبي المرسل، وتكونت دولة اتسع نطاقها على يد ولي عهده سليمان عليه السلام، فساد بنو إسرائيل العالم؛ الشرق والغرب، وكانت أنوار الإله، والأنبياء، والحكمة، والحكم، والكتاب تغمر الدنيا.ثم لما شبعوا وسكنت نفوسهم واطمئنوا ومات سليمان تمردوا على الله، وفسقوا عن أمره، ولبس نساؤهم الكعب العالي.فإن قال قائل: يا شيخ! لكن الكعب العالي وجد عندنا نحن أيضاً؟!هذا صحيح ولست أنا القائل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدثنا عنهم.ولبست المرأة الإسرائيلية الكعب العالي؛ لأنها قصيرة القامة فتريد أن تطول وترتفع، فيصنع لها حذاء كعبه طويل.وقد قال لي أحد الأبناء: يا شيخ! ليست القضية أن الكعب عال ومرتفع حتى تظهر للرجال، لا؛ ولكن القضية أنها إذا لبسته تتغنج، وتتكسر، وتتمايل لتفتن القلوب، وقد فعل نساء المؤمنين اليوم ما هو أفضع وأبشع، فانتهى الحياء إلا من رحم الله.ثم أصبح نساء بني إسرائيل يبعن ويشترين في البيع، فصدر الأمر بطردهن.قالت عائشة رضي الله عنها: قد يطرد نساء اليوم كما طرد نساء بني إسرائيل.فما إن فسق بنو إسرائيل -وفسق هذه الأمة اليوم ليس بأقل- حتى سلط الله عليهم الرومان، فأذاقوهم مر العذاب، وشتتوهم، ومزقوهم، ويدلك على تشتيتهم أنهم نزلوا بهذه الصحراء القفراء .. بهذه المدينة السبخة، هاربين من سطوة وسلطان الروم في الشمال.وفعل الله هذا ببني إسرائيل؛ لأنهم فسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، ولا أحسبهم أنهم كانوا أسوأ منا وأهبط منا أبداً. ومن هنا غضب الله عز وجل فسلط الكافرين على المسلمين.فإن قال قائل: أحقيقة هذا يا شيخ؟ هل الكفار أعداء الله وأولياء الشيطان يسلطهم الرحمن على المؤمنين؟!الجوا : إي والله، ولقد حكمونا في الشرق والغرب، في ممالك الهند العظيمة، وفي جزر جاوة، وفي الشرق الأوسط، وما نجا إلا هذه البقعة، وهذه آية من آيات الله فقط.إذاً: فعل الله بنا كما فعل ببني إسرائيل، فلسنا أفضل منهم، وأين يذهب بعقولنا؟!إن أولاد الأنبياء يناديهم الله بهذا النداء الثالث: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ يريد أن يسترجعهم .. يريد أن يردهم من تيهانهم ليكملوا ويسعدوا: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:122].إذاً: ما هناك فرق أبداً بيننا وبينهم إلا فرق واحد، وهو أنه يوجد بيننا مؤمنون ومؤمنات، أطهار، أصفياء، هم أهل الله وأولياؤه، وهؤلاء هم أهل دار السلام، وهم بقيت فيهم بقايا، لكن قليلة؛ لأن عددهم قليل، فهذا الفرق بيننا وبينهم اليوم.

المسلمون أولى بالموعظة من بني إسرائيل

قدمت هذه المقدمة؛ لأني سبق أن قلت لكم: نحن أولى بهذه الموعظة من بني إسرائيل، فإن بني إسرائيل لا وجود لهم معنا، ولو كانوا معنا لوجهنا إليهم هذا النداء الإلهي، لكن الله نجانا منهم، وطردهم من الحجاز والمملكة، ولو كنا قادرين على أن نبلغهم لبلغناهم، وذهبنا إلى ديارهم، لكننا عاجزون، فنحن الآن أحق بهذا النداء؛ لأن حالنا كحالهم.فيا أمة الإسلام! يا أهل القرآن! يا أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم! اذكروا نعمة الله عليكم، أن كنتم مشركين؛ وثنيين، يهوداً، نصارى، بوذا، صابئة، لا تعرفون الله ولا لقاءه، ولا تعرفون نوراً ولا هداية، فأنعم عليكم بأعظم نعمة؛ أن أنزل كتابه وبعث رسوله، وجمعكم على الإيمان والتقوى.

المراد من ذكر النعم

فإن قال قائل: هل المراد من الذكر أن نقول: إن الله أنعم علينا.. إن الله أنعم علينا .. إن الله أنعم علينا؟ هل هذا المقصود؟الجواب: المقصود: اذكروها بقلوبكم؛ لتشكروها بألسنتكم وجوارحكم.واذكرو النعمة من أجل أن تشكروا المنعم جل جلاله وعظم سلطانه، وهذا هو الطلب.واذكر النعمة لتشكر المنعم، فيزيدك، ولا يغضب عليك، ولا يسلبك ما أعطاك.ونحن أية نعمة نشكرها؟أخبرنا الله أن نعمه علينا لو أردنا إحصاءها والله ما قدرنا، ولا بالآلات العصرية، إذ قال عز وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].ومن هذه النعم التي أنعم الله بها علينا نعمة الإسلام بشرائعه، وقوانينه، وآدابه، لكننا تخلينا عنه، وتحللنا، وبعدنا، وما أصبح لنا هيكل ولا ذات، ولا شخصية، وعلى الأقل يقال: هؤلاء مسلمون، إلا من رحم الله، فكأننا ذبنا ذوباناً، فما أصبح للعالم الإسلامي ذات ولا شخصية.

نعم الله تستلزم الشكر

إذاً: المطالبة بذكر النعمة المقصود منها الشكر.لكن ما هو الشكر يا شيخ؟الشكر هو الاعتراف بالقلب، وفي قرارة نفسك، أن لا تنسى أن ما بك من نعمة فهي من الله، وابدأ بسمعك .. ببصرك .. بمنطقك .. بلسانك .. بيديك .. برجليك .. ببطنك.. بذاتك كلها، هو منعم بها عليك، فهل أنت خلقت نفسك؟ وهل أنت أوجدت سمعك وبصرك؟ وهل أنت أوجدت عقلك، وفهمك، وذوقك؟إذاً: هذه الحياة نعمة كاملة أهديتها، فاذكر هذا بقلبك، ثم احمد واشكر المنعم، ولا تنس قولك: الحمد لله في صباحك ومسائك .. في ليلك ونهارك .. في مرضك وصحتك .. في جوعك وشبعك .. وفي كل أحوالك .. فدائماً تقول: الحمد لله.ومن معاني الشكر أن تصرف النعمة فيما من أجلها أنعم الله بها عليك. وهيا بنا نبدأ بنعمة البصر، فهل أذن الله لك -يا عبد الله- أن تفتح عينيك وتبصر ما لا يحل لك؟أما بلغك قوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30].أما قال للمؤمنات بلغ يا رسولنا: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ َ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ [النور:31].. هذا الكلام جديد أم قديم؟ فيا رسولنا بلغ، فاللهم اشهد فإنه قد بلغ، وهذا كتاب الله بين أيدينا.وهل شكرنا نعمة البصر فغضضنا أبصارنا، وغض نساؤنا أبصارهن؟ قلنا: لا نطيع.أما نعمة اللسان، ولو تصفي حالنا، وتغربل وضعنا، وتستخرج أضغاننا، وأمراضنا، وأحقادنا، وباطلنا، وتشاهد ذلك يغمى عليك، في حين -اسمع وبلغ- يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، وهل طبقنا هذا الأمر؟أقول: لو تسجل أقاويلنا، وأحاديثنا، وهراؤنا سيملأ الكون، وإن شئتم انظروا إلى النقد، والطعن، والشتم، والسب، والانتقاد، والسخرية و.. و.. كأننا لسنا بالمؤمنين، أليس هذا الواقع؟ إنه لهو الواقع.واسمع إلى غيرك في المجالس واذكر شخصاً، فإذا الجالسون ينهالون عليه، وقل من يغلق أذنيه ويقول: لا تغتابوا، لا تذكروا كذا.فأين نعمة اللسان وهي من أجل النعم.لقد أعطيت هذا اللسان لتفصح عما أنت في حاجة إلى بيانه فيقول: أمي أعطني الماء .. أبي ناولني كذا .. فلان اربط كذا، وكل ذلك من أجل أن تخدم نفسك بلسانك، لا أنك تكفر به نعم الله.لعلي واهم؟ولو كنت واهماً لأشرت إلى وحدة المسلمين، وتحابهم، وتعانقهم، وتلاقيهم كأنهم جسم واحد، لكن انظروا إلى بلداننا: حكومات، أحزاب، منظمات، جمعيات، قبائل، طوائف، فهي تأكل بعضها بعضاً، فأين آثار طاعة الله عز وجل؟

نعمة الدين ووحدة المسلمين

قد قال تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون:52]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، وقال: ( المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يكذبه، ولا يقتله، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، عرضه، ماله ).وتبلغني عجائب عنا كمسلمين، فأقول: والله إن عذاباً يجري في بلاد العرب لا يوجد يوم القيامة .. إن عذاباً يجري في بلاد العرب -فضلاً عن العجم- في سفنهم لا يوجد في النار.إذاً نحن أولى بهذا النداء من اليهود.يا بني الإسلام! اذكروا نعمة الله عليكم. ماذا كنتم؟كنتم بهائم في الغابات ورءوس الجبال، لا تعرفون الله ولا الدار الآخرة، ولا إيمان، ولا إحسان، ولا إسلام، فأنعم الله عليكم بنعمة أعزكم على البشر، ورفعكم إلى مستوى لا يصل إليه إلا مثلكم، فلِمَ ننتكس، ونرجع إلى الوراء، ونغير مجرى حياتنا، ونصبح عرضة لغضب الله علينا؟!وقد أرانا الله آية، فاستعمار الشرق والغرب لنا آية، ونحن الآن تحت النظارة، والله العظيم، فالله بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14].والآن لا وجود لكلمة صحوة، بل سكارى، وكل يوم والعالم الإسلامي هابط، فإذا دقت الساعة وغضب الجبار فسوف ينزل بالموجودين بلاء أعظم مما سبق، فما صحوا، ولا استفاقوا، ولا رجعوا، والأيام تمضي، والخطايا والذنوب والخبث تعفن الجو والكون منه.

معنى قوله تعالى: (وأني فضلتكم على العالمين)

قال تعالى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:122]، والمراد من العالمين: عالَم زمانهم، والله لكانوا أفضل من العالم وسكان العالم.ونحن أعطينا هذا الخير، فيقول الله لنا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، هذا الخبر إلهي: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ نكرة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، بسبب إيماننا واستقامتنا على منهج الله، فلما فجرنا عن أمر الله وفسقنا عن طاعته اختلط أمرنا، وتحللنا، وتمزقنا، وفقدنا تلك الروحانيات، وأصبحنا عرضة لسخط الله.ولا تقولوا: هذا الشيخ يؤيسنا ويقنطنا.أقول: هذا كلام باطل فلا تذكروه، فما أيَّسنا أحداً ولا قنطناه.فيا عبد الله! ويا أمة الله! الزم باب الله، وأقم الصلاة، واذكر الله، وكف لسانك وبصرك، واذكر ربك، فلم يبق بينك وبين الجنة إلا أن تموت.وقوله: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ، ونحن فضلنا فقال: خير أمة أخرجت للناس ، وهي أفضل من قوله: فضلناكم على العالمين، أي: فضلناهم بالمآكل .. بالأنبياء .. بكذا، لكن نحن جعلنا خير الناس: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].أسألكم: باستثناء هذه المملكة التي نحاربها ليل نهار والعياذ بالله، وأعوذ بالله منا، هل وجدت هيئة تأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر في غير المملكة؟أجيبوا. لم؟ من منعنا؟فإن قال قائل: يا شيخ! نحن مستعمرون.أقول: لا، أيام الاستعمار ما قلنا هذا، ولكن قلنا هذا أيام الاستقلال والسيادة الوطنية، والحكومات ذات الوزارات المتعددة، فلم لا توجد هيئات في القرى والأحياء تأمر الغافل، وتذكر الناسي، وتعلم الجاهل.الجواب: لا نريد هذه، فهذه صفة الرجعيين!
تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ...)

معنى قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً)

قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [البقرة:123]، يا أمة الإسلام! اتقي يوماً عظيماً، صفه لنا: يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ، فلو يأتي أبوك، وهو رجل رباني صالح فيقول: أي رب! هذا ولدي، لا تدخله النار، فأنا قد عبدتك ثمانين سنة. فوالله لا يجزي عنك أبداً.ولو تأتي الأم فتقول: أي رب! عبدتك سبعين سنة وهذا ولدي أو هذه ابنتي تقاد إلى جهنم! فشفعني فيها يا رب، فوالله لا تقبل لها شفاعة.واسمع ما يقصه أبو القاسم صلى الله عليه وسلم في استعراض قد شاهده بأم عينيه: ( لما يحشر الله الخليقة لساحة فصل القضاء يقول إبراهيم عليه السلام: يا رب! لقد وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أخزى من هذا في هذا اليوم؟ فيقول له الجبار جل جلاله وعظم سلطانه: أي إبراهيم! انظر تحت قدميك -وفي الأصل أنه يبكي- فينظر فإذا والده آزر البابلي في صورة ضبع، بل في صورة ذكر الضباع، أقبح صورة وأبشعها، وهو ملطخ بالدماء والقيوح، فما إن يراه إبراهيم حتى يقول: سحقاً سحقاً سحقاً، فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون الجحيم، فتطيب نفس إبراهيم )، فهذا أبو الأنبياء .. هذا خليل الله .. هذا إبراهيم ما شفع في والده، ونحن نطمع.وأخبرنا أيضاً أبو القاسم صلى الله عليه وسلم عندما يوضع الميزان، فتوضع حسنات الأب فلا ترجح، وتبقى السيئات أرجح منها، فيأتي إلى بعض أولاده إن كان له أولاد: أي ولدي! إني .. وإني .. وأنا الآن في حاجة إلى حسنة ترجح بها كفة ميزاني، فيقول الولد: إيه يا أبتاه! أعلم أنك كنت خير الآباء لي، ولكن نفسي نفسي، وتأتي الأم تقول لولدها كذلك، ولا يستطيع أحد أن يعطي حسنة من حسناته؛ لما يعرف أنه إذا رجحت كفة السيئات هلك.

معنى قوله تعالى: (ولا يقبل منها عدل)

قال تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة:123]، وهل يوجد العدل المقابل قنطار من الذهب والفضة وبنوك العالم بأسره ما يُقبل، وأنى لها ذلك، لو قلت: أي رب! هذا ولدي أدخله النار بدلاً عني -والله- لا يقبل.

معنى الشفاعة

قال تعالى: وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ [البقرة:123].يعيش المسلمون في قرون الظلام ألف سنة معولين على الشفاعة، والشفاعة هي الوساطة، أي: ضم جاه إلى جاه ليقبل الطالب للشفاعة.وهذا وقت بيان ومعرفة الشفاعة. وينبغي أن نعرف هذا، ولا يحل لنا أن نقوم من مجلسنا هذا وما عرفنا الشفاعة التي جاء بها الكتاب وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا نغش أنفسنا، ونخدع بعضنا بعضاً.

لا شفاعة للكافرين

لا شفاعة لمن مات على الشرك والكفر، فالذي مات على الكفر والشرك لا شفاعة له أبداً يرجوها، ولا تتحقق له، وليست شفاعة أن يخرج من النار، بل شفاعة أن لا يخلد في النار؟ والله لا تقبل منه، وقد قضى بهذا العليم الحكيم فمن يرد على الله قوله: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:39]، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، وهذا كلام الله، فشر الخليقة هم من يكفرون بالرحمن .. وشر الخليقة مطلقاً من يكفر بالله، ولقائه، ورسوله، وكتابه.واسمع قول الله تعالى في خاتمة سورة النبأ: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، هذه الأمنية الغالية أو الرخيصة؛ والكافر: هو من مات على الكفر والشرك والعياذ بالله وإن كان ابناً لنبي أو أباً لرسول، ولا تفكر أن هناك نسباً يغني: فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101].والكافر لا شفاعة له ترجى، ولا يخرج بها من النار قط، وقد رأيتم آزر وما قال فيه الرسول.

الشفاعة العظمى

يبقى المؤمن الموحد، لا مؤمن مشرك، فهذا له شفاعة، وإليكم بيان الشفاعة العظمى.أولاً: الشفاعة العظمى الكبرى التي لا تسمو إليها شفاعة ولا تدانيها، وهذه اختص الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، الرسول إلى البشرية كلها؛ أبيضها وأسودها، بل إلى الإنس والجن معاً، وما حصل على هذه الشفاعة إلا ببذل الجهد والطاقة، ولو رأيته عندما يصلي ويبكي، والدموع تسيل، وتعمل خطوطاً على الحصير، ولو عرفت كيف يلبس درعه، ويخرج لسبعة عشر معركة يخوضها في خلال عشر سنوات، ولو عرفت أنه ما شبع من خبز شعير في يوم واحد مرتين حتى لقي الله، ولو رأيته وهو يضع الحجر على بطنه، ويشدها بالحزام، حتى يتماسك ويقوى على المشي والصلاة.ولما أعلمه الله بهذا المقام المحمود قال له: (( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ))[الإسراء:79].وقالت عائشة : ( كنت ألتمسه في الليالي الباردة في الشتاء، فلا أجده، فأطلبه، فأجده قد اغتسل بالماء البارد من الجنابة وهو يصلي ويبكي والدموع تسيل على حصيره )، وهل تستطيع أن تفهم أنه ما قال كلمة سوء طيل حياته، فكله نور وأدب.وهذه الشفاعة أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنها بنفسه، وأنه يأتي إلى العرش فيخر ساجداً تحت عرش الرحمن، قال: ( فيلهمني ربي محامد، ألفاظ حمد وثناء وشكر ما كنت أعرفها ، فلا أبرح أحمد الله، وأثني عليه، وأمجده بها -لا أدري مقدار الزمن- حتى يقول لي: أي محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع )، يشفع في من؟ في أبويه أن يدخلا الجنة؟ لا والله، يشفع في أعمامه وأخواله؟ لا والله، فقد ماتوا على الكفر مشركين كافرين.هذه الشفاعة ليقول لله: اقض بين عبادك، فقد طال موقفهم، وامتد النهار، وسال العرق، وألجم من ألجم، فاقض بينهم، وكيف جاء لهذا، فالبشرية كلها جاءت إليه: أنت الذي يمكنك أن تكلم الله، والله لقد ذهبوا إلى آدم ونحن معهم: ( يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا عنده ليقض بيننا ) وهم حفاة عراة، واليوم يوم مقداره خمسين ألف سنة من أيامكم هذه، ( فيعتذر آدم عليه السلام ويقول: أنى لي وقد غضب اليوم ربي غضباً لم يغضب قلبه ولا بعده أبداً )، ويذكر آدم خطيئة، ومن منكم يقول: أنا عندي عشر خطايا فقط، وفي العمر سبعون سنة؟ وآدم خطيئة واحدة فقط هي تلك التي أكل فيها من الشجرة المنهي عنها، وغررته امرأته، وزين الشيطان لها وله ذلك، فقال آدم لهم: ما أستطيع. عليكم بنوح، فهو أبو البشر الثاني.فيأتون نوحاً -والله العظيم- مائجين هائجين: يا نوح أنت.. أنت .. أنت، اشفع لنا عند ربك يقض بيننا، فيدخل الجنة من يدخل، ويدخل النار من يدخل، لقد طال وقوفنا، فوالله ليعتذر نوح، ويذكر خطيئة واحدة، وقد عاش ألفاً ومائة سنة وزيادة، منها تسعمائة وخمسين عاماً وهو قائم بدعوة الله، وقالوا فيه ما لا تقدر أنت على عشره ولو على (1%) من السخرية، والاستهزاء، والضحك، والكلام الباطل و.. و.. ومن العجائب.فيذكر نوح كلمة فقط: (( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ))[نوح:26]، فلم تدع بهذه الدعوة العامة يا نوح؟! أما ترحم البشرية؟ فيذكر هذه الدعوة ولا يستطيع أن يقف أمام الله فيسأله ويطلب منه، فيحولهم إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم أبا الأنبياء؛ خليل الرحمن، فيقول: أنا كذبت ثلاث كذبات، فكيف أواجه ربي وأخاطبه؟والله لكذبات إبراهيم خير من صدقنا نحن؛ لأنها كانت لله، ونحن نكذب لشهواتنا، وأطماعنا، وأهوائنا.فيقول: عليكم بموسى، فيأتون موسى فيقول: كيف أكلمه وقد قتلت نفساً.وهل قتله عمداً؟ والله ما هو بعمد، إنما قتله خطأ، فقد أراد أن يفصل بين اثنين متضاربين، فلما رأى شدة القبطي لكمه في صدره، وكان الأجل، فمات.يقول: عليكم بعيسى، ويخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فيقول: ( فلم يذكر عيسى خطيئة قط )، فعاش ثلاثاً وثلاثين سنة لم يقارف خطيئة قط، وسينزل ويعيش بقية العمر والغالب أنها ثلاثين سنة، ولم يذكر خطيئة قط، لا كلمة ولا نظرة.وسر هذه العصمة هي في دعوة جدته يوحنا امرأة عمران عليه السلام عندما سألت ربها وقالت: (( رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ))[آل عمران:35-36]، فأُغلق الباب على الشيطان، فلم يصل إلى قلب عيسى، ونفعته دعوة الجدة؛ لأنها جدة تساوي الملايين من جداتنا.وأخبر بهذا أبو القاسم، فإذا هز المرأة الطلق، وجاءها المخاض، جاء الإسعاف من الشيطان وأعوانه، فينتظرون متى يسقط هذا الجنين، ليطبعه أنه من أتباعه، فما إن يخرج من فرج المرأة حتى ينغز في خاصرته فيصرخ.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-14, 05:45 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (82)
الحلقة (89)



تفسير سورة البقرة (51)



في بلدة بعيدة جثم فيها الشيطان وفرّخ، وأصبح الإنسان فيها يعبد حجراً، لم يكن الوضع سليماً، فقام نبي الله إبراهيم مبيناً الحق، رافعاً به صوته، ثم ما لبث أن اتخذ خطة أخرى، فغافل قومه وحطم الأصنام، جاء القوم فرحين، متبركين، فإذا بهم يصعقون لهول ما رأوا، وعرفوا الفاعل، وعزموا على عقوبته، لكن الله نجاه وحفظه وجعله إماماً للعالمين.

تفسير قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

إبراهيم هو الأب الرحيم بالسريانية

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!من هذا إبراهيم الذي ابتلاه الله واختبره وامتحنه فنجح حتى أصبح إماماً؟ألا إنه إبراهيم الخليل؛ الذي فاز بالخلة بينه وبين الله عز وجل.وهو الأب الرحيم؛ لأن كلمة إبراهيم باللغة السريانية هي الأب الرحيم، وقد تجلت رحمته في مواقف شتى، فحقاً كان أباً رحيماً.ومن مظاهر تلك الرحمة أنه لما سأل الله عز وجل قائلاً: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، فتتجلى حقائق الرحمة في هذا الكلام، وقبلها يقول من سورة إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، يا رب! إن هذه الأصنام التي عبدها البشر الجهال أضللن كثيراً من الناس، حيث عبدوها وتركوا الخالق المعبود الحق، ثم يقول: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وأنا منه: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، فلم يقل: فاضربه .. فانتقم منه .. فأنت العزيز الجبار .. أنت العزيز الحكيم وهو كذلك، ولكن قال: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، كأنما قال: فاغفر له وارحمه.أما عيسى عليه السلام فقال ما سجل القرآن له في تلك الوقفة العجيبة في عرصات القيامة .. في ساحة فصل القضاء والله يقول له: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:116-118]، فانظر ما بين الموقفين، فهنا ما قال: فإنك أنت الغفور الرحيم؛ بل أنت العزيز القوي، القادر، الذي لا يعجزه شيء، الحكيم فتضع الشيء في موضعه؛ فالكافر الخبيث، المنتن، المجرم لا يضعه الحكيم بين أولياء الرحمن في دار السلام، بل يضعه في أتون الجحيم.والخلاصة أن الأمة التي سمت إبراهيم أباً رحيماً وفقت في ذلك الاسم، حقاً هو أب رحيم.

إبراهيم هو أبو الضيفان

هذا إبراهيم يكنى بأبي الضيفان، وهو ما ولد ضيفاً، ولكن كني بأبي الضيفان، والضيفان: جمع ضيف، يقال: ضيوف وضيفان.وإليكم سورة شاهدوا فيها كرم إبراهيم، فبعد هجرته واستقراره بدار القدس وأرض الطهر، شاء الله عز وجل أن يضرب المؤتفكات وبها قوم لوط عليه السلام؛ لأن لوطاً هو ابن أخي إبراهيم، وهاجر معه أيام هجرته، فلم يخرج من أرض بابل سوى إبراهيم وزوجه الكريمة سارة وابن أخيه لوط.ونبأ الله لوطاً، وأرسله رسولاً إلى المؤتفكات: سدوم وعمورة، وهي مدن البحر الميت المنتن، فلما دعاهم إبراهيم إلى أن يعبدوا الله وحده، وأن يتخلوا عن الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين؛ وهي إتيان الذكور من العالمين، وتم وعد الله، وبذل لوط صلى الله عليه وسلم أقصى جهده، ولم يستجب له، فلم يسلم أحد ما عدا أهل بيت فقط .. أهل بيت لا غير، واقرءوا لذلك: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [الذاريات:31-34].. الشاهد: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:36].وقد كانت هناك مدن في ذلك العالم لكن: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، ولا حرج، فنوح قبله دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وحصيلة الدعوة كانت نيفاً وثمانين رجلاً وامرأة لا أقل ولا أكثر، وتخيلوا في تسعمائة وخمسين عاماً وهو يدعو الليل والنهار، في السر والعلن، فلم يتابعه على ملة الإسلام إلا نيف وثمانون رجلاً وامرأة، فيا عجب!وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن النبي يبعث يوم القيامة ومعه النفر والنفران، ويبعث وليس معه أحد )، لأنهم ما استجابوا.فلما أراد الله إنهاء ذلك الوجود العفن الخبيث المنتن؛ أرسل جبريل وميكائيل وإسرافيل؛ فنزلوا ضيوفاً على إبراهيم؛ لأن فلسطين والأردن متصلتان، فلما نزلوا بإبراهيم أهلّ وسهّل ورحّب: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] فهم ثلاثة أنفار، فقام إبراهيم بذبح عجل سمين وقدمه مشوياً أيضاً، ثم قال: فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27]، فتأدب معهم، فما قال: كلوا، كأنه أعلاهم يأمرهم، بل قال: أَلا تَأْكُلُونَ فأبوا أن يأكلوا: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [الذاريات:28] لم لا يأكلون!وهذه إن شئتم قولوا: عادة بشرية، حتى في الإسلام، فإذا أراد الشخص بالآخر سوءاً لا يسلم عليه؛ لأنه لو قال: السلام عليكم أمنه، ولو أراد به خيراً لسلم عليه وأكل طعامه، فإذا رفض أن يأكل فهذا معناه أنه ما جاء للأكل، بل جاء ليذبحه أو يسلبه ماله، فإبراهيم أوجس في نفسه خيفة، لم؟ أَلا تَأْكُلُونَ .وكانوا في صورة رجال، كرام، حسان الوجوه؛ لأن الملك يتشكل كما أراد الله، فقال جبريل: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه.وهل تأكلون طعاماً بدون حقه؟ وهل تدخل المطبخ فتأكل وتشبع ثم تخرج؟ هذا من غير المعقول.قال جبريل: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه، فقال إبراهيم عليه السلام: كلوه بحقه. فقالوا له: وما حقه؟ قال: أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره.أيها المستمعون والمستمعات! هل بلغكم إنه لا حق لك في طعام الله ولا شرابه إلا بأن تذكر اسمه أولاً وتحمده أخيراً، وإلا فأنت آكل ما لا يحل لك.هل يفهم الواعون هذه؟هذا الطعام من خلقه .. من أوجده .. من وضعه بين يديك، أفتأكل بدون إذنه، وهل يحل لك أن تأكل طعاماً بدون إذن صاحبه، أسارق أنت أم لص؟فمن هنا لابد إذا أراد عبد الله أو أمته أن يأكل أن يقول: بسم الله، أي: باسمه إذ هو الذي أذن لي فيه، ولو لم يأذن لي فيه والله ما أكلته، كأنك تأكل ميتة أو خنزيراً أو مغصوباً محرماً؟إذاً: لا تأكل؛ لأنه ما أذن لك فيه، ولهذا أيأكل المؤمن ما حرم الله؟ لا يقدر، أما إذا أذن له فيه فإنه يقول: بسم الله، ويأكل.كذلك إذا فرغ من الأكل يحمد المنعم فيقول: الحمد لله.ومن الأسف أن ملايين المؤمنين لا يعرفون هذا، ومن عرفه عرفه تقليداً أعمى فقط، لا عن علم وبصيرة، فلهذا لا يبالي أسمى الله أم لم يسم، حمد أو لم يحمد.وهل يجوز لعبد من عباد الله أن يتناول كأس الخمر ويقول: بسم الله ويشرب؟والله لا يجوز، كَذِب، كَذَبَ على الله وزَوّر، آلله أذن له بذلك، كيف يكذب على الله ويقول: بسم الله؟ ومن أذن لك حتى تقول: بسم الله، فتكون قد كذبت على الله مرتين: الأولى حين تشرب ما حرم أو تأكل ما حرم والثانية حين تقول: بسم الله.والرسول صلى الله عليه وسلم كان بين يديه غلام صغير يأكل الطعام فقال له: ( يا غلام! سم الله )، فيعلم هذا الطفل وهو في السادسة من عمره أو أقل: ( يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك )، فهل علمنا أطفالنا هذا؟ آه.وا حر قلباه! هل علم المسلمون غلمانهم أن يبتدئوا طعامهم: بسم الله، وأن يتناولوه بأيديهم اليمنى لا اليسرى، وإذا فرغوا أن يحمدوا الله.أي فلانة! أي بني! أي بنيتي! فرغت من الأكل؟ قالت: نعم أبتاه، قال لها: قولي: الحمد لله.ومن قص هذه القصة؟ وهل عاصر النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم ولوطاً وبينهما أربعة آلاف سنة؟إنه الوحي الإلهي.فلما قالا: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه، قال: كلوا بحقه، قالوا: فما حقه؟ قال: أن تذكروا اسم الله في أوله وتحمدوه في آخره، فالتفت جبريل إلى ميكائيل وقالا: حق للرجل أن يتخذه ربه خليلاً. فمن ثم عرفنا أن إبراهيم كان خليلاً للرحمن.والشاهد عندنا في أبي الضيفان فهو حقاً أبو الضيفان.

إبراهيم هو أبو الأنبياء

ويكنى إبراهيم أيضاً بأبي الأنبياء، فإذا سئلت: من أبو الأنبياء؟ فقل: إبراهيم، لأنه ما من نبي ولا رسول نبئ وأرسل بعده إلا من ذرية إبراهيم، وما من نبي نبأه الله بعد إبراهيم إلا من ولد إبراهيم.إذاً إبراهيم هو أبو الأنبياء .. أبو الضيفان .. خليل الرحمن.

استجابة الله لدعاء إبراهيم

إبراهيم عليه السلام دعا الله عز وجل دعوة مباركة واستجابها الرحمن، ولو تذكرونها من سورة الشعراء؛ حيث قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:78-89].. عجب هذه الكلمات! دعوه إلى أن يعبد الأصنام والأوثان والأوهام، فرفض وقال: أعبد الذي خلقني فهو يهديني، والذي هو يطعمني ويسقيني.يطمعني ويسقيني؟ وأنتم الآن من يطعمكم ويسقيكم؟ أمهاتكم وآباؤكم!أيها الغافلون! من الذي يطعم ويسقي سوى الله خالق المادة، ومسخر أسبابها.وإياك أن تفهم أنك تطعم نفسك، وتسقي نفسك، فمن خلق الماء، ومن عرفك أنه يرويك، ومن خلق الطعام وهداك إلى أكله، وعلمك كيف تأكله؛ لتعرفوا أننا لاصقون بالأرض.من منا يعرف هذه الحقيقة: أنا آكل .. أنا أشرب .. أنا أطعم .. أنا كذا!! أنت أنت؟! وأنت ما كنت شيئاً يذكر.عجب هذا الكلام: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَِ [الشعراء:78-79] لا غيره يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:79-84] واستجاب الله، فاليهود والنصارى والمجوس .. وكل أهل العالم يعترفون لإبراهيم بالمقام الأسمى، والمنزلة العليا، وأنه أبو الأنبياء؛ استجابة الله له.وفي السياق الكريم تقدم لنا ما قال اليهود، وما قال النصارى، وما قال المشركون، وهم يتشبثون بالنسبة إلى إبراهيم، فكلهم يقول: إبراهيم منا، وإبراهيم بريء منهم؛ وإبراهيم يقول تعالى عنه من آخر سورة آل عمران: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67] ويقول عنه من سورة النحل: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120]، فتمزقت تلك الخيوط الباطلة التي يتشبث بها المشركون في مكة، ويدعون أنهم أتباع إبراهيم وما هم في حاجة إلى محمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135]، ومن سورة آل عمران قالت اليهود: إن إبراهيم كان يهودياً، والنصارى ادعت نفس الدعوى: إن إبراهيم كان نصرانياً، فأبطلها الله، ورد هذا وأبطلهم.إذاً: إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً مسلماً، مائلاً عن كل الباطل وضروبه، وأنواعه، وعباداته، وآلهته إلى الحق مسلماً قلبه ووجهه لله رب العالمين، فأبطل دعواهم، وهم ثلاث طوائف: اليهود، والنصارى، والمشركون من العرب.

وفاء إبراهيم

وهاهو ذا تعالى يريهم صورة حقيقية لإبراهيم، فقال: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، ابتلاه: امتحنه واختبره، (بكلمات) جمع كلمة، وهي كما يقولون: أوامر ونواهي؛ لأن الأمر يكون بالكلمة: افعل، والنهي يكون بالكلمة: لا تفعل.إذاً: فإبراهيم امتحن ونجح.قوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:124] أي: واذكر يا رسولنا لهؤلاء الطوائف الضالة من اليهود والنصارى والمشركين اذكر لهم ليسمعوا ويعوا ويشاهدوا: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124] وفاهن: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] تمام التوفية في كل ما أسند إليه، وأمر به، ودعي إليه، ولم يثبت من أتم ما عهد إليه ووفاه سوى إبراهيم، ولهذا أثنى الله عليه بقوله: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى .

إبراهيم يحطم الأصنام

من الكلمات الشاقة الصعبة التي لا ينهض بها إلا مثل إبراهيم ذلك الموقف الذي وقفه في بابل العراق، يوم هاجم الأصنام والأوثان بمعول .. بفأس، فحطمها وكسرها وتركها شذراً مذراً، ومن يقوى على هذا؟فإبراهيم عرف أن قومه سيخرجون في الربيع إلى عيد الفصح كما يسميه النصارى اليوم، فعرضوا عليه الخروج معهم فاعتذر وقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89].قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:83-89]، فأوهمهم أنه ينظر إلى النجوم؛ لأنهم يعبدون الكواكب، وقال: إني سقيم، لا أستطيع الخروج معكم.نعم عرضوا عليه الخروج للفصح؛ للأكل، والشرب، والقصائد الماجنة، فلما تركوه جاء بمعول أعده من قبل، ودخل بهو الآلهة وصالونها الفخم وكسرها وحطمها، وعلق المعول في عنق أكبرها وانصرف.فإبراهيم خرج عن نظام الدولة بكامله، فحارب الأمة وسلطانها، وهو وحده.عشنا وما زال العرب في جاهليتهم في بعض البلاد، هناك في يوم من الأيام وخاصة أيام الخريف عندما توجد الحمى الفصلية ينادي المنادي في القرية: إن إخواننا من الجن قد عسكروا عندنا فكيف نتقيهم؟يقولون: بالنشرة.لكن ما هذه النشرة؟يقولون: اذبحوا، واطبخوا الطعام واللحم، وضعوه في البيوت، وأغلقوا الأبواب حتى يأكل إخواننا من الجن ويرحلون، وبذلك نسلم نحن وأولادنا ونساءنا من أذاهم.والله العظيم!فإذا وضعت السيدة طعامها وأغلقت باب الغرفة، وبعد ساعة يأخذون الطعام ويأكلونه بما فيه من البركة، وهذا موروث عن البابليين من ستة آلاف سنة.فإن سأل سائل: كيف نقل إلينا؟الجواب: مضى في الدرس الماضي أن قلوب الكافرين متشابهة عرباً وعجماً؛ لأن الداعي إلى الباطل واحد، وهو إبليس. وإبراهيم بيننا وبينه أربعة آلاف سنة أو ستة آلاف فقط، وعندنا في قرية من قرانا الإسلامية يعبد يعوق ونسر من عهد نوح، أما قال نوح لما أمرهم بعبادة الله: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، جبلان رأيناهما: هذا يعوق وهذا نسر، وإذا انقطع المطر وأجدبت الأرض خرج أهل البلاد بالنساء والرجال، فيذبحون ليعوق ونسر، ويأكلون الزاد والطعام حتى يسقوا.كيف نتخطى أكثر من ثلاثة آلاف سنة؟ كيف يتم هذا؟!لأن الداعي إلى الشرك والباطل هو إبليس، فلا عجب ولا غرابة أن ينتقل هذا إلى العالم الإسلامي من عهد البابليين؛ إذ يخرجون ويتركون أطباق الطعام والحلويات بين يدي الآلهة لتباركها، فإذا رجعوا من عيد الفصح أخذوها.وأظن أن النصارى يعملون هذا إلى اليوم، فيضعون أطباق الحلويات عند الآلهة.فإبراهيم استغل الفرصة وحطم الأصنام والآلهة الباطلة، وعاد إلى بيته، فجاء المغرورون؛ المخدوعون ليتناولوا الأطعمة المباركة، فوجدوا الآلهة متناثرة: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:59-60]، (سمعنا فتى) أي: شاباً (يذكرهم) أي: بالسوء، وعدم الرضا، والغضب، فما هو راضٍ عنه: قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:61]، هناك نوع من الحق أو العدالة ما هم هابطين تماماً: فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أن هذا الذي فعل هذه الفعلة، وجيء به، واستنطقوه: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:62-63]، وهذه كذبة من الكذبات الثلاث، فهو قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] يشير إلى يده، وهم ظنوا أنه يشير إلى الإله الذي ما حطم: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63] فبكتهم، فَاسْأَلُوهُمْ إله لا يجيب؟ كيف ترجو أن يرحمك وأن يدفع العذاب عنك، وهو ما ينطق؟ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:64-67]؟!

توكل إبراهيم

فهذا الغلام الشاب هو إبراهيم، قالوا: إذاً حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68]، فلما عجزوا عن البيان والحجة والبرهان رفعوا الهراوة عليه، وهذا واقع البشر، تجده يجادل يحاج بالمنطق، فإذا فشل: آه اقتلوه، فهذا النوع من البشرية هي هي، وإياك أن تفهم أننا في القرن العشرين، والله إن الأخلاق والأفكار والسياسة التي منذ سبعة آلاف سنة هي الموجودة الآن، فما تغير الآدمي، فالبشر ما تغيروا، وما صار هناك مخ جديد أو عقل آخر.إذاً: إبراهيم الخليل وقف هذا الموقف فألقوا القبض عليه وسلسلوه وغللوه ودعوه وتركوه في السجن أكثر من أربعين يوماً وهم يجمعون الحطب ويؤججون النار، وهذا الأسلوب معروف من أجل إرهاب الشعب حتى لا يقلد إبراهيم أو يمشي وراءه أو يرحمه، انتبه.وبلغنا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الوزغ الملعونة كانت والله تنفخ في النار لتتقد وتشتعل، فهي تكره التوحيد والموحدين.وكانت المرأة تنذر النذر للآلهة بحزمة حطب إذا نجح ولدها أو حصل له كذا حتى تساعد على إشعال النار، فأججوها كذا يوماً وأصبح الطير لا يستطيع أن يطير فوقها للهبها؛ وكل ذلك من باب الإرهاب والتخويف لعل إبراهيم يتراجع، فأبى.لكن كيف يلقون إبراهيم في هذا الجحيم؟ ومن يقوى على الوصول إليه؟فما كان منهم إلا أن وضعوه في منجنيق، ورموا به بالآلة؛ لأنهم ما يستطيعون أن يصلوا إلى النار.واسمع كأنك حاضر تشاهد كلام الرب؛ رب العالمين، فيبينه رسول رب العالمين، فلما وضعوه في المنجنيق أو في العقال ورموه وفي الطريق قبل أن يصل وصلت برقية عاجلة، فقد اتصل به جبريل عليه السلام وقال: هل لك يا إبراهيم حاجة؟ وبالمصري: عاوز خدمة يا إبراهيم؟ قال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. يكفيني الله، ما أنا في حاجة إلى غيره، ونعم وكيلي هو الله.وهذه الكلمة أول من قالها إبراهيم، وقالها الطيبون الطاهرون، من صفوة هذه الأمة، من الأنصار والمهاجرين قالوها هنا، في هذا البلد، فإنهم لما عادوا من أحد وكانت هزيمة مُرَّة، فقد سقط فيها سبعون قتيلاً، واستشهد حمزة ، وكسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه، ولصق المغفر برأسه، وسببها لا أقول ذنب، بل ذنيب، وهو بالنسبة إلى ذنوبنا ليس بشيء، ولا واحد إلى مليون، وهذا الذنب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا رماة! الزموا الجبل، ولا تهبطوا، وإن رأيتم ما رأيتم. فلما أن شاهدوا الهزيمة تمت للمشركين وفر نساؤهم ورجالهم، واندفع المسلمون يجمعون الغنائم هبطوا من على الجبل، فرآهم خالد قائد القوات الكافرة يومئذ -وهو آية من آيات الله في قيادة الحروب- فاحتل الجبل وصب البلاء على المسلمين، وكانت هزيمة، وانتهت المعركة، فما عادوا إلى المدينة إلا جرحى، دماؤهم، ودموعهم، وآلامهم تسيل، ومن يضحك، ومن يأكل والرسول جريح؟وفجأة جاء خبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان عزم على أن يعود إليهم ليصفي حسابهم، وينهي وجودهم بالمرة، وقد عسكر على نحو ثلاثين كيلو متر خارج المدينة. فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن أعلن التعبئة والخروج وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، واقرءوا ذلك في قوله: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:171-173] فقال الرسول: ( قالها من قبل إبراهيم ).أيها المسلمون! يا أبطال الدنيا! تريدون أن تنتصروا على إسرائيل؟ كم ذنباً عندنا؟إن أصحاب رسول الله كان معهم ذنب واحد .. مخالفة واحدة، ونحن خالفنا الله، ورسوله، وشرع الله، وما أبقينا شيئاً إلا وعكسناه، ونريد في الأخير أن ننتصر؟! كيف يمكن هذا؟ نغالط أنفسنا، هذه فكرة عابرة فقط.والشاهد: في البرقية أن جبريل اتصل بإبراهيم باللاسلكي: ( هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل ) ويصدر أمر الله إلى النار المتأججة: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] وهذه آية من سورة الأنبياء، ولولا أنه ألحق الأمر بكلمة (سلاماً) لتحولت تلك النار إلى كتلة من الثلج، ومات إبراهيم من شدة البرد، لكن لما قال: وَسَلامًا والله ما أتت النار إلا على رجليه ويديه، ولم تمس النار جسمه.وقد ذكرت لكم كرامة أخرى: أن أحد الصالحين الربانيين داهمه الدرك الفرنسي وهو على كرسي الدرس، وأدخل يديه في الحديد، وأخذ يضغط عليه، فقال الشيخ رحمة الله عليه: لقد وسعه الله، ولن تستطيع أن تضيقه، ويحلف ما مس يده.فهذا ولي من أولياء الله، وعالم رباني، وخريج هذا المسجد، قد تربى وتنشأ في هذا المكان الطاهر، وما عرف قومه وأهله حقه ولا قيمته، كصالح في ثمود.إذاً: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70] خسروا ونزلوا. وهذا الموقف امتحن فيه إبراهيم فنجح، وأتم الأمر كما أراد الله.

ابتلاء إبراهيم بالهجرة

هنا أمر آخر: إلى أين يذهب إبراهيم؟ فلا مواصلات ولا ولا ولا، ولا عرف البلاد، إلى أين يذهب؟وكانت أول هجرة عرفتها البشرية، فأول من هاجر في سبيل الله إبراهيم بشهادة أبي القاسم الحفيد الكريم، فأول هجرة كانت لله في العالم هجرة إبراهيم، وهاجر من أرض بابل في العراق ومعه زوجه الطاهرة سارة بنت عمه، ومعه ابن أخيه لوط عليه السلام فقط، فترك الأهل، والمال، والآباء والإخوان، والدنيا وخرج، لا يملك شيئاً. وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124] وهذه كلمة من الكلمات، أو الهجرة لا تعدونها شيئاً؟المهاجرون الأولون أثنى الله تعالى عليهم، فيخرج الرجل ويترك أهله، وماله، ومعارفه، ويخرج لا يملك شيئاً، إلى أين يذهب؟ كيف يعيش وهو لا يعرف أحداً؟ ولكن لوجه الله .. طلباً لمرضاة الله .. فراراً بدينه، حتى لا يعبد غير الله.وعندما تقدم المسلمون نحو جنوب أوروبا حصلت معركة فاستشهد فيها من استشهد، فجيء بهم إلى مدينة دخلت في الإسلام على ساحل البحر، فخرج أهل البلاد مع المجاهد، ولم يخرج مع المهاجر إلا عدد قليل في الجنازة، فقام أحد المؤمنين وقال: أما أنا فو الله! لا أبالي أن أقبر في قبر مجاهد أو قبر مهاجر، إذ لا فرق بين المهاجر والمجاهد، وقرأ هذه الآية من سورة الحج: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُ مُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الحج:58] أي: في الجنة، فما هناك فرق بين المهاجر والمجاهد.فقوله: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [الحج:58] قتلوا مجاهدين أو ماتوا على فرشهم كما مات هذا، ثم قال: لَيُدْخِلَنَّهُ مْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:59] فليرزقنهم وليدخلنهم الجنة.فالهجرة ليست لأن العيش ضاق، وما وجدنا شغلاً، الهجرة في الله هي أنك تحرم من أن تعبد الله، فأنت خلقت لهذه العبادة، فإذا عرض عارِض ومنعك أن تعبد الله فيجب أن تهاجر، ولتترك كل شيء؛ لأنك لم تخلق إلا لأن تعبد الله، فإذا منع مانع من العبادة وجبت الهجرة، وقد هاجر أصحاب الرسول من مكة، وتركوا أهليهم وذريتهم وأولادهم، وخرجوا بأيديهم ونزلوا على أهل المدينة، فآووهم ونصروهم، واقرءوا القرآن، فالهجرة لها شأنها لو كنا نفقه ذلك.واسمع يا عبد الله! واسمعي يا أمة الله! لو نزلت في عمارة ووجدت نفسك لا تستطيع أن تستقيم في هذا المنزل، وقد تصاب بارتكاب معصية فيجب أن تهاجر.وإن نزلت منزلاً وعرفت أنك ستنظر بعينيك إلى ما لا يحل لك، وأنك ستسمع ما لا يجوز لك أن تسمعه، وأنك سترتكب معصية من المعاصي، وما هناك سبيل إلا أن تغشى هذا الذنب فيجب أن تهاجر من هذا المنزل إلى آخر.وجدت نفسك في بلد لا تستطيع أن تقيم به دهراً، أياماً أو ليالي إلا وقد تركت واجبات أو فعلت محرمات، فيجب أن تهاجر إلى بلد آخر، ولو خمسين كيلو، وليس بشرط أن يكون إقليماً آخر أو من بلد إلى بلد، أما هاجروا من مكة إلى المدينة؟ هما بلد واحد، ولا تقل الهجرة: الانتقال من بلد إلى بلد أو من دولة إلى دولة أو من إقليم إلى إقليم. فالهجرة أن تترك مكاناً وجدت نفسك لا تعبد الله فيه، ولا تستطيع أن تقيم على منهجه، فارحل.وهذه الهجرة -كما علمتم- كالجهاد، فلا فرق بين المهاجر والجهاد: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُ مُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُ مْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:58-59].والسر هل خلقنا لأن نأكل ونشرب وننكح؟! لا، إنما خلقنا لأن نعبد الله، فإذا منعت من عبادة الله يجوز أن تبقى في ذلك المكان؟والعلة التي خلقت من أجلها تعطلت فيجب أن تهاجر.إذاً: إبراهيم هاجر مع سارة ومع لوط من أرض العراق إلى أرض الشام. فهذه كلمة ابتلاه الله بها وهي أعظم ابتلاء.

ابتلاء إبراهيم بأمره بذبح ابنه إسماعيل

يأتي ابتلاء آخر، وهذا الابتلاء جاء بحكم رقة قلب إبراهيم، وفيضان رحمته على حواسه ومشاعره وأحاسيسه، فيبتليه الله تعالى بأن يذبح ولده، وأي امتحان أعظم من هذا؟ فلو كان قاسي القلب، شريراً من أهل الشر لذبح أمه وأخاه ولا يبالي، ما هناك شيء أن يذبح طفلاً ويرفسه، لكن قلب إبراهيم المفعم بالرحمة، يوحي إليه تعالى امتحاناً له أن اذبح ولدك، وفعلاً يقول لـهاجر: أعديه، وطيبيه، وطهريه، ونظفيه ويخرج به من حجره ملاصقاً للبيت إلى منى ليريق دمه هناك: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] فقال الغلام: فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] افعل ما تؤمر يا أبتاه، وخرج به، وتله للجبين على الأرض، والمدية في يده، ووضعها، فلم تقطع، ووقف الحديد، وبطلت سنة الله، وهذه آية من آيات الله، فناداه مناد: أن اترك هذا وخذ هذا يا إبراهيم وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107] وهذه أصعب من الأولى.

ابتلاء إبراهيم وابنه إسماعيل بأمرهما ببناء البيت

وأخرى: لما أخذ إسماعيل يقوى على العمل في الثامنة أو التاسعة من عمره أمره الله أن يبني له بيتاً.وكيف أن الدولة تكلف فرداً يبني بيتاً؟ فأين الأموال، وأين الرجال، وأين وأين؟وأيضاً في صحراء، وفي وادٍ خال: ابن لنا بيتاً.فينهض إبراهيم، والله كأنكم تشاهدونه وهو يضع اللبن، حجرة فوق الأخرى، وهو يتقاول مع ولده: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:127-129] فهما يتقاولان هذا الكلام وهما يبنيان البيت، فإبراهيم يأخذ الحجر من إسماعيل ويبني.

معنى قوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماما)

هنا لم يبق إلا الجائزة العظمى، فقد نجح إبراهيم، قال تعالى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] لما نجح أعطاه جائزة لم تحلم الدنيا بمثلها: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا أي: قدوة يقتدي بك الأبيض والأسود طول الحياة.ثم قال تعالى: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أيضاً قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] فما نعطيك عهداً مطلقاً، فيأتي من أولادك المشرك، والكافر والظالم، والفاسق، ويصبحون -إذاً- أئمة، لا، قال: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]. قالت العلماء: من هذه الآية أخذ ما يعرف بولاية العهد.وغداً إن شاء الله نواصل الحديث. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-14, 05:52 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (83)
الحلقة (90)



تفسير سورة البقرة (52)

قال بعض السلف: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فهذان هما ركنا الإمامة، وقد حصلا لنبي الله إبراهيم، حيث صبر على معاداة قومه له، وصبر على طاعة ربه، وصبر على الابتلاءات التي ابتلاه الله بها، وكان في كل تلك الحالات موقناً بصدق وعد الله، فكان حقاً إماماً، وكان حقاً من أولي العزم.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب، سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

القرآن الكريم هو كلام الله المعجز

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!أعيد إلى أذهانكم أن هذه الآيات تشهد شهادة الحق أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إذ هذه كلمات الله عز وجل.أيوجد كلام بدون متكلم؟ لا، مستحيل.هل هناك من ادعى أن هذه الكلمات من كلامه؟ لا أحد.والبشرية كلها طأطأت رأسها لهذا الكلام الإلهي، الحاوي للعلوم والمعارف التي تعجز البشرية عن محاكاتها، فضلاً عن الإتيان بمثلها.وهذا الكلام الإلهي على من نزل؟الذي نزل عليه لن يكون إلا رسول الله، وآي القرآن ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، ومن هنا كل آية تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ النبي صلى الله عليه وسلم رجل أمِّي؛ لم يقرأ ولم يكتب، حتى بلغ أربعين سنة من عمره، فأوحى الله إليه هذا الكتاب، وتم وحيه في خلال ثلاث وعشرين سنة.

تحدي الله للإنس والجن بالإتيان بمثل القرآن

هذا الكتاب العظيم اذكروا أن الله تعالى قد تحدى به الإنس والجن، وطلب إليهم أن يتظاهروا، ويتعاونوا على أن يأتوا بمثله، فعجزوا، قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] والزمان يمضي والقرون تتوالى فما استطاعت البشرية مستعينة بالجن على أن يأتوا بكتاب مثل هذا الكتاب.وتحدى الجبار جل جلاله وعظم سلطانه العرب، وهم أهل هذا اللسان، وبلسانهم نزل هذا القرآن، فقال لهم: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23] سورة فقط، وتحداهم بعشر فعجزوا.وآخر ما نزل في هذا الشأن بالمدينة النبوية في هذه السورة المدنية: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24] قالت العلماء .. قال البصراء .. قال أرباب هذا الدين وأهله: هذه الجملة (ولن تفعلوا) يستحيل أن تكون من غير كلام الله.يا معشر العقلاء والبصراء والمفكرين! لم؟قالوا: كلمة: وَلَنْ تَفْعَلُوا لن يقولها إلا الله، إذ ليس هناك من يملك السيطرة على القلوب والعقول البشرية اليوم بعد اليوم، والعام بعد الآخر، والقرن بعد القرن حتى يقول: ولن تفعلوا، ولن يكون هذا إلا الله.سبحان الله! هذه الجملة: وَلَنْ تَفْعَلُوا تصرخ بأعلى صوتها أن هذا من كلام الله، ويستحيل أن يكون من كلام غيره.والأمثلة القريبة التي نوردها أحياناً: هل تستطيع دولة صناعية كاليابان في هذه الأيام أن تنتج آلة من الآلات وتقول: أتحدى البشرية لمدة سبعين سنة إن استطاعت أن تنتج مثل هذه؟ وهل تستطيع أمريكا وقد سيطرت على مصانع القدرة الصناعية أن تنتج أي نتاج وتقول: أتحدى العالم لمدة ثمانين سنة أو مائة سنة أن ينتجوا مثل هذا المصل أو مثل هذه القطعة من الحديد؟ أيكون هذا؟ لن يكون.إذاً القائل: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24] لن يكون إلا الله.وهل فعل العرب فأتوا بسورة من رجل أمِّي مثل محمد صلى الله عليه وسلم، ومضى القرن الأول والثاني والثالث والعاشر وأيسوا، فمستحيل أن يأتوا بمثل هذه السورة؛ لأن القلوب بين يديه يقلبهم في ليلة واحدة، ويصبحون وهم مجانين، وهل يقدرون على أن يحفظوا عقولهم؟ فليحفظوا أرواحهم إذا أراد إماتتهم. آمنا بالله، آمنا بالله.وهذه كلمة عظيمة سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على كرسي التدريس أو على منبر الخطابة يحدثهم ويقول: ( آمنت بالله، آمنت بالله، آمنت بالله ) لم؟قال: ( كان في من كان قبلنا رجل يركب على بقرة، فرفعت البقرة إليه رأسها ملتفتة إليه: ما لهذا خلقت ) أي: ما خلقني الله لتركبني، إنما خلقني للسني والحراثة، وخلق الخيل، والبغال، والحمير للركوب، فلم تخرج عن الفطرة؟! ( فيمسك الرسول صلى الله عليه وسلم بلحيته ويقول: آمنت به، وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ) وهما غائبان.فهذه الثقة في هذين الشيخين الجليلين: أبي بكر وعمر ، وقد كانا غائبين في المجلس وقال: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ) وهذا من الغيب الذي لا يقبله إلا من شرح الله صدره ووسعه وأناره، وكيف تصدقني إذا قلت لك: إن بقرة قالت: ( ما لهذا خلقت ) بلسان عربي وأفهمتني؟ من يصدق؟ ولكن لما كان غيباً بادر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعلان عن الإيمان به وقال: ( آمنت به، آمنت به، آمنت به ).

معنى (ربّ)

قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124] أتدرون ما معنى ربه؟إنه سيده .. مولاه .. خالقه .. مالك أمره .. إلهه الحق، ومعبوده بصدق.وما ألطف هذه الإضافة، وما أحسنها، وما أجملها! ناداه ربه، فابتلاه .. امتحنه .. اختبره، من؟ إنه ربه.والحمد لله رب العالمين. هل تفرحون بأن لكم رباً خلقكم .. رزقكم .. وهبكم عقولكم وأسماعكم وأبصاركم، وخلق كل شيء من أجلكم.آمنتم بالله؟ الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.وخلق كل شيء في العالم العلوي والسفلي من أجلكم.واسمعوا هذا الحديث القدسي: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي ).ولو عرفت البشرية التائهة في أودية الضلال هذه الجملة فقط: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي ).وإن قلت: هذا الحديث قد لا يصح، فاسمع الله تعالى يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29] من هذه السورة المباركة الميمونة، فخلق لكم يا بني آدم ما في الأرض جميعاً، ومن سورة أخرى يقول: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13].إذاً: عرفتم قدر هذا الإنسان وقيمته متى ما عرف ربه، وأناب إليه، وأقبل عليه، فصفي، وطاب، وطهر، وأصبح يسامي أهل الملكوت الأعلى في طهارة روحه، وصفاء نفسه، وزكاتها.فهذا الآدمي الذي هو أكرم المخلوقات على الله، إذا كفر الله، وجحده، وغطاه، وتنكر لإنعامه وإفضاله وإحسانه إليه، وعبد فرجه أو شهوته أو عبد هواه سواء تمثل في حجر أو صنم أو إنسان، أتدري كيف تهبط قيمته حتى يصبح شر الخلق على الإطلاق؟ واقرءوا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ [البينة:6] وقد اشتملت الآية على أصناف البشرية باستثناء أهل الإيمان وصالحي الأعمال إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريئة [البينة:6] والبريئة بمعنى الخليقة، وبريئة بمعنى مبروءة، والله هو البارئ الخالق المصور، ومن قرأ البرية فقد حول الهمزة إلى ياء وأدغمها في أختها، فقال: برية.فمن شر الخليقة على الإطلاق؟ الكفار.وما مصيرهم؟ الخلود في النار.وأين النار؟ تسألني أين النار! وهذا الجزء الذي تتعاطاه مع إخوانك، وتوقده، وتنتفع به، أأنت خلقته؟ آباؤك وأجدادك هم الذين خلقوه؟!إذاً: يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك.الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، فلولاكم أيها المستمعون ما كانت شمس ولا قمر، ولا كان حر ولا برد، ولا كان عنب ولا تمر، ولا كان ولا كان، إي نعم، بله ما كانت جنة، ولا كانت نار من أجلكم يا بني آدم.

سر الحياة في خلق الإنس والجن

السؤال الذي يطرح الآن: ونحن من أجل من خلقنا؟علة الوجود وسر الحياة أنه خلقه لنا، لكن نحن لم خلقنا؟ لنرقص .. لنلهو .. لنلعب .. لنفرفش ونفرح؟ لم؟الجواب: يقول تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي ) ماذا يبغي الله منا؟ ماذا يريد منا؟يا معشر المستمعين! من يحمل هذه الأمانة؟ من يستطيع أن يرفع رأسه في وسط العالم بأسره؟لن يستطيع ذو عقل بشري أن يرد هذا أو ينقضه بأي واسطة إلا بالمكابرة والعناد.أتدري لماذا خلق الله كل شيء.. كل العوالم؟ من أجلنا.المطلب هو: أن الله تعالى أراد أن يذكر ويشكر، فأعد هذه الفنادق والنزل وهيأها، سماواتها وأرضونها، وأوجد كل شيء، ثم أتى بابن آدم ليعيش، ليحيا هنا من أجل أن يسمع ذكره، ويرى شكره.وفكروا! أراد الله تعالى أن يذكر ويشكر، فأوجد الكون كله، وأوجد من يقوى على الذكر والشكر، وأنزل الكتاب، وبعث الرسل من أجل أن يذكر في هذا الكون ويشكر، فمن أعرض عن ذكر الله وتخلى عن شكره أصبح شر الخلق على الإطلاق.وتأملوا! كثيراً ما يخطر ببال أحدنا ويقول: قد يعيش الإنسان ألف سنة إلى ألف ومائتي سنة ثم يعذب بليارات السنين، فيلقى في عالم لا ينتهي عذابه أبداً، فكيف هذا؟ والجواب: هذا العبد الذي لم يذكر الله ولم يشكره، فعصاه وتمرد عليه، وخرج عن طاعته، وفسق عن أمره، هذا ليس معناه أن ذنبه أنه ما ذكر الله ولا شكر فقط، هذا جريمته أنه نسف الجنة؛ دار السلام، وحولها إلى بخار، ونسف النار وعالم الشقاء ودمره، وحوله إلى سديم، ومسخ الأرض وحولها، وأفسد الكون كله.وهذا الفعل لو فعله إنسان كم تحكمون عليه من سنة بتعذيبه؟ أجيبوا.هذا ما أحرق قرية، ولا دمر إقليماً، ولا أفسد سماء من السماوات، بل هذه العوالم كلها نسفها، إذ هذه العوالم كلها خلقت من أجله، من أجل أن يَذكر ويَشكر، فلما كفر وترك الذكر والشكر كانت جريمته أنه أفسد الكون كله.لكن يا قضاة! احكموا عليه بالسجن .. بالعذاب، كم؟ لا يمكن مليارات السنين.هل عرفتم معنى الخلود في عذاب الشقاء للكافر أو لا؟وهو ما قتل إنساناً أو أهل قرية أو دمر إقليماً أو أفسد الأرض، لكن خرب العوالم كلها، إذ العوالم كلها خلقت من أجله هو؛ ليذكر الله ويشكره، فلما كفر الله وترك ذكره وشكره بكم تعذبونه من قرن؟وهذا معنى الخلود عندما تقرءون: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا .لكن هل نحن من الذاكرين الشاكرين؟أتدرون كيف كان يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعرفوا معنى الذكر، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( كنا نعد -أي: نحسب- لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجلسة الواحدة، نعد له قوله: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، في الجلسة الواحدة مائة مرة ) من ساعة أن يستيقظ من فراشه ونومه وهو يذكر الله إلى أن يعود إلى فراشه فيضع جنبه الأيمن على الأرض، كله ذكر.وهذا هو معنى الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فإذا قام .. إذا قعد .. إذا مشى .. إذا ركب .. إذا أعطى .. إذا أخذ .. إذا قرأ .. إذا علم، فكل ساعاته مملوءة بالذكر.أما اللهو، والباطل، والفراغ فهذا يتنافى مع سر الوجود، وعلة هذه الحياة، إنها الذكر والشكر.وقد عرفتم أن إبراهيم وفّى ونجح: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124].

بعض مواقف الذكر والشكر من كتاب الله

هيا معنا نستعرض مواقف الذكر والشكر من كتاب الله.اسمعوا هذا الخبر العظيم الجليل، فالمخبر هو الله، والخبر مدون ومسجل في كتابه، وشاهدوا أنفسكم.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] تأكد يا عبد الله! تأكديِ يا أمة الله! أتمت هذه البيعة؟ أتمت هذه الصفقة أو لا؟ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] بقي وراء نفسك ومالك شيء؟ ما بقي شيء.قال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] هذا هو الثمن، والبضاعة هي النفس والمال، والبائع أنت يا عبد الله، والمشتري هو الله، وما أعظم كرمه وأوفاه، يهبك حياتك ومالك ويشتريهما منك.وقد حدث هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما اشترى من جابر بن عبد الله بعيره لما كلّ وانحصر وما قدر على المشي، واشتراه منه في السفر، ثم اشترط جابر على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصل به إلى المدينة. وعاد الجمل كما كان آية من آيات النبوة ومعجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إلى المدينة قال: أعطنا البعير، فهذا بعيرنا. فوهبه البعير والثمن، والله عز وجل هكذا عاملنا، أعطانا أموالنا وأنفسنا واشتراها منا، وبأي ثمن؟ اسمع يا عبد الله! بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111].قال: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ [التوبة:111] ثلاثة سجلات .. فدُوِّنت هذه الصفقة في ثلاثة كتب إلهية: التوراة والإنجيل والقرآن.ثم قال: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] أيوجد؟ لا والله. إذاً: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].من هؤلاء الرابحون، أصحاب الصفقة العظيمة؟اسمع الآن -وهو محل الشاهد- لننظر هل نحن بينهم؟ هل نحن منهم؟ هل نحن معهم؟ ومتى نصل إليهم؟اسمع: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة:112] هذه مما وفاه إبراهيم لله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]، وهل نحن وفينا؟الحمد لله، وبشراكم أيها المؤمنون، هذه ثمان صفات.ولعل بعض السامعين والسامعات يقولون: ما السياحة؟ إلى أين؟ إلى هولندا .. إلى كندا؟!السياحة هي هنا: الصيام، فسياحة الروح البشرية للصائم، لما يترفع عن الشهوة واللذة من الطعام والشراب والجماع، فتسيح روحه في عالم الطهر والصفاء.معاشر المستمعين والمستمعات هل نحن معهم؟فإن قيل: يا شيخ! نحن ما نأمر بمعروف، ولا ننهى عن منكر.أقول: لم؟ أما عندك امرأتك وأولادك فتأمر بينهم بالمعروف وتنهى عن المنكر.أما عندك أصدقاؤك وأقاربك يحترمونك وتحترمهم، فإن رأيتهم تركوا معروفاً فامرهم حتى يفعلوه، وإن رأيتهم فعلوا منكراً فانههم حتى ينتهوا ويتركوه، وليس شرطاً أن تكون موظفاً حكومياً، وليس شرطاً أن تأمر عامة الناس وتنهاهم لقصورك عن ذلك، ولكن لو كان المجتمع ربانياً من هذا النوع لأمرت ونهيت في أي مكان وجدت من شعب آمن بالله ولقائه، ولكن إذا حصل الذي حصل فعلى الأقل تؤدي هذا الواجب، وتثبت أنك من الوارثين لدار السلام، فأمر بالمعروف في بيتك والمحيط الذي تعيش فيه، وتقدر فيه على أن تأمر وتنهى.وأنت تستطيع أن تأمر وتنهى في دار الكفر فضلاً عن دار الإيمان؛ لأنك عندما تبتسم وتقول: يا مسيو! يا سيد! هذا لا ينبغي لك وأنت من أنت في كمالك وبشريتك، فإنه لا يغضب.وأنت تستطيع أن تقول: يا سيد! أنا أحبك .. أنا أخوك، لو تفعل كذا لكان خيراً لك، فلا يغضب؛ لأن الكلمة الطيبة ينفتح لها الصدر، وتقبلها الجوارح.أما قوله تعالى: التَّائِبُونَ [التوبة:112] فيا من يزاولون المعصية الكبيرة توبوا، ومن الآن بالعزم والنية والتصميم.إذاً: قوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112] وإبراهيم قد وفى في هذه.وموقف آخر: اسمع قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] من هم؟ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون:2-10] الوارثون للدينار والدرهم! لا إنهم الوارثون للجنة دار السلام أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11] وقد وفى إبراهيم في هذه، فهل وفينا؟ قولوا: إن شاء الله وفينا ونوفي.وموقف آخر: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ وَالْمُؤْمِنِين َ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّق ِينَ وَالْمُتَصَدِّق َاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].كيف أنتم أيها المؤمنون ويا أيتها المؤمنات؟ حتى المؤمنات ذكرن هنا؛ لأن المطلوب أن يوفين لله كما وفى إبراهيم.وآخر عرض وكل هذا نسب إلى إبراهيم حتى قيل فيه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37].قال تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا [المعارج:19-22] هذا النوع الجديد إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم ْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:22-35].كيف حالكم معاشر المستمعين والمستمعات؟ أنتم هم؟

كيفية الوصول إلى الإمامة في الدين

وهنا سؤال: هل تريدون الإمامة؟ هل أعطيكم صكاً بالإمامة؟ هل تريدون أن تكونوا أئمة؟أما سمعتم عباد الرحمن وهم يقولون: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]؟ أي: يقتدون بنا، ويأتسون بحالنا، ويمشون وراءنا، ونقودهم إلى ساحات العز، والكمال، والسيادة، وبلوغ الآمال.أتريدون أن تكونوا أئمة؟اسمعوا الله تعالى يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً [السجدة:24] أي: قادة يقتدى بهم، ويمشى وراءهم، وهم يقودون، لم؟ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فلذا يقول بعض الحكماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.فإن قيل: ما الصبر يا شيخ؟ كيف نصبر؟أقول: الصبر حبس النفس وهي تصرخ كارهة غير راضية في ثلاثة مواطن، فلا يسمح لها أن تهرب .. أن تشرد .. أن تفر وتتخلى عن موقفها:الموطن الأول: أن تحبسها على ما أوجب الله، وما فرض الله من الطاعات والعبادات، فلا تسمح لها أن تتخلى عن كلمة مما فرض الله أن تقوله، أو عن التفاتة مما أمر الله تعالى أن تلتفت، فاحبسها وهي كارهة على طاعة الله. هذا موطن.الموطن الثاني: أن تحبسها دون معصية الله، فلا تسمح لها أن تنطلق فتفجر أو تفسق أو ترتكب ما يغضب الله مما نهى عنه وحرمه أبداً وطول العمر، فهو صبر متوالي، وأنت حابس لها، وغاصب لها حتى لا تتجاوز ما حد الله، وما أذن الله فيه.الموطن الثالث: أن تصبر على ما تجري به الأقضية والأقدار، إذ قد تمتحن من قبل سيدك ليظهر باطنك، وينصع طيبك، ثم تنتقل إلى درجة الإمامة.إذاً: صبر على ما تجري به الأقدار الإلهية فقد تمرض .. تجوع .. تضرب .. تسجن .. تبتلى، لكنك مع الله، فلم يتغير فيك شيء عن الله، فلسانك ذاكر، وقلبك شاكر، وبعد فترة من الزمن ينزل القبول من السماء.فهذه هي مواطن الصبر مع اليقين، فلا تتردد، ولا تشك، ولا يخطر ببالك سوء، فأنت عبد الله ووليه، وبعدها تتخرج إماماً يقتدى بك ويؤتسى بك بين الناس.

إبراهيم إماماً للبشرية

وإبراهيم عليه السلام قد ظفر بهذا المقام، بسبب الابتلاء وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ من ابتلاه؟ رَبُّهُ [البقرة:124] فامتحنه واختبره، فلما فاز نزل من عند الله صك القبول: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] فكان -والله- إماماً للبشرية، فما اكتحلت عين الوجود بمثلك يا إبراهيم.وإبراهي قد وفى في هذا كله لله، وأعظم من ذلك موقفه الصلب الثابت القوي في تلك الأمة المشركة التي تعبد غير الله، وتؤله سوى الله، وهو وحده يعلنها مدوية: لا إله إلا الله.ولو نستعرض مواقفه في القرآن، فاقرءوا قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:52-57] ونفذ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58] ومن يقف هذا الموقف؟فهو كأنما وقف في بهو موسكو أيام الشيوعية، وهم مجتمعون يدبرون لتحطيم العالم، وتخريب الدنيا، وتخريب البشرية، فقال: اسمعوا! لا إله إلا الله.أو وقف في عاصمة الصليبية: الفاتيكان، وفي قاعة الفاتيكان وقال: اسمعوا! لا إله إلا الله.وهل يستطيع البشر لو اجتمعوا أن ينقضوا هذه الجملة بالمنطق والعقل؟ والله ما استطاعوا، ولن يستطيعوا أبداً.يستطيعون أن يقولوا: لا إله بالمرة؟ هذه أضحوكة وسخرية.من يقول: لا إله وهو مخلوق أو لا؟فإن قال: أنا غير مخلوق .. غير موجود. قلنا: هذا مجنون أخرجوه، ما أنت بمخلوق ولا موجود، فمع من نتكلم.فإن قال: نعم مخلوق، موجود. قلنا له: من أوجدك؟ من خلقك؟فإن قالوا: الطبيعة. قلنا: هذه هي اللعبة الأخيرة، فهل الطبيعة ذات إرادة .. ذات علم .. ذات قدرة، إنها تفاعلات كيماوية، هل هي التي خلقت الكون؟ وانفضحوا.قالوا: إذا لم نقل الطبيعة وقلنا: الله، قلتم: صلوا، ونحن لا نريد هذا. فانفضحوا في آخر ساعة.إذاً: لا إله إلا الله فقط.وإذا قال الفاتيكان: الآلهة ثلاثة، فهذه سخرية أكبر من الأولى.فلم ما تحاربوا وتنازعوا إلى هذا الوقت؟ فهم ثلاثة سلاطين في الكون، أما يحدث بينهم خلاف؟! قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] وهذا ليس في عام، ولا قرن، ولا ألف سنة، بل آلاف السنين فلو كان الآلهة ثلاثة لتحاربوا، وانتهت الهزيمة بمن ليس بإله، وثبت الحق للإله الأعظم الله لا إله إلا هو.ثم ما هذه الآلهة؟قالوا: عيسى، أمه، الأقنوم الأول، ابنه، الروح القدس. وهذه شعوذة، وخرافات، وأباطيل حافظ عليها رجال الكنيسة ليستعبدوا البهائم، ويقودوا البشرية إلى أهوائهم وشهواتهم.ولا إله إلا الله لا تنقض أبداً على مدى الحياة، إذ لا يوجد إله مع الله قط، ولا يقال: لا إله كما قال الشيوعيون، وانتهت فتنتهم وهبطوا إلى الحضيض. وقد دامت الشيوعية خمساً وسبعين سنة فقط، وقد بينا من عشرات السنين أنها لعبة يهودية حتى يخففوا ضغط النصارى عليهم، فأوجدوا فتنة الإلحاد في ديارهم فخف الضغط على اليهود، بل واستفادوا وسادوا، وبالفعل تم الصلح بين الفاتيكان واليهود، واعترف النصارى باليهود. يا جماعة! القرآن من ألف وأربعمائة سنة يقول: إن اليهود ما قتلوا عيسى أبداً، ولا صلبوه، وأنتم النصارى كالبهائم، ألف وأربعمائة سنة تقولون: اليهود قتلوا عيسى؟ أيقتلون الله؟! كيف هذا الإله الذي يقتل ويصلب؟لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، والقرآن يصرخ بأعلى صوته: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ [النساء:157] ومنذ خمس عشرة سنة قال بولس الثامن : اليهود برآء من دم السيد المسيح، إيه، الآن أفقتم فقط، وهذا هو السحر اليهودي.ونحن نأسف أنه انتقل أيضاً إلينا، وحطمنا، وفرقنا، ومزقنا، وما صحونا بعد.وسنصحو في اليوم الذي نجتمع اجتماعنا هذا في صدق على كتاب الله، وهدي رسول الله، في كل قرية، وفي كل مكان، من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، فأهل البلد أجمعون بنسائهم وأطفالهم في بيوت ربهم، وذلك كل ليلة، وطول العمر، وطول الحياة، ويومها حقاً نصحو ونفيق، ونعرف الحياة على حقيقتها؛ لأننا أصبحنا مبصرين؛ نسمع ونعي.فإن قيل: يا شيخ! لم تقول هذا الكلام؟أقول: والله الذي لا إله غيره لا ترتفع لنا راية حق، ولا يسمع لنا صوت، ولا نري الكون والحياة إلا إذا عدنا إلى كتاب الله وسنة الرسول، ومستحيل أن نرتفع على وجه الأرض بدون هذا النور الإلهي.

ابتلاء إبراهيم بالختان

وأخيراً مما فادى به إبراهيم: الختان، فلما بلغ إبراهيم من العمر ثمانين سنة قال له الله: اختتن يا إبراهيم.لكن كيف يعمل؟ أين الأطباء، وأين الإسعاف؟ وكيف يقطع غلفة ذكره؟ كيف وعمره ثمانون سنة؟الجواب: بواسطة القدوم، فوضع غلفة ذكره على حجر وضرب.من يقوى على هذا؟هذا الامتحان فاز به إبراهيم. فهو أول من اختتن في الأرض، وأولاده هم المختتنون، ونحن والحمد لله منهم، وإن كان اليهود يختتنون لكن لا تنفع عبادة بعد ما أضاعوا ألف عبادة، لكن نعترف أنهم يختتنون، ونحن أمة الختان.وممن ولد مختوناً نبينا صلى الله عليه وسلم، وجمع من الأنبياء قد مضوا وما لنا بهم تاريخ، لكن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم والله لقد ولد مختوناً.والختان واجب، ومن أهمله وأضاعه فهذا معناه أنه هدم الدين.والختان يبتدئ من يوم السابع، فيختن للذكر بقطع تلك الغلفة، ويذبح له شاتان، وإذا كان المولود أنثى فتذبح لها شاة واحدة، وهذه هي العقيقة، وهي شكر الله على الولد، فمن رزق ولداً ذكراً يوم سبعة من ميلاده يذبح عنه شاتين، ويحلق شعر رأسه، ويجمع ويزنه في ميزان الصيدليات الدقيق، ويتصدق بوزنه ذهباً، وكل هذا شكراً لله أن أحيا منهما ولداً، فمن أنتما؟ لو اجتمعت الدنيا على أن يخلقوا ولداً ما قدروا عليه، ولا استطاعوا، وأنت وامرأتك تنتجان هذا الولد.إذاً: السنة في يوم السابع أن يحلق الرأس، ويوزن الشعر، وممكن يكون وزنه ربع جرام .. نصف جرام، والجرام سعره أربعين ريالاً اليوم، والشاة والشاتان إن أمكن، فإن لم يستطع لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.أما البنت فقط شاة واحدة، لم هذا؟ لأن الله يعلم ما في قلوبكم، كيف وهو خالقها، وخالق دقاتها، فهو يعرف أن ميلك إلى الذكر أولى فضاعف الشكر بذبح شاتين، والأنثى بذبح شاة واحدة.هل عرف المسلمون هذا؟ لا يعرفون، لم؟هل يجتمعون على كتاب الله وسنة رسوله كل عام، طول الحياة هكذا، حتى يصبحوا علماء ربانيين رجالاً ونساءً؟ لا، كانوا لا يجتمعون على القرآن إلا لسماعه؛ لأنه ليلة الميت.وإخواننا يعرفون هذا، والله لا يجتمعون على القرآن ليدرسوه، ولكن فقط ليسمعوا ليلة الميت فقط، متنا وأماتونا.

معنى قوله تعالى: (قال ومن ذريتي ...)

قوله تعالى: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] هذه سياسية وأنتم لا تقبلون السياسة.فقد سأل إبراهيم ربه ولاية العهد، فقال: أنت إمام. قال: واجعل من ذريتي أيضاً أئمة.ومن هذه الآية استنبط أهل العلم أن للحاكم الرباني المؤمن الصالح إذا خاف الوفاة أو الموت فعليه أن يوصي بمن هو أهل لحمل الأمانة، فيكون ولي عهده، يساعده وهو حي، وإذا مرض يقوم مقامه، وإذا مات تولى أمر المسلمين بعده، وهذا من باب الرعاية، والعناية، وحفظ العهد؛ لأنه لو مات وما ترك شيئاً فإنهم يتقاتلون في ظروف معينة، ومن الجائز في يوم من الأيام أنهم لا يقتتلون، لكن هذه الأمة تمر بها القرون والعصور والدهور ومن الممكن أنهم يقتتلون.وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-15, 11:02 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (84)
الحلقة (91)



تفسير سورة البقرة (53)


بأمر من الله خرج إبراهيم بهاجر وإسماعيل إلى مكة، وهناك حيث لا ماء، ولا زرع، ولا ضرع تركهما، تركهما في حفظ الله ورعايته، ومرّت السنون ويعود إلى مكة ليجد ابنه يافعاً، ويأتيه الأمر الإلهي ببناء البيت الحرام برفقة ابنه إسماعيل، فوفيا بالمهمة، وكان البيت الذي غدا مثاباً ومرجعاً للناس، يؤدون فيه صلواتهم، ويستيغيثون حوله بربهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:125-126] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

معنى قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت)

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] هذا خبر، وكأن الله تعالى يقول لرسوله: اذكر لهم إذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً.وقد سبق أن عرفنا دعوى اليهود، والنصارى، والمشركين أنهم حنفاء، وأنهم أتباع إبراهيم، وإبراهيم مقدس عندهم مطهر، مبجل، مرجل، وكل طائفة تنتسب إليه، وتدعي أنها من أتباع إبراهيم، وهم كاذبون، فأزاح الله الستار عنهم، وكشف عورتهم، وليس لهم بإبراهيم إلا النسبة الفارغة، وإبراهيم كان موحداً وهم مشركون، وما بقي بعد هذا شيء.فها هو تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ [البقرة:125] أيُّ بيت هذا يرحمكم الله؟ إنه الكعبة المشرفة .. إنه البيت العتيق، فـ(أل) للعهد، فهو المبيت المعروف، إذ حج هذا البيت آدم، ونوح، وهود، وصالح، وموسى، ومن بعده من الأنبياء.وهذا البيت أول بيت بني في الأرض، وذلكم أن آدم عليه السلام لما نزل من سماء الكمال إلى الأرض استوحش، فقد كان في أنس، ثم أصبح غريباً في هذه الديار مع زوجه حواء، وقيل: إنهما تلاقيا في عرفة، وكل عرف الآخر، فبنى الله تعالى بواسطة ملائكته أو من شاء من خلقه هذا البيت، فكان آدم إذا استوحش يأتي إلى ربيت ربه يسأله حاجته، ويطلب من الله مراده، فكان ملاذاً، ونِعْمَ الملاذ لآدم وحواء ولذريتهما من بعدهما.وسبب كون إبراهيم عليه السلام بناه؛ لأن السيول والأودية هدمته، وبقي زمناً طويلاً وهو عبارة عن كوم من التراب، فهذا هو البيت.

معنى قوله تعالى: (مثابة للناس)

يقول تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ أي: اذكر يا رسولنا، والمبلغ عنا! إذ جعلنا البيت مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] ما معنى مثابة؟المثابة: مصدر ثاب إليه يثوب إذا جاء ورجع إليه، والمثابة مصدر زيدت فيه التاء.ومعنى: مَثَابَةً لِلنَّاسِ أي: مرجعاً، يروحون ويعودون، فيذهبون ويجيئون الدهر كله. أي: للطواف به، ولسؤال ربهم حاجاتهم، فهم عبيده، وهذا بيت مولاهم، وإلى الآن إذا عظمت عليك مسألة ولم تجد لها حلاً فافزع إلى الله واغتسل، وتطهر، وتجرد، ولبِ وامشِ، وبين المقام والحجر اسأل الله، فلن تخيب.وقوله: مَثَابَةً لِلنَّاسِ أولهم وآخرهم، أبيضهم وأسودهم، فليس للعرب ولا للعجم فقط، فلفظ الناس يعني لكل إنسان، فهذا بيت ربه.

معنى قوله تعالى: (وأمناً)

قال تعالى: مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] البيت هو الأمن .. الحرم هو الأمن، وهذه لا يقدر عليها إلا الله، فالرجل يمر بقاتل أبيه أو قاتل أخيه أو سالبه ماله وحياته، ويمر به في الحرم يطأطئ رأسه، ولا ينظر إليه.والذي غرز هذه الغريزة في قلوب الجهلة في الجاهلية هو الله!قال تعالى من سورة المائدة: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة:97] أي: معايشهم قائمة عليها، فالتجارة الفخمة العظيمة هي تجارة الحج، فيأتي العرب من أنحاء ديارهم يسوقون أموالهم وتجاراتهم، ويبيعون، ويشترون، ويتزوجون لمدة سنة، فيقطعون المسافات ولا يعترضهم أحد، ولا تشن عليهم غارة، ولا ينصب لهم كمين أبداً، وذلك في الأشهر الحرم: القعدة، والحجة، ومحرم، ثلاثة أشهر يوضع فيها السلاح، وشهر رجب وإن كان بعيداً لكن تدبير الله أن جعله في الوسط، فقد يحتاجون إلى رحلات في الشرق والغرب، فهذا الشهر -أيضاً- شهر الأمان، فاركب ناقتك، واحمل ذهبك، ولا يصدك صاد.قال: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [المائدة:97]، فكانوا يهدون الإبل، والغنم، والأموال إلى الحرم .. إلى سكان بيت الله وحرمه .. إلى جيرة الكعبة، وقد سمعتم أن رجلاً واحداً كان ينحر كل موسم ألف بعير! وليس بصاحب بنك كأنتم، ولا صاحب مصانع، ولا بصاحب تجارة مع أوروبا، لا، إنما عبد جاهل هو الآن في النار، فيذبح ألف بعير للحجيج؛ نساء ورجالاً! ويكسو ويوزع كل سنة ألف حلة للفقراء والمساكين، والحلة: ثوبان من نوع واحد.وها هو عبد الله بن جدعان الذي انعقد في بيته حلف الفضول التاريخي الذي ما عرفت الدنيا نظيره، وشهده الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، تقول عنه أم المؤمنين رضي الله عنها للرسول: ( أرأيت يا رسول الله عبد الله بن جدعان فقد كان يفعل ويفعل هل هو في الجنة؟ قال: لا، إنه في النار ) لم؟ ( لأنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ) فما كان مؤمناً، بل كان كافراً لا يؤمن بالبعث والجزاء، ولا بالنبوة، والرسالة، والوحي الإلهي.إذاً: معاشر المستمعين والمستمعات! من القائل: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]؟ الله.نسمع كلام الله؟ إي والله! هذا كلامه.الحمد لله! الحمد لله أن عرفنا ربنا، ونسمع كلامه، ونحن -والله- جالسون في بيته! وملايين البشر تائهون في أودية الضلال كالبهائم، لا بصيرة، ولا نور، ولا هداية، ولا معرفة، فهم أشبه بالحيوانات، والحيوانات أطهر منهم! فهم يعملون الليل والنهار من أجل -فقط- قضاء شهوة البطن والفرج.وأية نعمة أكبر من نعمة الإيمان؟! واقرءوا قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] هذه نزلت في عرفات.وقوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] ما معنى الأمن؟ الأمن بكامله، فمن دخل الحرم أو دخل في الأشهر الحرم فهو آمن، وهذا كان في الجاهلية، حيث لا قانون، ولا شريعة، ولا نبي، ولا رسول! فلما جاء الإسلام، وساد الأرض، وظهرت أعلام العدل فيه كان المسلمون هم المسئولون عن تحقيق الأمن في ذلك البلد الآمن.نعم، الآن يوجد سراق، فيأتي حجاج لهذه المهمة، يسرقون، ويأخذون أموال الحجاج وهم يطوفون بالبيت! والله العظيم.فلم ما فعل الله بهم كما فعل بالأولين؟الجواب : لأن الأولين لا شرع لهم، ولا قانون، ولا رسالة، ولا دولة، ولا حكومة، فلا بد وأن يرحمهم، فيلقي في قلوبهم مخافة الله والهيبة من الله؛ حتى لا يعتدوا على حاج أو معتمر.

معنى قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)

ثم قال تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] هذه قراءة سبعية، وقرأ نافع بصيغة الماضي واتخَذوا من مقام إبراهيم مصلى .يقول عمر رضي الله عنه: ( وافقت ربي في ثلاث )، وزاد: وافق في خمس!ومما وافق فيه الله تعالى أو وافقه الله تعالى فيما قال، ونزل القرآن به، أنه الذي اقترح وقال: ( يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟! فنزلت هذه الآية: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] )، والمصلى مكان للصلاة، وها نحن -والحمد لله- نصلي خلف المقام، فأيما طائف أو طائفة بالبيت إذا فرغ من الأشواط السبعة، ولا يكون الطواف إلا سبعة أشواط، فلا يصح ستة ولا ثمانية، ومن زاد أو نقص بطل مفعول هذه العبادة، ومعنى بطل مفعولها: لم تولد الطاقة المطلوبة، فهي تعب فقط؛ لأن العبادة إذا قننها الحكيم، واختل أداؤها بالزيادة، أو النقص، أو التقديم، أو التأخير؛ فإنها لا تولد الحسنات!وليس معنى لا تولد الحسنات أن الله لا يعطي حسنات، أو أن الملائكة لا يكتبون، إنما المعنى أن هذه العبادة توجد نوراً وطهراً في قلب العبد؛ فلهذا كم من مصل، وكم من صائم، وكم من متصدق، وكم من طالب علم، وكم من مجاهد، وكم من مرابط، وكم من ذاكر، وكم من راكع وساجد؛ يخرجون كما يقال: أصفار اليدين لا شيء!وإن قلت: كيف؟أقول: لأن هذه العبادات مقننة تقنيناً أعظم من تقنين الكيمياويات وتراكيبها، ومتى حصل فيها خلل فإنها لا تنتج أبداً.ولو عرف المسلمون هذا ما بقي مسلم لا يطلب العلم أبداً، نعم، وفي القرون الذهبية كان النساء كالرجال، فكل مؤمن يعرف كيف يعبد ربه! لكن لما صرفنا، واستجبنا للصرفة، وصرفونا، ما وجد من يعرف.فإذا سألت الفقيه: يا شيخ! أنا صليت المغرب وزدت ركعة متعمداً؟ فيقول: صلاتك باطلة، أعد صلاتك، وهذا الذي يملكه الفقيه!وآخر يقول: أنا تكاسلت فصليت العصر ثلاث ركعات فقط؟ فيقول الفقيه: صلاتك باطلة.أما نحن ففهمنا من قوله: باطلة أنها ما أنتجت، وما ولدت، فأعد الصلاة!فقوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] وافق فيها عمر ربه.

من موافقات عمر لربه

كذلك لما نزلت آية من سورة المؤمنون: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12] إلى آخر الآية، قال عمر : الله أحسن الخالقين، وما زال كذلك حتى نزلت: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14].الثالثة: كانت غزوة بدر هي أول معركة إسلامية ظهر فيها أبطال بدر، ورجالات الجهاد، فلما انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر وبعض الصحابة، فرأوا أنهم يفادون الأسرى، لقلة ذات اليد، فلا ميزانية، ولا دولة، ولا مال، والبلاد محاصرة؛ فالأحسن أن يفادوا، فالأسير بكذا ألف وبكذا وكذا، فقال عمر : لا، لا نفاديهم، إنما نقيم عليهم القتل! فما هناك أنفع من قتلهم.فلما كان المستشارون الأولون جماعة ما استطاع أن يفعل شيئاً، فسكت! فنزل القرآن يؤيد عمر في القتل، فقال تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا [الأنفال:67]، أي: ما كان لنبي من الأنبياء أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، ويفتح الشرق والغرب، أما الواجب في أول معركة هو قتلهم حتى يرهب العدو في الشرق والغرب، أما إذا بعتموهم بالمال فسيقولون: هؤلاء ماديون! لا نبالي بهم، فوافق عمر ربه في هذه أيضاً.ورابعاً: قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! نساؤك يدخل عليهن البار والفاجر، لو أمرتهن بالحجاب؟ ) فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ [الأحزاب:53] ونزل قول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ َ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53] سواء ستارة أو باب أو جدار، المهم الحجاب الحجاب!إذاً: ولا تعجبوا من عمر !تريدون أن تكونوا عمريين؟فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه ) فما يطيق الشيطان أن يمشي معه في شارع واحد، ولو كان عرضه ستين متراً، فما يقوى بل يهرب وله ضراط!ويقول صلى الله عليه وسلم: ( لو كان في أمتي محدثون -أي: من تحدثهم الملائكة- لكان منهم عمر ، ولكن لا نبي بعدي )، لم؟ لصفاء روحه، وهو كتلة من نور لزكاة نفسه!فهذه النفس ما زكت بالصابون إنما زكت بصدق الإيمان وصالح الأعمال، والبعد كل البعد عما يدسيها أو يلوثها أو يصيبها بظلمة أو عفن أو نتن، إذ كل الذنوب هذا شأنها.وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ما قال أبي في شيء: أظنه كذا إلا كان كما قال.فإذا نظر إلى الحادثة وقال كذا فإنه لا يخطئ! وكم من آت ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطي لسلاحه فيقول له عمر : أخرج سلاحك. وهذه هي كما قال الرسول: ( اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله )، فهذا نور القلب الذي طاب وزكا وطهر! وما تلوث بالقاذورات والأوساخ الهابطة.

تقوى عمر

وأخيراً لما ولي أمر المسلمين دعاه أحد الولاة إلى طعام، فوضع له مائدة فيها كذا نوع من الطعام، وطعامنا الآن أوسع منها، فنظر إلى تنوع الطعام فاضطرب وقام كالأسد، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ما لك لا تطعم؟! قال: إني خشيت أن أكون ممن قال الله فيهم من سورة الأحقاف: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].وهذه الآية تزن الدنيا وما فيها، فالزبانية في جهنم تقول لهذا النوع: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا أي: أكلتموها في الدنيا، فما تركتم حلاوة، ولا طعاماً، ولا شراباً، ولا لباساً إلا أخذتموه، فماذا بقي؟! وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا والاستمتاع معلوم فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ أي: العذاب الذي فيه الإهانة، وكسر المروءة، وتحطيم الشرف بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ والاستكبار في الأرض بمعنى العلو والارتفاع، وكيف يستكبر مَن أصله نطفة قذرة، ويحمل في بطنه العذرة المذرة، ونهايته جيفة قذرة منتنة؟! كيف يستكبر هذا؟!والاستكبار هو: غمص الناس وبطر الحق، فالمستكبر لا يذعن .. لا ينحني .. لا ينتصح، فهو دائماً مع هواه!والاستكبار في الأرض من أعظم الذنوب؛ لأنه تعدٍّ على الله عز وجل، فالكبر لله، والذي يريد أن يكون كبيراً متكبراً فقد نازع الله عز وجل في صفته؛ ولهذا يأتي الوعيد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: ( إن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، ولا تعجب! فإن هذا المثقال من الكبر يجعل صاحبه لو حضره الموت وقيل له: أي فلان! قل: لا إله إلا الله، فسيقول: لا أقول. ويموت كافراً.ولا تعجب فإن مثقال ذرة من كبر يفعل العجب، فيحمله على ألا يركع ولا يسجد، ويحمله على ألا يعترف بحقوق الناس، ويأكلها ويظلمهم.وأي حق لك أن تتكبر وأنت عرفت أصلك، ومادة خلقك، وعرفت مصيرك؟! من أين لك يا ابن آدم أن تتكبر؟! فالكبرياء لله، ومن نازع الله في كبريائه قصمه ولا يبالي.فإذا حصل نزاع بينك وبين أخيك، وعرفت أن الحق له لكنك تتكبر، وتمنعه حقه، فأنت متكبر!ونعود إلى السياق الكريم: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] هذه مما وافق فيها عمر ربه تعالى، قال: ( أرأيت يا رسول الله! لو نتخذ من مقام إبراهيم مصلى -مكاناً نصلي فيه- فنزلت الآية )، فالطواف بالبيت سبعة أشواط كالسلام من الصلاة، فإذا صليت ركعتين أو أربع تخرج من الصلاة بقولك: السلام عليكم. أما الطواف فإنك لما تطوف فإنك تخرج من الطواف بصلاة ركعتين، ومن استطاع أن يصلي عند المقام فذاك، وإن عجز أو كانت امرأة فما دام في الحرم متجهاً إلى الكعبة يصلي؛ للزحام والضرورة، أما خارج الحرم فقد سئل عمر عن ذلك فقال: لا يصلي، ولا ينفع ذلك.

معنى مقام إبراهيم

قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] أي: تصلون فيه، والمقام: مكان قيام، فهذا الحجر .. هذا المقام سببه أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت بأمر الله، وهذه واحدة من الأوامر التي نجح فيها وفاز بالإمامة، وكان إسماعيل الغلام، الزكي، النقي يساعده، فيأتي بالحجارة من جبل أبي قبيس ومن المروة، والجبال قريبة، وإبراهيم يبني، فلما ارتفع البناء احتاج إبراهيم إلى حجر يقف فوقه ليواصل البناء، وليس بشرط، له أن يبنيه كما هو الآن مبني، كقامة الإنسان وبقدر ما يستطيع، فكان كلما بنى قطعة دعس الحجر أمامه وعلا فوقه، وواصل البناء، فلما انتهى كان الحجر بين الركن الشامي والحجر الأسود، عند الباب، وبقي الحجر إلى أن جاءت السيول وزحزحته؛ فوجد في مكانه الآن.وهذا المقام بلغتنا العصرية (قدم خدمة لله)، فجزاه الله بأعظم وسام؛ لأن الله لا يضيع المعروف عنده.انتبه! والله لا يضيع المعروف عند الله! وما من عبد يعمل شيئاً لله إلا ويأخذ جزاءه وثوابه.فهذا الحجر قدم خدمة وهي أن بني البيت بواسطته في علوه وارتفاعه، فشرفه الله بأن جعل أعظم عبادة تؤدى دونه.ولعل بعض السامعين أو السامعات ما فهموا.

لا يضيع المعروف عند الله

أقول: ثقوا في أن الله لا يضيع المعروف عنده، فمن فعل معروفاً لله وبالله فلن يحرمه الله مثوبته أبداً وجزاءه، فتعاملوا مع ربكم بما شئتم.فهذا الحجر لما بنى إبراهيم البيت بواسطته ارتفع البناء، وتركه حيث انتهى البناء، ما بين الركن الشامي والحجر الأسود، فجاءت السيول وأخرته إلى المقام الذي فيه هو الآن، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتركوه هناك، فكل طائف أو طائفة بالبيت يصلي ركعتين خلفه؛ امتثالاً لأمر الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].وأشرف عبادة على الإطلاق هي الصلاة، فما فوقها عبادة؛ لأن فيها ركوعاً وسجوداً في الأرض بين يدي الله، ومن الغريب أن أحد الأبناء أو الإخوان أراني الآن مجلة فيها صورة زعيم عربي كان راكعاً ومنحنياً أمام يهودي يصافحه!وكل هذا بسبب الجهل، فما عرف أنه لا انحناء ولا ركوع إلا للجبار .. إلا لخالق الليل والنهار .. إلا لرب السماوات والأرض وما بينهما.ومع الأسف هناك الكثيرون يركعون، فلم شرفت الصلاة وعظم شأنها، وأصبحت العبادة الوحيدة التي تولد أعظم طاقة؟الجواب: لأن فيها الانكسار، والذل، والانحناء، وتعفير الوجه في التراب لله عز وجل!وأنت عندما تصافح شخصاً تصافحه ورأسك مرفوعة، ولا تركع.ثم هذا الزعيم -حقنا كما يقول العامة- كان مع يهودي! ونحن نقول: لا يجوز، لا مع اليهودي، ولا مع علي بن أبي طالب . فما نقول: لو كان مع مسلم لا بأس، بل المصيبة أعظم حينئذ، لأن هذا المسلم الذي ركع له وسكت فهو أيضاً دخل في جهنم! أما هذا اليهودي فشأنه، هو من أهل النار، لكن المؤمن لا يركع لغير الله عز وجل.وهذه الظاهرة أيضاً موجودة عند لاعبي الكرة، وعند الملاكمين، وعند لاعبي الكاراتيه، فإذا فرغوا يركعون، وقد أخذوها من المجوس الذين لا دين لهم، وللأسف أنهم لا يسألون، ولا يستفتون، ولا يبحثون، فإذا فرغوا سألوا: أيجوز هذا؟والمعلوم أن المسلم يقتل ويصلب ولا يسجد ولا يركع لغير الله.فإن قيل: لكن ما العلة يا شيخ؟!الجواب: الجهل، فمن رباهم؟ وفي حجور من جلسوا، وتعلموا، وتربوا؟وسيجيب بعض الناس: نحن كالبهائم نعيش في الصحارى، فلا تلمنا يا شيخ!والشاهد عندنا أن في هذا المقام تؤدى أشرف عبادة وهي الصلاة! إكراماً من الله له؛ لأنه قدم (خدمة جليلة لله عز وجل)، فما ضاع المعروف عند الله.إذاً: فائدة: يا عبد الله! يا أمة الله! إذا قدمت لله شيئاً من قلبك، ورغبة في ما عند الله، وفي حب الله؛ فاعلم أنه لن يضيع معروفك، ولن يضيع المعروف عند الله، وهذا هو الشاهد، ونحن الآن كلنا نصلي الركعتين خلف المقام؛ حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.وهذا المقام من آيات الله فإن إبراهيم لما كان عليه غاصت قدماه فيه وهو صخرة؛ لتبقى آية إلى يوم القيامة، واقرءوا قول الله عز وجل: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] (فيه) أي: في الحرم (آيات) علامات كالشمس (بينات) دلائل، وبراهين ساطعة، ومنها: أن قدم وأصابع إبراهيم كانت على هذا الحجر، وبكثرة تمسح الناس وتقبيلها في الجاهلية انطمست. وإلا كيف تغوص قدما إبراهيم في الصخر. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا أي: الحرم. وإذا كان الفعل بالماضي فهذا إخبار بما هو مفروغ منه وسيكون، وقد كان.

قصة تسري إبراهيم عليه السلام بهاجر

ثم قال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:125] أي: أوصيناهما.وقوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وإسماعيل هو ابن إبراهيم، وأمه هي هاجر ، وهي قبطية مصرية، كانت أمة.لكن كيف حصل عليها إبراهيم؟لما كان إبراهيم عليه السلام مع سارة يمشيان في الأرض، وقد تركا ديارهما، فساحا مهاجرين؛ وانتهت بهم السياحة إلى مصر، من طريق غزة وسيناء، فلما وصل إبراهيم الديار المصرية في ذلك الزمن، ولا تنظروا إلى القاهرة والاسكندرية، وشى به بعض المرضى إلى السلطان، وقال: إن غريباً بالدار نزل عندنا، ومعه امرأة حسناء لا تصلح إلا لك.والعامة في المغرب يسمون هذا قواداً، أي: يقود إلى الفاحشة، ويسمى عندنا الجرار، وأيهما أعظم: القواد أم الجرار؟ القواد أخف، لأنه يقوده، والجرار يسحبه، ويجره جراً حتى يوصله، وأعوذ بالله أن يكون في ديار الإيمان والإسلام القوادون والجرارون، موقدو نار الشهوات، والفتن، والأهواء.وتلك الأمة كافرة فلا عتاب ولا لوم، وإنما كيف يوجد هذا بين المسلمين، ونظيره الذي يفتح ماخور للدعارة.إذاً: لما وشى هذا الجرار بعث إلى إبراهيم بعسكري، وقال لإبراهيم: هات المرأة، فقال: يا سارة ! إنه لا يوجد على الأرض اليوم مؤمن إلا أنا وأنت -وهو كذلك- فإذا سألك عني فقولي: أخي، ولا تقولي: زوجي، لأنها إذا قالت: زوجي إبراهيم سيقتله، وكيف يستحل امرأة بزوج، فهذا لا بد من إعدامه، لكن قولي: أخي، ولا يوجد يومئذ على الأرض مؤمن إلا هو وهي.ورفعوها إلى المقام السامي، وجلست إلى جوار السلطان، وأخذ يداعبها ويراودها، وكلما وضع يده عليها سواء كتفها أو فخذها أو رأسها يصاب بالشلل الفوري، والله العظيم! وتيبس يده! وفي المرة الأولى ماذا فعلت؟ تدعو الله فتعود يده، وهكذا في المرة الثانية والثالثة، ثم نادى في العسكر: أخرجوا هذه عني، واصنعوا لها من اللباس والكرامة والمأكل، وأكرمها بأن أعطاها هاجر خادمة مصرية تخدمها؛ لأنه شاهد آيات الله.فسألها إبراهيم: ما فعل الطاغية؟ قالت: كذا وكذا، وهذه هي هاجر أهدانيها.وتبرعت سارة لإبراهيم ابن عمها وزوجها، قالت له: خذ هذه وتسراها.قلب رحيم! أتوجد هذه المرأة الآن؟! امرأة اليوم إذا سمعت به يخطب فقط فيا ويله، ويا ويلها!فقالت سارة : خذها وتسراها يا إبراهيم! لأن سارة لا تنجب، وتسراها إبراهيم، فأنجبت إسماعيل في أرض القدس، ولما أنجبت إسماعيل تضايقت سارة عليها السلام وحزنت: كيف أن هذه الجارية تلد، وأنا كيف أعيش هكذا؟ فأوحي إلى إبراهيم أن يبعد هاجر مع طفلها؛ إكراماً لسارة حتى لا تتألم وتعيش في حزن صباح مساء، وعاشت سارة كذا سنة ما ولدت، وبعد سنين أنجبت لما جاء الملائكة لتدمير المؤتفكات، فنزلوا ضيوفاً وبشروها، وهي تسمع؛ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ [الذاريات:29-30]، أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:72-73]. وذلك بعدما تجاوز إبراهيم مائة وعشرين أو مائة وثلاثين سنة.فرحمة بهذه المؤمنة قال: أبعدها عنها؛ حتى لا تشاهد الطفل، وذهب بها إلى جبال فاران .. إلى الوادي الأمين .. إلى بكة، فركب براقاً، والله لقد ركبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وربطه في حلقة باب المسجد الأقصى! يخلق الله ما يشاء.والعجب أن الذي حدثنا بهذا الحديث هو أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.

قصة ماء زمزم

لما دخل إبراهيم مكة مع هاجر والطفل الصغير رضيع، جلس معهما والبيت لا وجود له، عبارة عن كوم من التراب، ولكن تحت شجرة من السدر، وشجر السدر ينبت في الصحراء، وأراد أن يعود فقفل راجعاً؛ فنظرت إليه هاجر وقالت له هذه الكلمة: آالله أمرك بهذا يا إبراهيم! أن تتركني وطفلي في هذه الصحراء؟! لا أنيس، ولا ماء، ولا طعام، آالله أمرك بهذا؟ فالتفت إليها وقال: نعم يا هاجر ! قالت: إذاً: اذهب، فإنه لن يضيعنا.يا من يتذوق طعم التوكل على الله! انظر إلى قولها: اذهب فإنه لن يضيعنا، فما دام أنه قد أمرك بأن تتركني وطفلي في واد ليس فيه أنيس، ولا طعام، ولا شراب، فالله لا يضيعنا إذاً.وعندما نعود إلى نماذج من مجتمعنا! فتقول مثلاً: يا فلان! أنت مؤمن .. أنت مسلم في المدينة، ما يجوز لك أن تبيع في دكانك مجلات فيها صور الخلاعة .. أو تبيع الدخان، خفف عن المسلمين، فيقول: إذا ما بعت المجلة والدخان من يشتري؟ الزبناء يطلبون غيرنا، هذا توكل على من؟!وإذا قلت: يا فلان! الربا حرام، واخرج من هذه الفتنة، وأغلق هذا الباب، وحول هذا الربا إلى إسلام صحيح، يقول: كيف نصنع مع الظروف والأزمنة ؟!وإذا قلت لصاحب صالون حلاقة يحلق وجوه الرجال: يا عبد الله! أنت فحل، لا تحلق وجوه الفحول، أصلح اللحية وحسنها، واحلق شعر الرأس، أما تحلق وجوه الرجال فلا، يقول: وهذا الصالون والعمال كيف نعيش؟ لا بد! هذا ما توكل على الله، إنما توكل على صالون الحلاقة.ومظاهر هذا كثيرة، فما سر هذا؟الجواب: ما آمنا حق الإيمان، ولا عرفنا الرحمن، ولا امتلأت قلوبنا بخشيته، ولا بحبه، ولا رغبة لنا في لقائه، فلا تلمنا إذاً، أما تلك المؤمنة فقد عاشت أياماً في حجر إبراهيم، وعلى فراش إبراهيم، وقد انتقلت أنواره إليها، ولازمته سنة أو أكثر، فعرفت أن الله ما دام قد أمره فلن يضيعنا!وما هي إلا أربع وعشرون ساعة ونفد الماء الذي كان في القربة أو الشن، ونفد الخبز الذي كان في المزود، وبقي -والله العظيم- إسماعيل يتلوى في الأرض من شدة العطش! وليس في تلك الديار أحد، فلما شاهدت إسماعيل في تلك الحال نظرت إلى أقرب جبل منها وهو الصفا، ولهذا لما نسعى الآن تعبداً نبدأ بالصفا، إذ بدأت به هاجر . فطلعت فنظرت يميناً وشمالاً ولم تر شيئاً في ذلك الوادي، فهبطت فرأت جبل المروة أمامها على قرابة كيلو متر أو نصف كيلو، وما هناك من الجبال إلا هو، فذهبت إلى الجهة الشمالية علها تشاهد شيئاً، وكان ما بين الجبلين واد، والآن الوادي مضبوط بالمليمتر، ما بين الميلين الأخضرين، وقبل وجود الكهرباء كانوا يصبغون العمود بالصبغة الخضراء؛ الميلين الأخضرين، والآن بالكهرباء خضراء، بينهما هذا الوادي، فلما تصل إليه تسرع لهفة، تسرع حتى تخرج من المنخفض إلى المرتفع؛ لعلها تشاهد أو ترى.ومن ثم خلد الله ذكر هاجر ، فما من فحل منا قادر على أن يخب في ذلك الوادي إلا وخب! أو هجر السنة وتركها.أرأيتم كيف يحيي الله ذكرى الصالحين وصنعتهم؟فلما صعدت المروة ما شاهدت شيئاً حتى اكتملت سبع مرات، وإذا بهاتف يهتف، وتقول: أسمعت، أسمعت، هل من مغيث، نظرت وإذا برجل على رأس إسماعيل واقف، على أحسن ما يكون الرجال ثياباً وجمالاً، وكان جبريل عليه السلام، كما كان يدخل أمام الصحابة.فلما دنت من جبريل قال بعقبه هكذا في الأرض، فصار زمزم، والله الذي لا إله غيره، بعقبه هكذا فقط سال وخرج الماء، فأخذت تزمه حتى لا يسيح في الأرض، وشفقة على الماء؛ خافت أنه ينقطع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أم إسماعيل لو تركته لكان عيناً معيناً إلى يوم الدين ) يسيل دائماً، أما الآن فلا بد من الحبال والدلاء، وبعدها الآلات أيضاً لسحب الماء، ولو تركته يسيل دائماً، وقوله: ( رحم الله أم إسماعيل ) هذه كلمة تساوي الكثير، وهل يستطيع أحدنا أن يقولها؟ ( رحم الله أم إسماعيل لو تركته لكان عيناً معيناً إلى يوم الدين ) هذا زمزم.وزمزم مما سجله القرآن وأذن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن من طاف بالبيت وصلى خلف المقام من السنة أن يشرب ماء زمزم، وإن كان رياناً؛ تخليداً للذكريات، فإذا طاف المرء منا بالبيت وصلى خلف المقام من السنة أن يشرب من ماء زمزم، ويكثر منه في حدود طاقته، ولقد رأيت حاجاً انقطع من حجاجنا قديماً أيام كان الدلو فيشرب الدلو بكامله، ويوسع بطنه بيديه، ولو يشرب هذا الماء من النيل أو الفرات أو من ماء كذا لا يبيت إلا في المستشفى! ولكن ( زمزم لما شرب له )، ( زمزم شفاء سقم وطعام طعم ).وهذا كله كان ببركة الصابرة المتوكلة اليقينية هاجر أم إسماعيل عليه السلام، جدة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.إذاً: هذه تابعة للسعي: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].ثم قال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:125] بم؟ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [البقرة:125] إلى غد إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-15, 11:12 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (85)
الحلقة (92)



تفسير سورة البقرة (54)


كما أن الله يصطفي من الملائكة رسلاً، فهو كذلك يصطفي من الناس رسلاً، وهو أيضاً يخص ما شاء من البقاع والأماكن والأزمان بما شاء من تشريف وتكريم، وقد اصطفى الله إبراهيم وابنه إسماعيل ليكونا نبيين، وليطهرا بيته -الكعبة- للطائفين والعابدين، وجعل الله بلدة بيته آمنة مطمئنة، ورزق أهلها من الثمرات والله ذو الفضل العظيم.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها, سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:125-126] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!ها أنتم تدرسون كتاب الله، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجائزة إنها والله لعظيمة، واسمعوا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ). ولو بذلنا ملء الأرض ذهباً على أن يذكرنا الله في الملكوت الأعلى ما حققنا ذلك.وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).ها نحن مع كتاب الله عز وجل إذ قال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:125] أن افعلا كذا وكذا.والقائل: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ هو الله جل جلاله.من هو الله؟هو خالقنا .. رازقنا .. خالق العوالم كلها .. رب السماوات والأرض وما بينهما .. ولي المؤمنين، ومتولي الصالحين، ومرسل المرسلين، ومنبئ الأنبياء، فهذا الله الذي لولاه ما كنا.يقول: (وعهدنا) أي: نحن رب العزة، والجلال، والكمال.عهدنا إلى من؟ إلى إبراهيم وابنه إسماعيل.وعهدنا بمعنى: أوصينا، لأنه عدي بـ (إلى)، فأمرنا موصين مؤكدين، مَن؟ إبراهيم.

معنى إبراهيم

من هذا إبراهيم؟هذا أبو الأنبياء، هذا أبو الضيفان، هذا خليل الرحمن.وهذه الكلمة (إبراهيم) حقيقتها بالعبرية: أب رحيم، وحقاً والله إنه لأب رحيم، ويدلك على رحمته أن ابتلاه سيده ومولاه بأن يذبح فلذة كبده ويقدمها قرباناً لله رب العالمين!ولعل الغافلين ما يتنبهون، ولو كان قلبه قاسياً -مثلي- ما هناك حاجة إذا قال له: اذبح، فإنه يذبحه وهو يغني! لكن من له قلب رحيم، رقيق، وعواطف جياشة كيف يقوى على أن يذبح ولده؟!وهذا شأن الاختبار والامتحان، فإذا نجح صاحبه وفاز انتهى إلى أسمى قمة في الكمال البشري.أما سمعتم الله تعالى يقول على لسان إبراهيم: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:102-103] أسلما ماذا؟ أعطيا ماذا؟ أمرهما وقلباهما ووجهاهما لله وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:103-105].هذا هو إبراهيم، أبو الأنبياء، وما من نبي بعده إلا من ذريته.إذاً: عهد إليه الله جل جلاله، رب العزة والجلال.

معنى إسماعيل

أما إسماعيل فهو ابن إبراهيم, كان ما زال صغيراً، لكنه ناهز البلوغ، وأصبح يناول أباه الحجارة وهو يبني البيت.قالت العلماء: ومعنى إسماعيل بالسريانية لا العبرية: سمع الله دعاءك يا إبراهيم وأعطاك ولداً، فهو إسماعيل؛ لأن إيل معناها: الله, ويدلك لذلك: جبريل، ميكائيل، إسرافيل، عزرائيل، كما نقول: عبد الله، عبد الرحمن، عبد الرحيم.

معنى قوله تعالى: (أن طهرا بيتي)

عهد إليهما بماذا؟ كلفهما بماذا؟قال: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ [البقرة:125].إذاً: أخطأت وغلطت في أن إسماعيل هنا ليس غلاماً مناهزاً للبلوغ، بل أصبح رجلاً في هذا السياق أن ينهض بهذا التكليف بعد والده ومع والده. أن طهرا أي: يا إبراهيم وإسماعيل! أيها النبيان والرسولان! طهرا بيتي. وذلك بعدما بني البيت ممكن بسنين أو بأيام، أما أثناء بناء البيت فكان إسماعيل مناهزاً للبلوغ فقط، وما شب، ولا ترعرع.وإبراهيم هو الذي كان يبني، أما إسماعيل فكان يناوله الحجارة، فلما ارتفع البناء، وما أصبح يقوى على أن يصل بالحجرة إلى الجدار؛ جاء الله بهذا الحجر -مقام إبراهيم- بما شاء من وسائل، فأصبح يعلو فوقه، ويواصل البناء، حتى أكمل البناء.إذاً: في هذا السياق كان إبراهيم وإسماعيل نبيين رسولين.قوله: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ [البقرة:125] لمن يطهرانها؟ قال: لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125].والتطهير معروف عندنا، يكون بالماء والصابون، فتطهر ثوبك وبدنك من النجاسة كالبول، والعذرة، والدم، والقيح وما إلى ذلك.إذاً: يا إبراهيم ويا إسماعيل! طهرا بيتي، ونظفاه، ونقياه من كل ما هو نجاسة معنوية كالشرك، والكفر، والتلصص، والخيانة، والزنا، والفجور، ومن كل ما هو نجاسة حسية كالجيف والنجاسات من بول وما إلى ذلك.فالتطهير هنا تنقية كاملة لما هو مكروه لله، ومبغوض لرب العالمين من النجاسات الحسيات والمعنويات.

معنى قوله تعالى: (للطائفين والعاكفين)

قوله: (للطائفين) أي: إذا جاء الطائف لا يخاف أن أحداً ينهشه أو أن يزلق في مستنقع ماء أو بول أو كذا أو كذا؛ لأنه جاء يطوف ببيت ربه.وقوله: (والعاكفين) جمع عاكف، والعُكوف لم يبق له أثر في العالم الإسلامي إلا أيام رمضان، والسنة أنه في رمضان، ويصح في كل السنة، فمن قال: لله علي أن أعكف شهراً في المسجد الحرام؛ فيجب أن ينفذ.والعكوف معناه: انقطاع كامل إلى الله عز وجل، فلا يخرج من المسجد إلا لقضاء الحاجة البشرية، أو إذا لم يكن له ولي أو مولى يتولاه؛ فيخرج إلى السوق يأخذ قرص الخبز أو عنقود العنب ويأتي إلى المسجد, وطول الليل والنهار وهو مع الله: ذاكراً، مسبحاً، مكبراً، راكعاً، ساجداً، فإذا غلبه النوم نام، وإذا ذهب قام.وانظر قيمة هذا العكوف -أي: انقطاع كامل إلى الله- فقد لا يتخرج إلا وهو نوراني، فقلبه كله نور، ولم تبق عليه خطيئة ولا سيئة مدونة عليه، فتمحى، ولا سيما في المسجد الحرام والمسجد النبوي مُعتكَف الحبيب صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله تعالى: (والركع السجود)

قوله: وَالرُّكَّعِ [البقرة:125] جمع راكع، و السُّجُودِ [البقرة:125] جمع ساجد، كقاعد وقعود.ولم خص الركوع والسجود؟إنها الصلاة، فالصلاة معراج الوصول إلى الملكوت الأعلى، ومن أراد منكم أيها السامعون! أيتها السامعات! أن يتصل بذي العرش جل جلاله في أي ساعة من ليل أو نهار باستثناء الأوقات التي لا مقابلة ولا مناجاة فيها؛ فليتطهر ولينظف ثيابه وبدنه، وليغسل جسمه، والطهارة معروفة بالوضوء أو بالغسل، ويستقبل بيته، ويقول: الله أكبر! فقد انفتح الباب، فأنت مع الله حتى تستأذن وتقول: السلام عليكم.لكن من منا يشعر بهذا الشعور؟وقد يقول قائل: لا تلمنا يا شيخ! ما جلسنا في حجور الصالحين.أليس كذلك؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقرر هذه المعاني السامية ويقول: ( المصلي يناجي ربه ) فإذا قلت: لا لا، فإنك تكفر.فقوله: ( المصلي يناجي ربه )، كيف يناجيه؟ يتكلم معه سراً، والمناجاة عندنا معروفة، ومن أحكامها: لا يتناجى اثنان دون الثالث، ولا ثلاثة دون الرابع، ولا أربعة دون الخامس؛ لأنهم يتكلمون سراً فيما بينهم، فيخشى أن يكونوا قد تآمروا عليه أو أرادوا به سوءاً، ومعنى هذا أننا آذيناه، وأذية المؤمن حرام، ولا يحل لمؤمن أن يؤذي مؤمناً ولو بحال كهذه، فإذا كنتم ثلاثة ولويت رأسك إلى أخيك وتحدثت معه سراً، فإن أخوك يقول: أخشى أن هذان يتآمرن علي.فأوجدوا في نفسه ألماً أم لا؟وكيف يؤذى المؤمن؟!فإن قال قائل: يا شيخ! إنهم يذبحون المؤمنين، فماذا نصنع؟ هل نصرخ؟!أقول: يبلغنا -اللهم بلغ عنا- أن سجون العرب تجري فيها ألوان من العذاب، والله ما توجد في النار يوم القيامة.وما نلوم يا أبنائي! فنحن ما علمناهم وما ربيناهم, أين جلسوا؟ في حجور من؟ قولوا لي!فكيف يصبحون ربانيين، حلماء، كرماء؟!وكيف يتم هذا؟ بالتربية أو بدون تربية؟والله ما كان، ولن يكون إلا بالتربية.أمامنا آية كريمة في إبراهيم حيث قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] تزكية النفوس .. تطهير الأرواح .. تهذيب الأخلاق .. السمو بالآداب، وهذا ما يتم أبداً إلا أن تجلس بين يدي المربي جلسة كجبريل عليه السلام، وأنت تستقي المعاني والمعارف، وتمتزج بلحمك ودمك، ويمتلئ بها قلبك، وما تخرج من المسجد إلا وأنت تمثلها، وهي ظاهرة في سلوكك!آه! وا حسرتاه! وا أسفاه! ما الطريق يا عباد الله؟!العالم الإسلامي هبط من علياء الكمال فلصق بالأرض، منذ قرون ومئات السنين، ومن يوم أن كاد له الثالوث فصرفوهم عن هذه المجالس، وعوضوهم بالمقاهي، والملاهي، والملاعب، وبغضوا إليهم كلام الله، وكلام رسوله، فقالوا في القرآن: صوابه خطأ، وخطؤه كفر!فأصبح الرجل إذا سمع العبد يقول: قال الله؛ يغلق أذنيه!فهل من عودة؟ عائدون إن شاء الله.ما الطريق يرحمكم الله؟! ما الطريق؟

طريق العودة إلى الله

الطريق فتح الله لنا به بابه، وهو كتاب: (المسجد وبيت المسلم).لعل أبا مرة يلقي في نفس أحد السامعين والسامعات فيقول: هذا الشيخ قائم بدعاية لكتابه ليحصل على الريالات, أسألكم بالله: هل بِيع هذا الكتاب؟ أما طبع منه سبعون ألفا؟! وننادي في العالم: اطبعوه، ووزعوه.كتاب: (المسجد وبيت المسلم) حيلة مما فتح الله تعالى به علينا.كيف أجمع أهل البيت؟ لو تعطّى الملايين ما تنتفع!كيف تعهد إلى أهل بيت إذا صلوا المغرب أو العشاء يجلس الفحل وامرأته إلى جنبه، وأمه إلى يمينه، وأطفاله من بنين وبنات بين يديه، ويتغنون بآية، فيقرءونها .. يرددونها .. يتلذذون بها، وأنوارها تغمر قلوبهم، وخلال نصف ساعة حفظوها؟! فيقول الأب: حفظت يا بنيتي! فتقول: إيه يا أبتاه! اسمع، فتقرؤها. ويقول: حفظت يا أماه! فتقول العجوز: نعم، اسمع يا بني! فحفظوا الآية.هذه الآية من الملكوت الأعلى، هذا من كلام الله رب العالمين.وماذا في هذه الآية؟أولاً: ما سميت آية بمعنى: علامة إلا لأنها تدل دلالة قطعية على وجود الرب تعالى، وعلى صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.ولن يستطيع أحد تحت الأرض أن ينقض هذا الكلام! فهذا كلام عالٍ سامٍ.أيتصور وجود كلام بدون متكلم؟! مستحيل! فهذا الكلام كلام الله، وهل هناك من ادعى وقال: كلامي؟! والدنيا تصرخ ألفاً وأبعمائة سنة: هذا كلام الله.إذاً: كلام الله آية على وجود الله وعلمه، وقدرته ورحمته، وولايته لأوليائه، وقل ما شئت من الكمال الإلهي.وهل الذي نزلت عليه هذه الآية يكون غير رسول؟! مستحيل! فلولا أنه هيأه وهو في أصلاب وأرحام أمهاته وآبائه لذلك، وأوحى إليه، كيف يوحي إليه كلامه؟ فهو رسول!إذاً: كل آية في كتاب الله الذي تقرءونه على الموتى، كل آية تصرخ بأنه: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.وكل آية تحمل الهدى .. تحمل النور، فلما تحفظها الأسرة حفظاً جيداً، ويشرحها لهم الأب: أبنائي! أمي! يا أم فلان! هذه الآية لها معانٍ ودلالات؛ لأن الله أنزلها بالعلم والبيان، فهذه الآية تأمرنا أن نعتقد الحق، ونكفر بالباطل! وهذه الآية تدعونا إلى حسن الخلق، وهذه الآية تدعونا إلى أن نقيم الصلاة، وهذه الآية تدعونا إلى أن نرحم إخواننا المؤمنين والمؤمنات.وهكذا يعطيهم ما تدعو إليه الآية، وما نزلت له من أجله، وإن شاء الله تتمسكوا بهذا النور، وبهذه الهداية الإلهية.ومن الغد أيضاً يجلسون في البيت الطاهر، والملائكة تعمره وتحفه، فيقرءون حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهي متوفرة بعشرات الآلاف كأنه نطق بها الآن، إذ لا تنقض أبداً، مهما طال الزمان، فيقرءون الحديث، اسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسمع ما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم، فيتغنون بذلك الحديث؛ لتنشرح صدورهم، وتطمئن نفوسهم، ويجدون روحانية في نفوسهم، فيحفظونه بعد بربع ساعة.يقول: أعيدي يا فلانة الحديث، فتعيده. ويقول: وأنت يا غلام حفظت؟! قال: نعم، أسمعني، حفظتم؟ حفظنا.احفظوا فلن يضيع هذا بعد اليوم، احفظوا فلا ينسى: ماذا يريد الرسول من قوله هذا وهو المعلم المربي، والسائس الحكيم؟ يريد منا كذا وكذا، ويريد منا أن نفعل كذا، وأن نتجنب كذا، فيحفظون الحديث ومعناه، وقد وطنوا أنفسهم، وأشرقت أرواحهم بأن يعملوا بما علموا على الفور بلا تأجيل.ويوماً بعد يوم، يوماً آية ويوماً حديثاً، وسنة .. سنتين .. ثلاث سنوات .. كيف يصبحون؟أسألكم بالله: أهل هذا البيت كيف يصبحون؟ أليسوا علماء .. ربانيين .. صلحاء .. أولياء لله تعالى؟ فهل مثل هؤلاء يذلهم الله أو يهينهم الله؟ والله ما كان وهو ناصر أوليائه.آه! بيوت المسلمين احتلتها الشياطين.

غلبة المعاصي على بيوت المسلمين

أبشركم أو أنذركم: نعم بيوت المسلمين حتى في مدينة الرسول في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرم رب العالمين في مكة احتلتها الشياطين، وخرجت الملائكة.فإن قال قائل: كيف هذا يا شيخ؟! أصحيح هذا؟أقول: والله الذي لا إله غيره إنه لصح، وكما سمعتم! فالبيت الذي يجلس الرجل وامرأته وبناته، والعاهرة ترقص أمامهم، وتتغنج وتتكسر، وتغني وهم جالسون، والله لا يبقى المَلك.واقرءوا قول الحبيب صلى الله عليه وسلم واحفظوا، فقد دخل يوماً حجرة الصديقة عائشة رضي الله عنها، الحبيبة بنت الحبيب، أم المؤمنين، فيجد في حجرتها سهوة نافذة، غير نافذة للخارج، تضع فيها بعض أمتعتها، وما عندها خزائن كما عندكم، ولا دواليب، وسترتها بخرقة كتان فيها صورة، وما هي التي رسمتها بل النساجة هي التي نسجتها، فدخل وتمعر وجهه! وظهر الغضب عليه، وقال: ( أزيلي عني قرامك يا عائشة! فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ).وكان جبريل عند الباب فأبى أن يدخل! وقال: طهر البيت يا رسول الله! هناك جرو كلاب تحت السرير لابن فاطمة الطفل الصغير، ولن أدخل حتى تخرجوا ذلك الجرو. ثم دخل جبريل.وهذه يقينيات كأننا موجودون.كيف بيوتكم أيها المؤمنون؟! كيف هي؟رحلت الملائكة، إلا من رحم الله.أنا لا أنكر أن يوجد مؤمنون ومؤمنات يكرهون كل ما يكرهه الله ورسول الله، ويحبون كل ما يحب الله ورسول الله، ولكن هذا هو العالم الإسلامي، فطردوا الملائكة من بيوتهم، وحلت الشياطين.إذاً: كيف تتحقق لهم ولاية الله؟! كيف ينصرهم الله؟ كيف يهدي قلوبهم؟ كيف يأخذ بأيديهم من وحلتهم؟الجواب: غير ممكن.إذاً: وهذا الصحن الهوائي في بلادنا له سنة، وفي بلاد العرب صار له أربع سنوات .. خمس سنوات، وقد أحدث فتنة.وقد قلت لكم: إن الذي يستمر على هذا الوضع سوف يموت على سوء الخاتمة!والذي يجلس مع امرأته وأولاده من صلاة العشاء إلى نصف الليل .. إلى قبل الفجر وهم يشاهدون الأفلام الخليعة الدمارة المدمرة للعالم كاملاً، ففي ليلة واحدة تنطبع تلك الأخلاق في قلوبهم، فكيف إذا كان كل ليلة وطول العام؟! وشيئاً فشيئاً حتى ينكروا وجود الله, وإن لم ينطقوا, ما يقولون: لا إله، إنما لا يوجد في قلوبهم إيمان بالله، ولو وجد الإيمان بالله لبكوا، وخروا ساجدين.وترتفع مستويات الفساد في قلوبهم حتى يصبحوا مؤمنين بالاسم، ويأتي الأجل وهو ينكر وجود الله، فيموت على سوء الخاتمة.وهذا الكلام بلغناه، وسمعه الناس أم لا؟نعم يسمعه بهذه الأذن، ويخرج من هذه. لا إله إلا الله.

حين يكون البيت مدرسة إسلامية

نحن نقول: كتاب: (المسجد وبيت المسلم)، اشغل بيتك بهذا الكتاب، واجمع أهلك، واقرأ معهم ليلة آية وليلة حديثاً، فترتفع أنت وإياهم، ويصبح البيت كتلة من النور، ووالله جل جلاله لينتهي السرف والعبث في المأكل والمشرب والملبس، ويتوفر لكم مالكم ويزيد، مع البركة التي تحل!ثم أهل المدن والقرى في العالم الإسلامي، فإذا التزم أهل قرية من القرى بأن يجتمعوا كل ليلة في بيت ربهم، وإن كان ضيقاً وسعوه بالخشب لا بالحديد والاسمنت، كمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجلسون فيه بنسائهم وأطفالهم من المغرب إلى العشاء كل ليلة، فإذا مالت الشمس إلى الغروب قلنا لهم: هيا! اتركوا العمل، فارم المسحاة يا فلاح! وارم المرزبة يا حداد! وارم القلم يا كاتب، وأغلق الباب يا تاجر!فإذا قيل: إلى أين؟ إنها دعوة ربانية! فنحن ذاهبون إلى الرب جل جلاله في بيته.وإن قيل: ماذا نصنع؟ نقول: نتلقى الكتاب والحكمة ونستمطر رحمات الله، فيصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون جلوسنا هذا، والمربي أمامهم، وآية يرددونها حتى تحفظ، ويشرح لهم معناها، وتوضع أيديهم على المطلوب منها: فهمتم أبنائي! إخوتي! أبائي! أمهاتي! قالوا: فهمنا، فمن الليلة نطبق هذا الواجب، ونجتنب هذا المكروه لله ورسوله والمؤمنين. وهكذا الغد وبعده، وعام بعد عام.لكن كيف تصبح تلك القرية؟!سلوني أخبركم: تصبح كتلة من نور ككوكب في السماء، لم يبق فيها من يشرب حراماً، ولا من يأكل حراماً، ولا من يستبيح حراماً، ولا حسد، ولا غل، ولا غش، ولا خداع، ولا كبر، ولا رياء، ولا سمعة، ولا شح، ولا بخل، ولا خبث، فيصبحون كأسرة واحدة وأطهر!فإن قال قائل: كيف يتحقق هذا يا شيخ؟!أقول: تريد كيف؟هل إذا أكلت تشبع أم لا؟ تشبع, فهذه السنة ما تبدلت.وإذا شربت ترتوي أم لا؟ ترتوي.وإذا أدخلت إصبعك في النار أحرقته أم لا؟ تحرقه.وإذا قطعت بالحديد شيئاً انقطع أم لا؟ ينقطع.فهذه سنن لا تتبدل، كيف تتبدل هذه السنة؟ لن تتبدل! فبمجرد ما يجتمعون في صدق على تعلم الهدى الكتاب والحكمة وتزكية النفس؛ إلا ويصبحون كتلة من النور، وما تبقى جريمة في تلك القرية.ولو تريد أن تلزم الناس بالحديد والنار على أن يستقيموا؛ والله ما استطعت! ولن يستطيع إلا على منهج الله.هذا الله تعالى يقول: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129] اسمعوا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يبنيان البيت، وهذا التقاول موجود عند العمال عندنا الذين يبنون أو يشتغلون شغلاً واحداً، فيسلون أنفسهم بالأغاني، لكن الصالحين يسلون أنفسهم بذكر الله وسؤال الله.اسمع إبراهيم وإسماعيل يقولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129] وهما يبنيان البيت!هل استجاب الله دعوتهما؟إيه، بعث في أولاد إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم.وهل فعل الرسول هذا؟ والله كأنكم تشاهدونه، يجلس في ذاك المجلس وحوله الناس، فالنساء من وراء، والرجال أمامه، وهو يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فتخرج من حجره .. من مسجده رجال لم تحلم الدنيا بمثلهم قط! وإن شوه المبطلون ذلك الجمال وذلك النور وأرادوا أن يطفئوه، ولكن والله ما اكتحلت عين الوجود برجال تخرجوا من حجور الصالحين كما عرفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.واستدام ذلك الكمال مع الكيد والمكر لهم من كل جهة، ثلاثة قرون، وثلاثة أجيال: الصحابة، وأبناؤهم، وأبناء أبنائهم، فلم تعرف الدنيا أمثال أولئك.كيف تعلموا؟ وكيف تخرجوا؟ ماذا درسوا؟درسوا الكتاب والسنة، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] يطهرهم أخلاقاً وأرواحاً.

الجهل بالقرآن والسنة موقع في الفساد

والآن؟ آه! من ينقل هذا الكلام إلى العالم الإسلامي؟ ما هناك أحد، لو كان هناك من ينقل كلامنا؛ لغيروا سلوكهم في سجونهم، في بلادهم.فإن قيل: ولم تعيد هذا الكلام؟أقول: يأتيني واحد من بعيد يظل أمامي ويبكي ويبكي. فأقول له: ما لك؟يقول: فعلوا بي الفاحشة في السجن.إذاً: كيف لا تتمزق قلوبنا؟!وجاءني أحدهم من سنوات فقلت له: أين فمك؟ قال: قلعوا أسناني سناً بعد سن.هؤلاء مؤمنون، مسلمون؟ أيصدر هذا عن مؤمنين بالله .. عن مسلمين أسلموا قلوبهم ووجوههم لله؟!ولا نلومهم فمن علمهم؟ ومن رباهم؟ لقد جلسوا في حجور البلاشفة، واليهود، والنصارى، وتعلموا وتخرجوا على أيديهم هنا وهناك، فكيف ترجو منهم الخير، وإليكم بيان الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، من يقول: لا، فهو مجنون، فهذا خبر الله أو لا؟ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا من هم؟ المختصون في علم النفس، والقانون، والسياسة إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ، أنا لا أستطيع أن أقتنع بأن شخصاً يأخذ مواطنه ويكسر وجهه، ويسلب لحيته، ويفعل، ويفعل. هذا حيوان .. هل هذا إنسان مسلم؟ هذا كافر، هذا لا يوجد في قلبه بصيص من إيمان، والرسول يقول: ( وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته )، حتى في الشاة لا يعذبها، وهؤلاء يدعون أنهم مواطنون، ويفعل بالمواطنين هذا، وكلما جاء واحد من الخارج يقص علينا هذا البلاء.سمعتم هذا البيان؟أعيده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، حق أو لا؟ثم يقول تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، من غير المعقول أن نرتد ما دمنا نجلس هذا المجلس طول العام نتلقى الكتاب والحكمة.هل فهم السامعون والسامعات؟أين توجد الحصانة؟ في كتاب المسجد وبيت المسلم.الجماعة التي تجلس كل ليلة منذ طفولتها إلى شيخوختها في بيت ربها ساعة أو ساعة ونصف تتعلم الكتاب والحكمة، هذه الجماعة لا يستطيع واحد تكفيرها، والله لا بالسحر، وهل يستطيع قوم أو أمة أن يردوها على أعقابها فتخرج من دينها وإسلامها؟ والله ما كان ولن يكون، لكنهم عرفوا نور الكتاب وهداية السنة فصرفوهما عنا، فعشنا قروناً كالبهائم.إذاً: عرفتم قيمة كتاب: (المسجد وبيت المسلم)؟وليس بشرط أن يكون هذا الكتاب، الشرط: ليلة آية وليلة حديثاً من البخاري .. من الموطأ .. من مسلم أو من أي كتاب، وكل ما في الأمر أن الأحاديث موجودة ومتوفرة، وهذا أحسن من أن تبحث عنها من جديد، وهي مشروحة ومبينة، لا أقل ولا أكثر.وقد قلت غير ما مرة: لو أن أهل قرية في العالم الإسلامي التزموا بهذا، وأخبرونا عن نورهم، والله لنحجنّ ونذهب إليهم لنشاهد أنوارهم، وكيف أصبحت تلك القرية، وإن كان سكانها أقل من ألف نسمة، فنشاهد النور، إذ لا يتخلف وعد الله بحال من الأحوال.وإلى الآن ما بلغنا؛ فآه على الهبوط قروناً، وهذا كتاب الله بين أيدينا.
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال رب اجعل هذا بلداً آمناً ...)

دعوة إبراهيم لمكة وأهلها

نعود إلى السياق: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ [البقرة:126] يا رب اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة:126]، أي بلد هذا؟ مكة. بلد أو لا؟ بلد، وقد أقسم الله به فقال: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]، أي: الآمن المحقق للأمن لمن دخله، وقال: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1-2] إنها مكة بلد الله.دعوة الخليل: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126]، ولما قال إبراهيم هذا كانت مكة ليس فيها نخلة، ولا تين، ولا عنب، ولا زرع: لا بر، ولا شعير، وهذا هو حال جبال فاران والوادي بينها، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ وشاء الله أن يتحقق ذلك، فقد شهدت مكة أمناً لم تشهده بلدة أخرى في العالم، ففي أيام الجاهلية، حيث لا إسلام، ولا شرع، ولا قانون، ألقى الله في قلوبهم الرعب والخوف، فيمر الرجل بقاتل أبيه لا يفتح عينيه فيه أبداً، أمنهم، والله على كل شيء قدير. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ فأصبحت تأتيهم الأموال والثمار من أنحاء العالم وإلى الآن.ثم قال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126]، هذا احتراز احترزه إبراهيم، لأنه في السابق لما قال تعالى له .. لما توجه بتاج الملك، وأصبح إماماً للعالم، وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124] أوامر فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، وهذه الشهادة لو تدرسونها مليون سنة -والله- ما تحصلون عليها في مدارس الدنيا كلها، كلمات وأوامر معدودة، وقد استعرضناها، ومنها أن يذبح ولده فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، يقتدى بك، وحقق الله هذا فلا يهودي ولا نصراني ولا أحد على الأرض إلا ويقدس إبراهيم ويود الانتساب إليه على الإطلاق.ثم قال: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] طمع، والطمع في الله لا بأس به، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أيضاً اجعل منهم أئمة. فقال تعالى: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، إذا أولادك ظلموا، وأشركوا، وكفروا، وأحلوا ما حرم الله، واستباحوا ما حرم الله، فما لهم حق.وهنا تكلمنا على ولاية العهد، وقلنا: لا بأس للحاكم والسلطان والملك عندما تحضره الوفاة أو يخاف الفتنة أن يعين أحسن واحد في البلاد من أقاربه أو من غيرهم، فهذه أمانة حتى لا تضيع الأمة.ورد الله تعالى عليه بقوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، أي: ما نعطيك عهداً يناله الظالمون، أما من كان مؤمناً، حنيفاً، موحداً، مستقيماً فهو معك، مثلك، أما من كان مشركاً؛ كافراً فاسقاً فلا يعطى هذا.أرأيتم هذا الرد؟فإبراهيم الآن خاف، فتذكر هذه الآداب، فقال: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126]، أما الكافر فلا تعطه ولا شربة ماء، ولا أكل، ولا خبز.

معنى قوله تعالى: (ومن كفر فأمتعه قليلاً)

بناءً على ما سبق قال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [البقرة:126]، بالطعام والشراب حتى يموت ثم إلى جهنم، فكفره لا يمنع من أن يأكل، ويشرب، ويلبس، ويركب أبداً، وإنما إذا أعلن الحرب وحارب فإنه يقتل، وأما إذا سالم فإنه يأكل ويشرب حتى الموت، ولا نقول: لأنه كافر لن يأكل ولن يشرب.ولولا هذا لكان من حق المسلمين ألا يطعموا كافراً ولا يسقوه حتى يموت، لأن هذا الكافر مخلوق للعبادة فعطلها وقال: أنا ما أعبد الله، إذاً يجب أن يموت، فلماذا يعيش؟هذا سر آخر.أتعرفون لم نأكل ونشرب؟من أجل أن نذكر الله ونشكره، فإذا عطلنا الذكر والشكر تعطلت الحياة، ولا قيمة لوجودنا، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فلهذا يهان الكافر، ولا يكرم، ولا يعز، ولا يبجل، ولا يعظم، لم؟ لأنه ترك علة الحياة وسر الوجود، فقط لا يقتل، وما يدريك أنه ينجب ولداً يعبد الله؟ وما يدريك أنه يدخل في رحمة الله؟ فما تملك هذا، إذاً دعهم يأكلون ويشربون حتى نهاية آجالهم، والمصير معروف.أرأيتم كيف رد الله على إبراهيم؟ إبراهيم تحفَّظ؛ لأنه سمع في الآية الأولى: لا ولاية إلا لمؤمن، طاهر، صالح، فهنا لما تحفظ قال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ [البقرة:126]، تعرفون التمتع؟ بالأكل والشرب واللباس إلى أن ينتهي الأجل، فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [البقرة:126] قليلاً فقط، هذا شيء آخر، أما أهل الإيمان، والصلاح، والاستقامة فيمتعهم كثيراً؛ لأننا نجد اللذة في الطعام بسم الله ومن أجل الله، فهؤلاء الكفار يأكلون كما تأكل الأنعام، ولا يعرفون لم يأكلون، ولا لم يشربون، ولا يعرفون لم وجدوا، وإلى أين يصيرون، فمتاعهم ولو ألف سنة ما هو إلا قليل.

معنى قوله تعالى: (ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير)

قوله: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ [البقرة:126]، أي نار هذه؟ ما تعرفون النار يرحمكم الله. أما تشعلونها في بيوتكم؟ والفحم موجود.ومن قال: أي نار هذه تجمع البشرية؟قلنا له: ارفع رأسك إن شاء الله في وقت الضحى للشمس، وانظر وتأمل والحرارة نازلة، واسأل الخبراء يقولون: هذا الكوكب أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، ولو جمعنا البشرية ورميناها في الشمس ما سدت زاوية ولا كملتها، فكيف بالعالم الآخر، وراء هذه الأكوان؟ آه.ثم قال: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:126]، مصير يصل إليه عبد الله أو أمة الله إذ يلقى في عالم الشقاء يخسر كل شيء.وعندنا أيضاً بعض المعلومات فإنه يؤتى بالرجل من أمثالنا، ضرسه كجبل أحد، وعرضه -والله- كما بين مكة وقديد، أي: مائة وخمسة وثلاثون كيلو متراً، فتأكله النار مليارات السنين.وقد أخبر بهذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فقال: ( ضرس الكافر في النار كجبل أحد )، وقد كنا نعجب كيف هذا الضرس؟ وكيف هذا الجسم؟ حتى قال: ( وما بين كتفيه كما بين مكة وقديد )، أي: مائة وخمسة وثلاثون كيلو متراً تقريباً، فيؤخذ هذا الرجل ويوضع في صندوق وتابوت من حديد، ويغلق عليه، ويرمى في زاوية من زوايا الشمس في ذلك العالم، والله لا يأكل، ولا يشرب، ولا يتكلم، ولا يموت، وهو معذب، ملايين السنين في هذا العذاب.انظر البشرية مقبلة على ماذا، انظر المؤمنين الضائعين جهلوهم، وكفروهم، وأنسوهم لقاء ربهم، وأصبحت حياتهم كحياة غيرهم، لا هم لهم إلا الفرج والبطن.فهيا نعود، والله لا عودة ولو جاء عمر بن الخطاب والله لا يردهم، ولا يقوى عليهم في أي بلد.لا نرجع إلا إذا أردنا الله والدار الآخرة، فقط عرفنا الحياة ونجتمع في بيوت ربنا، فنبكي كل ليلة بنسائنا وأطفالنا، ونتعلم الكتاب والحكمة، وما يمضي زمان إلا ونحن ربانيون.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-19, 02:17 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (86)
الحلقة (93)



تفسير سورة البقرة (55)


إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء الذي خرج بأهله مهاجراً في سبيل الله، حتى استقر بهم بواد غير ذي زرع وتركهم فيه بأمر الله عز وجل، فلما كبر ابنه إسماعيل وصار غلاماً جاءه الأمر من ربه بذبحه، فأذعن الأب وامتثل الابن فأثابهما الله عز وجل بأن فدى الابن وأكرم الأب فكان خليل الرحمن، ثم أمرهما الله ببناء بيته الحرام، والنداء في الناس ليحجوا إليه، فجعل الله عز وجل هذا البيت مثابة للناس وأمناً، وجعل هذه الأرض المباركة مبعثاً للنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم.
تفسير قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، فمع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:127-129] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

معنى اسم إبراهيم وكنيته

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127]، عرفنا من هو إبراهيم، إنه الأب الرحيم، وهو مركب من كلمة: أب، ورحيم، إبراهيم باللغة السريانية: أب رحيم، (أب راهيم)، وقد عرفتم أنه خليل الرحمن، وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً )، فالخلة نهاية الحب، فإذا تخلل الحب القلب وتعمق فيه كان المحبوب خليلاً.إبراهيم عليه السلام عرفتم أنه يكنى بأبي الأنبياء؛ لأن الأنبياء من بعده إلى خاتمهم نبينا صلى الله عليه وسلم من ذريته، فهو -إذاً- أبو الأنبياء. وله كنية أخرى أيضاً فاز بها، وهي أنه: أبو الضيفان، والضيفان والضيوف بمعنى واحد، وقد عرفنا لم كني بهذه من قصة جاءت مبينة في كتاب الله، إذ نزل عليه جبريل وميكائيل وإسرافيل ضيوفاً، وهو لا يدري؛ إذ كانوا في صورة رجال حسان، فماذا فعل؟ ما كان منه إلا أن مال إلى عجل فذبحه وشواه، وقدمه مصلياً، وقال: أَلا تَأْكُلُونَ [الصافات:91]، فمن ثم كني بأبي الضيفان.

ذكر خبر إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار

إبراهيم عليه السلام عرفتم أنه من ديار العراق من أرض بابل، وأنه قام بدعوة الله وحده، كانت الديار كلها تفيض بالشرك والكفر، يعبدون الكواكب، ووضعوا لها تماثيل وصوراً في الأرض، فقام بدعوة التوحيد، وكان من جراء ما دعا إليه وواجه به الظلم والظالمين أن حكم عليه بالإعدام، اتخذت الحكومة الكافرة البابلية حكماً بإعدام إبراهيم، ليس بالسيف ولا بالعصا، وإنما بإحراقه في النار، فقد أججوا النار وأوقدوها مدة من الزمان، حتى إن الطير لا يمر فوقها إلا احترق؛ لشدة اللهب المتصاعد منها، وتم لهم ما أرادوا، وجعلوه في معلاق كالمنجنيق؛ لأنهم لا يستطيعون أن يقربوا من النار حتى يدفعوه، فوضعوه في هذه الآلة ورموا به من مسافة بعيدة، واعترضه جبريل عليه السلام قائلاً: هل لك يا إبراهيم حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. وقبل أن يصل إلى بؤرة الجحيم صدر أمر الله جل جلاله وعظم سلطانه بالكلمة الآتية المسجلة في كتاب الله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فوالله! ما أتت النار إلى على كتافه في رجليه ويديه. وقالت العلماء: لولا قول الله: وَسَلامًا [الأنبياء:69] لكان البرد يقتله، والبرد كالحر، كلاهما إذا تجاوز مستواه قتل.

خروجه عليه السلام بهاجر وإسماعيل إلى مكة

وخرج من الفتنة، وودع الديار والأذى فهاجر في سبيل الله، فكانت هذه أول هجرة في الأرض لله عز وجل، وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، وخرج معه زوجه الطاهرة سارة بنت عمه المؤمنة الصالحة، وابن أخيه لوط بن هاران، ودخلوا أرض الشام.وبإيجاز: لما أنجبت هاجر إسماعيل -ومعناه: سمع الله، أو: اسمع يا الله- أخذت الغيرة سارة وما أطاقت، وهي عاقر عقيم لا تلد، والجارية القبطية المصرية أنجبت ولداً، فبتدبير الله وقضائه أمر إبراهيم أن يرحل بهاجر إلى وادي مكة؛ ليضع هاجر وطفلها هناك، وما هي الواسطة التي ركباها؟ نترك هذا لله، وحسبنا أن نقول: الله أعلم، والله يفعل ما يشاء، وهو على كل شيء قدير، فالذي رفع خاتم الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في لحظات، ومن المسجد الأقصى إلى دار السلام في لحظات أو دقائق معدودات لا يسأل كيف يفعل، إن الله على كل شيء قدير.إذاً: فتركها وإسماعيل وليس معهما سوى قليل من الخبز وإداوة فيها ماء أو شن فيه ماء قليل قليل، وقفل راجعاً، فنظرت إليه وهي وطفلها في واد خال ما به إنس ولا جن، قالت: إلى من تتركنا يا إبراهيم؟ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فاذهب فإنه لن يضيعنا!وكم وقفنا هذا الموقف، ولكن ما استفدنا، ما عندنا ذاك التوكل الذي هو سلم النجاة وجسر الخلاص من هذه الفتن في هذه الحياة، من فقد التوكل على الله هام وتاه في الحياة، أصبح يخاف كل شيء، ويرهب كل شيء، لكن كيف نحصل على هذا التوكل؟ لا بد أن تمتلئ قلوبنا بذكر الله ومراقبة الله، ومعرفة أسماء وصفات الله، منها أنه على كل شيء قدير، منها أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، منها أنه لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه، هذه المراقبة تجعل العبد يفوض أمره إليه ويتوكل عليه.ونحن لسنا مطالبين بأن نترك العمل، نعمل من أجل توفير الغذاء والكساء، من أجل أن نذكر الله ونشكره، لكن إذا تعارض هذا المطلوب مع معصية الله جب أن نتركه ولنطلب رضا الله عز وجل، فكم من مؤمن لا يسهل عليه أن يتوكل على الله فيغشى المعصية ويرتكب الكبيرة ويغضب الله ويسخطه، بحجة أنها الظروف أو الحال أو كذا أو كذا، وكل هذا ضعف في عقيدة التوكل، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].إبراهيم قالت له هاجر : إلى من تتركنا؟ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فاذهب فإنه لن يضيعنا. وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: ( من ترك شيئاً لله -أي: من أجل الله- عوضه الله خيراً منه )، ما من عبد مؤمن يترك شيئاً لوجه الله إلا عوضه الله تعالى خيراً منه، فـهاجر حسبنا أن نذكر من شأنها أن جبريل هو الذي ضرب الأرض بعقبه ففاضت زمزم.وأما قبيلة جرهم فما إن رأت الماء في المنطقة حتى جاءت، وطلبت النزول في جوارها، وهذه أيضاً نذكر بها الغافلين، قبيلة جرهم جاءت من اليمن فلما رأوا الماء في المنطقة نزلوا واستأذنوا هاجر الغريبة، الوحيدة، الأنثى، التي ليس معها إلا الله ثم ذاك الطفل الصغير، استأذنوها: هل تسمحين لنا أن ننزل بجوارك من أجل هذا الماء؟ قالت عليها السلام: على شرط: ألا حق لكم في الماء، قالوا: نعم! أمة برجالها ونسائها وعتادها وعدتها يستأذنون من امرأة، وتقول: على شرط: ألا حق لكم في الماء، الماء مائي والبئر بئري، قالوا: نعم. فلو كان أولئك كهذا النوع فوالله ليلوُنَّ رأسها.أما بلغناكم عن سجون العرب والمسلمين ماذا يفعلون؟ إذاً: فسبحان الله! كلما نتأخر في الزمان تغلظ أكبادنا، ويشتد -والعياذ بالله- طغياننا، فالأولون كانوا أحسن حالاً، أما سمعتم محاكمة إبراهيم؟ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:60-63]، ودار حوار كامل، ولو كانوا من جماعة البلاشفة لقالوا: اركلوه في الأرض.إذاً: هذا الذي وجدنا أنفسنا فيه، والحمد لله أننا مؤمنون مسلمون، فهذه النعمة لا تعادلها أخرى، وإنما الجهل هو الذي هبط بنا ففقدنا نور الإيمان وبراهينه ودلائله في الحياة.

الوحي إلى إبراهيم بذبح إسماعيل

ولما كبر إسماعيل وأصبح غلاماً يدخل بيت أمه ويخرج أوحى الله تعالى إلى والده إبراهيم بأن يذبحه، بأن يتقرب به إلى الله، وما كان من إبراهيم إلا أن عرض الأمر على طفله الصغير: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، وبالفعل أخذه إلى منى حيث تراق الدماء، وأضجعه على الأرض، ومديته في يده، ووضعها على عنقه وقال: باسم الله، فأصبحت كعود الخشب لا تقطع، وبالأمس أما تحولت النار إلى برد وسلام؟ إذاً: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].

بناء إبراهيم وإسماعيل البيت الحرام

وكبر إسماعيل، وجاء إبراهيم بأمر الله ليبني البيت، وهذه من الكلمات التي ابتلاه الله بها، وها نحن معه في هذه الساعة وهو يبني البيت، واسمعوا قول الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ [البقرة:127]، أي: الأسس التي بني عليها البيت.وهذه البيت بناه الله عز وجل بواسطة من شاء، والذي عليه أكثر أهل العلم والبصيرة أن الملائكة هم الذين بنوا هذا البيت، فآدم استوحش، وحق له أن يستوحش، بعد أن كان في أنس في الملكوت الأعلى نزل إلى هذا العالم المظلم، ليس فيه أحد، ما هناك إلا هو وزوجه حواء، فهذه الوحشة كيف تزول؟ فبنى الله تعالى له بيتاً، فإذا استوحش أو احتاج إلى شيء أو رغب في مطلوب فليأت بيت ربه وليسأل مولاه ليعطيه ما أراد وطلب، وأنجب آدم وحواء البنين والبنات، وأصبح البيت من تلك الأيام يحج ويقصد لطلب الحاجات، هذا بيت الرب جل جلاله، وكلما انهدم بسبب عواصف أو بسبب أمطار أو أودية يجدد في تلك الأحقاب من السنين، فإبراهيم عليه السلام نزل بمكان البيت، كان البيت عبارة عن تل من تراب، السيول عن يمينه وشماله قد هدمته، فأمره الله تعالى أن يجدد بناءه، واقرءوا هذه الآية: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127]، القواعد التي بني عليها أولاً من كذا ألف سنة، وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127]، أيضاً يساعده ويعاونه، اثنان فقط: إبراهيم وإسماعيل، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127]، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، يا ربنا! تقبل منها هذا الجهد، هذه الطاقة التي نبذلها في بناء بيتك، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ [البقرة:127] لأقوالنا وأدعيتنا، الْعَلِيمُ [البقرة:127] بحالنا، بضعفنا وقوتنا وقدرتنا، هكذا قالا توسلا إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته.والمسلمو من عهود وعصور ما يعرفون التوسل بأسماء الله وصفاته أبداً، لا يتوسلون إلا بحق فلان وجاه فلان، علماؤهم كجهالهم في أغلب ديارهم، لا يحفظون من أنواع الوسيلة إلا: اللهم إنا نسألك بحق فلان أو بجاه فلان، وهي وسيلة باطلة باطلة باطلة لا تنفع صاحبها قط، بل تورطه في الإعراض عن الله والإقبال على غيره عز وجل. إبراهيم وإسماعيل يبنيان البيت وهما في حاجة إلى عون وإلى مدد وإلى مساعدة، فتوسلا إلى الله بماذا؟ هل بحق نوح وأولاده؟ لقد قالا: أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، توسلا إلى الله باسمه وبصفته. فلهذا بعد هذه الأنوار التي لاحت في أفق العالم الإسلامي لوجود عوامل، منها: انتشار الكتاب، وانتشار العلماء، وإلا فما كان آباؤنا وأمهاتنا يعرفون وسيلة إلا: بحق فلان وجاه فلان، يدعون الليل والنهار ولا يستجاب لهم. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127] يقولان: رَبَّنَا [البقرة:127]، أي: يا ربنا، تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، فلكونه يسمع ويعلم يستجيب ويتقبل.

مراحل وأحداث بناء البيت الحرام

وهنا لنذكر أن البيت العتيق بناه الملائكة لآدم، وتوالى البناء بحسب القرون والعصور، وإبراهيم جدده، ثم بنته قريش بعد هذه الفترة الطويلة، ثم جاء الإسلام والبيت كما هو منذ بناء قريش له.وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لـعائشة الحبيبة الزكية رضي الله عنها: ( لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت البيت وجعلته على قواعد إبراهيم )، أي: لجعلت له بابين وأضفت إليه ستة أذرع من الحِجر؛ لأن قريشاً لما بنت البيت بنته بشرط: ألا تبنيه بمال حرام، سبحان الله! يعرفون الحرام والحلال في الجاهلية، فلقلة ما جمعت من مال اقتصرت على الموجود، واختزلت البيت فتركت ستة أذرع مضافة إلى حجر إسماعيل.وكان صلى الله عليه وسلم سيجعل له بابين: باباً شرقياً وباباً غربياً، يدخل الزائر مع الباب الشرقي ويخرج مع الغربي، لكن كون المؤمنين حديثاً إيمانهم وإسلامهم فقد يثورون ويغضبون، فرحمة بهم وشفقة عليهم ترك ذلك، وهذا من سياسية الرشد والوعي والبصيرة، اترك الحال كما هي.وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى الأمر أبو بكر فـعمر فـعثمان فـعلي ، وحصل أن الخلافة انتقلت إلى معاوية رضي الله عنه، وتوفي وتولى ولده يزيد، وجاء بعده مروان بن الحكم، ثم جاء عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه وحكم، ما رضي أن يتولى الخلافة من ليس هو بأهل لها، وقام معه رجال في الحجاز وحكم، وحقق ما تمناه رسول الله أو أراده لولا المانع الذي منع، وبالفعل هدم البيت، وبناه وأضاف إليه ستة أذرع من الشمال التي كانت في الحجر وجعل له بابين شرقياً وغربياً، واستمر كذلك مدة من الزمن.وشاء الله أن يستمر الزحف على مكة، واستشهد عبد الله بن الزبير ووقعت البلاد في حكم الأمويين رحمهم الله أجمعين، ثم لما حكموا هدموا البناء من جديد وردوه كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما ينبغي أن يتركه الرسول هكذا ونحن نجدده ونغير، فرد البيت على النحو الذي هو عليه الآن.ولما ولي هارون الرشيد استشار مالكاً إمام هذا المسجد: أرأيت لو نجدد البناء، لنحقق رغبة نبينا صلى الله عليه وسلم التي حققها ابن الزبير ثم ما دامت؟ فقال مالك : أخشى أن يصبح البيت يتلاعب به الحكام والملوك، فاتركه كما كان. فاستجاب الخليفة، ومن ثم استمر البيت كما هو، على حاله الذي تركه الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، وبابه مرفوع؛ لأن العرب أذكياء، فكانوا لا يسمحون لمن أراد أن يدخل الكعبة إلا بإذن الحاجب، وحجابة البيت لها أسرة تتناقلها وتتوارثها، فإذا أراد أحد أن يدخل وضع له سلم حتى يدخل البيت، ولو جعلوه في الأرض لكان كل من أراد دخل، لكن ما دام أنه لا بد من سلم وعمل فلا يتمكن من ذلك إلا منع، وبقي البيت إلى الآن بابه مرفوع، هذا هو السر.ومن الخير أن نتركه كما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن ابن الزبير ، حقق رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم لما بدا له أنه ما بقي من ينازع، ولكن بقي من ينازع، فهذه نبذة عن بناء البيت.يقول تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، وانظروا إلى التواضع كيف يتجلى في كون إبراهيم وإسماعيل يبنيان بيتاً في الصحراء في ديار خالية، ومع هذا يسألان الله تعالى القبول؛ ليثيبهما على العمل، ولا يضيع عملهما بدون ثواب ولا جزاء، إعلاناً عن رغبتهما في فضل الله، وتوسلاً إلى الله ليقبل عملهما ويثيبهما عليه: أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127].

تفسير قوله تعالى: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ...)

ثم قالا: رَبَّنَا [البقرة:128]، أي: يا ربنا! وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128]، فهل هما غير مسلمين؟ الجواب: كيف وهما نبيان ورسولان؟ ولكن معنى هذا: اللهم أدم إسلامنا، وثبت قلوبنا عليه، واربطه معنا واشددنا عليه حتى نلقاك مسلمين؛ لأن الإنسان ما يملك، قد يكون اليوم مسلماً وغداً البرنيطة على رأسه كافراً.فيا جماعة! إياكم ولبس البرانيط، انتبهوا! لا تتشبهوا باليهود والنصارى، لقد كان آباؤكم وأجدادكم مستعمرين مستذلين لبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وما كان واحد يضع برنيطة على رأسه، والآن في المدينة يسوق السيارة خادم والبرنيطة على رأسه، وزوار جاءوا للزيارة وكأنهم اليهود في أشكالهم، أهذا يحبه الله؟ أما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)؟ أما يجب أن تكون لنا الصورة الخاصة بنا؟ إذا وقف أحدنا في العالم في زيه فيقال: من هذا؟ فيقال: مسلم، فبزيه يدعو إلى الله عز وجل، أما أن نصبح كاليهود والنصارى، تركنا رسالتنا، تركنا إمامتنا، أهملنا قيادتنا، ما أصبحنا دعاة ولا هداة ولا قادة، أصبحنا أذلاء نجري وراء الغرب ونمثل حياته، أهذا هو الإسلام؟ والله ما هو بالإسلام.فإبراه م عليه السلام يسأل الله أن يثبته وابنه على الإسلام: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128]، حتى الموت، نسلم ماذا؟ قلوبنا ووجوهنا لك، والمسلم من هو؟ المسلم عبد أسلم، بمعنى: أعطى قلبه ووجهه لله، الإسلام مصدر أسلم، يقال: أسلم فلان لفلان ناقته، أي: أعطاه، فلو تسأل أحدًا: ماذا أسلمت لله؟ فقال: لا شيء، إذاً: فلا إسلام بدون عطاء، القلب ينبغي ألا يتقلب طول الحياة إلا في رضا الله، لا هم لك إلا الله، والاتجاه دائماً نحو الله، وتتمثل هذه في الطاعة الصادقة والإخلاص فيها لله، صلاته، صيامه، بناؤه، هدمه، سفره، زواجه طلاقه، كل حياته في دائرة طلب رضا الله، هذا هو المسلم الحق.
مشابهة المسلمين لإبراهيم وإسماعيل في سؤال الثبات على الإسلام
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، أقول في سؤال الله تعالى أن يجعلهما مسلمين -بمعنى: أن يثبتهما على الإسلام ويديمهما عليه حتى الموت-، أقول: وعندنا نحن: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، في كل ركعة نصليها نتوسل إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته، نحمده ونثني عليه، ونمجده: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، أليس هذا هو الحمد والثناء والتمجيد؟ ثم نقول متملقين له: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين بغيرك، لم هذا التملق؟ لأننا لنا حاجة سامية قل من يظفر به ويحوزها، حمدنا الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، أثنينا عليه: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، مجدناه: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، من علمنا هذا؟ الله، يقول لنا: يا من يريدون أن يدعوني ويسألوني قضاء حوائجهم! هذا هو الطريق، احمدوه، اثنوا عليه خيراً، مجدوه، ثم اسألوه حاجتكم.وهذا بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية البيان، فقد قام رجل فرفع يديه يدعو: رب! أعطني، والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع، ولكمال أدبه وسمو أخلاقه ما واجهه، فقال لأصحابه: ( لقد عجل هذا -بمعنى: استعجل- إذا أراد أحدكم أن يسأل الله شيئاً فليحمد الله وليثن عليه وليصل على نبيه ثم ليسأل حاجته )، هل عرف السامعون هذا؟ هذه هي الوسيلة، ما هي بحق فلان وجاه فلان والأباطيل، ومن قال: ما عرفنا هذا يا شيخ! قلنا: إي والله، ما جلسنا هذا المجالس ولا تعلمنا. يقول صلى الله عليه وسلم: ( إذا أراد أحدكم أن يسأل الله شيئاً فليحمده وليثن عليه وليمجده وليطلب حاجته )، أما (ارب أعطني) مباشرة فهل أنت تأمره؟ هل موقفك موقف السلطان الآمر، كأنك تقول: (رب اغفر لي وارحمني) بالقوة؟! لا بد أن تظهر في مظهر المسكنة والحاجة والفقر إليه.وقد قلت كثيراً: العوام يحسنون هذا، العامي إذا أراد أن يسألك شيئاً يقول: يا سيد، أنت كذا، أنت معروف عند الناس أنك من أهل الخير، أنت شريف، ما شاء الله، ثم يقول: أعطني، وهذا عرفناه منهم وعايشناهم، ما يأتيك من أول مرة فيقول: أعطني أبداً، لا بد أن يذكر كمالك وخيرك ونسبك وشرفك ثم يسألك، فالله عز وجل أحق بهذا التملق والتزلف، ثم هو علمنا هذا، فمن أنزل الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]؟ من فرضها في كل ركعة، أليس الله؟ ومع هذا لا نعرف، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2-5].فهل لاحظتم التملق؟ لا نعبد إلا أنت ولا نستعين بغيرك، لم نقول له هذا؟ لأنا نريد أن نطلب شيئاً غالياً: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وكيف نسأل الهداية ونحن نصلي؟ معنى هذا: أتم هدايتنا وثبت أقدامنا عليها حتى نلقاك مؤمنين صالحين مستقيمين. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، ألا وهو الإسلام الذي سأله إبراهيم وإسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، فالصراط المستقيم الذي نطلب الله في كل ركعة هو الإسلام، أن نحيا مسلمين، ونموت مسلمين، وقد أمرنا إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فمن أسلم ومات على غير الإسلام ما كسب شيئاً ولا استفاد آخر، فلا بد من مواصلة إسلام القلب والوجه لله حتى الموت.

معنى قوله تعالى: (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)

إذاً: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، سبحان الله! ما اكتفى بدعوته له ولابنه، قال: واجعل من ذريتنا أمة مسلمة، قالت العلماء: ما دعا بهذه الدعوة سوى إبراهيم؛ لأنه طلب أن يوجد من أولاده أمة ذات البلايين، وقد كانت، إنكم أيها المسلمون دعوة إبراهيم، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، وقد استجاب الله.وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وقد سئل عن أمره أو حاله أو شأنه فقال: ( أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى )، وهذه الأمة المحمدية الإسلامية من عهد نبيها إلى يوم القيامة دعوة إبراهيم، سبحان الله! وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، مسلمة له في ماذا؟ مسلمة قلوبها ووجوهها، وكيف يسلم المرء قلبه ووجهه؟ قلنا: ذلك أن نقول له: لم تبني هذا البيت؟ فيقول: من أجل أن أستر عورتي، وأن أقي نفسي وأهلي من الحر والبرد لنذكر الله ونشكره، مررنا به يوماً يهدم: لم تهدم؟ قال: خشيت أن يسقط علينا فيؤذينا ونحن نعبد الله، أو يؤذي مؤمناً يعبد الله عز وجل، لم طلقت؟ لم تزوجت؟ لم سافرت؟ لم قمت؟ لم قعدت؟ فيقول: نحن ندور في فلك عبادة الله، يا فلان! لم قصرت ثوبك، الشبان ثيابهم طويلة تسحب في الأرض يتباهون وأنت قصرته إلى نصف ساقك لم؟ قال: لله، أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أهمية الاستسلام في لزوم السنة في المظهر

جاءني اليوم رجل من الصالحين، شيخ كبير مثلي، قال لي: يا شيخ! أنت تذكر الناس فذكرهم بأمرين عظيمين. قلت: ما هما؟ قال: ثياب طويلة تسحب في الأرض، ووجوه حليقة ما فيها شعر، قلت له أبشر.وأنا لست بمفت، الإفتاء له لجنة خاصة وأنا لا أفتي، أنا أبلغ دعوة الله فقط، فأقول: أيها الفحول! استعينوا بالله، توكلوا على الله، خافوه، أسلموا له قلوبكم ووجوهكم، وأعف وجهك من حلقه حتى لا تصبح كالمرأة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال )، فكما لا يسوغ ولا يعقل أن المرأة تلصق لحية جميلة على وجهها، فكذلك الرجل، فتاة في العشرين من عمرها تجعل لحية جميلة عطرة أو حمراء أو حمراء أو سوداء، هل تقبلون؟إذاً: وهن لم يقبلنكم؟ حتى هن غير راضيات، كيف تكون مثل امرأتك؟! ومع هذا فنحن أتباع النبي فقط، لولا أنه قال: ( خالفوا المشركين: احفوا الشوارب واعفوا اللحى )، لما كنا نتكلم، ثم المؤمن يقوى -على الأقل- على أن يترك نصف اللحية، على الأقل يكون شاربه أسود، هذا فحل، ما هو امرأة، ويترقى حتى يصبح رجلاً.أما الثوب فلم تطيله؟ قل لي بربك: لم ثوبك يمس الأرض والطين والتراب، أهذا في صالحك؟ تريد أن تتكبر على الناس؟ أعوذ بالله! أمؤمن يتكبر؟ الجواب: لا، لم؟ تقليد أعمى فقط، حلق اللحية، وطول الثياب وغير الثياب ما هو إلا تقليد فقط، فلان فعل فسنفعل، ما هو عن علم ولا عن بصيرة، فإذا جاهد العبد نفسه، وأراد أن يخلص حياته لربه فما يبالي، أنا أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نتبع العالم الفلاني، ولا الشيخ الفلاني، هذا هو المسلك.

أهمية الاستسلام لقضاء الله تعالى وقدره

وأعود إلى معنى الإسلام فأقول: جاءني رجل أمه مات ولدها وما زالت في الحزن، فقال: كيف نفعل معها؟ قلت له: إذا كانت تسمع بينت لها، فأقول: يا معاشر المؤمنين والمؤمنات! هل نحن لله أم لا؟ وهل نرجع إليه أم لا؟ سنرجع أحببنا أم كرهنا؟ وهل على عندكم على هذا قرآن يشهد بهذا؟الجواب: نعم، قال الله تعالى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، ما أصابت أحدنا مصيبة وقال فيها: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] إلا صلت عليه الملائكة، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:157]، فنحن كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( العين تدمع، والقلب يحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولكن لا نقول إلا ما يرضي الرب تعالى ).إذاً: لم تبقى المؤمنة في حزن دائم؟ أليست تعرف أن ولدها هو عند الله وهو لله؟ أيودعك الله وديعة ثم يأتي يوم فيقول: رد علينا وديعتنا فتقول: لا؟فلهذا المؤمن والمؤمنة لا يزيد ألمهما ولا حزنهما على أكثر من ثلاثة أيام، إلا أن المرأة تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام لعلل وأحكام أخرى، أما الحزن في القلب فينبغي أن يزول في ثلاثة أيام، وتعود إلى لباسها، وإلى عبادتها، وإلى حالها؛ والعلة هي عدم البصيرة، لو عرفت أنها أصيبت بمصيبة وأن هذا المصيبة عظيمة وأن الله يعوضها أعظم منها للجأت إلى كلمة: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، فيكفيها ذلك، فما دامت تعرف أنها لله هي وولدها إذاً: دعاه الله فليجب، هي أمانة موضوعة عندك، ثم أنت وإياه راجعان إلى الله، فلنعمل على رضا الله بحبه وذكره وعبادته وطاعته.وعلى كل حال: لابد من الذكرى فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، لو كانت هذه المؤمنة عند من يذكرها بالله عز وجل وما عنده وما لديه فلن يستمر حزنها.فهذه أم سليم عندما مات طفلها، غسلته وكفنته وغطته، ثم جاء والده يسأل؟ فقالت: إنه في عافية، في راحة؛ حتى لا تزعج والده أو تحزنه، فأين لنا أن نكون كـأم سليم ، المهم: ألا نسخط الله علينا في حكمه وقضائه فينا، نسترجع الله عز وجل ونصبر ونواصل ذكره وتقواه.ونعود إلى السياق الكريم: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، هذا الدعاء حصل، ونحن منها، والحمد لله، أعظم أمة على وجه الأرض، والله! ما وجدت أمة أعظم من هذه الأمة، ويوم القيامة يبعث النبي ومعه الفرد والفردان والعشرة والمائة، وأعظم أمة هي أمة موسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن ليست أمة موسى شيئاً بالنسبة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفي أنه مضى على بعثته ألف وأربعمائة وزيادة، إذاً: استجاب الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل فكانت هذه الأمة.

معنى قوله تعالى: (وأرنا مناسكنا)

ثم قال الخليل عليه السلام: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128]، لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من البيت قال إبراهيم عليه السلام: يا ربّ! لقد فرغنا من بناء البيت فكيف نعبد الله فيه؟ فأنزل الله جبريل عليه السلام، وعلمه مناسك الحج من الطواف إلى السعي، إلى الذبح في منى، إلى الوقوف بعرفة، إلى النزول بمزدلفة، وحدد له حتى حدود الحرم، استجابة لقول إبراهيم: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128]، فأراه الله تعالى المناسك.ولم سميت العبادة منسكاً؟ الأصل في المنسك الغسل، يقال: نسك ثوبه: إذا غسله ونظفه، فكل عبادة تسمى نسكاً لأنها تغسل القلب وتزكي النفس وتطهرها، فالمناسك جمع منسك، كل عبادة نعبد الله بها فهي نسك، وسمي الذبح أيضاً نسكاً: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67]، لأن الذبح لله من أعظم القربات التي تزكي النفس، ذبح شاة أو بعيراً أو بقرة لله، هذه العبادة تعمل العجب في تزكية النفس، حتى أطلق عليها: النسك، فكل ذبح لله هو نسك، وكل مشاعر الحج وتلك العبادات من رمي الجمار إلى الوقوف بعرفة هي نسك، أي: عبادة تزكي أنفسنا وتطهرها. وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128]، وها نحن -والحمد لله- نحج ونعتمر على نحو ما بين الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام، والحمد لله.

معنى قوله تعالى: (وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم)

وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128]، سأل الله أن يتوب عليه، أن يديم التوبة. واعلموا أننا لو عبدنا الله لم نفتر لحظة ما أدينا حق الله بعبادته، فغفلة فقط نغفلها نحتاج إلى أن يتوب الله علينا، فلا تفهم أبداً أنك أديت ما عليك، وأنك ما أنت في حاجة إلى توبة، اسأل التوبة في كل ساعة؛ لأن الرجوع إلى الحق أن تذوب في ذات الله، ولو ذبت ذوبان الثلج ما عظمت الله حق عظمته، ولا رهبته حق رهبته، فلهذا دائماً نسأل الله تعالى أن يتوب علينا أو يديم توبتنا ورجوعنا إليه عز وجل.وقوله: إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128] وسيلة كالأولى، إذا سأل العبد ربه شيئاً يتوسل إليه بأسمائه وصفاته: رب اغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، رب يسر لي كذا إنك أنت القوي المتين، رب افعل بي كذا لأنك كذا وكذا، هذا هو التوسل بأسماء الله وصفاته، أو أن تقول من أول مرة: يا رحمن يا رحيم، يا علي يا كبير، يا كريم! وتسأل حاجتك، سواء قدمت أسماء الله أو أخرتها، هذا التوسل الذي جاء به القرآن الكريم وبينه النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، أما التوسل بغير هذه فهو من أباطيل الشياطين، وخاصة: بحق فلان وجاه فلان، وما زال هذا التوسل شائعاً في عوام المسلمين، ولا معنى له أبداً، فحين تقول: أسألك بحق فلان؛ فمن هذا الذي له حق على الله؟

تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ...)

ثم قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، واستجاب الله، وبعث من أولاد إسماعيل عليه السلام محمداً صلى الله عليه وسلم. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129] من أنفسهم، ولهذا ما كان النبي الكريم من الصقالب البيض، ولا من السود ولا من غيرهم، بل من ذرية إسماعيل، واسمه: محمد بن عبد الله في سلسلة ذهبية إلى عدنان ، ونهى عن الزيادة في النسب فوق عدنان. وقد حفظ الله رسولنا وهو في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، ما حصلت في أرحامه زنية ولا اختلط ماء الفحل بماء آخر، ما فاز بهذا الشرف أحد، من عبد الله إلى عدنان ، فحفظ الله نسبه في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، دعوة إبراهيم. وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، مهمة هذا الرسول ما هي؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، والسنة هي: الحكمة، وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، هذه وسيلة ثالثة أم لا؟ وهل استجاب الله؟ نعم، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الكتاب والحكمة ويزكيهم؟ إي والله العظيم، وقد بينا أن تلك التربية في حجور الصالحين، في حجر النبي وأصحابه والتابعين ما عرفت الدنيا مثلها أبداً، ولا نظير لها.وقررنا غير ما مرة أنه إن أردنا صادقين أن نعود إلى أن نكمل ونسود ونعز ونطهر فلنرجع إلى الكتاب والسنة، نجلس هذا الجلوس كل ليلة طول العمر، في قرانا وفي جبالنا وسهولنا؛ فالأمم غيرنا إذا فرغت من العمل وغابت الشمس انتشروا في الأباطيل والترهات والخرافات أو في المناكير والخبث، وهذه الأمة إذا غسلت يدها من العمل عادت إلى بيوت الله، تتعلم الكتاب والحكمة، وتزكي نفسها بما تسمع وما تعمل، فلا تزال كذلك حتى تصبح نوراً، وهذا النور لا بد أن ينير الله به الحياة كما كانت.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-19, 02:24 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (87)
الحلقة (94)



تفسير سورة البقرة (56)


إن من فضل الله على هذه الأمة أن بعث فيها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه أفضل كتبه القرآن الكريم، فكان صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم، فأتى عباد الله عز وجل يتلو عليهم آياته، ويعلمهم معاني الكتاب وهي الحكمة المحمدية، ليعرفوا الحلال والحرام، والحق والباطل، والخير والشر، وهذا هو ما دعت إليه ملة إبراهيم عليه السلام، ولا يرغب عنها إلا من جهل ما تحتاج إليه نفسه من الطهر والصفاء، الذي يقود إلى الفوز والفلاح.

تابع تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياتك ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:129-132]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم. معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، اذكروا أن هذه دعوة إبراهيم الخليل مع ولده إسماعيل عليهما السلام، سألا وطلبا ربهما وهما يبنيان البيت العتيق، الذي هو سرة هذا الكون، يسألان الله عز وجل أن يبعث في ذريتهما رسولاً يبعثه من ذريتهما لا من غيرهما: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، أي: من جنسهم، ومهمة هذا الرسول ما هي؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]. يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، أي: يقرؤها، وهي آيات القرآن الكريم.

أثر تلاوة الآيات القرآنية على المؤمنين

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فلنتأمل هذا المطلب الغالي السامي الرفيع، وهو طلب إبراهيم وإسماعيل أن يكون هذا الرسول الذي يبعث في ذريتهما مهمته أن يتلو عليهم آياتك يا رب، ومعنى هذا: أن تلاوة القرآن على المؤمنين والمؤمنات تزيد في نورهم، وطاقة إيمانهم، تعلمهم وتعرفهم وترفع مستواهم إلى أن يصبحوا أولياء لله ربانيين، ومعنى هذا: أن المؤمنين إذا لم يتل عليهم كلام ربهم، ولم يسمعوا، ولم يصغوا إليه طول حياتهم؛ معنى هذا أنهم يجفون، ييبسون، قد يحترقون، فلهذه التلاوة آثارها، وإلا لما سألا ربهما هذا. ومما يدل على هذه الحقيقة، وهي أن المؤمنين والمؤمنات إذا كان يتلى عليهم كتاب الله ويصغون إليه ويستمعون ويتفكرون ويتدبرون، فهذه الحال تجعل إيمانهم ينمو ويزيد، وعلومهم ومعارفهم أيضاً تقوى وتزيد، وإذا حرموا من هذا تعرضوا للهلاك والموت، مما يدل على هذه الحقيقة قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وصدق الله العظيم، إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] من اليهود والنصارى يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وقد تجلت هذه الحقيقة، والمطلوب هو: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:101]، قد يتعثر المؤمن، ولكن يستحيل أن يرتد مؤمن عن دين والله وينتكس ويرتمي في أحضان الكفر والشرك والباطل وهو يسمع آيات الله تقرأ عليه طول حياته. فمتى ما أصبحت آيات الله تتلى على المؤمن والمؤمنة فسوف يترتب على ذلك قساوة القلب والجمود، والبعد عن نور الله، ومن ثم يصبح أهلاً لأن ينتكس ويعود إلى الوراء.

زيادة الإيمان وتحصيل المعرفة والمناعة بتلاوة القرآن الكريم

أعيد إلى السامعين والسامعات قول الخليلين: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، ما المراد من هذا؟ هل أن يقرأ عليهم القرآن كما يقرأ على الموتى؟ مع أن تلاوة القرآن على المؤمنين والمؤمنات تحفظ عليهم إيمانهم، تزيد في طاقة إيمانهم، ترفع مستوياتهم العقلية، يزدادون فهما وعلماً، تطهر نفوسهم، على الأقل يحتفظون بكمالهم لا يفقدونه، والبرهنة القطعية والدليل القاطع هو قوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101]، من أين يأتي الكفر؟ كيف يحصل لكم الردة، كيف تنتكسون وأنتم تتلى عليكم آيات الله؟ ومن يوم أن فقد المؤمنون تلاوة آيات الله عليهم، ومنذ أكثر من ثمانمائة سنة وهم هابطون إلى الحضيض، إذ ما أصبح المؤمنون من قرون تتلى عليهم آيات الله صباحاً ومساء، أي: يجتمعون في بيوت ربهم أو بيوتهم ويتلى عليهم كتاب الله وهم مصغون متدبرون متأملون، الذي عرفناه -وهو الواقع- أنهم لا يجتمعون إلا على قراءة القرآن على الميت، سواء في المقبرة أو في بيت الهالك. أما أن يجتمع اثنان وثلاثة وأربعة تحت ظل شجرة، تحت ظل جدار، في منزل، في بيت الله ويقول أحدهم: اقرأ علينا كتاب الله، أسمعونا آيات الله، فتطأطأ رءوسهم وهو يبكون ويتأملون؛ فهل هذا واقع؟ فمن هنا أتينا. وسبحان الله! إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في ضراعتهما ودعائهما يقولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [البقرة:129] لِم؟ ما مهمته؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، يقرأ عليهم القرآن، أما كانا عليهما السلام واعيين بصيرين عالمين، ما المقصود من أن يقرأ عليهم القرآن؟ هل على الموتى حتى يثابوا على ذلك وينقذوا من النار كما نفهم نحن؟ لِمَ يتلو عليهم آيات الله؟أولاً: لزيادة الإيمان.ثانياً: للعلم والمعرفة.ثالثاً: للحصانة والمناعة حتى لا يتسرب إليهم دخان وظلمة الكفر من حولهم؛ لأن تلاوة القرآن مانع من أعظم الموانع عن الفسق والفجور والردة والكفر، والدليل القاطع قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وصدق الله العظيم، والله! ما أطاع مؤمن كافراً من هذا النوع، من هذه الطائفة التي تريد محو الإسلام وإزالة آثاره واستجاب لها وأطاعها إلا ارتد؛ لأن الذي يخبر بهذا هو خالق الغرائز وطابعها، هو العالم بالنفوس، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، أحببتم أم أبيتم.وقوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:101]، من أين يأتيكم الكفر؟ سبحان الله! كيف ترتدون والحال أن آيات الله تتلى عليكم وفيكم رسوله؟ والجواب: يا رب! ما تليت علينا آيات الله قروناً، ما رأينا من يقول: تعالوا أسمعكم كلام الله، لا في البيت ولا في السوق ولا في المصنع، وإنما القرآن يتلى على الموتى لا على الأحياء، وسبحان الله! متى نفيق؟ ما زلنا وإلى الآن نقول: هل فرغ أحد من عمل في مصنع أو في متجر أو في مكان وقال: من يقرأ علينا شيئاً من القرآن حتى نخشع ونبكي ونتدبر، هل أهل بيت من بيوتكم بعد الفراغ من الطعام أو كذا يقول أحدهم: من يسمعنا شيئاً من كلام ربنا فيقرأ عليهم؟ هل جماعة يعملون في دائرة من الدوائر الحكومية، وفي ساعة الاستراحة يقول أحدهم: يا جماعة! من يسمعنا شيئاً من كلام ربنا؟ هل هذا واقع؟ لا وجود له، إذاً: هل يحصل المخوف أم لا؟ ممكن أن تفسد القلوب، وقد فسدت، وهل نحن في خير؟ إن الحسد والبغض والكبر والنفاق وأمراض القلوب من الغش والخداع كلها أكلت قلوبنا، ما هناك أبداً ما يدفعها أو يصرفها، لِم؟ لأننا لا نجتمع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، حتى يفهموا لغته ولسانه، ويعرفوا طبيعته وما هو عليه: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، لم يتلو عليهم الآيات؟ يقرأ عليهم القرآن لأي شيء؟ لأن المناعة كل المناعة في سماع كلام الله، أيسمع كلام الله طول عمره وينفذ الشيطان إلى قلبه ويرتد ويكفر ويخرج من دينه؟ والله! ما كان.

دور المساجد في تعليم الكتاب والحكمة بعد التلاوة القرآنية

يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ [البقرة:129] بعد ذلك الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، أولاً: التلاوة الدائمة؛ لأنها الغذاء أو الطاقة التي لا بد منها، تزداد يومياً، ثم يعلمهم ما يحمله الكتاب من بيان أحكام وشرائع وقوانين وآداب وأخلاق، ويزيد بعد ذلك الحكمة التي هي بيان رسول الله، تفسير رسول الله؛ لأن الرسول هو الذي يبين ويفسر ويعلم، فيحفظون إيمانهم، ويزدادون علماً بمعرفة الكتاب والسنة. أيها المؤمنون! هل نستطيع أن نأخذ في هذا المسلك من الليلة؟ أم أننا مكبلون؟ حين تجلس مع إخوانك في البيت، مع أخيك مع أبيك قل: اسمع يا أبي، سأقرأ عليك شيئاً من القرآن. أو يقول هو: يا بني! أسمعني شيئاً من القرآن، أو جلست مجلساً ما في مكان ما، استرحتم، فتقول: من يسمعنا شيئاً من القرآن؟ لِم؟ لأن هذا السماع يقوي إيماننا، يحفظ ما عندنا، إن لم يزد الإيمان فإنه يحفظه.ثم بعد ذلك هذه المجالس الضرورية في بيوت الله، بين المغرب والعشاء على الأقل، وقت -والله- مناسب وملائم، وصالح وينفع ولا يضر، إذ كل الناس إذا تركوا العمل وفرغوا منه وغسلوا أيديهم وغيروا ملابسهم يذهبون إلى الراحة، اليهود والنصارى والمشركون يذهبون إلى اللهو إلى الباطل إلى اللعب ونحن إلى أين نذهب؟ يجب أن نذهب إلى بيوت ربنا، وهي موجودة في قرانا، في مدننا، في أحيائنا والحمد لله متوافرة، لِم لا نحمل نساءنا وأطفالنا ونذهب إلى بيوت ربنا نبكي بين يديه، نستمطر رحماته، نتعلم هداه؟ كيف تكون حالنا يومئذٍ، إذا أصبحنا كل ليلة طول العام نتعلم الكتاب والحكمة؟ كيف لا نصبح علماء ربانيين حكماء لا نضع شيئاً إلا في موضعه؟ هكذا الآيات تتلو هذه المعاني وتكررها والمسلمون في غفلة كاملة، هل بلغكم في بلد ما في الشرق في الغرب في الوسط في الشمال أو الجنوب أن أهل البلد أخذوا على أنفسهم العمل بهذا الهدي الإلهي والهدى الرباني، وأصبحوا يجتمعون بنسائهم وأطفالهم في بيوت الله يتلقون الكتاب والحكمة كل يوم؟ هل بلغنا الكمال في معارفنا وآدابنا وأخلاقنا؟ الجواب: لا، ضاع كل شيء، لو تطلع على عوراتنا وتنكشف أمامك سوآتنا فشاهدت بغضنا وحسدنا وأمراضنا لقلت: هؤلاء ما هم بمؤمنين! هذا هو الواقع، كيف نستقيم، كيف نصفو، كيف نطهر ونحن لا نتعلم؟ نطالب بالمحال.

دور المربي في التعليم والتزكية

قال تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، أولاً: يتلو علينا آيات الله.ثانياً: يعلمنا المعلم الكتاب ومعاني الكتاب وهي الحكمة المحمدية، وبذلك نعرف الحلال والحرام والحق والباطل، والخير والشر، وما يسمو بالعبد وما يهبط به. وزيادة: أن هذا المربي يزكينا، وما معنى أنه يزكينا؟ هل يعطينا شهادات تزكية أننا ربانيون، فيشهد بالباطل؟ ما معنى أنه (يزكينا)؟ اقرءوا قول الله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، خذ من أموال المؤمنين صدقة من شأنها: أنها تطهرهم وتزكيهم، فالتزكية هي: تطهير النفس، وهل النفس فيها نجاسات قاذورات؟ إي والله لهي أفظع من الخرء والبول والقيء والدم، والله! لأفظع وأشد ضرراً. إذاً: (يزكيهم): يطهر تلك النفوس مما يلي:أولاً: من أوضار وأوساخ الشرك والعياذ بالله، والشرك ما هو؟ الالتفات إلى غير الله، النظر إلى غير الله، الغفلة والإعراض عن الله، ووضع الرأس والنفس والهم على هذه الحياة، من يزيل هذا الأذى أو القذر إن لم يكن المربي بالكتاب والحكمة؟الغفلة عن الله تودي بحياة العبد، ومن يزكيك هو الذي يزيل تلك الأوساخ والقاذورات، من أعظمها الالتفات إلى غير الله، وهو الشرك بمظاهره الخفيفة والجلية.ثانياً: يطهرها من أمراض أخرى، كالنفاق في النفس، كيف يزال وبِم يعالج؟ يعالجه هذا الحكيم الذي نجلس بين يديه يزكينا.الأمراض التي نشكو منها: الحسد، البغض، الغيرة، العداء، حب الذات، حب النفس، الكبر، هذه الأمراض كيف تعالج؟ والله! ما تعالج ولا يشفى منها العبد إلا بالمربي الحكيم الذي يتلو آيات الله ويعلم الكتاب والحكمة، هذا الذي يقوى ويقدر على تزكية النفوس.وهذا -يا معشر المستمعين- لا يتم في اجتماع كهذا، بل أهل كل حي في مسجدهم طول العام، بنسائهم وأطفالهم، بذلك تزكو النفوس وتطيب الأرواح وتطهر وتتأهل للكمال الأخروي والدنيوي.

الحاجة إلى التربية في بلاط الصالحين

وشيء آخر أكرره: ألسنا نشكو من المقاطعات والعداء والتباعد عن بعضها، وقلة الرحمة وانعدام الأخوة، والكل يعمل لنفسه غير مبالٍ بجاره ولا بأخيه، لا بقريب ولا ببعيد، هذه كيف تزال؟ كيف نصبح كأننا نفس واحدة؟ وهذا هوا لمطلوب، وهذا هو المفروض فينا: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، ( المسلم أخو المسلم ). هل يوجد بين المسلمين زنا أم لا؟ أنا محتار وأنا في كرب، وأنا في هم: كيف يزني المؤمن بامرأة أخيه المؤمن أو بابنته أو أخته؟ كيف يحطم كرامته ويقضي على شرفه ويدوس وجوده بيديه ورجليه؟ أهذا موجود أم لا؟ أتوجد سرقات وتلصص وخيانة وإجرام؟ والله! لقد وخمت الدنيا بهذا بين المؤمنين، وسلوا المسئولين عن السجون في العالم وما يجري بين المسلمين، ما سبب هذا؟ سببه أننا ما ربينا في حجور الصالحين، ما تعلمنا الكتاب والحكمة، ولا تليت علينا آيات القرآن ليل نهار، وطول عمرنا وامتداد حياتنا نعيش كما تعيش الحيوانات، ورثنا كلمة مؤمن ومسلم أو الصلاة فقط، مع وجود إيمان هزيل ما هو بالقوي، ما هو بالقادر على أن يرفعنا ويطهرنا، ماذا ننتظر وكل يوم نتأخر مسيرة جديدة؟ فما الطريق، ما السر؟ ماذا نفعل؟ قد يقول القائل: يوم توجد الخلافة، وأنا قلت غير ما مرة: لو يسود عمر رضي الله عنه ويحكم فلن يستطيع أن يفعل شيئاً إلا من طريق واحد، وهو أن نسلم لله قلوبنا ووجوهنا، ونحقق أننا مسلمون حقاً وصدقاً. فعدنا من حيث بدأ إبراهيم وإسماعيل، لا بد أن نصغي ونسمع لكلام الله طول عمرنا، الليل والنهار والآيات تتلى علينا، فلم يبق ملهى ولا ملعب ولا ممسخ، فهذه أمة تريد السماء، إذاً: لتعش في بيوت الله، تقضي ساعاتها في المزارع والمصانع والمتاجر، تعمل بجد وصدق، ولكن لا بد من ساعات تتلقى فيها نور الله ورحمة الله، لتخرج من ورطة الجهل الذي يحمل على الحسد والبغض والعداوة وسائر المفاسد والشرور.فنساؤنا كأطفالنا كرجالنا، الكل تتلى عليهم آيات الله ويعلمون الكتاب وما يحويه من هدى، والحكمة وما تفصل وما تبين من المعارف التي تضمنها كتاب الله، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأولادهم وأتباعهم في ثلاثة قرون.

تحصيل الطهارة بتلاوة القرآن وتعليم الكتاب والحكمة

ماذا نفهم من هذه الآية العظيمة؟ إبراهيم وإسماعيل يبنيان البيت ويسألان الله تعالى أن يجعل في ذريتهما نبياً رسولاً منهم مهمته: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129] أولاً، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] ثانياً، وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] يطهرهم، ترتفع هممهم ومروءاتهم وكمالاتهم الآدمية البشرية، فيصبحون ككواكب في السماء ينيرون الأرض، وهل تحقق هذا؟ والله! تحقق طيلة ثلاثمائة سنة، ما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أعدل ولا أرحم، ولا أشد إخاء ولا صفاء من تلك الأمة، ومن يوم أن أبعدوا القرآن عنهم وحولوه إلى الموتى، وأصبح ما يسمع به المرء ولا يتلى عليه من حينها أخذنا الظلام حتى لصقنا بالأرض. هل تذكرون أن القرآن في العالم ما يقرأ إلا على الموتى؟ من يتحداني؟ أروني من جلس مع أخيه وقال لوجه الله: أسمعني شيئاً من كلام ربي؟ وإن وجد واحد أو عشرة فهل يكفي في إصلاح ألف مليون؟ ماذا نصنع بهذه الآية: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]؟ معناها: إذا لم نسمع آيات الله ولم تتل علينا ولم تقرأ فإنه يجف إيماننا وييبس، ما نستطيع أن ننمو، بل يتسلط علينا الشياطين فنهبط؛ لأن المناعة كل المناعة في تلاوة القرآن عليكم، وفي سماع كلام نبيكم.

أهمية إرسال المعلم المربي مع الطلاب المبتعثين إلى الغرب

هيا نعيد الآية مرة أخرى، اسمعوا هذا البلاغ الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100]، لبيك اللهم لبيك، مر نسمع ونطع. إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100]، من هذا الفريق؟ الأساتذة الذين جلسنا بين أيديهم في الشرق والغرب نتعلم العلم والمعرفة، وتخرجنا نحمل الشهادات وتولينا المناصب والكراسي، أهذا هو واقع هذه الأمة أم لا؟ والله! إنه لهو، ونشكو ونتألم: كيف لا نرجع إلى ديننا، كيف لا نعود إلى كتاب ربنا؟ لِم لا نحكم شرع الله؟ لم نبعد هذه الشريعة ونعتاض عنها بالقوانين؟ ونسينا العلة ما هي. لقد أتينا من قبل قوله تعالى: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100]، أولاً: من أهل الكتاب، ما هم بجهال، بل علماء اليهود والنصارى المتخصصون في إفساد قلوب المؤمنين وإبطال نور الإيمان بينهم، جلسنا بين أيديهم وبعثنا أولادنا، قرءوا وتعلموا وتخرجوا من أكثر من خمسين سنة، أليس ذلك هو الواقع. فالله ماذا يقول؟ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، من يقول: لا يستطيعون؟ ثم ماذا قال بعد ذلك؟ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، وهذا تعجب، فمن لم تتل عليه آيات الله صباح مساء طول عمره، وابتعد عنها لا يسمعها فوالله! ليرتدن. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، لو كنا بصراء وعرفنا هذه الآية من خمسين سنة فهل كنا سنبتعث أولادنا هكذا؟ أولادنا حين نبعث بهم إلى روسيا إلى بلغاريا إلى يوغسلافيا، إلى أيطاليا، أسبانيا، أمريكا؛ لأننا وجدنا أنفسنا غير متعلمين، نحتاج إلى العلم الصناعي لننهض به، حين نبعث البعثة من خمسين طالباً إلى ألمانيا، فألمانيا قالت: تفضلوا فنحن نقبل أبناءكم ليتعلموا الطب أو الكيمياء أو الهندسة أو الطيران، حين نبعث هذه البعثة نبعث معها إماماً من أئمة الهدى والقرآن والبصيرة، ونتخذ لهم سكناً خاصاً، ومن ذلك السكن غرفة لأداء الصلوات الخمس، والإمام يصلي بهم، ويتلو عليهم القرآن الكريم صباح مساء.فيدخلون فيجلسون بين يدي الكافر، قد يلوك بلسانه فيرمي كلمات ولكن المناعة موجودة، يسمعون وقلوبهم لا تثق فيما يقول، ويتعلمون المادية التي يتعلمونها ولا دخل أبداً لذلك في القلوب، فيذهبون ويعودون علماء صناعة، وفي نفس الوقت أنوارهم تغمرهم. أما كيف فعل المسلمون ذلك في الواقع؟ كيف بعثوا أولادهم؟ فالجواب: من ساعة أن يدخل ينغمس في أوضار الباطل والشر والخبث والفساد، يأكلون الحرام، يشربون الحرام، يشاهدون الحرام، ما تمضي عليهم سنوات إلا وقد عموا، وفقدوا إيمانهم، حتى إذا عادوا يعودون منافقين، إذا وجدوا الأمة أو الدولة مسلمة يراوغون وينافقون وقلوبهم مظلمة، فكيف بهؤلاء يسوسون ويسودون؟ هل عرف السامعون هذه الحقيقة؟ والله! لكما تسمعون، هذا كلام الله، هذا نور الله وهدايته، وإلى الآن هل تفطنوا؟ ما تفطنوا، العمال الذين يعملون في بلاد الكفر الآن جاءهم جماعات من الدعاة عوام، واستطاعوا أن يردوهم إلى الإسلام، أصبحوا يصلون ويتركون الخمر والفجور على الأقل.يقول تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، كيف يتلو عليهم؟ يقرأ عليهم، هل مرة واحدة تكفي؟ بل دائماً، فهذا النور إذا انقطع متنا. يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، يشرح لهم القرآن ويبين لهم السنة حتى يصبحوا علماء رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، وفوق ذلك يزكيهم، لا بد من عالم رباني في مسجد الحي، أو مسجد القرية، عالم ذي بصيرة يعالج ما في القلوب، لا يوصل المعاني فقط، يوجهها إلى النفوس، يزكي هذا من بخله، هذا من حسده، هذا من كبريائه، هذا من مرض كذا وكذا، يوماً بعد يوم حتى تصفو النفوس وتطيب، أما أن نعيش هكذا فالواقع شاهد ما يحتاج إلى برهنة.

معنى قوله تعالى: (إنك أنت العزيز الحكيم)

ثم قال الله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، هذه وسيلة، كما توسلا بالأمس فقالا: أنت السميع العليم، فحقق طلبنا. والعزيز: الغالب الذي لا يغلب، العزيز الذي لا يمانع في شيء أراده أبداً، القاهر الذي لا يعجزه شيء، والحكيم: الذي يضع الشيء في موضعه، والعوام قديماً يسمون الطبيب: الحكيم، لِم؟ لأنه يضع الدواء موضع الداء، وإذا كانت الدمامل في يده ويضع الدواء في رأسه أو في رجله فهل هذا حكيم؟ هذا أحمق.إذاً: الحكيم منا هو الذي يضع الشيء في موضعه، مثلاً: الآن في مجلس الذكر والعلم لو يدخل أحدهم إصبعيه في أذنيه ويقوم يؤذن فهذا أحمق أم حكيم؟ أو وقف يغني، فهل هذا وضع الأمر في موضعه؟ هذا حكيم أم أحمق؟ وعلى هذا فقيسوا، من كان يضع الشيء في موضعه هو الحكيم، يضع الطهارة في موضع الطهارة، والصدق في موضع الصدق، والوفاء في موضع الوفاء، والصدقة في موضع الصدقة أيضاً، ذاك هو الحكيم. فهما يقولان: فبما أنك عزيز حكيم لا يعجزك شيء، وتضع الشيء في موضعه، إذاً: فابعث فيهم رسولاً من أنفسهم مهمته كذا وكذا؛ لأنك القادر على كل شيء، فتوسلا إلى الله بصفتين عظيمتين تدلان على المطلوب وتحققانه، وهذا من حكمتهما في دعائهما، ما قالا: (إنك أنت الغفور الرحيم)، فهنا لا يتلاءم هذا، قالا: (العزيز) القادر على كل شيء، الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه.فهذه الحصيلة لا بد أن تبقى -إن شاء الله- في أذهانكم، فإذا جلستم بعد الأكل تقولون: من يقرأ علينا شيئاً من القرآن لنسمع ونبكي، ثم نقول: من يفسر لنا هذه الجملة من كلام ربنا، ما المقصود منها؟ ما المراد منا؟ ما المطلوب؟ فيقال: المطلوب كذا وكذا، كيف عرفت هذا؟ لأنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فجمعنا الكتاب والحكمة.سبق لي أن قلت وكتبت: إنه لما فقدنا المربين هبطنا، وقلت: من الجائز أن اثنين يقول أحدهما للآخر: يا فلان! أنا أخوك في الله، أسألك بالله العظيم أن تلاحظ سلوكي ..مشيتي.. كلامي.. منطقي.. أكلي.. حركاتي، ولا ترى خللاً أو ضعفاً يتنافى مع هدي الله ورسوله إلا نبهتني إليه وذكرته لي. والآخر يقول: وأنا أسألك بالله أن تكون مثلي، إذا رأيت في خللاً في عقيدتي، في خلقي، في سلوكي، في حركتي إلا نبهتني لذلك. ثم يسيران على هذا المنوال شهرين، أو عامين، فكيف سيكونان؟ والله! لطهرا تمام الطهر، وتهذبا، وصفت قلوبهما بهذه المناعة والرعاية، هذا إذا لم نجد، فكيف إذا وجدنا من يجلس بين أيدينا كل ليلة طول حياتنا، ويزكينا، ويطهرنا، من أين يأتي الخبث أو النجس أو الضعف والعجز؟ هل يمكن طهر وصفاء بدون هذا الطريق؟ والله! ما كان ولن يكون، لو كان لذكر إبراهيم هذا، ما هناك إلا هذا فقط: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، يقول المربي: أنت يا بني أما حفظت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه )؟ لماذا إذاً لا تحب لأخيك كذا، لماذا غضبت أو كرهت وحسدته؟ وهكذا.

تفسير قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ...)

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:130] لا أحد، هل فيكم من يرغب عن ملة إبراهيم؟ أعوذ بالله! إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، اللهم إلا من سفه نفسه، أرأيتم ملاءمة الآيات؟ ملة إبراهيم شرحت لنا وبينت، وهي في تلاوة آيات الله، فإبراهيم كان يتلوها، وفي تعليم أبنائه الكتاب والحكمة، في تزكية أبنائه وأسرته، هذه هي طريقة إبراهيم، فمن يرغب عنها؟ الجواب: لا أحد، اللهم إلا من سفه نفسه. وما معنى (سفه نفسه)؟ جهل نفسه وما عرف نفسه، أما من عرف نفسه وأنها في حاجة إلى الطهر والصفاء، إلى السعادة والكمال، هذه النفس البشرية الزكية الطاهرة إذا جهلها يبحث عن عوامل تزكيتها، تطهيرهاً، تربيتها، تنميتها، متى تحل المكان الأعلى والمقام الأسمى، فهو معني بها، أما الذي هو جاهل نفسه ما عرفها فيصب عليها أطنان الذنوب في كل يوم ولا يبالي، يقول الباطل، يفعل الباطل، يعتقد الباطل؛ لأنه ما عرف نفسه؛ لأنه ما سمع حكم الله في هذه النفس، ونحن قد عرفناه ولكنها العوائق والمعطلات. أما سمعت حكم الله أنه قد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب وخسر من دسى نفسه؟اسمع إلى هذا الحكم الإلهي: أقسم الله عليه بأحد عشر قسماً، ما رأينا لله في كتابه أقساماً أعظم من هذه وأكثر، وجواب القسم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] ما هي هذه؟ النفس؛ لأنه سبق في الكلام: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8]، متهيئة للفجور وللتقوى مستعدة، زكها تزك، وأخبثها تخبث، هذه سنة الله فيها، ما هي معصومة كأرواح الملائكة، ولا خبيثة كأرواح الشياطين لا يدخلها هدى ولا نور، هذه قابلة للتزكية والتطهير وللتلويث وللتخبيث. إذاً: قد أفلح من زكى نفسه، فكيف نزكيها، بم نزكيها؟ ارحل إلى العالم الفلاني واجلس بين يديه حتى تتعلم كيف تزكي نفسك، فأدوات التزكية كثيرة، فكيف تستعملها؟ ما هي أوقاتها ما هي ظروفها؟ لا بد من هذا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، معنى (أفلح): فاز بالمناصب العالية، الآن يقال: فلان أفلح، فاز، نجح، حصل له ماجستير أو دكتوراه في كذا، ونتبادل التهاني، يا فلان! أنا نجحت، وفلانة نجحت والحمد لله، فهي في فرح كبير، كيف؟! لأنها حصلت على شهادة فغداً ستصبح موظفة. وهذا في الذكور لا بأس به، لكن في الإناث هل نترك الديار والمنازل والبيوت ونعمرها بالشياطين، ونترك البنات والنساء يشتغلن كاليهوديات والنصرانيات مع الفحول؟ هذه وحدها ضربة من الضربات القاسية بأيدي الذين تعلمنا على أيديهم وأطعناهم.

حقيقة ملة إبراهيم ودعامتها

فمن يرغب عن ملة إبراهيم القائمة على لا إله إلا الله؟ وهل تعرفون دعامة هذه الملة؟ لا يرهب، لا يخاف، لا يحب، لا يكره إلا ما يرضي الله، كل شيء تحت هذا النظام، أنت مؤمن تحب ما أحب ربك، وتكره ما كره ربك من كل أسباب وألوان الحياة، هذا معنى لا إله إلا الله، أما أن يحب ربك شيئاً وتكرهه، أو يكره الشيء وتحبه؛ فقد عاديت الله، خرجت من طاعته، أعلنت الحرب عليه، ومن يفلح من هذا النوع؟ لا أحد.فملة إبراهيم: هي أن يعبد الله بما شرع، ما هي ملة إبراهيم التي كان يعيش عليها ودعا البشرية إليها؟ أن تعبد الله وحده بما شرع، فإن أنت قسمت قلبك ووزعت نفسك تعبد مع الله فلاناً وفلاناً انهار البناء وسقط كل شيء، تعبد الله بهواك وبما تمليه الشياطين وتقول: أنا راكع ساجد عابد فذلك لا ينفع، لا بد أن تعبده بما أحب أن يعبد به من الكلمة إلى الحركة. فما هي ملة إبراهيم؟ هي معنى: لا إله إلا الله، أي: لا معبود يعبد بحق إلا الله، ويعبد من طريق رسول الله، فهو الذي يبين لنا كيف نستعمل العبادات، كيف نغتسل، كيف نصلي، كيف نحج، كيف نصف في الصلاة والجهاد، كيف نتصدق، كيف نمنع، كيف نحب، كيف نكره، لا بد من رسول الله، فلاحظ أن الملة كاملة تحت: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وبالعقل إذا قلت لكافر: أتشهد أن لا إله إلا الله، فيقول: كيف أشهد؟ فإنك تقول: من خلقك؟ من خلق أمك وأباك؟ من رفع السماء؟ من أنار الحياة؟ من أوجد هذه الأغذية؟ فإنه يقول: ما أدري! فتقول له: الله. وهل هناك من يستحق أن يعبد مع الله؟ الجواب: لا؛ إذ هو وحده الخالق الرازق المدبر، إذاً: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، إذاً: هيا اعبده. ما دمت علمت أنه لا معبود إلا هو فاعبده، يقول لك: دلني كيف نعبده، لا بد أن تعلمني كيف أعبده، وبِم أعبده؟ فحينئذ تضطر إلى أن تأتي بكلمة: (وأن محمداً رسول الله)، إذ هو الذي يعلمك كيف تعبد الله، وبم تعبده، وهذه هي ملة إبراهيم: أن نعبد الله وحده بما شرع لنا من أنواع العبادات، وهي قلبية وجارحية كما علمتم، وبذلك نكمل ونسعد. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، ما معنى (سفه)؟ جهلها، ما أعطى لها قيمة، ما عرف نفسه، ككل الكافرين والظالمين يعيشون بدون نفوس، لو عرف نفسه لأعزها وأكرمها، لا يهينها ويمزقها.

معنى قوله تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين)

وقوله تعالى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130]، بشراك يا إبراهيم، أولاد المؤمنين من بنين وبنات من الأطفال الصغار كلهم الآن حول إبراهيم، هو راعيهم، يحفظهم إلى يوم القيامة، له منزلة في دار السلام، كل أولاد المؤمنين والمؤمنات يؤتى بأرواحهم عند إبراهيم الخليل، وكيف شكل هذه الأرواح؟ هل في أشكال في صور في هياكل؟ الله يعلمها. أما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في ولده إبراهيم: إن له مرضعاً خاصة عند إبراهيم؟ وفي دعائنا للأطفال نقول: (اللهم وألحقهم بسلف الصالحين في كفالة أبيهم إبراهيم)، هذا إبراهيم الأب الرحيم، ماذا يقول تعالى عنه: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ [البقرة:130] ما معنى اصطفيناه؟ اصطفى الشيء: أخذ صفوته، كما تصطفي العسل أو الطعام الصالح، اختيار الشيء وأخذ وسطه، اصطفاه الله عز وجل من ملايين البشر على عهده من أهل الشرك والباطل والكفر، اختاره هو وحمله أمانته، وهذا الاصطفاء عظيم؛ حيث اختاره من البشرية كلها في ضلالها: اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا [البقرة:130]، فأصبح أفضل كائن على وجه الأرض، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130] منهم فقط.ومن هم الصالحون؟ هل كلنا منهم؟ اسمع آية المواكب في دار السلام: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69] من أبيض أو أحمر أو أسود، وعربي وعجمي، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، إبراهيم مع الصالحين. ومن هم الصالحون؟ هل سيدي عبد القادر، مولاي إدريس، سيدي عيدروس؟ ما كنا نعرف الصالحين -والله- إلا الذين ماتوا ودفنوهم وبنوا عليهم القباب الخضراء والبيضاء ووضعوا الستائر، هؤلاء هم الصالحون، أما أهل البلاد فكلهم فاسدون! وهنا لطيفة كررناها، قلنا: قبل أربعين أو خمسين سنة، قبل أن تنتشر هذه الدعوة، والله العظيم! لو دخلت القاهرة المعزية ذات الملايين ولقيت أول مصري قاهري فقلت: أنا غريب عن هذه الدار وجئت من بلاد بعيدة، فدلني على ولي من أولياء هذه البلاد، فوالله! ما يأتي بك إلا إلى قبر! فلا إله إلا الله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-21, 09:51 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (88)
الحلقة (95)



تفسير سورة البقرة (57)

ملة إبراهيم عليه السلام هي ملة الإسلام، وهي إسلام القلب والوجه لله، والانقياد له ظاهراً وباطناً، فمن فعل ذلك فهو المسلم الحق، المستحق لاصطفاء الله ومحبته ورضوانه، ومن رغب عن هذه الملة فقد جهل نفسه وظلمها، وتنكب بها طريق الصالحين، وحاد بها عن سبيل المؤمنين، فصارت مظلمة بظلامات الكفر والجحود، منجسة بنجاسات المعاصي والذنوب، فأنى لها أن ترى النور أو تدرك السرور.
تابع تفسير قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:131-133].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

انتفاء تحقق التزكية والتطهير بغير ملة الإسلام

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:130]، أتدرون ما هي ملة إبراهيم؟ إن ملة إبراهيم الإسلام الذي أكرمنا الله به، وأسبغ علينا نعمه به، وأصبحنا أحياء نسمع ونبصر، نعقل ونفهم، نأخذ ونعطي، لكمال حياتنا بالإسلام، يقول تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فكل ما لم يكن الإسلام فهو دين باطل، لا يزكي النفس البشرية ولا يطهرها، وسعادة الآخرة متوقفة على زكاة النفس وطهارتها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، كل ما كان غير الإسلام من الملل والنحل والأديان فهو باطل، ومعنى ذلك أولاً: أن تلك الملل لا تزكي النفس، والله الذي لا إله غيره! لو تعبد الله باليهودية بكل ما فيها من عقائد، وآداب، وأخلاق، وشرائع، فوالله! ما تفعل في نفسك شيئاً من النور والطهر والصفاء، لو تطبق المسيحية أو النصرانية بكل قواعدها وأهدافها ومبادئها فوالله! لا تفعل شيئاً، إذاً: فما دون اليهودية والنصرانية من أي ملة أخرى هل ستزكي النفس وتطهرها؟ لم يبقَ إلا الإسلام، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، ما السر في هذا؟ السر في هذا -يا معاشر المستمعين والمستمعات- أن الله تعالى الذي جعل الماء يروي الظمآن، والطعام يشبع الجائع، والحديد يقطع؛ هو الذي إذا شرع كلمة لعبده ليقولها فلا يقولها ذلك العبد إلا وانطبع أثرها وانعكست على نفسه، لو شرع تعالى أغنية -وحاشاه- فتغنينا بها إيماناً به وطاعة له وانقياداً لأمره لأوجدت تلك الأغنية أثرها في نفوسنا بالتزكية والتطهير، هذا مثال.فما لم يشرعه الله من اعتقاد أو قول أو عمل فهيهات هيهات أن يحدث في النفس زكاة وطهراً! هذا من باب المحال، إذاً: فإذا عبد الناس اللهَ بعبادة ما شرعها فما هي النتيجة؟ التعب فقط، أما أنها تزكي نفوسهم فوالله! لا تزكيها، فالنفس من الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، هو الذي إذا شرع لها كلمة، أو جرياً بين الصفا والمروة أحدث ذلك أثره فيها.وإليكم مثلاً محسوساً: أليس هذا المسجد النبوي بيت الله؟ الجواب: بلى. فلو أن أحدنا قال: لأطوفن لله بالمسجد النبوي سبعة أشواط، وأخذ يتردد من غربه إلى شرقه مع العرق والتعب، ويقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، سبحان الله، هل يحدث هذا الطواف في نفسه شيئاً من الزكاة أو الطهر؟ والله! لا، ولا جراماً واحداً.فإن قيل: بذل جهده وطاقته؟ فالجواب: هل الله شرع هذا وقال: (وليطوفوا بمسجد رسولنا)؟ونعود إلى واقع الحياة، شرع الله جل جلاله وعظم سلطانه في دينه الذي أوجده لعباده أبيضهم وأصفرهم، شرع قطع يد السارق، إذا سرق العاقل البالغ المكلف، أما طفل صغير أو مجنون فلا شأن لهما في القصاص، سرق السارق فتقطع يده، هل تنتج هذه العملية شيئاً؟ الجواب: تؤمن أموال المؤمنين والمؤمنات، ما إن يسرق السارق ويقام عليه حد الله فتقطع يده وتعلق عند باب المسجد حتى يكف كل من في قلبه رغبة في أن يسرق مال الناس، ويتحقق أمن، ووالله! لا يتحقق بغير ذلك حتى ولو جعلت عند باب كل بيت عسكرياً في يده الرشاش، لو استعملت ما استعملت من الوسائل لتأمين أموال الناس فوالله! ما تحقق ذلك، ولن يتحقق إلا بهذا الذي وضع الله من قانون حد السرقة، هذا مثال. فكيف -إذاً- بشأن الروح وهي خفية، من يستطيع أن يطهرها أو يزكيها بما يوجد لها من أذكار، من تسابيح، من حركات؟ لن يستطيع أحد، فمن رغب في تزكية نفسه فليتعلم عن الله ورسوله الأعمال التي تزكيها، بشرط أن يكون مؤمناً موقناً بها، وأن يؤديها كما وضعها الشارع، فإن زاد فيها بطل مفعولها، وإن نقص منها بطل مفعولها، قدم جزءاً وأخر آخر بطل مفعولها، لا بد أن تؤدى أداءً صحيحاً سليماً كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.معاشر المستمعين والمستمعات! هل فهمتم هذه المسألة في أذهانكم؟ لو يجتمع علماء الملة على أن يبتدعوا لنا عبادة جديدة، وأخذنا نأتي ونفعلها، فهل يمكن أن تزكي هذه العبادة أنفسنا؟ والله! ما زكتها أبداً، فلهذا اسمع أبا القاسم -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، ويقول: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، ويقول: ( كل بدعة ضلالة )، ما معنى (ضلالة)؟ تضل صاحبها وتسوقه في متاهات، ولا تنتج له عملاً يزكي نفسه.

الإسلام ملة إبراهيم التي أوصى بها بنيه

ونعود -معاشر الأبناء- إلى قول ربنا: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:130]، عرفنا هذه الملة؟ إنها -والله- للإسلام، أي: إسلام القلب والوجه لله، انقياد في الظاهر والباطن لله، استسلام كامل، قال: صم فصمت، قال: أفطر فأفطرت، قال: حج فحججت، قال: أعطِ فأعطيت، قال: اسكت فسكت، هذا هو الانقياد، هذا هو الإسلام، بحيث لم يبقَ لك حق في الاختيار فإن شئت فعلت وإن شئت لا، هذا -والله- ما هو بالإسلام.فمن أسلم قلبه لله، فأصبح قلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، هذا همه، وأسلم وجهه فلا يرى إلا الله؛ حيث وجهه يتجه، إن قال: نم نام، إن قال: قم قام، أليس هذا شأن المؤمن المسلم؟ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، فمن يرغب عن ملة إبراهيم؟ لا أحد، اللهم إلا من جهل قدر نفسه، ما عرف لنفسه قيمة ولا قدراً، هذا يرغب عن ملة إبراهيم ويطلب ملة الشيطان.ما زلت أقول للسامعين والسامعات: إن ملة إبراهيم هي الإسلام وهو دين الله في الأولين والآخرين: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ [البقرة:132]، وصاهم بماذا؟ بالإسلام، ويعقوب جمع أولاده قبل سكرات الموت: إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، ويوسف قال: فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، وسائر الأنبياء من نوح عليه السلام، والله! ما وجد نبي ولا ولي ولا عبد صالح إلا ويسأل الله الوفاة على الإسلام. إذاً: رغب اليهود والنصارى حيث ابتدعوا اليهودية والنصرانية، ورغبوا بذلك عن ملة إبراهيم، فكيف ترونهم: سفهاء أم رشداء؟ والله! إنهم لسفهاء، يرغبون عن ملة إبراهيم وهم يعتقدون كماله واصطفاءه ورسالته ونبوته، ويرغبون عنها ويحدثون بدعة اسمها اليهودية، والله يقول من سورة آل عمران: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا [آل عمران:67]، إذاً: هل بينكم من يرغب عن ملة إبراهيم؟! أعوذ بالله! لو نعطى الدنيا بما فيها فوالله! ما رغبنا عن ملة إبراهيم، ما هذه الملة؟ إنها الحنيفية المسلمة الطاهرة، هي معنى: لا إله إلا الله، لا عيسى ولا مريم، ولا العزير، ليس هناك إلا الله الواحد الأحد، وهكذا ندخل في رحمة الله بكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله على علم، والله! إنا لعلى علم أنه لا يوجد في العالمين من يستحق أن يركع له ويسجد أبداً إلا الله.وإن وجدتم في العالم من يخلق ويرزق ومن يدبر حياة المخلوقين، إن وجدتم من هذا وصفه فاعبدوه، وهل نجد؟ كل الخليقة مخلوقة مربوبة، والله خلقها، فكيف يعبد مخلوق مع خالق، مربوب مع الرب؟ إذاً: كيف وجد الكفر؟ لأن الشياطين تدعو إلى ذلك، الشياطين هي التي تدعو إلى الكفر بالله ولقائه، إذاً: فلنحمد لله على أننا -والله- لا نرغب عن ملة إبراهيم، لا نرضى بملة من الملل، ولا بنحلة من النحل.

اصطفاء الله تعالى واجتباؤه لإبراهيم عليه السلام

إذاً: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، ثم قال تعالى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا [البقرة:130]، من هو هذا الذي اصطفى إبراهيم؟ الله جل جلاله، هو المخبر عن نفسه.ما معنى (اصطفاه)؟ اجتباه، اختباره، كان العالم يفيض بالشرك والباطل، يعبدون الكواكب، يعبدون النجوم، يعبدون التماثيل التي نحتوها وصوروها، فاصطفى الله تعالى إبراهيم من تلك الأمة العريقة في الشر والباطل، واجتباه واختاره، وأصبح وليه بالحق، وأوحى إليه شرعه، وبعثه إلى الخليقة يدعوها إلى (لا إله إلا الله، إبراهيم رسول الله).من اصطفى إبراهيم؟ الله جل جلاله: اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا [البقرة:130]، وفي الآخرة كيف حاله؟ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130]، ما معنى الآخرة؟ الحياة الآخرة، وهل هناك حياة أولى؟ نعم. هي هذه التي نعيشها وتحياها الخليقة، هذه حياة فيها سمع وبصر، وطعام، وشراب، ونكاح، ولباس، وتنتهي، هذه الحياة الأولى، ثم الحياة الآخرة، وحذف لفظ (الحياة) واكتفي بالآخرة، لأنها معروفة.

مواكب المنعم عليهم

وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130]، من هم الصالحون؟ اسمع حكم الله في هذه البشرية، يقول تعالى من سورة النساء من كتاب الله القرآن العظيم الذي نسخ به كل الكتب السابقة، يقول تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69]، من منكم يحفظ هذه الجملة؟ والله! لهي خير له من مليون ريال إذا حفظها وفهمها وارتفع مستواه فوق هذه البشرية الهابطة. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69] من الرسول؟ هو هنا -والله- محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن (أل) هنا للتعريف وللعهد. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون؛ لأن (من) من ألفاظ العموم، أبيض، أسود عربي، عجمي، من أي جنس كان. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]، لم يخرج منهم أبداً، بل في زمرتهم، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]، هل أنعم عليهم بالذرية والأولاد، بالأموال، بالجاه العريض الطويل، أنعم عليهم بالشرف، أنعم عليهم بالبترول، بالصناعة، أنعم عليهم بماذا؟ أنعم عليهم بنعمة الإسلام، أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، تلك هي النعمة، ونحن نقول في كل ركعة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:5-7]، هل هناك نعمة أعظم من نعمة الإسلام؟ البشرية تعبد الشياطين والأهواء والفروج والدنيا، وأنت تعبد الرحمن الذي لا إله إلا هو، أية نعمة أعظم من هذه؟ البشرية تعيش في الخبث والنجس، وأنت طاهر نقي صاف ظاهرك كباطنك، أية نعمة أكبر من هذه؟ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] بالإسلام، وهو إيمان وإحسان، ثم بين لنا مواكب هؤلاء المنعم عليهم، فقال: مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء:69] هذا موكب، وَالصِّدِّيقِين َ [النساء:69] موكب ثان، وَالشُّهَدَاءِ [النساء:69] موكب ثالث، وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، موكب رابع، سبحان الله! من حيث الظاهر أفضلهم النبيون، ويليهم الصديقون، وفي المرتبة الثالثة الشهداء، وفي الرابعة الصالحون، والله! ما كان نبي إلا كان صالحاً، ولا كان صديق إلا كان صالحاً، ولا كان شهيد إلا كان صالحاً، إذاً: فالبيت الجامع هو الصلاح، فمن منا يرغب أن يكون صالحاً؟ لك أن تكون صديقاً، لك أن تكون شهيداً، لك أن تكون صالحاً، إلا أن تكون نبياً فلا، لا تطمع ولا تسل الله، لو وجدنا شخصاً يقول: يا ربي! اجعلني نبياً، وطول الليل يبكي، فنقول: أنت تكلفت ما ليس لك، لو تدعو الله مليون سنة فوالله! ما نبأك، ختم النبوات وانتهت، والنبوة ما تأتي بالطلب، الله يصطفي، ينظر إلى من هو أهل ويؤهله حتى يصبح أهلاً فيتلقى المعارف الإلهية بقلبه.

سبيل الدخول في موكب الصديقين

إذاً: فمن منا يرغب أن يكون صديقاً؟ كلنا ذاك، إذاً: فإليكم تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، من الليلة فقط اعزم وصمم، وتوكل على الله، ما يمضي عليك زمن إلا وأنت مسجل في ديوان الصديقين، ونشاهد ذلك فيك أيضاً، اسمع الرسول الكريم يقول صلى الله عليه وسلم يخاطب أمة الإسلام، الأمة الحية التي تسمع وتبصر، لا الكافرة الميتة المشركة. يقول: ( عليكم بالصدق ) أي: الزموه وحافظوا عليه، والصدق يكون في القول والعمل والاعتقاد، لا في القول فقط، وإن كان هو الظاهر، صدق فلان في قوله، وصدق في عمله.( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر )، يقود، يسوق إلى البر، والبر: الخير كله، كلمة جامعة، لا يوجد خير يخرج عن كلمة (بر)؛ لقول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا: ( عليكم بالصدق ) الزموه، حافظوا عليه، تحروه، ( فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة )، هل تفهمون معنى (يهدي)؟ حين أقول لك: أين بيت فلان؟ تقول: تعال أوصلك إليه، فهذا هداني أم لا؟ هذا معنى الهداية. ( ولا يزال المرء يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً )، لا شك أن فيكم من بدءوا منذ زمن، ومنا من بدأ أمس، أو سيبدأ غداً، فالموكب ماش لا يرد أحداً.( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال المرء -ذكراً أو أنثى- يصدق ويتحرى الصدق -يطلبه ويبحث عنه- حتى يكتب عند الله صديقاً )، أصبح في الموكب الثاني بعد النبيين.

سبيل الدخول في موكب الشهداء

من يريد منا أن يكون شهيداً في الشهداء؟ هذا المقام مقام سام، ولكن باب الله مفتوح.أولاً: انوِ في قلبك -وكن صادق النية- أنه إذا قام جهاد تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، تحت بيعة مؤمن رباني، يقود الأمة إلى صفاء الحياة وطهارتها، فإنك سترمي بنفسك، هذه النية أكدها، ما إن ينادى مناد أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن جاهدوا عباد الله لإنقاذ البشرية وتطهيرها وتصفيتها إلا وأنت معه.ثانياً: اسأل الله تعالى الشهادة في صدق، كلما دعوت الله قل: اللهم اجعلني شهيداً، اللهم اكتب لي الشهادة في سبيلك، اللهم اجعلني من الشهداء، اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك، ومن عجيب فعل عمر أنه كان يقول: ( اللهم إني أسألك موتةً في بلد رسولك وشهادة في سبيلك )، فتعجب بنيته حفصة بنت عمر : كيف يا أبتاه تسأل الله الشهادة وتموت في المدينة! المدينة الآن مدينة إسلام، فكيف تحصل على شهادة فيها؟ فيقول: يا بنيتي! فضل الله عظيم واسع. واستجاب الله لـعمر، وطعن وهو في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالمؤمنين بين يدي الله، أية شهادة أعظم من هذه؟ من طعنه؟ مجوسي من عبدة النار، أبو لؤلؤة كان مملوكاً عبداً للمغيرة بن شعبة كسائر العبيد الذين يحصلون عليهم، ولكنه من الحزب الوطني الذي ما إن رأى الإسلام يغمر تلك الديار حتى تكون لينتقم من الإسلام الذي كسر عرش كسرى، وأطفأ نار المجوس، وظهرت أول طلقة وهي هذه، وما زال ذلك الحزب يعمل إلى الآن.إذاً: سبحان الله! عمر يقول: ربّ أسألك شهادة في سبيلك وموتة في بلد رسولك، كيف يتحقق هذا؟ هل تحقق أم لا؟ تحقق لـعمر رضي الله عنه وأرضاه.إذاً: فمن سأل الله في صدق الشهادة يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ). فالنية أولاً، إذا نادى منادي إمام المسلمين أن: حي على الجهاد فارتم معهم، وإذا ما نادى مناد وما جاء جهاد حق كما هو واقع اليوم، فأنت ابقَ على نيتك، واسأل الله أن يكتبك في عداد الشهداء، ومع هذه النية وهذا العزم أنت من الشهداء ولو مت على فراشك. إذاً: هذه -إن شاء الله- نحصل عليها كالأولى.

سبيل الدخول في موكب الصالحين

الثالثة والأخيرة: نريد أن نكون من الصالحين الذين نسلم عليهم كلما نصلي: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين طول الحياة، وهذا اللفظ يشمل كل صالح في الأرض والسماء، ولا يشمل الفاسدين والمفسدين في الأرض أو في السماء، وهل في السماء مفسدون؟ إنهم الشياطين. فإن قلت: كيف نكون صالحين يا شيخ فهذه مسألة صعبة؟ فالجواب: كلا أبداً، هذه أسهل، وهي: أنك تؤدي حقوق الله وافية، ما تبخس الله ولا تنقصه حقاً من حقوقه، وأن تعبده وحده لا شريك له، هذا حق الله، أن يعبد الله وحده بما شرع من أنواع العبادات.ثانياً: حق عباد الله، فلا تبخس امرأتك حقها ولا ابنك ولا أباك ولا قريبك ولا البعيد، ولا أي إنسان أبيض أو أسود، كافر أو مؤمن، لا تنقصه حقه، تؤدي حقوق العباد وافية، لا تنقص منها شيئاً، بذلك تكون في ديوان الصالحين، أصبحت دون النبي ولكنك صديق وشهيد وصالح، مع أن الكل يعود إلى زمرة الصالحين.وهذا إبراهيم ماذا يقول تعالى عنه؟ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130].

تفسير قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)

ثم قال تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ [البقرة:131] رب من؟ رب إبراهيم، هو الذي قال له أسلم، ولعلكم تذكرون تلك التربية الربانية، ففي سورة الأنعام يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، اذكر يا رسولنا، اذكر أيها المؤمن هذه الحادثة الجليلة: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، والعجيب أنه يوجد من المفسرين من يقولون: عمه، ويستسيغونه نقلاً عن أهل الكتاب، يقولون: هو عمه. الله يقول: أبوه، وأنت تقول: عمه! أما يستحي العبد أن يقول هذا؟ حتى لو عرفت أنه عمه، ما دام أن الله تعالى قال: هو أبوه فلم تخالف قول الله؟! أعوذ بالله. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74]، يعتب عليه، يوبخه، يؤدبه، ينكر عليه: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74] تعبدها! إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]، هذه كلمة إبراهيم بعد اصطفاء الله له: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74].قال تعالى -وهو الشاهد-: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]، الله هو الذي رباه، هو الذي نماه، هو الذي رقاه من حال إلى حال، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:75-76]، قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام:76] غطاه بظلامه، قال: رأى كوكباً، سواء الزهراء أو المريخ أو كوكب مشرق، قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ أي: غاب الكوكب قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76]، كيف يغيب ربي؟ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا [الأنعام:77] طلع القمر، قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:77-79]، هكذا رباه ربه ورقاه حتى انتهى إلى الحقيقة.

معنى الإسلام لله

وهنا يقول تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131] أسلم ماذا؟ شاة أم بعيراً، أم دراهم ودنانير؟ أسلم قلبه ووجهه لله، فكل أعماله لله، وهذا أيضاً نحن عليه، هل فينا من يتزوج لغير الله، أو يطلق لغير الله، أو يبني لغير الله، أو يهدم بناء لغير الله، أو يسافر لغير الله، أو يقيم لغير الله؟ والله! لا يوجد، إذ نحن المسلمون لا نأتي ولا نذر إلا لله؛ لأننا وقف على الله، مضى هذا فينا يوم نزل قول ربنا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]. أنت لماذا أعفيت لحيتك؟ لله، وأنت لم حلقت؟ هل لله؟ لا والله، فهذه فضيحة، لا يقول: لله، أنت لماذا تشرب هذا الكأس من الماء؟ لله؛ لأحفظ حياتي، وأنت لم تشرب كأس الخمر؟ هل يقول: لله؟ إذاً: الحمد لله، فنحن من المسلمين، حياتنا وقف على الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].هيا بنا إلى مزرعة لنجد فلاحاً في يده المسحاة وهو يضرب باسم الله في الأرض، لم يا عم؟ قال: لله، كيف يكون لله؟ هل الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، أنا أفلح هذه الأرض من أجل أن أحصل على قوتي وقوت أهل بيتي لنعبد الله؛ لأننا إذا ما اقتتنا متنا، فلا نعبد الله، فلا بد أن نعمل لله، وهكذا ذو الصناعة في صناعته، وكل مؤمن عرف، فإن حياته كلها وقف على الله عز وجل.

تجهيل المسلمين وإبعادهم عن إسلام الوجوه والقلوب لله تعالى

والذي أبعد المؤمنين والمؤمنات عن هذا الطريق أنهم ما عرفوا، والله! ما عرفوا، أما من عرف أخذ بطريق الهداية، فما أحوجنا إلى العلم، فعدنا من حيث بدأنا، وهذه دعوة إبراهيم: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، يفعل معهم ماذا؟ هل يأتي لهم بالخبز واللحم والمرق؟ وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129] ماذا يصنع؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]. سلوا الدنيا تخبركم عن أصحاب رسول الله وأبنائهم وأحفادهم طيلة ثلاثمائة سنة أو ثلاثة قرون، والله! ما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أصفى ولا أعدل ولا أرحم ولا أتقى من تلك الأمة، كيف وصلت إلى هذا؟ ما هي الجامعات التي درسوا فيها والكليات والمعارف؟ أين هي؟ إنها هنا، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم فقط، فتفوقوا ونجحوا، ومن يوم أن أبعدوا المسلمين عن كتاب ربهم وحولوه إلى المقابر وإلى دور الموتى، وصارت السنة مهجورة؛ من ذلك اليوم ونحن نهبط حتى فقدنا كل شيء.أما فقدنا الأندلس؟ أما فقدنا الجمهوريات الإسلامية في شرق أوروبا؟ أما استعمرتنا إيطاليا وفرنسا وأسبانيا وبريطانيا؟ سبحان الله! المسلم يحكم من قبل الكافر؟ نعم هذا حاصل؛ لأنه ما هو بمسلم، ما أعطى لله شيئاً، هو مسلم بالاسم، لو أعطاه قلبه ونفسه وماله ما استطاع الكافر أن يسوده ويحكمه، فما هي العلة؟الجهل، جهلونا فسادونا، والآن نحن نصرخ: العلم .. العلم، فما استجابوا. وقد تقول: اسكت يا شيخ، فما هناك بلد إسلامي إلا فيه وزارات المعارف والمدارس والكليات والمعاهد، فما لك يا هذا؟فنقول: أين آثار ذلك؟ ما هو السر في ذلك؟ السر أنهم ما طلبوا العلم لله، أي: ما طلبوه من أجل أن يعرفوا الله ويعرفوا محابه ومساخطه، وكيف يجاهدون أنفسهم لتستقيم على منهج العلم والحق، فطلبنا العلم للدنيا، حتى بناتنا، يبعث بابنته تدرس، هل من أجل أن تعبد الله؟ لا، لو أرادت أن تعبد الله فستعبده في البيت، تتعلم من جدتها.. من أمها.. من زوجها، تقول: كيف أذكر الله؟ كيف أصلي؟ تتعلم وتعبد الله، ولكن من أجل الوظيفة، وقد بوب البخاري في الصحيح بـ(باب: العلم قبل القول والعمل).

طريق العودة إلى الله تعالى

وقد يقول قائل: الآن يا شيخ كم صحت هذا الصياح، فماذا ينفع؟ دلنا على الطريق.فأقول: الطريق -والحمد لله- واضح سهل لا عقبات ولا أحجار ولا حيات ولا بوليس ولا شرط، فقط أهل القرية المسلمة يتعاهدون لله فيما بينهم أنهم يفزعون إلى ربهم كل ليلة من صلاة المغرب إلى العشاء في بيت الرب، هذه أول خطوة، وهذا لا يوقف حياتهم أبداً ولا يعطلها، الفلاح يشتغل، التاجر يشتغل، الصانع يشتغل، الكل عندما تميل الشمس للغروب يتوضئون ويلبسون ملابسهم ويأتون بنسائهم وأطفالهم إلى بيت الرب تعالى، من يلومهم؟ من يسخر منهم؟ من يضحك؟ يجتمعون في بيت الرب وسيهيئ الله لهم من يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، والله! ليهيئن لهم من يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، كيف يصبح أهل تلك القرية؟ أنا أعرف كيف سيصبحون، كالملائكة، لا خيانة، لا غش، لا حسد، لا كبر، لا إسراف، لا بذخ، لا حب دنيا، لا تكالب على الشهوات، أم أنك تقول: هذا لا يمكن، محال! فأقول: أنسيت سنن الله؟ الطعام يشبع والماء يروي والنار تحرق والحديد يقطع، سنن لا تتبدل، إذاً: فتعلم الكتاب والحكمة لا بد أن ينتج الطهارة والصفاء، والأمثلة قائمة والحياة شاهدة وما هو بأمر خفي.كم حياً في المدينة؟ قالوا: سبعة عشر حياً، وفي بعض المدن عشرون، أهل كل حي يتعاهدون لله أنهم إذا مالت الشمس للغروب يفرغون من أعمالهم، الحلاق يرمي الموسى ويغلق الدكان، التاجر يغلق الباب، الصانع كذا، ويأتون إلى الجامع الذي في حيهم، لا يوجد حي ليس فيه جامع أبداً في العالم الإسلامي من عرب وعجم، يجتمعون في بيت ربهم يستمطرون رحمته، يبكون بين يديه، يذكرون اسمه، ويهيأ لهم أيضاً مرب حليم، يجلس لهم جلوسنا هذا ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم العام بعد العام، أسألكم بالله: هل يبقى في الحي لص مجرم، أو مسرف؟ والله! ما يبقى، فماذا يصنعون بالمال؟ هل يبقى بينهم جائع؟ والله! ما يبقى، هل يبقى بينهم عار؟ والله! ما يبقى أبداً، هل يبقى بينهم جاهل؟ كيف يبقى الجاهل؟ كيف يوجد الجاهل؟ويتم لهم من الكمال ما تم لأصحاب رسول الله وأبنائهم وأحفادهم في العصور الذهبية، لا سيما في وقت كهذا.فما المانع أن يفعل المسلمون هذا؟ إلى الآن ما عرفنا. هل سحرنا اليهود؟ لا ندري. ما هي الموانع؟ ما عرفنا. فهل عرفتم سر هذا البكاء كم نبكي؟وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-21, 10:06 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (89)
الحلقة (96)



تفسير سورة البقرة (58)






إن عقيدة التوحيد هي وصية الأولين والآخرين، وصية الآباء للأبناء، وصية الأنبياء للأتباع، فلا حياة بلا توحيد، ولا دنيا ولا أخرى بدون عقيدة صحيحة، وقد وصى إبراهيم الخليل بنيه بالتوحيد، أن يعيشوا عليه ويموتوا عليه، ووصى به يعقوب بنيه، فلم يمت حتى استوثق منهم لأنفسهم، وعلم حقيقة عقيدتهم، واطمأن إلى سلامة توحيدهم، وهذا من بر الآباء بالأبناء.

تفسير قوله تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:132-134] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم تلك البشرى النبوية التي أكرمنا الله بأن أصبحنا من أهلها، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فأبشروا بما بشرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرى أيضاً هي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).إذاً: بعدما تلونا آيات الكتاب هيا نتدارس تلك الآيات:

وصية إبراهيم ويعقوب بالملة الحنيفية

ما معنى قوله تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة:132]؟ ما هذه التي وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب؟ ألستم ترغبون فيها؟ أما تريدون أن توصوا بها نساءكم وأولادكم وإخوانكم؟إنها لا إله إلا الله، إنها الملة الحنيفية، الملة الإبراهيمية، وهي: أن نعبد الله وحده ولا نعبد معه غيره، هذه هي التي وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب أيضاً، ويعقوب هو حفيد إبراهيم، إذ إبراهيم عليه السلام ولد إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب.وإسحاق ويعقوب بشرى الرحمن الرحيم لـسارة وإبراهيم، في قصة ضيوف إبراهيم لما دخلوا عليه وقام بإكرامهم: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:26-27]، وامرأته قائمة ورأوها تعمل وتقدم الطعام فبشروها، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:29]، كيف ألد وهذا بعلي شيخاً؟ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71].التبشير بإسحاق من باب المألوف، المرأة موجودة والفحل موجود وإن كان شيخاً كبيراً وكانت المرأة عجوزاً لا تحيض ولا تحمل، فالله على كل شيء قدير، لكن البشرى أن هذا المولود الذي يولد لكما سيكبر ويتزوج ويلد مولوداً واسمه يعقوب، هذا ما يقدر عليه إلا الله، فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، إذاً: هذا يعقوب الذي يلقب بإسرائيل. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ [البقرة:132] وهي: الموت على لا إله إلا الله، لا تعترفوا بألوهية كائن من كان إلا الله، ولا تعبدوا كائناً من كان إلا الله، فوصوا بها أولادكم وبناتكم ونساءكم كما وصى بها إبراهيم.وها هو ذا يعقوب عليه السلام وقد حضره الموت، والصالحون قد يرون في المنام أنهم يموتون ولا حرج، الرؤيا الصالحة جزء من النبوة. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ [البقرة:132] يناديهم: يا أولادي! إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132].ومعنى: (اصطفى): اختاره لكم واجتباه وانتقاه من بين الأديان الهابطة الباطلة التي هي بدع وضلالات وخرافات، اصطفى لكم الدين الحق، إذاً بناء على هذا: الزموا هذا الدين ولا تتخلوا عنه أبداً، حتى يوافيكم الموت وأنتم مسلمون؛ لأن من عبد ثم انقطع كان كمن لم يعبد، لو عاش دهراً يعبد الله وقبل موته انقطع ضاع ذلك كله ولم يثب عليه ولم يؤجر أبداً؛ فلهذا لا بد من مواصلة العبادة الحقة القائمة على أساس التوحيد وعلى أساس ما شرع الله وبين من تلك العبادات حتى الوفاة.

موافقة وصية النبيين لأمر الله تعالى المؤمنين بالديمومة على الإسلام

وهذا الذي طالب به يعقوب بنيه طالبنا الله نحن به، أما قال تعالى من سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، لا يقولن قائل: أنا عبدت ربي سبعين سنة أو ثمانين قضيتها رباطاً وجهاداً وإنفاقاً وصلاة وصياماً، والآن أستريح، فهل هذا ممكن؟ لو يترك فريضة واحدة متعمداً محي ذلك كله وبطل، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، مجرد شرك، ليس تركاً للعبادة بالكلية، فقط التفت بقلبه إلى غير ربه فسأل غير الله أو تضرع إليه أو ذل له أو ركع له وسجد، فبطل كل ذلك.وللعلماء في هذا مثل معقول جداً، وهو: إذا توضأ أحدنا وأحسن الوضوء، وقبل أن يدخل الصلاة فسا أو ضرط فانتقض وضوؤه، هل ينفعه ذلك الوضوء؟ والله! ما ينفعه، انتهى، فكذلك العبادة إذا داخلها الشرك وهو الالتفات إلى غير الله رغبة فيه أو طمعاً أو خوفاً أو رهبة، فناداه أو استغاث به أو تملقه وتقرب إليه بشيء بطل ذلك الدين كله وما أثيب على شيء.

معنى الدين وشروط كونه حقاً

هذه الدعوة دعوة أبينا إبراهيم: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة:132]، ويعقوب كذلك وصى بها بنيه، واسمع ماذا قال؟ يَا بَنِيَّ [البقرة:132] يا أولادي! إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:132] الحق، ما معنى الدين؟الدين العمل الذي تثاب عليه وتعطى الجزاء، وفيه معنى الذلة والخضوع لله، هذه العبادة أقوال وأفعال شرعها الله لنا وأمرنا بها، بل وألزمنا بها ووعدنا خيراً عليها أو شراً إن تركناها، هذه العبادات هي الدين، نعبده ويجزينا عليها ويثيبنا بها كالدَين بين الناس في هذا المعنى.إذاً: اصطفى لكم الدين الحق، والدين الحق يعتمد على أمرين:الأول: أن يكون الله هو شارعه ومقننه وواضعه.والأمر الثاني: أن تؤديه على النحو الذي بين الله عز وجل، فإن زدت أو نقصت، قدمت أو أخرت بطل، ما أصبح صالحاً لتزكية النفس وتطهيرها.آهٍ لو عرف المسلمون هذا، الدين الذي هو عبادة الله لن ينتج لنا نتاجاً طيباً ولن نسعد به في الدنيا ولا في الأخرى إلا إذا كان الله شارعه، الله منزله، والرسول صلى الله عليه وسلم مبينه ومفصله، فنأتيه كما أتاه الرسول ونؤديه كما أداه الرسول صلى الله عليه وسلم.وهذا يتوقف على العلم والمعرفة، يتوقف على أن ندرس السنة والكتاب حتى نعرف الدين الصحيح من الباطل، حتى نعرف كيف نؤدي هذا الدين تأدية من شأنها أن تزكي أنفسنا وتطيبها وتطهرها، لا بد من العلم.

أهمية الوصية بالحقوق ووصية الأولاد بالثبات على الدين

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ [البقرة:132] أيها الأبناء إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] أي: والحال أنكم مسلمون قلوبكم ووجوهكم وحياتكم لله عز وجل.هذه وصية يعقوب، وقبلها وصية إبراهيم، ونحن نوصي أو لا نوصي؟ نحن ما من مؤمن ولا مؤمنة له أو عليه حق يبيت ليلة إلا ووصيته عند رأسه، هذه الوصية المتعلقة بالحقوق، إذا كان لك حقوق على آخرين أو كان عليك حقوق لآخرين ينبغي أن تكتبها، وهذا لا خلاف فيه، وأعظم من هذا إذا مرض الفحل واجتمع عليه بنوه وأهله فيوصيهم بوصية يعقوب لبنيه: (يا أبنائي) إن كانوا ذكوراً، (يا بناتي) إن كن إناثاً، (يا أولادي) إن كانوا ذكوراً وإناثاً، يقول لهم: إن الله أكرمكم بالإسلام واختاره لكم ديناً ووفقكم له فحافظوا عليه، فلا يمت أحدكم إلا وهو مسلم، ونكون قد ائتسينا بالصالحين من قبلنا، أما أن يوصي أولاده بكذا وكذا وكذا ويترك هذه الوصية فقد حاف وانحاز ولم يسلك سبيل الرشاد.أقول: كلنا مهيأ للوفاة، فمن كان له بنون أو بنات أو أولاد واجتمعوا عليه وهو في سياقات الموت فليذكر هذه الوصية ويوصيهم: أوصيكم يا أبنائي أو يا أولادي أو يا بناتي أن تواصلوا دينكم وعبادة ربكم وإسلامكم لله حتى الموت، فإن الله أمرنا بذلك فقال: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].ونحن مأمورون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، لا سيما عند سياقات الموت: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

وجوب النصح للناس

وقد ذكرنا الصالحين وقلنا: الصالحون هم الذين يؤدون حقوق الله كاملة لا ينقصها شيء أبداً، ويؤدون حقوق العباد كذلك، وفاتني أن أقول لكم: إن من حق أخيك عليك أن تأمره بمعروف إذا تركه وإلا قصرت في هذا الواجب، وأن تنهاه عن منكر إذا فعله أو ارتكبه أو قاله من باب حقه عليك أن تنهاه، فإن لم تأمره ولم تنهه فما أديت هذا الحق. وقد تكلمنا على الحق العام: لا تؤذه لا بسب، ولا شتم، ولا بضرب، لا تأكل ماله، لا تغتبه، أد له الحقوق الواجبة له، وفاتنا أن نذكر: أن من أوجب الواجبات الحقوقية ألا ترى أخاك تاركاً لمعروف وهو قادر على فعله وتسكت عنه ولا تعلمه، فما أديت حقه، أو تراه يغشى ويرتكب ويفعل باطلاً منكراً وتتركه ولا تنصح له ولا تبين له أن هذا باطل وأنه يضره ولا ينفعه؛ لأننا طمعنا في أن نكون من الصالحين، وقد ذكرنا أننا إذا أردنا ذلك ما آذينا مؤمناً ولا بخسناه حقه وأدينا حق كل صاحب حق، وبقيت هذه وهي أعظم، كونك تعيش مع أخيك وتراه تاركاً لمعروف ولا تأمره به، أو مرتكباً لمنكر ولا تنهاه، هل أديت حقه؟ والله! ما أديت، فكيف تصبح من الصالحين؟لأن الصالح هو الذي أدى حقوق الله كاملة ما بخسها ولا نقصها ولا ترك ركعة أو سجدة، كل حقوق الله، سواء كانت صياماً أو زكاة أو صلاة أو جهاداً، كل حقوق الله أداها وافية. وأدى حقوق العباد كذلك، سواء كانوا كافرين أو مؤمنين، والكافر أيضاً تعيش معه أو هو جارك أو تعمل معه ثم لا تنصح له بأن هذا الذي هو عليه يقوده إلى عذاب أبدي خالد في النار، تقول: يا عبد الله! أنقذ نفسك، أنا ناصح لك، هذا حقك علي، هذا إذا كان كافراً؛ فكيف بالمؤمن وأنت تراه تاركاً للمعروف أو مرتكباً للمنكر؟ ما أديت حقه وافياً حتى تصبح في عداد الصالحين، لا بد من هذا.وبعض الناس إذا قلت له: صل غضب، فدعه ينتفض ويغض، فغضبه وعدم رضاه لا يمنعك من أن تؤدي حقه عليك، هذا من حقه عليك، قل له: يا عبد الله! والله إن من حقك علي أن أبين لك وأن أنصح لك، ولتغضب أو لا تغضب، أنا مسئول، أنت عبد من عباد الله، نعيش مع بعضنا في هذه الحياة، واجبك علي أن أبين لك وأنصح لك، لم؟ قل: أريد أن أسجل في ديوان الصالحين، فإذا لم آمرك وأنهك فما أستطيع أن أسجل في ديوان الصالحين، فلا بد من هذا.وإذا رفع العصا عليك فممكن أن نقول: إلا من أكره، لكن كونه يغضب أو ينتفض هذا ليس بضار أبداً، لو تبتسم وتقول له: هذا واجبك علي، أنا ملزم بهذا لأنك أخي، فوالله! ليعودن يبكي أو يضحك، ولا يغضب ولا يسخط.وهكذا وصى بها إبراهيم بنيه ووصى بها يعقوب بنيه فقال: يَا بَنِيَّ [البقرة:132] يا أولادي! إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:132] الحق الإسلام الملة الحنيفية، فبناء على هذا يا أبنائي واصلوا العبادة، واصلوا الإيمان، واصلوا الطاعة؛ حتى لا تموتوا إلا وأنتم مسلمون.وقد بينت لكم أن من عبد الله دهراً طويلاً ثم في آخر أيامه ترك العبادة هلك، اللهم إلا عبد ما زال يعبد الله وفجأة أصيب بشلل أو شيء منعه من العبادة، فهذا لا بأس عليه، أما أن يموت على ترك الملة والعبادة والطاعة فلن يستفيد مما مضى كله، وقد أمر الله تعالى المؤمنين المسلمين بما كان يأمر به إبراهيم أولاده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

تفسير قوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ...)

ثم قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] كذا وكذا، هذا الكلام موجه إلى اليهود والنصارى الذين تعصبوا للبدعة، فاليهودية بدعة والنصرانية بدعة، كالطرق عندنا: القادرية والتجانية والرحمانية، بدع ابتدعوها، الإسلام ليس فيه قادري ولا رحماني ولا تجاني ولا عيساوي أبداً، مسلمون فقط، ابتدعوا البدع، فهل اليهودية كانت موجودة على عهد موسى؟ والله! ما كانت، هي بدعة، هل النصرانية كانت موجودة على عهد عيسى تسمى النصرانية؟ والله! لا وجود لها، ابتدعوها، كما نقول: هل كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الروافض والزيدية والباطنية والمعتزلة؟ ما كان هذا موجوداً، فضلاً عن القادرية والرحمانية والتجانية، هذه بدع ابتدعها الناس واخترعوها وأوجدوها لأغراض ليست شريفة في الغالب.قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة:133]، فهل وصى باليهودية بنيه، أم هل وصى عيسى بالنصرانية؟ وهذا استفهام تقريع لهم وتوبيخ. أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] هذا يعقوب عليه السلام وحوله اثنا عشر رجلاً نبياً وهم الأسباط: يوسف ومن معه، اثنا عشر ولداً، وكل ولد تحته أولاد؛ فلذا يسمون بالأسباط، أصبحوا قبائل.إذاً: يا من يدعون اليهودية ديناً وهي بدعة منتنة، يا من يدعون النصرانية ديناً وهي بدعة باطلة! هل كنتم حاضرين مع يعقوب لما حضرته الوفاة وهو يوصي أبناءه، هل وصاهم بيهودية أو بنصرانية؟ ما عرفوها ولا ذكروها، فمن أين جاءت هذه؟ ابتدعتموها بعد غياب ذاك النور الإلهي.يقول تعالى لليهود والنصارى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ [البقرة:133] أي: حاضرين، الشاهد الحاضر، والشهيد كذلك، مأخوذ من المشاهدة. إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة:133] وليس شرطاً أنهم رأوا ملك الموت معه، ولكن علامة الموت معروفة تظهر على المريض، وهو يشعر بها. إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] الاثني عشر فحلاً، منهم يوسف عليه السلام، ولعل أحفادهم وأولادهم بينهم أيضاً إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] أنا إذا مت الآن فمن تعبدون أنتم بعدي؟ استفهام.

معنى قوله تعالى: (قالوا نبعد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً)

قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] ما نعبد غيره، نعبد. أيها الإخوة! ما معنى (نعبد) سلمكم الله؟معناه: نطيعه في ذلة وخضوع، إذا أمرنا بالصيام صمنا، وإذا أمرنا بالإفطار أفطرنا، إذا قال: جاهدوا جاهدنا، وإذا قال: اقعدوا قعدنا، العبادة: الطاعة مع غاية الذل والتعظيم، أما طاعة بدون تعظيم للمطاع فما هي عبادة، طاعة مع العنترية وعدم الاستكانة والذلة ما هي بعبادة أبداً، هي مجرد طاعة لا نسميها عبادة، طاعة مع عدم تعظيم المطاع وإجلاله وإكباره وتعظيمه ما تسمى عبادة، العبادة: هي الطاعة مع غاية الذل والتعظيم.فيعقوب عليه السلام يقول لهم: يا أبنائي! ما تعبدون من بعدي إذا رحلت عنكم وتركتكم؟ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ [البقرة:133] أي: معبودك، ومعبود يعقوب هو الله تعالى، لا يشك في هذا عاقل. نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] أي: ومعبود آبائك. وسموهم: إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، وهل إسماعيل أبوه؟ إسحاق أبوه، لكن العم إذا ذكر مع الآباء يقال له: أب، نحن الآن إذا مررنا برجل كبير نقول: يا أبت! وليس في هذا عيب أبداً، ونقول للصغير: يا بني، والموازي لي في سني أقول له: يا أخي، هذه هي آداب البشرية، فكل من كان أكبر منك هو بمنزلة أبيك، ومن كان دونك هو بمنزلة ابنك، ارحمه كما ترحم ابنك، ومن كان مساوياً لك هو بمنزلة أخيك، عامله معاملة الأخ.إذاً: فهذا يعقوب عليه السلام، ومن هو يعقوب؟ هذا من أنبياء الله ورسله، إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ [البقرة:133] أي: معبودك الذي تعبده أنت وهو الله الذي لا إله إلا هو. وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] من هم؟ قال: إِبْرَاهِيمَ [البقرة:133] أولاً، وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:133] ثانياً، وَإِسْحَاقَ [البقرة:133].

إشارة الآية الكريمة إلى ولادة إسماعيل قبل إسحاق

وهنا إشارة إلى أن إسماعيل ولد لإبراهيم قبل إسحاق، والغريب أن هناك من علماء المسلمين من يرون أن إسحاق ولد لإبراهيم قبل إسماعيل، ويذكرون هذا في التفسير، مع أن هذه كذبة يهودية، اليهود يكرهون العرب ودينهم وإسماعيل، فقالوا: إسحاق هو الأول! مع أن القصة واضحة كالشمس، لما هاجر إبراهيم من العراق من أرض بابل هاجر معه سارة ، وهل كان معها ولد؟ والله! ما كان معها ولد، وكان معه لوط بن هاران ابن أخيه، فخرج هو وزوجته وابن أخيه، هؤلاء الذين أسلموا ووحدوا الله، فلما ساح إبراهيم في الأرض وانتهى إلى الديار المصرية كما علمتم أعطى الملك لامرأته سارة هاجر ، فـهاجر تسراها إبراهيم لأن سارة أعطتها له، فأنجبت إسماعيل، فغارت سارة وما أطاقت أن تراها تلد وهي ما ولدت، فمن هذه الغيرة أُمر إبراهيم بأن يبعد إسماعيل وأمه حتى لا تتأذى وتتألم رحمة بها، وهي من هي، هي سارة امرأة الخليل، فجاء بها إبراهيم إلى مكة وكانت وادياً ما بها أحد، فكيف نقول: إسحاق قبل إسماعيل؟ والله يقول: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، بشرها بالولد؛ لأنها كانت لا تلد.ثم إنا نقول: هذا الأمر العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر، فلهذا ما نتعرض له، كون إسحاق أولاً أو إسماعيل أولاً، لا فرق بين هذا وذاك، وإنما لما قالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133] فمعناه: أن إسماعيل كان قبل إسحاق حسب الترتيب اللفظي. قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا [البقرة:133] لا ثاني له، أي: معبوداً واحداً.

معنى قوله تعالى: (ونحن له مسلمون)

وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133] منقادون خاضعون مستكينون، يأمرنا فنطيع، ينهانا فنطيع، يخبرنا فنصدق، هذا معنى الإسلام.أين اليهودية؟ قل لليهود والنصارى: هذا جدكم، هذا إسرائيل عليه ألف سلام يوصي أولاده ويسألهم ويستنطقهم، فهل قالوا: إنهم يهود أو نصارى؟ قالوا: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، فكيف أصبح الدين -إذاً- ثالوثاً؟ على كل حال القرآن بكَّتهم وأخزاهم وأذلهم، ولكن لا يريدون أن يعترفوا بهذه الحقيقة؛ ليعيشوا على باطل اليهودية والنصرانية لتأكلهم جهنم، وإلا فوالله! ما عندهم ما يعتمدون عليه أبداً في صحة بدعتهم، لا يهودية ولا نصرانية، قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وهم مشركون.

تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ...)

ثم قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة:134] ما هناك حاجة إلى النزاع والصراع، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة:134] مضت وما بقي شيء، إذاً: لم نبقى نتشبث بالماضي، نحن أمام واقع جديد، أكرم الله البشرية بالإسلام وأنزل كتاباً عظيماً هو القرآن الكريم، وحمَّله رسولاً عظيماً شريفاً كريماً عاش على بلاغه وتبليغه ودعوة البشرية إليه، فلم نتشاغل بالماضي؟ سبحان الله العظيم! تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:134] من خير أو شر، وتجزى بالخير كما تجزى بالشر. وَلَكُمْ [البقرة:134] أنتم أيضاً مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، معنى هذا: ما هناك حاجة إلى أن يتشبث اليهود بدين سموه يهودية، ولا أن يتشبث النصارى بدين سموه المسيحية أو النصرانية، الرب واحد لا إله غيره ولا رب سواه، الذي أرسل موسى وهارون وأرسل عيسى، ونبأ إبراهيم ويعقوب وإسحاق هو الله، ها هو ذا تعالى قد أنزل كتابه وبعث رسوله، أي عذر لكم أن تتركوا الإسلام؟ بأي منطق أو حجة أو عقل؟ أنتم تعبدون الله أم لا؟ عبدتموه دهراً، فأنزل كتابه وبعث رسولاً وأوقف تلك العبادة كاملة ووضع شرعاً جديداً وقانوناً جديداً، فهل من العقل أن نقول: لا ونتشبث بالماضي؟من الأمثلة القريبة المعقولة -لو يفهمونها- أنا نقول: الدولة سنت قانون كذا وألزمت الشعب به، لا فرق بين الغني والفقير والكبير والصغير لا بد من تنفيذ هذا القانون لصالح الشعب والأمة، بعد عشر سنين أو عشرين سنة نسخته وأبطلته ووضعت غيره، هل يستطيع مواطن أن يقول: أنا أعمل بذلك القانون الماضي؟ أسألكم بالله: لو يتشبث مواطن ويقول: لا، هذا كان قانوناً شرعته الدولة، وهو يعلم أنه نسخ وأبطل العمل به ولم يصح أبداً أن يعمل به مواطن، فالذي يعمل به هل يقال له: عاقل؟الدولة سنت قانوناً في المال أو في غيره، وعمل به الشعب سنة أو سنتين أو عشر سنوات، ثم بدا لها أن من المصلحة إيقاف هذا القانون واستبداله بقانون آخر أنفع للشعب، وعرف المواطنون هذا وأخذوا يطبقون الجديد، لو قال قائل: أنا أعمل بهذا القديم وأصر على ذلك فكيف ينظرون إليه؟ يرونه أحمق، ويؤدبونه ويقهرونه ويذلونه حتى يخضع للقانون الجديد، ولا يسمح له أن يقول: لا، ذلك قانون شرعه الحاكم، فهذه الصورة واضحة.ولذلك نقول: يا يهودي أو يا نصراني أو يا بوذي! ما دمت تؤمن بالله وتشريعه وتقنينه وإرسال رسله؛ فها هو ذا تعالى الذي أرسل موسى وأرسل عيسى أرسل محمداً وأبطل ما كان، وجاء بقانون جديد وكتاب جديد، فكيف تؤمن بالكتب وبالرسل ولا تؤمن بهذا؟ هذه مهزلة؛ ولهذا فكفرهم عفن، ما له أبداً قيمة، نعم لو كانوا ملاحدة لا يؤمنون بالله فهذا أمر آخر، لكن أنت تؤمن بالله وبرسله وتعتقد أنك على دينه وسميته باليهودية أو النصرانية، وجاء الكتاب العظيم والرسول الكريم فبين أخطاءكم ومفاسدكم وما أنتم عليه من البدع والضلالات ونسخها بما هو النور والهداية، فبأي منطق أو ذوق تقول: نتمسك بديننا؟ إذاً: ما تريدون الله ولا الدار الآخرة، أصبحت المسألة قبليات وعصبيات، يقال: نتمسك بديننا، فهذا دين من؟ أليس هذا دين البشرية كلها؟ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، والرسول يقول له ربه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] هل استثنى الله شعباً أو أمة، أبيض أو أسود؟ كلمة (الناس) تشمل البشرية كلها، ما بعث للعرب فقط ولا للعجم فقط ولا لأهل إقليم، كانت الرسل تبعث في أممها بحسب الأحوال والظروف، والله العليم الحكيم، وقد علم الله أن يوماً سيأتي تصبح البشرية فيه كلها كأنها إقليم واحد، والآن ارفع صوتك في آلة من الآلات والعالم يسمع، إذاً: ما هناك حاجة إلى أن يبعث في كل إقليم رسول ما دامت الدعوة تصل في يومها.فنقول: آمنا بالله .. آمنا بالله .. آمنا بالله، سبحان الله العظيم! أرسل محمداً إلى الأبيض والأسود وإلى الناس كافة لعلمه بما سيقع وما يوجد في الكون من هذه الآلات والاتصالات، حتى يصبح العالم وكأنه إقليم واحد، وأما القرون الماضية فأهل كل إقليم منقطعون في إقليمهم، حتى إن فيهم من يعيش ثمانين سنة أو مائة سنة ما يخرج من ذلك المكان، ولا يشاهد رجلاً من إقليم آخر؛ لانعدام الاتصالات. فعلم الله عز وجل ما سيكون فبعث رسولاً واحداً للبشرية كلها، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، ما استثنى أحداً، وتحقق هذا، ومن أراد نجاته من عذاب الخلد بعد نهاية هذه الحياة فهذا هو سبيل النجاة، يؤمن بمحمد رسولاً وبالقرآن كتاباً ويعبد الله بما جاء به الكتاب والرسول صلى الله عليه وسلم.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

هذه الآيات -كما قلت لكم- كانت خطاباً لليهود والنصارى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] ماذا؟ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133]، فماذا قالوا؟ هل قالوا: نعبد عيسى؟ قالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133]، من هم؟ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا [البقرة:133] أيضاً، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، آمنا بالله وأسلمنا لله.ثم قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ [البقرة:134] فما سبق من باب البيان والتوضيح وإيقاع الحق في موقعه، وإلا فدعنا منهم فقد مضوا، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة:134]، وهانحن أمام وحي جديد وتنزيل وكتاب ورسول وقانون وشريعة، فلم نتشاغل بالماضي؟ أما نريد أن نسعد ونكمل في حياتنا في الدنيا والآخرة؟ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134] لها ما كسبت تجزى به، أم أن هناك من لا يجزى بكسبه؟ لا يوجد إلا مجنون، وإلا فكل ذي عقل سيجزى بكسبه خيراً أو شراً. لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، هل يسأل اليهودي أو النصراني عما كان يعمل الماضون؟ ما يسأل عنه أبداً، ما هو بمسئول، قد يسأل المرء عن عمل عمله هو، من نشر بدعة وعلم الناس باطلاً فكل الذين عملوا به هو يسأل عنه؛ لأنه كسبه، من دعا إلى ضلالة، من دعا إلى فتنة، من دعا إلى باطل واستجاب الناس له، فكل كسبهم هو يجزى به، وهم كذلك يجزون به، ولكن بما أنه هو الذي نشر هذا الباطل فسوف يحاسب ويجزى به.وقوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134] كقوله: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18]، الوازرة: الحاملة للوزر، والوزر هو حمل الذنوب والآثام، وقد بين هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدق صورة، حين توضع الموازين في ساحة فصل القضاء للحكم بين الخلائق، ويجيء الرب تبارك وتعالى ليحكم بين عباده، يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الأم توضع حسناتها في كفة الميزان وسيئاتها في الكفة المقابلة، ويستوي الوزن، فتأتي لابنها وتقول: أي بني! لقد علمت أني كنت لك خير الأمهات، فيقول: نعم يا أماه. فتقول: أريد حسنة فقط من حسناتك ترجح بها كفة حسناتي، فيجيبها الولد بقوله: أي أماه! أعلم أنك كنت خير الأمهات لي ولكن نفسي نفسي، إذا أعطيتك حسنة فرجحت كفتك سأدخل النار، ويأتي أيضاً الابن إلى أبيه والأب إلى ابنه: يا أبي! يا بني! يطلب حسنة واحدة فما يتحقق ذلك أبداً، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18]، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18]، ولو كان أماً أو أباً، ما تجد أبداً من يساعدك، ومن يحمل معك.إذاً: فمن الجد ومن النصح للنفس أن نترك ما كان عليه الأولون من ضلالة أو هداية، ولنعمل على هداية أنفسنا وإصلاحها وإسعادها، لا نشتغل بالماضي ونعتز بما ليس بعز، هذه هداية الله عز وجل لعباده. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، وهذا الذي ينبغي أن نعيش عليه ونذكره، نحن نعتز بآبائنا وأجدادنا وقبائلنا ومذاهبنا وطرقنا، فينبغي أن نعمل على هداية أنفسنا وإنقاذها، لا ننظر إلى الماضي كما كان، فهل أخذنا بهذه الهداية الإلهية؟نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لسلوك سبيل الرشاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-24, 12:51 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (90)
الحلقة (97)



تفسير سورة البقرة (59)







لما جاء وفد نصارى نجران اجتمعوا مع اليهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يتجادلون في مجلسه، وقام بعضهم بتسفيه بعض، وكفر بعضهم بعضاً، فقالت يهود للنصارى: كونوا على اليهودية لتهتدوا، وقالت النصارى لليهود: كونوا على النصرانية تهتدوا، فجاء خطاب الله عز وجل لهم بأن من أراد الهداية الحقة والاستقامة على الدين القويم فعليه أن يؤمن بالله، وبما أنزل على النبيين والمرسلين دون تفريق بينهم ولا انتقاص من قدرهم.

مكانة المدينة النبوية وخصوصيتها

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:135-136]. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اذكروا أن هذه السورة مدنية، ومرحباً بالمدنيات والمكيات، والمدنية: هي التي نزلت في المدينة النبوية، وأين توجد المدينة النبوية؟ والله! إنها هذه لهي، فالحمد لله، لو كنتم في كندا أو في الصين أو اليابان وذكرت لكم المدينة النبوية فكيف يكون شعوركم وانفعالكم؟ ستتمنون لو كنتم فيها، ها أنتم الآن فيها، فهل أحسنتم قيامكم فيها؟ هل عرفتم أنها حرم؟ ( المدينة حرام من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل ). هل تعلمون أنكم مطالبون بآداب خاصة في هذه الديار؟ قد تقولون: نعم يا شيخ، ولكن غلبتنا الدنيا، غلبتنا الأهواء، غلبتنا الشهوات. فأقول: إذاً: انهزمتم، مشيتم وراء عدوكم، وقد حذركم الرحمن فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، فاحذري يا أمة الله احذر يا عبد الله أن ترتكب معصية في هذه البلاد، إنها قدس وطهر، ومن لم يعرف ما هي المعصية فليسأل أهل العلم، فإن هذا السؤال واجب؛ لقول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].ومن هنا لم يبق بين المسلمين الجديرين بهذا الاسم جاهل من امرأة ولا رجل، ولا يحتاجون إلى قرطاس ولا قلم، وإنما قبل أن يقدم على الشيء يسأل أهل العلم، فإن قالوا: نعم هو مما أحب الله؛ فباسم الله يقدم عليه، وإن قالوا: هذا مما كره الله تركه، ولا نزال نسأل ونعمل حتى نصبح علماء رجالاً ونساء، لكن صرفونا، فماذا نصنع؟ هل من عودة؟ نحن عائدون إن شاء الله تعالى.

سبب هجرة اليهود من الشام إلى المدينة

هذه المدينة عند نزول هذه الآيات كان فيها وفد نجران، واليهود مقيمون يعيشون في المدينة، ووفد نجران نصارى صليبيون مسيحيون والعياذ بالله، كانوا يسكنون في جنوب الجزيرة، واليهود يسكنون بالمدينة، فمن أين جاءوا؟ هل تعرفون من أين جاء اليهود؟ جاءوا من الشام، من القدس، فلم جاءوا إلى هذه المدينة وما فيها إلا السبخة وحبات التمر والعنب؟الجواب: لأنهم لاقوا الأمَرَّين من النصارى، النصارى هم الذين أسقطوا دولة بني إسرائيل، وهم الذين شردوا بني إسرائيل، ولم سلطهم الله عليهم؟ لأنهم فسقوا عن أمر الله، وخرجوا عن طاعته، وهل لذلك صورة ينظر إليها؟الجواب: انظر إلى العالم الإسلامي اليوم ومنذ قرون وقد فسق عن أمر الله وخرج عن طاعته، فاستوجب النقمة، فسلط الله عليهم بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وهولندا، وما زالوا تحت النظارة أيضاً، مزقوهم وشتتوهم، أين الدولة الإسلامية التي أصبحت ثلاثاً وأربعين دولة؟ أين المذهب الإسلامي؟ سبعون مذهباً، أين الأمة؟ انتهت، بسبب ماذا؟ بسبب الفسق، ما معنى الفسق هذا؟ إنه الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعة أولي الأمر حكاماً وعلماء هداة مبينين.فبنو إسرائيل كانوا أعز منا وأكرم، هم أبناء الأنبياء، فلما فسقوا عن أمر الله فشاع فيهم الزنا، وأصبحت المرأة تتبرج، تلبس الكعب الطويل هذا الذي يلبسه نساؤكم وبناتكم، هذا أخبرنا رسول الله به من بداية أمرهم، أكلوا الربا، هجروا كتاب الله، أعرضوا عن ذكر الله كحالنا، فاستوجبوا نقمة الله، فسلط عليهم الرومان، فشتتوهم ومزقوهم وعذبوهم، لم؟ لأنهم أعداؤهم قتلوا إلههم، من قتل عيسى في اعتقاد النصارى؟ اليهود هم الذين قتلوه، والذي يقتل إلهك تنظر إليه؟ أين إيمانك؟ الذي تعتقد أنه قتل ربك هل تحبه وترضى عنه؟ كانوا يقلونهم كالسمك في الزيت؛ لأنهم قتلوا إلههم، ووالله! ما قتلوه، أخبرنا العلام الحكيم بقوله من سورة النساء: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].إلا أن الجريمة جزاؤها حاصل، لأنهم قتلوا من شبه وصلبوه وعلقوه، فكأنما قتلوا عيسى، أما عيسى روح الله فما قتلوه أبداً ولا صلبوه، إنه في الملكوت الأعلى، رفعه الله من روزنة البيت والبيت مطوق بالشرطة.إذاً: فهاجروا إلى هذه الديار لوجود الأمن فيها، فهنا أمة جاهلة أمية لا تعرف شيئاً وهم أهل كتاب وعلم يسودون بين الجهال، وإلى الآن العالم يسود بين الجاهلين أحبوا أم كرهوا، هذا من جهة.ومن جهة أخرى: أنهم يتطلعون إلى النبوة المحمدية، عندهم من الأدلة القطعية في التوراة والإنجيل أن نبي آخر الزمان قد أظل زمانه، إنه يخرج من بين جبال فاران، جبال مكة، فقالوا: هذا الذي نعز به ونسود، متى ظهر في تلك الديار احتضنا دعوته ومشينا وراءه وأعدنا من جديد مملكة إسرائيل، فنزلوا المدينة وقبلها ديار متصلة كتبوك وخيبر وتيماء.. وما إلى ذلك.وشاهد ذلك يا أهل القرآن من سورة البقرة التي ندرسها، إذ قال تعالى عنهم: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89] ما معنى: يستفتحون عليهم؟ يقولون لهم: إن نبي آخر الزمن قد أظل زمانه وسوف نؤمن به ونمشي وراءه ونقاتلكم وننتصر عليكم، وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ [البقرة:89] أي: من قبل ظهور الرسالة المحمدية والأنوار المحمدية يستفتحون على المشركين، يقولون: سوف نفعل ونفعل ونفعل، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89].وكان بالمدينة ثلاث قبائل كبرى: بنو قينقاع في الوسط، بنو قريظة في الجنوب، بنو النضير في الشمال، وكانوا مسيطرين، فلما هاجر الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ارتجت المدينة تحت أقدامهم، ما إن كانت وقعة بدر في السنة الثانية وشاهدوا انتصار رسول الله والمؤمنين حتى تغيرت قلوبهم ووجوههم وعرفوا، وأخذوا يجادلون ويخاصمون ويدعون العلم فوق ما نتصور، ولو تتبعنا القرآن لوقفنا على ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ...)

الآن جاء وفد نجران من النصارى وتلاعنوا، فكفَّر اليهود النصارى وكفَّر النصارى اليهود أمام الرسول والمؤمنين: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، كفَّر بعضهم بعضاً في مجالس العلم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن دون هذا وسجله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113] لا شيء من الدين الحق، وصدقوا في تكفير بعضهم بعضاً؛ إذ -والله- ما هم على شيء لا اليهود ولا النصارى، اليهود مشبهة، وقالوا: عزير ابن الله، وفسقوا عن أمر الله في كل مجالات الحياة، والنصارى ماذا فعلوا؟ قالوا: عيسى ابن الله وأمه مريم إله وروح القدس إله، وتاهوا، فهل هم على شيء؟ والله! لا شيء، سبحان الله! انتصر الإسلام وهم يشاهدون وكفر بعضهم بعضاً، وسجل الله هذا.وواصلوا الحجاج والجدال ومشينا معهم في هذه الآيات الكريمات، وانتهينا الآن إلى قوله تعالى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135].قال اليهود للنصارى: كونوا يهوداً تهتدوا، وقالت النصارى لليهود: كونوا نصارى تهتدوا، قالوا للمسلمين: كونوا يهوداً أو نصارى تهتدوا، هكذا يعرضون بضاعتهم الفاسدة، بعضهم ماكر خادع، وبعضهم مقلد جاهل تابع. وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:135] أي: يهوداً أو نصارى؛ تهتدوا إلى سبيل الرشاد وطريق السلامة، إلى منهج الحق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة.

معنى قوله تعالى: (قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)

والله تعالى مع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فماذا قال تعالى ليفصل هذا النزاع؟ قُلْ [البقرة:135] يا رسولنا، أيها المبلغ عنا، يا محمد صلى الله عليه وسلم، قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً، وأنتم تزعمون أنكم إبراهيميون وأنكم على ملة إبراهيم، وتحبونه وتعتزون به، وتقولون: نحن على ملة إبراهيم، وقد عرفتم من إبراهيم. قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، ما معنى: حنيفاً؟ أي: كان موحداً، ما كان والله مشركاً، كان حنيفاً إذ أوجده الله في عالم ليس فيه من يوحد الله عز وجل، العالم يفيض بالشرك والكفر، فمال إبراهيم عن آلهتهم ودياناتهم ومعتقداتهم وأصبح وحده، فقالوا: هذا حنيف؛ لأنه مأخوذ من الحنف وهو التواء الرجلين وميلهما إلى بعضهما، نعم هو حنيف مائل عن ديانات الباطل واعتقادات الشر والفساد إلى الحنيفية ملته، وهي أن لا إله إلا الله.وقال بعضهم: حنيف من باب التفاؤل، لأن الجنف ضد الحنف، الجنف هو الميل، فمن باب التفاؤل قالوا: حنيف، ما قالوا: جنيف، ولسنا في حاجة إلى قول الناس في هذا الباب، حسبنا أن نعرف أنه كان موحداً ومن حوله من العالم كانوا مشركين، فالموحد منا هو الحنيف؛ لأنه على نهج إبراهيم وعلى طريقته وملته.فما كان إبراهيم -والله*- من المشركين أبداً، وها أنتم أيها اليهود والنصارى مشركون، فكيف تنتسبون إلى إبراهيم؟ إذاً: اتركوا الشرك وتخلوا عنه وابتعدوا من ساحته لتكونوا حنفاء على ملة إبراهيم، أما وأنتم مشركون بالله عز وجل تعبدون معه غيره وتقولون: نحن على نهج إبراهيم، نحن على ملة إبراهيم؛ فهذه الدعوى باطلة وكذب ولا تصح، ادعاها العرب المشركون وقالوا: نحن على ملة أبينا إبراهيم، فهل كان إبراهيم يعبد الأصنام والأحجار والأهواء والشهوات؟ كان موحداً، فوحدوا الله تكونوا مؤمنين وتكونوا إبراهيميين على ملة إبراهيم.فهذا كلام قليل، ولكن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجادلهم ويحاجهم فوق ما نتصور، لكن القرآن يذكر المسائل بإيجاز؛ لأنه كتاب يحفظ في الصدور.إذاً: لما قال اليهود للمسلمين: كونوا يهوداً، وقال النصارى: كونوا نصارى، وقال اليهود للنصارى: كونوا نصارى، قال تعالى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:135] هي التي نكون عليها، هي التي ندين لله بها، هي التي ننضم إليها، أما تلك البدع من اليهودية والنصرانية والشرك فلا حاجة لنا فيها، باطل هذا كله، بل نتبع ملة إبراهيم حال كونه حنيفاً مائلاً عن كل الأديان الباطلة إلى دين الحق، حتى قالوا فيه: حنيف أو جنيف.

عظم منة الله تعالى على العبد بالإيمان

إذاً: وجههم رسول الله باسم الله، فمن أمر الرسول أن يقول هذا؟ الله عز وجل، قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، هذا الذي نلتزم به، هذا الذي نتبعه، هذا الذي نعيش عليه، فلا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية ولا شرك ولا باطل، هذا هو الحق، من هداهم لهذا؟ الله جل جلاله، هيا نحمد الله لنا ولهم، الحمد لله .. الحمد لله، لولا الله ما كنا في هذا المجلس، ولا نعرف لله كلاماً، ولا نعرف لله ديناً ولا ملة، فالحمد لله.أتظنون أن هذا رخيص وتفضلون عليه شيكاً فيه مليار دولار؟ أقسم لكم بالله جل جلاله على أن مؤمناً كهذا الشاب بيننا لو وضع في كفة ميزان ووضع العالم كله من أهل الشرك والباطل والكفر في كفة لرجح بهم، أما تعطون قيمة للإسلام والمسلمين؟إليكم هذا العرض السريع لنتأكد من صحة القضية: كان أبو القاسم صلى الله عليه وسلم جالساً مع بعض أصحابه في ظل جدار، فمر رجل من الفقراء المؤمنين دميم الخلقة، والله يخلق ما يشاء، فمر وسلم ومضى، فلما غاب عنهم قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقالوا: هذا حري -جدير- بأن إذا خطب لا يزوج، وإذا قال لم يسمع له، وإذا أمر لا يطاع، لم؟ لضعفه وعدم حاجة الناس إليه، فسكت أبو القاسم، وأخذ في تعليمهم وتزكية نفوسهم، حتى مر منافق من أعيان المنافقين في الأبهة والمنظر واللباس والصحة البدنية، فلما غاب عنهم قال: وما تقولون في هذا؟ وهذا من باب التعليم بواسطة السؤال والجواب، فقالوا: هذا حري إذا خطب أن يزوج، وإذا أمر أن يطاع، وإذا قال أن يسمع له.فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: والله! إن ملء الأرض من مثل هذا لا يعدل ذاك الذي قلتم فيه كذا وكذا. ملء الأرض من هذا المنافق لا يزن أبداً ذاك المؤمن الضعيف القصير الدميم الخلقة، فمن هنا عرفنا أن مؤمناً يزن ما على الأرض من الكفار من اليهود والنصارى والبوذيين والمجوس والمشركين.أزيدك برهاناً: لم إذا قتل المؤمن كافراً لا يقتص منه بالقتل؟ وإن قال أبو حنيفة غير ذلك فدعنا من قوله؛ فقول المذاهب الصحيحة وجمهور الصحابة والتابعين والأئمة: أن المؤمن لا يقتل بكافر، وهو حق، لا يقتل بكافر، لم؟ من يفسر هذه الظاهرة؟ هل لأن المؤمن أبيض، جميل، غني؟ لا، قد يكون أرمش أعمش أسود مثلي، وما يقتل بكافر، أتدرون ما هو السر؟ لأن هذا الكافر كيف يقتل بمؤمن وهو ما يساوي ظفره أبداً؟ مادام أن ملء الأرض من الكافرين لا يزنون مؤمناً واحداً فكيف يقتل كافر بمؤمن، كيف يصح هذا؟ وسر ذلك أن هذا المؤمن يذكر الله ويعيش على ذكره وشكره، وهذا لا يذكر الله ولا يشكره، هذا لا حق له في الحياة؛ لأنه خلق وأطعم وسقي وحفظ من أجل أن يعبد الله، فلما رفض فلا حق له في الحياة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فمن كفر بالله وترك عبادته لا حق له في الحياة، فلهذا ندعوه إلى الله، فإما أن يجيب وإما أن يقتل.وعمر رضي الله عنه على عهد ولايته تآمر سبعة أنفار على مؤمن فقتلوه، حادثة نادرة وقعت، فاختلفوا كيف نقتص: هل نقتل السبعة أو نقتل واحداً مقابل المقتول؟ فقال: اقتلوهم سبعتهم، والله! لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. لأن هذا كان يعبد الله ويذكره، فهل عرفتم سر الحياة أو لا؟

شرك اليهود والنصارى

إذاً: نعود إلى الحادثة: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135]، وأنتم أيها اليهود والنصارى -والله- مشركون، هل الذي يقول: الآلهة ثلاثة موحد؟ الذي يقول: عزير ابن الله ويعبده موحد؟ فاليهود ما هم بموحدين أبداً، بل مشركون، وإن لم يكن لهم صلبان أو أصنام، ولكن في نفوسهم آلهة يعبدونها: الدينار والدرهم، ( تعس عبد الدينار )، من قال هذا الكلام؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم.إذاً: هناك عبد للدينار، من هو هذا؟ الذي يبيع دينه وعرضه وشرفه وكرامته من أجل الدينار ويعبده، فقد ذل له وخضع.

تفسير قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ...)

ثم قال تعالى: قُولُوا [البقرة:136] أيها اليهود والنصارى، ونحن أيضاً نقول معهم وسبقناهم، قولوا ماذا؟ آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136] بالله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، الله خالق السماوات والأرض وما بينهما، الله ذو الجلال والكمال، ذو الصفات العلا والأسماء الحسنى، الله رب إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد والعالمين، هذا الذي نؤمن به، لا نؤمن بعيسى إلهاً ولا بجبريل إلهاً ولا بأن العزير ابن الله. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136] الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، وإن لم تعرفوا فسلونا نعرفكم به، حتى تعرفوا معرفة يقينية.

إعجاز القرآن الكريم وسعة علومه

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]، ما الذي أنزل إلينا؟ القرآن الكريم، القرآن العظيم، أنزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم من أجلنا، فهو أنزل إلينا، هذا الكتاب العظيم القرآن الكريم ماذا تعرفون عنه؟ اعلموا أنه اشتمل على علوم ومعارف تعجز العقول البشرية حتى عن إدراكها على حقيقتها، ما ترك شيئاً تحتاج إليه البشرية في الحياتين في الدنيا والآخرة إلا ذكره وبينه، حوى علوم الأولين والآخرين، يحدثكم عن الملكوت الأعلى كأنكم حاضرون فيه، يحدثكم عن الماضي، عن القرون ذات الآلاف من السنين كأنها شاهدة، يتحدث عن المستقبل فيزيل الغشاء عنه ويظهره كأنه بين يديك، فلهذا كان هذا الكتاب القرآن الكريم هو الكتاب المعجز، ما أعجزت التوراة أحداً ولا الإنجيل ولا الزبور، هذا القرآن الكريم هو المعجز، أعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله، بل بسورة من مثله، واقرءوا تلك الآية الكريمة، إذ يقول تعالى من هذه السورة البقرة المدنية؛ يقول: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، أي: إن كان فيكم شك وعندكم شك في القرآن الذي أنزلناه على عبدنا بأحكامه وشرائعه وقوانينه وآدابه وعلومه ومعارفه؛ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، من مثل القرآن ومن مثل محمد صلى الله عليه وسلم في أميته، وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23] أن لكم شهداء ينصرونكم ويقفون إلى جنبكم من الإنس والجن.ثم قال لهم: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، أي: إن لم تستطيعوا أن تأتوا بسورة فقط من مثل هذا القرآن، وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، هل أدركتم معنى: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]؟ هذه (لن) الزمخشرية التي تفيد التأبيد في نظر هذا المعتزلي، لن تفعلوا، ويمضي العام والأعوام والقرن والقرون فهل فعلوا؟كلا؛ لأن الله قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24].قالت العلماء: هل في إمكان اليابان الصناعية التي تفوقت الآن في الصناعة، هل في إمكانها أن تصنع آلة أو توجد مصلاً من الأمصال ودواء من الأدوية من تحليلها للكون، وتقول: أتحدى العالم مدة سبعين سنة إذا أنتجوا مثل هذه القطعة أو مثل هذا الدواء، هل يمكن؟ أو أمريكا التي هيمنت على العالم، هل تستطيع أمريكا أن تصنع قطعة أو آلة أو سيارة أو كذا، وتقول: أتحدى العالم لمدة خمسين سنة إذا كان في إمكانهم أن يوجدوا مثل هذه؟ هل يمكن أن تقول أمريكا ذلك؟ ما يستطيعون، أما الله تعالى فقد قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، فهل فعلوا؟ قالت العلماء: جملة (ولن تفعلوا) هذه تدل على أنه كلام الله، إذ لا يقول هذا إنسان أبداً، فهي دالة دلالة قطعية أن هذا الكلام كلام الله، هل فهم السامعون هذه؟إذاً: هذا الكتاب العظيم تحدى الله به الإنس والجن، فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] معيناً وناصراً، وتحداهم بعشر سور في سورة هود، إذ قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [هود:13]، يعني: اختلقه وكذبه؟ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، تفضلوا، ما دمتم تقولون: محمد افترى هذا القرآن واختلقه وكذبه فتفضلوا أنتم هاتوا عشر سور. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود:14]، وتحداهم بسورة، فهذا هو الكتاب الذي يجب أن نؤمن به.

معنى قوله تعالى: (وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط)

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:136]، عرفتم أن إبراهيم أبو الأنبياء، أبو الضيفان، إبراهيم: الأب الرحيم، هل أنزل عليه كتاب؟ نعم، أنزل عليه عشر صحف، والدليل على أن إبراهيم نزل عليه صحف تحمل الشريعة قوله تعالى من سورة الأعلى: صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:19]، لا بد أن ينزل الله عليه شرعاً وقانوناً، فهو أسلم ودخل الناس في الإسلام وراءه، فكيف يسوسهم، كيف يحكمهم؟ لا بد من هداية، فهذه مسألة ضرورية.وصحف: جمع صحيفة، وليس معناه ورقة فقط، بل ما كان عندهم ورق، كانوا يكتبون في الجلود والعظام، المهم أنها وحي إلهي يحمل القوانين والشرائع ليسوس بها إبراهيم المؤمنين. وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:136]، من إسماعيل هذا يرحمكم الله؟ معنى إسماعيل بالعبرية: سمع الله، دعا إبراهيم فأعطاه الله تعالى إسماعيل.إذاً: إسماعيل أنزل عليه وحي ونبئ وأرسل في بلاد العرب، ولا بد من وحي ولا بد من إنزال كلام الله عليه.وهنا لم قدم إسماعيل على إسحاق؟ أما قال: وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:136]، لم قدم إسماعيل؟ لأن إسماعيل ولد -والله- قبل إسحاق، وقد مر بنا وبينا خطأ وغلط من يقول: إسحاق كان قبل إسماعيل، واليهود مصرون على أن الذبيح هو إسحاق، وأن إسحاق قبل إسماعيل، وإنهم -والله- لكاذبون، والذي يؤسف له أن بعض علماء التفسير تورطوا في هذا، ويقلد بعضهم بعضاً، ويقولون: الذبيح إسحاق! والله! ما هو بإسحاق، إسحاق أين ذبح: في مكة أو في الشام؟ أما إسماعيل فخرج به إبراهيم من حجره حول الكعبة إلى منى، ومن ثم شرع الله لنا النحر والذبح في منى، فكيف يكون إسحاق؟ ثم إن إسحاق عرفنا أنه دعوة الله لما نزل الضيوف على إبراهيم فبشروه وهو في فلسطين وبشروا زوجته بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب؛ لأنه كبرت سنه وما ولد إلا إسماعيل، وامرأته سارة عقيم عاقر أيضاً، أما دفعتها الغيرة حتى غارت من هاجر ؟ والحمد لله؛ فالسياق هنا يثبت أن إسماعيل كان قبل إسحاق، أما قال تعالى: وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [البقرة:136]، أتدرون من إسحاق هذا؟ هذا ابن إبراهيم ابن سارة عليه السلام، وولد لإبراهيم أيضاً من غير سارة ، لما ماتت تزوج غيرها؛ فولِد له مدين.قال تعالى: وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [البقرة:136]، الأسباط جمع سبط، الأسباط في اليهود كالقبائل في العرب؛ لأن أولاد يعقوب عليه السلام الاثني عشر ولداً على رأسهم يوسف وبنيامين ويهوذا، أولئك الاثني عشر رجلاً، كل واحد تزوج وأنجب وتناسلت ذرية منهم، فأصبحوا قبائل يعرفون بالأسباط، والعرب عندهم قبائل، واليهود عندهم أسباط، إذ كل نبي كان يوحى إليه وينزل الله تعالى عليه وحيه لهداية الخلق وتربيتهم.

معنى قوله تعالى: (وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم)

وَمَا أُوتِيَ مُوسَى [البقرة:136]، من موسى هذا؟ كلمة موسى أصلها: موشي، ونحن نعرف موشي ديان الذي مات عليه لعائن الله؛ وسر هذه التسمية أنه لما صدر أمر ملكي على عهد فرعون بأن المرأة من بني إسرائيل إذا حملت يجب أن تبلغ أقرب مركز في المدينة بأنها حملت وإلا فستعاقب، ثم بعد ذلك إذا قرب وضعها لا بد أن تعلم المسئولين، وتأتي القوابل ورجال فرعون ينتظرون، فإذا خرج من بطن المرأة ذكر ذبحوه، أو دفنوه في التراب، وإذا كانت أنثى تركوها، لم؟ لأن الساسة أوعزوا إلى فرعون أن سلطانك ودولتك وملكك يزول على يد بني إسرائيل، لم؟ قالوا: هذا شعب كريم له أصالة وله شرف، فما يمكن أن تبقى مسوداً تحكمهم، لا بد أن يطالبوا يوماً ما بالملك والحكم ويسودون. فقال: إذاً: ماذا نصنع أيها الساسة؟ قالوا: الطريق أنك تذبح الذكران، وتترك الإناث للخدمة؛ لأنا في حاجة إليهن، أما الذكور فيذبحون، فمضى عام وعامان وثلاثة وأربعة فقالوا: قلت اليد العاملة، ماذا نصنع الآن؟ قال: إذاً: سنة تذبحون وسنة تعفون عن مواليد بني إسرائيل، شاء الله أن السنة التي فيها العفو ولد فيها هارون، والسنة التي فيها الذبح ولد فيها موسى، والله الحكيم العليم يدبر ما يشاء كيف يشاء: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، بشراك يا أم موسى: وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، لا ينجو من فرعون فقط، وقد تحققت البشرى، إذاً: أوحى الله إلى أم موسى أنها إذا وضعته تجعله في صندوق، فهيأت تابوتاً من خشب وجعلته في التابوت وقالت لأختيه: ارميه في النيل، فجاءوا فما وجدوا شيئاً، وأخذ الماء يلعب به ويعبث حتى وصل إلى القصر، وحول القصر أشجار كما تعرفون، فقالوا: (موشي) أي: بين الماء والشجر، هذا موشي، وجد بين الماء والشجر، فالـ(مو) بالعبرية: بمعنى ماء، و(شي) شجر، واليهود الآن يسمون موشي، لكن في العربية وفي كتاب الله: موسى. فموسى ماذا آتاه الله؟ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى [البقرة:136]، ما قال: وما أنزل على موسى، أوتي من المعجزات الخارقات، ويكفي التسع الآيات، من أعطاه هذه الآيات التسع؟ تسع آيات تعجز البشرية عن أن تأتي بواحدة منها. وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى [البقرة:136] أيضاً ما قال: وما أنزل على عيسى، أوتي عيسى زيادة على الإنجيل كزيادة موسى على التوراة، أعطاه الله الآيات فكان ينادي الميت فيقول: لبيك يا روح الله ويخرج حياً. وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ [البقرة:136] وما أكثرهم، هؤلاء هم الذين نؤمن بهم وبما أنزل عليهم، لا نفرق بين هذا وذاك، ولا نقول: هذا نؤمن به وهذا لا نؤمن به، فذلك الكفر بعينه، وهذا تسجيل على اليهود والنصارى أنهم كافرون، ما آمنوا، دعوا إلى أن يؤمنوا، فهل آمنوا بهذا؟ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:136] من المعجزات الخارقة للعادة، ومن الوحي الإلهي والكلام الرباني.

معنى قوله تعالى: (لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون)

لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة:136]، اليهود ما آمنوا بعيسى، بل ما آمنوا حتى بسليمان، وقالوا: هو ساحر وما هو بنبي، والنصارى فرقوا أيضاً، آمنوا بموسى وعيسى، وما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.والحقيقة هي أن الإيمان لا يتجزأ، لا يقبل التجزئة أبداً، الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، لو قلت: فلان لا أؤمن بنبوته خرجت من الإسلام، والرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، لو قلت: أنا مؤمن بكل أولئك، إلا أن هذا الرسول نفسي ما اطمأنت إليه، ولا أستطيع أن أؤمن به؛ فوالله! ما بقيت في الإسلام، وكذلك ما أوحاه الله وأنزله من صحف وكتب، لو قلت: صحف فلان فيها كذا وما نؤمن بها، فوالله! ما أنت بالمسلم، لا بد من الإيمان بكل ما أنزل الله وبكل من أرسله الله ونبأه الله، ومن فرق فما آمن ولا أسلم، وهذه الآية تعليم إلهي: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:136] قولوا: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، ونحن له، لمن؟ لله، مسلمون قلوبنا ووجوهنا وكل ما طلب منا قدمناه وطرحناه بين يديه، إذ هذا معنى الإسلام.اللهم اجعلنا مسلمين، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-24, 01:01 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (91)
الحلقة (98)



تفسير سورة البقرة (6)


بيّن القرآن جملة من صفات المنافقين وأحوالهم، ومن ذلك أنه ضرب مثلين يبينان تخبطهم وضياعهم في الدنيا ومصيرهم البائس في الآخرة، حيث لا يجدون مفراً ولا مهرباً؛ والسبب في ذلك أنهم فقدوا كل استعداد للاهتداء، فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يعقلون، فلذا هم لا يرجعون عن غيهم وكفرهم، فكانت عاقبتهم ماحقة.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن ليلتنا هذه كسابقتها ليلة القرآن الكريم، وها نحن مع قول ربنا عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:17-20].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!هذا السياق الكريم نراجع فيه ما سبق أن درسناه ووقفنا عليه وفهمناه إن شاء الله ربنا.

أصناف الناس

عرفنا أن هناك ثلاث فرق: فريق المؤمنين الصادقين في إيمانهم، والذين بشرهم الله بالفلاح والفوز. أي: بالنجاة من النار ودخول الجنة؛ دار الأبرار.والفريق الثاني هم الكفار، وهم صنفان: صنف توغلوا في الكفر والظلم والشر والفساد، فطبع على قلوبهم وعلى سمعهم، وجاءت الغشاوة على أبصارهم، فهم -والعياذ بالله- آيسون من رحمة الله، ولهم عذاب عظيم.وصنف آخر لم يتوغلوا في الكفر والشر والفساد، فهم مستعدون لقبول الإيمان والاستقامة على منهج الرحمن، وبذلك يفوزون مع الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة.ولم قلنا هذا؟ لأن الآية الكريمة تقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] والعلة خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] فهذا نوع من الكافرين توغلوا في الكفر، وضربوا فيه حتى ختم على قلوبهم فمن أين يدخل الإيمان؟! أنذرهم أو لا تنذرهم، خوف أو لا تخوف، أغلق الباب؛ بسببهم هم، أما الله تعالى فحاشاه.والفريق الثالث: هم المنافقون، والمنافقون هم الذين يبطنون الكفر ويخفونه في قلوبهم وفي صدورهم، وينطقون بالإسلام والإيمان بألسنتهم وجوارحهم، وهؤلاء هم شر الخلق؛ فأذاهم وضررهم على الإسلام والمسلمين أكثر من ضرر الكافرين الصرحاء البين كفرهم.

من صفات المنافقين

هنا نتلو الآيات التي نزلت في المنافقين، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:8-11] قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12].وقفة: بمَ كان فسادهم أيها المستمعون؟ بارتكاب معاصي الله ورسله.خذوا هذه قاعدة ثابتة: المفسد في الأرض هو الذي يعصي الله تعالى فيها بترك ما أوجب الله وارتكاب ما حرم الله. والمصلح في الأرض والصالح هو الذي يعبد الله تعالى فيها بما شرع.فالإصلاح والصلاح يبقيان على النعمة، والفساد والإفساد هما سبب زوالها. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11] أي: بارتكاب الذنوب والمعاصي قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] لأنهم يبررون تلك الذنوب، فقد تكون اتصالاً بالكافرين وباليهود، فيقول: من أجل الدفع عن البلاد والعباد، قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:12-13] ومعنى هذا أنهم يدعون المعرفة، ويدعون العلم، فإذا قال لهم مؤمن من أقاربهم أو ممن شاهدهم يتخبطون في ضلالهم: آمنوا كما آمن فلان وفلان، والمؤمن ما يرتكب هذه الذنوب، ولا يغشى هذه الكبائر، يقولون: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ؟! إيمان الرجعيين والمتخلفين و.. و.. كما سمعنا؛ لأن هذه الآيات وإن نزلت في المدينة لعلاج المنافقين من اليهود والعرب، إلا أنها عامة خالدة ببقاء هذه البشرية، فتطبق على كل منافق ومنافقة في أي زمان وجد أو في أي مكان كان؛ لأنها آيات الهداية الإلهية، فإذا قرئت على الناس وفهموها ينتفع بها الكثيرون ممن في قلوبهم مرض، فهي خالدة بخلود هذه البشرية إلى أن تنتهي، فلهذا تتنوع الأساليب والعبارات والمعنى واحد. قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:13-14] في مجلس من المجالس وفي خلوة من الخلوات وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] من الإنس لا من الجن، من هو الشيطان؟ الذي لا خير فيه، وكله شر، وكل سلوكه وكل قوله وعمله يدعو إلى الشر، هذا هو الشيطان؛ لأن إبليس لعن وأُبلس من الخير كله، وذريته لا خير فيهم البتة، فأيما إنسي أو جني ينسلخ من الخير ويصبح همه .. تفكيره .. قوله .. عمله .. سلوكه .. كله في أودية الشر، فقد أصبح شيطاناً وإن كان اسمه خالداً أو إبراهيم، فالخلو إلى شياطينهم هو أن يتصلوا بأصحاب المؤامرات والباطل، قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] فقط بأولئك المغفلين؛ الرجعيين من المؤمنين.قال تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] يعاملهم بالمثل، يستهزئون بالمؤمنين والله عز وجل يستهزئ بهم وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] فلا يفيقون ولا يستفيقون إلى أن يدخلوا جهنم.ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:16] أي: البعداء، فأشار إليهم بلام البعد هنا لبعدهم عن ساحات الخير والفضيلة والكمال والنعيم في دار السلام، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] أي: أعطوا الهدى الذي هو الإيمان والاستقامة على دين الله، واستعاضوا عنها الكفر والشرك والعياذ بالله، إذاً: فكيف تكون تجارتهم هذه رابحة؟ قال: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16]. فالذي يعطى الإيمان والاستقامة على منهج الحق، ويستبدل بذلك الشرك والنفاق والكفر، يصبح شر البرية والخليقة، فهذا ما ربحت تجارته بل خسرت خسراناً أبدياً، فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] في سلوكهم أو في بيعهم وشرائهم، وما اهتدوا إلى سبيل نجاتهم وفوزهم.

تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً...)

ضرب الله تعالى للمنافقين مثلين: مثلاً نارياً ومثلاً مائياً، والمثل في الحقيقة صفة من الصفات، وهو يضرب من أجل تقريب المعاني إلى أذهان المستمعين والذين يتلى عليهم كلام الله.فالمثل الأول يقول تعالى: مَثَلُهُمْ [البقرة:17] في ماذا؟ في خسرانهم، في ضلالهم، في حيرتهم، في تخبطهم، في مصيرهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] جاء بالحطب وأشعل النار من أجل أن ينتفع بها، فيرى الحية إذا جاءته واللص إذا هاجمه، فيرى ما هو في حاجة إلى رؤيته؛ لأن الظلام صعب، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] فلما اتقدت واشتعلت وأضاءت ما حولهم جاءت ريح عاصفة أطفأتها، ومطر غزير أطفأها، وبقوا في الظلام.فهذا مثل المنافقين الذين يؤمنون ثم ينتكسون ويعودون إلى الكفر، فهم يظهرون الإيمان كأنهم مؤمنون، وهم في ظلام الكفر والشرك والعياذ بالله مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17]. هذه مصيبة عظيمة، فتصور أن أناساً في خلاء والظلام دامس، فلا يعرفون كيف يتحركون، فجاءوا بحطب وأوقدوا نارهم فاتقدت، واستنارت المنطقة، وفجأة يذهب الله بنورهم، ويبقون في ذلك المكان.

تفسير قوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)

قال تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18] (صم) ما يسمعون، لو ناداهم مناد: أن تعالوا هنا، النجاة هنا، الطريق من هنا! لا يسمعون.(بُكْمٌ) لو أرادوا أن ينادوا من بعيد: ألا من ينقذنا؟ ألا من يدلنا على الطريق؟ لا يتكلمون.(عُمْيٌ) لو كان لهم أبصار فيمكن أن يشاهدوا حركة فينادوا أو يصرخوا.إذاً: خذلوا تمام الخذلان، فلهذا لا يرجعون إلى سبيل النجاة وطريق السلامة والسعادة.وهذا مثل لبعضهم يتناسب مع كل فريق، مَثَلُهُمْ في نفاقهم وكفرهم وترددهم ورجوعهم إلى الباطل بعد مشاهدة الحق، أي: المثل الذي يتلاءم مع واقعهم هو هذا كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] لأجل الانتفاع بها فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18] لو بقيت لهم أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم ينطقون، فيمكن أن يخرجوا من الفتنة، لكن فقدوا كل ذلك، وهذا معناه أنهم كفروا وتوغلوا في الكفر كأولئك الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، وهذا النوع لا يرجعون فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18].

تفسير قوله تعالى: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ... )

أما المثل المائي فجاء في قول الله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:19] الصيب: المطر الذي يصب، ويقال فيه: الصيب، ويقال فيه: المطر، كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19] مطر مصحوب بالظلام، ظلام السحاب وظلام الليل، وفيه رعد قاصف وبرق يخطف الأبصار، حالة من أصعب الأحوال أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [البقرة:19] أصوات الصواعق تفزعهم، وتكاد تقتلع قلوبهم، فلهذا يدخلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا صوت الرعد، لم؟ قال: حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:19] خوفاً من الموت، فيحاولون ألا يموتوا بالصواعق التي تنزل، وأنتم تعرفون الصاعقة -أعاذنا الله وإياكم منها- قطعة من النار تسقط على منزل تهدمه، وعلى جماعة تبيدهم وتحرقهم حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] لا مهرب، من أين ينجون والله قد أحاط بهم؟!إذاً هذا المنظر لا يطاق.الخلاصة قوله: أَوْ كَصَيِّبٍ أي مثلهم كصيب أي: مطر مِنَ السَّمَاءِ من فوق فِيهِ ذلك الصيب أو ذلك المطر ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] محيط بالكافرين اليوم وقبل اليوم، ما قال: والله محيط بهم، سجل عليهم الكفر، وليكن اللفظ عاماً إلى يوم القيامة، والله محيط بكل شيء، فالملكوت كله في يده، وإذا كانت الأرض يجعلها في كف والسماوات مطويات في آخر، إذاً ما بقي من هو خارج عن قدرة الله وإحاطته بالخلق! وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20] والله محيط بكل شيء.إذاً: فمن أين تأتيهم النجاة والمهرب؟!

تفسير قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم ...)

قال تعالى: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:20] يكاد ويقرب البرق أن يخطف أبصارهم، وهذا تشاهدونه عند البرق كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة:20] لما يضيء البرق يمشون خطوات، ولما ينتهي يقفون كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] وقفوا، فلاحظ هنا: القرآن الكريم آياته تنزل صباح مساء ويوماً بعد يوم وكل يوم، وتلك الآيات تتلاءم مع هذا المثل.إذا نزلت الآيات تندد بالمنافقين والكافرين، وتنذر وتخوف يكادون يصعقون، وإذا نزلت الآيات فيها انفتاح وانفراج وما تعرضت لهم مشوا في إيمانهم وواصلوا يوماً أو يومين، فإذا ما نزلت الآيات ترعبهم يقفون، وهذا مثل الآيات القرآنية النازلة من السماء مع أنوار الله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:19-20] آمنا بالله، إن الله على كل شيء قدير.ما فعلت هذه الآيات في ذلك المجتمع؟ طهرته، نقته، صفته، ومن مات على النفاق كانوا أفراداً معدودين، ومن عداهم دخلوا في رحمة الله، وأسلموا وهم في دار السلام مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ لأنهم عولجوا بهذا النور الإلهي، فلهذا أيما مجتمع قلَّ عدده أو كثر، عرب أو عجم مصاب بهذه الأمراض، فإن علاجه بهذا القرآن الكريم، ولو أن أهل القرية أو الحي اجتمعوا طول السنة والآيات تتلى كأنها تنزل يوماً بعد يوم، فلا بد وأن تطهر قلوبهم، وأن تزكوا نفوسهم، وأن تتغير طباعهم، وتتبدل مفاهيمهم وأذواقهم؛ لأنها سنة الله، فما أنزل هذا الكتاب إلا للشفاء والدواء والعلاج، وتطهير القلوب والنفوس، ولكن إذا ترك المؤمنون أو المسلمون الاجتماع على كتاب الله فما أصبحوا يسمعون آية، ولا يتلى عليهم هذا الكلام الإلهي، وتزداد ظلمات نفوسهم، ويصبح حالهم كالمثل الأخير، فإذا فرج الله عنهم غماً أو كرباً فرحوا وحمدوا الله، وإن جاء الظلام والكرب -والعياذ بالله- انتكسوا!

ضرب الأمثال للمنافقين

هنا نعيد المثلين السابقين متأملين ومتدبرين، فهذان المثالان المائي والناري ضربهما الله للمنافقين الذين توغلوا في الكفر والشرك والنفاق، والذين بين بين، يترددون فيمشون خطوة ويقفون، ولم لا يواصلون المشي؟ لأنهم مرتبطون بنياتهم وأفكارهم وعقائدهم وصلاتهم برؤسائهم من الشياطين.

المثل الأول: المثل الناري

قال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18] وهذا ينطبق تمام الانطباق على من أصيب بالإلحاد، وعلى من أصيب -والعياذ بالله تعالى- بالشرك والكفر، فزين له الشيطان ذلك، وأغواه دعاة الباطل والشر ففقد نوره من قلبه وبصيرته من نفسه، فينطبق عليه هذا المثل تمام الانطباق: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17] وهل الكفار والمنافقون والمشركون اليوم يبصرون حقيقة؟ نعم هم يبصرون ما تبصر البهائم، فلا هم لهم إلا بطونهم وفروجهم، وهل هذا حقيقة الإبصار؟! فلا يشاهدون شيئاً فيعيشون في الظلام ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17]. صُمٌّ [البقرة:18] لا يسمعون، اقرأ عليهم القرآن لا يسمعون، حي على الصلاة لا يسمعون، أن اتقوا الله لا يسمعون .. فالأصم لا يسمع. بُكْمٌ [البقرة:18] لا ينطقون بالمعروف، ولا بالخير، ولا بالفضيلة، ولا بالهدى أبداً، بل لا ينطقون إلا بالخبث، والعبث، والشر، والفساد. عُمْيٌ [البقرة:18] هل شاهدوا آيات الله في الكون؟ فهل نظر أحدهم فقط إلى القمر وقال: سبحان الله؟! من علَّق هذا الكوكب في السماء؟! من سخره ليضيء لنا، ولنعرف أعداد أيامنا وأعوامنا؟! هل نظر أحدهم إلى الشمس وفكر في طاقتها الملتهبة؟ ومن أوجد هذه الشمس؟ لم وجدت؟ لم تطلع وتغيب؟ لم.. لم؟ ما يبصرون.وقد يتناول عنقود العنب فلا ينظر كيف كان، ولم كان، ومن كونه، ولم.. لا سؤال أبداً، لا ينظر إلى نفسه فقط، ما أنت يا عبد الله، ومن أنت، ومن أين أتيت؟ وإلى أين تذهب؟ كيف وكيف وكيف..؟ لا يبصرون، وهذا شأن من على بصره غشاوة من بياض فما يبصر شيئاً. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18] ومن أصيب بالصمم أصبح لا يسمع، بالبكم أصبح لا ينطق ولا يسأل، بالعمى أصبح لا يبصر.. كيف يرجع؟ قولوا: كيف يعود إلى بيته أو إلى عمله؟ مثل عجب!

المثل الثاني: المثل المائي

قال تعالى: أَوْ مثل آخر مائي كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ مطر، لكن مصحوب بالرعد والبرق الخاطف والرعد القاصف كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19]، أهله كيف يتحركون؟ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [البقرة:19] خوف الموت. الآيات القرآنية تمثل هذا المنظر لما كانت تنزل، وكذلك لو أنها تتلى بحق، ويسمعها البشر وتبلغهم فإنهم يصابون بمثل ما أصيب به المنافقون، والله يخافون وترتعد فرائصهم، ويعودون إلى الحق فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] أينما كانوا، وحيثما وجدوا، وفي كل زمان ومكان الله محيط بهم، فإما أن يطهروا ويكملوا، وإما أن تنزل بهم نقم الله عز وجل، ولا تظن أن أمريكا وأوروبا واليابان والصين سوف يبقون هكذا، والله إن يوماً لا بد منه، ويريهم الله عجائب قدرته.أما من ينتسبون إلى الإسلام فقد يعجل الله لهم العقوبات؛ ليريهم آياته؛ لعلهم يرجعون كما قال تعالى من سورة السجدة: وَلَنُذِيقَنَّه ُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21] فإذا أذاقهم العذاب وما رجعوا استحقوا حينئذ الإبادة الشاملة.أما الكفار فيبقيهم، ويملي لهم، ويزيد في أعمارهم، في أولادهم، .. إلى ساعة ما، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد:31] .قال تعالى: ... وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [البقرة:19-20] هؤلاء يرجى لهم العودة، وعادوا بخلاف النوع الأول، فلهذا دخلوا في الإسلام، وقلَّ من مات من المنافقين على النفاق والكفر؛ لأن هذه الآيات تنزل أنواراً من السماء، وهم عرب يفهمون لغة القرآن، فدخلوا في رحمة الله نساء ورجالاً وأطفالاً، وإنما اليهود قلَّ من دخل منهم في رحمة الله؛ لعلة عرفناها وهي الشعور بأنهم أكمل الناس، وأنهم أبناء الأنبياء، وأن لهم شأناً ومنزلة عند الله، فغرر بهم رؤساؤهم فرفضوا الإسلام؛ خشية ألا يبقى لهم أمل في مملكة بني إسرائيل وإعادة مجدهم كما كانوا أيام الاستقامة على منهج الله على عهد داود وسليمان ومن بعدهم.وهنا قد يسأل السائل عن الرعد: جاء في التفاسير منهم من يقول: الرعد هذا صوت ملك، والبرق شرر يتطاير من فمه؟ والله ما ذكر هذا، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم فسر بهذا التفسير، وهذا منقول ومأثور عن بني إسرائيل، فالرعد صوت إذا سمعناه ينبغي أن نقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وبهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.أيها المؤمن! أيتها المؤمنة! إذا سمعت صوت الرعد فقل: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، الرعد يسبح، والنمل يسبح، وليس الرعد فقط! وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] ليس التسبيح خاصاً بالرعد، وإنما لما نسمع هذا الصوت المدوي، المتكون من السحب المتراكمة هنا نقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة يسبحون من الخوف منه يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50] فكيف إذاً بالبشرية، لم لا تسبح ربها؟ سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته!فهذا الصوت ليس صوت الملك، والملك ما هو ذات كذواتنا حتى يكون له صوت هو هذا الرعد، نعم لو نطق ملك من الملائكة، قد يكون له صوت إذا أراد الله أن يسمعنا أسمعنا، وجبريل كان ينزل في صورة إنسان ويسمعون كلامه، والرسول يفتيه ويجيبه، لكن ما دام على هيئته الملكية الخاصة لا يمكن أن نسمع له صوتاً. الآن الملائكة معنا ويكتبون هل نسمعهم؟ فلم نسمع صوت الرعد فقط ونقول: ملك؟! هذا الدوي نتيجة الاحتكاك بين السحب المتراكمة.وأما البرق قد عرف أخيراً بالسالب والموجب من الكهرباء، فالاحتكاك بين تلك الجزيئات يحدث هذا، الآن احتكاك بالسلكين، هذا سالب وموجب يوجد النور.نعم. يجب أن نؤمن إيماناً يقينياً أن الرعد والبرق من فعل الله عز وجل، كما كل الكون والمخلوقات من فعل الله وخلقه وتدبيره، وإذا سمعنا الرعد وصوته نخاف ونخشى أن تنزل بنا صاعقة.الآن أوجدوا للبلاد التي يكثر فيها الرعد والصواعق آلة يجعلونها في أعلى مكان تبعد الكهرباء وتسلبها، فما تنزل الصاعقة.وكل ما في الأمر أننا نقول: صوت الرعد ليس بصوت ملك، ونكذب على الله وعلى الملائكة لو قلنا ذلك؛ إذ لو كان صوت ملك ما سكت الرسول صلى الله عليه وسلم ولبينه ولقال لنا، وضرب المثل، فما دام النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر هذا فما نلتفت إلى روايات يذكرها الناس أو فلان في التفاسير محكية عن بني إسرائيل كـابن منبه وغيره.إذاً: والبرق هذا فعل الله عز وجل، ونحن الآن نشعل النار في السعف أو لا، في الحطب؟ نحك الصخر على الصخر فتشتعل النار، وحجرين تحكهما على بعضهما البعض فتشتعل النار، فهذا الاحتكاك في تلك الأجرام يوجد هذا النور أو النار.والواجب الذي نحن أهله إذا سمعنا صوت الرعد أن نخاف، ولا بأس من الله عز وجل أن يعاقبنا بذنب من ذنوبنا، فتنزل صاعقة علينا، فنفزع إلى الله ماذا نقول؟ سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته .. سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وتبقى قلوبنا معلقة بربنا، فهو الذي يدفع المكروه عنا، وهو الذي يقينا العذاب ويحفظنا مما يؤذينا؛ إذ هو مفزعنا وملاذنا بخلاف الكافرين، إلى من يفزعون؟ إلى من يلجئون؟ خسران كبير، فما عندهم مفزع، ولا ملجأ، ولا ملاذ، فانظر الفرق بيننا وبينهم، نحن أحياء وهم أموات.

علامات المؤمن والمنافق والكافر والفاسق

معاشر المستمعين! انتهى الحديث عن الفرق الثلاث، وقد ذكرت لكم قاعدة حاولوا أن تحفظوها، وخاصة طلبة العلم، ما هي؟ ‏

علامات المؤمن

لو قلنا: ما هو الإيمان الصحيح لنكون من الفرقة الأولى؟ قالت العلماء: الإيمان الصحيح هو اعتقاد الحق في القلب، والعربنة عليه بالنطق: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والبرهنة عليه والتدليل بالعمل. فهذا هو المؤمن المبشر بالجنة، والمبشر بالفوز والنجاة في الدنيا والآخرة.اعتقد الحق لا الباطل، وما أكثر المعتقدين للباطل، ويظنون أو يعتقدون أنه حق، فنحن نعتقد الحق الذي علمناه الله ورسوله، وهو أولاً: أنه لا إله إلا الله، لا عيسى ولا البتول، ولا جبريل، ولا عبد القادر ، ولا الملائكة، ولا كائن يستحق أن يؤله بالعبادة إلا الله، لم؟ لأنه هو الخالق، الرازق، المدبر، هل من خالق غير الله؟ والله لا يوجد، ودلونا على من خلق بعوضة .. ريشة في طير .. شعرة في آدمي أو حيوان؟ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فما دام لا خالق، ولا رازق، ولا مدبر الحياة إلا هو، إذاً قل: لا إله إلا الله، واعتقد هذا الحق، هذا اعتقاد حق أو باطل؟! اعتقاد حق. أشهد أن محمداً رسول الله.. هذا الاعتقاد حق أو باطل؟ حق، كيف؟ هذا كتاب الله أين يُذهب بعقول البشر، ولولا أن الله تعالى أرسله ونبأه كيف يوحي إليه كتابه؟ وهذا الكتاب ليس رسالة أو صفحة، هذا الكتاب قل الآن للإنس والجن: يتلاءمون ويجتمعون على أن ياتوا بسورة من مثله، فما هو مجرد كتاب حوى علوم الكون كله، الدنيا والآخرة، ومن ارتاب أو شك فما زال التحدي قائماً: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24] هل فعلوا بعد ألف وأربعمائة سنة وزيادة ما فعلوا، ولن يفعلوا، حتى لو أرادوا واستطاعوا يختم الله على قلوبهم، يختم الله على ألسنتهم، يفقدهم عقولهم ونطقهم ولن يأتوا، وَلَنْ تَفْعَلُوا.إذاً هذا الكتاب العظيم؛ القرآن الكريم حفظه النساء والرجال في صدورهم أربعة عشر قرناً، يحمل الهدى والخير والنور والإصلاح، ولم تعرف الدنيا قط كتاباً أسمى ولا أعز من هذا الكتاب، ومن أين جاء هذا الكتاب؟ أنبتته الشجرة، أو رمى به البحر، أو وجد في جبل! كيف هذا الكتاب؟!والبشري جيلاً بعد جيل تشهد أن هذا القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يكون رسول الله؟ أين يذهب بالعقل البشري؟ نعم عرفوا وأنكروا حتى لا يدخلوا في رحمة الله.إذاً: أشهد أن محمداً رسول الله، هذا هو اعتقاد الحق، وأنك تؤمن وتصدق بكل ما أمرك الله أن تؤمن به وتصدق بالكتب، والرسل، والملائكة، والقضاء والقدر، وكل ما أخبر الله تعالى به، صراط على ظهر جهنم تجتازه البشرية، آمنا، عالم الشقاء تحتنا، عالم السعادة فوقنا، أخبر الله، أخبر رسوله! آمنا، اعتقدنا الحق فقلنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.ثم برهنا البرهنة القوية أننا نعبد الله الذي شهدنا له بأنه لا إله إلا هو، ونتبع رسوله، ونقوم بسنته وشرعه؛ لأنه رسول الله فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وصمنا رمضان، وحججنا البيت الحرام، وجاهدنا ساعة الجهاد، وأمرنا بمعروف ونهينا عن منكر، وحرمنا ما حرم الله من الكلمة والنظرة، وأحللنا ما أحل الله من ذلك، فهذا تدليل واضح على صدق اعتقادنا الحق، هذا هو المؤمن.

علامات المنافق

ثانياً: الذي لا يعتقد الحق الذي عرفتموه، لكنه يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويؤتي الزكاة ويفعل ما يفعل المؤمنين، وهو لا يعتقد الحق، فهذا هو المنافق الذي أبطن الكفر وأخفاه في نفسه فاعتقد الباطل قطعاً، وعربن بلسانه فينطق بالشهادتين ويصلي مع المسلمين، ويصوم معهم من أجل الحفاظ على حياته، وعلى ماله ووجوده، هذا إيمان المنافقين، هذا المنافق.

علامات الكافر

أما الذي يعتقد الحق ولا ينطق به كاليهود وبعض النصارى فعرفوا أنه لا إله إلا لله محمد رسول الله يقيناً، ولكن ما ينطقون؛ إذ لو نطقوا لدخلوا في الإسلام، فهذا الذي يعتقد الحق ولا يعربن عليه، ولا يعرب عنه، ولا يبينه .. هذا كافر؛ إذ الدخول في الإسلام يكون بكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله على علم.إذاً الذي يعتقد الحق ويعرف الدار الآخرة، ويعرف الصراط، والميزان، والجنة، والنار، كاليهود والنصارى يعرف أن محمداً رسول الله، وأن الله الإله الحق ولا ينطق؛ لأنه إذا نطق فمعناه أنه خرج من دينه وملته وأهله؛ لأنهم سيبعدون عنه، فيؤثر الدنيا على الآخرة، هذا هو الكافر، فإن كان لا يعتقد الحق، ولا ينطق به، ولا يعمل فهذا أسوأ كافر.

علامات الفاسق

يبقى من يعتقد الحق ويعرب عنه بالشهادتين، ولا يدلل عليه بالأعمال الصالحة، وهذا نسميه الفاسق.إذاً: عندنا مؤمن، وكافر، وفاسق. فالكافر ميئوس من رحمته، والمؤمن مرجو سعادته وكماله، والفاسق بين بين، فلا نحكم عليه بخلود في النار ولا بدخول الجنة، نتركه إلى الله عز وجل، ولكن إذا مات على اعتقاد الحق والإعراب عنه -انتبهتم- نرجو أن ينجو من عذاب الله، على الأقل من الخلود في النار.

المبادرة بالتوبة

الاستمرار والمتابعة في الذنوب والآثام قد يصل بالعبد أن يموت على غير الإسلام.انتبهوا! السيئة تلد سيئة، والحية لا تلد إلا حية، فالذي يواصل الآثام والذنوب يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، من الجائز أن يختم على قلبه، ويموت على سوء الخاتمة.فلهذا واجب كل مؤمن ومؤمنة ألا يبيت على ذنب، وإذا أحدث الذنب تاب على الفور، وهذه قاعدة عامة: التوبة تجب على الفور، ولا يحل أن تقول: إذا جاء الحج أو جاء عمي أتوب، أو إذا تزوجت أتوب، أو إذا توظفت أتوب، أو إذا تخرجت من الجامعة أتوب.. إياك من هذا، فإذا أذنبت ووقعت في الذنب على الفور: أستغفر الله وأتوب إليه، فإن هذا الإرجاء والتسويف والتأخير قد تكون عاقبته سيئة، والذنب على الذنب يصيب العبد بالظلمة فينكر حتى وجود الله والإسلام.ولنقرأ هذه القاعدة التي سبق أن عرفناها؛ إذ يقول تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] لا من بعيد، لم هذا الحذر؟ لما علمتم، يوالي المعصية ويكررها حتى تصبح تلك المعصية هي مبتغاه ومطلبه.وعلى سبيل المثال الذين يدخنون، ونترك الآن التدخين فقد انتهينا منه، وما بقي من يدخن إلا نادراً أو لا؟ الحمد لله نجتمع في مجلس ضيافة فيه ستون رجلاً ما واحد يدخن، الحمد لله.لكن نضرب مثلاً بالذين يتعاطون المخدرات: الأفيون، الكوكاين، الحشيشة .. بلغنا أنه إذا أدمن عليها أياماً أو أشهراً أو عاماً فإنه لا يستطيع أن يتركها، ولا يقدر أبداً، وكذلك الذي يواصل اللواط أو الزنا أو السرقة، أو كذا من هذه الكبائر أيضاً يخشى عليه ألا يتوب إذا واصل فترة من الزمن. فالحذر الحذر، كلنا خطاء وخير الخطائين التوابون، ونحن ضعفة لسنا بمعصومين كالأنبياء والرسل، لكن واجبنا إذا فعلت سيئة على الفور امحها بكلمة: أستغفر الله، مع دموعك وعزمك ألا تعود إليها يمح أثرها، وهذه سنة الله عز وجل إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17] ما هو السوء؟ الذي يسيء إلى نفوسهم بالظلمة، والراحة الكريهة، والعفن وهو السيئة. ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17] عليماً بخلقه، حكيماً في قضائه وشرعه، هذا أهل لأن يتوب الله عليه، بخلاف الذي واصل الذنب واصل .. واصل.. فأصبح طبعاً من طباعه، وخلقاً من أخلاقه.ثم يقول تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18] لا توبة، إذا شاهدت ملك الموت يقرب منك وأعوانه انتهت التوبة، فلهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم من باب الإخبار بالواقع: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) ما لم تحشرج في الحلق، فإذا حشرجت في الصدر، وشاهد ملك الموت لم يبق له توبة تقبل منه ولا تصح، وليس معنى هذا أنك تملك أن تؤخر الذنب إلى ساعة الموت بيوم أو بساعة، من يملك هذا؟ لا أحد تحت السماء يقول: في استطاعتي أن أتوب قبل موتي بأسبوع أو بيوم، هو يعرف متى يموت؟! فهذا الباب مغلق، وما يبقى إلا باب الله فكلما أذنب أحدنا ذنباً على الفور وقع على الأرض يبكي بين يدي الله، وقام يصلي.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال: [شرح الكلمات:مثلهم: صفتهم وحالهم.استوقد: أوقد ناراً.صمٌ بكم عميٌ: لا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون.الصيّب: المطر.الظلمات: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر.الرعد: الصوت القاصف يسمع حال تراكم السحاب ونزول المطر.البرق: ما يلمع من نور حال تراكم السحاب ونزول المطر.الصواعق: جمع صاعقة: نار هائلة تنزل أثناء قصف الرعد ولمعان البرق يصيب الله تعالى بها من يشاء.حذر الموت: أي: توقياً للموت]، لما يجعل أصابعه في أذنيه خوف.قال: [محيط: المحيط المكتنف للشيء من جميع جهاته.يكاد: يقرب.يخطف: يأخذ بسرعة. أبصارهم: جمع بصر وهو العين المبصرة].

معنى الآيات

قال: [معنى الآيات: مثل هؤلاء المنافقين فما يظهرون من الإيمان مع ما هم مبطنون من الكفر مثلهم كمثل من أوقد ناراً للاستضاءة بها، فلما أضاءت لهم ما حولهم وانتفعوا بها أدنى انتفاع ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون؛ لأنهم بإيمانهم الظاهر صانوا دماءهم وأموالهم ونساءهم وذراريهم من القتل والسبي، وبما يضمرون من الكفر إذا ماتوا عليه يدخلون النار فيخسرون كل شيء حتى أنفسهم، هذا المثل تمضنته الآية الأولى (17).وأما الآية الثانية (18) فهي إخبار عن أولئك المنافقين بأنهم قد فقدوا كل استعداد للاهتداء فلا آذانهم تسمع صوت الحق ولا ألسنتهم تنطق به ولا أعينهم تبصر آثاره؛ وذلك لتوغلهم في الفساد، فلذا هم لا يرجعون عن الكفر إلى الإيمان بحال من الأحوال.وأما الآية الثالثة والرابعة (19) (20) فهما تتضمنان مثلاً آخر لهؤلاء المنافقين، وصورة المثل العجيبة والمنطبقة على حالهم هي مطر غزير في ظلمات مصحوب برعد قاصف وبرق خاطف، وهم في وسطه مذعورون خائفون يسدون آذانهم بأنامل أصابعهم حتى لا يسمعوا صوت الصواعق حذراً أن تنخلع قلوبهم فيموتوا، ولم يجدوا مفراً ولا مهرباً؛ لأن الله تعالى محيط بهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن البرق لشدته وسرعته يكاد يخطف أبصارهم فيعمون، فإذا أضاء لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه، وإذا انقطع ضوء البرق وقفوا حيارى خائفين، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم؛ لأنه تعالى على كل شيء قدير. هذه حال أولئك المنافقين، والقرآن ينزل بذكر الكفر وهو ظلمات، وبذكر الوعيد وهو كالصواعق والرعد، وبالحجج والبينات وهي كالبرق في قوة الإضاءة، وهم خائفون أن ينزل القرآن بكشفهم وإزاحة الستار عنهم فيؤخذوا، فإذا نزل بآية لا تشير إليهم ولا تتعرض بهم مشوا في إيمانهم الظاهر، وإذا نزل بآيات فيها التنديد بباطلهم وما هم عليه، وقفوا حائرين لا يتقدمون ولا يتأخرون، ولو شاء الله أخذ أسماعهم وأبصارهم لفعل؛ لأنهم لذلك أهل، وهو على كل شيء قدير].

هداية الآيات

قال: [ من هداية هذه الآيات ما يلي:أولاً: استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان]. فيستحسن أن يمثل الإنسان لأخيه حتى يفهم، فيضرب له مثلاً.قال: [ثانياً: خيبة سعي أهل الباطل وسوء عاقبة أمرهم.ثالثاً: القرآن تحيا به القلوب كما تحيا الأرض بماء المطر.رابعاً: شر الكفار المنافقون]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-25, 08:24 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (92)
الحلقة (99)



تفسير سورة البقرة (60)

إن جدال اليهود والنصارى ليس مبنياً على حجة، وتفاخرهم فيما بينهم ليس له شاهد من واقع، إنما هو محض افتراء على الله وتألٍ عليه سبحانه، فلا اليهودية مقبولة عنده سبحانه، ولا النصرانية مرضية عنده عز وجل، فلا بد لهم من أجل نيل رضا الله من الدخول فيما دخل فيه المؤمنون، من إيمان بعقيدة التوحيد، ودخول تحت راية الإسلام الصافي، حتى يتجنبوا ما أعده الله للمؤمنين من الوعيد.

حكم التمسح والتبرك بمنبر المسجد النبوي

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:137-139].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! وقف إلى جانبي شيخ كبير يقول: إن منكراً شاهده بالمسجد النبوي، فلم لا يغير هذا المنكر، فما هو؟ قال: إن المنبر الذي يخطب عليه إمام المسجد يوجد به حلق أو كذا يرى الناس يتمسحون بذلك ويضعون أعينهم عليه متبركين.فالجواب: هؤلاء عجم، وليسوا بعرب، لو كانوا يعرفون لساننا لجلسوا إلينا ولبينا لهم الطريق، وعلمناهم الهدى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن علماءهم غشوهم وما نصحوا لهم، فما عندنا حَجَر في العالم ولا حلقة باب ولا عتبة ولا جدار نتمسح به ونتبرك سوى الحجر الأسود، وكل تمسح وكل تبرك بالجدران بالقباب بالحجارة هو من عمل أهل الجاهلية وليس من الإسلام في شيء، ما عندنا إلا الحجر الأسود، والركن اليماني نضع أكفنا هكذا عليه فقط، اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والحجر الأسود يقبل، من استطاع أن يقبله بفيه فليفعل، وإذا ما استطاع فليضع يده عليه ويقبلها، فإن عجز فإنه يشير إعلاناً بأنه عجز، وما عدا ذلك فما أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء نقبله أو نتمسح به أو نتبرك قط، لكن الجهل الذي غشينا وغطانا، وأصبح كالليل المظلم فوقنا منذ قرون ليس منذ قرن واحد، تركنا في هذا التخبط والحيرة، ولو قلت لهذا المسلم: هذا لا يجوز فإنه يغضب، وإن قلت: هذا ممنوع حرام فلن يفهم، فماذا تصنع؟ أتتقاتل معه؟ لا يحل ذلك عندنا؛ لأنه يريد الخير، ولكن ما عرفه، ويأثم لأنه ما سأل أهل العلم.

وجوب العلم بحكم العمل قبل الإقدام عليه

وأعيد ما سبق أن ذكرت، واحفظوا وبلغوا إن كنتم تريدون الملكوت الأعلى، إن كنتم تؤمنون بالجنة دار السلام والانتقال إليها بعد الموت، اعلموا أنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، فلا يعتقدن عقيدة في نفسه حتى يسأل أهل القرآن والسنة: هل هذه العقيدة مما شرع الله ورسوله أم لا؟ فإن قالوا: نعم، قال: إذاً: أعتقد. وأصر عليه حتى الموت، وإن قالوا: هذا المعتقد باطل لا وجود له في كتاب الله ولا في هدي رسوله صلى الله عليه وسلم فيجب عليه أن يغسل قلبه منه، وأن ينحيه من نفسه بالمرة؛ لأنه يريد الملكوت الأعلى، ولا يقول قولاً ولا يتكلم بكلمة حتى يعرف هل أذن الله فيها أو لم يأذن، أتعبدنا الله بهذه الكلمة أو لم يتعبدنا، فإن عرف أنها من دين الله وأن الله شرعها في كتابه وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم قال الكلمة وحافظ عليها، فإن قيل له: هذه ليست بدين ولا بعبادة شرعها الله فإنه لا يقولها أبداً، ولو هدد ولو توعد بالسجن والضرب فإنه لا يقول الباطل، ولا يأكل لقمة حتى يعرف هل أذن الله في هذا الطعام أو لم يأذن، ولا يشرب شراباً حتى يعلم آلله أذن فيه أو لم يأذن، بل ولا يمشي مشية حتى يعلم آلله أذن في هذا النوع من المشي أو لم يأذن. ولو أخذ المسلمون بهذا المبدأ في قرية من القرى فقط فلن يحول الحول عليهم إلا وهم علماء، ولكن ما نبالي أوقعنا في الحلال أو الحرام، أصبنا أم أخطأنا، نأتي ما تمليه نفوسنا، وما تزينه شياطيننا، فغرقنا في ظلمات الجهل والإثم، فمن ينقذنا، من يمد يده إلينا؟ أما الله فقد بين، وحسبنا أن أنزل كتابه وبعث رسوله ودعا رسوله ثلاثاً وعشرين سنة، ما مات وترك شيئاً تحتاجه الأمة إلا بينه، ونحن الذين أعرضنا، فماذا نصنع؟

وقت انغلاق باب التوبة

والآن ما زال الحجاج مع اليهود والنصارى، ما زال الصراع والنزاع والجدال والخصومة مع اليهود والنصارى إلى أن تطلع الشمس من مغربها، ومن ثم ينتهي كل شيء، وهل ستطلع الشمس من المغرب؟ إي ورب الكعبة، يختل فلكها ويضعف، فترجع إلى الوراء، ونراها قد طلعت من المغرب، ومعنى ذلك أن المؤمن مؤمن والكافر كافر، والبر بر والفاجر فاجر، والمتقي متق، والفاسد فاسد، أغلق باب التوبة، باب التوبة مفتوح لا يغلق إلا عند ما تغرغر النفس في حال نزعها، إذا غرغرت أغلق باب التوبة على هذا المريض، ثم طلوع الشمس من مغربها، إذا لاحت في الأفق من الغرب علمنا أن باب التوبة أغلق، واقرءوا لذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، والله! لهذا الحديث خير من ملء الأرض ذهباً، فأوساخ الدنيا لا قيمة لها، فلم نسمعه ولا نحفظه، ما المانع فيه؟ هل ندفع غرامة؟ نؤخذ به في الشارع فيقال: هذا حفظ حديث الرسول فاضربوه؟ والله ما كان، وإنما ليس عندنا استعداد كما لم يكن لآبائنا ولا لأمهاتنا ولا لأجدادنا، ما عندنا استعداد أن نعلم لنصل إلى دار السلام، وإلا فهذا الحديث كرره، هو حديث صحيح، فبلغه أهلك إخوانك، ما هو؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، والغرغرة: صوت متغير، إذا بلغت الروح الحلقوم تغير الصوت؛ لأنها ارتفعت من الرجلين ومن الصدر ووصلت إلى الحلقوم ولن تعود، آن أوان الفراق.وفي الآية الكريمة من سورة الأنعام يقول تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنعام:158] فيؤمنوا، من هؤلاء؟ المتباطئون، المترددون، ما منعهم من الإيمان؟ ماذا ينتظرون؟ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام:158]، إذا جاء الله آمنوا، فهل ينفع الإيمان في ذلك الوقت؟ لا ينفع، أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]، بعضها فقط لا كلها، يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158] الدالة على قرب الساعة ونهاية هذه الحياة الدنيا يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، فاسق، فاجر، ضائع، مؤمن رأى الشمس تطلع، وأراد أن يكتسب خيراً فلا يقبل منه، لا صدقة ولا صيام ولا صلاة ولا طهر ولا صفاء. فقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، هذا في حياة الفرد، وفي حياة الجميع: إذا طلعت الشمس من مغربها، فالمؤمن مؤمن، والكافر كافر، والبر بر، والفاجر فاجر، والمستقيم مستقيم، والمعوج معوج، ما السر؟ لأن هذه العبادة تنتج الطاقة وتولدها عندما كان العبد يؤمن بالغيب، أما وقد انتهى الغيب وأصبحنا في عالم الواقع والشهادة فتلك العبادة ما تزكي نفسك ولا تطهرها.

الرد على اليهود والنصارى في الدعوة إلى اليهودية والنصرانية

معاشر المستمعين والمستمعات! مع السياق الكريم، يقول تعالى: فَإِنْ آمَنُوا [البقرة:137]، من هؤلاء؟ اليهود والنصارى، إذ قال في السياق قبل ذلك: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، هذا نقوله نحن لأنفسنا ونقوله لهم وهم يخاصموننا، إذ قالوا: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135]، قالوا لنا هذا ويقولونه إلى الآن، ففي حضرة النبي صلى الله عليه وسلم قال وفد نجران واليهود: كونوا يهوداً أو نصارى تهتدوا! وكأن الهداية محصورة في اليهودية والنصرانية، والله ما فيهما هداية، ومن قال: لم؟ قلنا: أرنا هداية في النصارى؛ بل الزنا والعهر والفجور والربا وسفك الدماء والتلصص والخنا والدعارة، فأين الهداية، فهل توجد هداية عند النصارى؟ وأين الهداية عند اليهود؟ أفظع الجرائم يرتكبونها، فأين الهداية، أين القوانين التي تسود البشرية وتقودها تتجلى فيها الرحمة والعدل والإحسان والخير والطهر والصفاء؟ هذا لن يوجد إلا في الإسلام دين البشرية العام. وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135]، نهتدي إلى ماذا؟! والله يقول لنا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ [البقرة:136]، لمن؟ لله، مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، هل أسلم اليهود اليوم وقبل اليوم قلوبهم لله، هل أسلموا لله وجوههم، هل أسلم النصارى لله قلوبهم ووجوههم؟ إنهم ما عرفوا الله، إنهم يعبدون الشيطان الذي وضع لهم الثالوث، أين هم من الإسلام وإسلام القلوب لله؟ مخدوعون مغرر بهم مضللون، تائهون في صحاري الباطل وأودية الضلال.

وجوب القيام بدعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام

ولكن نحن أيضاً مسئولون عنهم، نحن خلفاء محمد صلى الله عليه وسلم، متى نحمل رايته ونقود المؤمنين إلى أن يصلحوا العالم وينقذوا البشرية من ضلالها؟ لقد فعلنا ذلك ثلاثة قرون، وانتشر النور في العالم، وبلغ أقصى الشرق والغرب، ولكن هم تآمروا علينا وتكاتفوا ضدنا، وكونوا ثالوثاً أسود من المجوس واليهود والنصارى، وضربونا تلك الضربة فهبطنا، فهم المسئولون عن شقاوتهم، فرقوا كلمتنا، مزقوا دولتنا، شتتوا جماعتنا، نفخوا فينا روح الباطل والشر والتحزب والتكتل والإقليمية والعصبية والمذهبية، فتركونا كالجثث الهامدة، فهل نستطيع أن ننقذهم؟ لا نستطيع، فقد قتلونا. ولكن أما نحيا؟ إن الروح موجودة، ولو ضاعت لكان لنا عذر، فالروح -والله- ما زالت، فهل تدرون ما الروح أيها المستمعون والمستمعات؟ إنه القرآن الكريم، كتاب الله رب العالمين، واقرءوا لذلك قول الله تعالى وقوله الحق: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فوالله الذي لا إله غيره! لا حياة بدون روح، ولا هداية بدون نور، هل يوجد تحت السماء من ينقض هذه الحقيقة، فيقول: نعم توجد حياة بدون روح؟ فليثبت ذلك ولو في البعوضة، فوالله! ما كان. وهل توجد هداية بدون نور؟ الماشي في الظلام هل يهتدي إلى حاجته، هل يصل إلى منزله، إلى بغيته؟ لا والله، والقرآن هو الروح، وهو النور، أخبر بذلك منزله الذي تكلم به، وأوحاه إلى رسوله، القرآن روح ونور، فلا حياة بدون روح، ولا هداية بدون نور، وهل لذلك مثل؟ الجواب: نعم، فالعرب ذرية إسماعيل وإخوانهم القحطانيون كانوا أمواتاً، كانوا في ضلال عظيم، لا تسأل عما كانوا فيه وعليه، يعبدون الأصنام والأحجار، يعبد الرجل حجرة من الحجارة ثم يستبدل بها أخرى، كانوا أمواتاً فبم أحياهم الله؟ بالقرآن حيوا، أصبحوا مضرب المثل في الكمال البشري، ووالله! ما اكتحلت عيون الوجود بأمة أطهر ولا أصفى ولا أرحم ولا أعدل من تلك الأمة في قرونها الذهبية: الصحابة وأبناؤهم وأبناء أبنائهم، ما عرفت الدنيا أبداً أكمل ولا أشرف من أولئك، وإن ضلل المضللون تاريخهم وغطوه بالأباطيل والترهات، ولكن الواقع واقع، والله! ما عرفت الدنيا أمة أكمل ولا أعز ولا أطهر ولا أصفى من تلك الأمة، بم؟ بالبلشفية الحمراء؟ بالديمقراطية الهابطة؟ باليهودية المبتدعة؟ بالنصرانية الهالكة؟ بالمجوسية الممزقة؟ بم؟ بالقرآن، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لازمة للقرآن؛ إذ عهد إليه ربه بأن يبين: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فلا غنى عن رسول الله أبداً، ولا تفهمن دين الله بدون رسول الله، فهو المبين المفسر.إذاً: هم الذين فعلوا بنا ما فعلوا، فهل من عودة؟ نحتاج إلى تربية ربع قرن، خمس وعشرين سنة، لو نأخذ في تربية أنفسنا خمساً وعشرين سنة فإنه يهلك من يهلك وينشأ النشأ المبارك، وفي استطاعتهم بإذن الله أن يحولوا العالم إلى كتلة من نور، وسيأتي هذا أحببتم أم كرهتم، أحب الخصوم أو كرهوا، حلف رسول الله أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، فلا يبقى يبت مدر ولا وبر إلا دخله بعز عزيز أو بذل ذليل، والآن العالم يتخبط يبحث عن المخرج، وخمت الدنيا وتعفنت بالخبث والباطل والشر والفساد، فمن يطهرها؟ بأي وسيلة، بأي منهج أو مبدأ؟ لا وسيلة إلا الإسلام.

طريق العودة إلى الله تعالى لهداية العالم وسيادته

وقد قلنا غير ما مرة: هيا بنا نراجع الطريق، وبسهولة وبيسر، لا كلفة، لا مشقة أبداً، فما الطريق؟ الجواب: أهل القرية المسلمة -سواء كانت في رءوس الجبال أو في السهول- يتعهد أهلها وهم مسلمون ولو صورياً، يتعهدون بأن ينزلوا بيت ربهم كل ليلة، من غروب الشمس إلى أن يصلوا العشاء وهم في المسجد بيت ربهم مع نسائهم وأطفالهم ورجالهم.أعيد فأقول: العودة هي أننا نلتزم في صدق، في جد وحزم أن لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا ولد عن بيت الرب في القرية، ذلك الجامع الذي يجمعنا، وكل ليلة نتلقى فيه الهدى من الكتاب والحكمة، وكذلك المدن ذات المناطق أو الأحياء المتعددة، ويقال لشيخ الحارة أو عمدة الحي: يا صاحب المكانة! قل لأهل حيك هذا: لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا ولد عن المسجد إلا مريض أو ممرض للضرورة، الكل في بيت الرب، ومن المغرب إلى العشاء يتلقون الكتاب والحكمة ويزكون أنفسهم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.معاشر المستمعين -وفيكم العلماء والفحول والبصراء والساسة-! هل هذا العمل يوقف دولاب الحياة؟ هل تكسد التجارة، تتعطل الزراعة، تنتهي الصناعة؟ ما الذي يصيب الأمة من كونها تتفرغ من المغرب إلى العشاء لتتلقى الكتاب والحكمة، ما الذي يحدث، ما الذي يحدثه هذا التفرغ بين المغرب والعشاء؟ والله! أنه لتنمو معه التجارة، ويبارك الله في الصناعة، ويبارك في الزراعة، وما ينقص شيء، والله! لتتضاعف النتائج. ولما نجتمع في بيت الرب اجتماعنا هذا سنة واحدة كيف تصبح قلوبنا وأرواحنا، هل تطهر أو لا؟ هل تزكو أو لا؟ وإذا زكت الأرواح وطابت النفوس هل يبقى شح بيننا، هل يبقى بخل فينا، هل يبقى خبث عندنا، هل يكون هناك من يفكر أن يفجر بامرأة أخيه، أو من يتسلط على أخيه يضره ويؤذيه؟ والله! ما يكون. وينتهي السرف وحب الدنيا والشهوات، ووالله! ليتوافرن المال فماذا يصنعون به؟ وأقول: والله العظيم! لن ترتفع لنا راية ولن نسود العالم إلا بالعودة إلى هذا المنهج المحمدي، هذه مسألة سهلة أو صعبة؟ ما المانع إذاً حتى نصبح علماء ربانيين؟

مقترح بتكوين لجنة إسلامية ممولة لمتابعة أحوال المسلمين

وأخرى أعلنها أيضاً لعلكم تنقلونها، وما عندنا من ينقل، وإن نقل فإنه ينقل الخطأ، إذا أخطأ الشيخ فيا ويحه، لا يبيت الخطأ إلا في الشرق والغرب، كأننا لا نرصد إلا الخطأ، فلا تعجب؛ فمن ربانا، وفي حجور من تعلمنا؟أقول: الآن الفرصة ذهبية، لو تكونت لجنة عليا للإسلام يساهم فيها كل بلد إسلامي، هذه اللجنة العليا تضرب ضريبة على كل مؤمن يدفعها، سواء شهرية أو سنوية، فتوجد ميزانية للإسلام هي أكبر ميزانية في العالم، لم؟ لأنه يسهم فيها ألف مليون مسلم، ثم بعد ذلك تكون لجنة أخرى تطوف العالم، تزور اليابان والصين وأمريكا وأوروبا، وتتعاهد الجمعيات الإسلامية، وتعرف موطن كل جماعة وما هي فيه وما هي عليه، مع سرية كاملة، لا تبجح ولا إعلانات، ثم تتولى إنفاقاً حقيقياً على تلك الجمعيات الموجودة في العالم الكافر، تقدم الكتاب الذي يجب أن يجمع القلوب ولا يفرقها، وتبعث بالإمام والمربي الرباني الذي يربي ويزكي النفوس ويعلم الكتاب والحكمة، وهكذا، فما هي إلا فترة وإذا بتلك الجاليات عبارة عن كواكب من النور، عبارة عن كواكب نورانية، إذ ما يبقى بينهم من يسرق أو يفجر أو يكذب أو يجهل أو يقلد الباطل أو يمشي في ركاب الظالمين، ويوم يتم هذا فسوف تشاهدون الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. والفرصة متاحة، فقد بلغنا اليوم أن بفرنسا ألف مسجد، فلو أن هذه اللجنة الإسلامية العليا التي يجب أن تكون نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأخذ في نشر الإسلام بالتي هي أحسن والدعوة الربانية، وقد وجد من يحملها، لا يوجد في أمريكا ولا اليابان ولا الصين مكان خالٍ من مسلم ومسلمة، فقط يحتاجون إلى أن يصبحوا نورانيين لينيروا الحياة أمام الناس. فهاتان الخطوتان ما المانع أن نقوم بهما في بلاد المسلمين؟ فقط نتعلم الكتاب والحكمة، ونجتمع في بيت ربنا، فما يبقى فينا من يخرف، ما يبقى فينا من يقول بالبدعة ولا بالخرافة ولا بالضلالة، ما يبقى فينا إيمان ضعيف هزيل ما يقوى صاحبه على أن يقول كلمة الحق أو ينهض بواجب، وينتهي ما نشاهد من ألوان الباطل والشر والفساد في العالم الإسلامي، وفي العالم الآخر، فتلك الجمعيات التي توجد بالفعل تنمى في خمس وعشرين سنة، فيدخل الناس في رحمة الله، فما المانع؟ فبلغوا، بلغوا رابطة العالم الإسلامي، وقد كتبنا هذا في الكتب، ولكن:لقد أسمعت لو ناديت حياًولكن لا حياة لمن تنادي

تفسير قوله تعالى: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ...)

ونعود إلى السياق الكريم، قال تعالى: فَإِنْ آمَنُوا [البقرة:137] أي: اليهود والنصارى، بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137] أيها المسلمون، آمنا بماذا؟ أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حق وأن النار حق، آمنا بأن الله لا يعبد إلا بما شرع وبين رسوله صلى الله عليه وسلم. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137]، وهو أن الأنبياء والرسل كلهم أنبياء الله ورسله، لا نفرق بين أحد منهم، لا فرق بين موسى وهارون ولا عيسى ومحمد، ولا إبراهيم وإسحاق، آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فإن آمن اليهود والنصارى المتبجحون الذين يقولون لنا: كونوا هوداً أو نصارى؛ إن آمنوا بمثل ما آمنتم به فَقَدِ اهْتَدَوا [البقرة:137]، فقد اهتدوا إلى ماذا؟ إلى سلم الكمال، وسلم الرقي والسعادة في الدنيا والآخرة، اهتدوا إلى معرفة الحق من الباطل والخير من الشر والكمال من النقصان، عرفوا الطريق إلى الله عز وجل.

معنى قوله تعالى: (وإن تولوا فإنما هم في شقاق)

وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137]، يا لله هذا الشقاق! فـ(شقاق) هنا نكرة تفيد التهويل، أي: في شقاق عظيم، وصدق الله العظيم، فقد تولوا وأعرضوا وما قبلوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقيت اليهودية والنصرانية وبقي أهلها، إذاً: هم في شقاق عظيم بعيد طويل معنا. ومعنى الشقاق: من الشق، فهناك شق وهنا آخر، هذا الشقاق، ما هناك اتصال، أنتم وإياهم في شقاق بعيد كبير، شخص يقول: لا إله إلا الله وآخر يقول: الآلهة ثلاثة، فكيف يتفقان؟ شخص يقول: الربا والزنا حرام، وآخر يقول: الحياة متوقفة عليه، كيف نلتقي معهم؟ شخص يقول: الصدق والوفاء والحب والطهر، وآخر يقول: على الخيانة والكذب والزندقة تعيش الحياة، فكيف نتفق؟ سبحان الله العظيم! اسمعوا كلام الله: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137] أيها المسلمون فَقَدِ اهْتَدَوا [البقرة:137]، إلى أي شيء اهتدوا؟ إلى طريق كمالهم وسبيل سعادتهم ونجاتهم، اهتدوا إلى الحق وتركوا الباطل وراءهم. وَإِنْ تَوَلَّوْا [البقرة:137]، ما معنى: تولوا؟ رفضوا الإسلام، رفضوا لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، تولوا عنه ورجعوا إلى الوراء بعدما جادلوا ووقفوا أمامكم، فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137]، أقول: في شقاق بينهم، بين اليهود والنصارى إلى الآن، وإن كان اليهود نجحوا فيما علمتموه وقررناه وكررناه مرات، اليهود نجحوا في إيجاد البلشفة الماركسية العلمانية، استطاعوا أن يجهلوا النصارى ويبعدوهم عن دينهم ويجعلوهم حرباً على الإسلام، الآن تستطيع أن تجد 1% ما زال يعتقد النصرانية ويعيش لها، و99% لا يؤمنون، فمن فعل بهم هذا؟ اليهود بنو عمنا، أتدري لم؟ كان النصراني الصليبي إذا نظر إلى اليهودي فكأنما نظر إلى قاتل إلهه، ما يستطيع أن يفتح عينيه فيه أبداً، ولا أن يرضى عنه ولا يحبه أبداً، كيف وهو قاتل إلهه؟ فمن صلب عيسى في نظر النصارى، من صلبه وقتله، أليس اليهود؟ كيف تحب الذي يقتل إلهك؟ عاشوا قروناً وهم أشد بغضاً لليهود حتى من الإسلام، فكيف تحولوا؟ إنه صنع اليهود، استطاعوا أن يذوبوا معتقدهم تذويباً كاملاً وهم لائكيون لادينيون، وبقيت جماعات التنصير والذين يعيشون عليها يدافعون عنها وينشرونها بين المسلمين، أحقيقة هذا أو دعوى باطلة، هل هناك من يرد علي؟ هذا هو الواقع، فخف الضغط على اليهود. بل عندنا دليل قاطع: منذ كذا سنة أعلن بولس الثامن قبل موته بأن اليهود برآء من دم السيد المسيح! ونشر في الصحف وأذيع في الإذاعات، قالوا: اليهود برآء من دم السيد المسيح، أي: ما قتلوه، إذاً: فلم تبغضونهم وتحاربونهم؟ وقلنا: صدق الله العظيم الله، أكبر.. الله أكبر، نحن نقرأ قول الله تعالى من سورة النساء: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، وهم الذين يقولون: قتلوه، منذ ما يقرب من ألفي سنة وأنتم تكذبون وبعد ذلك ترجعون؟! ارجعوا إلى الإسلام وقولوا: آمنا بالله.إذاً: فهم في شقاق فيما بينهم، ولولا هذا السحر اليهودي لكان النصارى ضد اليهود واليهود ضد النصارى أعداء ألداء، يكفيك أنه يعتقد أنه قتل إلهه، هل هناك أكثر من هذا؟ وأما بيننا وبينهم فالشقاق دائم حتى يدخلوا في رحمة الله، أو حتى نتنصر أو نتهود والعياذ بالله وتنتهي المعركة، ولن يكون هذا أبداً، سيبقى هذا النور مهما طالت الأيام.

معنى قوله تعالى: (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم)

ثم يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ [البقرة:137]، فسيكفيك يا رسول الله الله، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] فلا تخفهم، وهل صدق الله في وعده لرسوله أم لا؟ قال: فسيكفيكهم، فقد تآمروا على قتله ثلاث مرات ونجاه الله، وهل يعرف المؤمنون أن اليهود تآمروا على قتل نبيهم أو لا؟ فبنو النضير أرادوا أن يلقوا عليه رحى من السطح على رأسه، وهيئوها وتآمروا، وقبل أن يطلقوها نزل الوحي: قم يا رسول الله، فقام من عندهم، هذه واحدة وقبلها سحروه في بئر ذروان وأرادوا قتله، وبعدها أطعموه السم في خيبر، وكم أتى من يريد أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم. والأحزاب من حزبهم وجمعهم؟ من جمع العرب من الشرق والغرب والجنوب وجاء بهم إلى المدينة لقتل رسول الله وأصحابه؟ أليس هو حيي بن أخطب اليهودي؟ هو الذي حزب الأحزاب.إذاً: قولوا: صدق الله، فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] سميع لأقوال العباد عليم بحركاتهم، لا يحدث شيء في الكون إلا والله قد سمع حركته وعلمها، فلهذا إذا وعدك بكفاية فلا تخف، فهو قادر على أن يكفيك همك وكربك وأعداءك، لو قال تعالى: فسيكفيكموهم لقلنا: الله أكبر! لو كانت الآية: (فسيكفيكموهم أيها المؤمنون) لانتهينا، لكن الله علم أننا نتخلى عن دعوة الحق، وحينئذ نتعرض لذلك، ومع هذا فأيما جماعة مؤمنة في إقليم، في بلد، في دولة، في مملكة، في جمهورية يستمسكون بحبل الله حق الاستمساك؛ فإن الله تعالى يكفيهم الشرق والغرب والإنس والجن، أما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257]؟ أما قال: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]؟ ويتجلى ذلك في الفرد، في الأسرة، في القرية، في الإقليم، أيما عبد آمن حق الإيمان واتقى الله وجاءت الولاية فوالله لو كاده أهل الأرض ما كانوا ليؤذوه، ولكن حالنا كحالهم.
تفسير قوله تعالى: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون)
ثم قال تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، تعرفون الصبغة والصباغين، فالثوب الأبيض يصبغونه فيصير أصفر، هذه الصبغة، نحن صبغنا الله بصبغة لا نظير لها أبداً، ألا وإنها الإسلام، ألا وإنها الحنيفية ملة إبراهيم، ما هي صبغة اليهود والنصارى، النصارى إذا ولد الولد ففي اليوم السابع يأتون بالماء والزعفران أو بماء ندي، ويغمسونه فيه ويقولون: صبغناه فلن يموت إلا نصرانياً، من الآن يفعل ما يشاء فهو نصراني، عرفتم هذه الخرافة أو لا؟ هكذا تكون النصرانية، واليهود يفعلون مثلهم، هذه هي صبغتهم. أما صبغة الله لنا فهي أننا أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، أهل الإسلام، أسلمنا لله قلوبنا، فلا تفكر إلا فيه ولا تتحرك إلا من أجله، وجوارحنا مقبلة عليه لا نرى إلا الله، هذه هي الصبغة التي صبغنا الله بها، وهي ملة أبيكم إبراهيم، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، فمن صبغه الله بصبغة الإيمان والتوحيد هل يستطيع واحد أن يصبغ بمثلها؟ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138]، والله! إنا لك يا رب عابدون، ومعنى عابدين: مطيعون مستقيمون على منهجك خائفون منك، راغبون وطامعون فيك، لا نعبد غيرك، ولا نؤله سواك، ليس لنا إلا أنت يا رب، ونحن لك عابدون، إن شاء الله نصدق في هذا، فقولوا: آمين. لا نعبد دنيا ولا شهوة ولا هوى، ولا منصباً ولا رياسة، لا نعبد إلا الله جل جلاله وعظم سلطانه. أرأيتم كيف علم الله رسوله والمؤمنين كيف يقولون؟ قولوا: صبغة الله لا صبغة اليهودية والنصرانية، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138].

تفسير قوله تعالى: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ...)

ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ [البقرة:139]، اليهود قالوا: كونوا يهوداً، والنصارى قالوا: كونوا نصارى، قل: أتحاجوننا في الله؟ تريدوننا أن نكفر به، أن نصفه بصفات العجز والنقص، ماذا تريدون من المحاجة في الله؟ أو المعنى: أتحاجوننا في دين الله. قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139]، نحن أعلم منكم بالله، أليس كذلك؟ أدنى مؤمن أعلم بالله من عامة اليهود والنصارى، فكيف يحاجوننا في ربنا، يريدون أن يجعلوه ثلاثة، يريدون أن يصفوه بصفات العجز كالإنسان كما يفعل اليهود، فهذا غير ممكن أبداً، قل لهم يا رسولنا: أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم أيضاً، أوليس بربهم؟ هل هناك من يقول: ليس بربنا؟ من خلقك أنت، من خلق أمك وأباك؟ من خلق الأرض تحتك والسماء فوقك، من أوجد هذا الكون، من خلقه؟ إنه الخالق، وهم يعترفون بهذا. وقوله: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [البقرة:139]، هذا فيه تهدئة للموقف، بعد الصراع أعلمهم أن أعمالنا لنا وأعمالكم لكم، من يجزي بها ويثيب عليها أو يعاقب؟ الله، أعمالكم إن كانت صالحة فأجرها لكم، وإن كانت فاسدة فجزاؤها عليكم، ونحن كذلك أعمالنا إن كانت مرضية لله وفق مراد الله أنتجت الطاقة النورانية وأثابنا عليها، وإن كانت مخالفة لرضا الله وما شرع فجزاؤها علينا: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [البقرة:139].

معنى قوله تعالى: (ونحن له مخلصون)

ولكن الختام الأخير: وَنَحْنُ لَهُ [البقرة:139]، لا لغيره، مُخْلِصُونَ [البقرة:139]، كل أقوالنا، كل أعمالنا، كل حركاتنا، كل سكناتنا، كل دنيانا لله عز وجل، ما عندنا غير الله، لا نلتفت إلى سوى الله عز وجل. ومعنى إخلاص العمل لله بيناه غير ما مرة، لماذا أنتم جالسون هنا؟ لله، لماذا تنصرفون؟ لله، وتتناول الطعام باسم الله وعلى ذكر الله، وتنام لله، والذين يخرجون ويذهبون إلى الباطل والشر هل عملهم لله؟ معاذ الله. وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139] أقوالنا، أعمالنا، نياتنا، حركاتنا، سكناتنا.. الكل خاص بالله، وهذا شأن المؤمن.وكثيراً ما نبين للسامعين أننا وقف على الله، والوقف كما يقال: هذا العمارة وقف على طلبة العلم، غلتها توزع عليهم، هذا البستان وقف على المسافرين، غلته تقسم عليهم ولا يأخذها واحد آخر، والمؤمن وقف على الله، إذا أكل يأكل من أجل الله، إذا شرب يشرب من أجل الله، إذا نام ينام من أجل الله، إذ استيقظ يستيقظ من أجل الله، إذا تزوج فوالله من أجل الله، وإذا طلق فوالله من أجل الله، وكيف يطلق من أجل الله؟ مؤمنة خاف أن يضر بحياتها، فلا بد أن يطلق حتى لا تشقى معه، أو خاف أن يلحقه ضرر هو، إذاً: يفارقها ليبقى عبداً لله معافى في دينه وبدنه، وكذلك يبني، يهدم، يبيع، يشتري، أعمالنا كلها لله. هل بلغكم قول الله تعالى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، ما معنى (إنا لله)؟ فكيف تقول: أنا لله ولا تعطي الله منك شيئاً، فهذا كذب، من قال: إنا لله فمعناه: نقوم ونقعد، نبني، نهدم، نسافر، كل أعمالنا لوجه الله، أم نكذب فنقول: إنا لله ولا نعطي لله شيئاً! هذه خيانة، كيف يقال: هذا الوقف على فلان وما يعطيه ريالاً؟ هل يصح هذا الوقف؟ فنحن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فلهذا لا نكرب ولا نحزن بوفاة أصدقائنا أو أبنائنا أو أهلينا؛ لأننا راجعون إلى الله، فكيف تكون راجعاً إليه وتكرب وتحزن؟ إذاً: إنا لله وإنا إليه راجعون.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-25, 08:33 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (93)
الحلقة (100)



تفسير سورة البقرة (2)

القرآن الكريم هو النور الذي يهتدي به المتقون، لأنهم من يتدبر آياته ويعمل بها، ولهذا وصفوا في أوائل آيات سورة البقرة بجملة صفات يجب على كل مسلم أن يتحلى بها، وهي الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإنفاق في سبيل الله، والإيمان بالكتب المنزلة، والإيمان باليوم الآخر، وبيّن القرآن أن من تحلى بهذه الصفات كان على هدى من ربه، وحاز الفوز في الدنيا والآخرة.

تابع تفسير قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)

الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نراجع الآيات السابقة؛ إذ ما وفيناها حقها، ولا تدبرناها كما ينبغي، ولعل السر في ذلك اتباعنا للمكتوب، وهذا غير مجد؛ لأننا نريد أن نكتسب علماً ونوراً، ونريد أن نقف على تخلفنا وتأخرنا عن مسابقة السابقين؛ عل الله يدفع بنا فنسبق، والله يقول: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11].

القرآن الكريم في واقع المسلمين

قال ربنا تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ [البقرة:2] هذا تعظيم وتضخيم لشأن القرآن العظيم، فهل عظمناه وأعلينا من شأنه، ورفعنا من قدره، أو ما زلنا نقرأه على الموتى، ونكتبه في حروز يعلقها المرضى على أنفسهم؟ وهل دخل هذا الكتاب المحاكم وأصبح مصدر التشريع وإصدار الأحكام الإلهية؟ سلوني أجبكم: لقد هجر الكتاب من عشرات بله من قرون عديدة إلا ما رحم الله، فلا يتحاكم إليه اثنان، ولا يجتمع على تلاوته وتدبره اثنان، فهو مهجور، ومن يوم أن هجر الكتاب انقطعت صلة هذه الأمة بربها، وهي تتخبط تخبط المجنون، فما عرفت الطريق بعد؛ لأن القرآن هو الروح وهو النور، وهل تتم حياة بدون روح؟ لا والله. وهل تتم هداية إلى خير .. إلى سعادة .. إلى كمال بدون نور؟ لا والله.وهذا الكتاب فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] يهدي إلى أين؟ بأوجز العبارة: يهدي إلى العز والكمال .. إلى السعادة في هذه الدنيا وفي الآخرة، فهل سعد المؤمنون والمؤمنات؟ نعم سعدوا وكملوا يوم ما تمسكوا به، والتاريخ شاهد، ولا ينكر هذا إلا جاحد ومكابر.والله ما عرفت البشرية منذ أن كانت أمة أكمل، ولا أطهر، ولا أرحم، ولا أعدل، ولا أصفى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قرونها الثلاثة الأولى: عهد الصحابة، وعهد أبنائهم، وعهد أحفادهم.فما سبب عزهم وسعادتهم وكمالهم حتى سادوا العالم وأضاءوا المعمورة وأنقذوها من وهدة لا تتصورونها؟هل كان ذلك بعلوم الكون والذرة، والهيدروجين، والفلسفة، والمنطق، وعلوم التقنية والصناعة؟!الجوا : والله ما هو إلا الوحي الإلهي: قال الله .. قال رسوله، الكتاب والحكمة، وإن جهل المسلمون هذا فقد عرفه أعداؤهم. نعم عرفوا أن هذه الأمة سعدت وارتقت وفازت بالقرآن والسنة، فصرفوا الأمة عنهما إلى الآن صرفاً كاملاً إلا من رحم الله، وما زال المسلمون ما أفاقوا، والقائلون بالصحوة نقول لهم: نحن ما رأينا آثارها، نعم توفرت عوامل وأسباب كانت غير موجودة ومعدومة، ومن ذلك أن الاتصال المباشر بالطائرات والإذاعات وما يبث عبر الأثير حوَّل العالم كله إلى بلد واحد، وأما الصحف والكتب فقد صارت في يد كل من هب ودب، وصار لها تأثير وأوجدت نوعاً من الإفاقة، وكذلك الدعوة التي نهض بها رجال كان لها أثرها، لكن وضع المسلمين ما زال كما هو، فما السبب؟ لا سبب إلا الإعراض عن الكتاب والسنة فقط .. عن الروح والنور، والله يقول: فِيهِ هُدًى لمن؟ لِلْمُتَّقِينَ. ثلاً: لو كان هناك إناء فيه لبن عذب ومغذي، لكن الشارب لم يشربه، فهل ينتقل إليه الغذاء والري والشبع لمجرد أن في الإناء لبناً؟ الجواب: لا. ولو أن قصعة من الثريد بين يدي آكل ولم يأكل فهل يشبع ويتغذى؟ الجواب: لا.وكذلك القرآن، والله إنه لهدى، وفيه هدى، وإذا لم يؤمن به الإنسان، ويقرأه، ويتعرف إلى ما فيه، ويعمل بما فيه فلن يجد هداية أبداً، ولن ينتفع، فقوله: فِيهِ هُدًى [البقرة:2] أي: فيه غذاء، ولكن لمن يتناوله، ولهذا قال تعالى: لِلْمُتَّقِينَ أي: الذين يخافون عذاب الله ونقمه، ويخافون غضبه وسخطه، فهؤلاء الذين خافوا من الله أسرعوا إلى طاعته، وهؤلاء هم الذين يقرءون القرآن، ويتفهمون معانيه وما فيه، ويعملون به؛ لأنهم طالبو الوقاية، ولأنهم يجرون وراء النجاة. أما المعرض الذي لا يخاف الله، ولا يخشاه، ولا يفكر في عذاب، ولا شقاء، ولا حرمان، ولا خسران فلا يقرأ القرآن.

صفات المتقين

لقد ذكر الله تعالى صفات ينبغي أن تكون لنا، وأن نكون متصفين بها، ولا ندعها تمر هكذا مرور الرياح.معاشر المستمعين! عرفتم وتقرر عندكم أن ولاية الله متوقفة على الإيمان والتقوى، ومن فكر هذا التفكير، ومن تساءل: هل نحن مؤمنون؟ وهات القرآن نستعرضه يقرر إيماننا ويثبته أم يدفعنا بعيداً كأننا غير مؤمنين؟ثانياً: ما هي التقوى؟ وكيف يتقى عذاب الله ويجعل بينك وبينه وقاية؟عذاب الله لا يتقى بالأسوار العالية ولا بالجيوش الجرارة ولا بالسلاح القوي ولا بالشعوب القوية. عذاب الله لا يتقى إلا بالإسلام إليه؛ إسلام القلوب والوجوه والانطرح بين يديه، وبهذا يتقى الله.أما أنواع الوقاية الأخرى التي تعرفونها وتقي من الحر والبرد والجوع والعطش والمرض والموت فإنها لا تنفع، ولا يتقى بها عذاب الله.والله يتقى بالإسلام إليه، أسلم تسلم. أعط قلبك لله فلا يدور ولا يتقلب إلا طلباً لرضا الله عز وجل، والتقوى فعل الطاعات، وترك المكروهات.

من صفات المتقين: الإيمان بالغيب

قال تعالى في صفات المتقين: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]، ومعنى هذا أنه أراد أن يقول: المتقون كيف أصبحوا متقين؟ فقال: لأنهم يؤمنون بالغيب، والغيب: ما غاب عن حواسك، فلا العين تبصر، ولا الأذن تسمع، ولا اللسان ينطق، ولا الجوارح تحس أو تشعر، فهو غيب كوجود الله عز وجل، ووجود النار؛ عالم الشقاء والخسران، ووجود الجنة؛ دار السلام، وما فيها من نعيم مقيم.وإن كانت الأدلة والبراهين تغلب ما هو مشاهد، لكن الذي يقرأ كتاب الله ويتدبر فيه ويتأمله في صدق يصبح يرى عالم الغيب كعالم الشهادة أو أشد، فالملائكة عالم غيب، والجن عالم غيب.المهم أن العبد إذا دخل في الإسلام ينبغي أن يصدق الله تعالى ورسوله في كل ما يخبران به، ولا ترد على الله وعلى رسوله خبراً أبداً، ذلكم الإيمان بالغيب.واعلم أن ما أخبر الله تعالى به، وما أخبر رسوله وصح الخبر عنه يستحيل أن يكون على خلاف ما أخبر الله، فالإيمان ركن الولاية، والإيمان كله إيمان بالغيب.إذاً في القرآن هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب، وأركان الإيمان ستة أركان، فإن سقط ركن انهار البناء وانهدم ولم يبقَ إيمان، وقد جاءت مبينة في كتاب الله، وبيّنها حديث جبريل الصحيح في هذا المسجد؛ إذ جاء جبريل عليه السلام في صورة دحية بن خليفة الكلبي ، وكان من رجالات العرب وساداتهم، فجاء والرسول صلى الله عليه وسلم جالس جلوسنا هذا وأمامه أصحابه، فشق الصفوف، ودنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع يديه على ركبتيه، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، بمعنى: يعلمهم كيف تتلقى العلم، ما هو أنت تلتفت أو نائم، وأخذ يسأله عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وأمارات الساعة، والشاهد قوله: ( أخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. قال: صدقت. قالت الصحابة: فعجبنا له يسأله ويصدقه ). وهذا معناه أنه عالم بالموضوع.وهذا الإيمان إذا امتلأ به القلب، وشعت أنواره، وخرجت على اللسان والسمع والبصر صير صاحبه أشبه بالملائكة في طهره، وصفائه، وكماله.

من صفات المتقين: إقامة الصلاة

قال تعالى بعد ذلك: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3].ما هو إقامة الصلاة عباد الله؟ إقامة الصلاة أن تؤدى على النحو والنهج والخطة التي وضعها الشارع، ومن ذلك أنها تؤدى في أوقاتها المنتظمة المحددة، فلا يحل تقديم لها ولا تأخير، وأن تستوفي شروطها من الطهارة الظاهرة والباطنة، وستر العورة، واستقبال القبلة، وأن تؤديها على نحو ما أداها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أداها على نحو ما علمه جبريل إياها، فلما فرضت في السماء ونزل الرسول بها نزل جبريل يومين علمه كيفيتها، وحدد له أوقاتها.فالصلاة إذا لم تؤدَ على النحو الذي شرع الله وبين رسوله فإنها لا تثمر، ولا تنتج، ولا تولد الطاقة النورانية، ومن أراد أن يقف على الحقائق يجد أن ملايين المسلمين يصلون، ومع ذلك يتعاطون كبائر الذنوب والآثام.يخرجون من المسجد فيلغون في أعراض بعضهم البعض، ويخرجون من المسجد ويتعاطون المحرمات والخبائث، أين آثار الصلاة؟!إذاً: صلاتهم باطلة، ولا تساوي فلساً ولا درهماً؛ لأنها ما أنتجت، وما ولدت النور، واقرءوا قول الله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] ولو سائل قال: لم يا ألله؟ لقال تعالى مبيناً الحكمة في ذلك والعلة: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. والرسول صلى الله عليه وسلم وهو أستاذ الحكمة ومعلمها يقول: ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ) أي: والله لا صلاة له، وسبب بطلانها أنه ما أداها كما بينها رسول الله، وما أنتجت الطاقة واختل تركيبها وما أدت ثمرتها، وهذا أمر معقول.وكثيراً ما نقول: تجد المصلي يصلي أمام فقيه، فيقول له الفقيه: يا فلان! صلاتك باطلة. فيقول: لم يا أيها الفقيه؟ يقول: لأنك ما خشعت فيها، رأيتك تلعب، وما اطمأننت لا في ركوع، ولا في سجود، ولا في قيام، ولا في اعتدال.والفقيه لا يعرف إلا أنها صلاة باطلة قد فسدت، ونحن نقول: إنها ما ولدت النور، وما أنتجت الطاقة، واختل تركيبها، واختل أداؤها، ولهذا يخرج من المسجد ليعاقر الخمر والحشيش. إذاً: ما قال: يصلون، إنما قال: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة .وقد قررنا قبل عشرات السنين والحمد لله رب العالمين وقلنا: والله الذي لا إله غيره لو أن أهل قرية أو مدينة أو إقليم أقاموا الصلاة لاستغنوا عن البوليس والشرط، وإذا لم يقيموا الصلاة فوالله لا ينفعهم لا بوليس ولا شرط، ولابد من الخبث، والشر، والفساد، وظلم العباد.ولو أننا ذهبنا إلى المسئول عن الأمن في المدينة وقلنا له: من فضلك أعطنا قائمة بالمخالفين أو المرتكبين للجرائم. فقال لنا: عندنا خمسمائة جريمة ارتكبت في هذا الشهر، هذا لعن أباه، وهذا سرق جاره، وهذا غنى مع امرأة فلان .. وغيرها من الجرائم والذنوب. ثم نقول له: إن وجدنا نسبة المقيمين للصلاة في ذلك العدد تتجاوز خمسة في المائة اذبحوني، نتحدى دائماً وأبداً، والله ما يوجد، الخمسة والتسعون الباقية هم من تاركي الصلاة، ومن العابثين بها. وتفضلوا زوروا الشرط واسألوهم يعطوكم قائمة بالمجرمين، فإن وجدتم أكثر من خمسة في المائة -والشذوذ يقع ولا حكم له- هم من المصلين فلكم أن تذبحوني.إذاً لمَ لا نلزم المسلمين بإقامة الصلاة؟! ولمَ ما نفرض عليهم ما فرض الله؟ ولمَ ما نمنعهم من أن يتجولوا في الشوارع والصلاة قائمة؟ ولمَ ما نطالبهم أن لا يتخلف عنها إلا ذو عذر كمرض أو خوف؟!قالوا: دعهم من شاء يصلي ومن شاء يغني. فامتلأت الدنيا بالخبث والشر والفساد، ونحن شبه أحياء أو أموات. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة:55] يا عباد الله! الصلاة ميعاد، ولقاء مع الله تعالى، فمولاك وسيدك وربك ينتظرك في بيته وأنت تغني وتلهو وتلعب!والعالم الإسلامي ليس فيه إلا هذه الديار يؤمر أهلها بالصلاة، ومع هذا فيها المكر والكيد حتى لا يبقى من يقول: قم صل. وهذه الكلمة يتألم وينقبض منها الهابطون والساقطون.وأنا أقسم بالله ما تحقق أمن ولا طهر في هذه الديار على دولة عبد العزيز ما تحقق في أي بلاد وأي إقليم إلا في القرون الثلاثة، والسبب أنهم أقاموا الصلاة إجبارياً.والعدو يعمل ليل نهار، ويهول من شأن الأمر بالمعروف وإقامة الصلاة حتى لا يبقى هذا النور.إذاً إقام الصلاة هي مواعيد منتظمة مع رب الأرض والسماء، فيقف عبد الله بين يديه، يتكلم معه ويناجيه: يا رباه! لكن هذا اللقاء ينساه عبد الله بعدما يخرج، وهذا لا ينفعه، فالذي يدخل وهو غير شاعر لماذا دخل! يكبر ويهلل لا يدري مع من هو يتكلم، فهذه الصلاة لا تنتج له الطاقة المطلوبة.

من صفات المتقين: الإنفاق

الصفة الثالثة: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] انظر: الصلاة والزكاة! الدنيا تحتاج إلى الزكاة، والآخرة تحتاج إلى الصلاة.نحن ما أمرنا أن نموت، وأن نذل ونهون حتى نمنع من عبادة الله، الدنيا والآخرة نعمل لهما معاً، وإن كنا نؤثر الآخرة عن الأولى لأنها خير وأبقى.وإن كان ولابد فإننا نعطي للدنيا ما تتطلبه من أجل أن نحفظ وجودنا لنعبد ربنا، فالإنفاق مقابل إقام الصلاة، والصلاة إذا أهملت وتركت وضيعت وعبث بها العابثون هبطت الأمة ولصقت بالأرض، والزكاة إذا منعت ما أصبح للأمة قدرة على أن تظهر أو تتحرك.والأمة الآن ثلاث وأربعون دولة، من إندونيسيا إلى المغرب إلى موريتانيا، هل جبيت فيها الزكاة كما كانت تجبى على عهد رسول الله؟ واسألوا الحكام والمسئولين ووزراء المال والاقتصاد والدولة لمَ ما يجبون الزكاة؟ هل هم في غنى وما هم في حاجة؟! نعم لو كانت تحتك الذهب وفوقك الذهب فهذه عبادة وطاعة كالصيام والصلاة، فيجب أن تجبى الزكاة، هل جبيت في الشرق والغرب؟ الجواب: والله ما جبيت إلا هنا فقط. لمَ؟ لأن هناك من يديرنا ويتصرف فينا حتى نلصق بالأرض، ولن يصبح لنا وجود بين الشعوب والأمم، فعرفوا أن الزكاة وجبايتها ترفع من شأن الأمة وتعزها ولا تذلها، فأهملوا هذه القاعدة كما أهملوا إقام الصلاة.والشعوب الإسلامية ادخل واخرج من شاء أن يصلي ومن شاء لا يصلي، بل يسخرون من المصلين ويستهزئون بهم، وخاصة في الدوائر والمناطق الرفيعة، ونقول: مسلمون، وننتظر الكمال والإسعاد! وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] يشمل الزكاة وغيرها.وهل تريدون الوجه الحقيقي؟لو اجتمع أهل قرية خمس مرات في بيت ربهم، لأصبحوا متعارفين ما بينهم مجهول، ثم وضعوا في مسجدهم صندوقاً لجباية الزكاة والكفارات والصدقات التي يتملق بها المؤمنون إلى ربهم، ونحن ليس عندنا لصوص؛ فأهل القرية كلهم أولياء الله، وإن جاء لص من القرية الثانية فلا يستطيع، لأن نور الإيمان يمزق بطنه، ولا يقوى على أن يدخل المسجد، وإن قلتم: ها أنتم جعلتم حراساً على بيوت المال والبنوك، نقول له: أما بيت الله فلا يحتاج؛ لأن هذا البيت سيكون كخلية النحل هذا راكع وهذا ساجد.فهذا المال -والله الذي لا إله غيره- ليفيضن على أهل القرية، فيتسع لفقرائها، ويسد حاجتهم وخلتهم ويفيض، وما خرجنا أبداً عن مبدأ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3]، فكيف يوجد بينهم سارق، وكذاب، ومن يحلف بالباطل، ومن يستلف ولا يرد السلف ..؟! لا يوجد. لأنهم عرفوا الله، واجتمعوا في بيته طول حياتهم، يتلقون الكتاب والحكمة، أصبحوا كلهم علماء وحكماء وأولياء، ولا تسأل عن مظاهر السرف والترف والبذخ فهي لا توجد بينهم أبداً، وهذا المال إذا فاض حولوه إلى جهات أخرى، فلا تجد بينهم من يمد يده أبداً، ولا من تظهر عورته أو من لا يستره شيء، فهم متراحمون متعاونون؛ لأنهم جماعة يتهيئون للنزول في السماء السابعة.

من صفات المتقين: الإيمان بالكتب كلها

الصفة الرابعة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4]، ومعنى هذا أنهم علماء، عقلاء، عرفاء، آمنوا بالوحي الإلهي سواء نزل على محمد صلى الله عليه وسلم أو على موسى أو على عيسى أو على داود أو على إبراهيم، وهاهنا أدخل الله أهل الكتاب المؤمنين في حظيرة الإسلام والمسلمين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وهم نحن الذين ما سبق أن أعطانا الله كتاباً، والذين يؤمنون من قبل يعني: مؤمنو اليهود ومؤمنو النصارى، يؤمنون بالقرآن وبالتوراة والإنجيل.

من صفات المتقين: اليقين بوعد الآخرة

الصفة الخامسة: وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] المراد من الآخرة الحياة الآخرة، وهذه الحياة تسمى الأولى؛ لأنها سبقت الثانية، ولما تنتهي هذه الحياة بموتنا وانتهاء هذا الكون وتحويله إلى سديم وبخار هناك حياة أخرى وراء هذه تسمى الدار الآخرة، والحياة الآخرة، وتسمى الآخرة. وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فاليقين أكثر من الإيمان، علم طغى وعلت أنواره وأصبح يقيناً يرضى به العبد أن يمزق ويقتل ويصلب، ولا يستطيع أحد أن ينكره أبداً.(وبالآخرة) أي: بكل ما فيها من الحشر، والنشر، وتطاير الصحف، والميزان، والصراط، ودخول الجنة، ودخول النار.(هم يوقنون) ما قال: يؤمنون بل (يوقنون) فالنفس تهدأ وتستقر، ولا يبقى قلق ولا اضطراب ولا شك.

الفلاح للمتقين

اسمع البيان الأخير أُوْلَئِكَ أين هم أكمل الخلق وأعلاهم وأصفاهم؟ أشار إليهم بلام البعد، وما هم هابطين مثلنا، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:5] أصبح الهدى كالفرس وهم راكبون عليه، فلا يتزعزعون، ولا يتضعضعون أبداً، ولا يمكن أن ينحازوا أو يهبطوا أو يسقطوا، فهم متمكنون؛ لأن إيمانهم بالغيب، وإقامهم للصلاة، وإنفاقهم جعلهم متمكنين من عقيدتهم.قال تعالى: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] فأولئك هم وحدهم المفلحون، وما عداهم هم الخاسرون.والفلا مأخوذ من فلح الأرض إذا شقها، والفلاح فسره تعالى بالفوز فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، وفسره في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] هذا إعلان، هل هناك من يقول: لا ..لا، إلا نحن ما نموت. وهل استطاعت البلشفية الحمراء -روسيا- أن تتعدى هذا وتقول: لا، عندنا قدرة على أن لا يموت الرئيس؟ مات ستالين أو لا! ومات لينين أو لا! ومات خروتشوف أو لا! مات مات .. ماتوا جميعاً، كيف يموتون؟ مع هذه الصناعة، وهذا التطور، وهذا الرقي يموتون؟! نعم؛ لأن حكم الله صدر كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] والموت يذاق أو لا؟ سوف تذوقونه، آلام ومرارة، ما تستطيع أن تدركها بأي شعور عندك أو إحساس. وقال تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:1-2] قطعة القماش الحريرية إذا أخذتها وألقيتها على شجرة السدر ذات الشوك وجذبتها فكل خيط يلصق، وهذا أهون من نزع الروح. مع أن أرواح أولياء الله المؤمنين المتقين تسيل كقطرة الماء من السقاية وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:1-2].والرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت يعاني، ويضع يده في ركوة ماء ويمسح على وجهه في اللحظات الأخيرة ويقول: ( إن للموت لسكرات، اللهم في الرفيق الأعلى )، وفاضت روحه وهو ينظر إليها.وخيرنا من يلازم باب الله حتى لا يبعد، بل يموت وهو يقول: لا إله إلا الله. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185].أيها العمال! اعملوا ولا تطالبوا بالأجر اليوم؛ لأن الأجرة يستلمها العامل عند نهاية العمل، فإذا كانت مياومة ففي آخر المساء، وإذ كانت مشاهرة ففي نهاية الشهر، وإذا كانت معاومة ففي نهاية العام، فلِم تطالبون بالأجرة مع الله في يومها؟ أكملوا يومكم! وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185] فمن عمل خيراً أو عمل شراً فإنه لا يستلم الأجر هاهنا، فهذه دار عمل ولا تطالب بالأجر أبداً؛ لأن الأجر ليس في هذه الدار. قالوا: ما نعمل ولا نأخذ أجراً. تضحكون على من أدار الكون كله، وأوجد الحكمة!واسمع هذا البيان العجيب: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فلا دينار ولا درهم، ولا ذهب ولا فضة، والذي يزحزح عن النار بعيداً ويدخل الجنة فهذا هو الذي أفلح وفاز، وهل هناك فوز أعظم من أن تنجو من مرهوبك ومخوفك، وقلقك وحيرتك، وتستقر في دار السلام؟! اللهم اجعلنا من أهلها!

تفسير قوله تعالى: (إن الذي كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)

قال تعالى بعد ذلك: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] لِم؟ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] من هؤلاء؟ والله لا ندري، ولعلنا منهم ونحن لا ندري؟!قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وهذه هي البلية والمحنة، فقد جاءتهم من كفرهم، ومعنى كفروا: لم يؤمنوا، فجحدوا، وكذبوا، وما صدقوا، لا بتوحيد الله ولا بنبوة رسول الله. أي: ما قالوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وهناك صنف آخر ما توغلوا في الكفر والعناد والتكذيب والجدال واللجاج والخصومة، وهؤلاء بالإمكان أن يؤمنوا، فواصل أيها الداعية دعوتك، ولا تلتفت لا يميناً ولا شمالاً! وامض في طريق الدعوة.واعلم أن الذين تواجههم الدعوة صنفان:صنف حرموا الإيمان، عملوا .. عملوا وليس فيهم بقية تقبل الإيمان، ولو وضعت بين أيديهم ما شئت من المعجزات لم يؤمنوا، بل يسخرون ويضحكون.وآخرون .. لا، كفروا حقاً ولكن ما توغلوا في الكفر، وما فعلوا عجائب الذنوب والآثام، فهؤلاء مستعدون لأن يقبلوا الدعوة ويدخلوا في الإسلام. لكن هناك نوع آخر هم الذين قال تعالى فيهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ خوفتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، وليس معنى هذا: اترك دعوتهم يا رسولنا .. لا، فقط: حتى لا تكرب، ولا تحزن، ولا تتألم إذا واجهوك بالعناد والمكابرة والتكذيب، وأنت معهم ليلاً ونهاراً، تنذرهم وتخوفهم وهم يزدادون في طغيانهم طغياناً، فهؤلاء يستوي إنذارك لهم وعدمه. فاعرف هذا النوع؛ حتى لا تحزن، ولا تترك الدعوة، وواصلها.سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] وقد عرفنا منهم: أبا لهب ، أبا جهل ، الوليد بن المغيرة ، العاص بن وائل وفلاناً وفلاناً، فهؤلاء كلهم ماتوا على الكفر، وكم دعاهم رسول الله؟ وكم أنذرهم؟ أكثر من عشر سنوات وهم مصرون.

تفسير قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ...)

قال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7]، فسبب الإعراض وعدم الإيمان أن الله ختم على قلوبهم.والختم ليس بختم غلاف البريد، وأصل الختم كان بالطين .. بالحديد .. على الكيس وعلى الإناء حتى ما يدخله شيء، والآن الختم يكون على الظرف حتى لا يفتح، لكن الأصل أن أي إناء فيه عسل .. فيه زيت .. فيه مال يختم، ويصب عليه نوع من الرصاص أو من النحاس حتى لا يدخل إليه شيء، فهذا هو الختم. خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7]، فهم لا يسمعون، فهؤلاء الذين قد ختم الله على قلوبهم وأسماعهم تجد أنهم قد ألفوا الأغاني، والباطل، والهرج، والعبث، والسخريات، فلا يسمعون الحق، ولا يبصرونه أبداً، والذين ألفوا الباطل وتمرنوا عليه وعاشوه لا تستطيع أن تردهم إلى الحق والخير، ففقدوا هذه الحاسة، وما أصبحوا يتلذذون إلا بسماع الباطل، لكثرة المران والرياضة، فهم سنوات عديدة لا يسمعون شيئاً اسمه حق أو معروف، كأنما ختم على أسماعهم، فلا يدخل أبداً الكلام الطيب، يضحكون ويسخرون.وقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] هذا أولاً، حتى ما ينفذ إليها نور الإيمان، ولِم ختم الله عليهم؟! هل ظلمهم؟ لا والله، إنما هي سنته في من يألف الباطل والشر، حتى يمتلئ قلبه، وينطبع بطابع، فلا يقبل المعروف، وهذه سنة الله؛ لأن الله ختم على قلبه. وَعَلَى سَمْعِهِمْ والختم على السمع كذلك، فيسمع الشر والفساد والخبث ويضحك، ويعبث سنيناً، ثم لا يقبل الهدى. وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ أما الأبصار فعليها غشاوة، كالبياض على العين فلا يبصر؛ لأنه أصبح لا يفكر ولا ينظر في الحياة أبداً، ولا يعرف إلا شهوته وأطماعه وغرائزه، وما يريد أن يصل إليه من أمور الدنيا.وهنا محطة أننا إن أردنا أن ننجو من هذه الفتنة فعلينا: أولاً: أن نفتح قلوبنا لذكر الله، وأن نروضها لتصغي وتسمع كلمات الهدى، وتنفر من كلمات الضلال، خشية أن نصاب بهذه الفتنة، ويصبح قلب أحدنا لا يرتاح لذكر الله أبداً، ولا يرتاح إلا إذا ذكرت الباطل والشر والفساد.إذاً هذه القلوب لابد من رعايتها، ولابد من رياضتها، حتى تسلم من أن ينزل بها ختم كهذا فنهلك.ثانياً: علينا أن نروض أسماعنا على سماع الخير والمعروف والهدى، ونجنبها سماع الباطل من الكذب والأغاني وأي باطل. وكل ما لا يحقق لك درهماً لمعاشك ولا حسنة لمعادك فهو لغو وباطل، وأولياء الله عن اللغو معرضون، فما عندنا أبداً وقت لا يرانا الله تعالى فيه عاملين على رضاه.إذاً: أسماعنا نحفظها من أن تسمع الباطل.وهنا محنة أن يوجد بيت مجاور لنا فيه من يدعي أنه مسلم وفي مدينة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعنده تلفاز تظهر فيه امرأة عاهرة ترقص وتغني في بيته، وهو يسمع وامرأته وأولاده كذلك يسمعون، فتيان وفتيات يشاهدون امرأة عاهرة ترقص وتغني في بيته! فكيف يسلم قلب هذا! ومن يضمن أنه يموت على الإيمان؟ هذا أمر عجب. وقد كتبنا إلى صاحب هذا البيت كتاباً ولو كان في قلبه إيمان لأغمي عليه، لكنه ما تحرك أبداً، وبقي الدش هكذا! كأنه يقول: أتحداك يا محمد.أتظنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضى لكم بهذا؟ هل يرضى أن تسمع عاهرة تغني في بيتك، ويسمعها ابنك وهو يتقزز ويتألم، وتسمعها امرأتك، كيف يمكن هذا؟!هذا والله العظيم يخشى أن يموت على سوء الخاتمة، فيموت وهو غافل لا يدري أو يغني أو السيجارة في يده، فما عرف الله ولا ذكره؛ لأن هذا الختم الإلهي هو حسب سنة الله، ليس فجأة أن تجد الإنسان يصلي ثم يختم على قلبه، حاشا لله، ولكن بعد الاستمرار على المعصية ومواصلتها يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، فيأتي الختم الإلهي، ويصبح يتقزز من كلمة الله.وقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، يعني: أفراداً بأعيانهم علمهم الله، والرسول لا يعلمهم، ولكن يهون الله على رسوله من الكرب والحزن إذا ما استجابوا له؛ بأن الله سبق أن ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ والعياذ بالله.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-27, 10:11 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (94)
الحلقة (101)



تفسير سورة البقرة (61)

نعى الله عز وجل على اليهود والنصارى الجدال والمحاجة في الله عز وجل، وعاب عليهم الافتراء عليه سبحانه والتقول عليه بغير علم، فمنهم الذين زعموا لله الولد والصاحبة، ومنهم الذين زعموا أنه ثالث ثلاثة، ومنهم الذين زعموا أنهم أولياء الله وأحباؤه وخيرته من خلقه وأصفياؤه، وهم في كل ذلك كذبة مفترون، ولنبوة محمد خاتم الأنبياء والرسل جاحدون، ولما أخذ الله عز وجل عليهم من العهد والميثاق كاتمون، فاستحقوا بذلك أن يكونوا ملعونين، ومن رحمة الله ورضوانه مطرودين.
تابع تفسير قوله تعالى: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ...)

ابتداء الصراع واستمراره بين المسلمين وأهل الكتاب

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:139-141].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهان المستمعين تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين أن الصراع بين أهل الكتاب والمسلمين صراع بدأ من ساعة أن حل الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المدينة، والبداية الحقيقية من وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وما زال الصراع إلى الآن وإلى أن تقوم الساعة. والمراد من أهل الكتاب اليهود والنصارى، اليهود يعتزون باليهودية وهي بدعة ابتدعوها ولم يشرعها الله عز وجل، ولم ينزل بها كتاب، ولم يتفوه بها نبي ولا رسول، والنصارى كذلك ابتدعوا النصرانية وجعلوها ملة وعقيدة وديناً، بل ونظاماً، وهم يصارعون الإسلام مصارعة عنيفة.ومن هنا كانت سورة البقرة من أولها إلى هذه الآيات وإلى ما بعدها وهي تبين لهم الطريق وتشرح لهم ما تنشرح له الصدور وتطيب له القلوب والنفوس، فمن أراد الله إكرامه وإنعامه وإسعاده استجاب للدعوة، ودخل في رحمة الله وأصبح من أولياء الله، ومن لم يكتب الله تعالى له السعادة أصر على يهوديته أو نصرانيته وما سكن ولا سكت، وما زال إلى الآن يضرب الإسلام بأشد قوة.

وقوف اليهود والنصارى وراء الفساد في العالم الإسلامي

وخطر ببالي أن أذكر أن هذا الفساد الذي انتشر في العالم الإسلامي سببه اليهود والنصارى، نذكر ولا حرج أنه شاع في ديار الإسلام ضروب من الكبائر يندى لها جبين العاقل، فالربا من سنه ومن قننه ومن جعله نظاماً عاماً تعيش عليه البشرية؟ إنهم اليهود عليهم لعائن الله، حتى السحر من نشره في العالم الإسلامي وأصبح المسلمون نساءً ورجالاً يعانون من هذه الفتنة؟ اليهود هم أهل السحر. وكشف الوجوه والعري والاختلاط بين النساء والرجال وإشاعة الزنا -والعياذ بالله- ما هي عوامله؟ اليهود والنصارى، وزادوا الطين بلة -كما يقولون- في هذه الآلات الناقلة للأصوات والصور فملئوا بها بيوت المسلمين، فهجرتها الملائكة وحلت محلها الشياطين فانتشر الفحش والدمار. لو تتبعنا ما نسميه بحضارة خطوة خطوة فسنجد أنها الدمار لا الحضارة، الخراب لا العمران، البادية أرحم وأحسن.

توبيخ أهل الكتاب في محاجتهم المسلمين في الله تعالى

اذكروا هذا واسمعوا هذا الكلام الإلهي، فماذا يقول ربنا؟ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ [البقرة:139] من القائل؟ الله، من الذي قال له: قل؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قل يا رسولنا أيها المبلغ عنا، قل يا محمد صلى الله عليه وسلم، قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، قل لهم موبخاً مقرعاً مؤدباً: أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ [البقرة:139] نحن أعرف منكم بالله، نحن أعلم منكم بالله، نحن أولياءه، وأنتم تدعون أنكم أولياء الله، يدعون أنهم أولى بالله من المسلمين ويفترون الكذب ويختلقون الأباطيل، ومن بين ذلك اليهودية والنصرانية، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] هذه الدعوة الفارغة الباطلة تعالى الله عن مثلها، هل أنتم أبناء الله؟! تعالى الله عن أن يلد أو يولد: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] . وادعوا فقالوا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:140]، والله! ما عرفوا اليهودية ولا سمعوا بها، ولا عرفوا نصرانية ولا سمعوا بها قط، ويلصقون هذه الأباطيل بأولئك الأنبياء المصطفين الأخيار، ليفحموا المسلمين في نظرهم، والله ولي المؤمنين، ومن كان الله وليه لا ينهزم ولا ينكسر، فها هو ذا تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [البقرة:139]، أي: خالقنا وخالقكم، رازقنا ورازقكم، معبودنا الحق ومعبودكم، سيدنا وسيدكم، كيف تحاجوننا فيه وتجادلون وتقولون: نحن أولى بالله منكم؟! كيف جاءت هذه الولاية؟! أللإيمان الهابط الساقط الباطل، أو لتقواكم التي لا وجود لها، فالعهر والفجور والربا وسفك الدماء والشر والخبث كله في وسطهم، ويدعون ولاية الله! أولياء الله هم المؤمنون الصادقون في إيمانهم المتقون لربهم الذين لم يخرجوا عن طاعته ولم يفسقوا عن أمره في اعتقاد ولا قول ولا عمل. أما الذين ما عرفوا الله حق المعرفة، ما آمنوا به حق الإيمان، الذين يقولون في الله: إنه ولد وإن له ولداً، فهل آمنوا بالله؟ لقد آمنوا بالشيطان، والذين يشبهون الله بمخلوقاته ويقولون: إنه ينسى ويعطي ويتراجع، وهذا مذهب اليهود لعنة الله عليهم، أهذا الإيمان يكونون به أولياء؟ أما التقوى فأين التقوى؟ أين اتقاء ما سخط الله وغضب عليه؟ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139] هذه كلمات الله البينة الفاصلة التي تقطع هذا الحجاج الباطل والجدال الذي لا معنى له، يقول: كيف تجادلوننا في الله وهو ربنا وربكم، ليس ربكم وحدكم بل ربنا وربكم، لكن عرفناه وما عرفتموه، أطعناه وعصيتموه، استجبنا له وأعرضتم عن ندائه واستجبتم للشياطين!

حقيقة أعمال المؤمنين وأعمال الكفرة من أهل الكتاب

وخلاصة القول: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [البقرة:139] أعمالهم ما هي؟ كل ضروب الفسق والفجور والفساد هي أعمال اليهود والنصارى، المكر والخداع والغش والتضليل والحيل والباطل، ولكن أعمالهم سوف يجزون بها. وَلَنَا أَعْمَالُنَا [البقرة:139] وما هي أعمال المسلمين؟ استقامة على منهج الله، إذا أذن الله في الكلمة قلناها، وإذا لم يأذن فيها صمتنا وسكتنا، نظرة أذن فيها نظرنا، وإن منعنا امتنعنا، لقمة عيش أذن فيها أكلناها، وإن لم يأذن تركناها، هذه الأعمال التي ترضي الله عنا وتحببنا إليه وتحببه إلينا، هذه الأعمال المزكية للنفس المطهرة للروح البشرية. أعمال شرعها وأودع فيها قوة التأثير في تزكية النفس والتطهير، لا بدع وضلالات وخرافات يضعها القسس والرهبان والأحبار ويقدمونها لأولئك البلداء الأغبياء الضالين فيسومونهم ويسوسونهم كما تسام البهائم. فمن هؤلاء المخاطبون؟ إنهم أهل الكتاب، يقول لهم: أتؤمنون بالله وتكفرون برسوله؟! تؤمنون بالله وتجادلون فيه وتكذبون كلامه وكتابه وتنكرونه؟! أي مس في العقل أكثر من هذا؟! تقولون: نحن أبناء الله وأولياء الله، ها هو ذا تعالى قد أنزل كتابه القرآن العظيم فكيف تردونه؟ كيف تنكرونه؟ بأي منطق أو حجة أو ذوق؟ واصطفى رسولاً وأرسله، وعندكم صفاته كاملة وافية، وتحرفون وتؤولون وتغطون وتجحدون وتضللون أتباعكم ولا تؤمنون بخاتم الأنبياء!

المفارقة بين المؤمنين وكفرة أهل الكتاب في الإخلاص

وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139]، هذه كلمتنا نحن أيها المسلمون، وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139]، أما هم فمخلصون للدنيا، والله! ما أخلصوا إلا لأهوائهم وشهواتهم وأطماعهم وأغراضهم السافلة المادية، فلو أخلصوا قلوبهم لله وأعمالهم لما باتوا ليلة واحدة على يهودية مبتدعة ولا على نصرانية باطلة لا تقوم على أساس ولا منطق ولا عقل ولا ذوق، فضلاً عن الوحي الإلهي، وهم مصرون عليها ويدعون إليها ويحاربون الإسلام حرباً شعواء حتى لا يظهر هذا الإسلام. وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139] أخلصنا له ماذا يا عباد الله؟ أخلصنا له قلوبنا، فقلب المسلم الحق لا يتقلب طول حياته إلى طلباً لمرضاة الله، قلب المؤمن المسلم -لا بالنسبة ولكن بالحق- دائماً يريد الله، لا هم له إلا رضا الله عز وجل، أسلمنا جوارحنا لا نعطي ولا نأخذ لا نرفع ولا نضع إلا بإذنه وبرضاه وكيفما يريد منا. فهل أنتم - معشر اليهود والنصارى- فعلتم هذا؟ هل أخلص اليهود والنصارى شيئاً لله؟ لا شيء، ولكن بما أنهم يجادلون ويحاجون فالله عز وجل يبين لرسوله صلى الله عليه وسلم كيف يرد أباطيلهم ويمزق حججهم الهاوية.

حقيقة الإخلاص وأهميته

معاشر المستمعين! هذه تعنينا أكثر، أتعرفون ما هو الإخلاص؟ هل نحن مأمورون بالإخلاص؟ ما هي سورة الإخلاص؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] . ومن سورة تنزيل الزمر: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:1-2]. ومن سورة البينة: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] . خلاصة ما أقول للمستمعين والمستمعات في هذا الأصل: أن الإخلاص هو عنصر العبادة، متى تأكد ووجد أمكن للعبد أن يستفيد من عبادته، فإن ضعف هذا الأصل بطلت العبادة ولا أثر لها في النفس، الإخلاص أن تريد بحياتك وجه الله، تقول، تعمل، تبني، تتزوج، تطلق، تسافر، تقوم، تقعد، دائماً تريد الله. الإخلاص: ألا تلتفت بقلبك إلى غير الله، ترابط السنة والسنتين والعشر وأنت رابط نفسك في حدود وثغور دار الإسلام لا تريد جزاءً إلا من الله، تنفق أموالك وتضعها في أيدي المحاويج والفقراء والمساكين ولا تريد أن يقال: فلان منفق أو فلان يتصدق، تبيت راكعاً ساجداً بوجهك لا يراك أحد ولا يسمع أحد أنك صليت ولا قمت، تطلب العلم من أول ساعة إلى أن تتخرج لا هم لك إلا وجه الله. فالإخلاص معناه: جعل العمل كله لله، إذ هو الخالق هو الرازق هو الإله الحق، ونحن له مخلصون، نحن له مسلمون، فكل أعمالنا له، فمن صرف من أعماله شيئاً إلى غير الله فما أخلص بل أشرك. وهذا الإخلاص يحتاج إلى مقاومة النفس ومجاهدتها، ويساعدك على هذا أن تعيش وأنت تشعر أنك بين يدي الله، يرى حركاتك وسكناتك، يسمع دقات قلبك وما يخطر ببالك، فهذه المراقبة هي التي تساعد على الإخلاص. واعلم أن الخلق كلهم لا يساوون شيئاً، ليس بينهم من يحيي ولا من يميت، لا من يعطي ولا من يمنع، ولا من يضر ولا من ينفع، وإنما الضر والنفع هو بيد الله، والمعطي والمانع هو الله، والمحيي والمميت هو الله، لا تغفل يا مؤمن وتظن أن القضية سهلة، لا بد من جهاد نفسك. واذكروا دائماً أننا وقف على الله، واقرءوا قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، وهل بعد الحياة والممات شيء؟ لا شيء.

تفسير قوله تعالى: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى ...)

ثم يقول تعالى لرسوله: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:140]، الاستفهام هنا للتقريع، أتقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط -وهم أولاد يعقوب الاثني عشر- كانوا يهوداً أو نصارى؟ النصارى يقولون: كانوا نصارى، واليهود يقولون: كانوا يهوداً. والله! ما سمعوا باليهودية ولا بالنصرانية، فاليهودية متى وجدت؟ على عهد موسى، لما فسقوا وظلموا وخرجوا عن طاعة الله أعلنوا عن توبتهم في مواقف وقالوا: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، فمن ثم عرف بينهم لفظ اليهود. والنصارى من متى؟ قبل نبينا بخمسمائة سنة فقط، قال الحواريون: يا عيسى نحن أنصار الله، فهو الذي قال: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52]، فمن ثم وجدت كلمة نصارى، فكيف يكون إبراهيم وأحفاده يهوداً ونصارى. ومن سورة آل عمران قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67]، إذاً: يوبخهم ويقرعهم بهذا الاستفهام، أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:140]، اليهود يقولون: (كانوا هوداً)، والنصارى يقولون: (كانوا نصارى)، أما رؤساؤهم من الأحبار والقسس فهم يعرفون أن هذه أباطيل وترهات ليخدعوا بها العوام ويضللوا بها الناس، وإلا فكيف توجد يهودية ونصرانية على عهد إبراهيم وولده إسحاق ويعقوب وأحفاده، كيف يمكن هذا؟ ولكن حب الدنيا والطمع وحب السلطة والسيطرة على القلوب، لكن القرآن فضحهم فما استطاعوا أن يقفوا أمام هذه الآيات القرآنية.

معنى قوله تعالى: (قل أأنتم أعلم أم الله)

واسمع ماذا يقول تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]؟ فإن قالوا: نحن أعلم كفروا وكذبوا وانتهى أمرهم، وتمزقت رابطتهم. قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، قل لهم يا رسولنا: أخبروني: أنتم أعلم أم الله؟ فإن قالوا: نحن أعلم كفروا، ولا كلام معهم ولا جدال، وإن قالوا: الله أعلم انقطعوا، فالله نفى أن يكون الأنبياء والرسل يهوداً أو نصارى، وبهذا قطع ألسنتهم. فمن علم رسولنا هذه الحجة؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه، قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، فإن قالوا: الله أعلم قلنا: الحمد لله، فالله نفى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وإن قالوا: نحن أعلم فلا كلام معهم لأنهم كفروا، ادعوا العلم فوق الله والله عليم بكل شيء، والله معلم كل ذي علم، فقطع الله بهذه الجملة خصومتهم، أسكتهم تماماً، فماذا يقولون؟ إن قالوا: نحن أعلم كفروا وكذبوا ولا يقبل منهم جدال ولا صراع ولا كلام، وإن قالوا: الله أعلم فالله نفى أن يكون إبراهيم وأولاده وأحفاده يهوداً أو نصارى، وقرر وأثبت أنهم كانوا مسلمين.

معنى قوله تعالى: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله)

ثم قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] هذه لنا جميعاً، اسمعوا هذه الكلمة الإلهية: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] الجواب: لا أظلم منه والله، لا يوجد ظلم أعظم من هذا أبداً، لا يوجد ظالم أعظم ممن يكتم شهادة عنده من الله ويخفيها ويسترها ويغطيها. ومعنى هذا -والله- أن اليهود والنصارى بأحبارهم ورهبانهم وقسسهم وأتباعهم ظلمة، الكل ظالم لا أظلم منهم، أي ظلم أفظع من أن ينسب إلى الله العلي الحكيم القوي القدير الولد؟ وهم يعرفون أم عيسى وأنها مريم ويقولون: عيسى ابن الله، أي ظلم أفظع وأعظم من هذا الظلم؟! ينسبون إلى الله ما هو منزه ومقدس عنه وهم يعلمون بأن هذا لن يكون أبداً ولا يعقل، ومع هذا يشيعونه في أتباعهم والمتبعين لهم في الشرق والغرب ويقولون: الإله مكون من ثلاثة أقانيم: الرب والابن وروح المقدس، ومرة يقولون: الابن والأب وروح القدس. إذاً: فالشهادة التي عندهم وكتموها ولم يخبروا بها هي ما عندهم من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته التي تكاد تصرخ بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نبي آخر الزمان، وأن رسالته عامة للأبيض والأصفر، وأنه لا نبي بعده، وأنه هو الذي يدعو إلى الإسلام، فهذه موجودة فكيف يكتمونها؟ إذاً: هل يوجد من هو أظلم من اليهود والنصارى؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140]؛ لأن الله أخذ عليهم العهد والميثاق أن يبينوا للناس صفات ونعوت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء من سورة آل عمران: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ [آل عمران:81] . أخذ الله على جميع الرسل والأنبياء -وأممهم تابعة لهم- إذا بعث الله نبياً وجب أن يؤمنوا به وأن يتابعوه، وخاصة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم. إذاً: الآية تقول: إن اليهود والنصارى جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها وهي شهادة في أعناقهم، أخذ عليهم العهد والميثاق ألا يكتموها وها هم أولاء قد كتموها، فمن أظلم منهم؟ لو سئلت عمن هو أظلم من اليهود والنصارى فتقول: لا أحد أظلم منهم، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140].

الأمر بالإخلاص وتحريم كتمان الشهادة وقولها زوراً

معاشر المستمعين والمستمعات! هذا يتعلق بنا: الإخلاص والشهادة، فكما نحن مأمورون بالإخلاص أمر الأولون بالإخلاص، فلتكن أعمالنا ونياتنا وإراداتنا وتحركاتنا كلها مراداً بها وجه الله. أعيد القول: الإخلاص حلقة إذا انقطعت سقط العبد، فإذا تمت واستحكمت استمسك بحبل الله وثبت، فلتكن نياتنا وإراداتنا وخواطرنا وحركاتنا وسكناتنا، ليكن المراد من ذلك هو الله. ثانياً: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، مثلاً: استشهدك فلان وفلان في قضية من قضايا الحياة وكنت الشاهد، هل يصح منك أو يجوز لك أن تكتم هذه الشهادة وتخفيها وتجحدها؟ والله! ما جاز ولا صح. ولنعرف أن كتمان الشهادة -والعياذ بالله- كشهادة الزور من أعظم الذنوب عند الله، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه بطريق السؤال والجواب فيقول لهم: ( اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ فقال: الشرك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، حتى تمنى أصحابه أن لو سكت ). ومع الأسف ما أعطينا للشهادة قيمتها أبداً، فترى الرجل يشهد مع الرجل لا لشيء إلا لمجرد أدنى علاقة مادية، ونحن مأمورون أن نشهد على أنفسنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135] . إذاً: شهادة الزور من أكبر الكبائر عند الله، وها هو ذا تعالى يقول لليهود والنصارى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140] وعما نعمل وعما يعمل كل عامل. فلتكن هذه من مقتضيات حياتنا التي لا تفارقنا، أن لا نقول إلا حقاً ولا نشهد إلا بحق، وأن نتجنب قول الزور وشهادته، ما ننطق بالكذب حتى ولو كان لا يترتب عليه شيء، ألسنتنا صادقة، وقلوبنا وألسنتنا متحدة، القلب طاهر واللسان يعرب عن تلك الطهارة، أما الكذب، أما المنطق السيء، أما الباطل سواء في طالب شهادة أو في غير شهادة فكل هذا ليس لنا؛ لأننا مسلمون ومخلصون، فكيف للمخلص أن يلتفت إلى غير الله يرهبه أو يخاف أو يطمع فيه؟ وكيف لمن أسلم قلبه لله ووجهه أن ينطق بالباطل ويشهد بالزور ليمنع حقاً من حقوق الناس أو ليرتب على آخر حقاً ليس هو له؟

معنى قوله تعالى: (وما الله بغافل عما تعملون)

وهكذا يقول تعالى لهؤلاء اليهود والنصارى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140]، لا يغفل الله عن أعمالنا؛ إذ أعمالنا كلها هو خالقها، كتبها وقدرها قبل أن نكون ونحن بين يديه لا يعزب عنه من أمرنا شيء وإن كان مثقال ذرة، وقد عرفتم أن العوالم كلها في قبضته، فمن هو الذي يخفى عن الله أو يغيب عن الله؟ فأعمالنا كلها معلومة مقدرة، وهي لا تقع إلا على رؤية الله عز وجل وسمعه.

تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ...)

وأخيراً قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة:141]، الإشارة إلى من سبق من عهد إبراهيم إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، هم يجادلون في الماضي ويتمسكون بأمجاد أجدادهم وآبائهم وهذا لا ينفع، والله! لا ينفع، لو كنت ابن نبي فلن يجديك ذلك شيئاً.وقد بين تعالى لنا هذه الحقيقة، وهي أننا نؤاخذ بكسبنا لا بكسب آبائنا وأجدادنا، ونعطى وننتصر ونفوز ونربح بكسبنا لا بكسب الآباء والأجداد أبداً، فهذه قضية معلومة بالضرورة، وهي أن الطمع الذي نعيش عليه -أن نسكن دار السلام، أن ننزل الجنة دار الأبرار- فهذا النزول وهذا السكن في ذلك العالم الأقدس الأطهر لن يتم بالنسب أبداً، لا ببنوة ولا بأبوة ولا بأجداد ولا بأحفاد، ما هو إلا أن تزكي نفسك يا عبد الله، فإن زكيتها طيبتها طهرتها أصبحت صالحة للملكوت الأعلى، فإن أنت لوثتها واخبثتها وأرجستها ونجستها فمستحيل أن ترقى إلى السماء أو تدخل دار الأبرار، وقد علمنا حكم الله في هذا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. إلا أننا مأمورون يا أبناء الإسلام بأن نعرف بم نزكي أنفسنا وبم تكون تزكيتها؛ لنعمل على التزكية ونبعد أنفسنا عن التدسية، فالقضية ليست قضية نسب، وها نحن مع قول الله عز وجل وقوله الحق: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ [التحريم:10]، هذه حليلته أم أبنائه وامرأته في عصمته، لما خالفت منهج الله فخبثت روحها ما نفعها نبي الله ورسوله، فامرأة نوح وامرأة لوط أين هما؟ في الجحيم. والرسول صلى الله عليه وسلم يعلنها مدوية واضحة صريحة: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، بدأ ببني هاشم وانتهى إلى فاطمة الزهراء، فقال: ( يا فاطمة ! إني لا أغني عنك من الله شيئاً )، وبعد فاطمة من يطمع في أن يغني عنه رسول الله شيئاً وهو لا يؤمن ولا يعبد ولا يزكي نفسه ولا يطهرها؟ و آزر والد إبراهيم عرفنا ما حكم الله به عليه، آزر والد إبراهيم في الجحيم، وقد تضرع إبراهيم وتوسل إلى الله ليغفر لوالده ولم يقبل ذلك منه؛ لأنه كافر مشرك ضال أنى له أن تشفع فيه شفاعة! فقد كان يدعو الله ويقول: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:86-89] . وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم -وهو العليم الخبير بهذا الشأن- أن إبراهيم عليه السلام في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء والحكم بين الخلق يرفع يديه ويقول: يا رب! لقد وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أخزى من هذا؟ فيقول له الرب تبارك وتعالى: إبراهيم! انظر تحت قدميك. فينظر -لأنه كان رافعاً رأسه ضارعاً سائلاً- ينظر تحت قدميه وإذا بوالده آزر في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيوح بين يديه، وما إن يراه إبراهيم حتى تشمئز نفسه ويتألم ويرفع صوته: سحقاً سحقاً. فوالله! ليؤخذن من قوائمه الأربع ويرمى في عالم الشقاء في النار.

تحذير من فتنة الدشات وآلات الفيديو

يا معاشر المستمعين والمستمعات! اعلموا أن الفتنة دائرة، وتبلغنا أخبار وأنباء آلمتنا ومزقت قلوبنا من فتنة هذه المحنة الجديدة، أعني العرض الذي يعرض فيه آلات الفيديو والتلفاز وتلتقط تلك الصور المدمرة، وكنا نبكي ونقول: نخشى أن يموت صاحب هذا الصحن الهوائي أو الدش على سوء الخاتمة. يبيتون ساهرين طول الليل يشاهدون الخلاعة والدمار، يشاهدون فضائع ما يقولها العاقل ولا ينطق بها المؤمن، وهم مصرون يومياً على هذا، وكل يوم نشاهد على سطح المؤمن المسلم تلك الآلة التي يلتقط بها هذا الدمار والخراب، سوف تمضي عليهم أيام وقد فقدوا إيمانهم، ولكن قد يصيبوننا نحن بالبلاء إذا نزلت النقمة فنهلك نحن معهم، أما هم فهم هالكون من الآن. انتهى الحياء، والحياء أخو الإيمان، الحياء من الإيمان، الحياء كله خير، مسخوه من وجوههم ووجوه بناتهم ونسائهم وأولادهم، فيرتكبون فضائع الذنوب، فكيف نقول؟ أين هذه الأمة، أين ذهبت؟ أين القرآن وأين السنة وأين أصوات العلماء؟ لا سماع أبداً، لا إقبال أبداً، لا تراجع لا ندم ولا توبة ولا بكاء، هذا القرآن على من نزل؟ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ونحن لنا ما كسبنا أم لا؟

أثر كسب الجوارح على العباد

والكواسب -يا معاشر الأبناء- هي الجوارح السبعة، العين -والله- تكسب، أقسم بالله! ما رمى مؤمن أو فاسق أو ماجن بنظرة في وجه لا يحل له النظر إليه إلا انعكس دخان وظلمة في قلبه ويجد أثره بعد ساعة أو ساعات، فيقول الباطل أو ينغمس في الخبث، لا ينطق بكلمة فقط من غضب الله وسخط الله إلا كان كذلك، وقد أخبرنا الرسول بما ليس فيه لبس ولا خفاء أنه قد يقول المرء كلمة لا يلقي لها بالاً ولا يلتفت إليها وهي من سخط الله عز وجل، فيلقى بها في النار أربعين خريفاً. فهذه الجوارح الكواسب وهذه التي نكسب بها اللسان من أشدها، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله صاحبه عن عمل يدخله الجنة ويباعده من النار فيقول له: كف عليك هذا. وأخذ صلى الله عليه وسلم بلسانه، فقال الرجل: ( وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ ). ولولا الكذب -والله- ما وجد باطل ولا شر، كل المعاصي تنتج عن هذه الجريمة، لو كففنا ألسنتنا ولم ننطق إلا بالحق والخير فوالله! ما كان للباطل وجود ولا للمنكر مظهر أبداً، لكن ألسنتنا هي التي تنتج هذا، كواسب أيدينا تكسب ويسجل علينا ما كسبت، ليست سرقة فقط أو أذية مؤمن بضربه أو قتله، فاليد تأخذ وتعطي، فاليد التي تأخذ الحرام كالتي تضرب وتقتل، هي جارحة كاسبة. أرجلنا نمشي بها إلى أين؟ ينبغي ألا نمشي خطوة واحدة في غضب الله، خطوة واحدة لا نمشيها في طريق لا يرضى الله به، ما نمشي أبداً إلا في رضا الله عز وجل. وأعظم من ذلك -والعياذ بالله- البطن والفرج، أكل الحرام وغشيان المحرمات، فهذا أعظم من ذاك كله. فقوله تعالى لها: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134]، ونحن أيضاً لنا ما كسبنا، إن كان الكسب خيراً فزنا بالخير، وإن كان الكسب شراً هلكنا في الشر والعياذ بالله تعالى.

مسئولية المرء عن كسبه وانتفاعه بما كان سبباً فيه من الخير

أقول: القرآن كتاب هداية ورحمة للبشرية، وإن ذكر حجاجاً بيننا وبين أهل الكتاب فالمقصود تربيتنا وإنجاحنا وإكمالنا وعزنا وطهارتنا؛ لأنه كتابنا، فالله تعالى يقول: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141]، هم يتمسكون بأعمال الأولين، فأعلمهم الله تعالى أن أعمال الأولين لا تسألون عنها قطعاً. هل يسال اليهود والنصارى عن أعمال إبراهيم وإسحاق ويعقوب؟ وهل نحن نسأل عن أعمال اليهود والنصارى أو أعمال من سبقنا؟ كل يسأل عن عمله، اللهم إلا ما كان سبباً في وجوده؛ لما علمتم وعرفتم من أن المرء إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، فمنها: ( علم ينتفع به )، فالذي يعلم مؤمناً أو مؤمنة مسألة في دين الله فيعمل بها ذاك المؤمن أو تلك المؤمنة؛ فإنه يثاب عليها ما دام يعمل بها. أيما علم حول حب الله ولقائه، حول العمل الصالح تورثه في أي عبد ويعمل به فإنه ما يزال يجرى لك الأجر حتى ينتهي ذلك العمل، وقد يعلمه آخر فتمتد الحلقات. ثانياً: ( أو ولد صالح يدعو له )، فالولد الصالح من أنجبه؟ أنت، أنت الذي بذلت وأنت الذي أنفقت وأنت الذي عملت حتى وجد هذا الولد، فما دام أنه يدعو فهو يدعو لك، ودعاؤه لا يرد في أبيه أو أمه، يستجاب. وهكذا الصدقة الجارية أيضاً، إذا بنى المرء مسجداً، أو حفر بئراً ذات ماء عذب للشاربين، أو عبد طريقاً، أو وضع جسراً من الجسور، أو أعد عدة لدولة تجاهد في سبيل الله، فهذا العمل متواصل، فقوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134] هو حق، ومن كسبنا أنا نخلف وراءنا من يعمل.

مسئولية المرء عمن تلزمه تربيتهم

وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141] هذا ختام هذا الحجاج، وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141]، فهل أحدنا يسأل عن أبيه إذا مات لا يصلي؟ الجواب: يسأل ولا يسأل، إن كان قد بلغه ونصحه ودعاه وجلب عليه الصالحين فدعوه فأبى أن يهتدي ومات -والعياذ بالله- تاركاً صلاته فهو من أهل النار، ولا يسأل عنه الولد يوم القيامة، لكن إذا قصر وما نصح وما علم وما دعاه إلى الهدى فإنه يسأل. أبناؤك تسأل عنهم إذا أنت قصرت في تربيتهم في توجيههم لهدايتهم، إذا أهملتهم وتركتهم في الشوارع والغابات يعبثون ويلعبون، وتأتي إلى البيت فتجدهم غائبين فلا تسأل، تجدهم نائمين فلا تسال، أنت مسئول عنهم، هم يعملون الباطل وأنت تأثم به، وهكذا. فالآية ليست على عمومها أنه لنا ما كسبنا ولهم ما كسبوا، نعم ولكن من كسبنا ما نكون السبب في إيجاده وحصوله.

تحذير من مشاهدة صور العاهرات والماجنين في البيوت

معاشر المستمعين والمستمعات! هذا كتاب الله أكرمنا الله عز وجل واجتمعنا عليه فلله الحمد والمنة، فلنذكر ما سمعنا ولنبذل ما استطعنا في إصلاح أنفسنا وتزكية أرواحنا، والطريق الوحيد يا معاشر الأبناء هو أن لا نخلو أبداً من مجالس الذكر، ما هذا الذكر؟ مجالس الذكر في بيوت الله نتعلم كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قدر منكم -وكلكم قادر- على أن يطرد الشياطين من بيوته فليفعل. يا معاشر المستمعين! أقسم لكم بالله! إن البيت الذي تظهر فيه صور العواهر والمغنيات وصور الكفار والماجنين من اليهود والنصارى وغيرهم؛ هذا البيت ما تبقى فيه الملائكة، وسوف تنزل بهم الشياطين، ولا يندم إلا من تورط ولا ينفع الندم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل حجرة عائشة ، هذه الحجرة الطاهرة التي فيها رسول الله وصاحباه، فإذا فيها خرقة من كتان فيها صورة لا ملامح لها ولا تجاعيد، فوالله! لقد غضب صلى الله عليه وسلم وعرفت عائشة الغضب في وجهه حتى صاحت: أتوب إلى الله ورسوله، ماذا فعلت يا رسول الله؟ فيقول لها: ( أزيلي عني قرامك يا عائشة )، أزيلي هذه الخرقة التي فيها الصورة، ( فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ). وجبريل عند الباب ما استطاع أن يدخل، أيسمع هذا المسلمون؟ أيسمحون بهذه الصور والخلاعة في بيوتهم والأغاني والرقص، فتتحول كأنها مواخير في بيت يجب أن لا يسمع فيه إلا ذكر الله، وأن لا يرى فيه صورة، فتطرد الملائكة وتخرج وتحل الشياطين محلهم. والعاقبة ما هي؟ أن ينزل بنا دمار وخراب، فنبكي ساعة ولا ينفع البكاء، فالله بالمرصاد، سلط علينا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا فأذاقونا مر العذاب وسامونا، والآن هل نحن أصلح من آبائنا وأجدادنا؟ نحن هابطون هبوطاً لا حد له، والله! ما كان هذا الفحش والباطل في ديار المسلمين، كانت كرامة وإباء وشرف. أما اليوم فمن هيأنا لهذه الفتنة؟ اليهود والنصارى، والله! إنهم لينتظرون متى نحترق ومتى نسقط، وهم يعملون ليلاً ونهاراً ونحن غافلون، ما قرأنا القرآن، فهذا المجلس الذي كنا فيه فيه حجاج بين الرسول واليهود والنصارى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140] ، قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [البقرة:139]، هل هؤلاء الأعداء نتخذهم أولياء ينصحون لنا ويهدوننا لما فيه الخير؟ والله! إنهم ليعملون على تدميرنا. فيا عباد الله! انتبهوا، غيروا هذا النظام في الحياة، بيوتكم طهروها، ألسنتكم طهروها، قلوبكم طهروها لله لا تلتفوا إلى غير الله، فتكونوا قد عرفتم الطريق إلى الله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-27, 10:34 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (95)
الحلقة (102)



تفسير سورة البقرة (62)

أول ما فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يصلون مستقبلين للكعبة، ولبثوا على هذه الحال ثلاث سنين، فلما هاجر النبي إلى المدينة صلى تجاه بيت المقدس وصلى معه المؤمنون قرابة سبعة عشر شهراً، وكان صلى الله عليه وسلم حينها يتطلع إلى أن يؤمر باستقبال الكعبة حتى جاءه الأمر بذلك وقت صلاة الظهر، حيث تحول من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة أثناء الصلاة، فقام عندها المرجفون والمنافقون بإثارة الشبهات حول ذلك الأمر، فأنزل الله عز وجل مخبراً إياهم ومبيناً لمن عداهم أن الأرض كلها له سبحانه، مشارقها ومغاربها، وعباده المؤمنون يتجهون حيث أمرهم، مسلمين أمرهم له سبحانه طائعين منيبين.

فضائل الجلوس في المساجد للعلم ومدارسة القرآن

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:142-144].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم الجائزة الكبرى التي تفوزون بها في هذا المجلس، اذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، هذه لكم. وأخرى: يقول الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).وثالثة: هي أن المرء إذا صلى في المسجد وجلس ينتظر الصلاة الأخرى -كانتظارنا هذا لصلاة العشاء- فإن الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له .. اللهم ارحمه، اللهم اغفر له .. اللهم ارحمه، ما لم يحدث، أي: ينتقض وضوؤه، إلى صلاة العشاء. لو أردت أن تستخدم ملكاً واحداً يصلي عليك ساعة ونصفاً فكم ستعطيه؟ ما تستطيع، وها أنت بفضل الله في ملائكة تحف بالحلقة وتصلي علينا وتدعو لنا، غفل عن هذا المؤمنون وجهلوه، فهجروا بيوت الله وملئوا بيوت الباطل وحرموا هذا الهدى، وويل للذين كانوا سبب هذه الفرقة وهذا البعد عن دين الله وبيوت الله.
تفسير قوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ...)

خلاصة الأحداث المتعلقة بالصلاة إلى زمن تحويل القبلة

والآن مع هاتين الآيتين الكريمتين، يقول الجبار جل جلاله وعظم سلطانه: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [البقرة:142]، أعطيكم خلاصة لهذه الأحداث وبها تفهمون عن الله مراده من هاتين الآيتين: اعلموا أن القبلة حيث نستقبل مكاناً فيصبح قبلتنا أمامنا، لما فرض الله عز وجل على نبينا وعلينا معه الصلوات الخمس؛ هذا الفرض تم في الملكوت الأعلى، الصلوات الخمس فرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته في الملكوت الأعلى، أي: فوق دار السلام، إذ تمت له رحلة من الأرض إلى السماء، ووصل إلى مكان فتأخر جبريل وتقدم هو صلى الله عليه وسلم، فجبريل تأخر وهو الدليل، فقال: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164]، وتقدم الرسول صلى الله عليه وسلم وحده وناجاه ربه وكلمه وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس. متى هذا؟ كان في السنة العاشرة من البعثة، عرج بالرسول إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس فنزل وصلى به جبريل عليه السلام، علم جبريل الرسول كيف يصلي، وعلمه أوقات الصلوات الخمس حول الكعبة، جبريل يصلي والرسول وراءه، فعلمه الصلاة وأوقاتها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الكعبة وهو -فيما يبدو- ما بين الركنين: الركن اليماني وركن الحجر الأسود، فصلى ثلاث سنوات، فلما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس، فصلى هو والمؤمنون والمؤمنات قرابة السبعة عشر شهراً وهم يستقبلون بيت المقدس. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، كان يود ويرغب كما سيأتي بيان ذلك في قول الله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، واليهود فرحوا لأن الرسول يستقبل قبلتهم، وكانوا بالمدينة يكونون ثلاثة أرباعها. إذاً: فلما تطلع إلى أن يستقبل الكعبة بيت الله أنزل الله تعالى هاتين الآيتين، وهو إخبار بما سيكون: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ [البقرة:142]، والسفهاء: جمع سفيه ضد الرشيد، والمراد من السفهاء هنا اليهود والمنافقون وضعفة الإيمان ممن لم يتمكن الإيمان من نفوسهم. سيقولون عندما تتحول القبلة كذا وكذا، أخبر تعالى بهذا قبل حدوثه حتى لا يحصل للرسول والمؤمنين اضطراب وتألم مما يسمعون من المنافقين واليهود والمشركين، سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، القبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس، ثم نزلت الآية: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]. قيل: هذه الآية -آية التحول- نزلت في مسجد بني سلمة الذي يعرف الآن بمسجد القبلتين، وهو جائز؛ إذ قد يكون دعي لطعام عند أحد المؤمنين هناك، فجاءت صلاة الظهر فخرج وصلى بهم ركعتين، ثم أعلم بتحويل القبلة فاستداروا كما هم عليه إلى الكعبة النساء والرجال، وهذا مروي وجائز. وبعض الروايات تقول: الآيات نزلت والرسول هنا على المنبر يخطب الناس؛ حتى إن بعض الصحابة لما قرأ الرسول هذا عرفوا أن القبلة ستتحول، فقالوا: هيا بنا نغتنم الفرصة فنصلي فنكون أول من صلى إلى القبلة، وتم لهم ذلك ففازوا بالأولية والأسبقية.

الخبر عن قالة السفهاء حال تحويل القبلة

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، بعضهم يقول: هذا ما عنده ثبات ولا تطمئن النفوس إلى الإيمان به واتباعه ما دام يتقلب هكذا، أمس كان كذا واليوم كذا، فممكن غداً أن يتحول إلى جهة ثانية، هذا يحسنه المنافقون والمرضى ويجيدون الخبط في هذا الشأن، وقد عرفنا هذا من أعدائنا حين يتكلمون عن الإسلام فيشوهون ويقبحون ويقولون ما يقولون، هذا شأنهم إلى اليوم. إذاً: فهذه الأقاويل زلزلت أقدام المؤمنين واضطرب الناس، فهم يحسنون كيف يعيبون، يقولون: كيف يستقبل بالأمس بيت المقدس والآن يتحول؟ ما سبب هذا التحول غير عدم رأي وعدم بصيرة؟ هذا من الجائز أن يترك القبلة بالمرة والعياذ بالله، هذا الذي أخبر به تعالى قبل أن يكون وكان كما أخبر.

معنى قوله تعالى: (قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، فالجواب من الله عز وجل يقول: يا رسولنا المبلغ عنا! قل لهؤلاء: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:142] المشرق لله والمغرب لله، إن شاء حولنا إلى شمال أو إلى جنوب، والمشرق والمغرب عبارة عن الكرة الأرضية، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142] . وبهذا قطع ألسنتهم وهدأ من روع واضطراب المؤمنين، ألسنا بالمؤمنين؟ بلى، أليس الله بالعليم الحكيم؟ بلى، يهدي من يشاء؟ نعم، إذاً: أراد أن نستقبل بيت المقدس فاستقبلناه، ثم أراد أن يحولنا إلى الكعبة فتحولنا، وهذه هي طاعة الله وطاعة رسوله، فلم يبق مجال لمن يعترض أو ينتقد أو يقول ويقول. قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]، والصراط المستقيم هو سبيل الله الموصل بالسالكين إلى دار السلام، الصراط: الطريق الذي لا اعوجاج فيه، سالكه ينجو ويفوز ويسعد، وقد علمنا من سورة الفاتحة أن الصراط المستقيم هو الإسلام، من أسلم ظاهراً وباطناً، أسلم قلبه ووجهه لله واستقام على طاعة الله وطاعة رسول الله فهو ناج فائز، ما إن يتوفاه الله حتى يكون في دار السلام.
تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ...)

وسطية الأمة الإسلامية بين اليهود والنصارى

ثم يقول تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] كما حولنا القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، أي: خياراً عدولاً، والوسط في كل شيء ممدوح ومحمود، والغلو والتفريط مذمومان، الإفراط والتفريط، والغلو والإهمال والضياع، لكن السبيل المحمود هو الوسطية. وهناك أمثلة: اليهود عليهم لعائن الله ماذا قالوا في عيسى ابن مريم؟ قالوا: ساحر، وقالوا: ابن زنا، وقالوا ما فيه من الأباطيل ما قالوا، هذا طرف فرط، والنصارى ماذا قالوا في عيسى ابن مريم؟ قالوا: ابن الله وهو الله وثالث ثلاثة مع الله، هؤلاء غلوا، وماذا قال المؤمنون المسلمون؟ قالوا في عيسى: عبد الله ورسوله، يكفيه أن يكون عبداً لله ورسولاً له، فانظر إلى الوسطية. اليهود قالوا: عيسى ابن زنا وساحر ودجال وكذاب، وصرفوا الناس عن رسالته ودعوته، والنصارى الذين اتبعوه ما هي إلا فترة سبعين سنة وأفسدوا عليهم دينهم وقلبوا أوضاعهم وحولوهم إلى وثنيين يقولون في عيسى: هو ابن الله، ومنهم من يقول: هو الله وثالث ثلاثة مع الله، فأمة الإسلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالوا في عيسى ما قال الله فيه: عبد الله ورسوله، فهذا مثال للوسط. مثال آخر: فيما فرض الله على بني إسرائيل أن من قتل يقتل، لا دية ولا عفو، إن قتل فلا بد أن يقتل، وأما المسيحيون النصارى فعندهم أن من قتل لا تؤخذ دية منه ولا يقتل، يجب أن يعفى عنه! فانظر إلى الطرفين: اليهود أمروا بألا يقبلوا دية ولا يعفوا، لا بد أن يقتل، وهذا شرع الله فيهم، والنصارى أمروا بالعفو، فرض عليهم العفو، فمن قتل يعفى عنه، لا دية ولا قصاص، وأمة الإسلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم مخيرة في الثلاثة: القتل والدية والعفو، إذا طالب أولياء القتيل بالقتل قدم لهم القاتل وقتل قصاصاً، وإن طالبوا بالدية وأعطيت لهم أخذوها، وإن شاءوا قالوا: عفونا لا نأخذ دية ولا نقتص ممن قتل أخانا أو أبانا، فانظر إلى الوسطية: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: خياراً عدولاً. فمن هنا -معاشر المستمعين والمستمعات- تتجلى كرامة هذه الأمة لو استقامت على منهج الله؛ لأن العدل بيننا وعندنا هو ذاك الذي يجتنب كبائر الذنوب والآثام، العدل بيننا من لا يغشى كبائر الذنوب ولم يأت الآثام، وليس معنى هذا أنه معصوم، هو محفوظ بحفظ الله، فإن زلت قدمه في يوم من الأيام وارتكب كبيرة وتاب توبة نصوحاً عاد إليه نوره وكماله الأول وما زال عدلاً.

اعتبار شهادة الجماعة على الميت بالخير والشر

وهنا نذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه القضية: صح عنه صلى الله عليه وسلم ( أن جنازة مر بها حاملوها فتكلم من تكلم وأثنى على هذه الجنازة خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت. ثم مر بجنازة وذكرها الناس فقالوا فيها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت. فقال عمر : فدى لك أبي وأمي! مر بجنازة فأثني عليها خيرٌ فقلت: وجبت وجبت وجبت. ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض ). فالذي شهدتم له بالخير فهو على خير وهو في الجنة، والذي شهدتم عليه بعدم الخير بالشر وجبت له النار؛ لأنكم شهداء الله في الأرض، وهذه بينت قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] . وهذا نظيره ما علمتم من ( أن الله تعالى إذا أحب المؤمن أو المؤمنة ينادي جبريل عليه السلام: يا جبريل! إني أحب فلان ابن فلان فأحبه. فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماوات: إن الله يحب فلان ابن فلان فأحبوه. فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض )، لا يراه عبد صالح إلا أحبه.إذاً: بيننا من هم محبوبون ومن الناس من لا يحبهم بل لا يشهد لهم بخير، فهل غير العادل تقبل شهادته؟ ما تقبل، الآن في المحاكم إذا استدعى الأمر شاهدين فلا بد أن يكونا عدلين، وإلا فما يعطي القاضي حكماً بمجرد شهادة، لا بد من شهادة عدل، فمن هنا نقول: إذا شهد المؤمنون الصالحون لعبد مؤمن فقولوا: وجبت وجبت له الجنة، وإذا شهد أولئك الصالحون المؤمنون الأتقياء على شخص بالشر فقولوا: وجبت له النار. أما الذين ليسوا بعدول فشهادتهم لا تقبل ولا يعول عليها، ففي المحاكم يرفضونها ولا يقبلون شهادة معروف بالفجور معروف بالظلم والشر والفساد وبالخبث والشرك، ما تقبل شهادته. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا حقاً عدولاً، ما رأت الدنيا أعدل ولا أرحم من أولئك الأصحاب في الأمم السابقة واللاحقة، أما بعد مرور هذه القرون المتتالية ففي هذه الأمة عدول وما أكثرهم وفيها سفهاء وما أكثرهم، فأحببت أن تعرفوا أن العدل هو الذي تقبل شهادته، ذاك المؤمن المستقيم على منهج الله الذي لا يعرف الكذب ولا قول الزور ولا شهادة الزور ولم يغش كبائر الذنوب، فهذا إذا أعطى شهادته لا يعطيها إلا لمن عرفه وعرف ظاهره وباطنه، وقال: فلان عبد صالح فاشهدوا له بالصلاح.

شهادة الأمة للأنبياء على أممهم يوم القيامة

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: خياراً عدولاً، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143] وذلك يوم القيامة، هذه منزلة عالية ودرجة رفيعة ما نالتها أمة من الأمم أبداً إلا نحن، يوم القيامة يقف النبي بين يدي الله تعالى ويقول: بلغت رسالتي يا رب إلى من أرسلتني إليهم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيشهد له أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقال: كيف شهدتم وما عاصرتموهم وما عرفتم عنهم؟ فيقولون: ربنا! أنزلت إلينا كتابك وبعثت فينا رسولك، وقد أخبرنا كتابك ورسولك بأن رسلك قد بلغوا وأن أممهم قد رفضت ذلك البلاغ وحاربته ولم تقبله، فشهدنا بشهادة كتابك ورسولك، فتقبل شهادتهم على الأمم التي سبقت.

معنى قوله تعالى: (ويكون الرسول عليكم شهيداً)

لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] أي: هيأكم لهذا الكمال الذي أنتم عليه أيها المؤمنون العدول وتلك الاستقامة على منهج الحق والعدل، ذلك الصفاء الروحي والطهارة النفسية أهلتكم لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة، والرسول يكون شهيداً عليكم، وكيف يشهد علينا؟ بلغنا أن أعمالنا تعرض عليه؛ إذ الأعمال تعرض على الله يوم الخميس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الإثنين ويوم الخميس، فسئل: لم تصومهما؟ قال: أما يوم الاثنين فهو يوم ولدت فيه. وبعث فيه وهو يوم توفي صلى الله عليه وسلم فيه، وأما الخميس ففيه تعرض الأعمال على الله سبحانه وتعالى. إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يشهد علينا، يشهد على أنه بلغنا فقضى ثلاثاً وعشرين وسنة وهو يبلغ هذه الدعوة، وحملها رجاله وأصحابه ونشروها في الشرق والغرب، إذاً: فالرسول يشهد على هذه الأمة بأنه بلغها ما أمر بإبلاغه وأوصل ما أمر أن يصل به إليها، ولنذكر أن شهادة النبي صلى الله عليه وسلم فيها درجة عالية ومستوى راق، كون محمد صلى الله عليه وسلم يشهد على هذه الأمة، وهو الذي يقول الله عز وجل له: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] وعد صادق، فيقول: كيف أرضى وواحد من أمتي في النار! فلهذا فإن أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، أي: الموحدون لله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته لم يعرفوا له شريكاً في قلوبهم ولا في حياتهم؛ هؤلاء من ارتكب منهم كبيرة فزج به في عالم الشقاء في النار بشروه أنه لا يخلد فيها؛ لأنه تابع لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: كيف أرضى وواحد من أمتي في جهنم؟ فهذه الشفاعة التي يخرج بها الموحدون من النار. أما الذين ماتوا على الشرك -والعياذ بالله تعالى- والكفر فكونهم من أمة محمد نسباً لا قيمة لذلك، وقد عرفتم أن للرسول شفاعات، منها أنه يشفع لمن دخل النار من أهل التوحيد ويخرج منها.

وبعض المفسرين يقولون في قول الله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا

[البقرة:143] أي: لكم. ولا حاجة إلى هذا، ما دام أنه أخبر تعالى بقوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، فأن نقول: ويكون الرسول لنا شهيداً فكأننا نرد على الله عز وجل، وهذا اللفظ موجود في التفاسير، لكن الحقيقة ما أخبر الله تعالى به، يشهد رسول الله على أمته أنه بلغها. وأمم ما آمنت به صلى الله عليه وسلم، هذه الأمم المعاصرة لنا؛ إذ الرسالات ختمت برسالته والنبوات ختمت بنبوته، فما بعده من رسول ولا نبي، إذاً: فالبشرية كلها الرسول شاهد عليها، فلهذا لا نحتاج إلى أن نقول (عليكم) بمعنى (لكم)، فهذه الأمم من اليهود والنصارى والصابئة والبوذيين والمشركين من عهده صلى الله عليه وسلم من هو نبيهم؟ من هو رسولهم؟ هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فهو يشهد على أنه بلغ اليهود والنصارى والمجوس والصابئة والمشركين، لا يشهد لهم بل عليهم، أما العدول الخيار فهم يشهدون لغيرهم وعلى غيرهم. هذه كمالات هذه الأمة، ومع الأسف خانوها وغشوها وخدعوها وأبعدوها عن كل سبيل لنجاتها وسعادتها، فحسبنا الله ونعم الوكيل.

معنى قوله تعالى: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه)

ثم يقول تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا [البقرة:143]، ما هي القبلة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هي بيت المقدس، مكث سبعة عشر شهراً -سنة ونصف سنة- وهو يستقبل بيت المقدس، من الذي جعلها له قبلة؟ الله عز وجل، ما استقبل بيت المقدس عن هوى وإنما بوحي أوحاه الله إليه أو إلهام ألهمه الله إياه، فألهمه استقبال بيت المقدس، ومن الجائز أن يكون هذا فيه معنى الترغيب لليهود في الإسلام، فيقولون: ما دام قد استقبل قبلة قبلتنا فما هو الفرق بيننا وبينه؟ فلندخل في هذا الدين. قد يكون هذا من باب هداية الله لو قبلوا واهتدوا. وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] أي: قضية اختبار وامتحان، وقد مر قوله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2] هذا الحسبان باطل، لا بد من الافتتان، لا بد من امتحان لا بد من الاختبار حتى يصفو النبع وتطيب النفس. فانظر ماذا حدث في تحويل هذه القبلة، والله هو الذي حولها، فهو الآمر والمشرع للامتحان والاختبار، إذ قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143]، وبالفعل أصيب المنافقون بمرض فصاحوا وضجوا، وضعاف الإيمان كذلك انتكسوا؛ فقالوا ما قالوا، وتعرفون البشر في مجالس في بيوتهم، يقولون: انظروا ماذا حدث! كيف تحولت القبلة؟ بالأمس كان هنا واليوم هنا وغداً يكون في جهة ثالثة! فاضطرب الناس وثبت أهل الإيمان واليقين وزادهم الله ثباتاً ويقيناً، والضعاف المهزولون انتكسوا ومنهم من ارتد والعياذ بالله.

معنى قوله تعالى: (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله)

ثم قال تعالى: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة:143] هذه هي الفتن التي إذا لم يثبت العبد فيها يتمزق ويسقط، فهي كبيرة، ونحن الآن ما نشعر بكبرها وعظمتها، لكن حين كان القرآن ينزل والناس يتطلعون يومياً إلى التشريع، ثم يشاهدون الرسول قد تحول فجأة من قبلة إلى قبلة يقولون: كيف نفعل؟ لأن جيرانهم ومن معهم في الشوارع وفي البيوت يقولون: انظروا: بالأمس كنتم كذا واليوم كذا وغداً ستصبح لكم قبلة أخرى! أين الثبات وأين الصدق وأين وأين؟ فتضطرب نفوس الناس. وهذه التي تعرف الآن بالطابور الخامس، ويستعملها الغرب وخاصة اليهود بأبشع صورة، وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة:143] تلك التحويلة من جهة إلى جهة إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143]، الذين هداهم الله لحبه وطاعته والإيمان بلقائه والاستقامة على منهجه هؤلاء ما تزعزعوا ولا تحركوا ولا تألموا أبداً، فهم يقولون: إن شاء حولنا يومياً إلى جهة، أليس ربنا ونحن مأمورون بطاعته؟ يمتحننا كل شهر فيحولنا إلى جهة فنتحول، أطعناه في كل شيء، لا في قضية القبلة فقط. يقول تعالى: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143] عز وجل، وهم أبو بكر وعمر وأصحاب الرسول والعشرة المبشرون بالجنة وأمثالهم في المدينة، وقد صاروا أكثر من ثلاثين ألفاً.

معنى قوله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم)

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] هنا لما تحولت القبلة تأسف بعض المؤمنين، قالوا: فلان مات قبل أن تتحول القبلة، فلان توفي قبل أن تتحول القبلة، كيف حالهم؟ كيف صلاتهم؟ هل صلاتنا التي صليناها الآن لسنة وزيادة تقبل أو لا تقبل؟ فنفوسهم اضطربت وتحركت، فأخبرهم الله تعالى بأنه لا يضيع تلك الصلاة.إذاً: فهذه الصلاة هي الإيمان بهذه الآية الكريمة، فهل يقف عبد بين يدي الله يبكي، يركع ويسجد ويعفر وجهه في التراب ولا يكون مؤمناً؟ اللهم إلا إذا كان ينافق، فقلبه كافر، أما عبد يقيم الصلاة ويسجد بين يدي الله وفي اليوم خمس مرات فكيف لا يكون مؤمناً؟ فلهذا أطلق على الصلاة بهيكلها لفظ الإيمان، بهذه الآية الكريمة: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143].إذاً: فالذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس قبل تحويل القبلة صلاتهم مقبولة صحيحة سليمة لا تشكوا فيها، وصلاتكم أنتم أيضاً يا من ما زلتم وتحولتم إلى الكعبة؛ صلاتكم في العام الماضي والأشهر الماضية مقبولة، ويكفي أن يقول الله تعالى لهم: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143].أعيد فأقول: الصلاة إيمان، الله سماها إيماناً، فتارك الصلاة لا إيمان له، تارك الصلاة كافر.

معنى قوله تعالى: (إن الله بالناس لرءوف رحيم)

إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، الرأفة أعظم من الرحمة، ومولانا وسيدنا وربنا تعالى رءوف رحيم، ليس بالمؤمنين فقط، بل بالناس: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، ومن أراد أن يشاهد الرأفة والرحمة الإلهية في الخلق فلينظر إليهم وهم يكفرون به ويحاربون دينه وأولياءه ومع هذا يمطر أرضهم ويسقيهم ويرزقهم ويأكلون ويشربون، لو كان غير الله فمن عصاه وتمرد عليه وكفر به يهلكه، يمنع عنه الطعام والشراب حتى يهلك، فسبحان الله! أعظم برحمة الله تعالى ورأفته! إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ [البقرة:143] كل الناس لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، إلا أن أولياءه هم أولى برحمته ورأفته، بخلاف أعدائه، إلا أن رحمة الله واسعة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله خلق مائة رحمة كل رحمة ملء ما بين السماء والأرض، قسم منها رحمة بين الخلائق بها تعطف الوالدة على ولدها وبها يشرب الوحش والطير الماء وبها تتراحم الخلائق، فإذا كان يوم القيامة قصرها على المتقين وزادهم تسعًا وتسعين )، جزأ تعالى الرحمة إلى مائة جزء، وادخر لأوليائه تسعة وتسعين في الجنة، ورحمة واحدة تتراحم بها الخليقة كلها، حتى إن الفرس لترفع حافرها مخافة أن تطأ مهرها أو فلوها، هذه الظواهر تشاهدونها في الحيوان. والأم من بني آدم يكون الحمل في بطنها، ما إن تأتي ساعة الطلق والوضع والولادة حتى يتحول دمها الأحمر إلى لبن أبيض خالص ناصع حتى يرضع هذا الطفل من هذا اللبن، اللبن هذا كان دماً خالصاً، فانظر إلى تلك الرحمة الإلهية التي أودعت في الأمهات كيف تتحول إلى لبن! انظر إلى العصفور كيف يزق أفراخه! انظر إلى الدجاجة كيف تزق أفراخها وكيف تطعمهم! انظر إلى العنز كيف تصنع مع وليدها، تميل له وتنزل حتى تكاد تقع على الأرض وتناغيه بصوت خاص.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إن الله قسم الرحمة إلى مائة قسمة، ادخر لنا -أيها المؤمنون والمؤمنات- تسعة وتسعين جزءاً، وجزء واحد تتراحم الخليقة كلها به، إذاً: حقاً إن الله رءوف رحيم، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].

حكم الصلاة إلى غير القبلة

وهنا نبين حكم من يصلي إلى غير القبلة؟ فنقول: لا تصح الصلاة إلى غير القبلة التي شرعها الله، فمن عزف عنها أو تكبر أو ارتفع أو أبى أن يستقبل بيت الله فصلاته باطلة بالإجماع، إذ من شروط صحة الصلاة: الطهارة واستقبال القبلة، لكن إذا عجز العبد عن استقبال القبلة، كمريض على سريره لا يستطيع أن يتحول، فهذا يكون رخصة له فيصلي حيث أمكنه، أو مسجون، أو مكبل بالأغلال، أو مكتوف في يديه ورجليه ما يستطيع أن يستقبل القبلة فيصلي حيث أمكنه. وأما جاهل بالقبلة ما عرفها، وجد نفسه في صحراء أو في طائرة أو في باخرة؛ فإنه يجتهد فحيث ترجح عنده أن الكعبة هنا اتجه، ولو صلى وجاء من قال: إنك صليت إلى غير القبلة فليس عليه أن يعيد صلاته، تكفيه صلاته الأولى، فإن صلى ركعتين أو ثلاثاً إلى غير القبلة ظناً أن القبلة هنا وجاء من قال: يا فلان! استدر يميناً أو شمالاً، فإنه يستقبلها وصلاته صحيحة، والذين كانوا في مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح، فجاءهم رجل صلى العشاء مع رسول الله هنا، فأعلمهم بأن القبلة قد تحولت إلى الكعبة، فاستداروا كذلك بعدما صلوا ركعة من صلاة الصبح، وأتموها إلى الكعبة.أما الذي يتعمد عدم استقبال القبلة فبالإجماع صلاته باطلة، أما الذي صلى ولم يجتهد فصلى كما يرى؛ فهذا إن صلى إلى غير القبلة فصلاته باطلة، فلا بد للمؤمن أو المؤمنة عند القيام لله في الصلاة أن يتحرى القبلة ما استطاع، فإن وفق وصلى إليها صحت صلاته، وإن لم يوفق وصلى إلى غيرها صحت صلاته، ولا يعيدها، وهذا من رحمة الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].

تفسير قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ...)

ثم قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]، الآن بدأ تحويل القبلة، فذاك الذي تقدم من أجل ألا يحصل ارتباك واضطراب بين المؤمنين، ومع هذا حصل ما حصل. قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرغب في أن يستقبل الكعبة ويود ذلك، فكان ينتظر الوحي متى ينزل، والوحي ينزل من السماء، فكان يرفع رأسه انتظاراً لجبريل متى ينزل والله عز وجل به عليم، فأخبره بما كان عليه: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] هذا وعد الله: فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]، إذاً: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:144] أيها المؤمنون فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].

حالات لزوم استقبال جهة الكعبة وعينها

إذا كان أحدنا في المسجد الحرام لا تصح صلاته إلا إلى القبلة، سواء كان مكانه شمالاً أو غرباً أو جنوباً، وإن كان خارج المسجد فلا تصح صلاته إلا إذا اتجه نحو القبلة لقربها، فمن بعد في الآفاق فيكفيه أن يتجه إلى النحو الذي يرى أنه القبلة؛ لأن عين القبلة غير ظاهر، ما يراه أحد في الآفاق البعيدة، فيكفي الاتجاه، أهل المغرب يصلون إلى المشرق، فمكة شرقهم، وأهل الشمال إلى ما فوق سيبيريا يتجهون جنوباً لأن القبلة تعتبر جنوباً، وأهل المشرق كالرياض قبلتهم المغرب، وأهل اليمن يتجهون شمالاً، وهكذا. فالذي نريد أن يفهمه المستمعون والمستمعات أن الذي يصلي في المسجد الحرام والكعبة أمامه لا يصح أن يصلي منحرفاً عنها، لا بد أن يستقبل الكعبة وإلا فصلاته باطلة. ومن كان خارج المسجد من أهل مكة وهم قريبون من الكعبة قد يشاهدونها وهم على سطوحهم، فهذا أيضاً يجب أن يتجه شطرها، والذين في الآفاق يكفيهم الجهة التي فيها الكعبة.ثم هذه الكعبة كانت قبلة الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، كانت قبلة إبراهيم وموسى والأنبياء، فلم -إذاً- حول الله عز وجل رسوله والمؤمنين إلى بيت المقدس؟ للامتحان، للاختبار، فلهذا كان ذلك التحول من أجل امتحان المؤمنين واختبارهم ليبقى المؤمن الصادق وينهزم الكاذب كالمنافقين واليهود. قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] إن كنا في اليابان أو الصين أو كنا في كندا وأمريكا، حيثما كنا نولي وجوهنا شطر المسجد الحرام.

وقفة مع هجران القرآن في حياة المسلمين

الرسول يوم القيامة يقول: رب! إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً، فالمشركون الذين جاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاومهم ودعاهم وحاربهم كانوا هاجرين للقرآن غير مقبلين عليه ولا ملتفتين إليه، ما آمنوا به ولا عملوا بما فيه، وكل البشرية يشكو الرسول صلى الله عليه وسلم أمرها الذي هو اتخاذ القرآن هجراً مهجوراً، فأيما إنسان لم يقبل على هذا الكتاب فيؤمن به ويقرؤه ويعمل بما فيه من هدى فإنه يشكوه الرسول إلى الله عز وجل، ويهلك قطعاً بلا جدال ولا شك. وها نحن نشاهد أيضاً العالم الإسلامي قد هجر القرآن إلا من رحم الله عز وجل، فالبلاد التي لا تطبق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا تطبق شرع الله الذي حواه كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أما هجرت القرآن؟ بلى هجرته، والجزاء معلوم عند الله، فلهذا نسأل الله أن يتوب علينا وعلى المؤمنين والمؤمنات.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-31, 05:49 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (96)
الحلقة (103)



تفسير سورة البقرة (63)

كان النبي صلى الله عليه وسلم أول مقدمه المدينة يتوجه في صلاته إلى بيت المقدس، وكانت نفسه تهفو إلى التحول تجاه البيت الحرام، ثم أذن الله عز وجل له بذلك مبيناً له أن أهل الكفر والنفاق والجدال بالباطل سيستغلون هذه الحادثة، وسيثيرون حولها الشبهات، وسيشغبون بها عليه وعلى المؤمنين، ورغم علمهم وقناعتهم بأن هذه القبلة هي الحق، ولكنهم لا يقبلونها لأنهم لا يقبلون الحق، فهذا هو حالهم وهذه هي سجيتهم.
تابع تفسير قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ...)
‏ تطلع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تحويل القبلة لمخالفة اليهود

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر الله شيئاً ولا يضر إلا نفسه. أما بعد:معشر الأبناء والإخوان! ما زالت السورة -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:144-151].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قد عرفنا من درسنا الماضي أن السفهاء من المنافقين واليهود، وهم حقاً سفهاء لا رشد لهم، فالذي يقدم على الكفر ويقدم على النفاق ويتحلى بأسوأ الأخلاق كيف لا يكون سفيهاً؟عرفنا ذلك وعرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة ثلاث سنوات يصلي، وقد صلى به جبريل عليه السلام، وكان يقف في صلاته ما بين الركنين اليماني والحجر الأسود، ويصبح الشام أمامه والكعبة أمامه، فلما هاجر إلى المدينة الطيبة المباركة استقبل بيت المقدس، واستقبلها المؤمنون والمؤمنات نحواً من ستة أو سبعة عشر شهراً، ثم كان صلى الله عليه وسلم يتطلع متى ينزل الوحي عليه ويحول الله قبلته إلى الكعبة، لم؟ أراد أن يخالف اليهود، لما ظهر مكرهم وخداعهم ونفاقهم أحب أن يخالفهم، وقد عرفتم كيف نهانا عن صيام يوم السبت؛ إنه من أجل مخالفة اليهود، وكنا نصوم يوم عاشوراء فزادنا اليوم التاسع حتى نخالف اليهود، فقال: ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع )، والآن يصوم المسلمون يوم تاسع المحرم وعاشره مخالفة لليهود.وأصبح يعمل ما استطاع على مخالفة أهل الكتاب ليستقل المؤمنون استقلالاً كاملاً، فمن رغب من أهل الكتاب في الإسلام فباب الله مفتوح، فليدخل إلى رحمة الله.ولما حقق الله أمله وأمره بأن يستقبل الكعبة إلى بيت المقدس صرح المنافقون والمشركون واليهود -والكل سفيه- وقالوا الكثير، فأنزل الله تبارك وتعالى قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]، فقطع ألسنتهم وأسكت أصواتهم إذ هذا أمر الله، فالمشرق والمغرب كلاهما لله وهو يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وثبت المؤمنون عند هذه الفتنة. ثم قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144]، إذ كان صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى يوم يؤمر فيه باستقبال الكعبة إذ هي القبلة التي استقبلها إبراهيم والأنبياء والرسل من بعده، فنزلت هذه الآية: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] متطلعاً منتظراً الوحي، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144].ويروى: أنه كان يصلي في مسجد بني سلمة، فنزل الوحي وهو في الصلاة يصلي بأهل ذلك الحي، فاستداروا، كانوا متجهين نحو الشام فاستداروا إلى الكعبة، استدار النساء والرجال بصورة لا يستطيعها الناس اليوم، ولهذا سمي هذا المسجد بمسجد القبلتين، وما زال يعرف بهذا إلى اليوم.

تحديد قبلة الكائن في المسجد الحرام وخارجه

إذاً: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، فمن هنا أصبحت القبلة التي يصلي إليها المؤمنون والمؤمنات هي شطر المسجد الحرام، وقد روى ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من كان في المسجد الحرام فقبلته البيت )، فالذي يصلي داخل المسجد الحرام بمكة قبلته الكعبة بعينها، فلو صلى إلى غيرها ما صحت صلاته، وأهل الحرم قبلتهم المسجد الحرام، حيثما كانوا في أنحاء الحرم فقبلتهم المسجد، ومن كان من وراء الحرم من أهل المشرق والمغرب فقبلتهم شطر المسجد الحرام، وهذا هو قوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، والشطر يطلق على نصف الشيء وعلى الجزء منه، فقبلة المؤمنين والمؤمنات في المسجد الحرام الكعبة، وفي مكة والحرم قبلتهم المسجد، وفي خارج الحرم شرقاً أو غرباً شمالاً أو جنوباً قبلتهم شطر المسجد الحرام، أي: الجهة التي فيها المسجد الحرام.وقوله تعالى: فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] لأنه كان يتطلع ويرغب ويحب أن يحوله ربه تعالى إلى الكعبة، فها هو ذا تعالى يبشره: فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] حيث ما كنتم أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام، ولولا هذه الجملة من كلام الله لقال الناس: هذا خاص بأهل المدينة، هم الذين يستقبلون الكعبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتطلع إلى ذلك، والله عز وجل أفرحه وأثلج صدره ووجهه إلى المسجد الحرام، فهذا لأهل المدينة، ولكن قوله: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:144] أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام. وذكرنا ما ينبغي أن يعرف: وهو أن على المؤمن أو المؤمنة أن يجتهد حتى يصلي إلى القبلة، فإن اجتهد وما وفق وصلى فصلاته صحيحة ولو صلاها بعيدة عن جهة الكعبة، وإذا صلى فلا يعيد، أما الذي لا يجتهد ويقوم يصلي وما يسأل الناس ولا ينظر إلى الكوكب وإلى السماء ويصلى كما يرى؛ فإن صلى إلى غير القبلة فصلاته باطلة، وعليه أن يعيدها، أما من اجتهد فلا حرج إن أخطأ في القبلة: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].

الجمع بين أقوال العلماء في موضع نظر المصلي

وقوله: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] أي: جهته، هنا الإمام مالك رحمه الله تعالى خالف الأئمة الثلاثة، في هذه القضية خالف أبا حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله أجمعين؛ إذ الثلاثة يقولون: المصلي ينظر مكان سجوده، والإمام مالك يقول: قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، إذاً: لا بد أن تولي وجهك شطر المسجد الحرام، بمعنى: أن تنظر أمامك ووجهك مستقيم إلى الكعبة. والذي يجمع بين أقوال هؤلاء الأعلام رضوان الله عليهم أنك عندما تحرم بالصلاة فتقول: الله أكبر تكون مستقيماً ووجهك إلى القبلة، وحين تحرم وتدخل في القراءة لا تطأطئ رأسك، ولكن في اعتدال وأنت تنظر إلى مكان سجودك، وهذا هو الجمع بين آراء الأئمة رحمهم الله.أعيد هذه القضية: مالك يرى فهماً من قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] أن من أحرم بالصلاة يكون وجهه إلى القبلة، أما أن يطأطئ رأسه فهذا مكروه، ففي هذه الحالة قد لا يستطيع أن ينظر مكان سجوده ورأسه مستقيم معتدل. فالقول الجامع أنك عند الإحرام تكون مستقيماً ووجهك إلى القبلة، ثم حين تأخذ في القراءة حينئذ تنظر وأنت معتدل إلى مكان سجودك، أخذاً من قوله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].

معنى قوله تعالى: (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون)

ثم قال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:144] أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن أهل الكتاب اليهود والنصارى يعلمون أن القبلة هي الحق، كيف يعلمون ذلك؟ لوجوده في التوراة والإنجيل، فعندهم أن نبي آخر الزمان المنعوت بكذا وكذا قبلته الكعبة، وهم يعلمون هذا، ولكن اليهود مصرون على قبلتهم والنصارى كذلك، وأبوا أن يستقبلوا بيت الله، مع أن الكعبة هي أول قبلة عرفتها البشرية، ويكفي أن علمنا أن هذا البيت بنته الملائكة لآدم عليه السلام وحواء، لما نزلا من السماء من الملكوت الأعلى استوحشا في تلك الأرض في هذا العالم الذي ليس فيه إنسان سواهما، فمن باب رأفة الله ورحمته بعبديه آدم وحواء بنى لهما البيت، فإذا طلبا شيئاً استقبلاه، فإذا احتاجا إلى شيء جاءا إليه وطافا به وسألا ربهما.فالكعبة هي قبلة البشرية من عهد آدم، واستقبال اليهود بيت المقدس والنصارى المشرق وطلوع الشمس استقبال لا شرع فيه ولا حق لهم فيه. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [البقرة:144] وهم اليهود والنصارى قطعاً، لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:144] أي: تحول القبلة واستقبالك بيت الله الكعبة هو الحق. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:144] ومعنى هذا: أنه سيعذبهم على كتمانهم الحق وجحودهم له، مع علمهم واعترافهم بأن هذا هو الحق، ومع ذلك آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ...)

ثم قال تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة:145]، الله هو الذي غرز الغرائز وطبع الطبائع وعرف القلوب، أخبره بخبر الصدق، فقال له: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ [البقرة:145] على أن يستقبلوا معك بيت الله ما فعلوا، وكذلك كانوا، فما استقبل يهودي ولا نصراني الكعبة أبداً إلى اليوم وإلى يوم القيامة، مع علمهم أنها الحق، وهذا الكلام مؤكد: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ [البقرة:145] واستمر الوضع إلى اليوم، اليهودي لا يستقبل الكعبة والنصراني لا يستقبل بيت المقدس، واليهودي لا يستقبل الكعبة ولا يستقبل مطلع الشمس، إذ القبلة ثلاث: الكعبة وبيت المقدس ومطلع الشمس، فقبلة النصارى إلى الآن المشرق طلوع الشمس؛ لأن الشيطان يدخل تحت الشمس ويجعلها على رأسه حتى يعبد، واليهود قبلتهم بيت المقدس، وهذا الخبر العظيم ما تغير ولا تبدل: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ [البقرة:145]، هل اليهود استقبلوا الآن مطلع الشمس مع النصارى في كنسائهم؟ لا. هل النصارى استقبلوا بيت المقدس؟ الجواب: لا. والمؤمنون من باب المحال أن يستقبلوا غير بيت الله، غير الكعبة التي فرض الله استقبالها عليهم.

معنى قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين)

ثم قال تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ [البقرة:145] أي: أهواء أهل الكتاب مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145]، وهذا -معشر المستمعين- عام، فاتباع الأهواء يسقط العبد وينزله من علياء السماء إلى الأرض، يبعده عن ساحة الهدى وطريق الخير، فالهوى -والعياذ بالله تعالى- وميل النفس إلى ما تشتهيه، إلى ما يزينه الشيطان لها ويرغبها فيه؛ هذا جزاؤه الخسار والدمار، وهذا الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: ولئن اتبعت يا رسولنا أهواء أهل الكتاب مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145].وهنا: هل المسلمون وقفوا موقف نبيهم صلى الله عليه وسلم؟ لقد اتبعنا أهل الكتاب في مجالات كثيرة، نذكر منها: أننا حلقنا وجوهنا اتباعاً لهم، نذكر منها: أننا كشف وجوه نسائنا اتباعاً لهم، منها: أننا فتحنا أبواب الربا وأقمنا له البنوك اتباعاً لهم منها: أن المسلمين -باستثناء هذه القطعة من الأرض- أعرضوا عن الكتاب والسنة وحكموا شرائع أهل الكتاب، بل ولا شرائع أهل الكتاب، وإنما أهواء اليهود والنصارى، ومن هنا فإننا لمن الظالمين، إن لم يعف الله ويصفح ويتكرم فسيجزينا بظلمنا، وقد جازى آباءنا وأسلافنا وسلط عليهم أعداءه وأعداءهم، لم؟ جزاء الانحراف عن هدي الله عز وجل وصراطه المستقيم. فهذا تهديد عظيم يوجه إلى رسول الله، فيقول له وقوله الحق: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145] والظالم جزاؤه معروف.

تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ...)

ثم قال تعالى وقوله الحق: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] يعرفون رسول الله، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:146] يقرءون التوراة والإنجيل ويعلمون ما فيهما، يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله كما يعرفون أبناءهم، لا ريب في هذا ولا شك، ورضي الله عن عبد الله بن سلام الحبر من أحبار اليهود، هو أول من أسلم من اليهود في المدينة، فقد قال رضي الله تعالى عنه: والله! إني لأعرف رسول الله أكثر مما أعرف أبنائي. قيل: لم؟ قال: لأن أبنائي من الجائز أن تكون أمهم خانتني، أما رسول الله فلا أشك في رسالته ونبوته. ومع هذه المعرفة لم أعرضوا عن الإسلام وأدبروا عنه؟ قد تجيب بجواب سهل: لأن الله كتب شقاوتهم، ما أراد الله سعادتهم، ما هم بأهل لذلك، فلهذا عرفوا الحق وأغمضوا عيونهم واستدبروه.أما كون الأدلة ناقصة والبراهين ما هي بمتوافرة والحجج عند رسول الله ما هي موجودة فهذا -والله- ما كان، ويكفي شهادة الله أنهم يعرفونه رسولاً من الله كما يعرفون أولادهم، وإلى الآن القسس والرهبان والأحبار يعرفون، ولكنهم يجحدون عن أممهم، ويخفون عن جهالهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويعبرون بتعبير يختلف عما في التوراة إلى الآن، وسر ذلك اتباع الأهواء وإيثار الدنيا على الآخرة حتى يبقوا في مناصبهم وسيادتهم على معتنقي دينهم، وهكذا يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:146] ولفظ الكتاب اسم جنس يدخل فيه التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، يَعْرِفُونَهُ [البقرة:146] الضمير عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] أولادهم من بنين وبنات. وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، وإن فريقاً كبيراً كثيراً وهم القسس والرهبان والأحبار، أما عوام اليهود وعوام النصارى والذين ما درسوا الكتاب فمن الجائز أنهم مقلدون فقط، لا يعرفون أما أهل الكتاب الذين يدرسونه ويعلمونه لأولادهم ونسائهم وإخوانهم ويقرءون التوراة والإنجيل فيعرفون معرفة يقينية، ولكنهم يكتمون الحق؛ لأنهم إذا أفصحوا عنه وأعلنوه دخلوا في الإسلام، وإذا دخلوا في الإسلام انقطعت تلك الرياسة وانتهى ذلك السلطان الذي كان يعيشون عليه، فهم -والله- مؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، وسيلقون جزاءهم.

تفسير قوله تعالى: (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين)

ثم قال تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [البقرة:147] الحق من الله هو الذي بينه وهداك إليه وأنزل به كتابه وعلمك الهدى، فالحق من الله عز وجل، إذاً: فَلا تَكُونَنَّ [البقرة:147] يا رسولنا مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة:147]، ومن هم الممترون؟ هم الشاكون الذين مرة يقولون: هذا حق، ومرة يقولون: باطل. مرة يقولون: هذا هو الصواب، ومرة يقولون: لا، هذا خطأ! هذا هو الامتراء: اضطراب، فالشك يدافع اليقين واليقين يدافع الشك، ويبقى في هذه الفتنة النفسية القلبية، فالله عز وجل ينهى رسوله محذراً له أن يكون من الممترين: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة:147].

تفسير قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً ...)

ثم قال تعالى في هذا الباب وقوله الحق: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة:148] ولكلٍ منكم أنتم أيها المؤمنون ويا أيها اليهود ويا أيها النصارى؛ لكل منكم قبلة هو مستقبلها، وصدق الله العظيم، فهل عدل اليهود عن قبلتهم؟ ما زالوا يوجهون وجوههم إليها. هل عدل النصارى؟ الجواب: لا. وهل المسلمون يعدلون وجوههم عن القبلة التي أكرمهم الله بها وشرعها لهم؟ الجواب: لا. إذاً: فهذا هو الواقع سواء كان حلواً أو مراً، يخبر تعالى بواقع البشرية، والصراع بين المؤمنين والمسلمين وبين أهل الكتاب دائم، فلهذا يقول تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة:148].إذاً: فماذا علينا؟ قال: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، اثبتوا أيها المؤمنون على قبلتكم والزموها؛ فإن الآخرين على قبلتهم ملازمين لها ثابتين عليها، إذاً: فالطريق هو أن تستبقوا الخيرات، أي: أكثروا من فعل الصالحات، والخيرات: جمع خير، وهو ما شرع الله تعالى لنا من أنواع العبادات، من الجهاد إلى الصدقات، فكل ما شرع الله لنا أن نعتقده أو نقوله وننطق به أو نعمل به هو من باب الخير لا من باب الشر، فالله عز وجل يستحثنا، يدفعنا دفعاً إلى أن نتسابق في الخيرات.

معنى قوله تعالى: (أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شيء قدير)

أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا [البقرة:148] هذه الحياة ستنتهي، ومن مات في الشرق كمن مات في الغرب، ومن مات اليوم كمن مات أمس أو كمن يموت غداً، المرجع إلى الله عز وجل، إلى الله مرجعكم جميعاً، أبيضنا كأسودنا، كافرنا كمؤمننا، الصالحون كالفاسدين، الكل مرجعهم إلى الله، وإذا رجعنا إليه فالجزاء العادل، أهل الإيمان وصالح الأعمال جزاؤهم أن ينزلهم منازل الأبرار، ويخلدون في النعيم المقيم لا يفارقونه ولا يفارقهم أبداً، إذ لا نهاية لتلك الحياة، إنها حياة الخلد والبقاء، والذين يأتونه بالشرك والكفر والقلوب المظلمة والنفوس الخبيثة ممن أصروا على الباطل وقاموا عليه وعاشوا عليه حتى ماتوا جزاؤهم معلوم بالضرورة، عالم الشقاء، النار ذات الدركات السبع، ذات الأبواب السبعة، يخلدون فيها إلى ما لا نهاية، اللهم إلا من كان من أهل التوحيد كما علمتم، فأهل التوحيد يخرجون من النار بعدما يلبثون فيها أحقاباً، يخرجون منها بذلك التوحيد الذي عرفوا به الله وما عرفوا غير الله، وأعطوا لله قلوبهم ووجوههم وما أعطوها للمخلوقات ولا للكائنات، وإن فسقوا وفجروا عن الطاعة يوماً فاستوجبوا العذاب ودخلوا النار فإنهم يخرجون كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، يخرجون وقد امتحشوا واحترقت وجوههم، فيغسلون في نهر عند باب الجنة، فينبتون كما تنبت الخامة من الزرع، هؤلاء هم أهل التوحيد، أما أهل الشرك فالجنة محرمة عليهم لا يدخلونها. أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:148]، لا يوجد شيء يصعب على الله أو يعجز الله دونه، وكيف وهو الذي يقول للشيء: كن فيكون؟ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، إذا اتجهت إرادة الله إلى شيء وأراده فلا يستعصي أبداً، بل يكون كما أراد الله.إذاً: فهذه البشرية ومثلها عالم الجن الكل يجمعون في صعيد واحد، الكل يحشرون إلى موقف واحد، إلى ساحة واحدة، ويجازيهم الله وهو أرحم الراحمين وأعدل العادلين. وقد عرفنا حكمه عز وجل الذي أقسم عليه بأعظم إقسام، وهو قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فالإنسي كالجني، والجني مكلف كالإنسي بتزكية نفسه وتطهيرها، فمن استجاب لله وزكى نفسه أنزله منازل الأبرار، ومن أبى إلا أن يخبث نفسه ويدرنها بأوزار الذنوب والآثام فمصيره معروف.

أدوات التزكية التي يتدارك بها العبد قصر العمر وانصرام الدنيا

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الحياة ستنقضي، وهي تنصرم يوماً بعد يوم، وقبلها نموت ونرى نتائج أعمالنا وثمار سلوكنا في القبر، بل ساعة الموت، لا نؤجل حتى ندفن، والله! لنعرفن ذلك ساعة الاحتضار، يوم ينقطع الكلام عنا ونصبح محجوزين عن إخواننا ولا نرد ولا نتكلم معهم فثَمَّ يعرف عبد الله وأمة الله هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار، ولنقرأ لذلك قول ربنا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].معاشر المستمعين والمستمعات! الفرصة ضيقة، ولا تظن أن العمر طويل مهما كان، ولا يدري أحدنا إذا أمسى أن يصبح وإذا أصبح أن يمسي، فمن أراد النجاة فليقبل على نفسه فليزكها، فليطهرها، فلينظفها، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.

العقيدة الصحيحة القائمة على الكتاب والسنة

وأدوات التزكية وعواملها وضعها الله بين أيدينا، حملها كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فابدأ بعقيدتك صفها، أصلحها، أبعد عنها كل شائبة من الشك والريب، ولتكن عقيدتك عقيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذ نظر يوماً فقال: ( افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة )، وصدق رسول الله، وافترقت هذه الأمة -وما زالت مفترقة- إلى ثلاث وسبعين فرقة ( كلها في النار إلا واحدة ففي الجنة )، اثنتان وسبعون فرقة من هذه الأمة المحمدية في النار إلا واحدة في الجنة، وألهم الله أحد الصحابة وهو جالس فقال: ( من هي الفرقة الناجية يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، الفرقة الناجية أفرادها من رجال ونساء وأحرار وعبيد هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي. وهنا -معاشر المستمعين- لا بد أن تكون عقائدنا هي عقائد رسول الله وأصحابه، لا نعتقد شيئاً ما اعتقده رسول الله ولا اعتقده أصحابه وهم من عرفتم، لم تكتحل عين الوجود بصحبة وأصحاب مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].إذاً: العقيدة مصدرها قال الله وقال رسوله، إياك أن تفهم أن عقيدة المسلمين مستنبطة أو مستخرجة من كتاب، إنما هي ما جاء في كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، عنوانها ورمزها الأول والأخير: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى لا إله إلا الله: لا معبود حق نعترف به ونعبده إلا الله عز وجل، ولا يدخل العبد في رحمة الله إلا بالإعلان عن هذه الحقيقة: لا إله إلا الله، أي: لا يستحق أن يعبد إلا الله.ثانياً: وأن يشهد عن علم أن محمداً رسول الله. وهنا -معاشر المستمعين- يجب علينا أن نعرف عقيدتنا من كتاب ربنا وهدي نبينا، يجب أن نعرف أدوات التزكية للنفس والتطهير وكيف نستعملها، وهنا نجد أنفسنا مفتقرين إلى العلم افتقاراً كاملاً، ولا يستطيع أحد من هذه الأمة أن يعرف محاب الله ومساخطه، وكيف يقدم لله المحبوب وكيف يبتعد المكروه ما لم يدرس الكتاب والسنة؟ونعود إلى تلك الكلمة وهي الفرقة الناجية، فقد قالوا: من هي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ( هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، هل كان لأصحاب رسول الله مذاهب؟ هل كان لهم طرق؟ هل كان لهم أحزاب؟ هل كان لهم تجمعات؟ كانوا كأسرة واحدة، وهذا شأن المؤمنين، أما قال صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )؟ فمن طلب النجاة نجا، وأنصح لك يا عبد الله أو يا أمة الله أن تبدأ بالعقيدة، فلا تفهم أبداً من عقيدتك ما لم تجده في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

العبادات المؤداة على الوجه المشروع

ثانياً: العبادات إذا لم يؤدها المؤمن على الوجه المطلوب فإنها لا تزكي النفس، فلا بد أن تعرف كيف تتوضأ عندما تتوضأ، وأن تعرف كيف تصلي عندما تقوم تصلي، وكيف تصوم عندما تشرع في صومك، وكيف تعتمر، وكيف تحج، هذه العبادات إذا لم تؤد على الوجه الذي وضع الشارع فإنها ما تنتج هذا النور ولا تولد هذه الحسنات. وعندنا أمثلة يا معاشر المستمعين: لو أن شخصاً قام يصلي أمام فقيه، فقدم السجود على الركوع، أو قدم قراءة الفاتحة على تكبيرة الإحرام، ماذا يقول له الفقيه؟ يقول له: صلاتك باطلة. لم يا شيخ باطلة؟ لأنك قدمت وأخرت. لو قام يصلي فصلى المغرب أربع ركعات، فقيل له: لم تزيد هذه الركعة؟ قال: أزيدها لوجه الله، أنا عبد الله فزدت هذه الركعة، ماذا يقول له الفقيه؟ يقول: صلاتك باطلة أعدها، لم يعيدها؟ لم بطلت؟ لأنه زاد ركعة ما شرعها الله، فلم تنتج تلك الصلاة المطلوب وهو الحسنات التي تحسن بها النفس وتطيب وتطهر، فهو كمن نقص؛ لو صلى أحدنا العشاء ثلاث ركعات -بل لو نقص سجدة واحدة- يقول له الفقيه: صلاتك باطلة. ما معنى باطلة؟ ما أنتجت لك المراد المطلوب وهو الحسنات، ما تزكي نفسك.

تلقي علم الكتاب والسنة في المساجد

فلهذا -معاشر المستمعين- يجب أن نعود إلى بيوت الله نطلب العلم والهدى، يكفينا ذلك الفرار وذلك البعد الذي دام قروناً والمسلمون هاجرون بيوت الله، لا يجتمعون فيها، ولا يتلون كتاب الله، ولا يتدبرونه، ولا يدرسون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كل الذي نعانيه في ديارنا الإسلامية هو نتيجة الجهل، ما عرفنا الطريق إلى الله كيف نسلكه، صرفونا بأنواع الحيل وشتى الوسائل فأخلينا بيوت الله وأصبحنا نجري في الحياة ولا بصيرة ولا هدى، فهل الذي لا يعلم الطريق يسلكه؟ وكيف يسلكه؟ لا بد من العلم، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما العلم بالتعلم ) ، ويقول: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، هذا العلم معاشر الأبناء مصدره قال الله وقال رسوله، لا تطلبه من غير الكتاب والسنة. إذاً: ما الطريق؟ كيف نعود إلى بيوت الله؟ نحتاج إلى حزم فقط وصدق فيه وجد صادق، فأهل القرية وأهل الحي إذا فرغوا من عمل الدنيا، الفلاح كالصانع كالتاجر، وغابت الشمس أو مالت إلى الغروب فإلى أين نذهب؟ فتحوا لنا المقاهي والملاهي وحدائق الباطل لنلهو فيها ونلعب فصرفونا عن بيت الله والمسجد، لماذا لا نأخذ أنفسنا بجد ونسلك سبيل رسول الله والمؤمنين الأولين من سلفنا الصالح؟ نجتمع في بيوت ربنا في أنحاء العالم، حيث وجدنا وجدت مساجد الله والبيوت التي نجتمع فيها من المغرب إلى العشاء كاجتماعنا هذا، كل ليلة وطول العام، بل طول العمر، هل يبقى بيننا من لا يعرف الله؟ هل يبقى بيننا من لا يعرف كيف يتملق الله ويتزلف إليه ويتقرب منه؟ ما يبقى أبداً، لأنه حصل العلم والمعرفة، وكم أثنى الله تعالى على العلم والعلماء في كتابه العزيز في آيات كثيرة، ومنه قول الله تعالى: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، ضرب مثلاً للشرك والباطل فقال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، ثم قال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].وقد رغب صلى الله عليه وسلم في العلم بما لا مزيد عليه، وحسبنا حديث مسلم ، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ) بهذا اللفظ العام، ( ما اجتمع قوم ) عرب أو عجم.. في الشرق أو الغرب، ( في بيت من بيوت الله ) لا الكعبة ولا المسجد النبوي، في أي بيت من بيوت الله، اجتمعوا اجتماعنا هذا ( يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم )، يقرأ القارئ الآيات ويأخذون في دراستها كما فعلنا، ( إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة )، ونقول: قف يا عبد الله وانظر إلى هذا المجلس المبارك، لو كان هذا المجلس في حديقة أو في دار سينما أو في مقهى فماذا تسمع؟ ماذا تشاهد من اللغط والكلام والباطل؟ انظر هل ترى حركة؟ والله! لقد نزلت السكينة.( وغشيتهم الرحمة ) إي والله غشيتنا الرحمة، فالآن لنا ساعة أو نصف ساعة، فهل أوذي مؤمن؟ هل أوذي واحد بيننا بما يؤلمه؟ والله ما كان، أليست هذه هي الرحمة؟( وحفتهم الملائكة ) لو كنا نراهم بهذه الأبصار الضعيفة لرأينا ملائكة تطوف بنا احتفاءً واحتفالاً بنا، وأعظم من هذا: ( وذكرهم الله فيمن عنده )، فالذي يذكره ربه في الملكوت الأعلى ما يشقى أبداً، هذه ثمرة ما أطيبها. وفوق ذلك -معاشر المستمعين والمستمعات- أن الشياطين تريد أن تبعدنا عن ساحة الرحمة وعن طريق الهدى والخير، فهيا بنا نكيد لها، نحتال عليها، فنجتمع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فتنتهي الفرقة نهائياً، لا فرقة ولا خلاف، الشيخ المدرس المربي قال: قال الله تعالى: اعتقد كذا، فاعتقدناه، فكيف نستطيع أن نتحول ونتبدل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، سواء كان خلقاً أو أدباً أو عبادة أو معرفة حق، فنعرفه نساءً ورجالاً، فهذا هو الطريق.لو أن العلماء عرفوا هذا الطريق لجمعوا المؤمنين والمؤمنات في بيوت الله في كل المدن والقرى، وما المانع؟ والله! لا مانع إلا الهوى والدنيا والشيطان، فلو يقبل المؤمنون على كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم يدرسون هذا العلم كل ليلة طول العمر؛ فهل يبقى في القرية جاهل؟ هل يبقى في المدينة جاهل؟ وإذا انتفى الجهل انتفى معه كل شر وكل ظلم وفساد؛ لما تعلمون. سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً: ( من أعظم الخلق إيماناً؟ قالت الصحابة: الملائكة. فقال: وكيف لا يؤمن الملائكة وهم يعاينون الأمر؟ قالوا: فالنبيون يا رسول الله. قال: وكيف لا يؤمن النبيون والوحي ينزل عليهم من السماء؟ قالوا: فأصحابك يا رسول الله. قال: وكيف لا يؤمن أصحابي وهم يرون ما يرون؟ ولكن أعجب الناس إيماناً قوم يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ويصدقوني ولم يروني، أولئك إخواني ).فالعلم نور، وصاحب النور ما يقع أبداً في الفساد والشر، هذا أمر واقع، ونقول دائماً: في أي بلد أعلمنا بالله وبمحابه ومساخطه أتقانا لله عز وجل، وأفسقنا أجهلنا. وهذا العلم -معاشر المستمعين- لا يتطلب منا قرطاساً ولا قلماً، هذا يستطيعه كل مؤمن ومؤمنة يعمل طول النهار في مزرعته أو في مصنعه أو متجره، وإذا مالت الشمس إلى الغروب يندفعون إلى بيت ربهم، يجتمعون فيه بنسائهم وأطفالهم ورجالهم، ويجلس لهم مرب مؤمن في يده كتاب الله ويقول لهم: قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون كل ليلة علماً جديداً ويعملون به في نفس الوقت، يعلمون ويعملون يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وعاماً بعد عام، أسألكم بالله: أيبقى فيهم جهل؟ أيبقى بينهم جاهل؟ أصبحوا علماء، فهل العالم الذي عرف يفسق؟ هل يجاهر بالفسق؟ هل يقبل على الشر والباطل؟ والله ما كان، فأعلمنا أتقانا لله عز وجل بالتجربة القائمة، في أي بلد في أي إقليم العلماء العاملون بالفعل هم أتقى أهل البلاد، أليس كذلك؟ وحسبنا أن يقول الله لرسوله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، ويكفي في منزلة العلماء أن الله قال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

تنديد بمظاهر الفسق في بيوت المسلمين الناجمة عن الجهل

وأخيراً: كل الذي نشكوه من وجود فسق، فجور، ظلم، اعتداء، حسد، كبر، كل هذه التي نتألم لها ما هي إلا ثمرات الجهل، ويوم يزول الجهل ينتهي الظلم والشر والفساد، فما المانع؟ وقد جربنا هذه القضية في هذا المسجد، درسنا (كتاب المسجد وبيت المسلم) سنة كاملة وزيادة، ونحن نصرخ ونقول للمؤمنين في الشرق والغرب: إنه لا سبيل إلى اجتماعكم ووحدتكم واتفاقكم إلا أن تعلموا عن الله ورسوله، لا تتوحد أبداً صفوفكم إلا من طريق الكتاب والسنة، خذوا هذا الكتاب واجتمعوا عليه في بيوتكم، تلك البيوت التي تحولت إلى مباءة للشياطين، فهيا نبكي على بيوت المسلمين، فالبيت الذي ترقص فيه راقصة في شاشة فيديو أو تلفاز، ويغني فيه مغن ويرقص فيه راقص ويتكلم فيه كافر، هل ترون أن الملائكة تبقى في البيت؟ والله! ما تبقى، بل لا تدخله، فهجرنا المساجد هجراناً كاملاً وجئنا إلى البيوت فحولناها إلى مباءات للشياطين.معاشر المستمعين! البيت الذي ترى فيه الصور الخليعة المدمرة ويسمع فيه أصوات الخليعين من المغنين والمغنيات ما تدخله الملائكة، فإذا خرجت الملائكة امتلأ البيت بالشياطين، هؤلاء الشياطين هم الذين يدفعوننا إلى الفجور، يدفعوننا إلى قول الباطل، يدفعونا إلى الكبر والعناد وما إلى ذلك.ولنذكر الحديث في البخاري ومسلم والموطأ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: ( أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، قالت: فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ قالت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، فيقال لهم أحيوا ما خلقتم. وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة ). وازدادت المحنة بهذه الآلة الجديدة المسماة بالصحن الهوائي، هذه تجلب لأهل البيت أنواعاً من الفجور والباطل ما لا يقدر قدره، والله! لقد أصبح أولئك الذين نصبوها على سطوحهم أصبحوا يفقدون إيمانهم وحياءهم، والعياذ بالله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2018-12-31, 05:57 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (97)
الحلقة (104)



تفسير سورة البقرة (64)

لما جاء الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بتغيير اتجاه القبلة نحو الكعبة المشرفة بدلاً من القبلة السابقة تجاه بيت المقدس، كثرت أقاويل المرجفين، وتهويشات المنافقين في هذا الأمر، رجاء أن يذعن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لذلك ويعودوا إلى قبلتهم الأولى، حتى يحتجوا عليهم من جديد على عدم ثباتهم على أمر، فبين الله لنبيه هذا الأمر، وامتن عليه وعلى المؤمنين بما أتم عليهم من النعمة والهداية.

تفسير قوله تعالى: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر الله شيئاً ولا يضر إلا نفسه. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:150-152] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

ذكر ما وقع قبيل تحويل القبلة وبعده

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة يصلي فيجعل البيت أمامه والشام أو بيت المقدس وراء البيت، أي: يقف بين الركنين اليماني والحجر الأسود، وقضى على ذلك ثلاث سنوات، وجاء المدينة النبوية مهاجراً بعد أن تقدم إليها كثيرون من المؤمنين والمؤمنات، فلما دخل المدينة استقبل في صلاته بيت المقدس نحواً من سبعة عشر شهراً، سنة وزيادة، ثم كان يود وكان يحب وكان يرغب أن لو أذن له بأن يستقبل الكعبة بيت الله، وكان يتطلع حتى إنه يرفع رأسه انتظاراً للوحي متى ينزل، إذ قال تعالى في هذا الباب: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] ألا وهي الكعبة البيت العتيق قبلة إبراهيم والأنبياء من قبل.فلما استقبل البيت وترك بيت المقدس أخذ الناس يتكلمون، وخاصة مرضى القلوب من المنافقين واليهود والمشركين وضعاف الإيمان، أما اليهود فقالوا: ينكر ديننا ويستقبل قبلتنا! في هزء وسخرية، وهذا تعرفونه من بعضنا كيف نتكلم، فالبشر هم البشر؛ لأن إبليس هو إبليس، هو الذي يلعب بقلوب البشر وبأخلاقهم وآدابهم، والمشركون قالوا: حن إذا ديار آبائه وأجداده! وبعضهم قالوا: اليوم إلى الكعبة وغداً لا ندري إلى أين يتجه! وآخر يقول: هذه الذبذبة وهذه الحيرة كيف يدعي معها النبوة ويقول كذا؟ فكان موقفاً صعباً، واضطرب المؤمنون، فلهذا تكررت الآيات، وآخر ما فيها: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:150] أنتم أيها المؤمنون في أي مكان فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150]، أي: جهته. وبهذا استقرت القبلة إلى يوم الدين، فلا تصح صلاة عبد يتعمد عدم التوجه إلى الكعبة، فإن استقبال الكعبة شرط في صحة الصلاة، فلا تصح بدونه، وقد علمنا -زادنا الله علماً- أن من تعمد عدم استقبال القبلة فصلاته باطلة بالإجماع. وأما من كان عاجزاً ما يستطيع فإنه يصلي حيث يستطيع، كالمكتوف الرجلين أو الملقى في زنانة أو مريض لا يقوى على أن يستقبل القبلة.ثانياً: من جهلها ولم يعرفها يجب عليه أن يطلبها، وأن يتحرى طلبها، فإذا اجتهد وصلى ولم يوفق فصلاته صحيحة؛ لأنه بذل ما في وسعه، سأل الناس إن وجدهم، أو ما وجد أحداً فنظر إلى السماء، فكر في الشرق والغرب وصلى، فهذا معذور وصلاته صحيحة؛ لأنه طلب وما وجد، هذا بالنسبة إلى صلاة الفرض. وأما المسافر الراكب على الطائرة أو السيارة فيستقبل إن أمكن في أول مرة البيت، وإن دارت دابته أو سيارته فليصل حيث اتجهت دابته النوافل، فلقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على راحلته النوافل حيثما اتجهت، والله عز وجل يقول: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].

معنى قوله تعالى: (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني)

إذاً: انتهت تلك الفتنة، والله عز وجل يقول لرسوله وللمؤمنين: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ [البقرة:150] أيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:150] أيها المؤمنون فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150]، لماذا؟ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [البقرة:150]، لو رجعوا بسبب الفتنة والصياح وعادوا إلى بيت المقدس لقالوا: هذا هو التلاعب، كيف اليوم من هنا وغداً من هناك؟ فلهذا علل تعالى لذلك بقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [البقرة:150]، اللهم إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [البقرة:150]، فهؤلاء لن تستطيعوا أبداً أن تسكتوهم، فلا ينفع معهم إلا الإعراض عنهم، وهذه قاعدة: إذا كان الشخص يتعمد ويقصد ويريد فتنة المؤمن فلا حاجة إلى جداله ولا إلى صراعه، من الحكمة أن تعرض عنه ولا تلتفت إليه، إذا كان الشخص معانداً يريد فتنتك أيها المؤمن فإنه لا يقبل حجة من حججك، ويرد كل ما تلقيه إليه؛ فمن هنا فأي فائدة في نزاعه أو جداله أو خصومته، أعرض عنه فذلك هو الحكمة. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:150] فهؤلاء لن تستطيعوا إقناعهم، إذاً: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [البقرة:150] إن كنتم مؤمنين.

معنى قوله تعالى: (ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون)

ثانياً: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150] بالعلم والمعرفة والهداية والإصلاح، وهذا وعد الله عز وجل، وقد أتم نعمته، وأتم هذا الدين بأكمله، وأعلن عن تمامه في آية المائدة يوم عرفات: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3] ولا نعمة أعظم من هذا الدين، والله! لا توجد نعمة على سطح الأرض أجل ولا أعظم ولا أكثر خيراً وبركة وفائدة من هذا الدين الإسلامي، إذ هو سلم الكمال ومرقاة العروج إلى دار السلام.لا تفهم أن نعمة المال أو الولد أو السلطان تعدل نعمة الإسلام، والله! لا تعادلها نعمة؛ لأنها الطريق إلى دار السلام، وما عدا ذلك فأين يصل بالعبد؟ ساعات وتنتهي تلك النعم! وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150]، و(لعل) من الله كـ(عسى) تفيد الحقيقة، والهداية تكون إلى ما يحب الله ويرضى، الهداية إلى دار السلام، إلى الجنة. وهكذا هدأ الله تلك الضجة، وأطفأ تلك النار، واستقرت الحال على أحسن حال بتوجيه الله عز وجل وتدبيره. وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150] أي: رجاء أن تهتدوا، أو ليعدكم ويؤهلكم للهداية إلى ما فيه خيركم وسعادتكم في الدنيا والآخرة، وانتهت بهذا قضية القبلة واستقر أمرها إلى يوم الدين.

تفسير قوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ...)

ثم قال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ [البقرة:151] هذه نعمة أخرى، إرساله تعالى الرسول النبي الأمي محمداً صلى الله عليه وسلم لهذه البشرية عامة، ولأمة العرب خاصة، هذه من أجل النعم وأعظمها، كيف كان حال البشرية قبل النبوة المحمدية؟ لو تتصفح تاريخ البشر لوجدت أنه هبطت البشرية إلى أبعد حد: الظلم، الشر، الفساد، الخبث، الجهل، عبادة الأوثان، عبادة الشهوات، عبادة الشياطين، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لم يبق إلا أفراد قلائل من أهل الكتاب ليسوا بشيء، والبشرية كلها في الظلام.فكانت نعمة الله عز وجل بإرسال هذه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأخذ القرآن ينزل وأخذت الشريعة تطبق، وما هي إلا خمس وعشرين سنة فقط والإسلام قد تجاوز نهر السند، وتجاوز الغرب، ووصل إلى أقصى الشرق والغرب في خمس وعشرين سنة!ومن ثم افهموا أنه لولا الإسلام الذي أضاء الدنيا وأشرقت به الحياة ما كانت هذه الكهرباء موجودة، ولا عرف الناس الطائرة ولا الباخرة، قبل الإسلام كانوا كالبهائم، ما إن تفتحت قلوب البشر بنور الله حتى أصبحت البشرية تتطور إلى أن وصلت إلى هذا الحد! ولعل هذه الكلمة ما هي بمسلمة عندكم؟ ولكن قالها علماء الغرب الصناعيون، قالوا: لولا الإسلام ما عرفنا هذا النور، ولا وصلنا إلى هذه الحضارة.فنعمة الله بإرسال الرسول نعمة عظيمة: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ [البقرة:151]، لو أرسل الله الرسول من العجم للعرب لقالوا: لا نؤمن به ولا نتابعه، أو لقالوا: لساننا يختلف عن لسانه، أو سيتعبون ويعانون ويقاسون حتى يعلموا ويفهموا، لكن قطع الله ذلك بإرساله منهم ينطق بلسانهم، ومنهم حيث عرفوه من ولادته إلى نبوته أنه أكمل مخلوق وأعز مخلوق وأعظم إنسان على الإطلاق، فهي نعمة عظمى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [البقرة:151] يقرؤها على أسماعكم وأنتم تسمعون، أي نعمة أعظم من هذه؟ بلغتكم ولسانكم، لا يطالبكم بأجر ولا بجزاء، أجره على الله عز وجل، فاذكروا هذه النعم واشكروها: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150] إلى أين؟ إلى سبل السلام وطرق السعادة، وهل بدون العلم نصل إلى هذا الكمال؟

المراد بالتزكية التي بعث لها النبي صلى الله عليه وسلم

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ [البقرة:151]، التلاوة للآيات عامل قوي للتزكية، لأن ما يحمله الكتاب من علم ومعرفة يكون أداة صالحة لتزكية النفوس.فهل المراد بالتزكية أن يقال: فلان ذو علم، فلان ذو شرف، فلان ذو كرامة؟! ليست بتزكية هذه، هذه التزكية هي تزكية النفس، بمعنى: تطهير النفس وتطييبها، فإذا طابت النفس وطهرت تجلى ذلك وانكشف في سلوك العبد، أيما إنسان زكت نفسه- أي: طابت وطهرت- إلا تجلى ذلك في منطقه، فلا ينطق بالمكروه، ولا يتلفظ بالسوء، وتجلى ذلك في مشيته، فلا يمشي خيلاء ولا كبرياء، وتجلى ذلك في يديه، فلا يتناول ما يؤذي ولا يضر، وتجلى ذلك في تفكيره، في كل حياته! النفس البشرية إذا طابت وطهرت انعكس ذاك النور على السمع والبصر والنطق وعلى الجوارح، فإذا كانت النفس خبيثة مدساة مظلمة ظهر ذلك في سلوك هذا الإنسان، في منطقه، في سمعه، في كل حركاته وسكناته، وإن قلت: كيف؟ قلنا: النفس هي المحرك للجسم، وبدون نفس هل تكون فيه حياة؟ إذا خرجت الروح هل يبقى للجسم ما يتحرك به، أو يفكر أو يعقل أو يبصر؟! انتهى.فهذه الروح التي هي من أمر الله إما أن تتدسى وتخبث وإما أن تطيب وتطهر، فإن طابت وطهرت حصل الكمال للإنسان بكامله، وإن خبثت هبط حتى يصبح أسوأ من الحيوان.والواقع شاهد، وهذا ملموس، مرئي محسوس في البشر كلهم، فلهذا قال تعالى في نعمة ثالثة: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [البقرة:151] لم يتلو عليهم الآيات؟ ليذكرهم، ليعظهم، ليأمرهم، لينهاهم، ليبشرهم، لينذرهم، ليدفعهم إلى الكمال، ليسوقهم إلى السعادة، فالآيات تلاوتها هي الدافع، ويزكي نفوسكم ويطيبها ويطهرها.

توقف الفلاح على زكاة النفس وطهارتها

وأعيد إلى أذهان السامعين والسامعات أن سعادة الآخرة وفلاح العبد فيها وفوزه فيها متوقف -والله- على زكاة النفس أحببنا أم كرهنا، كما أن شقاء العالم الثاني، شقاء الدار الآخرة، والخلود في مر العذاب وشقائه في الجحيم متوقف على خبث النفس وتدسيتها، وهذا قسم الله العظيم، واسمعوا وتأملوا، فسأتلوه كما كان يتلو رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسمع يا عبد الله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1] هذه الواو واو القسم، هذه صيغة يمين، تأملها يا عبد الله. وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8] هذه أيمان، هذا قسم، فمن أقسم؟ الله، أقسم على هذه الحكم الصارم القاطع الذي لا ينقض: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فهيا نبكي إذاً؟ هل عرفتم؟ من زكى نفسه أفلح، ومن دساها خاب، والخيبة والفلاح بينهما تعالى حتى لا يبقى لك عذر أو كلمة تقولها.قال تعالى في بيان هذا الفلاح: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فهل عرفتم الفوز ما هو؟ ما الفلاح؟ إنه الزحزحة عن النار ودخول الجنة.والخسران والخيبة ما هما؟ بين تعالى الخسران بنفسه، فقال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] بحق الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، هل بقي وراء هذا شيء؟فالله تعالى يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، وأسند الله تعالى الأمر إليك يا ابن آدم أو يا ابن الجان. وأعيد فأقول: معشر السامعين! هل عرفتم هذا الحكم الصارم القاطع؟ من أصدره؟ الله. ما مفهومه؟ ما مضمونه؟ ما حقيقته؟ الجواب: من زكى نفسه منا فاز بدخول الجنة والنجاة من النار، ومن دساها منا وأخبثها دخل جهنم، وخسر الخسران المبين.ونقول: الذين يحضرون هذا الدرس فازوا بالعلم والمعرفة، والذين ما جلسوا نقول لهم: هل عرفتم بم تزكون أنفسكم، أم أنه لا شأن لكم؟! أعوذ بالله .. أعوذ بالله! أقول على علم: لو أن مستمعاً أو مستمعة لهذا الكلام الإلهي علم يقيناً أن فلاحه متوقف على زكاة نفسه معرفة كاملة، وسكتُّ أنا وأعرضت، فوالله! لما استطاع أن يبيت الليلة حتى يقرع الباب ويقول: والله! لتبينن لي كيف أزكي نفسي، بم أزكيها؟ ولك أن تتكلم في مجتمعات العالم الإسلامي في الشرق والغرب وتقول هذا، ولا يقف واحد ويقول: كيف نزكيها يا شيخ؟! بماذا نزكيها؟ فإذا قال الشيخ: تعبت قال: لا. لا بد أن تبين لي. فإنا لله وإنا إليه راجعون! فهل تريدون أن تزكوا أنفسكم أم لا؟ إن مصيرنا هكذا، أقسم الجبار ألا فلاح ولا فوز إلا بتزكية النفس، فمن يزكيها؟ هل أبي أم أمي؟ من يزكيها؟ هل الطبيب أم فلان؟ أنت الذي تزكي نفسك.

العلم الشرعي بيان لكيفية استعمال أدوات التزكية

إذاً: ما هي أدوات التزكية؟ وأين توجد؟ في أية صيدلية؟ هذه الأدوات التي تزكي أين هي؟ وما هي؟ أين نجدها؟ كيف نحصل عليها؟ هذا هو السؤال الضروري الحتمي. ثم إذا عرفنا الأدوات وأحضرناها بين أيدينا يبقى سؤال آخر: كيف نستعملها؟ فحين يوضع الدواء بين يديك أما تسأل كيف تستعمله؟ لا بد من معرفة كيف تستعمله. من هنا كان يقيناً أن طلب العلم فريضة، تسمعون هذا من علمائكم؛ إذ لا تستطيع أن تسعد إلا به، مستحيل أن تزكي نفسك وتطهرها بدون علم. إذاً: العلم فريضة، فلم لا نطلب العلم؟ نقول: مشغولون بتجارتنا، فلاحتنا، مصانعنا، أزواجنا، أولادنا، والدنيا، فكيف نطلب العلم؟! ما علمنا آباؤنا، ما ربونا على العلم، والآن ونحن رجال وآباء وأمهات كيف نطلب العلم؟! فهل هذا يعتبر عذراً؟ والله! ما هو بعذر، ولا يقبل عند الله؛ لأن طلب العلم لا يشترط له الرحلة، ولا القلم ولا القرطاس، ولا العكوف أمام العالم طول النهار، ولا طول العام، العلم فقط يؤخذ بالسؤال الصادق والجواب الحق، اسأل العالم في صدق: كيف أزكي نفسي؟ وستعلم.ونعود لبيان الحقيقة الضائعة، فنقول: اسمعوا يا أيها المؤمنون ويا أيها المسلمون: واجبنا، طريق نجاتنا، سلم رقينا العلم بالله جل جلاله، وبمحابه ومكارهه، وبما عنده وما لديه، هذه المعرفة، هذا هو العلم المطلوب والفرض على كل مؤمن ومؤمنة، هذا العلم الحصول عليه -لو عرفنا- من أيسر الأمور وأسهلها، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].فمن كان لا يعلم شيئاً من مزكيات النفس ومطهراتها فليتعلمه، من كان لا يعرف ما يدسي النفس أو يخبثها فليسأل فيعلم، أما ألا نسأل ولا نتعلم فكيف نطمع أن نلحق بالسماء، وننزل الملكوت الأعلى؟ ولعل السامعين يخطر ببالهم أشياء، لقد عرفنا واقعنا، هل يبلغكم ما يصبه المؤمنون على إخوانهم من ألوان العذاب؟ يدعون أنهم مؤمنون، ويرتكبون عظائم يكاد القلب يتمزق لها، كيف لعبد مؤمن يفعل هذا بمؤمن؟! هذا نتيجة عدم المعرفة، نتيجة الجهل المظلم، ما عرفوا الله، فهل لمجرد قوله: أنا مسلم وأصلي عرف الله؟ وأضرب لكم مثلاً جزئياً: هذه الصحون الهوائية التي على السطوح أهلها -والله- لقد علموا أنها محرمة، وصدرت فتيا مفتي الديار السعودية الكريمة بحرمتها، ونبكي ونصرخ هنا، وكل يوم تجدها على سطح، ما سر هذا؟ والله! ما عرفوا الله، والله ما عرفوا الله كسائر الناس، أين العلم؟ وأين المعرفة؟

المساجد طريق تحصيل العلم المزكي

ونعود بعد هذا الألم والبكاء فنقول: لم ما نجتمع في بيوت ربنا؟ قبل غروب الشمس يتوضأ الرجل وامرأته وأولاده، ويذهبون إلى بيت ربهم، كل حي فيه مسجد، كل قرية فيها مسجد، إن لم يكن موجوداً أوجدناه ونحن قادرون، ونجتمع بأطفالنا ونسائنا في بيت ربنا على ولو على التراب، لسنا بأفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي والطين في جبهته، ونجلس في بيت الرب، يوماً نتعلم حكماً ويوماً حكمة ويوماً علماً ويوماً كذا طول الحياة، من ثم نصبح علماء نساء ورجالاً كباراً وصغاراً، وانتهى الجهل وظلمته، ولا تسألني عن نتائج العلم ما هي، والله! لتنتهين كل مظاهر الشر والفساد والخبث والباطل والسوء.ومع ذلك أبينا هذا وما نريده، فكيف نعمل؟ أي مانع من أن يجتمع أهل القرية في مسجدهم؟ قولوا لي يرحمكم الله: ما المانع ما بين المغرب والعشاء؟ هل يشتغلون بين المغرب والعشاء؟ قلنا لكم: إن اليهود والنصارى والمشركين في الدنيا إذا غابت الشمس ذهبوا إلى الملاهي والمقاهي والملاعب، ذهبوا يطلبون الاستراحة، ونحن إلى أين نذهب؟ نذهب إلى بيت الإله، بيت الرب: المسجد؛ نتلقى الكتاب والحكمة، تتلى علينا آيات الله، ونزكي أخلاقنا وآدابنا ونفوسنا.فالله تعالى يقول: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:151]، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يخلفه؟ يخلفه المؤمنون العالمون، ويكذب من يقول: ما وجدنا عالماً، فالله عز وجل يأتي به لتقوم الحجة على الناس، والذي يسمع نداء العلماء بأعلى صوت أن هذا حرام قد يقول: لماذا هو حرام؟ فيقال: لأنه يشيع الفاحشة والخبث، ويدمر النفس، ويحول الإنسان إلى خنزير أو كلب، ولذلك أصبحوا ينزو بعضهم على بعض أمام التلفاز! فكيف نرقى؟ كيف نصل إلى الملكوت الأعلى؟ أنخادع أنفسنا؟ الجنة ما هي بمقهى من المقاهي، الجنة متوقفة على أن تكون نفسك شبيهة بنفس الملك، ما عليها دخن أبداً ولا ظلم ولا عفن، وإن طرأ عليها شيء فهناك أدوات المسح والتنظيف والتطهير، وهي التوبة الصادقة، ارتكب ذنباً فصاح: أستغفر الله، أتوب إلى الله، يبكي بين يدي الله ويتمرغ؛ فيمحى ذلك الأثر.ماذا نقول والله يمتن علينا؟ وقد فاز ذلك السلف الصالح بهذه الآيات: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [البقرة:151]، فإذا لم نجتمع حوله فكيف سيتلو علينا آياته؟ لو كان الصحابة ما يجلسون مع رسول الله فكيف سيتلو عليهم الآيات؟ وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:151]. والله! ما اكتحلت عين الوجود بأصحاب أنجاب فضلاء كرام صادقين كما عرفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل الكمالات البشرية، فمن أين تخرجوا؟ ماذا تعلموا؟ والله! ما هو إلا ما أخبر الله تعالى: يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.وأنا أقول هنا في المجلس: والله! لأعلمنا بالله أتقانا له، أقسم بالله على يقين: أعرفنا بالله وجلاله وكماله أتقانا له، وأجهلنا أفجرنا وأكثرنا سوءاً وباطلاً، فهذه أمور ملموسة محسوسة، أفلا نعود إلى بيوت الله إذاً؟ يكفي قرون مضت ونحن من الجهل إلى الجهل حتى وصلنا إلى الحضيض، فلم لا نرجع؟ ما المانع؟ قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].

أدوات التزكية وكيفية استعمالها

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! تزكية النفس تكون بالإيمان وصالح الأعمال، هذه هي الأدوات، إيمان وعمل صالح عليهما تزكو النفس البشرية.فالثوب هذا يزكو على الماء والصابون، لا شيء آخر، بماء وصابون فقط ينظف ويطيب أم لا؟ ونفسي تزكو على الإيمان والعمل الصالح، حقق إيمانك، ثبته حتى تصبح موقناً أنك مؤمن، ثم اعمل الصالحات التي وضعها الله لتزكية النفوس وتطهيرها.يبقى السؤال: كيف تستعمل تلك الأدوات؟ الجواب: تحتاج إلى العلم، كيف تصلي صلاة تزكي نفسك، كيف تصوم صياماً ينتج لك الطاقة ويولد لك النور، كيف تتصدق بصدقة يعود نورها عليك؟ لا بد من العلم.

عرض النفس على القرآن وسيلة معرفة حقيقة إيمان العبد

وهنا عرفنا أن النفس تزكو بالإيمان، فهل أنت مؤمن؟ اعرض إيمانك على القرآن واسمع، أو تعال عندي وقل: أنا أريد أن أتأكد هل أنا مؤمن؟ فإن وجدت نفسك في هذه السوق فكبر وهلل وقل: الحمد لله أنا مؤمن، وإن عرضنا أمامك المؤمنين وأنت لست بينهم، أو توجد هنا وتغيب هناك فابك على نفسك حتى تؤمن.يقول الله تبارك وتعالى في وصف المؤمنين والمؤمنات من سورة التوبة: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] ما معنى أولياء؟ هذه الولاية عبارة عن حب ونصرة، من لم يحب مؤمناً فوالله ما هو بأخيه، ومن لم ينصر مؤمناً فما هو بمؤمن، وانظر الآن هل المؤمنون يحب بعضهم بعضاً أم يأكل بعضهم بعضاً؟ هل المؤمنون ينصر بعضهم البعض أم يهزم بعضهم بعضاً؟ أين الإيمان؟ وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] هذه صفة، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71] هل المؤمنون يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف؟! والله! ليوجد الملايين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، فهل هؤلاء يحسبون على المؤمنين؟ هل نكذب الله تعالى في أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [التوبة:71] ملايين المؤمنين ما يصلون، محسوبون في العالم الإسلامي أنهم مسلمون، ومنهم من يصلي ولا تنتج له صلاته حسنة واحدة، بل ينعكس عليه باطلها، صلاة لا يذكر فيها الله، ولا يشعر أنه بين يدي الله، ولا تدمع له عين، ولا يرتعد له جسم أبداً، دخل وخرج وما مس شيئاً؛ فماذا ينتج؟! قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2].ومن شاء أن يجادلني فليتفضل، فالله تعالى يقول وقوله الحق: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا ألله؟! ما العلة؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فإذا كان يخرج من المسجد ليتكلم بالباطل عند باب المسجد -بل يصلي وهو متلبس بالحرام- فأين آثار الصلاة؟ يصلي ويخرج يلعب القمار، ويتكلم بالباطل، ويغتاب المؤمنين والمؤمنات، ويمزق أعراضهم، ويقول ويقول، فأين آثار الصلاة؟ لو أنتجت النور المطلوب واستنار قلبه وانعكس على لسانه وسمعه وبصره لما كان يرتكب ما حرم الله! وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ [التوبة:71] بحق، هذا وصف الله لهم: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71] حتى في قلم الأظافر، أو الأكل باليمين، أو نزع النعل من الرجل اليمنى أولاً، طاعة الرسول في كل جوانب الحياة.فهل عرفتم المؤمنين بحق؟ هؤلاء قال تعالى عنهم: أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، فهل نحن من هؤلاء؟ أو مرة هنا ومرة هناك؟ وإليكم آية أخرى: قال تعالى من سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] أي: بحق وصدق، ما هو بالادعاء والنطق، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] خافت واضطربت، أقول: على الأقل إذا قيل لك: يا عبد الله! أما تخاف الله وأنت على هذه المعصية؟ في هذه الحال إذا ما خشعت ولا تألمت فما أنت بالمؤمن، امرؤ متلبس بالجريمة بمعصية الله والرسول، يقول له أخوه المؤمن: أما تخاف الله؟ أما تتقي الله؟ إن تحرك الإيمان وكان موجوداً وقال: أستغفر الله، أتوب إلى الله، فهذا فيه إيمان، وإذا قلت له: اتق الله فضحك، وأخرج لسانه واستهزأ بك، فهل هذا مؤمن؟ والله! ما هو بمؤمن، ولا يصح أن يقال فيه: مؤمن! إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] بحق وصدق الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، كان عداد الإيمان يشير إلى درجة مائة وستين، فيرتفع عند سماع القرآن إلى مائتين كما تعرفون في عقارب الطقس. وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] لا على المرأة، ولا على الوظيفة، ولا على الولد، ولا على السلطان وعلى فلان وفلان، ولا على مزرعة ولا مصنع، وَعَلَى رَبِّهِمْ [الأنفال:2] وحده يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] أي: يعتمدون. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:3-4]، هذا كلام الله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4] وصدقاً، فكيف حالنا أيها المستمعون والمستمعات؟! نحن مؤمنون إن شاء الله.

وجوب سلوك المنهج النبوي في التربية المسجدية

أقول: ما ينفع درس ولا موعظة فقط، يجب أن نعود إلى الله، فقولوا: نحن عائدون، فما تغرب الشمس إلا ونحن بنسائنا وأطفالنا في بيوت ربنا، والعالم أمامنا، يعلمنا الكتاب والحكمة ويزكينا، فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس أسبوعاً ولا شهراً ولا عاماً، ولكن طول حياتنا، دنيانا نشتغل لها من صلاة الصبح، فالكفار يشتغلون من الساعة الثامنة، ونحن إذا صلينا الصبح اندفعنا إلى أعمالنا، هذا يصنع وهذا يفلح وهذا يتجر إلى قبل غروب الشمس، أما يكفي هذا للدنيا؟ أما يكفي من صلاة الصبح إلى غروب الشمس؟ ثم غابت الشمس وإذا نحن في بيت ربنا، نستمطر رحماته، ونتلقى العلم والمعرفة من كتابه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.وأزيدكم فبلغوا: والله! إن لم نعد إلى هذا المسلك النبوي ما ارتفع لنا شأن، ولا عز لنا شأن، ولا نزداد إلا هبوطاً وتمزقاً، هذه منة الله ونعمته، يقول تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:151] أو يعلمكم الكرة واللعب؟ أو يعلمكم الرقص؟ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:151] كل يوم نزداد علماً من هذا الكتاب.ثم يقول تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] هذا أمر، فاذكروني يا عبادي أذكركم، ومن ذكره الله فهل أهانه؟ أذله؟ أفقره؟ أمرضه؟ كلا، بل أعزه ورفعه، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي [البقرة:152] إنعامي وما أفضته عليكم وأنعمت به عليكم، اشكروني أزدكم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هل عرفنا أننا مطالبون بتزكية أنفسنا أم لا؟ فمن الليلة نعمل إن شاء الله، فبماذا نزكيها؟ هل بالماء والصابون؟ بالإيمان والعمل الصالح، الإيمان الذي بينه الرحمن في كتابه والعمل الصالح الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه لنا، من الصلاة إلى سبحان الله والحمد لله والله أكبر، على شرط أن نؤدي العبادات على النحو الذي أداها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فإذا أديناها أداء مخالفاً فلن تنتج تزكية، سنة الله، لا تنتج الحسنات أبداً، لا بد أن نؤديها كما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن زدنا أو نقصنا بطلت ولم تفعل شيئاً. وهذا يحتاج إلى العلم أم لا؟ نحتاج إلى العلم؟ أين نطلب العلم؟ في أوروبا؟ في أمريكا؟ في الصين؟ لا، نطلبه في قريتنا، في حينا أيها المؤمنون، نطلبه في بيت الله، ومصدره موجود، هو قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.أيعجزنا هذا؟ فمتى نسمع أن أهل القرية الفلانية أصبحوا لا يفارقون مسجدهم من المغرب إلى العشاء، وكل ليلة نساؤهم وراء الستارة وأطفالهم بينهم، وهم يتلقون الكتاب والحكمة؟ هل سمعتم أن هذا حصل في قرية؟ عندكم (كتاب المسجد وبيت المسلم) فيه ثلاثمائة وستون آية وحديثاً، اطبعوه بالآلاف، صوروه، ضعوه في كل بيت من بيوت العالم الإسلامي، اجتمعوا في بيت ربكم، ولكن كأننا لا نعي ولا نسمع، فلا يسعنا إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! وما يئسنا أبداً، ولكن نصرخ ونبكي: عودوا إلى بيوت الله ينته الخلاف والصراع والبغض والحسد والشره والطمع، وحب الدنيا والإسراف والشهوات، هذا هو العلاج، لا ينفع إلا هذا.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-02, 03:20 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (98)
الحلقة (105)



تفسير سورة البقرة (65)

إن ذكر الله عز وجل من أفضل العبادات وأجل القربات، فهو سبحانه وتعالى قريب من عباده الذاكرين، إذا ذكروه في ملأ ذكرهم في ملأ خير منهم، وإذا ذكروه في أنفسهم ذكرهم سبحانه وتعالى في نفسه، ومن ذكر الله لعباده المؤمنين الذاكرين الإحسان إليهم، وإسباغ النعم عليهم، ورفع درجاتهم، وإعلاء مقامهم في الدنيا والآخرة، فهو سبحانه الذي يعطي الكثير على العمل القليل، ويجازي بالجليل على الفعل الجميل.

تفسير قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:152-153] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم. معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] أليس هذا أمر الله؟ قوله: (اذكروني) أليس هذا أمراً؟ وهل يليق بالمؤمن أن يعصي لله أمراً؟! لك أن تقول: كيف أذكره؟ وبم أذكره؟ ومتى أذكره؟ علمني يرحمك الله.وإليك -يا بني- البيان: الله تعالى يذكر بأسمائه وصفاته، فإن لله تعالى مائة اسم إلا اسماً واحداً، فهي -إذاً- تسعة وتسعون اسماً، فبها تذكره، وبها تبجله وتناديه: يا رباه .. يا رباه، يا الله .. يا الله، يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين، يا متولي الصالحين، يا ذا الجلال والإكرام. وواصل دعاءك وأنت ذاكر لربك، ويذكر تعالى بما أحب أن يذكر به.

فضل قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)

وقد تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان ذكر الله، فقد قال: ( خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير )، هذا الذكر الفاضل وضع رسولنا صلى الله عليه وسلم ورده بين أيدينا، فحوض الذكر الطاهر النقي نرده لنذهب ظمأ نفوسنا وعطش أرواحنا، وإليكم ما صح عنه صلى الله عليه وسلم.قال: ( من قال حين يصبح ) بعدما يطلع الفجر صليت الصبح أو لم تصل، ( من قال حين يصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة ) مائة مرة تعدها بالمسبحة، بالنوى، بالحصى، بأصابعك، حتى بآلة، الآن توجد آلة للعد، مائة مرة وأنت واع، وأنت تعرف ما تقول، قال: ( كانت له عدل عشر رقاب من ولد إسماعيل )، تعرفون قيمة الرقبة؟ هي كفارة الظهار، كفارة الصيام، كفارة القتل الخطأ عتق رقبة، ثمنها غال ورفيع، تكون أنت في هذا الصباح كمن أعتق عشر رقاب! ولو يعي أحد هذا ويفهمه لما استطاع أن يتخلى عن هذا الورد يوماً من الأيام قط، ما دام ينطق ويتكلم، فكأنما كان له عدل عشر رقاب من ولد إسماعيل حررهم في سبيل الله.قال: ( وكتب له مائة حسنة )، ولا ندري مقدار هذه الحسنات، ( وحط عنه مائة خطيئة )، كتبت له مائة حسنة، وحطت عنه مائة خطيئة، ( وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذاك حتى يمسي ) حماية، ما يستطيع الشيطان إغواءه أو إضلاله أو إفساده، أو إغراقه في الذنوب والآثام.( ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه )، هذا الورد صاحبه لا يظمأ أبداً على شرط: أن يكون حال ذكره مع الله، يذكره بلسانه مع قلبه، ويكون فاهماً للكلمات التي يقولها، عارفاً بمعانيها، إذا استوفى هذا فالجزاء كما علمتم: ( كان له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، وحطت عنه مائة خطيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذاك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه ).فهل أنتم متهيئون لهذا الورد؟ حتى ولو كنت تقود سيارتك، أو تأخذ بخطام فرسك، أو لجام بعيرك، حتى ولو كنت تضرب الأرض بفأسك أو معولك، ما يمنعك العمل أن تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. هذا الورد العذب الصافي من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر لنا به قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي [البقرة:152].

فضل الله على عباده بتيسير الذكر

وهناك ورد آخر، ولا تقولوا: أكثرتم علينا، إذ هذا الذكر لا يتنافى معك إلا إذا كنت تسمع لأصوات المغنين، أو هرج المبطلين، أما أن تبني، أما أن تغرس، أما أن تصنع، أما أن تمشي فما يمنعك؟! لا يمنعك من هذه الأوراد العذبة النبوية إلا أنك تتكلم بالباطل، أو تصغي وتسمع الباطل، وأعوذ بالله من قول الباطل وسماع الباطل، فأولياء الله قال تعالى فيهم: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، يعطونه عرضهم، لا يلتفتون إليه، ولا يقبلون عليه، وما هو اللغو؟ اللغو: هو كل قول أو عمل أو تفكير لا ينتج لك حسنة لمعادك يوم القيامة، ولا درهماً لمعاشك اليوم في هذه الدنيا.ومعنى هذا: أننا أغلقنا أبواب الكلام الباطل، ما أصبحت تسمع في مدينتنا، في قريتنا، في بيوتنا إلا الحق، وهذا المطلوب؛ لأننا أمة راقية، لأننا أولياء الله، لا تسمع في سوقنا ولا في بيوتنا ولا شوارعنا طول حياتك كلمة نابية، كلمة لا فائدة منها، أي: لا تحقق حسنة ليوم القيامة، ولا درهماً لمعاشنا اليوم.فالذين يجلسون أمام شاشة التلفاز أو الفيديو وينصتون ويقبلون على تلك الشاشة يسمعون من الباطل، ويسمعون من الكفر أحياناً، ويسمعون من الكذب ومن دعاوى الباطل، ويرون صور الخلاعة والدعارة، وينصتون، وتنطبع تلك الصورة في قلوبهم فتنعمي، ويذهب نور الله، ويصبحون كالبهائم قد ينزو بعضهم على بعض، هؤلاء هل عرفوا معنى قول الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]؟ ما عرفوا، ما سمعوه، ما فهموه، ما عرفوه، يقضي الساعة والساعتين والثلاث لا يستنتج حسنة واحدة، ولا درهماً واحداً في ساعات الراحة، أو في ساعات مناجاة الرب بالليل، وهو منصت ومع بناته ونسائه، وقد يكون مع أبويه أيضاً! فهذا شر من اللغو، هذا يدمر القلب تدميراً، ويحوله إلى قلب حيوان، والحيوان أقدس وأطهر.هذا الورد هو المراد من قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي [البقرة:152] بم نذكرك يا رب؟! رسولنا يبين لكم بم تذكرون وكيف تذكرون، ها هو ذا صلى الله عليه وسلم قد أعلن عن هذه المسابقة العظيمة: ( من قال حين يصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة؛ كان له عدل عشر رقاب، وكتب الله له مائة حسنة، وحط عنه مائة خطيئة، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه )، أي أجر أعظم من هذا؟! عدل عشر رقاب، ويكتب له مائة حسنة، ويمحى عنه مائة سيئة، ولم يأت أحد بمثل ما أتى به حتى ولو كان يقاتل الكفار، إلا من قال مثلما قال وزاد، ومعنى (وزاد): أنه لا تكتفي بالمائة إن شئت، اذكر مائتين وثلاثمائة وألفاً، أو اشغل ساعاتك كلها بذكر الله.

فضل قول: (سبحان الله وبحمده)

وذكر آخر: يقول صلى الله عليه وسلم فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( من قال حين يمسي أو حين يصبح: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر ).( من قال حين يصبح أو حين يمسي ) أي: يدخل في الصباح أو يدخل في المساء، ماذا يقول؟ سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده مائة مرة، حطت عنه خطاياه ولو كانت في الكثرة مثل زبد البحر! أية جائزة هذه؟ بم تقدر؟ وقد حرمها المؤمنون والمؤمنات، ما سمعوا بها ولا عرفوها، ومن سمعها وهو غافل ومعرض لا يبالي لم ترتسخ في نفسه، ولم تثبت في قلبه.أي ورد هذا؟ إنه عظيم، ما هي الكلفة؟ سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، بشرط: أن تكون ذاكراً لله بقلبك، أنت تقول: أنزه الله عز وجل عن كل النقائص، أنزهه عن الشريك والنظير والشبيه، وعن الولد والصاحبة، وعن كل نقص، فـ(سبحان): مصدر سبح يسبح، أنزه الله تنزيهاً عن كل النقائص.(وبحمده): أي: مع حمده. أنزهه وأحمده، أجمع بين نفي ما ينفى عنه وما يجب له تعالى، بهذا التركيب العجيب، هذا ما يعرفه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يستطيع ذو عقل أن ينتجه. تقول: سبحان الله وبحمده، تنزهه، كأنك تقول: الله ليس كمثله شيء، تعالى الله أن يكون له ولد، سبحان الله أن يكون له زوجة، تعالى الله أن يكون كذا، كل النقائص تنفيها، ثم تقول: الله العلي الكبير الغني الحميد الرب الذي لا إله إلا هو، فكل المحامد تطلقها عليه في هذه الجملة، ما أيسرها، ما أعذبها! جربها فقل: سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، وأنت مع الله؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: ( يقول الله تعالى: أنا مع عبدي إذا ذكرني، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه )، فالملائكة خير من البشر قطعاً.وإياك أن تفهم أنك إذا ذكرت الله فأنت بعيد عن الله، أنت مع الله، ولكن انتبه أن تذكره بلسانك وقلبك مع ليلى وسلمى، أو مع القدر وما فيه! أو في السوق وما فيه من بضائع، اجمع القلب مع اللسان، كأنك بين يدي الله، وإلا فالغافلون لا يستفيدون، إلا أن من تدبير الله أن من أخذ يذكر الله بقلبه ينطلق لسانه، ما يشعر إلا ولسانه ينطق، ومن أخذ يذكر الله بلسانه وواصل فما يشعر إلا والقلب يذكر ويتفق مع اللسان.هذا الورد معاشر المستمعين والمستمعات لو كنا سمعناه وما عرفناه، وكنا مؤمنين صادقين، وقام قائم وقال: أيها الناس! هل لكم في ورد من الذكر تحط به جميع خطاياكم ولو كانت مثل زبد البحر؟! فقلنا: نعم، فقال: لا بد أن تدفعوا خمسة آلاف ريال لكل من يريده؛ فوالله العظيم! لو كنا عالمين عارفين موقنين لهانت الخمسة آلاف والعشرة آلاف، ووالله! ليست بشيء أمام هذا، وها أنتم أخذتموه مجاناً، فهل يراكم ربكم غداً مع الصباح ترددونه؟ قولوا: إن شاء الله.إذاً: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] ما زلنا، فأين نذهب؟ الآن وردنا حوضين فقط، فاسمعوا ذكر الله، ولو لم يكن ذكر الله بهذه المثابة لما أمر الله به، ولما دعانا إليه، ولما رغبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.

فضل الذكر دبر كل صلاة

إليكم ذكراً آخر، فإن شاء الله فسنستوفي الأوراد، أيها الظمآى، يا معشر العطاش! إليكم حياض النبي محمد صلى الله عليه وسلم في ذكر الله، فردوها صباح مساء خير من الدنيا وما فيها.معاشر المستمعين والمستمعات! لما هاجر المؤمنون من مكة إلى المدينة ومنهم من هاجر من غيرها، لكن أغلب المهاجرين كانوا من مكة، إذ اضطرتهم جماعات الضلال والشرك إلى الهجرة، وكتب الله عليهم الهجرة فهاجروا، فنزلوا المدينة النبوية هذه، وأنتم تعرفون مستوى المهاجرين، فعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، عمر ، عثمان ، علي ، عبد الرحمن بن عوف ، سعد ، زمرة الأنوار هنا.ولم يكن في المدينة مصانع ولا بها متاجر، والحصار مضروب عليهم من أعداء لا إله إلا الله، فكان الأنصار من الأوس والخزرج من سكان المدينة يؤاخون بينهم وبين المهاجرين، فيقول الأنصاري للمهاجري: أنت أخي، ويقاسمه الطعام والشراب والكساء والسكن.فتألم المهاجرون، وقالوا: كيف نطعم ونسقى ونسكن، ذهب بالجنة أهلها، فماذا بقي لنا؟ فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون شكواهم إليه عسى الله أن يفرج عنهم ما في نفوسهم، فقالوا: ( يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم ) ولا نتصدق، ففازوا، فما لنا نحن؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ( أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟! ) فزتم وتفوقتم على غيركم، وما أرحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتكلم بإذن الله وبوحي الله وباسم الله، فقالوا: دلنا يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: ( تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة ).معاشر المستمعين والمستمعات! هل هذا الذكر عندكم؟ هل هذا الورد من أورادكم؟ إنه لا يحرمه إلا شقي، كيف يحرم هذا الورد مؤمن يرجو الله والدار الآخرة، مؤمن غذاؤه الروحي ذكر الله؟ أنبه إلى أن العدو أبا مرة إبليس الذي أخرج أباكم وأمكم من دار السلام، قد يستغفلنا ويعبث بنا، ويفوت علينا أجر هذا الورد، فنرد ونخرج عطاشاً، فكيف ذلك؟ يجعلك تتكلم بلسانك وقلبك ليس مع الله، وتختزل الحروف، وإليكم ما يفعل بنا: يقول أحدنا: سبحان الله سبحان الله سبحان الله بسرعة شديدة، فيمكر بنا حتى لا يصل إلى قلوبنا نور، وكأننا سبحنا وما سبحنا، فما يجوز هذا وما ينبغي، ولكن العدو بالمرصاد، إذا لم تستعذ بالله وتتحصن بحصن الله، وتعرف عدوك إبليس؛ فسوف يفقدك عباداتك، فهو قد حاول ألا يسمح لنا لنذكر الله فما نجح، أبينا إلا أن نذكر، إذاً: فحاول محاولة أخرى أن نفقد الأجر والمثوبة، فالذي يقول: سبحان الله سبحان الله بسرعة شديدة لا يصح ذلك منه، بل ينبغي أن يقول: سبحان الله .. سبحان الله .. سبحان الله، الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله، الله أكبر.. الله أكبر .. الله أكبر، يذكر بالقلب واللسان.هذا الورد العظيم خمس مرات في اليوم والليلة، ومعنى هذا: أنك تذكر الله خمسمائة مرة، فهذا كنز عظيم لا حد له، والعدو لا يسمح، لكن فاعصه واخرج عن طاعته، وتفطن له، واملأ فاك بذكر الله وتلذذ به، قل: سبحان الله .. سبحان الله .. سبحان الله، الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله، الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر، حتى تستوفي هذا الورد العذب الفرات دبر كل صلاة، فإن منعك العمل فقله وأنت ماش، وأنت راكب، ولا حرج.ويجوز أن تجمعها في كل مرة فتقول فيها: سبحان الله والحمد لله والله أكبر وتعقد أصبعاً، سبحان الله والحمد لله والله أكبر وتعقد أصبعاً، سبحان الله والحمد لله والله أكبر وتعقد أصبعاً، لا فرق، وإنما الرسول صلى الله عليه وسلم قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون، ما قال: كلمة كلمة! والكل جائز، اجمع أو أفرد، إلا أن القلب ينبغي أن يكون حاضراً مع الله. هذا الورد معاشر -المستمعين والمستمعات- لا يحرمه إلا محروم، فالآن سبق لنا الذكران الأولان بمائتي مرة، وهذه خمسمائة، فالجميع سبعمائة، ونتدرج إلى أن نصل إلى الألف، وبذلك نفوق عبد القادر الجيلاني .

فضل التسبيح والتحميد والتكبير عند النوم

ولتعرفوا -يا معاشر المستمعين والمستمعات- قيمة ذكر الله وثمرته وفائدته، إليكم الصورة الآتية:زوج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، زوجها من ابن عمه علي المهاجر، وهي مهاجرة في المدينة، فكانت رضي الله عنها وهي أم الحسنين امرأة علي وبنت محمد صلى الله عليه وسلم، كانت تطحن الشعير بيديها، أنتم الآن في جنة، أمي كانت تطحن وأنام على ركبتها والدقيق علي، ففاطمة كانت تطحن بالرحى، وتكنس المنزل وتخيط الثوب وتغسله، وتطبخ، هذه امرأة جنرال لا راتب له، فتورم كفاها من التعب والعمل، وهي ساكنة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعت عليها خمارها وخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو إليه حاجتها إلى خادمة تساعدها على شئون البيت، فوقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف حاجتها، ولا يملك ما يعطيها، فسكت وخفض رأسه وتألم، وعرفت أنه لا يملك شيئاً، فعادت إلى بيتها، فما حصلت على شيء، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألمه، حتى جن الظلام واختلط ونامت العيون، فدخل على فاطمة وهي على فراشها مع بعلها علي ، فأرادا أن يقوما فقال: لا، فدخل في الفراش بينهما، هذا الذي يملكه لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطى يده اليمنى لأحدهما واليسرى للآخر، هذا الذي عنده، ثم قال لهما: ( هل أدلكما على خير من خادم؟ ) ما هذا؟ أيكتب لهما شيكاً بمليون دولار؟ ماذا سيعطيهما؟ اسمع لتعرف قيمة الذكر، ذكر الله الذي أحبه الله وأمر به، ورفع أولياءه من أجله.قال: ( إذا أويتما إلى فراشكما ) إذا جئتما إلى فراشكما لتناما ( فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمداه ثلاثاً وثلاثين، وكبراه أربعاً وثلاثين )، فذلك يعين على أتعاب الحياة وآلامها.هذا الورد لما بلغنا وعرفناه صار عندنا أعز وأحلى من الحلوى والعسل، أعذب من أي عذب في هذه الحياة، والمسلمون غافلون، تائهون، لا يذوقون ولا يطعمون، هذا ورد أعطاه رسول الله لأحب الناس إليه، وأفضل العباد بين يديه: فاطمة وعلي رضي الله عنهما، وفي أية ساعة أعطاهما هذا؟ وفي أي مكان هذا؟ ومن أجل ماذا؟ وقبل وفاة علي قال رضي الله تعالى عنه: فوالله! ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له جنراله ابن الكواء : ولا ليلة صفين؟ قال: نعم، ولا ليلة صفين! ما تركه ولا ليلة صفين التي شاب منها الأطفال، الحرب التي دارت بينه وبين خصومه، ولا تلك الليلة. والآن ما أظن أن عشرة في المائة يحافظون على هذا، واسمحوا إن قلت: كيف يترك هذا الورد إذا كان المبشر بالجنة علي ما تركه في أصعب الليالي وأظلمها، ونحن ننام على الحرير على الأسرة، على الأنوار، ولا نقول هذا الورد، أين يذهب بنا؟ فسبحان الله، سبحان الله، سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أربعاً وثلاثين، صارت مائة.واذكر سواء كنت متوضئاً أو محدثاً، جنباً أو غير جنب، الممنوع على الجنب القرآن كتاب الله، أما الذكر والدعاء فلا يمنع.الآن كم عندكم ثمانمائة، فمتى نصل إلى الألف؟! نحتاج إلى مائتين فقط لنكمل الألف، والذي يذكر الله ألفاً في اليوم والليلة ارتقى ووصل مستوى عالياً.

فضل قول: (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم)

هذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وتعرفون عمر بن الخطاب ، عمر يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه )، والفج مفرد فجاج، وهو الشارع الواسع، وما يطيق الشيطان أن يمشي مع عمر ، ما يقدر، أما لو كان الشارع ضيقاً فإنه يحترق الشيطان: ( ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه )، وقال: ( لو كان في أمتي محدثون -أي: من تحدثهم الملائكة كالأنبياء- لكان منهم عمر ) ، لو كان في أمتي من عهدي إلى يوم القيامة؛ إذ لا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، ( لو كان في أمتي محدثون لكان منهم عمر )، أي: متهيئ لأن تحدثه الملائكة. فإليكم هذا المنظر الكريم أيام خلافته رضوان الله عليه: فقد دعاه أحد الولاة أو الأمراء إلى طعام فوضع له سفرة لا أحسبها كسفرتكم أنتم الآن أو سفرنا نحن الفقراء، نحن الآن نعد الفول، البيض، الحليب، الشاي، الخبز، الجبن.. نجد تسعة أنواع، وضعوا له تلك السفرة، فقال: أخشى أن أكون ممن قال الله تعالى فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20] وترك الطعام، فهذه وحدها تكفي.إن فقراء المؤمنين الآن مائدتهم فيها نوعان وثلاثة، والسلطة وحدها نوعان، أما عمر فانتفض كالأسد وما أطاق، وعلل لتلك القومة بقوله: أخشى أن أكون ممن قال الله فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا فَالْيَوْمَ [الأحقاف:20] يوم القيامة تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأحقاف:20] عذاب الإهانة؛ لأنكم كنتم متكبرين بغير حق، بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].فولده عبد الله يقول: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: نحسب- في الجلسة الواحدة: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة )، هو معهم يعلمهم، يزكيهم، يربيهم، ولكن حين يترك الكلام يعود إلى الذكر بين الفينة إلى الأخرى: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، وهم يعدون، قال: فنجدها مائة مرة، فهل عرفتم؟ هذا الورد أغلى الأوراد: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، هذا خللوا به مجالسكم عندما تتحدثون، عندما تأكلون، عندما تطعمون، عندما تجلسون، بين الفينة إلى الأخرى: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، فيتم لك المائة والمائتان والثلاث، وتصل إلى الألف بحمد الله ذاكراً شاكراً.
جزاء الذاكرين في الدنيا

معاشر المستمعين والمستمعات! قد تزودتم بهذه الأوراد إن شاء الله، ويبقى السؤال: ما هو الجزاء في الدنيا؟ قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] ذكر الله لك يا عبده كم يساوي؟ والله! لو كنت تملك الدنيا بكاملها وتريد أن يذكرك الله وهو لا يريد فوالله ما استطعت، فكيف تجعل الله يذكرك؟ ما أنت ومن أنت؟وها أنت يذكرك الله، كلما ذكرته ذكرك، أما ترغب في أن يذكرك الله؟ أفي المؤمنين من لا يحب أن يذكره الله؟ لا يوجد، فلم -إذاً- لا نذكر الله حتى يذكرنا. وذكر الله لك يا بني كيف يكون؟ يثني عليك في الملكوت الأعلى، يحسن إليك، يغدق النعم، يواليها، يرفع درجاتك، يعلي مقامك، ينعم عليك في الحياة والممات، لا تسأل عن فوائد ذكر الله، وويل لمن غفل عن الله فلم يذكره الله، فالله تعالى يقول: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-02, 03:29 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (99)
الحلقة (106)



تفسير سورة البقرة (66)

إن ذكر الله عز وجل لعبده هو غاية رغبة العابدين، ومنتهى أمل القاصدين، وقد وعد الله عز وجل الذاكرين له بأن يذكرهم في الملأ الأعلى بين الملائكة، ووعدهم بمزيد من الإنعام والإكرام لهم إن هم أدوا ما عهد به إليهم من الأعمال والعبادات الظاهرة والباطنة، وإن هم لهجوا بشكره على تفضله عليهم، فنطقت بذلك ألسنتهم، وانعقدت عليه قلوبهم، وترجمته جوارحهم.
تابع تفسير قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)

وعد الله تعالى بذكره عباده الذاكرين له

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:152-153].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أمرنا الله تعالى بذكره ووعدنا بأن يذكرنا، فما أعلى درجتنا، ما أسمى مقامنا، ما أفضل مكاننا، سبحان الله، الله يذكرنا!الحمد لله، وويل للكافرين، ويل للغافلين، ويل للمشركين، ويل للمعرضين، ويل للمتكبرين، ويل للناسين، وهنيئاً للذاكرين والذاكرات، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].لقد قلت لك يا عبد الله ويا أمة الله: لو كنت تملك ما في الأرض وتريد أن تنفقه من أجل أن يذكرك الله لما استطعت ولن تظفر بذلك، فما أنت ومن أنت حتى يذكرك رب العرش العظيم، ملك الملوك، قيوم السماوات والأرض رب العالمين، من بيده كل شيء؟ يذكرك في الملكوت الأعلى، ويذكرك بإفضاله، بإنعامه، بإحسانه، برحمته.. بشتى أنواع الذكر، ومع هذا فنحن أشحاء، بخلاء، ما نذكر الله إلا قليلاً!

فضل الذكر الوارد دبر كل صلاة

وأذكركم بما عاهدتم عليه، من أنكم تأتون بتلك الأوراد، فهل وفيتم أو نسيتم؟ أم ليس عندكم وقت؟وأعيدها تذكيراً للناسين، وتعليماً لغير العالمين: أولاً: دبر كل صلاة، وهي خمس صلوات في اليوم والليلة، موزعة بتوزيع الحكيم بين ساعات الليل وساعات النهار، تقول: سبحان الله.. سبحان الله.. سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر ثلاثاً وثلاثين، هذه تسع وتسعون تسبيحة، ختام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هذه مائة في خمس صلوات بخمسمائة، والله! لأفضل من خمسمائة مليون دولار، حتى لا تستهينوا بها.ونبهتكم إلى أن عدوكم لا يريد أن تسموا وتسعدوا، فلهذا إياك أن يلعب بك فتصبح كما يفعل الغافلون فتقول بسرعة: سبحان الله سبحان الله سبحان الله سبحان الله، املأ فاك وقلبك: سبحان الله.. سبحان الله.. سبحان الله، الحمد لله.. الحمد لله، الله أكبر.. الله أكبر، بكل جوارحك، أما الذين يركضون ركضاً فلا يستفيدون حسنة واحدة؛ لأنهم ما أكملوا الكلمة، ما أتموها، وتشاهدون هذا في إخوانكم رأي العين للغفلة.

فضل الذكر بـ(لا إله إلا الله وحده لا شريك له ...) مائة مرة

فهذه خمسمائة، أضفنا إليها ذكر الصباح، تلك الغنيمة الباردة التي لا تعدلها الأرض وما فيها، وهي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة، سواء ما بين أذان الصبح وصلاتها أو بعد صلاة الصبح إلى أن تعود إلى بيتك، إلى أن تتناول أداتك لتعمل، تستطيع أن تأتي بها وأنت ماش في طريقك على رجليك، أو وأنت راكب على دابتك أو سيارتك، فما يمنعك؟ لا شيء، تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأنت تذكر بقلبك معاني هذه الكلمات.أتذكرون المثوبة؟ أتذكرون الأجر؟ ما هو؟ كان له كعدل عشر رقاب، كأنك أعتقت عشرة رقاب، وحررتهم في سبيل الله، وليس هذا فقط، بل كتبت لك مائة حسنة وحط عنك مائة سيئة، ولا تزال يومك ذلك كله في حرز من الشيطان، كأن الملائكة تحرسك، طول النهار وأنت في حرز من الشيطان، لن يصل إليك ليفسد قلبك، ولم يأت أحد بمثل ما أتيت به من الأجر في ذلك اليوم إلا الذي قال مثلك وزاد عليك، فهل هذا الورد يمكن أن نتركه ونحن أحياء عقلاء؟ هذه ستمائة.

فضل الذكر بـ(سبحان الله وبحمده) في الصباح والمساء

وهناك ورد الصباح والمساء: سبحان الله وبحمده.. سبحان الله وبحمده، لو قلته وأنت فاهم ما تقول، وتدرك معنى هذه الكلمة فإنك تكاد تطير بها: سبحان الله وبحمده.. سبحان الله وبحمده، مائة مرة في الصباح، ومائة مرة في المساء، نقولها ما بين أذان المغرب إلى الإقامة، بل أقل من ذلك، فمن موقف السيارات إلى المسجد النبوي نكملها. وهذه جائزتها: أن تغفر ذنوبك ولو كانت مثل زبد البحر، هذا لا يأتي من طريق الأحاديث الضعيفة، إياك أن تفكر هذا التفكير، هذه أحاديث في الصحاح، لا نذكر حديثاً ضعيفاً، حتى لا يوسوس لك الشيطان، ففيما يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ( من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة إذا أصبح وإذا أمسى حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر )، هذه سبعمائة.

فضل الذكر الوارد عند النوم

وهل تذكرون عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم لـفاطمة الزهراء ولـعلي بن أبي طالب ، رسول الله هو الملك، هو السلطان، هو الأمير، هو الإمام، هو الحاكم، قل ما شئت، وتأتي الزهراء تطلبه عوناً لها على تعب حياتها فيعطيها الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الذكر، فبكم يقدر هذا؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم واهم؟ أعوذ بالله، حاشاه صلى الله عليه وسلم!يأتي إليها وهي على فراشها مع بعلها رضي الله عنهما فيقول: هل أدلكما على شيء إذا فعلتماه كان عوناً لكما على أتعاب الحياة، ويأخذ به علي ، ويسأله ابن الكواء أحد رجاله يقول: يا إمام المسلمين! هل تركت ذلك الذكر الذي أعطاك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً؟ قال: والله! ما تركته حتى ليلة صفين!وأنتم تتركونه، فأعوذ بالله! ما المانع؟ تقولون: يا شيخ! مشغولون بشاشة التلفاز وسماع الأغاني وأصوات العواهر ومناظر الباطل والسوء، محجوبون، إلى متى؟ أما هناك رحلة إلى السماء؟ أنريد هبوطاً إلى الأرض؟ تقولون: لا، إنا راجون، إنا طامعون أن ننزل الملكوت الأعلى بعد ساعات أو أيام، أما تستطيع أن تتهيأ للعروج إلى الملكوت الأعلى؟ ماذا يتعبك وأنت على فراشك وأصابعك في يديك تقول: سبحان الله.. سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، الحمد لله.. الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، الله أكبر.. الله أكبر أربعاً وثلاثين، هذه مائة.وعلي من هو؟ لو جمعت هذه البشرية ما كانت كـعلي في إيمانها ولا صلاحها ولا علو درجتها، وما يترك هذا الذكر أربعين أو خمسين سنة، حتى في ليلة من أصعب الليالي مرت به، حرب أوقد نارها المجوس واليهود والنصارى، ما تركها، ونحن نأكل ونشرب كالضباع وننام كالبهائم بلا ذكر لله! من فعل بنا هذا؟ إنه الجهل، ما عرفنا الله ولا أحببناه ولا سألنا عنه ولا تعرفنا عليه، هذه هي جملتنا.

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

إذاً: تلك ثمانمائة، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تستطيع أن تستوفي بها الألف وتزيد، واسمع الله تعالى يقول: (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[الأحزاب:56]، من قال: لا؛ تمزق وتلاشى، ولم يبق له مكانة عند الله، الله تعالى يقول: (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ))[الأحزاب:56] وأنت تقول: لا؟! الله الذي يطوي السماوات السبع في يمينه وهذه الأرض في قبضته يصلي على النبي! وملائكته كم عددهم؟ والله! لا يعرف لهم عدد، لا يعرفهم إلا الله. أتريد أن تعرف عن الملائكة؟ جبريل عليه السلام تجلى لرسول الله فسد الأفق كله بستمائة جناح، ومدن سدوم وعمورة رفعها إلى السماء وقلبها.يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أذن لي )، أعطيت إذناً من ربي ( أن أحدث عن ملك رأسه تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة )، الملائكة يصلون على النبي، والبشري المسكين يقول: لا، ولا يصلي، فلهذا إذا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم باسمه العلم أو بعنوان النبوة أو الرسالة ولم تصل عليه فإنك تتمزق: ( رغم أنف امرئ ذكرت عنده ولم يصل علي ) صلى الله عليه وسلم.ويقول مبشراً معلماً: ( من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً )، والعشر بمائة، والمائة بألف، والألف بعشرة آلاف، ومع هذا يمضي على ملايين المؤمنين والمؤمنات أربع وعشرون ساعة ما يقولون فيها: صلى الله عليه وسلم، أما أن يستقبل القبلة، أما أن يجلس، أما أن يذكر ويقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد؛ فقل من يقول هذا، مع أنها واجبة في كل صلاة، إذا صليت ركعتين أو فريضة ذات الأربع ركعات أو ثلاث فلا بد أن تصلي هذه الصلاة في صلاتك، وإلا فصلاتك ناقصة إن لم تكن باطلة.

أعلى صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ورد عنه فيها نيف وثلاثون صيغة من الصيغ، علمها أصحابه ونساءه وبناته، أعطيكم صيغتين: كبرى ما فوقها صيغة، وصغرى أدناها صيغة، وأنت خذ بما تستطيع، الكبرى هي الصلاة الإبراهيمية التي نصلي بها في كل صلاة نصليها، أعيدها ليسمعها الغافلون وليحفظوها من إخوانهم الليلة، فلا يبيتن رجل منا ولا امرأة الليلة وهو لا يحفظ هذه الصلاة، ولو أن يقرع باب جاره يقول: اسمع. هل صلاتي صحيحة أو لا؟(اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد).أنا أعرف أن السامعين بينهم من لا يحفظها، والسامعات كذلك، لكن لم؟ أرخيصة هذه؟ لو كانت دجاجة مشوية لفزعنا إليها، فكيف لا نحفظها؟ وهي واجبة في كل صلاة طول العمر: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.هذه أكمل صلاة وأسماها وأشرفها وأغلاها، الصلاة الإبراهيمية؛ إذ علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، قالوا: يا رسول الله! قد علمنا السلام عليك، فكيف نصلي عليك؟ هؤلاء القائلون جنرالات الدنيا لا أوساخ البشر، هؤلاء أبو بكر وعمر وعثمان ورجالات الإسلام، قالوا: يا رسول الله! أما السلام عليك فعرفناه، وهو: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فكيف نصلي عليك إذاً؟ فقال: ( قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ).نقولها في كل صلاة بعدما نقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وبذا تشعرون أنكم تكلمون رسول الله، فملايين من العرب والمسلمين ما يفهمون هذا ولا ذاقوا طعمه، نعم قبل وجود هذه المخترعات التي فتح الله أبوابها وأنار الوجود بها ما كان المؤمنون إلا على مطية التسليم لله، ولذا فإنهم بعد وفاته قالوا: كيف نقول: السلام عليك أيها النبي وهو غائب، أيام كان يصلي بنا هو بين أيدينا، لكن بعدما مات كيف نقول: السلام عليك أيها النبي؟ نقول: السلام على النبي. فقال العلماء منهم: اسكتوا، علمنا رسول الله أن نقول هذا. وتمضي القرون ونحن الآن موقنون أنا نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فتصله على الفور ويرد السلام، ومن شك في هذا فلا عقل له؛ لأني أنا الآن هنا أقول: (ألو) وأتكلم مع شخص في أمريكا، فحين نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فعلى الفور تكون عنده، لأن الله تعالى هو الذي خلق الهواء والأثير والموج، فلهذا إذا سلمت عليه وأنا غافل فإني أعيد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فتصل كل عبد صالح في الملكوت الأعلى والأرض.ثم أقول: أشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ففي كل صلاة وأنت بين يدي الله تشهد هذه الشهادة وتكررها طول حياتك، ذلك معراجك إلى الملكوت الأعلى، في كل صلاة نعيد شهادة الدخول في الإسلام: أشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم نصلي على النبي: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. فهذه أعلاها.

أدنى صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

وأدناها: اللهم صل على محمد وسلم تسليماً. فهذه تؤدي بها الواجب؛ إذ بهذا أمرك الله فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] فإن قلت: اللهم صل على محمد وسلم تسليماً فقد أديت الواجب.فهذه تستطيع أن تقولها مائة مرة في خمس دقائق: اللهم صل على محمد وسلم تسليماً.. اللهم صل على محمد وسلم تسليماً.. اللهم صل على محمد وسلم تسليماً، وإن أردت أن ترقى إلى ما هو أفضل من هذه فزد كلمة: (وآله): اللهم صل على محمد وآله وسلم تسليماً.. اللهم صل على محمد وآله وسلم تسليماً، فكم تصلون على النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم؟ وسأعطيكم ورداً فيها لثلاثمائة مرة على الأقل، وقد تقولون: يا شيخ! شغلتنا عن دنيانا، أخذت منا نومنا، تركتنا في هذه! فأقول: هل تتعب حين تقول: اللهم صل على محمد وسلم تسليماً؟ هل تشعر بالإعياء؟ وأنت ماش، وأنت تنتظر الصلاة، فمن الأذان إلى الإقامة تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ألف مرة.على الأقل ثلاثمائة مرة في اليوم والليلة، منها مائة نوزعها بعد الصلوات الخمس، بعد كل صلاة تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين مرة في خمس صلوات بمائة، تقول: اللهم صل على محمد وسلم تسليماً.. اللهم صل على محمد وسلم تسليماً، ومائة في الصباح ومائة في المساء، فهذه ثلاثمائة؛ لأن حد الكثرة -كما قال علماء السلف- ثلاثمائة، لا تقل: أنا ذكرت الله كثيراً إذا ما ذكرت ثلاثمائة مرة في اليوم والليلة.

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي أعظم ذكر لله، فحين تقول: اللهم صل فقد ناديت الله وذكرته بأعظم ذكر، فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر وصلاة، تنادي ربك: (اللهم) معناها: يا ألله، حذفت الياء وأبدلت عنها الميم؛ لأن الله ما هو بغائب حتى تناديه بـ(يا ألله)، فهذه الميم في (اللهم) عوض عن ياء النداء، فبدل أن تقول: يا ألله قل: اللهم، لم؟ لأن الله ليس بغائب أبداً، قل بشفتيك يسمعك، يعلم دقات قلبك ونبضات عروقك، قل: اللهم صل على محمد وسلم تسليماً، وأي مانع من ذلك؟ ما هناك مانع أبداً، من ساعة أن تصلي الصبح أو تمشي في طريقك إلى صلاة الصبح تأتي بالأوراد هذه، وأنت عائد من صلاة الصبح تأتي بها، وأنت جالس تنتظر إقامة الصلاة تأتي بها، بل إني إذا نسيت قول (سبحان الله وبحمده) آتي بها بين الإقامة والدخول في الصلاة: سبحان الله وبحمده.. سبحان الله وبحمده.. سبحان الله وبحمده، فما تتم الإقامة ويدخل الإمام في الصلاة إلا وقد انتهيت منها، أما تحبون أن يكون الله معكم دائماً؟ أما قال لنا: ( أنا مع عبدي إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ- جماعة- ذكرته في ملأ خير منه )، أفضل وأقدس، من الملائكة وليسوا البشر.إذاً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر وزيادة، ذكر ودعاء، وهل تعرفون قيمة الدعاء؟ احفظوا هذا الحديث: ( الدعاء هو العبادة ) حصر العبادة في الدعاء، وورد ( الدعاء مخ العبادة )، وانزع المخ من الحيوان فهل يبقى حياً؟ انتهى، إذا بطل الدعاء بطلت العبادة.

أثر الذكر في الكف عن الجرائم

قد يقول القائل: أكثرت يا هذا من الذكر، الناس في حاجة إلى مقاومة الزنا والربا واللواط والخيانة والكذب والسرقة والإجرام وعقوق الوالدين، خمت الدنيا! ونحن نقول: هل الذاكرون الله كثيراً والذاكرات يغشون هذه الكبائر من الذنوب؟ والله! ما كان، فالحصن الحصين هو ذكر الله عز وجل، الذي يذكر الله بقلبه ولسانه، فهو مشدود بالسماع ومربوط مع الله هل يزني؟ هل يقول كلمة سوء وهو ينطق باسم الله؟ والله! ما كان.لو ذكرنا الله لانتهت الجرائم وانتهى الباطل والشر والفساد نهائياً، لا رشاش ولا بوليس، بذكر الله، قلوبنا مع الله، فكيف نقدم على معصيته ونحاربه ونحارب دينه وأولياءه ونحن معه نذكره؟قل لي بربك: من يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ويمد يده ليأخذ الباطل؟ يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ويفتح عينيه في جارته ينظر إليها؟ والله! ما كان، وما وقعنا في الجرائم إلا بعد الإعراض عن ذكره تعالى.أما أثنى الله تعالى على الذاكرين؟ أما قال: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]؟ خالق الطباع وغارزها هو الذي يقول.وإليكم حادثة وقعت في بني إسرائيل أيام عيسى عليه السلام وابن خالته يحيى عليه السلام، فقد أوحى الله تعالى إلى يحيى بأربع كلمات أن يقولها لبني إسرائيل ويعمل بها، وفي ذلك الوقت كان بنو إسرائيل كالمسلمين اليوم، الكعب العالي، والربا، والزنا، والدنيا، والتكالب، مثل المسلمين الآن.فخاف يحيى كيف يواجه بني إسرائيل بها، فتردد فقال عيسى: أعطنيها أنا أقولها وليكن ما يكون، والآن في العالم الإسلامي ما يستطيع العالم أن يقول كلمات، لأنه يمزق. إذاً: لما خاف قال عيسى: أنا أقولها، فاضطرب يحيى وقال: يا ويحيى إذا لم أقلها، فصعد في شرفة منزل حتى لا يصلوا إليه بالحجارة، واجتمع بنو إسرائيل وهم يحبون التجمعات كالعرب والمسلمين الآن، إذا جاء مغن أو دجال امتلأ السوق عليه. فاجتمعوا وقالوا: تعالوا انظروا إلى يحيى ماذا يريد أن يقول؟ وقالها وبرئت ذمته، هذه الأربع الكلمات منها: ( وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذكر الله مثل حصن حصين )، كإنسان جرى العدو وراءه وهو هارب، فوجد حصناً فدخله وتحصن به، هذا مثل ذكر الله تعالى، الذي يريد أن ينجو من الشيطان فلا يزني، ولا يسرق، ولا يغتاب، ولا ينم، ولا يكذب، ولا يضجر، ولا يعق أمه، ولا يعصي الله ولا الرسول؛ فالحصن من الشيطان ذكر الله، الزم ذكر الله بقلبك ولسانك فما يقوى الشيطان على إفسادك. إذاً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لله ودعاء وصلاة على المصطفى.

الذكر بتلاوة القرآن الكريم

وأخرى: تلاوة كتاب الله عز وجل، هذا ذكر عظيم، ذكر وحصول على العلم، الذي يتلو كتاب الله متدبراً متأملاً يحصل على أنواع العلوم والمعارف المختلفة المتنوعة، وفي نفس الوقت هو يذكر الله سبحانه وتعالى، من ساعة أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إلى أن يفرغ من تلاوته وهو مع الله، يتلو كلامه ويتدبره ويذكر اسمه، قلما تمر آية ما فيها اسم الله، فهو نعم الذكر، ولهذا سماه الله ذكراً، أما قال تعالى: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1]؟ القرآن صاحب الذكر، ما قرأه عبد إلا ذكر الله، فكيف تقرأ القرآن ولا تذكره؟ فمن تلاوة القرآن إلى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا تكون قد أتيت بورد يزيد على الألف، وأهنئكم وأحمد الله تعالى إليكم على ما فزتم به في ليلتكم هذه، ووفوا وانتبهوا، فما يبقى بيننا من يكذب، ولا يسرق، ولا يزني، ولا يأكل الربا، ولا يفعل جريمة أبداً؛ لأننا في عصمة الله ما دمنا ذاكرين لله، هذا معنى قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].

معنى قوله تعالى: (واشكروا لي ولا تكفرون)

وما معنى وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]؟واشكروا لي: إنعامي، إفضالي، إحساني.. ولا تكفروه وتغطوه وتجحدوه، ومن مظاهر شكر الله على إنعامه: شكره على خلقك، فأنت مخلوق أم لا؟ وهل هناك من يقول: أنا لست بمخلوق؟ أعاقل يقول هذا الكلام؟ مخلوق اسم مفعول، فمن خلقك؟ الفطرة تصرخ وتقول: الله، الله هو الذي خلقني، فهذا الخلق كم يساوي؟ ديتك كم تساوي؟ ولو جزأناك فدية العين دية كاملة، ودية اللسان دية كاملة، وهكذا، كل هذا الإنعام لا تحمد عليه المنعم ولا تشكره؟ تعجز أن تقول: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله؟

أركان الشكر

الشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، وفي هذا المعنى يقول الحكيم:أفادتكم النعماء مني ثلاثةيدي ولساني والضمير المحجبا.فالشكر يكون بالقلب، واللسان، والجوارح، فكيف يكون الشكر بالقلب؟ الشكر بالقلب هو الاعتراف الباطني بنعمة الله، اعترافك في قلبك بأن هذا الريال من فضل الله، بأن هذا اللسان من عطاء الله، بأن هذه الحياة من فضل الله، هذا الاعتراف بالقلب هو الشكر؛ إذ كم جاحداً كافراً لا يعترف بقلبه لله بنعمة ولا بفضل ولا بإحسان أبداً، وهذا شأن كل كافر على الأرض، هل يعترفون بما أنعم الله عليهم بقلوبهم؟ لو اعترفوا لوقعوا ساجدين بين يدي الله.فأولاً: أن تعترف بقلبك بهذه النعمة، سواء كانت في النطق، أو البصر، أو الريال، أو الصحة، أو الولد، أو الزوجة، والظل تحت شجرة، عندما تحصل النعمة اذكر الله بقلبك أن هذا من فضل الله، أما ألا تذكر بالقلب فهيهات أن تذكر باللسان، فأولاً القلب، وهو اعتراف قلبي باطني بنعم الله.ثانياً: تترجم ذلك الاعتراف الباطني بلسانك الطيب الطاهر فتقول: الحمد لله.. الحمد لله، والشكر لله، هذه الكلمة الطيبة تزن الدنيا وما فيها، عندما تشعر بأية نعمة وأنت تقول: الحمد لله، فمن هنا إن شربت ماء أو لبناً أو عسلاً فبعدما تفرغ مباشرة يجب أن تقول: الحمد لله، إذا أكلت طعاماً أي نوع أكلت وفرغت فقل: الحمد لله، ولن تقول: الحمد لله إلا بعد أن تذكر إنعام الله عليك بقلبك، فقلت: الحمد لله، إذا ركبت ووضعت جسمك على الدابة أو مقعد السيارة أو الطيارة فقل: الحمد لله. إذا أكلت، إذا شربت، إذا ركبت، عندما تفرغ من النعمة تقول: الحمد لله. ومما أذكره للصالحين أنه استدعانا لطعام أحد الإخوان في بريدة منذ سنوات، أستاذ دعانا على طعام، ووالده شيخ كبير، وضع المائدة وأخذنا باسم الله نأكل، وذاك الشيخ الكبير أبو هذا الأستاذ يقول: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله، حتى فرغنا من الأكل بعد ساعة أو زيادة، كلما ذكر النعمة وفكر فيها فاضت نفسه: الحمد لله.. الحمد لله. فهل عرفتم قيمة الحمد لله؟ جاء في التوراة والإنجيل في صفات هذه الأمة أنهم الحمادون، صفاتنا في التوراة والإنجيل، أمة آخر الزمان، أمة محمد صلى الله عليه وسلم تعرف بالحمادين، ما معنى الحمادين؟كثيرو الحمد، هيا معنا إلى المستشفى، إلى أسرة المرضى المؤمنين الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، تقول لأحدهم: كيف حالك يا إبراهيم؟ فيقول: الحمد لله وهو يموت، تلتقي به على عكازه وهو جائع، فتقول: كيف حالك؟ يقول: الحمد لله.هؤلاء هم الذاكرون الحمادون، أمة محمد صلى الله عليه وسلم عندما نأخذ بهديه ونسلك سبيله ونتمسك بطريقه، أما إذا غفلنا كما غفل ملايين منا فما يعرف (الحمد لله)، ولا يقولها إلا الأحياء، أحياء القلوب والضمائر العارفون بالله الشاكرون الذاكرون.فإن شاء الله لا يفارقنا لفظ: الحمد لله، نستيقظ من النوم: الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره. فهل هذه لا تطيقونها يا أبنائي؟ تأملوا: هذا ذكر رسول الله عندما يستيقظ من النوم، ماذا يقول؟ ( الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره ).ومعنى أذن لي: سمح لي أن أذكره، وإلا فما أنا ومن أنا حتى أذكر ذا الجلال والإكرام، لولا إذنه لنا فهل نحن أهل لأن نذكره؟ أنا عرفت هذا من العجائز في القرية، حين تغضب العجوز تقول: لا تذكر اسمي، أنا أجل من أن تذكرني. فالله أذن لنا أن نذكره، ويثيبنا على ذكره، وأبو القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ( الحمد لله الذي رد علي روحي )؛ لأنها فارقت الجسم، نعم التيار متصل بالملكوت الأعلى، ( وعافاني في جسدي )، قد يقوم الإنسان من نومه أعمى، أو مشلولاً لا يملك شيئاً، فحية قد تأكله، وعدو يغرز فيه حربة، فمن عافاك؟ الله، ( وأذن لي في ذكره )، هذه هي، سمح لي أن أذكره، وهو أجل وأعظم من أن نذكره نحن.إذاً: شكر الله أولاً بالقلب، يذكر النعمة والمنعم، ثم باللسان فيلهج بكلمة: الحمد لله، هذان ركنا الشكر، والثالث: أن تصرف النعمة فيما أحب أن تصرفها فيه، وإلا فأنت كافر النعمة ولست لها بشاكر، أعطاك ريالاً أو ألفاً فأنفقها فيما يحب، فيما أذن لك، فإن أنفقتها فيما نهى وحرم فوالله! ما شكرته، واستهزأت وسخرت، ما أعطاك هذا الريال أبداً لتشرب به السم، أو تقتل به عمراً، أعطاك لتنفقه عليك أو على من تنفق من أجل أن يعبد الله بالذكر والشكر.

ذم صرف النعمة فيما لا يرضي الله تعالى

وهنا وقفة لو نتأملها، لو عرف إخواننا هذا فوالله! ما شربوا الأفيون ولا الكوكايين ولا الدخان ولا السجائر ولا الخمرة أبداً، كيف يعطيك هذا الريال وتعصيه به، أين يذهب بعقلك؟ إلا إذا قلت: أنا كافر فنعم، أما أن تقول: أنا مؤمن، ويعطيك الدينار والدرهم إفضالاً منه وإحساناً، وأنت ما خلقت ولا أوجدت، هو الذي سخر لك وأعطاك، ثم تعصيه به، فكيف هذا؟ والصحة البدنية من وهبكها، من أعطاك صحة بدنك؟ فكيف تستخدم هذه الصحة ضد ربك، ضد الذي أعطاها؟ فتذبح المؤمنين وتبقر بطونهم، أو تسلب أموالهم وتنتهك أعراضهم؟ هذه الصحة من الذي أعطاك إياها؟ أليست نعمة الله؟ أهكذا يكون الشكر؟ قوة البدن تستخدمها ضد أولياء الله؟ قد تقولون: يا شيخ! ما تعلمنا، ما عرفنا، هذه علتنا، ما علمتمونا! وأنا أقول: ما جئتمونا، ما قرعتم أبوابنا، ما اجتمعتم في بيت ربكم وناديتم أن: علمونا، أنتم شاردون تائهون في المقاهي والملاهي والملاعب، فكيف نتعلم إذاً؟ نعم العلة أننا ما تعلمنا، والله! ما تعلموا، ملايين ماتوا أحياء، ما جلسوا هذا المجلس ولا عرفوا ما عرفتم هذه الليلة أبداً، فما الحيلة إذاً؟ هيا نستأنف الحياة من جديد، ما زالت الحياة بأيدينا، فماذا نصنع؟ لن من هذا الكلام، ولن نمل حتى ننتهي، فنقول: بلغوا رجال الحكم عندكم، بلغوا رجال العلم، بلغوا البصراء، بلغوا الأذكياء أن الطريق هو أن نعرف أننا مسلمون مؤمنون نريد أن نسكن السماء في الملكوت الأعلى، وعليه فإذا مالت الشمس إلى الغروب وقف دولاب العمل، توضأ واحمل زوجتك وأولادك إلى بيت الله، بيت الله مسجد تبنونه في القرية أو في الحي، وتجلسون والله يفتح ويعلم.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-05, 11:17 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (100)
الحلقة (107)



تفسير سورة البقرة (67)

الصبر الجميل هو سلاح عباد الله السائرين في طريق الإيمان، وصاحب الصبر وعده الله عز وجل أن يوفيه أجره يوم القيامة بغير حساب، إضافة إلى ما يحصله الصابر في الدنيا من اللذة والسكينة، فما أوتي المؤمنون في دنياهم خيراً من الصبر، فإن أمروا من الله ورسوله بشيء صبروا على طاعتهما، وإن نهوا عن شيء صبروا على تركه، وإن أصابتهم المكاره والبلايا صبروا ابتغاء عظيم ثواب الله.

تابع تفسير قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع آية الذكر والشكر والاستعانة بالصلاة والصبر.يقول الحق تبارك وتعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:152-153].

وصية رسول الله لمعاذ بالذكر دبر كل صلاة

معاشر المؤمنين والمؤمنات! أمرنا الله تعالى بذكره، ونحن الرجال عبيده والنساء إماؤه، هو مالكنا ومالك أمرنا، خالقنا ورازقنا، ومدبر حياتنا، أمرنا بذكره وأمرنا بشكره، فهل ذكرناه؟ الجواب: لنستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لأحد أصحابه البررة الطاهرين، وهو معاذ بن جبل الأنصاري: ( يا معاذ ! والله إني لأحبك )، من معاذ هذا الذي يحلف له رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يحبه، فهل من أحبه رسول الله يشقى؟ هذا الوسام لا يدانيه وسام، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يحب إلا الطيبين الطاهرين؛ لأن الرسول مع ربه يحب ما يحبه، ويكره ما يكرهه، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ [البقرة:222]. قال: ( يا معاذ ! والله إني لأحبك، فلا تدعن ) أي: لا تتركن ( أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) ثلاث مرات، هذه أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً أحبه الله فأحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يعقل أن يسمعها منا عبد أو أمة ولا يفرح بها ولا يستمر عليها حتى الموت؟ ذلك غير معقول، إلا ما كان من أهل الغفلة والإعراض والنسيان، فوجوده كعدمه، فهل يعقل أن أحد السامعين أو إحدى السامعات ممن لم يبلغهم هذا لا يحفظون هذه الجملة الليلة ولا يقولونها دبر كل صلاة؟ ما أظن هذا يقع. تقول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، أتدرون لم؟ قد سبق أن عرف السامعون والسامعات والحاضرون والحاضرات من الزائرين والزائرات أن علة الحياة وسر هذا الوجود هو الذكر والشكر، لن يستطيع أحد غير أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أن ينبئك بهذا النبأ، لو تسأل الحكماء والعلماء: ما سر هذه الحياة؟ ما علة هذا الوجود؟ لم كان؟ فستجد الجواب: أراد الله تعالى أن يُذكر ويُشكر، فخلق هذه العوالم كلها وخلق الإنس والجن والملائكة من أجل أن يذكروه ويشكروه، فمن ذكر وشكر أكرمه، أسعده، ومن كفر بذكره وشكره أخسره وأشقاه شقاء أبدياً.أبعد أن يعرف العاقل سر هذه الحياة -وهو ذكر الله وشكره- يترك الذكر ويغفل عنه، ويعرض عن الشكر ولا يقبل عليه؟ كيف يعقل هذا؟ وها نحن مع هذه الآية الكريمة: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].وقد علمنا أن الذكر يكون باللسان والقلب، وخيره ما تواطأ فيه القلب واللسان، خير الذكر وأفضله ما تواطأ فيه القلب واللسان، القلب يذكر واللسان يترجم وينطق.

السنة النبوية مورد الأذكار

وقد عرفنا -معاشر المستمعين والمستمعات- أننا لا نعرف بم نذكر الله ولا كيف نذكره حتى يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بم نذكر الله وكيف نذكره، لا مجال للعقول هنا والفهوم والأفكار، هذا الذكر توقيفي، الله يأمرنا ورسوله يعلمنا كيف نذكر ربنا، وقد عرفنا من أنواع الذكر ما علمتم، وأفضل أنواع الذكر: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ).وقد عرفتم جائزة هذا الذكر، هذا الورد الذي هو مائة في الصباح، يقول عبد الله أو تقول أمة الله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مائة مرة، جائزته عظيمة والمحروم من حرمها، إنها تعدل عشر رقاب، لو تشتري بنقودك بآلاف دراهمك عشرة عبيد وتعتقهم في سبيل الله فصاحب هذا الورد مثلك وزيادة، فكيف يترك هذا الورد رجل سمعه أو امرأة؟ أنا أحتار وما أدري كيف يعقل هذا؟ أما لنا رغبة في السماع! أما نريد الملكوت الأعلى! أما نحن طامعون في دار السلام! أما عرفنا لماذا خلقنا؟! أيعجز أحدنا عن مثل هذا الورد؟ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة يعدها بأصابعه، بالحصى، بالنوى، بالمسبحة، بعد صلاة الصبح أو قبلها حين يصبح، ويحط الله تعالى عنه مائة خطيئة، ويرفع له مائة درجة، يكتب له مائة حسنة بدخل يومي، ويعفو عن مائة سيئة، فماذا بعد هذا؟ ويظل يومه ذلك كله في حرز من الشيطان حتى يمسي، لا يقوى الشيطان على إغوائه، أو إضلاله، أو إفساده، أو إهماله وتضييعه، فهو في حماية الله، مناعة ربانية، ولم يأت أحد بمثل ما أتى به من الأجر إلا من قال مثله وزاد.

الذكر حصن من وسوسة الشيطان وإغوائه

هذه الأوراد ذكرنا منها ألف ورد، فاللهم لا تحرمناها ما أحييتنا، اللهم لا تحرمناها ما أحييتنا، وعرفنا أن الذكر مناعة وحصانة لا تعدلها حصانة أو توازيها مناعة، وبالبرهنة والتدليل قلت لكم أيها السامعون المؤمنون: من يستطيع منكم أن يذكر الله بقوله: سبحان الله، أو الحمد لله، أو لا إله إلا الله، أو الله أكبر، ثم يفتح عينيه يتعمد النظر إلى امرأة لا تحل له؟ أو يقول: الله أكبر، أو سبحان الله، أو لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويمد يده ليسلب أخاه ماله؟ أو يقول: آمنت بالله.. آمنت بالله، سبحان الله، لا إله إلا الله، ويستطيع أن ينطق بكلمة سوء أو بذاءة؟ فهذا أمر مفروغ منه، فإن ذكر الله بقلبه ولسانه فلن يجرؤ، ولا يقوى، ما يقدر على أن يخرج عن طاعته، والأدلة والبراهين قائمة، وجرب تجد، وقد ذكر لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن أحد شبيبة بني إسرائيل كانت له بنت عم، وراودها عن نفسها، فلإيمانها كانت تمتنع وأبت عليه، حتى ألجأتها الضرورة جوع البطن، فاطرحت بين يديه، فلما دنا منها وجلس منها مجلس الرجل من امرأته ذكرت ربها وقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، ما إن سمع كلمة: (اتق الله) حتى انتفض وصرخ وهو يذكر الله، وتركها وترك ما أعطاها من دنانير.وما زلت على علم مما أقول، إن عبداً يذكر الله بقلبه أو لسانه لا يقوى على أن يعصي الله، وإنما يعصي الله الغافلون المعرضون عن ذكر الله، والله العظيم! للفسقة والفجرة والظلمة وأخباث الخلق هم الذين يعرضون عن ذكر الله، أما الذاكرون الله كثيراً والذاكرات فهيهات هيهات أن يتلوثوا بأوساخ المعاصي وأوضار الذنوب، فلهذا أمرنا الله بذكره: فَاذْكُرُونِي [البقرة:152] وجعل الجزاء أن يذكرنا بإنعامه، بإحسانه، بإفضاله، بهدايته، بتوفيقه، بنصره، برفع الدرجات، بل بأن يذكرنا بنفسه؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: ( يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم )، وكيف لا وهو القائل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]؟

بطلان المخترعات من الأذكار والأوراد

لقد بدأنا حديثنا وقلنا: كيف نذكر الله؟ وهنا ننبه إلى أنه ما نستطيع أن نبتكر أو نخترع، أو نوجد ذكراً نذكر الله به، بل لا بد من تعليم الله لنا بواسطة كتابه أو رسوله، لا بالأحلام ولا بالمنام.ومن قال: لم؟ قلنا: هذا موسى كليم الله، أي: الذي كلمه الله كفاحاً بلا واسطة في جبل الطور، قال: يا رب! علمني شيئاً أذكرك به. سأل الله أن يعلمه، فقال له: قل: لا إله إلا الله. فلا تفهم أن عالماً يخترع ورداً من الأوراد ويقدمه للطاهرين والطاهرات يردونه صباح مساء، هيهات هيهات، فلا بد من أن نتعلم من نبينا صلى الله عليه وسلم كيف نذكر ربنا.فمن هنا فالذين يذكرون الله من أهل الغفلة والجهل بلفظ الضمير: هو.. هو.. هو، هؤلاء ابتدعوا ذكراً لله، والله عز وجل ليس من أسمائه (هو) أبداً، هذه أسماؤه التسعة والتسعون حواها كلامه في كتابه، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، والله! ما فيها كلمة (هو)، فـ(هو) ضمير يطلق على كل غائب، يقال: إبراهيم هو الذي أُمر بذبح إسماعيل، علي هو الذي خلف عثمان في الخلافة، كلمة (هو) تعود على غائب ذكر، ما هي من أسماء الله، والغافلون وأهل الجهل يذكرون الله بقولهم: هو.. هو.. هو.. هو! ولذا نبهنا وقلنا: عباد الله! تعلموا كيف تذكرون ربكم، فإنما العلم بالتعلم. وكذلك أوراد عند الغافلين من أهل الجهل: يذكرون الله بالاسم المفرد (هو)، ثم يقولون: حي.. حي.. حي، يعني: يا حي.. يا حي.. يا حي! يحذفون حرف النداء، ويقولون: حي.. حي.. حي، لربع ساعة أو عشر دقائق وساعة.

موت الكافر بفقده روح الإيمان

أما الكفار فأموات، أيعقل أن تنادي ميتاً لتأمره أو تنهاه؟ قف على قبر وقل: يا صاحب القبر! قم فأذن وصل، أو قل: يا صاحب القبر! من الآن لا تقل الباطل ولا تنطق بالسوء! فهل أنت تأمر ميتاً أو حياً؟ والميت هل يسمع ويفهم ما تقول وينهض فيعمل أو يترك؟ لا؛ فهنا أريد أن يفهم السامعون والسامعات أن الإيمان به الحياة، أما الكافر فكالميت.ومن قال: ما الدليل على ما تقول يا شيخ؟قلت: الدليل: أن أهل الذمة من اليهود والنصارى يعيشون تحت راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله، تحت الدولة الإسلامية، فإذا رأينا هلال رمضان وأعلنا الصيام فهل نأمر هذا الذمي من اليهود أو النصارى بالصيام؟ أتأمر ميتاً؟ وإن وجبت الزكاة فهل نقول: يا معشر أهل الذمة في ديارنا! قد دخل شهر الزكاة فأعدوا زكاة أموالكم، أيجوز أن نقول هذا؟ هذا عبث، ولهو ولعب، فهو ميت فكيف تأمره؟! أذن المؤذن، نادى إلى الصلاة عباد الله، ويهودي أو نصراني أمام بابه، هل تقول له: امش فصل؟ أتأمر ميتاً؟ هذا هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.فمن هنا عرفنا أن الكافر ميت، لا يؤمر ولا ينهى، إذا نفخنا فيه الروح وسرت في جسمه ولاحت أنوارها على جوارحه فأصبح يسمع ويفهم بمجرد أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله؛ يكون قد حيي، فتقول: قم يا عبد الله فاغتسل، هذا هو الحمام أو المستحم، فيقوم فيغتسل، تقول: هيا بنا إلى المسجد لنصلي فيمشي، حي يسمع ويقوى على أن يفعل، أما وهو ميت بكفره وظلمة نفسه أفمن المعقول أن تأمره وتنهاه؟معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هل عرفتم أنكم أحياء؟ وهل عرفتم أن الكفار أموات؟ إذاً: لا تقلدوهم، أتريد أن تكون كالميت؟ ميت كيف تأخذ بآدابه وأفكاره حتى تتزيا بزيه وهو ميت؟! هذا لا يصح أبداً، إذاً: فلنحمد الله على أن أنعم علينا بنعمة الإيمان، وهي نعمة من الله، كم من حاذق لبيب، عليم، عارف، وحرم هذه النعمة وهو كافر في عداد الكافرين، ذكاؤه خارق للعادة، وما عرف أنه عبد مربوب لرب عظيم، كل شيء يدل على علمه وقدرته ووجوده، وما سأل أهل العلم ولا قال: من خلقني؟ لم خلقت؟ إلى أين مصيري؟ ولكن في باب الطعام والشراب واللباس والمركوب يحذق تلك الأمور حذقاً عجباً؛ لأن الله ما أراد أن ينزله منازل الأبرار، علم أن هذا العبد عندما يعرض عليه الإيمان يرفضه باختياره وإرادته، بل ويحارب أهله ويعاديهم، فكتب ذلك في كتاب المقادير قبل أن يكون هذا الكافر.

إشادة بكتاب نداءات الرحمن لأهل الإيمان

وقد كتبنا كتاب النداءات، واسمه: نداءات الرحمن لأهل الإيمان، هذا الكتاب حوى تسعين نداءاً من الله إلى عباده المؤمنين والمؤمنات، هذا الكتاب ينبغي -إن لم أقل: يجب- أن يكون عند وسادة كل مؤمن ومؤمنة، قبل أن ينام يسمع نداء الله له، فيقول: ماذا طلب مولاي؟ فهذا الكتاب (نداءات الرحمن لأهل الإيمان) اشتمل على كل ما يهم المؤمن، ما ترك المال والاقتصاد، الحرب والسلم، المعاهدات، العبادات، الدماء، الحدود.. كل ما تتطلبه حياة المؤمن حواه هذا الكتاب، لم؟ لأنه اشتمل على تسعين نداء من نداءات الله لعبداه المؤمنين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104]، من سورة البقرة، وتوالت النداءات إلى آخرها وهو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]، من سورة التحريم. فأنا أنصح لكل مؤمن أن يوجد هذا الكتاب عنده؛ لأنه مؤمن ويناديه سيده، أما يسمع نداء مولاه؟ إلا إذا لبس برنيطة وقال: ما أنا بمؤمن، حينئذٍ لا ينادى، أما وهو مؤمن ويناديه ربه من فوق عرشه أن: يا عبدي المؤمن! اسمع ما أقول، فيأمره بما يسعده ويكمله، وينهاه عما يشقيه ويؤذيه، يأمره بما يهذب أخلاقه وآدابه، ينهاه عما ينقص أخلاقه وآدابه، ثم لا يعرف ما ناداه به ربه؟! غفلة غفلها المؤمنون والمؤمنات، الآن فتح الله عز وجل، فهذا الكتاب ينبغي أن يوجد بعدد المؤمنين، ألف مليون نسخة.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين)
يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153]، من أجل هذا ناداكم الله، استعينوا، اطلبوا العون بالصبر وبالصلاة، هنا تجد العون الوافي الكافي، وهو حبس النفس وهي كارهة.

مواطن الصبر

والصبر في ثلاثة مواطن، فمن منكم يريد أن يظفر بهذا العلم، وهذا الكمال؟ثلاثة مواطن جاهد نفسك فيها واحملها على أن تصبر فيها:الموطن الأولى: الصبر على طاعة الله ورسوله، الصبر على أداء الواجبات والنهوض بها على وجهها المطلوب منها، وتتململ النفس، تتضجر، تظهر كسلاً، جاهدها حتى لا تترك واجباً تقدر على القيام به، هذا أول موطن: النهوض بالتكاليف الشرعية التي هي أفعال، وأقوال، وأعمال.الموطن الثاني: الصبر على ترك معصية الله ورسوله، إذا حرم الله تعالى قولاً أو عملاً أو نية أو اعتقاداً أو صفة احبس نفسك بعيداً كل البعد عنها، احبس نفسك بعيداً كل البعد عن معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يتطلب مجاهدة النفس.الموطن الثالث من مواطن الصبر: هو الصبر على المكاره، إذا ابتلاك الله بمكروه، كمرض عافانا الله وإياكم، جوع، فقر، تعب، تصبر على ذلك البلاء فلا تجزع، ولا تقل: آهٍ، حتى يصبح المكروه كأنه محبوب عندك، لا تسمع الله كلمة: آهٍ، أو: لم هذا؟ وأفظع من ذلك قولك: ماذا فعلت؟ كما يفعل الجاهلون، تسأل والحمى تهزك فتقول: الحمد لله، أنا في خير، تسأل والبطن جائع: كيف حالك؟ فتقول: الحمد لله، أنا في خير، لا تظهر أبداً الجزع مما ابتلاك الله به ليمحصك ويظهر طيبك إن كنت طيباً ليرفعك إلى مستويات وإلى درجات ما كنت لتصل إليها إلا بهذا الابتلاء.فمن هنا كان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واسمعوا قول الله تعالى من سورة يونس: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة، ولي الله هل يخاف؟ هل يخاف من الموت؟ هو يفرح به، لينتقل إلى جوار ربه، هل يحزن لموت ولده؟ سبقه إلى ربه وهو على إثره لاحق به، هل يحزن على موت دابته؟ لا، ابتلاه ربه ليسمع منه كلمة: الحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، أولياء الله لا يخافون ولا يحزنون؛ لأنهم أهل الصبر، وهم الصابرون، فلهذا الصابر ما يظهر عليه علامة الخوف ولا الحزن أبداً.

إرشاد الآية الكريمة إلى الصبر بشأن تحويل القبلة

إذاً: اصبروا، وأول ما يصبر عليه المخاطبون بهذه الآية قبلتهم التي وجههم الله تعالى إليها؛ لأن الآية نزلت في ظرف كان فيه المؤمنون في هذا البلد في اضطراب، فاليهود والمنافقون يشنون حملات كلامية يزعزعون بها إيمان المؤمنين، وقد تقدم هذا وعرفناه، وأمرنا تعالى بالصبر، فقد كنا نستقبل بيت المقدس بإذن ربنا، فأراد الله تعالى أن يخلصنا من التشبه بأعدائه وأعدائنا اليهود، فحول قبلتنا إلى الكعبة، وكون المنافقين والمرجفين يقولون: ما هذه الذبذبة وهذه الحيرة، وغداً سوف يولون وجوههم إلى المغرب، وغداً إلى كذا؛ هذا الطابور الخامس واجهوه بالصبر، واستعينوا بالصبر على هذا، واستعينوا على ذكر الله وشكره بالصبر، واستعينوا على ما يهمكم أو ينزل بكم أو تريدون الوصول إليه بالصبر، استعينوا بالصبر أولاً، وبالصلاة ثانياً.

توجيه المؤمنين إلى الاستعانة بالصلاة على مهام الحياة

نادى الله تعالى عباده المؤمنين والمؤمنات ليرشدهم إلى الاستعانة على مهام حياتهم بالصبر والصلاة. فاحبس نفسك على ما فرض الله عليك، احبسها بعيدة عن كل ما كرهه الله ومنع عباده المؤمنين منه، من الكلمة إلى قتل المؤمن، احبسها بعيداً، إذا ابتليت للامتحان -ولا بد- ولتمحيصك وإظهار باطنك وعرفت أنك مبتلى فاصبر، والصلاة أكبر عون على مثل هذا، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ).ورضي الله عن عبد الله بن عمر ، وهو في طريقه من مكة إلى المدينة، والمسافة مسافة عشرة أيام على الإبل، في أثناء طريقه جاء من المدينة أحد المؤمنين ذاهباً إلى مكة، فقال: يا ابن عمر ! لقد توفيت امرأتك. وكان على دابته، فنزل وصلى، فقيل له في ذلك: يا عبد الله! ما الذي صنعت؟ قال: ( رأيت رسول الله إذا حزبه أمر -أصابه كرب أو شدة- يفزع إلى الصلاة )؛ لأن الصلاة يا عباد الله هي لقاء مع الرب تبارك وتعالى، لقاء كامل تام، إذا تطهرت، وكانت ثيابك طاهرة وجلست على مكان طاهر واستقبلت بيته وقلت: الله أكبر؛ فأنت -والله- بين يدي الله، ( المصلي يناجي ربه )، من قال هذا؟ من أخبر بهذا الخبر؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما معنى أنه يناجيه؟ يتكلم معه سراً، فالمناجاة: هي كلام السر بين اثنين أو ثلاثة، فإذا دخل العبد في الصلاة ينظر الله تعالى إليه ويسمع منه؛ فلهذا يقبح أشد القبح أن تلوي رأسك يميناً أو شمالاً، أما إن استدبرت الله وقد نصب وجهه الكريم إليك فهذا معصية كبيرة، صلاتك باطلة بالإجماع، وذلك أقبح شيء، الله مقبل عليك بوجهه يسمع منك وتستدبر أو تلتفت؟ أو تتكلم معه ويبقى اللسان ينطق والقلب في البستان أو في الدكان؟! هذه أيضاً عيب كبير، سيدك مقبل عليك يسمع طلباتك ويرى مرادك، وأنت بقلبك في الدكان أو في البستان، هذه زلة لو تشعرون بها.ومن باب التمثيل: شخص تريد منه حاجتك، وتقبل عليه: يا سيدي! يا فلان! وإذا بك تنصرف، فيقول: أين أنت؟ فتقول: في المطبخ، تسأل عما طبخوا له! أيليق هذا بذوي الأدب؟إذاً: الاستعانة بالصلاة هي أنك إذا حزبك أمر واشتد بك كرب وضاقت النفس؛ فبدل أن تقول لزوجك: أنت طالق بالثلاث، أو تسب فلاناً أو تضرب القدر برجلك؛ افزع إلى ربك واطرح بين يديه، ولما لم يعرف أبناؤنا هذا فإن أحدهم تغضبه سيدة البيت بكلمة فيقول: أنت طالق بالثلاث، يشفي صدره بهذا حتى يعيش على الحرام حتى يموت، يغضبه ولده فيسب الله والرسول، يغضبه من معه من زملائه أو العمال معه، فيأخذ في السب والشتم والصياح والضجيج، أين حبس النفس؟ حين تشعر بالضغط الباطني افزع إلى الله.

حاجة المسلمين إلى التربية المفقودة

إذاً: يا شيخ! لا تلمنا؛ لأننا ما تربينا في حجور الصالحين، إي والله يا بني إنك تقول الصدق، الذي ما يتربى في حجور الصالحين ماذا يكون؟ عاش في أسرة لا يسمع إلا السب والشتم والغضب والصياح والضجيج، مشى مع أناس وجالسهم وعاش معهم في الحي أو في القرية أو في العمل لا يسمع كلمة الهدى ولا يرى نورها، وتريد منه أن يكمل بهذه السرعة؟ نعم ما ربينا في حجور الصالحين.إذاً: هل من طريق إلى تربيتنا يا شيخ؟ هل من طريق إلى العودة؟ الجواب: نعم؛ باب الله مفتوح، فرسول الله صلى الله عليه وسلم -وإن مات، وهو في دار السلام في جوار ربه- فحكمته وهداه بين أيدينا، كتاب الله، وربنا إن لم يناجنا ولم يكلمنا ولم يوح إلينا فكتابه بين أيدينا، فقط نجلس جلوس الصدق وبالنية الصالحة بين يدي المعلم أو المربي وندرس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.أما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، وقال: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164].وسبق هذا دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام وهو يبني البيت العتيق الذي نحج إليه، كان يبني البيت وإسماعيل ولده معه يناوله الحجارة، وهما يبنيان البيت كانا يتقاولان، وسجل الله لنا كلماتهما، فماذا كانا يقولان؟ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، يتقبل منهما ماذا؟ العرق والجهد في تلك الصحراء في ذلك الوادي حيث يبنيان بيتاً ليس معهما أحد إلا الله.

وجوب الإسلام لله تعالى

ثم قالا: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128]، سبحان الله! إبراهيم يسأل الله أن يجعله وولده مسلمين؛ لأن الإسلام غال وعزيز ورفيع، من منكم يريد أن يسلم لله قلبه ووجهه، فتصبح أعماله، ونياته، وأفكاره، وتدبره كله لله عز وجل؟ وقد بينا هذا وفصلناه، قلنا: تمر بالرجل يهدم الجدار فتقول: لم؟ فيقول: في الله، خفت أن يسقط على عبد مؤمن فيؤذيه، تمر بكناس يكنس الشارع، فتقول: لم؟ فيقول: لله، أولياء الله يمرون من هنا؛ فأنا أكنسه خشية أن يؤذيهم هذا الشوك أو هذا الأذى، والآخر تمر به يبني، فتقول: لم تبن؟ يقول: لله، كيف تبني لله؟ هل هو مسجد؟ فيقول: لا، أبنيه لأكن فيه المؤمنين من أولادي والمؤمنات وأسترهم به، وفلان طلق زوجته اليوم، فقلنا: هل طلقت؟ قال: نعم، لم؟ قال: لله، سبحان الله! هل طلقت لله؟ أي نعم، هذه المؤمنة ما سعدت معي، شقيت، ما رضيتني لها، نفسها كارهة، طلقتها لتسعد، هذه أختي المؤمنة، فطلق لله، وفلان تزوج، لم يتزوج؟ لله، كيف يتزوج لله؟ أراد أن ينجب بنين وبنات يعبدون الله، فلمن زواجه؟ لله.فـ(أل) في كلمة (المسلم) دالة على العراقة والمتانة في الوصف، المسلم: ذاك الذي أسلم كل شيء لله، أسلم بمعنى: أعطى، أنت سلمت البضاعة الفلانية، سلمتها أو أسلمتها بمعنى واحد، المسلم الذي أعطى لله قلبه فلا يتقلب إلا في رضا الله عز وجل، وأسلم جوارحه، فلا يمشي ولا يقعد ولا يقوم ولا ينام ولا يبني ولا يهدم ولا يتزوج ولا يطلق ولا يعطي ولا يمنع إلا لله، فهل يستطيع المؤمنون أن يفعلوا هذا؟ لو علموا لفعلوا، فإن لم يعلموا فوالله! ما يفعلون.

ضرورة العلم بأحكام الصلاة لحصول أثرها

العلم قبل القول والعمل، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19].الذي ما يعرف أن يبني جداراً هل سيبنيه؟ الذي ما يحسن طبخ طعام هل سيطبخه؟ يفسده، الذي ما يحسن خياطة ثوب هل سيخيطه؟ سيمزقه، نحن في الدنيا واعون تمام الوعي، إذا لم يستطع أن يسوق سيارة هل يرمي بها في الوادي؟ كلا. والعبادات أمر غير مهم، مع أنها -والله- لأدق من سياقة السيارة أو من طبخ الطعام، بل أدق مما يسمى بالكيمياويات.أض ب لكم مثلاً: الصلاة التي بها العون على تحمل مشاق الحياة شرعت من الله، فالله عز وجل شرعها ورفع رسوله إليه ليسمعه كلامه، وليعلمه ما فرض عليه وعلى أمته، ولما نزل جبريل الأمين فصلى به يومين علمه الصلاة وأوقاتها، هذه الصلاة مركبة تركيباً كمياوياً، لو تركع قبل أن تقول: الله أكبر فصلاتك باطلة، لو تسجد قبل أن تركع فصلاتك باطلة، لو تترك قراءة الفتحة وتقرأ القرآن كله فصلاتك باطلة، ما معنى باطلة؟ إذا قال الفقيه: صلاتك باطلة فماذا يعني؟يعني أنها ما ولدت النور، عملية فاشلة، ما أنتجت الطاقة التي من شأنها أن توجد في هذه الحركات التي شرعها الله، فالصلاة عملية توليد الحسنات، وهي جمع حسنة، ما يحسن به القلب والنفس، هذه الصلاة لو تصلي أمام فقيه وتقول: الله أكبر مستدبراً القبلة فسيقول: صلاتك باطلة، كيف تكبر وأنت تستدبر القبلة؟ صلاتك باطلة، أو قرأت بعد تكبيرة الإحرام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ [التحريم:6]، وما قرأت الفاتحة، سيقول: صلاتك باطلة، أو ركع وما أكمل ركوعه، ولا مد صلبه وظهره ولا اعتدل فيه، سيقول: صلاتك باطلة، أو سجد وما مكن جبهته ولا أنفه من الأرض، ولا أرى نفسه الذلة وأنه بين يدي الله، بمجرد أن وضع رأسه رفعه، كأنها نار تحته، يقول الفقيه: صلاتك باطلة، وصلاة المغرب ثلاث ركعات، فقال: أنا أصلي خمساً لله، أتقرب إلى ربي، فصلى خمس صلوات، يقول: الفقيه: صلاتك باطلة، لم باطلة؟ هل أنا نقصت شيئاً؟ أنا أردت الزيادة لله، يقول: اسكت! صلاتك باطلة، أو نقص سجدة من السجدات في أي ركعة وقال: يكفي سجدة واحدة، فماذا يقول الفقيه؟ يقول: صلاتك باطلة؟ ما معنى: باطلة؟ معناه: ما تنتج لك الحسنات، ما تولد لك الأنوار، أعدها وإلا فهي عملية فاشلة كالمركبات الكيماوية. على سبيل المثال: إبرة البنسلين التي تعطى للمريض، لو عملوا لك خمسين إبرة فهل هي دواء؟ سيقتلونك، كمية الدواء ارتفعت، كمن يصلي المغرب أربع ركعات أو سبعاً، والإسبرين للصداع، أتيت بعلبة كاملة فيها عشرون حبة وابتلعتها، فهل ينفع ذلك؟ أو أنك بدل أن تبتلعها أو تذوبها وتشربها غسلت بها رأسك، فهل تنفع؟ باطلة ما تنفع، هذه أمثلة محسوسة، فما أمرنا الله بالاستعانة بالصلاة إلا لأنها توجد أنواراً تغمرنا فتتجلى على عيوننا وعلى أسماعنا وأبصارنا وألسنتنا وعلى كل حركاتنا، لما تولد من ذلك النور.

إقامة الصلاة نور يحول دون الفواحش والمنكرات

ومن قال: ما الدليل على ما تقول؟ فالجواب: اسمعوا الله تعالى يقول وهو يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم -وأمته تابعة له-: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، (اتْلُ): اقرأ، مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، نقرأ الكتاب في الصلاة وخارجها؛ لأنه مصدر العلم والمعرفة، مصدر توليد طاقة الإيمان، أتريد أن تقوى؟ أن يشتد ساعدك؟ أن ترتفع كلمتك؟ اتل الكتاب، ونحن نقرؤه على الموتى فقط. يقول تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، لم يا رب؟ ما الفائدة من إقام الصلاة؟ ما قال: وصل، لو شاء لقال: اتل ما أوحي إليك من الكتاب وصل لنا، ولكن قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، وعلل لهذا الأمر، علل لهذا الحكم، وهل تعرفون معنى العلة؟إنها الجواب عن كلمة (لم)، يقال: لم طبخت هذا الفول يا أم سعيد؟ قالت: ليفطر به الأولاد قبل الذهاب إلى المدرسة، فلم حين يعلل الله لنا لا نفهم، سبحان الله! والله! ما يفهمون، وهم يعرفون التعليل لكل عمل، وما أمر الله ولا نهى إلا ويعلل لذلك، وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، الصلاة تنهى عن فعل الفحشاء وفعل المنكر، عن قول الفحشاء، عن قول المنكر، عن اعتقاد الفحشاء عن اعتقاد المنكر. وكيف تنهى؟ هل سمعتموها يوماً تنادي: يا عبد الله! لا تسرق، يا عبد الله! لا تقل السوء؟ الصلاة ما تنطق، إذاً: كيف تنهى عن الفحشاء والمنكر؟الجواب: لأنها توفر النور الطاقة النورانية، والذي يمشي في النور هل يضع رجله على عقرب؟ الذي يمشي في النور هل يجلس على شجرة الشوك؟ الذي يمشي في النور هل يعدل عن الطريق وينحرف عنها؟ الجواب: لا، الذي يمشي في الظلام هو الذي يقع له هذا، قد يدوس أفعى، قد يجلس على خراءة وبول، وما يرى، لكن صاحب النور أنى له أن يقع فيما يضره ويؤذيه؟! فالصلاة أكبر مولد لهذه الطاقة النورانية، والحج، العمرة، الجهاد، قل ما شئت من مولدات الحسنات أو الأنوار، والصلاة أعظمها بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم.

أ ثر الصلاة في الكف عن الجرائم

ونقول: ما نحن بحاجة إلى البوليس والشرط والآلات لنقاوم السراق ونقاوم اللصوص والمجرمين والخونة، ما نحتاج إلى هذا، بل نقيم الصلاة فقط، أصحيح هذا الكلام؟ والله الذي لا إله غيره! لهو أصح من الصحيح، فما الدليل؟ عندنا براهين: كم كانت شرطة النبي صلى الله عليه وسلم؟ من مدير الشرطة؟ كم حادثاً وقع في عشر سنوات؟ زنية واحدة وسرقة واحدة.أبو بكر الصديق قاد المسلمين سنتين، فمن هو مدير شرطته؟ كم كان عنده من الشرط ورجال الأمن؟ لا أحد.عمر كانت خلافته سنوات، فمن مدير شرطة عمر ؟ هل كان عنده شرطي بوليس؟ والله! ما كان، ما هي الجرائم التي وقعت؟ لا شيء. وكذلك عثمان ؟ أتدرون السر ما هو؟ لأنهم يقيمون الصلاة رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، فازدهرت قلوبهم بالإيمان، وزكت نفوسهم بالصلاة فأصبح النور يغشاهم من فوقهم ومن تحتهم، فصاحب هذا النور ما ينطق بكلمة سوء، فضلاً أن يمد يده ليؤذي أخاه أو أمه، فهل هذا الكلام خيال؟!أيها السامعون وفيكم العلماء ورجال السياسية! عندنا ما يسكتكم، هيا بنا إلى أي محافظ في بلد من بلدان المسلمين، من إندونيسيا إلى موريتانيا، نقول: يا محافظ! أنا وفلان تنازعنا، هذا يقول: المقيمون للصلاة ما يزنون ولا يفسدون ولا يفسقون، وأنا أقول: هم الذين يفسقون ويجرمون، أعطنا قائمة بأسماء الذي اجترحوا السيئات في هذا الشهر، وهي مسجلة عندهم، هات القائمة، فيها إبراهيم بن عثمان، وعيسى بن سعيد، وموسى بن فلان، وخالد بن كذا.. هذا سرق فلاناً، هذا ضرب فلاناً، هذا ضبط يشرب الحشيش، هذا كذا.فنقول: إن وجدتم أكثر من(5%) من مقيمي الصلاة فاذبحوني، الآن لنا أربعون سنة نتحدى، ما استطاع واحد أن يثبت شيئاً، (5%) ممن سجلتم جرائمهم بالزنا واللواط وعقوق الوالدين، وخيانة الجيران، ولم نستثني خمسة؟ لأن الشذوذ يقع، والشاذ لا حكم له، و(95%) من تاركي الصلاة في دياركم ومن المصلين الذين لا يقيمون الصلاة.إن عبداً يطرح بين يدي ربه ويناجي ربه ويتردد على بيته خمس مرات بالليل والنهار ويذرف الدموع حتى تسيل على خديه بين يديه هل يخرج من المسجد ليكذب؟ والله! ما كان، هل يخرج من المسجد ليطارد النساء ويزني؟ والله! ما يكون، هل يخرج من المسجد ليتعاطى الحرام ويبيع الحرام؟ والله! لا يمكن.أما أن تقول: يصلون ويفعلون ففرق كبير بين من يصلي وبين من يقيم الصلاة، وما هو الفرق؟المقيم الصلاة صلاته ولدت له النور وأوجدت له الطاقة، فبها يبصر ويعرف الحق من الباطل والطهر من الخبث، أما الذي يصلي فما أنتجت له، بل كما دخل خرج، دخل في ظلام وخرج في ظلام، هذا يقرر ما سمعتم أن الصلاة أكبر مولِّد للطاقة النورانية، أكثر من الصيام، أكثر من الحج؛ لأن عبداً يذهب إلى ربه ويتكلم معه ويناجيه ويبكي بين يديه ويمرغ وجهه في التراب طالباً رضاه مستعيذاً من غضبه وسخطه هل يخرج يسب فلاناً أو فلاناً؟ والله! ما يكون.

انتفاع العالم بثمار العبادات ودلائل الآيات

إذاً: هيا لنقيم الصلاة، ونحتاج إلى العلم أولاً، الذي ما يعرف كيف يصلي كيف يقيمها؟ ما عرف أركانها ولا واجباتها ولا هيأتها، فعدنا من حيث بدأنا، فهيا نتعلم، لا بد من التعلم؟ فطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، العالمون هم الذين يعقلون ويفهمون ويسوسون ويقودون، والجهلاء عميان وضلال يقودون الناس إلى المهاوي ويسقونهم السم وهم لا يشعرون.وقد ضرب الله مثلاً فقال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ [العنكبوت:41]، مثل: أي: صفة، مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ [العنكبوت:41] جعلوا من دون الله أولياء يبكون بين أيديهم، يستغيثون بهم، يطلبون نصرتهم، يريدون أن يشدوا قواهم وعزمهم، مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ [العنكبوت:41]، هذا كلام الله، والعنكبوت جمعه عناكب، حشرة تعمل نسيجاً عجباً، كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا [العنكبوت:41] لتسكنه، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت:41] بيت القملة قد يكون أحسن وأصح، تدخل تحت الشعر، أما العنكبوت فبيتها خيوط في الهواء، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، هذا محل الشاهد: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ [العنكبوت:43] لهدايتهم وتعليمهم، وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، ما يعقلها إلا أهل العلم والبصيرة، غير العالم هل يستطيع أن يقود أمة، أن يسود جماعة، أن يصلح قرية، أن يصلح أسرة؟ والله! ما يستطيع. قد تقول: يا شيخ! لم تحلف بالله؟ كيف تقول هذا الكلام؟أقول: ها نحن في القارات الخمس من اليابان شرقاً إلى أمريكا غرباً، دلونا على دولة أو على قرية أو على أمة استقام أمرهم وأصبحوا كالملائكة في الأرض تسودهم الرحمة والإخاء والطهر والصفاء؟جهلة بربهم وبشرعه وقانونه ولقائه، فكيف ينتجون الطهر والصفاء؟ بل ينتجون الخبث والعفن والشر والفساد، ففرنسا أرقى دولة في أوروبا سجلوا لها عشرة آلاف جريمة في كل يوم، ما هي جرائم سب أو شتم، بل سرقة وقتل، أين البوليس، وأين الأنظمة، وأين تلك الآلات؟ هل فعلوا شيئاً؟ السويد والدنمارك سموا وارتقوا وينزو بعضهم على بعض في الغابات والبساتين؟ أين الرقي، أين الكمال؟إذاً: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:128-129]، هذه دعوة إبراهيم وإسماعيل: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ [البقرة:129]، من هؤلاء؟ أولاد إسماعيل حين يتزوج ويولد، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129].هذا نظام الكمال البشري، هذا سلم الرقي إلى مقامات أهل الجنة.اللهم اجعلنا منهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-05, 11:25 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (101)
الحلقة (108)



تفسير سورة البقرة (68)

منح الله عز وجل معيته لمن صبر وأقام الصلاة من عباده، ومعية الله سبحانه وتعالى تقتضي التأييد والنصرة والرعاية، كما وهب الله عز وجل الحياة لمن قتل في سبيله، وأعد له عنده سبحانه مقاماً كريماً، وأمنه من فتنة القبر، ومن فزع يوم العرض، ذلك أنه بذل نفسه وروحه في سبيل الله، وأراق دمه طلباً لمرضاته، واستعجالاً لأجره وثوابه.
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) وقفات مع جملة (إنا لله وإنا إليه راجعون)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:153-157].

فضلها ومعناها

قبل أن نشرع في تفسير الآيات أقول: إن كثيرين من عوام المسلمين لا يحفظون هذه الجملة ويحفظون أغنيات متسلسلة، ويعجز أن يحفظ هذه الجملة، وهي: إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، فهل يعجز المؤمن أو المؤمنة أن يعيد كلمة من كلام الله، هل يستطيع أن يقص القصص ويحكي أطول الحكايات ويعجز عن هذه الجملة: إنا لله وإنا إليه راجعون؟ والله! إنها لتزن ما على الأرض من ذهب، فـ ( ما من مؤمن يصيبه الله بمصيبة -في نفسه أو ماله أو ولده- فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها؛ إلا آجره في مصيبته وأخلفه خيراً منها ).ومعنى قوله: (إنا لله) أنه ما دمت تعترف أنك لله فإذا قتلك الله، سلبك الله، فعل ما شاء أن يفعل بك؛ فأنت عبد له، كما إذا رأيت الرجل يذبح شاته فهل تقول: لا تذبحها؟ رأيت الرجل يهدم جداره، فهل تقول: لا؟ رأيت الرجل يطالبك بأماناته عندك، فهل تقول: لا؟ فأنت عبد الله، فإذا أراد منك شيئاً فكيف تجزع؟ كيف تسخط؟ كيف تقول الباطل؟ وعهدناك إذا طلب منك شيء مما هو لغيرك تسلمه ولا تغضب ولا تسخط، وإذا أراد الله منك شيئاً من مالك أو من أولادك أو من نفسك تسخط وتغضب وتجزع، بل يقولون الهجر وينطقون بالباطل والكفر، فما سر ذلك؟ ما حفظوا هذه الجملة، ما هم في حاجة إليها، ما وجدوا يوماً من يرغبهم أو يحثهم أو يحضهم على حفظ كلمة من كلام الله، يعيش أربعين سنة ما يحفظها.

ثواب قولها

أيها المستمعون ويا أيتها المستمعات! إذا قال العبد: إنا لله وإنا إليه راجعون، فاسمع الجزاء: أُوْلَئِكَ [البقرة:157] السامون، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].لأن الذي إذا أصابته مصيبة عرف وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما تفوه بكلمة سوء، ولا تململ ولا تضجر، ولا ظهر في صفحات وجهه سخط ولا غضب، إنما رضي بقضاء ربه وحكمه، وهون على نفسه بقوله: إنا لله، فما دمنا له فليأخذ ما شاء منا وليبق ما شاء، يرفع منا ما شاء ويضع ما شاء، فنحن ملكه، فإنا لله. ثانياً: وإليه راجعون، فما دمنا راجعون إليه فإذا مت أو مات ابني أو مات أبي أو أخي أو امرأتي فهذا الموت أليس رجوعاً إلى الله؟ أما جئنا بإيجاده والرجوع إليه، فكيف نغضب؟ كيف يغضب الإنسان أن يرجع إلى الله؟هذه الكلمة لها وزنها وقيمتها، انتفع بها السالفون الأولون وجاء الجهل وغطى العالم الإسلامي، ألف سنة وهم في تيهان. أُوْلَئِكَ [البقرة:157] الذين يقولون هذا عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:157]، يغفر ذنوبهم ويرحمهم، وماذا بقي إذا غفر ذنبك وأدخلك الجنة، هل بقي طلب آخر؟ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157] في طريق الكمال وسبيل السعادة، المهتدون إلى رضا الله عز وجل.قول ربنا جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ [البقرة:153]، إنه الصبر الذي يكون لنا عوناً على النهوض بالتكاليف فعلاً وتركاً، الصبر الذي يجعلنا نحبس أنفسنا حتى لا تتململ ولا تتضجر ولا تسخط، هذا الصبر على الطاعات، وحبس النفس بعيدة عن الشهوات والمعاصي، والصبر على القضاء والقدر بالابتلاء بفقد المال أو الولد، هذا الصبر حين يتم بشر صاحبه بأن الله تعالى معه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، لا يضيعهم، لا يخسرهم، لا يهلكهم، لا يكربهم ولا يحزنهم، لا يفوت النعم عليهم؛ لأنه معهم، أيما صابر في ميدان من الميادين لا يفقد ثمار ذلك العمل بوعد الله، ومن جزع وانقطع وما واصل العمل خاب وخسر. قد عرفنا قيمة الصلاة، وما واصلنا الحديث فيها، فنقول بإيجاز:إقام الصلاة -كما علمتم- أن تؤدى في أوقاتها التي حددها الله وبينها، إذ قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [هود:114]، وقال: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17-18]، الإمام الشافعي أخذ أوقات الصلوات الخمس من هذه الآية من سورة الروم، ومالك رحمه الله أخذها من قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وقد عرف المؤمنون والمؤمنات أوقات الصلاة: الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء.هذه الصلاة إذا أديت في أوقاتها نفعت، أما الذي يصليها قبل حلول وقتها فصلاته باطلة، والذي يؤخرها حتى يخرج وقتها خسر، ( من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله )، هذه الصلوات الخمس من شرط إنتاجها وتوليدها للإيمان والطاقة أن تؤدى أولاً في أوقاتها، ثانياً: في بيوت الله مع عباده المؤمنين، ولا يصلين أحد في بيته أو دكانه أو مزرعته إلا إذا بعد عن المسجد بثلاثة كيلو متر، وأقل من ثلاثة كيلو متر ينبغي أن يشهد الصلاة، وإن كان ذا عذر كمرض أو تمريض أو حراسة أو حماية فإنه يصلي حيث أمكنه، أما أن يكون في ديار الإسلام وبين المؤمنين والصلاة تقام في بيوت الله وهو يتحدث ويضحك حتى تفرغ الصلاة ويقوم يصلي، فهذه ما تنتج شيئاً، كالذي دخل الحمام وخرج وما غسل ولا نظف.ثم لا بد أن تؤديها على الوجه المطلوب، كما علمها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قلنا: نزل جبريل من السماء وصلى برسول الله في الكعبة يومين، علمه أوقاتها وكيفيتها، فمن لم يطمئن في الركوع أو في السجود أو في القيام أو الجلوس فصلاته باطلة، من لم يحسن قراءة الفاتحة مجودة مرتلة فصلاته باطلة، وما معنى باطلة؟ لا تولد له النور، الصلاة عبارة عن مولِّد النور، وتعرفون مكائن توليد الكهرباء التي تشترونها لبيوتكم، مكينة تدور فتولِّد الكهرباء، وهذه الكهرباء من أين؟ والصلاة مولِّدة للنور حقاً وصدقاً، ما إن يشع في صدرك حتى يظهر على بصرك.. على سمعك.. على لسانك، يظهر في سلوكك، ومن فقد هذا النور فهو كالأعمى يتخبط في كل واد للضلالة.وأنتم تعرفون أن فقهاءكم يقولون: إذا صليت قبل الوقت فصلاتك باطلة، وكذلك باطلة لأنك ما ركعت فيها الركوع المطلوب، فما معنى باطلة؟ أي: لا تولد الطاقة النورانية.وملاي ن الناس إلى اليوم كيف يصلون؟ يقول أحدهم في عجلة: الله أكبر، سمع الله، ربنا لك الحمد، الله أكبر، يركض ركضاً، ولا يجد من يذكره، ولا من ينبهه، ولا من يعلمه، ونحن نركض وراء الحياة، فلم نحيا؟ لمن حياتنا؟ لله، فهل قال الله هكذا؟ إنا لله وإنا إليه راجعون! فما دمت له فلم لا تؤدي خدمته المطلوبة منك كما يطلبها ويرضاها؟ لم تبخسها وتنقصها؟وورد عن أبي القاسم الهادي صلى الله عليه وسلم قوله: ( أسوأ الناس سرقة -أقبح الناس سرقة- من يسرق في صلاته )، السارق تقطع يده، والسرقة قبيحة كيفما كانت، وأقبح سرقة على الأرض أن يسرق المصلي من صلاته، بدل أن يتم في خمس دقائق يصليها في دقيقة.

أثر إقامة الصلاة في حياة العبد

قد تقول: يا شيخ! لم تشدد هذا التشدد؟ فأقول: لما علمتم، فإنها لا تنتج له النور، فيخرج من المسجد يشهد شهادة الزور، يخرج من المسجد يلاحق النساء ببصره ويده، يخرج من المسجد يجلس على كرسي الربا يبيع ويشتري، أين ذلك النور الذي أشرقت له نفسه؟ ما كسب نوراً، ما حصل على نور، فهو في الظلام، وهل الماشي في الظلام تلومه إذا جلس على حية أو وطئ شوكة؟ ما عنده نور، واقرءوا قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، لم يا رب؟ الجواب: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، القرية المدينة الإقليم المملكة إذا أقام أهلها الصلاة نساء ورجالاً أمنت، فلا زنا، لا كذب، لا سرقة، لا شهادة زور، لا اعتداء، لا سفك دماء، تلقائياً.بالأمس قلت لكم: تفضلوا، امشوا إلى أي محافظ في محافظات العالم الإسلامي وقولوا: يا سيد! أعطنا قائمة بأسماء المجرمين في هذا الأسبوع أو هذا الشهر أو هذا العام، قلت لكم: إن وجدتم من أهل الجرائم أكثر من خمسة في المائة من مقيمي الصلاة فاذبحوني، وخمسة وتسعون من تاركي الصلاة ومن المصلين الذين لا يقيمون الصلاة؛ لأن الذي يناجي ربه في الصباح والمساء في أوقات معينة في الليل والنهار ويتكلم معه ويبكي بين يديه ويتحدث معه هل يخرج من المسجد ليعصيه ويخرج عن طاعته؟ كيف يتم هذا؟ لا يتم، والذي يسرق ويفجر ويزني ويكذب ويسب ويشتم ويحسد ويبغض ويغتاب وينم هو عبد لا يصلي، أو يصلي صلاة باطلة ما تنتج له النور، فيعيش في الظلام، يسب حتى أمه، هل عرفتم هذا؟أزيدكم برهانا: قلت لكم: هل كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في دولته بالمدينة لمدة عشر سنوات شرطة وبوليس ورجال الأمن؟ هل كان للخليفة الصديق رجال أمن وقوة؟ هل كان لـعمر بوليس ورجال الأمن؟ هل كان لـعثمان رضي الله عنه رجال بوليس؟ هل كان لـعلي ؟ الجواب: لا، فكيف ساد الأمن؟ كيف تم ذلك الأمن؟ تم بإقام الصلاة، الذي يتكلم مع الله ربع ساعة ما يستطيع أن ينساه في دقائق ويفجر عن نظامه وقانونه وسننه.وإن قلتم: ما ندري، فوالله! لكما تسمعون، ما كان لدولة الراشدين بوليس أبداً، وساد أمن وطهر وصفاء ما يستطيع أحد أن يثبت مثله في الحياة.

دولة عبد العزيز أنموذج لأثر إقامة الصلاة

وأقرب مثال إليكم ما سأقول، ومن وسوس له الشيطان وقال: هذا الشيخ عميل، هذا شيخ الفلوس؛ فليعلم أن أبا مرة عليه لعائن الله يكرهنا كراهية كاملة، فلكي يحرم السامع يلقيها إليه فيقول: هذا عميل! فهذا يلقى لنا ونعلمه من أخلاق أبنائنا وإخواننا؛ لأنهم ما ربوا في حجر الصالحين، فكيف يكملون ويسعدون؟ يعيشون على الجرائد وأقوال الصحف.فنقول: لما أنشأ الله هذه الدولة على يد عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود -تغمده الله برحمته- في أيام ليس فيها تلفون ولا هيلوكبتر أبداً، والله! ما إن أقام الصلاة حتى ساد هذه الديار أمن ما عرفته الدنيا في مكان إلا على عهد الراشدين، والله! إن الساكنين يبيتون وأبوابهم مفتوحة، وبعض الديار لا أبواب لها، وإن بائع الذهب ما يضع إلا خرقة على دكانه ويذهب إلى بيته ليقيل! وتحقق طهر، فما بقي من يجاهر بكلمة الشرك والباطل ولا من ينطق فيسب الله والرسول في الوقت الذي يفيض فيه العالم الإسلامي بسب الله ورسوله، تسمع هذا السب في كل مكان، وخاصة في الأسواق والأعمال. فساد أمن وطهر وصفاء، بأي واسطة؟ هل بالبوليس؟ والله ما هو إلا إقام الصلاة، أهل القرى والأرياف كان إمامهم يقرأ بعد صلاة الصبح قائمة أهل القرية؛ لأن في صلاة الصبح قد ينام المرء وقد يعجز أو يتكاسل، فيقرأ قائمة بأهل القرية ليعلم من غاب، فإن قالوا: مسافر، قال: رده الله بخير، وإن قالوا: مريض قال: زوروه، وإن تكاسل وأبى جروه وأدبوه، برهنة واضحة كالشمس: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، وشاهد العالم هذا، وكان الحجاج يأتون فيعودون إلى ديارهم معجبين، لا سرقة لا نهب، وإنما لما استقلت بلاد العرب والمسلمين وأصبح الحجاج يتوافدون كان يأتي معهم لصوص من الرجال ومن النساء، فيسلبون الحجاج وهم قائمون على حجرة الرسول يسلمون عليه، يسلبونهم -والله- وهم يطوفون بالبيت العتيق، وعرف هذا أعداء الإسلام معرفة يقينية؛ لأنهم يدرسون ويراقبون المسلمين، يتربصون بهم، فمن هنا استقل لنا نيف وأربعون دولة، ما استطاعت دولة خرج منها الكافر الذي كان يحكمها أن تأمر بإقامة الصلاة، دلوني إذا سمعتم من إندونيسيا إلى موريتانيا، كل هذه الدول استقلت ونحن نكبر ونهلل، ما إن يعلن عن استقلال القطر الفلاني حتى نهلل ونكبر، وبعض الإخوان يمشون يصلون في كوبا شكراً لله، هل استطاعت دولة أن تجبر رعاياها من رجال ونساء من عسكريين ومدنيين على إقام الصلاة؟ لم؟ عرف العدو أن إقام الصلاة معناه: إنارة القلوب والبصائر، عودة إلى الطهر والصفاء، عودة إلى المحبة والولاء، إلى الأخوة الصادقة والولاء، فقالوا: اتركوهم يعش بينهم الباطل وينتشر الشر.هذا الكلام كررناه منذ أربعين سنة، كل مرة نقول: آهٍ لو يبلغنا أن النظام الفلاني أمر بإقام الصلاة! والمسلمون هابطون إلى أين؟ لا ندري.فلو أقيمت الصلاة في بيت إقامة حقيقية فوالله ما سمعت عاهرة تغني ولا كافراً يتبجح ويتكلم في بيت المؤمن، لكني أرد هذا إلى أننا ما علمنا، ما عُرِّفنا بربنا؛ لأننا ما نقبل أن نجلس أبداً بين يدي المربي، ولا نطلب العلم ولا نرحل من أجله، وإن طلبناه طلبناه للوظيفة، يأخذ الرجل طفله ويقول: تعلم لتحفظ مستقبلك، تعلمي لتكوني كذا، كأننا لا نؤمن بالله، ولا نعرف لله سبيلاً، مع أن الوقفية تمت: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، أنت وقف على الله، فكيف تنفق طاقتك لغير الواقف؟ هيا نقبل على الله من جديد ونقيم الصلاة، الرجل يوقظ بناته ونساءه وأطفاله ويراقبهم، لم ما صليتم المغرب معنا؟ لم ما حضرتم يا أولادي صلاة العشاء؟ لم يا أم فلان ما صليت ببناتك؟ وفي الصبح ما إن يؤذن المؤذن إلا وهو يقرع عليهم الأبواب أن: قوموا، فتقام الصلاة في البيت، والله! لا تبقى الشياطين.فهل أهل هذه الصلاة سيجلسون على الصحن الهوائي يشاهدون العاهرة تغني والمجرم يضحك ويتكلم وهم هكذا؟ لن يكون، فماذا نصنع؟ أما آن لنا أن نتوب؟أنا أقول على علم: إياكم أن تفهموا أن الشيخ يتكلم بالخيالات والجهالات، هذه وساوس يلقيها العدو كما قدمنا لكم، قالوا: لم يقول: الدولة السعودية تقيم الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ نحن نقول: عسى أن يقتدى بها، ويقوم مسئولون فيقولون: لم لا نكون هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لم يظهر الباطل في أسواقنا ودورنا وبين أبنائنا؟ ومنظمة من رجال العلم يجوبون الشوارع ويدخلون الأسواق ويراقبون سلوك المواطنين، من شاهدوا سلوكه فيه انحراف أخذوه وعلموه وأدبوه.ولكن تقوم الدولة على مبادئ حرمها الله، فماذا يرجو المؤمنون؟ ونحن نتلو هذه الآية من سورة الحج: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].عبد العزيز رحمة الله عليه أين درس؟ تخرج من بريطانيا؟ من استانبول؟ في فرنسا؟ من الأزهر؟ لقد تعلم في حجر أبيه وأمه، لكن أراد أن يؤسس الدولة في صحراء والكفر يحوط به من كل جانب، كل العالم الإسلامي تحت نعال الاستعمار البريطاني وغيره، وأقام دولته هذه التي بقيت فيها هذه البركة ونحن كل يوم نمزق في أوصالها، العالم بأسره إلا من رحم الله يمزق حتى تنتهي، والله أسأل ألا تنتهي، أما الواقع فوالله! إن الإنس والجن ما يريدون أن تبقى راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.إذاً: قرأ هذه الآية مع مجموعة من أهل البادية فأقام الدولة على هذه الآية، آية واحدة: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] أي: حكموا واستولوا وسادوا عليها، أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41]، وعندنا كبار السن، فماذا كان عندهم؟ والله! ما هو إلا صاع الشعير أو البر، والتيس من الماعز، فأية أموال؟ لكن فرض الله الزكاة فنؤديها ونجبيها إيماناً بالله وطاعة له فيبارك ويزيد.وغيره ما إن يحكم ويتمكن حتى يترك أمور الدين، لا صلاة، لا زكاة، وما يعبرون عنها بالزكاة، بل الضريبة، ويضربون ضرائب فادحة، والحجاج يشكون، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالبوليس يصفر في الشارع فقط، أما أن تصلي أو لا تصلي، فما هو شأنه! هذه أربع دعائم، فكيف ترجو من دولة تقوم على غير هذه الأربع أن تكون دولة نورانية يسودها الطهر والصفاء والأمن والرخاء؟ هذه مناقضة لسنن الله، وإن شاء الله فسيتوب الحكام المسلمون، فالليلة بلغوهم، فما الذي يكلفنا؟ نقول: يصدر مرسوم: لا بد من إقام الصلاة، إذا نادى المنادي أن: حي على الصلاة فعلى المسلمين أن يقبلوا على بيوت الله، يغلقوا دكاكينهم، امش إلى بيت الرب، ما الذي يكلفنا؟ هل الميزانية تنقص إذا صلينا في بيت الرب ربع ساعة؟ ثم الزكاة بدل الضرائب، جباية الزكاة، وذكروا الناس بالإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا بالإقليم تتلألأ فيه أنوار وتعود إليه حياة الطهر والصفاء، ولا كلفة ولا ميزانية ولا شيء، ومع هذا أيضاً لا ننسى أن إجبار الناس على الصلاة وهم جهلة ما عرفوا الله ولا آمنوا بلقائه إيماناً حقاً فيساقون فقط؛ أنه لا يجديهم ذلك، لا بد من تعليمهم، لا بد من تعريفهم بالله معرفة يقينية تنتج لهم الخوف منه تعالى وحبه وحب ما يحبه.

معية الله تعالى للصابرين

إذاً: يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا [البقرة:153] بم؟ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153].الصابر على نسج ثوبه يكمله، الصابر على خياطة ثوبه يكمله، فإن لم يصبر فلن يكمل، وعلى هذا فقس، والصابر على طلب العلم سوف يتعلم، وإن فشل فلن يتعلم، ومن صبر في ميادين المعركة والجهاد فوالله لينهزمن عدوه أمامه، ومن صبر على ضبط لسانه لا يتكلم بسوء ولا ينطق بغير المعروف فإنه يصبح ينطق بالهدى والحكمة تجري على لسانه، ما من ميدان من ميادين الحياة يصبر فيه سالكه إلا ظفر وفاز؛ لأن الله معه ينصره ويؤيده، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153].

تفسير قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)

ثم يقول تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ [البقرة:154].حرام على المؤمن أن يقول لمن يكون في المعركة ويسقط شهيداً: مات فلان، لا تقل: مات، ولكن قل: استشهد؛ لأن كلمة البشري بفطرته يخاف من الموت، إذا قالوا: مات فلان ينهزم، فلا تقولوا: مات، قولوا: استشهد، وهو الواقع؛ لأن الشهيد عندما تقبض روحه يرفعه إلى الملكوت الأعلى إلى دار السلام، وتدخل روحه في حوصلة طير وترعى في الجنة وتأوي إلى قناديل تحت العرش، وتستمر ترزق وتطعم وتعيش في طهر وكمال إلى أن تنتهي الدورة هذه ويبعث الله الأجسام وترسل الأرواح إلى أجسامها، فما هناك موت أبداً، انتقال فقط، كانت تسكن هنا فتعود تسكن في مكان آخر، كما أنك تركب هذه السيارة وتخرج منها فتركب سيارة ثانية، أو نازل في هذا البيت فتخرج منه وتنزل في بيت ثان أفضل وأكرم، فهذا هو الواقع، ما هناك موت، بل استشهاد، استشهد فلان، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة آل عمران: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، والله! ليأكلون ويشربون في حواصل طير خضر، لو تشاهد هذا الطير لخرج قلبك شوقاً إليه، وهم كذلك إلى يوم القيامة، فما ماتوا، فلهذا كان أحدهم يرقص فرحاً وهو داخل المعركة، صاحب التميرات في كفه في بدر قال: إن أنا صبرت حتى أكمل هذه التمرات ثم أدخل المعركة إنها لحياة طويلة، فرمى التمرات ودخل في المعركة.وأزيدكم: يخبر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: أن الشهيد بعدما يستشهد يتمنى على الله أن يرده إلى الدنيا ليستشهد مرة أخرى، فيود أنه يموت ويحيا ويموت ويحيا مرات، لما شاهد من نعيم الشهداء وآثار الشهادة في سبيل الله. إذاً: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ [البقرة:154] ما هم بأموات، بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154] بحياتهم، وإن كان يشاهدون الابتسامة والأنوار تتلألأ، ولكن هذا الشعور الحقيقي لا يشاهد.

حقيقة الشهيد وشروط استحقاق وصف الشهادة

ومن هم الشهداء؟سألوا أبا القاسم صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية، تدفعه الحمية ليدفع عن بلاده.. عن إخوانه.. عن امرأته ونسائه فيقاتل، فهل هو في سبيل الله؟ قال: لا، قيل: الرجل يقاتل ليرى مكانه بين الناس، ليقال: بطل، دحضوا بريطانيا ومزقوا فرنسا وانتصروا، لهذه السمعة، فهل هذا في سبيل الله؟ قال: لا، قيل: الرجل يقاتل للمغنم والحصول على المنصب والوظيفة والمال، فهل هو في سبيل الله؟ قال: لا، إذاً: من هو الذي يقاتل في سبيل الله؟ قال: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) أي: من أجل ألا يعبد في الأرض إلا الله، من أجل أن ينصر دين الله وأولياء الله.وقد جاهد المؤمنون بريطانيا وإيطاليا وفرنسا ولن تجد في الألف شهيداً بمعنى الكلمة؛ لأنهم جهال، ما يعرفون لم يجاهدون، وأعظم من هذا الآن أنهم يثورون في بلادهم على بعضهم، يقتل أخاه المسلم! فكيف هذا الإسلام؟فمتى تكون الشهادة؟أولاً: أن يكون لكم إمام رباني يحكم بكتاب الله وسنة رسوله.ثانياً: أن يغزو بكم ويقودكم من أجل إنقاذ البشرية من الشرك والكفر والضلال وما يترتب على ذلك من خبث وشر وفساد، أي: من أجل أن تتحرر البشرية من عبادة الشيطان وتعبد الرحمن لتكمل وتسعد، لا من أجل الاستيلاء على التراب والطين والبلاد، أو من أجل الغلال والأموال، ذاك ليس في سبيل الله، بل من أجل أن يعبد الله عز وجل، هذا هو الجهاد والاستشهاد.ومن قاتل تحت راية عمياء لا بيعة ولا إمام فقتاله باطل، لو يمزق سبعين مرة في اليوم فلا حسنة، وكذلك قتال تحت إمام وحاكم وليس المراد أن يعبد الله وتقام شرائعه وحدوده وتنقذ البشرية من الشرك والكفر ما هو بجهاد ولا استشهاد أبداً. فشأن الشهداء عظيم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171]، اللهم اجعلنا منهم. وهناك أمانة إذا حافظت عليها كنت منهم، ما هي؟ يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه )، وهذا نعلمه ولكن من يعمل، وخاصة الجيوش الإسلامية المرابطة نقول لهم: انووا الرباط في سبيل الله، تحمون بلاد المسلمين، صححوا نيتكم، لكن لا تصحح النية بأنك مرابط في سبيل الله لتحمي ديار الإيمان وأنت تشرب الحشيش والخمر وتارك للصلاة وتسب الله والرسول عندما تغضب! فهذا لا ينفع، المرابطون يبيتون ركعاً وسجداً، يلازمون ذكر الله والمدافع في أيديهم، يتمرنون ويركضون رياضة وهم يقولون: الله أكبر .. الله أكبر، مربوطون برب الأرض والسماء، والجهل هو الذي ربطهم هكذا وحبسهم، لأننا ما علمناهم.هل عرفتم الشهداء من هم؟ هم الذين يقاتلون تحت راية صادقة يحملها إمام صالح لإنقاذ البشرية من الكفر والشرك والضلال والفساد والشر، لإدخال البشرية في الإسلام، أو يحملها أيضاً لدفع العدو الكافر الذي يريد إطفاء نور الله أو تمزيق راية لا إله إلا الله، لا بد من إمام، أما جماعة تتحزب هنا وهناك ويعلنون الجهاد ضد حكومة كافرة فسيتورطون ويتمزقون ويهلكون ويجرون البلاء على المسلمين، والنتيجة أصفار على الشمال، فهل عرفتم؟وعندنا مثل حي ناطق: جاهدنا في الديار الأفغانية عشر سنوات بدون إمام شرعي، أحزاب وجماعات، ذهبنا إليهم ونصحناهم، انتدبنا شيخنا العلامة علامة الدنيا وصالحها اليوم، ونزلنا على جمعياتهم وقلنا: التئموا اتحدوا بايعوا إماماً واحداً، هذا القتال باطل، فرفضوا، ولم يرفضون؟ ما هم بمؤهلين، ما تربوا في حجور الصالحين، من أين لهم الآداب والأخلاق والكمالات؟ وقد شاهدنا أنهم انتصروا على العدو الكافر، فلا دولة إسلامية ولا إسلام، وهذا في كل بلد لا يقاتل تحت راية لا إله إلا الله ببيعة لإمام يختار وتبايعه الأمة، فبلغوا، والسلام عليكم ورحمة الله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-08, 10:35 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (102)
الحلقة (109)



تفسير سورة البقرة (69)

إن الصفا والمروة من شعائر الله تعالى، وقد فرض الله عز وجل على عباده فريضة السعي بينهما لمن أتى بحج أو عمرة، وفي ذلك إحياء للمشاهد التي مرت في حياة إبراهيم عليه السلام وأسرته حين تركهم في وادي مكة بأمر الله، وانصرف عنهم عائداً إلى فلسطين، وكان ما كان من نفاد الماء عن هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام، واضطرارها إلى السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط بحثاً عن الماء، حتى أخرجه الله لهما من بئر زمزم الذي جعله الله آية إلى يومنا هذا.
تفسير قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.أما بعد:معاشر الأبناء والإخوان! هذه ليلة تفسير كتاب الله عز وجل، ومثلها الليلة التي تأتي بعدها، ثم نواصل التدريس بإذن الله حسب ما سبق أن درسنا، فيوم الإثنين يوم العقيدة، ويوم الثلاثاء يوم كتاب المسجد وبيت المسلم، ويوم الأربعاء -إن شاء الله- نداءات الرحمن، ويوم الخميس صحيح الإمام البخاري رحمه الله، وقد عرفتم أننا اخترنا هذه الليلة -ليلة الخميس- لصحيح البخاري لنكثر فيها من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يوم الجمعة ليلة السبت السيرة النبوية العطرة من كتاب: هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب، وفي هذا العلم الغزير والخير الكثير، فلا تتململوا ولا تتضجروا.والدراس كلها -والله- لا تخرج عن الكتاب والحكمة، والعبرة بالفقه والعمل، كوننا نفقه ما يريد الله عز وجل منا في كلامه وما يريد منا رسوله صلى الله عليه وسلم، ونعمل ذلك ونطبقه ونبلغه أيضاً غيرنا؛ لما علمتم -زادكم الله علماً- أن من علم وعمل بما علم وعلمه غيره دعي في السماء عظيماً، وأن جهاد النفس هو أن تحملها وهي كارهة على أن تتعلم، ثم تحملها على أن تعمل بما تعلمت، ثم تحملها على أن تعلم ما علمته، وبذلك تكون في عداد المجاهدين.وقد انتهى بنا الدرس في التفسير عند آية: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، فباسم الله تعالى ندرس تفسير الآية الكريمة من سورة البقرة.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].هذا خبر إلهي عظيم، إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، أليس هذا خبراً مؤكداً بأداة التوكيد وهي: (إن)؟
المراد بالصفا والمروة
فما هي الصفا وما هي المروة؟الصفا: جبل يقع شرق وجنوب الكعبة المقدسة بيت الله الحرام، هذا جبل يقع هكذا في شرق وجنوب بيت الله الحرام.وأما المروة فهو جبل ثان، وهو يقع شمال البيت، ويقابل الصفا، والمسافة بينهما قرابة سبعمائة وستين خطوة تقريباً، ثلاثمائة متر وزيادة.فلم سمي الجبل الأول بالصفا والثاني بالمروة؟لأن الصفا جمع صفاة، صخرة نظيفة براقة بيضاء يقال فيها: الصفا، والمروة كذلك حجارة رقيقة بيضاء، فسمي الجبلان بحسب ذاتهما.
الصفا والمروة من شعائر الله
وكونهما من شعائر الله، ما هي الشعائر؟الشعائر : جمع شعيرة، والشعيرة: العلامة على وجود عبادة، فالساعي بين الصفا والمروة هو يعبد الله عز وجل، بأية عبادة؟ بسعيه بين الصفا والمروة، إذاً: هذا السعي شعيرة من شعائر الدين، علامة على طاعة الله عز وجل بما شرع، وهي أيضاً نسك؛ إذ العبادة نسك، فلان ناسك: متعبد، وتنسك: تعبَّد.
وقفات مع قصة هاجر عليها السلام في حادثة زمزم
وأما السعي بينهما فمتى شرع؟ ولم شرع؟أعيد إلى أذهانكم أن هاجر أم إسماعيل عليهما السلام تركها إبراهيم الخليل في مكان قريب من بيت الله، ويومها لا بيت، وإنما مكان مرتفع من التراب، والسيول تأتي من هنا وهنا تحيط به، إذ كان قبل هدمه بيتاً، وبمرور الأزمنة والقرون جرفته السيول وسقط وبقي عبارة عن كوم من التراب، وقريب منه شجرة ذات ظل، فإبراهيم عليه السلام ترك هاجر وطفلها إسماعيل تحت تلك الشجرة، ولماذا فعل هذا؟علمتم مما سبق أن سارة أم إسحاق عليها السلام كانت لا تلد، ولما ولدت هاجر وهي أمة مملوكة، إذ وهبها ملك مصر لسارة ، فوهبتها سارة لإبراهيم فتسراها ووطئها بوصفها مملوكة له، فأنجبت إسماعيل، والغيرة المعروفة في النساء غريزة طبيعية، فحملت تلك الغيرة سارة على أن تتململ وتتألم: كيف تلد هذه الجارية وأنا ما ألد؟ وتضايقت وضاقت بها الحياة، فأمر الله تعالى إبراهيم أن يبعد هاجر وطفلها عنها طلباً لراحتها وطمأنينتها؛ لأنها سيدة من سيدات نساء العالم، إنها المهاجرة التي هجرت ديارها وأهلها وخرجت مع إبراهيم من أرض بابل بالعراق إلى الديار المصرية وإلى فلسطين.إذاً: فما كان من إبراهيم إلا أن أخذ الجارية هاجر وطفلها وسافر بهما إلى جبال فاران، إلى واد أمين، وماذا ركب إبراهيم؟ من الجائز أن يكون أركبه الله البراق الذي أركبه محمداً صلى الله عليه وسلم، وتركها إبراهيم هناك.
صدق هاجر عليها السلام في التوكل على الله تعالى
وهناك لطيفة ما تنسى: لما تركها مع طفلها إسماعيل وترك لهما قليلاً من الطعام والشراب وأدبر راجعاً إلى أرض القدس نادته: آلله أمرك بهذا يا إبراهيم أن تتركني وطفلي في هذا المكان الذي ما به إنسان ولا حيوان؟ فالتفت إليها وقال: أي نعم يا هاجر . قالت: إذاً فاذهب فإنه لا يضيعنا. هذه الكلمة صحت ورددها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، هذه هو عنصر التوكل على الله، من لم يرزق مثل هذه الكلمة فما هو بشيء وإن ادعينا الإيمان والإسلام والتوكل، ما إن علمت أن الله أمره أن يتركها وطفلها هناك في ذلك الوادي تحت تلك الشجرة حتى قالت: إذاً فاذهب فإنه لا يضيعنا! فهل عرفتم معنى التوكل؟ الاعتماد على الله وتفويض الأمر إليه، أمرك فاقبل الأمر وسلم إليه وارض بما رضي لك فإنه لن يضيعك.ونحن نقول لبعضنا: إذا حرم الله بيع أو شراء مادة من المواد فاتركها، وأطع ربك واستجب لأمر مولاك، واعلم أنه لن يضيعك، لا تبع هذا الحرام، لا تستورده، لا تؤذ به المؤمنين والمؤمنات، لا تحتج بأن بضاعتك لا تنفق، وأن الزبناء يتركونك ويذهبون إلى غيرك، هذه كلها وساوس الشيطان، أنت مع الرحمن، حرم عليك أن تبيع هذا النوع من البضاعة فلا تبعه، واصبر وإن تركك الزبناء وأهملوك ولم يعودوا إليك فإن الله لن يضيعك، وهكذا كل من يعيش على حرام، سواء كان معلوماً للناس أو مجهولاً، ينبغي أن يتوكل على الله ويترك ما حرم الله، ووالله! لن يضيعه الله.قديماً يوم بدأت البنوك الربوية عندنا وفتح بنك الأهلي وفجأة فوجئنا بأنهم يتعاملون بالربا، في بداية الأمر لا ربا أبداً، لكن الشيطان يزين لهم، فكتبنا لهم رسالة تحت عنوان: إلى اللاعبين بالنار، من هم الذين يلعبون بالنار؟ الذين يتعاطون الأموال الحرام، يلعبون بالنار وسيحترقون إلا أن يتوب الله عز وجل على من تاب. وكان هناك شاب توظف عندهم، فلما سمع ترك الوظيفة، وأخبرني بعد ذلك أنه فاز بعمل بأربعمائة ريال للشهر، عوضه الله ضعف ما كانوا يعطونه، وهذا مثال فقط، وإن شئتم حلفت لكم بالله، ما من مؤمن يترك ما حرم الله لوجه الله خوفاً من الله ورغبة فيما عند الله لا رياء ولا سمعة إلا عوضه الله، ولن يضيعه الله.
سعي هاجر عليها السلام لطلب الماء بعد نفاده منها
إذاً: ونفد ماء هاجر وعطش إسماعيل، وكأنكم تشاهدونه على التراب يتلوى من شدة العطش، ونظرت يميناً وشمالاً فلم تر أحداً، ولا طائر يطير يدل على وجود ماء، ولا إنسان يمر بها، واشتد كربها وعظم ألمها، ونظرت إلى جبل الصفا وهو أقرب الجبلين منها، فذهبت إليه فارتقت عليه واعتلت فوقه ونظرت لعلها تشاهد مسافراً، تشاهد طائراً يحوم حول ماء، ما رأت شيئاً، وهبطت تجري في واد بين الصفا والمروة كان يوجد في ذلك الزمان، وعلامته اليوم العلامة الخضراء في أول عمود وفي آخر عمود، كانوا قبل الكهرباء يصبغونهما بالأخضر، ويقال فيهما: الميلان الأخضران، والآن الكهرباء الخضراء، تلك المسافة كانت وادياً منخفضاً، فإذا وصلت إليها تسرع وتجري حتى ترتفع لأنها تطلب الماء، وهكذا حتى تصل إلى جبل المروة فتعلوه وتصعد فوقه وتنظر يميناً وشمالاً فلا ترى شيئاً فتعود، حتى اكتمل لها سبعة أشواط.وأخيراً: سمعت نداء فقالت: أسمعت أسمعت، هل من غياث؟ وإذا بجبريل عليه السلام في صورة رجل نظيف الثياب حسن المنظر واقف على رأس إسماعيل تحت تلك الشجرة، فدنت فلما قربت منه قال جبريل بقدمه هكذا فضرب بها الأرض ففار الماء، فلهذا كان ماء زمزم أفضل ماء على الإطلاق؛ لأنه كان بضربة جبريل، فلما فار فرحت هاجر وأخذت تزم الماء بالتراب حتى لا يسيح هنا وهناك، خافت أن ينفد، فضمته وزمته حشرته بما تضع من التراب ليكون في مكان واحد، وكأنكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( رحم الله أم إسماعيل؛ لو تركته لكان عيناً معيناً )، يسيل الدهر كله، لكن هي حصرته وزمته فلهذا سمي زمزم.
ذكر بعض ما ورد في ماء زمزم
ماذا تعرفون عن زمزم؟زمزم يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( زمزم طعام طعم وشفاء سقم )، وإليكم بيان الشفاء وبيان الغذاء، تذكرون أن أبا ذر الغفاري كان يرعى غنماً مع أخ له، فبلغه أن نبياً قد ظهر في مكة وأنه على كذا وكذا، فقال لأخيه: ارع غنمي حتى أدخل مكة وآتيك بالخبر وأعوج عليك بما تم في هذا الشأن، فدخل مكة، فمع من يتكلم؟ ممنوع الكلام، ومن يسأل؟ لا أحد، فتفرس في علي بن أبي طالب وخلا به وسأله فقال: امش ورائي وسأصل بك إن شاء الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقال له: هناك عيون، فإذا رأيتني وقفت أو جلست فلا تقف، فمشى، ولما رأى علي أحد الطغاة يلاحظه وهذا البدوي وراءه جلس علي يصلح حذاءه، فمشى أبو ذر ومشى علي وراءه حتى وصلا إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم وكان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والجماعة المؤمنة ما بلغوا عشرة بعد، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وقال: لأصدعن بها بين أظهرهم. وجاء وإذا برجالات قريش حول الكعبة في ظلها يضحكون، فوقف بينهم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وما إن قالها حتى هبوا إليه، فهذا يضرب، هذا يصفع، هذا يركل، هذا يسحب، وانتدب له أحدهم فقال: اتركوه لحاله، قال: فتركوني، فجعلت أزحف والدماء تسيل حتى وصلت إلى بئر زمزم، فغسلت نفسي ودمائي بزمزم وشربت فاسترحت، وبقيت حول زمزم، فكان يشرب من زمزم فقط ويغتسل، فتماثل للشفاء، وأراد أن يمشي، ثم قال: لا، لابد أن أصدع بها، فأتاهم ورفع صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقاموا إليه ففعلوا ما فعلوا أمس، وبلغ ثلاثة أيام، ثم طابت نفسه ومشى، أما الحبيب صلى الله عليه وسلم فقال له: عد إلى غنمك واسكت، فإن بلغك أنني ظهرت فتعال، لكن ما أخذ بالنصيحة. فما هو المرهم الذي كان يعالج به جراحاته؟ ما هو الطعام الذي كان يأكله؟ هل هو بقلاوة أو أرز باللحم؟ كلا.إذاً: فقولوا: صلى الله وسلم على رسول الله القائل: ( ماء زمزم طعام طعم، وشفاء سقم ) ، ولا تسأل، وقد شرع صلى الله عليه وسلم لمن شرب من زمزم أن يتضلع.ولقد رأيت رجلاً أيام الشبيبة يشرب الدلو والدلوين، ووالله! إنه ليوسع بطنه هكذا، ولو شرب من ماء النيل أو الفرات لدخل المستشفى على الفور، ولكن ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم، فهذه الآية باقية إلى اليوم ببقاء الإسلام.
استئذان قبيلة جرهم هاجر في مجاورتها
إذاً: وما الذي تم لـهاجر ، ما زالت هناك حتى جاءت قبيلة جرهم اليمانية فشاهدوا طائراً يحوم في المنطقة من بعيد، ولهم رائد يطلب الماء لهم، فلما رأى الطائر يحوم قال: لا بد أن يكون هناك ماء، فركب ناقته حتى انتهى ووجد هاجر وإسماعيل وبئر زمزم، فجاءت القبيلة، وهذه مسألة سياسية كررناها مئات المرات، حتى إن بعض المساكين يقول: ما هذا الدرس؟ هذا كلام منذ أربعين عاماً يعاد فيه! والله! لكذا بلغني اليوم من مرضى مساكين، وهم طلبة علم في الجامعة الإسلامية. فنحن نكرر الحق ونعيده ما عندنا إلا هو، فهذه القبيلة رجالها استشاروا هاجر: أتأذنين لنا أن ننزل بجوارك يا أمة؟ فقالت: نعم، على أن لا حق لكم في الماء. فقالوا: نعم، فماذا نقول؟ هل ممكن أن يتم هذا في هذه الحضارة والمدنية؟ والله! ليركلنها بأرجلهم، ولا يستأذنون منها، ويطردونها أيضاً لو تتكلم، فانظر كيف هبطت البشرية، هذه الحادثة لها ستة آلاف سنة أو أكثر، امرأة وحدها مع طفلها تملك ماء، وقبيلة كاملة برجالاتها يطلبون أن ينزلوا بجوارها، ثم يستأذنونها في الماء، فتقول: على شرط أن لا حق لكم في الماء، الماء مائي، فيقولون: لك ذلك، فلا تعطيهم الماء إلا برضاها وإذنها، فأين الحضارة وأين التمدن وأين الرقي؟ البشرية كانت أفضل مما عليه الآن بملايين المرات في العهود والمواثيق فقط، أين العهود والمواثيق الآن في العالم؟ يأكلونها أكلاً ويمزقونها، وكان الإنسان في أول الأمر إذا عاهدك لا يتراجع أبداً ولو مات.
ابتلاء إبراهيم بأمره بذبح إسماعيل عليهما السلام
والشاهد عندنا في هاجر عليها السلام، وكان إبراهيم يتردد عليها يأتي يزورها يتعهد تركته، ولنا أيضاً حكمتان ذهبيتان، والغافلون لا حق لهم فيها:جاء إبراهيم في مرة من المرات بعدما كبر إسماعيل وأصبح يقوى على أن يرعى الغنم، على أن يأتي بالحطب، فأخبر هاجر أمه أن الله أمره بذبح إسماعيل قرباناً لله تعالى، وآية ذبح إسماعيل في سورة الصافات، إذ قال لولده: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، الذي أمرك ربك افعله، هل يقولها الآن ابن لأبيه؟ ما أمرك الله به يا والدي فافعله: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، وطيبته هاجر وحسنت ثوبه، وأعدته، وأعطته لأبيه ليخرج به إلى منى، وأخذه إلى منى، فكيف حال هاجر مع هذا الطفل الذي خرج من بطنها عصارة لحمها ودمها، ولازم غربتها في دار الغربة؟ يأذن الله لأبيه أن يذبحه فترضى هذه المؤمنة، ولا تسخط ولا تبكي ولا تنتف شعرها ولا تندب حظها، أروني مؤمنة من هذا النوع، وانتهى به إلى منى، وعند الجمرة الأولى استقبله إبليس زعيم الشياطين وإمامهم: إلى أين يا إبراهيم؟ ما حاجة ربك في هذا الغلام تذبحه، اترك هذا الوسواس، فرماه بالحجارة عند الجمرة الأولى الآن، ومشى فاعترضه في الوسط عند الجمرة الوسطى: يا إبراهيم! أين تذهب بطفلك، ما هذا الذي تراه في منامك؟ حاشا لله أن يأمرك بذبح طفل كهذا، اترك الوساوس. ويمضي إبراهيم، فيلقاه في الجمرة الثالثة فيرميه بالحجارة ويطرده، وثم تله للجبين، ووضعه على الأرض والمدية في يده، وباسم الله، وإذا بجبريل بيده كبش أملح ويقول: اترك هذا وخذ هذا، أي ابتلاء أعظم من هذا الابتلاء؟ هل تردد إبراهيم، هل استطاع الشيطان أن يفتنه وأن يغرر به بأنها ما هي إلا رؤيا وإن كانت رؤيا الأنبياء وحياً؟ فنفذ أمر الله، قال تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] الولد والوالد قلبهما لله وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات:103-109].عرفتم هذا الابتلاء أم لا؟ من يستطيع أن يقدم طفله ضحية لله، يا شيخ! ما استطاعوا أن يصرفوهم عن اللهو والباطل، أطفالهم يبعثون أمامهم في بيوتهم وما يستطيعون أن يؤدبوهم ويعلموهم ويحذروهم من كلام السوء وحركة المنكر والباطل خوفاً عليهم، وحباً فيهم، ولو أحبوا الله لما دخل حب أولادهم مع حب الله، لكن ما عرفوا الله حتى يحبوه، من لم يعرف الله هل يحبه؟ والله ما يحبه، هذه واحدة.
هجرة إبراهيم عليه السلام بعد إلقائه في النار
والثانية: تلك الهجرة التي كانت بعد الحكم على إبراهيم بالإحراق بالنار، صدر أمر الحكومة بإعدام إبراهيم بصورة من أبشع الصور، وهي: أن يحتطب الحطب ويجمع وتوقد نار، وكان الطير ما يستطيع أن يمر فوقها، فأكثر من أربعين يوماً وهم يجمعون الحطب، ويرعبون من يريد أن يؤمن بما آمن به إبراهيم.وأخيراً ما استطاعوا أن يلقوا به في النار، فاتخذوا منجنيقاً، هذا المنجنيق عرف قديماً، وجعلوه فيه ورموا به في أتون ذاك الجحيم، وقبل أن يصل عرض له جبريل فقال: هل لك يا إبراهيم حاجة؟ قال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل.يقول: أما إليك فلا، لا حاجة لي عندك، يكفيني الله، ما إن قال هذه الكلمة الخالدة حتى صدر أمر الله إلى النار وهي مخلوقة الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فبردت، ولولا قوله تعالى لها: (وسلاماً) لكان إبراهيم يموت من شدة البرد ولتحولت إلى ثلج.فوالله! ما أتت النار إلا على كتافه في يديه ورجليه، احترق ذلك الحبل وخرج إبراهيم يمشي وجبينه يتفصد بالعرق، وودعهم وخرج مهاجراً مع سارة، وابن أخيه لوط عليه السلام، ابن هاران أخي إبراهيم، ولا ناقة ولا بغل، خرجوا على أرجلهم، حتى انتهوا إلى ما وراء سيناء إلى مصر. والشاهد عندنا في قول الله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، اذكر يا رسولنا، واذكر يا مسلم معنا، اذكر إذ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، الكلمات محدودة أتمها إبراهيم طاعة لله، إذعاناً لأمر الله، انقياداً لربه، أتمها ففاز بأعظم جائزة عرفتها البشرية، ما هي؟ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، أنت إمام البشرية، من أجل ماذا؟ من أجل صبره ويقينه وتحمله.صرخ بكلمة التوحيد في تلك الديار ولم ينطق بها سواه، إلا ما كان من سارة وابن أخيه لوط، قال: لا إله إلا الله. وأخرى ما ننساها: أمره الله عز وجل أن ينقل هاجر وإسماعيل وأن يبني له بيتاً، يصدر أمر الملك لك أن تبني بيتاً في صحراء، فكيف يستطيع، من أين تأتي بالعمال والعمل، وبنى إبراهيم البيت، هذا البيت العتيق بناه إبراهيم، وهذا مقامه يشهد له، قدماه قد لصقتا في الصخرة في المقام.إذاً: بعد هذه الجولة نعود إلى الآية الكريمة: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، خلد الله ذكر هاجر بهذه العبادة، وفي هذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( إنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم )، طوفوا واسعوا وقفوا بعرفة وارموا الجمرات، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم.
ما تشرع البداءة به من الصفا والمروة في السعي
إذاً: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158] قطعاً مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] إي والله، من شعائر الله، بهذا أخبر الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم لما طاف في حجة الوداع استقبل الصفا وقصدها وهو يقول: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، ثم يقول: أبدأ بما بدأ الله به ) ، فبِم نبدأ في السعي؟ بالصفا، ولو عكسنا وقلنا: نبدأ بالمروة فهو أحسن، فهل يجوز؟ هل حججنا؟ والله يقول: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158]، والرسول الكريم يقول: ( أبدأ بما بدأ الله به )، لو سولت نفس امرئ له أن يبدأ المروة ويقول: ماذا في ذلك؟ فسعيه باطل ويبطل حجه، إذاً: ما حكم السعي بين الصفا والمروة؟ ركن من أركان الحج والعمرة، كم أركان الحج؟ أربعة: الإحرام، الطواف، السعي، الوقوف بعرفة.على هذه الأركان الأربعة ينبني الحج، فإن سقط ركن سقط البناء، فأركان الحج حرام على مؤمن ألا يعرفها، وهي الإحرام، والطواف، والسعي، والوقوف بعرفة من بعد الزوال إلى غروب الشمس، هذا هو الوقت، فإن لم يقف في هذا الوقت ما حج. وأركان العمرة ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسعي، أما الوقوف بعرفة فلا، ذلك في الحج. إذاً: كيف يكون السعي ركناً ويأتي الخبر بمجرد أنه لا حرج ولا إثم: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] أي: لا إثم أن يطوف بهما، فهذا الخبر يترك الإنسان يفكر، فالسعي ركن في الحج والعمرة، فكيف يقول تعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ [البقرة:158]؟ أي: لا إثم ولا حرج أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158].
توجيه معنى قوله تعالى: (فلا جناح عليه أن يطوف بهما)
نحن الآن علمنا أن السعي ركن في الحج والعمرة، فيأتي الخبر يقول: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] معناه: إذا لم يتطوف فلا شيء عليه فما هو المخرج من هذا السؤال؟ المخرج -يفتح الله علينا وعليكم- أنه تقول الرواية: إن رجلاً يقال له: إساف وامرأة يقال لها: نائلة ، تقول الأخبار -وقد تصح-: إنهما زنيا في الكعبة! وهذا أمر عظيم، ولا تعجب، لقد زنوا في الحرم وهم يدعون الإسلام، فمسخهما الله صنمين، فوجدوهما حجارة، تمثال لـإساف وآخر لـنائلة، فأخذوهما فوضعوا إسافاً على الصفا ونائلة على المروة، ثم صاروا يتبركون بهما ثم عبدوهما على مراحل.إذاً: وأصبحوا يسعون بينهما، فجاء الإسلام بأنواره، وشرع الله السعي فأحجم المؤمنون، قالوا: كيف نسعى وكنا في الجاهلية نسعى بين إساف ونائلة، فخافوا فأنزل الله هذا الخبر ليرفع عنهم ذلك الخوف وذلك اللبس: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] من دين الله وشعائره وعباداته، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، الآن زال الإشكال أم لا؟ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158].
الفرق بين الحج والعمرة
ولِم هناك حج وهناك عمرة، ما الفرق بينهما؟ الحج لغة: القصد، حج المكان: قصده، حجك فلان: قصدك. وشرعاً: هو قصد بيت الله الحرام لأداء مناسك معينة، وهو خاص بأشهره وبأيامه المعروفة: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، شوال، القعدة، عشرة أيام أو تسعة فقط من ذي الحجة.أما العمرة فهي الزيارة، يقال: عمر المكان يعمره: إذا وجد فيه، أيما مكان تزوره تعمره، فالعمرة اعتمار بيت الله وزيارة له، ولهذا فالحج له أشهر معلومة وله يوم معروف هو عاشر الحجة، والعمرة تصح في كل أيام السنة، إلا أنها في رمضان أفضل، إذ إن مؤمنة تخلفت عن الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحزنت لذلك وبكت، فمسح رسول الله دموعها وهو الرءوف الرحيم بالمؤمنين، فقال: يا فلانة! إذا جاء رمضان فاعتمري، فإن ( عمرة في رمضان تعدل حجة معي ).
معنى قوله تعالى: (ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم)
وقوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، ماذا نفهم من هذا الخبر العظيم؟ من تطوع: أي: فعل تطوعاً لا وجوباً وإلزاماً، يدخل في هذا نوافل الصدقات، نوافل الزكاة، نوافل الصيام، نوافل البر والإحسان، نوافل الحج والعمرة، التطوع غير ما هو واجب، وعدنا ربنا عز وجل أن من تطوع ففعل خيراً فإن الله عز وجل يجزيه بالخير الكثير، ما قال: فإني أجزيه، قال: فإني شاكر عليم، فإن الله شاكر للمعروف، للفضل، لن يضيع المعروف عند الله، فمن عمل خيراً لوجه الله فالله عز وجل سيثيبه، سيجزيه بأضعاف ما فعل، لِم؟ لأن من صفات الله اللازمة له: أنه شاكر وعليم، لا تفهم أنه قد لا يدري هل تصدقت أو لم تتصدق، أو لعل الله ما علم البارحة أنك ما قمت تتهجد، أو لعله ما يدري أنك فعلت كذا، انزع هذا من ذهنك، فإن الله عليم بكل شيء.فثق -إذاً- في الله واطمئن إلى أن ما تفعله من الخير والإحسان لن يضيع، تثاب عليه وتجزى به أحسن جزاء؛ لأن الذي يجزي ويثيب شاكر، وعليم كذلك.الآن نقرأ الآية قراءة أخرى، واسمعوها: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم دائماً بما ندرس وبما نسمع، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-08, 10:44 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (103)
الحلقة (110)



تفسير سورة البقرة (7)


نادى الله سبحانه الجميع بعنوان: (الناس) ليشمل البشرية جمعاء، وأمرهم بعبادته وحده، لأنه من خلقهم وخلق أسلافهم، ولعلهم بعبادته وحده يرجون النجاة من عذابه يوم القيامة، ونبههم سبحانه بأنه هو الذي أعد وهيأ الكون كله لهم، وأن ما يدعون من دونه لا يملكون شيئاً، ورغم أنهم يعلمون ذلك إلا أنهم جعلوا لله أنداداً يحبونهم كحب الله.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، ومع آياتها المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.وتلاوة تلك الآيات هي قول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم. ‏

صنف المؤمنين

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! تقدم في السياق الكريم أن البشرية ثلاث فرق: فرقة هداها الله فاهتدت، وزكاها الله فزكت، وأنعم عليها فهي في نعمه، وهي فرقة آمنت بالله ولقائه.. آمنت بالله ورسوله .. آمنت بالله وكتابه. وجاء هذا القرآن يحمل لها الهدى، فهي تعيش على هدى القرآن الكريم، وهي المعنية بقول الله تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:1-4]، ودخل في هذا: المؤمنون من العرب، والمؤمنون من أهل الكتاب اليهود والنصارى، الجميع يبشرهم ربهم فيقول: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5].اللهم اجعلنا منهم، هذا فريق السعداء الأطهار الأتقياء، أهل الإيمان واليقين، أهل إقام الصلاة والإنفاق مما رزق الله.

صنف الكفار

الفريق الثاني: الذين قال فيهم الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] لم؟ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] هؤلاء توغلوا في الشر والفساد، وضربوا في طرق الضلال حتى ختم على قلوبهم، فلم يجد الإيمان منفذاً ليدخل إليها، فكان جزاؤهم: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .

صنف المنافقين

الفريق الثالث: فريق المنافقين، هم مؤمنون في الظاهر وكافرون في الباطن، وهم شر الخليقة.. مؤمنون في الظاهر: يصلون ويؤتون الزكاة، وإن دعوا إلى الجهاد خرجوا مع المؤمنين في سبيل الله، وقلوبهم لا تؤمن بالله ولا بلقائه، ولا بالرسول ولا برسالته، ولا بالكتاب ولا بأنواره، وهم أيضاً نوعان: نوع كالذين عرفناهم من الكافرين لا يموتون إلا على النفاق، ونوع مذبذبون متهيئون لأن يدخلوا في رحمة الله، واسمعوا لقول الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:8-16]. وهؤلاء المنافقون ضرب الله لهم مثلين: مثلاً نارياً ومثلاً مائياً؛ لأنهم نوعان: نوع انتهى أمرهم، ونوع متهيئون لقبول الحق والهداية إن شاء الله، فقال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18] هؤلاء انتهى أمرهم كتلك الفرقة الكافرة، وحكم الله بأنهم لا يرجعون إلى الحق وطريقه؛ لما أصابهم من عمى القلوب، ونتيجة التوغل في الشر والظلم والكيد للإسلام والمسلمين.والمث الثاني للنوع الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:19-20]. وهذا قرأناه ودرسناه واكتسبنا أجره وعلمه، والمنة لله رب العالمين.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ... )

نداء الله تبارك وتعالى للناس أن يعبدوه وحده

قال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ نداء عام؛ لأن هذا الكتاب كتاب هداية وإصلاح، فبعدما ذكر الله تعالى تلك الأصناف وما عليه الناس ناداهم بنداء الرحمة، بنداء عام، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أبيضكم وأسودكم، عربيكم وعجميكم، مؤمنكم وكافركم، منافقكم ومستقيمكم؛ إذ هذا اللفظ يشمل كل إنسان. يَا أَيُّهَا النَّاسُ يا ذرية آدم! يا بني آدم.و(الناس) اسم مشتق من ناس ينوس إذا تحرك، وفيه معنى الأنس، وفيه معنى النسيان، والقرآن حمال وجوه، وكل ما يجب علينا في هذا: أن نفهم أن نداء الله هذا لكل إنسان.ويناديهم لم؟ ليأمرهم، أو لينهاهم، أو ليوجههم، أو ليحذرهم، أو ليخوفهم؛ لأنه سبحانه تعالى عن اللهو والباطل والعبث. قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] خيراً لكم اعبدوا ربكم، ما قال: (اعبدوا الله) حتى يقولوا: من هو؟ بل قال: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ . أي: خالقكم ورازقكم .. مدبر حياتكم .. الخالق لكل شيء، ترونه، وتعلمونه، وتسمعونه. هل عبادة خالقي ومولاي وسيدي والمنعم علي فيها غضاضة أو فيها عيب وانتقاص؟ لا أبداً. اعْبُدُوا رَبَّكُمُ عرفتم أن الرب هو الخالق، الرازق، المدبر، الحكيم العليم؟ وهذا يجب أن يُعبد، وكيف يُعبد؟ يطاع فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، هو ورسوله المبلغ عنه صلى الله عليه وسلم.

مفهوم العبادة الحقيقية لله

ما هي العبادة؟ تعرفون الطريق المعبد المذلل الذي تمشي عليه السيارات، فالعبد اسمه عبد، نحن عبيد أو لا؟ خدم لسيدنا، مطيعون لمولانا.إذاً: ذلوا له واخضعوا واخنعوا، فلا تترفع يا عبد الله ولا تلوِ رأسك متبرماً لا تريد أن تطيعه! أطع؛ إذ أنت مخلوق لهذه الحكمة.ولو سئلت من قبل الفلاسفة والعلماء: لم خلق هذا الإنسان؟! هم يجهلون، يقولون: ليعيش في الحياة الدنيا فيأكل ويشرب ويلهو ويلعب، هذه علة الخلق؟! ما هي بعلة هذه! هو يأكل ويشرب من أجل أن تبقى حياته للعلة التي من أجلها خلق ألا وإنها عبادة الله عز وجل.أراد الله عز وجل أن يُعبد في هذه الأرض فخلقها، وخلق أرزاقها، وفجر مياهها، وأصلح أجواءها وهواءها، وأصبحت كالفندق صالحة للنزول، ثم أهبط آدم وزوجه حواء، وزوجهما وبارك في نسلهما، فأخذا يلدان البنين والبنات، وأصبح أولادهم يعبدون الله، فهذه هي العلة.أما الأكل والشرب فمن أجل البقاء على الحياة، أما الحراثة والصناعة فمن أجل البقاء على الحياة، والحياة لم؟ لأن يُعبد الله.فلهذا كثيراً ما تسمعون أن الذي يموت تاركاً لعبادة الله كافراً بها يعبد غيره أو لا يعبد سواه، هذا جزاؤه أن يخلد في عالم الشقاء، ويعيش بليارات السنين بلا نهاية.فإن قلت: لم؟ أجرم، فسق، كفر مائة سنة .. مائتين .. طال عمرة ألف سنة، كيف يعذب مليارات السنين؟ أين العدل؟! والجواب: جريمته أنه نسف الكون كله، السماوات السبع، والأراضين السبع وما فيهما، والجنة، والنار.. الكل نسفه ودمره، كيف؟! كل ما خلق الله في السماوات والأرض من أجله هو، وهو من أجل أن يعبد الله، فلما أبى أن يعبد كان كمن نسف الكون كله، كم تعذبون هذا؟ بلا حساب، لو أن شخصاً أحرق قرية أو أغرق إقليماً فهل جزاؤه عشرين سنة سجن، أو يموت؟ هذا ما يكفي، فكيف بالذي يدمر العالم كله، هل فهمتم عني هذه؟هو في الظاهر عصى الله، وفسق عن أمره، وكفر به مائة سنة .. ألف سنة، هذا يعذب أبداً عذاباً فوق ما نتصور أو ندرك، وإن وصفه الله بكتابه وبينه، فما جريمة هذا؟ جريمته في الحقيقة أنه دمر الكون كله؛ إذ الكون كله خلق من أجل أن يُعبد الله فيه، فهمتم هذه الحقيقة؟ حتى لا يقول قائل: أين العدل في شخص يكفر مائة سنة، ويعذب مليارات السنين؟ هذا جريمته أنه نسف الأكوان كلها.والدليل على أنه خلق لعبادة الله قول الله تبارك وتعالى من سورة (والذاريات): وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] لا لغرض آخر، لا لعلة ولا لحكمة تريدون، أبداً، إلا أن يعبدني.فإذا قال العبد: لا أعبدك وأعبد عدوك، كيف تجازون هذا المخلوق؟!يقول: لا أعبدك وهو يأكل طعامه، ويشرب شرابه، ويتنفس هواءه، ويعيش في كنفه وفي رحمته! يقول: لا أعبدك، ويعبد شجرة أو فرجاً من فروج النساء! كيف هذا؟!ويوضح هذا المعنى حديث قدسي شريف يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إن صح الخبر، يقول: ( يقول الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي ) هذا واضح الدلالة. ماذا يبغي الله مني؟ أن أذكره وأن أشكره، فمن عطل ذكر الله وشكره، والعبادات كلها لا تخرج عن الذكر والشكر مطلقاً، وفي القرآن الكريم: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، ومن سورة أخرى وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13].إذاً: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك ) وهذا الخبر صحيح، والقرآن يشهد له.

التوحيد رأس العبادة

قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] أي: وحدوه، لا تعبدوا معه غيره، كيف تقول هذا يا شيخ؟ الجواب: لما نزلت هذه الآية لا يوجد على الأرض من لا يؤمن بالله ويعبده، فكل البشرية تؤمن بوجود خالقها ورازقها وربها، ولكنها تعبد معه غيره، أو تركت عبادته وعبدت سواه.أما قانون البلاشفة: لا إله، هذه صناعة خبيثة يهودية وتبخرت، وما عاشت أكثر من سبعين سنة.والبشرية في كل عصورها بالفطرة .. بالغريزة تؤمن بأن الله موجود، ولكن ما تعرف أسماءه، وما تعرف كيف تعبده، فطلبت اللياذ بجانبه، والحماية به فما عرفت، وزين لها الشيطان أصناماً، تماثيل، الشمس، القمر..، وقال لهم: هذه تشفع لكم عند الله. فعبدوا غيره، ولهذا إذا قال المفسر: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] أي: ليوحدوني؛ لأن العبادة موجودة، ولكن يعبدون معه غيره، فالمطلوب هو أن يعبد وحده.ومن القرآن الكريم قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ما هذه الرسالة؟ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ما الطاغوت؟ ما عبد من غير الله سواء كان الشيطان أو كان صنماً، فزين الشيطان عبادته وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل:36] من القائل يرحمكم الله؟ الله. هل يتطرق إلى هذا الكلام النقص أو الخطأ؟ والله كما أخبر، فما كانت أمة على سطح هذه الأرض من ذرية آدم إلا بعث الله فيها رسولاً يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً.

كيفية عبادة الله

قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] كيف نعبده؟ نطيعه في الأمر والنهي ونحن أذلاء، خانعين، خاضعين، لا كبرياء ولا ترفع ولا.. ولا.. تسليم لله وطاعة، نطيعه في الأمر، قال: صلوا صلينا. قال: صوموا صمنا. قال: اتركوا الزنا والربا تركنا.ومع هذا لاحظوا مجرد طاعة في ذل لا يكفي، وقد يوجد العبيد يطيعون أسيادهم هذه الطاعة، ولكن يجب أن يكون المطيع معظماً لربه محباً له، فتطيعه وأنت تكرهه ليست عبادة، وتطيعه وأنت تستهين به كما تطيع المرأة زوجها أو الزوج زوجته هذه ما هي بعبادة، فلا بد مع غاية الذل والتعظيم والحب. أطعه؛ افعل ما يأمرك، واجتنب ما ينهاك وأنت تحبه أعظم حب، وتعظمه أعظم تعظيم، ومنكسر ذليل بين يديه. هذه هي العبادة.لو قال قائل: أريد أن أعبد ربي فكيف أصنع؟نقول له: اسأل أهل العلم عما يأمر الله به فافعله، وعما ينهى عنه فاجتنبه.الباب مفتوح، وأهل العلم موجودون، واقرع الباب واسأل: ما الذي يحب ربي أن أفعله؟ يقول لك: صل. بعد فترة: ما الذي يكره مولاي؟ يكره الكذب. لا تكذب، ولا تزال تسأل وتعلم وتعمل، حتى تصبح ولي الله.

الخالق هو الله

قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] هل عيسى خلق شيئاً أو والدته؟ هل عزير خلق شيئاً؟ هذا عند اليهود والنصارى.وعند ضلال المسلمين: هل سيدي عبد القادر خلق شيئاً؟ هل فاطمة أو الحسين خلقا شيئاً؟ هل البدوي ..؟ من الذي خلق؟ الله خلقنا، هذه منة عظيمة علينا، كنا غير موجودين منذ مائة سنة، ولا يوجد منكم واحد وأوجدنا، هذا ما يحمد! هذا ما يشكر! ما يتملق إليه! ما يتزلف! ما يحب ولا يعظم؟!لو أن شخصاً وهبك أصبعاً فقط لحمدته طول دهرك، فكيف لو أصلح عينك وأصبحت تبصر؟ ومع هذا الشياطين لا تسمح لبني آدم أن يعرفوا ربهم؛ حتى لا يعبدوه من أجل أن يساكنوهم ويعاشروهم في دار البوار في جهنم: لم ندخل النار ويدخلون الجنة؟ هذه قولة إبليس. إذاً فهو الذي يضرب على القلوب حتى لا تتحرك.

المغزى من عبادة الله

قال تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] لم هذه العبادة يا رب؟ ما العلة؟ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] من أجل أن تتقوا العذاب والسخط والغضب من سيدكم ومولاكم الله جل جلاله. هذا تعليل واضح: اعبدوه وأطيعوه حتى تنجوا من عذابه، فإن الذين لا يعبدونه سيعذبهم. حكم بهذا؛ فهم عبيده وخليقته. وقضى بهذا فمن أين لك أن تتكلم أنت أو ترد؟(لعلكم) لعل للترجي بالنسبة إلينا، ونحن نقول: هذه الإعدادية من أجل أن تعدوا أنفسكم للنجاة من النار ومن غضب الجبار.
تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء ...)

نعمة خلق الأرض

من أجل أن ينير الله قلوب العباد، ويضيء نفوسهم ويطهرها قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة:22]، إذا غفلت أو أغمضت عينيك، وقلت: من هو الذي خلقني؟ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة:22]، هل علمتم أن البشرية في يوم من الأيام جاءت بفئوسها ومعاولها وفرشت الأرض وبسطتها، ممكن؟ ومن بسطها ومدها وجعلها كالفراش: نم هنا، وامش هنا، واجلس، واقعد، وقم، من فعل هذا؟ الله، وليس عندك إلا أن تقول: الله. يا ابن آدم! تقول: جدي؟ أبي؟ سيدي فلان؟ مولاي فلان؟! هذا كلام باطل، يسخر منك إذا قلت: فلان. من بسط هذا البسط كالفراش: نم واجلس واقعد، بل واحرث وازرع وابن وأنشئ. جَعَلَ لَكُمُ [البقرة:22] أو له هو؟ أو لغيركم؟ (لَكُمُ).إذاً: هذه وحدها تجعلنا نستحي من الله عز وجل جَعَلَ لَكُمُ [البقرة:22] لا لغيركم فِرَاشًا .

نعمة خلق السماء

قال تعالى: وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22] أنت تنظر هذه القبة أو لا؟ هذه قبة ممسوكة بالعيدان أو الأخشاب؟ السماء مبنية، والكواكب معلقة فيها بالملايين، ولو يشاء الله عز وجل أن تنحل تلك العقود والأنظمة لحظة واحدة ولا حياة في الأرض. وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [الحجر:16]، من رفع السماء؟ بنو فلان؟! البشرية في يوم من الأيام تعاونت وهي التي رفعت السماء؟!ومن سورة الحج: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحج:65]، لو أن كوكباً واحداً ينزل احترق الكون كله. قال: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ [الحج:65] مخافة أو كراهة أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ [الحج:65]، لو وقعت السماء انتهت الحياة، وكل هذا ما يذكره ابن آدم؛ لأن الشياطين صارفة لقلبه عن مثل هذا الذكر، فلهذا أبعدوهم عن القرآن، والذي يسمع القرآن يذوب.قال: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحج:65]، وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الحج:66]، والآيات في هذا ما أكثرها.قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] من الأمم والأجيال إلى آدم، كم عددهم؟ والله لا يعرفه إلا الله، من خلقهم؟ الكل يقول: الخالق هو الله جل جلاله. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، أي: من أجل أن تتقوا سخط الله وعذابه؛ لأنكم ضعفة فمن يقوى على الاحتراق بالنار، ومن يقوى على الغربة والبعد في ذلك العالم.إن أحداً بلغنا يوضع في تابوت من حديد، فلا يسمع، ولا يبصر، ولا يأكل، ولا يشرب، ويلقى في ذلك العالم ملايين السنين وهو في عذاب، كيف؟ والله لو يتفكر المؤمن ويتصور الحقيقة قد يصعق، وقد يترك الطعام والشراب، ويموت قائماً يصلي، هل مات أحد وهو قائم يصلي؟ ما بلغكم؟ نعم، مات سليمان عليه السلام وهو قائم يصلي.

نعمة نزول المطر

قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [البقرة:22]، من ينزل ماء المطر؟ الله.قالوا: الآن الصناعة الحديثة .. المطر الصناعي، فاندهشنا، قلنا: هؤلاء ممكن يسوقون السحاب إما بالصواريخ أو غيرها، قالوا: المطر الصناعي .. المطر الصناعي، أشادوا بهذا، ورأيناه فقط أنابيب مخروقة وترش الماء، هذا المطر الصناعي! والله يقول: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:22]، فلا تسأل كيف تكون الماء، مكونه ومكون الكون هو الله جل جلاله، لا تذهب بعيداً تفكر، فقط انظر إلى هذا الماء العذب الفرات الحلو الذي يتغربل، ويتصفى ويطهر، وينزل من السماء إلى الأرض، أيدينا هي التي فعلت؟ سحرتنا هم الذين فعلوا؟ من يفعل هذا؟ الله وحده.

تفضل الله تعالى على العباد بإخراج الثمرات رزقاً لهم

قال تعالى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، قولوا: ما نحن في حاجة، ما نأكل، ما نريد تفاحاً، ولا برتقالاً، ولا بطيخاً، ولا لا.. ولا نعبدك، يقول هذا عاقل؟! وأنزل لكم من السماء ماءً لكم لا لغيركم، وإن قلت: هذا والبهائم أيضاً، والبهائم لم خلقها؟ أليس لنا؟ لنشرب اللبن، ونأكل اللحم، ونكتسي بالصوف والوبر، ونستعمل الشعر، لمَ خلق الله هذه البهائم؟ هو خلقها لنا: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:5-7]. فكيف يكفر بالله؟! ثم قال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، (وَيَخْلُقُ): بصيغة المضارع المقتضية للحدوث والتجدد، وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، أيام نزلت هذه الآية لا أمريكا موجودة، ولا الصين تفقه، ولا اليابان تعرف، ولا أوروبا ولا ولا.. حيوانات، والله يخبر أنه سيخلق من المراكب ما لا يعلمون، والآن حسبنا الطائرات، أما القطارات فكنا نصنع من الإبل قطاراً، جمل وراء جمل؛ سلسلة، والطائرات، الآن يطيرون في السماء كالجن أو الملائكة، ومع هذا يعصون الله في السماء، ويطيرون ويهبطون ولا يعرفون الحمد لله، أما هذه الديار ففيها ذكر الله، على الأقل دعاء السفر.أما طائرات العرب فيبيعون الخمر فيها، لا إله إلا الله، لولا حلم الله عز وجل ورحمته، ولكنه حكيم عليم، ( يملي للظالم ولا يهمله، وإذا أخذه لم يفلته )، وهذه الكلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يخطب الناس قال: ( إن الله ليملي للظالم )، وما معنى يملي؟ يزيد له في أيامه، وفي سلاحه وقوته، ( فإذا أخذه لم يفلته )، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى من سورة هود: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، والمراد من القرى: العواصم والحواضر، لا الاصطلاح الجغرافي الهابط، فالقرآن يريد بالقرية المدينة التي تجمع فيها الناس بكثرة.إذاً: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، فالبر، الشعير، الذرة، التفاح، العنب، التمر .. بسبب الماء أو لا؟ والماء من خلقه وأوجده؟ من أنزله؟ من فتح له قلوب الأرض حتى تداخلت معه وخرجت هذه الزروع، وهذه الأشجار والنخيل؟ هل هناك من يقول: غير الله؟! الملاحدة العور قالوا: الطبيعة. وعرفنا كيف أنها انمسخت، فلا طبيعة، ولا ضرورة، ولا صدفة، هذه كلها تفاعلات شيطانية ممسوخة فكفروا بها، وما بقي إلا الله.أضرب لكم مثلاً، رجلان جميلان طويلان وقفا أمام عمارة من ناطحات السحاب، أحدهما قال: هذه بناها فلان بن فلان. والآخر قال: أنت مجنون، هذه موجودة هكذا، كيف تقول: مبنية؟ هذه ما بناها أحد، أنت تكذب، أنت شاهدت من بناها؟ حضرت معه؟سمعتم المثالين؟ ما تقولون في هذا الرجل؟ يستحق الحياة هذا؟! عمارة؛ ناطحة.. يقول: لا لا لا.. هذه موجودة من نفسها، لما أقول أنا: يا هذا! هذه مبنية، يقول: أنت حاضر؟ أقول: لا ما أنا حاضر. يقول: أنت شاهدت؟ أقول: لا. إذاً: كيف تقول؟ هذا مثال المؤمن والملحد، فالإلحاد هابط وانتهى.إذاً: بناءً على ما سمعتم أيها الناس! فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] هذا هو المقصود.أعيد البيان: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، لصالحكم هذه العبادة، لصالحنا أو لا؟والله العظيم ما شرع الله عبادة لعباده إلا من أجل إكمالهم وإسعادهم، ومن أجل غناهم وإعزازهم، ومن أجل صحتهم، ومن أجل رفاهيتهم، ومن أجل طهارتهم وصفائهم، ولا تفهم أن الله يأمر بأمر أو ينهى بدون ما يحقق ذلك الأمر للعبد مصلحة وفائدة، أو ينهى عن شيء بدون ما يدفع عنه ضرراً ولا مرضاً، والله ما كان.ولهذا لو تفطنت البشرية ولو عرف هذا المسلمون لطبقوا شريعة الله في أربع وعشرين ساعة؛ ليسودهم الطهر والأمن، والرخاء، والصفاء، والحب، والولاء، ولم يبق ما ينغص الحياة، ولا يكدر صفوها بحال من الأحوال.المسلمو كجسم واحد: حب وولاء، طهر وصفاء، لا أذى، ولا اعتداء، ولا ولا.. كالملائكة في السماء، نتيجة عبادة الله وتطبيق هذا الدين القيم، لكن الشياطين صرفتهم فذاقوا البلاء، والهول، والنزاع، والصراع، والشقاء، وفي الآخرة مثل ذلك إلا من شاء الله، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].ثم زاد في البيان: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22] أو للجن؟ ( لَكُمْ).

ربوبية الله تبارك وتعالى لعباده تستلزم عدم جعلهم الأنداد له

قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، أي: لا تجعلوا لله شركاء تحبونهم كحب الله، وترغبون فيما عندهم كما تصورتم، وكما يرغب فيما عند الله، وتبجلونهم وتجلونهم وتعظمونهم كما ينبغي أن يبجل وأن يوجل ويعظم الله، تدعونه وترفعون أكفكم إليه كما ينبغي أن تفعلوا ذلك لله. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22] أضداداً تضادونه بها. هذا موقف عظيم، هذه الفاء ما أجملها، أي: فبناءً على الذي عرفتم لا تجعلوا لله أنداداً، والحال أنكم تعلمون أن الأصنام، والقبور، والأشجار، والأحجار، والملائكة، والرسل، وكل هذه مخلوقات لا تستحق العبادة.قال تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، يدلك على هذا قول الله عز وجل: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ [يونس:31] سيدي عبد القادر ؟ لا والله؟ ماذا يقولون؟ اللَّهُ [يونس:31].وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ [العنكبوت:61] اليهود يقولون: عزير؟ والله ما يقولون. اليهود يقولون: عيسى؟ والله ما يقولون. من؟ اللَّهُ [العنكبوت:61]، يعلمون أو لا؟ يعلمون.العرب جهال، ضلال، مشركون، يطلقون على هبل إله، وعلى العزى إله، وأما أهل الكتاب فعندهم علم، يستحي أن يقول: هذا إله، أبداً، يقول: هذا ولي، نبي، نتقرب به إلى الله عز وجل، وورث المسلمون هذا عنهم، فالمسلمون يؤمنون بأن الله هو الخالق، الرازق، المدبر، المحيي، المميت، لا عيسى، ولا أم محمد، ولا فاطمة، ولا الحسين ، لا يستطيع أحد أن يخلق ذبابة أبداً، هذا إيمان كامل، الله يحيي ويميت، ولكن كيف عبدوهم؟ من طريق قالوا: نتوسل بهم إلى الله ونستشفع. فأعطوهم ما هو لله، وتركوا الله بلا شيء، وقالوا: نحن متوسلون فقط.

حرمة التوسل بالأشخاص

وإليكم مظاهر ذلك التوسل والاستشفاع؛ الذي يقف أمام ولي من الأولياء في قبر أو ضريح أو تابوت ويقول: يا سيدي فلان! أنا كذا، أنا كذا، أنا جئت كذا. هكذا بهذه الألفاظ، وهذا الكلام ما قاله لله لا في ليل ولا في نهار، وماذا بعد هذه العبادة من عبادة؟! الذي يأخذ العجل أو الكبش أو البقرة إلى الضريح ويذبحها: هذا لسيدي فلان، واسأله: كم ذبحت لله؟ ولا مرة.مما هو مضحك ومبكي لتعلموا علماً يقينياً، كان عندنا أحد المؤمنين توفاه الله، وقد جالسنا وجلس في الدرس أكثر من عشرين سنة، قال: أنا أكنت أذبح للسيد حمزة ، وكانوا يذبحون لـحمزة بن عبد المطلب شهيد أحد رضي الله عنه وعليه السلام، وهذا من أهل المدينة، وهذا قبل دخول دولة التوحيد، ثبتها الله وأطال أيامها، وقبلها لا تسأل، أيام كان الشرك عاماً في العالم الإسلامي، لا توحيد، لكن لما جاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة الشرك قال لنا: نذهب في الليل ونذبح، فهذا استشفاع أو توسل بسيدي حمزة ليقضي الله حاجاتنا. قلنا له: يا حاج مسعود ! أنت الآن بطلت ما تذبح لسيدي حمزة اذبح لنا طلبة العلم كبشاً. قال: ما أستطيع. أنت كنت كل عام تذبح كبشاً في الخفاء بالليل للشيطان، وحاشا حمزة ، حمزة قال: اذبح لي! أوصاه؟! ينتفع بهذه الذبيحة؟ حمزة سيد الشهداء، لكن أنت تذبح للشيطان والآن عرفت، قال: والله عرفت، لا إله إلا الله، الآن لن أذبح عصفوراً لمخلوق. قلنا له: إذاً هيا اذبح لنا أيضاً نحن. قال: ما أقدر، وما عندي نفس.إذاً: ماذا فعلنا؟ جعلنا لله أنداداً، ومن أراد أن يفهم النِّد لا النَّد، النَّد هذا عود هندي، النِّد لا النَّد، فهذا عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، في حلقة كهذه -وتلك أطهر فيها رسول الله وأصحابه- وقف هناك في طرف الحلقة أراد أن يعلم، من باب إياك أعني واسمعي يا جارة، فوقف: ( أي الذنب أعظم عند الله يا رسول الله؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أن تجعل لله نداً وهو خلقك )، أن تجعل لله ماذا؟ نداً، ليس معناه تجعل رباً كالله عز وجل، من أنت؟ ذبابة ما تصنعها.المقصود: لا تجعل لله شريكاً تناد به الله، بدلاً أن ترفع كفيك إلى الله ترفعهما إليه، بدلاً ما تحلف بالله وتعظمه باليمين تحلف بهذا وتعظمه، بدل أن تذبح لله تتقرب إليه بقربان وتذبح لهذا القبر، بدل أن تنذر لله: لك يا رب علي أن أفعل كذا إن فعلت لي كذا، تقول: يا سيدي فلان! إذا حصل لي كذا وكذا أعمل لك كذا وكذا. والمرأة تقول: يا سيدي عبد القادر ! يا سيد مبروك ! يا فلان! إذا تزوجت بنتي ورزقها الله بزوج صالح أشتري لك كذا. كانوا يشترون الشموع، فيجعلونها على الضريح طول الليل تشتعل، تقرباً إلى السيد، واستشفاعاً به إلى الله؛ ليقضي الحاجات، لا إله إلا الله.إذاً: عرفتم يا بني آدم أو لا؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، البلاء والشقاء والعذاب الأبدي في الآخرة وعذاب الدنيا. اعْبُدُوا [البقرة:21] من؟ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، إذاً: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، لو قلت لمن يعبد البدوي: البدوي خلق .. رزق .. يحيي؟ يقول: لا لا لا.. هذا مخلوق، إذاً لم تعبده؟ قال: أستشفع به وأتوسل. فأصبحوا يعلمون أو لا؟ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنهم لا يخلقون، ولا يرزقون، ولا يحيون، ولا يموتون، ولا يعزون، ولا يذلون، ولا يعطون، ولا يمنعون، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ [النحل:21].وما الذي جعل هذه الأمة تقع في هذا الضلال؟ لأنهم خدعوهم، وقالوا لهم: القرآن لا يفسر، الذي يفسر القرآن إذا أصاب أخطأ، وإذا أخطأ كفر. صوابه خطأ، وخطأه كفر.إذاً: ماذا نصنع بالقرآن؟ نقرؤه على الموتى فقط، ومن إندونيسيا إلى موريتانيا إذا مات الميت يأتون بالطلبة يقرءون عليه، فإذا كان غنياً طول الليل، ثم لكلٍ ألف ألف ريال، حتى في سوريا هناك مكتب يسمى نقابة، إذا توفي لك أبوك .. أخوك .. زوجتك دق التلفون: نريد قارئاً؛ هذه الليلة عندنا وفاة، فيقول: من أصحاب مائة ليرة أو خمسين؟ يعني: هذا الميت غني أو فقير؟ إذا كان فقيراً خمسين ليرة، وهذا مثال! أما الواقع فهو كما تعرفون، فالقرآن لا يقرأ إلا على الموتى، ولا يجتمع اثنان قط يقول له: أسمعني كلام ربي ماذا فيه. وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-11, 11:26 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (104)
الحلقة (111)



تفسير سورة البقرة (70)


إن كتمان العلم من شر الخصال، وقد توعد الله فاعله بأسوأ مآل، فتوعد سبحانه بلعنه على لسانه سبحانه وعلى لسان عباده، وذلك لما في كتمان العلم والهدى من إشاعة الفساد في الأرض، ولما في كتمان الأحكام والشرائع من إضلال العباد، وتعطيل شرع الله في أرضه، ومن تاب من هذا الكتمان لزمه أن يصلح ما أفسد، وينشر ما كتم، حتى يتوب الله عز وجل عليه، ويقبله عند أوبته إليه.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله ...) من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا مع التفسير لكتاب رب العالمين، وقد كنا درسنا هذه الآية المباركة الكريمة، وتذكروا ما علمتم منها، وما فهمتم من هدايتها، وسوف أقرأ شرحها وما فيها من الكتاب أيضاً، تأكيداً لما علمتم، ثم نأخذ في الآيات التي بعدها.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].

شرح الكلمات

إليكم شرح الآية من هذا التفسير تقريراً لما علمتم وتوكيداً لما حفظتم. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات:الصفا والمروة: جبل مقابل البيت في الجهة الشرقية الجنوبية ] هذا الصفا، [ والمروة جبل آخر مقابل الصفا من الجهة الشمالية، والمسافة بينهما قرابة سبعمائة وستين ذراعاً .شعائر الله: أعلام دينه، والشعائر: جمع شعيرة، وهي العلامة على عبادة الله تعالى، فالسعي بين الصفا والمروة شعيرة ] لِم؟ [ لأنه دال على طاعة الله عز وجل.الحج ] ما الحج؟ لغة القصد، وشرعاً: [ زيارة بيت الله تعالى لأداء عبادات معينة تسمى نسكاً ]، هكذا علمنا فيما سبق.[ العمرة: زيارة بيت الله تعالى للطواف به، والسعي بين الصفا والمروة، والتحلل بحلق شعر الرأس أو تقصيره.الجناح ] في قوله: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ [البقرة:158] [ الإثم، وما يترتب على المخالفة بترك الواجب أو بفعل المنهي عنه. (يطوف): يسعى بينهما ذاهباً جائياً ]. هذه مفردات الآية الكريمة، ذكرت الأبناء والصالحين بها.

معنى الآيات

وأما معنى الآية الكريمة؛ فقال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: يخبر تعالى مقرراً فريضة السعي بين الصفا والمروة ]، وقد علمنا أن السعي ركن من أركان الحج والعمرة، [ ودافعاً ما توهمه بعض المؤمنين من وجود إثم في السعي بينهما، نظراً إلى أنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له: إساف، وآخر على المروة يقال له: نائلة، يتمسح بهما من يسعى بين الصفا والمروة في عهد الجاهلية، فقال تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158] يعني: السعي بينهما مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] أي: عبادة من عباداته؛ إذ تعبد بالسعي بينهما نبيه إبراهيم وولده إسماعيل والمسلمين من ذريتهما ]، وقلت لكم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم ). [ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ [البقرة:158] لأداء فريضة الحج، أَوِ اعْتَمَرَ [البقرة:158] لأداء واجب العمرة فليسعَ بينهما أداءً لركن الحج والعمرة، إذ السعي ركن في الحج والعمرة، ولا إثم عليه في كون المشركين كانوا يسعون بينهما لأجل الصنمين إساف ونائلة ].وقد ذكرنا قصة إساف ونائلة، حيث تقول الروايات: إنهما زنيا في الكعبة في الجاهلية فمسخهما الله صنمين، فوضعهما المشركون على الصفا والمروة، وجاء جيل آخر فأصبح يتقرب إليهما ويعبدهما، ولا تأسف، فعبد القادر الجيلاني أما عبد؟ كل الأولياء عبدوا.قال: [ ثم أخبر تعالى واعداً عباده المؤمنين ]، وهو قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، هذا وعد أو لا؟ من تطوع من المؤمنين والمؤمنات بفعل خير فليعلم أن الله يجزيه بأعظم منه؛ لأنه تعالى شاكر وعليم.[ ثم أخبر تعالى واعداً عباده المؤمنين أن من يتطوع منهم بفعل خير من الخيرات يجزيه به ويثيبه عليه؛ لأنه تعالى يشكر لعباده المؤمنين أعمالهم الصالحة، ويثيبهم عليها؛ لعمله بتلك الأعمال ونيات أصحابها، هذا معنى قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآية الكريمة ]، أي: ما يؤخذ منها من هداية. [ أولاً: وجوب السعي بين الصفا والمروة لكل من طاف بالبيت حاجاً أو معتمراً ]، وقد علمنا هذا وأصبح من الضروري عندنا، [ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ) ]، ليطرد الشك من نفوس بعض المؤمنين الذين تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة.قال: [ وسعى صلى الله عليه وسلم في عمراته كلها وفي حجه كذلك ]، اعتمر أربع عمرات، وحج حجة الوداع فسعى في كل عمرته وفي حجه.[ ثانياً: لا حرج في الصلاة في كنيسة حولت مسجداً ]، من أين استنبطنا هذا؟ من السعي، ما دام قد أجاز لنا أن نسعى بين الصفا والمروة وكان هناك من يعبد غير الله، وكان هناك صنمان، إذاً: لو حولت الكنيسة إلى مسجد فلا تتحرج، لا تقل: هذه كانت كنيسة، اعبد الله فيها، ولا يضر كونها كانت معبداً للكفار، هذا مستنبط من قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158].. الآية.[ ثالثاً: الترغيب في فعل الخيرات من غير الواجبات؛ وذلك من سائر النوافل كالطواف والصلاة والصيام، والصدقات والرباط والجهاد ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]. فالحمد لله، فهذه الآية حفظها وفهم ما فهمتم منها والعمل به والله! لخير من سبعين قنطاراً من الذهب يا عشاق الذهب، الذهب يذهب يا عشاق الهدى وطلاب العلم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ...)

والآن مع هذه الآيات، وإنها لثلاث آيات، فنتغنى بها أولاً لنتلذذ بتلك الكلمات النورانية الطيبة فتنشرح الصدور وتطمئن القلوب؛ لأنه كلام ربنا، كلام سيدنا ومالكنا، كلام خالقنا ورازقنا، كلام من أنزل كتابه على نبينا، فسبحانه لا إله إلا هو، تحببوا إليه يحبكم.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160]، من المتحدث؟ الله تعالى، يستثني فيقول: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:160-162].ما معنى (ينظرون)؟ أي: يمهلون حتى يراجعوا أنفسهم ويتوبوا، فلا توبة ولا مراجعة يوم القيامة، انتهى الأمر.ومعنا في الآيات خبران:الخبر الأول: إليكموه، يقول تعالى مخبراً: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160].والخبر الثاني: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:161-162] أي: يمهلون حتى يتوبوا. فهذان خبران عظيمان أم لا؟

دخول اليهود في كتمان البينات واستحقاقهم اللعن بذلك

هيا نقرأ ونتأمل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ [البقرة:159]، أي: القرآن، أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، من هؤلاء؟ أولهم: اليهود بنو عمنا، الآية فيهم نزلت، إذ هم الذين كتموا ما أنزل الله من البينات في كتابه، تلك البينات التي تحقق رسالة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وتؤكدها وتوضحها وتبينها، البينات والآيات التي تبين أن النبي الخاتم هو محمد صلى الله عليه وسلم. والهدى ما جاء في هذا الكتاب وسنة الرسول من بيان الحق والباطل والخير والشر والضلال والهدى، والآداب والأخلاق والشرائع، كل هذا هدى يهتدي به العبد إلى سعادة الدنيا والآخرة. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ [البقرة:159]، يجحدون، يغطون، يخفون مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ [البقرة:159]، أي: القرآن، أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159].إذاً: لعنهم الله وطردهم من ساحة الخير وأفنية الطهر والسلام، واللاعنون من هم؟ الملائكة، والمؤمنون، والدواب كلها تلعنهم.

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا أصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)

واستثنى تعالى وفتح الباب لهم لعلهم يدخلون في رحمة الله، فقال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا [البقرة:160]، تابوا من كفرهم وضلالهم، ودخلوا في رحمة الله في الإسلام، تابوا وأصلحوا ما أفسدوه، أفسدوا القلوب وعقول إخوانهم، فلا بد أن يصلحوها، فيقولون لهم: ما علمناكم وما قلنا لكم فيما مضى كله باطل وخداع وغش، وكنا، وكنا، والآن تبنا وتاب الله علينا. وَبَيَّنُوا [البقرة:160] ما جحدوه وكتموه، وأعلنوه وأظهروه، وإن لعنهم الناس وسخط عليهم إخوانهم، لا بد أن يقفوا هذا الموقف. فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ [البقرة:160]، أقبلهم، وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160]، فالحمد لله.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)

الخبر الثاني: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:161] من العرب والعجم من اليهود والنصارى ومن غيرهم، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [البقرة:161]، ما تابوا، ما رجعوا، أُوْلَئِكَ [البقرة:161] البعداء عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ [البقرة:161] أي: ولعنة الملائكة، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161] عليهم لعنة الناس أجمعين، ويوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38]، كلما دخل فوج في عذاب النار لعن من وجده قبله، وهكذا.

تفسير قوله تعالى: (خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون)

وقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا [البقرة:162] أي: في تلك اللعنة، في ذلك البعد عن دار السلام ورحمة الرحمن، لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:162] ولو ساعة، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:75]، ولا يلتفت إليهم، ولا تقبل لهم توبة ولا يسمع منهم.عجب هذا القرآن! فهذان خبران عظيمان، والحمد لله على أننا ما نقرأ القرآن على الموتى، لو كنتم موتى كإخواننا وآبائنا لكان علينا أن نتغنى بالقرآن ولا نسأل عن معنى أبداً، لكن الحمد لله أن أحيانا الله، كان آباؤنا وأجدادنا قرابة ستمائة سنة لا يقرءون القرآن هكذا أبداً، لا يقرءونه إلا على الموتى، الميت بين أيديهم وهم يقرءون، والختمة بألف ريال، يقال: تحب ختمة على والدك؟ هات ألف ريال ليختم القرآن عليه!

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ [البقرة:159]، ويدخل فيها اليهود أولاً، ويدخل فيها كل من سلك هذا المسلك فكتم ما أنزل الله من البينات والهدى والشرائع والأحكام. أُوْلَئِكَ [البقرة:159] الكاتمون قبل أن يتوبوا يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، الملائكة هم اللاعنون، والمؤمنون أيضاً، والدواب كما جاء في الحديث الصحيح أو الحسن.ثم قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:160]، شخص عالم جحد العلم، كتم البينات ليعيش ويعبده الناس ويقدسوه ثم تاب الله عليه ورجع، فعليه أن يقول: أيها الناس! اعلموا أني كنت جاهلاً ضالاً، بل كنت متمرداً فاسقاً، فبينت لكم الباطل ودعوتكم إلى الشر، والآن الحقيقة هي كذا وكذا، وإني قد تبت إلى الله، فأصلحم ما أفسده، فهذا مقبول: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة:160]، كونه يتوب ويصلح نفسه ويعلم الناس، أو يكتب ما يجب عليه أن يبينه، بهذه الشروط الثلاثة: تابوا وأصلحوا وبينوا، ولو ما بين وبقي ما جحده مجحوداً لا تقبل له توبة، ولهذا فالمطلوب إذا أخطأ العالم وقال خطأ أن يعلن للناس أنه أخطأ، وأن ما سمعتموه ليس بحقيقة ولا بجائز بل هو باطل، أو يكتب هذا في جريدة أو في كتاب: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ [البقرة:160]، إذا أفسد عقائد أسرته أو جماعته أو جماعة في قريته فإنه يحاول أن يصلحها ويرجع بها إلى الحق. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [البقرة:161] يعني: ما تابوا. أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161]، من هم اللاعنون؟ الملائكة والمؤمنون، فهل يستجاب لهم أو لا؟ أما الكافر فإذا لعن آخر فهل يستجاب له؟ دعوة الكافر باطلة، ما يستجيبها الله؛ لأن اللعن دعوة. ويلعنه الناس أجمعون هنا، أما قوله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38] فذلك يوم القيامة.
معالم وأحكام في كتمان العلم

حديثان عظيمان في تحريم كتمان العلم

والآن معنا حديثان جليلان لا بد من حفظهما:الأول: يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار )، اللجام ما يوضع في فم الفرس، إذاً: هذه العقوبة تبدأ بالفم؛ لأنه كتمه وما نطق به، ( من كتم علماً ) جحده، غطاه، ستره، لِم؟ لأنه إذا بينه تذهب مصالحه، يفقد منصبه، يساء إليه، خاف على مركزه فكتمه.يقول صلى الله عليه وسلم: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار )، فهل صعب هذا الحديث؟ ومعنى هذا: أننا نحن -المسلمين- حرام علينا أن نكتم العلم، وقد رأينا وعيد الله للكاتمين للعلم، ففي الآية الأولى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، وفي هذا الحديث: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار ). والآن عرفنا اللجام، لأن بعض الناس ما يعرفون الخيل ولا البغال، يعرفون السيارات اليابانية، فالخيول والبغال والحمير يوضع لها اللجام، ويقال: فلان ألجمه: أي: لم يسمح له أن يتكلم.إليكم حديثاً آخر لأبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قاله في ظروف معينة، وذلك لما حصل الذي حصل من الفتن، كقضية معاوية وعلي رضي الله عنهما، وقبلها قضية عثمان ، في هذا الوقت يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثاً)، مع أنه كان له وعاءان من العلم، فما هذه الآية؟ هي آيتنا لهذه الليلة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:159-160].ماذا يقول أبو هريرة ؟ يقول: (لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثاً)، لكن هذه الآية تجعلني أحدث ولو قطع هذا اللسان، فماذا نصنع؟ لأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، عذاب الدنيا زائل وفان، وعذاب الآخرة ثابت وباق ودائم.فالآن عرفنا أن هذين الحديثين أكدا معنى الآية وزاداها شرحاً وتفصيلاً:الحديث الأول: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار )، بمعنى: أدخله النار وجعل اللجام من جنهم في فمه، زيادة في العذاب، وعلى هذا فإياك يا بني أن تكتم علماً شرعياً، بينه ولا تجحد، لا تخف.الثاني: بيان لعظم هذه الآية الكريمة، فماذا قال فيها أبو هريرة ؟ قال: (لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثاً)، وهي هذه الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:159-160]، اللهم تب علينا. فلهذا قلت لكم: من علم وتأكد من صحة ما علم وطلب منه فيجب أن يبين وإلا انتحر.

أهمية تحديث الناس بما يفهمون

وهنا لطيفة أخرى، ولا تقولوا: هذا تناقض، ومن وسوس له الشيطان فليقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يقول علي رضي الله تعالى عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)، فيا معشر المؤمنين! يا طلبة الهدى! حدثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله، ومن يحب ذلك؟فهذا معناه: إذا كان مستوى المستمعين والمستمعات مستوى نازلاً ما هو بعالٍ وما هو برفيع، فأنت أيها الداعي، أيها الهادي، أيها المربي، أيها المعلم حدثهم بما يمكنهم فهمه ويقدرون على استيعابه، لا تأتهم بأمور فوق عقولهم وطاقتهم، فحينئذٍ قد يكذبون، فيرجعون إلى بيوتهم غير راضين به، غير مصدقين، ومن أوقعهم في الفتنة؟ هذا المربي. أعيد فأقول: صح عن مالك أنه كان يكره صيام ستة أيام من شوال، فقد يقول طالب علم: إذا صح هذا فأنا ألعنه، ولا أقول برأيي، الرسول سن هذا، وبين أن صيام ستة أيام من شوال مع رمضان كصيام الدهر، وهو يقول: لا تصوموا؟!لكن العالم البصير يعرف لِم كره مالك الصيام؟ لقد رأى الناس يتسابقون، رأى الناس يقول بعضهم: عيدكم أنتم متى؟ فيقولون: يوم الخميس، وأنتم متى؟ فيقولون: يوم الثلاثاء، فخاف أن يأتي أناس يعتبرون هذه الستة الأيام من رمضان تابعة له، فدفعاً لهذا الخطر لأن يزاد في دين الله ويضاف إلى رمضان ستة أيام أخرى قال: أنا أكره الصيام.فإذا كنت ذا علم وبصيرة فانظر إلى مستوى من تربيهم، من تهذبهم، من تزكيهم، فحدثهم بما يفهمون خشية أن يكذبوا الله ورسوله. والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لما أخبر معاذاً وهو يركب معه على دابته بذلك الحديث، فقال: ( يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا )، خاف الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يستغل أرباب الهوى والدنيا ذلك فيقولوا: يكفينا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال: لا. وما أخبر به الصاحب الجليل إلا خشية أن لا يعلمه الناس عند موته فقط.

الرخصة للعالم في ترك إشاعة ما يخشى منه الفتنة من العلم

والذي نقرره -معاشر الأبناء- أن كتمان العلم حرام، ويكفي قول الله تعالى: أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار ) أليس كذلك؟يبقى أنه قد توجد ظروف وأحوال يكتم فيها العالم هذا الحديث أو هذه القضية ولا يقولها للناس، لا لإرادة إضلالهم وإفسادهم ليعيش ويأكل، لا، بل من أجل المحافظة على عقيدتهم، أو سلوكهم، أو ما هم عليه من التقوى والدين، فلا يذكر ذلك الحديث أو لا يشرح لهم تلك الآية، لا طلباً لنفعه هو، بل لنفعهم هم ولصالحهم، ونستدل لهذا بقول علي رضي الله تعالى عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟)، العوام ليس باستطاعتهم أن يدركوا معاني يحار لها الألباء والعقلاء، فكيف تقولها للعوام؟ إذاً: هناك رخصة، ففي بعض الأحوال والظروف نبينها للناس، وفي بعض الظروف لا نبين، فلو بينا هذه الرخصة لخرجوا عن الإسلام.خلاصة القول -معاشر المستمعين والمتسمعات- أن بيان العلم واجب، وكتمانه حرام، والوعيد شديد في الكتاب والسنة. وتبقى المسألة أن أهل العلم والبصائر ليسو مثلنا، من هم على مستوى عالٍ، هؤلاء قد يكتمون حديثاً أو آية طُلب منهم بيانها فخافوا أن تقع الفتنة بين الناس فسكتوا، من حقهم هذا؛ لأنهم راعوا حال القرية وأهلها أو الجماعة أو البلاد أو كذا، فخافوا أن يقع بلاء أو فتنة، ليس كتمانهم لصالح أنفسهم كما فعل اليهود للحفاظ على أموالهم ومناصبهم، وإنما خشية أن يتأذى المؤمنون، فكونهم لا يعلمون هذه القضية أو لا يفعلون هذه السنة لا يضر ذلك إذا فعلوا غيرها من الواجبات والسنن.

نقد الفتوى بتحريم لبس النساء الذهب المحلق

وعندنا مثال: بعض أهل العلم في هذه الأيام وجد حديثاً فيه أن المرأة لا تلبس الذهب إلا مكسراً، فهذا الحديث قرأه مالك وأحمد والشافعي وأبو حنيفة وتلامذتهم، والأمة على أن المرأة تلبس الذهب مكسراً أو محلقاً، والرسول صلى الله عليه وسلم أعلنها على المنبر: ( هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها )، يعني الذهب والحرير، وعاش المسلمون وهم على أن المرأة تلبس الذهب والحرير، فعثر أحدنا على حديث منع الذهب المحلق فأشاعه، فاضطرب النساء وكثرت التساؤلات، فهذا العلم مما ينبغي ألا نحدث به، فالأمة بدأت تستفيق من جهلها وباطلها وانتشر الهدى فيها، فهل نربكها؟ الأئمة الأربعة ومشايخهم كتبهم كلها ما تذكر هذا، فإذاً: كانوا يخفون هذا العلم ويكتمونه، فلم نوجد هذه البلبلة؟ إذا كنت تربي وتزكي وتهدي فما ينبغي أن تفعل هذا.

نقد الفتوى بلزوم طواف الإفاضة في ملابس الإحرام

ووجدوا أثراً: أن من أفاض من عرفة ورمى الجمرة وتحلل قبل أن يفيض فلا بد أن يلبس الإحرام ليفيض بإحرامه، وهذه ما عثرنا عليها للأئمة والفقهاء والمحدثين، عثر أحدنا على حديث في هذا الباب، وبدأت الفتنة، فقالوا: يجب عليك أن تعود إلى إحرامك، ونحن قلنا: إذا رمينا الجمرة تحللنا ولبسنا المخيط، وغداً نفيض أو بعد غد أو الآن، ولولا أن الله وفق سماحة الشيخ عبد العزيز ووقف في وجه القضية من أيامها لكان يحصل شغب وتعب لا نظير له. هذا مثال.

خلاصة معالم كتمان العلم

وأعود فأقول: بيان العلم واجب، وكتمانه حرام: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار )، إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ [البقرة:159].وهناك أحوال يجوز لك أن تخفي مسألة ولا تعلنها، لِم؟ خشية أن تحدث فتنة فيضيع الناس ما عندهم، أمن أجل سنة تحمل الناس على ارتكاب كبائر؟ فكل ما أقوله: على الداعي، على المربي أن يكون ذا بصيرة ويذكر ما ذكره السلف الصالح، حتى لا يوقع نفسه أو غيره في أخطاء تحدث شغباً وتعباً، وقد تضلل الناس أو تصرفهم عن الهدى، ولنحفظ هذه الكلمة: ( يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا )، وعلي رضي الله تعالى عنه يقول: (حدثوا الناس بما يفهمون) لِم؟ (أتحبون أن يكذب الله ورسوله)؟فنريد أن نركز على هذه القضية؛ فما هي بهينة، وهي أن كتمان العلم حرام: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، والرسول ماذا قال؟ ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار ).وهنا مسألة أخرى: هل يجوز للعالم في القرية أو في المدينة أو في الظرف الخاص أن يكتم علماً؟ يجوز، لِم؟ خاف أن يترتب عليه فساد.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-11, 11:35 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (105)
الحلقة (112)



تفسير سورة البقرة (71)

لما أوجب الله على العلماء بيان العلم والهدى وحرم كتمانهما أخبر أنه الإله الواحد الرحمن الرحيم، وأن أول ما يجب على العلماء أن يبينوه للناس هو توحيده سبحانه وتعالى في ربوبيته وعبادته وأسمائه وصفاته، ثم أتى بالأدلة التي طلبها المشركون من رسوله على ذلك، وهي خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الفلك في البحر بأمره، وإنزال المطر من السماء وإحياء الأرض به، وتصريف الرياح التي يبعثها مبشرات بين يدي رحمته سبحانه.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا مع تفسير كتاب الله عز وجل، مع قوله تبارك وتعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:163-164].سبق هذه الآيات الكريمة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:159-162].فهذه الآيات شرحناها ولم نقرأ شرحها في الكتاب، فإليكم قراءة شرح هذه الآيات وبيان هدايتها.

شرح الكلمات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات ]. أولاً: قوله تعالى: يَكْتُمُونَ [البقرة:159]] كل السامعين والسامعات يعرفون معنى الكتمان، كتم الشيء: إذا أخفاه. قال: [ (يكتمون): يخفون ويغطون ]، من هؤلاء؟ هؤلاء المغضوب عليهم اليهود، [ يخفون ويغطون حتى لا يظهر الشيء المكتوم ولا يعرف فيؤخذ به. البينات: جمع بينة، وهو ما يثبت به الشيء المراد إثباته ]، البينات: جمع بينة، والبينة ما هي؟ شيء يثبت به الشيء المراد إثباته، [ والمراد به هنا: ما يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من نعوت وصفات جاءت في كتاب أهل الكتاب ] في التوراة والإنجيل؛ لأن الآية يقول تعالى فيها: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، ألا وهم اليهود.[ والهدى: ما يدل على المطلب الصحيح، ويساعد على الوصول إليه، والمراد به هنا: ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين الصحيح المفضي بالآخذ به إلى الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة.في الكتاب: التوراة والإنجيل. اللعنة: الطرد والبعد من كل خير ورحمة ]، لعنه: طرده، معلون: مطرود ومبعد من كل خير ورحمة.[ اللاعنون: من يصدر عنهم اللعن، كالملائكة والمؤمنين. (أصلحوا) ] في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160] [ أصلحوا ما أفسدوه من عقائد الناس وأمور دينهم بإظهار ما كتموه، والإيمان بما كذبوا به وأنكروه ]. لا يتم إصلاحهم إلا بأن يبينوا للناس ما أفسدوهم به، وغرروا بهم، وساقوهم إليه من الباطل، وأن يؤمنوا بالحق، هؤلاء وعد الله بأنه يتوب عليهم، وكيف لا وهو التواب الرحيم؟وقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا [البقرة:162] أي: في نار جنهم. لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [البقرة:162] كما تقدم ولو ساعة، لا يفتر عنهم ولا تنخفض درجته. وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:162] أي: يمهلون.إذاً: هذه المفردات لتلك الآيات التي شرحناها، فهذا تكرار لها، أما الشرح الموجود في التفسير فإليكموه:

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيات: عاد السياق بعد الإجابة عن تحرج بعض المسلمين من السعي بين الصفا والمروة ]، وقد سبق أن عرفنا: أن بعض المسلمين تحرجوا، خافوا من الإثم والحرج، قالوا: كيف نسعى بين صنمين؟ إذ كان إساف على الصفا ونائلة على المروة، فلما تحرجوا اقتضت رحمة الله أن ينزل هذه الآية، فأزالت خوفهم وتحرجهم: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].قال: [ عاد السياق ]؛ لأن السياق من أول السورة كان في اليهود إلى هذه الآيات، ثم كانت تلك الاستطرادات للحاجة، وعاد السياق مع بني إسرائيل مع أهل الكتاب. قال: [ عاد إلى التنديد بجرائم علماء أهل الكتاب ]، اليهود علماؤهم يقال لهم: الأحبار، جمع حبر، وعلماء النصارى يقال لهم: القسس، أما الرهبان فهم العباد جمع راهب.قال: [ عاد إلى التنديد بجرائم علماء أهل الكتاب ودعوتهم إلى التوبة ]، إذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وأنزل الكتاب الكريم بهداية البشرية جمعاء، إذاً: فلا تعجب أن هذا التنديد هو عبارة عن دعوة لهم إلى أن يعودوا إلى الحق فيكملوا ويسعدوا. قال: [ عاد إلى التنديد بجرائم علماء أهل الكتاب ودعوتهم إلى التوبة بإظهار الحق والإيمان به ]، أولاً: يظهرون الحق الذي كتموه وغطوه وأخفوه، ودلسوا على العرب وعلى العجم وعلى أنفسهم، لا تقبل لهم توبة حتى يظهروا ما أخفوه ويعلنوا في صراحة، ثم يؤمنوا به.[ فأخبره تعالى: أن الذين يكتمون ما أنزله تعالى من البينات والهدى في التوراة والإنجيل من صفات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والأمر بالإيمان به، وبما جاء به من الدين ]؛ لأن التوراة والإنجيل فيهما نعوت الرسول وصفاته بحيث إنك حين تقرأها تكاد تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يحرفونها ويؤولونها كما يفعل بعض إخواننا في التأويل والتحريف للأحاديث والآيات، أما قال الروافض في البقرة: هي عائشة ؟ قالوا في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، قالوا: هذه عائشة ، وعلموا نساءهم ورجالهم وأطفالهم جيلاً بعد جيل، هذا هو التحريف والتغطية، فمن تاب منهم فعليه أن يعلن أنه كان كاذباً وأن المراد من الآية هي البقرة المعروفة، هذا مثال.قال: [ هؤلاء البعداء ] عن كل خير وكل كرامة؛ لأنهم مسخوا [ يلعنهم الله تعالى وتلعنهم الملائكة ويلعنهم المؤمنون ]، هذا ما يفهم من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159].قال: [ وفي الآية الثانية استثنى تعالى من المبعدين من تاب من أولئك الكاتمين للحق بعد ما عرفوه فبينوه وأصلحوا، فهؤلاء يتوب عليهم ويرحمهم وهو التواب الرحيم ]، هنيئاً لمن تاب منهم، فإنه فاز بهذه المغفرة والرحمة.[ وفي الآية الثالثة والرابعة أخبر تعالى أن الذين كفروا ] أي: جحدوا الحق، وكذبوا به [ من أهل الكتاب وغيرهم بنبيه ودينه ] أي: بنبي الله ودينه [ ولم يتوبوا، فماتوا على كفرهم أن ] هؤلاء [ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161]؛ ولذا فهم مطرودون مبعدون من الرحمة الإلهية وهي الجنة، خالدون في جهنم لا يخفف عنهم عذابها، ولا يمهلون فيعتذرون، ويوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً، فاللعنة كاملة يوم القيامة.

هداية الآيات

كان ذلك شرح هذه الآيات، وهذه هدايتها: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: حرمة كتمان العلم ]، كتمان العلم حرام، كأكل لحم الخنزير وكالزنا والربا، فلا يحل لمؤمنة ولا مؤمنة أن يعلم عن الله ورسوله ويكتم ذلك العلم.قال: [ وفي الحديث الصحيح: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار )، وقال أبو هريرة رضي الله عنه في ظروف معينة: لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثاً ]، ما هذه الآية التي يعنيها؟هي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]. قال: لولا هذه الآية ما حدثتكم حديثاً أيها المسلمون، هذا أيام الفتنة واضطراب المسلمين.[ ثانياً: يشترط لتوبة من أفسد في ظلمه وجهله: إصلاح ما أفسد ببيان ما حرف أو بدل وغير، وإظهار ما كتم، وأداء ما أخذه بغير الحق ]، هذه شروط التوبة، أما قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:160]، كيف تابوا؟ نريد أن نعرف كيف يتوبون؟فمن هنا اذكر أنه [ يشترط لتوبة من أفسد في ظلمه وجهله ]، أيام كان ظالماً جاهلاً، يشترط فيه لتوبته: [ إصلاح ما أفسد ]، فإن هد بنياناً فإنه يبنيه، أو أحرق بستاناً فإنه يعيده، أو أخذ مالاً فإنه يرده، هذا إصلاح ما أفسد.[ إصلاح ما أفسد ببيان ما حرف أو بدل وغير ]، يظهر أنه حرف الكلمة الفلانية، أنه أول القرآن في كذا وكذا؛ ليرجع الناس إلى الحق والصواب.[ وأداء ما أخذه بغير الحق ]، شاة، بعير، دينار، مليون ريال يرده، وإلا فلا توبة، هذه توبة العلماء الذين يكتمون الحق ويخفونه لمصالحهم، فإن تابوا فإنه يجب أن يبينوا، أفسدوا يجب أن يصلحوا، أخذوا يجب أن يردوا، وإلا فتوبتهم لا تصح.واسمعوا الآية الكريمة: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:160]، أي: رجعوا إلى الحق بعد أن شردوا منه وكفروا به. وَأَصْلَحُوا [البقرة:160] ما أفسدوه من العقائد، من الآداب، من الأموال، كل شيء أفسدوه يصلحونه. وَبَيَّنُوا [البقرة:160]، فما كانوا يخفونه يظهرونه، هؤلاء يعدهم الله عز وجل بقوله: فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160]، والحمد لله.[ ثالثاً: من كفر ومات على كفره من سائر الناس يلقى في جهنم بعد موته خالداً في العذاب مخلداً فيه لا يخفف عنه ولا ينظر فيعتذر، ولا يفتر عنه العذاب فيستريح ]، من أين اهتدينا إلى هذا؟ من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا [البقرة:161-162]، تلك اللعنة هي النار، أبعدوا من ساحة الخير من الجنة، لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:162]، أي: لا يمهلون فيعتذرون حتى يتوبوا، لا توبة.قال: [ ثالثاً: من كفر ومات على كفره ] ما أسلم [ من سائر الناس ]، العرب والعجم وأهل الكتاب والمشركين على حد سواء، [ يلقى في جهنم بعد موته خالداً في العذاب مخلداً لا يخفف عنه ولا ينظر فيعتذر، ولا يفتر عنه العذاب فيستريح.رابعاً: جواز لعن المجاهرين بالمعاصي ]، كأن تقول: لعن الله شراب الخمور، لعن الله آكل الربا، باللفظ العام، لعن لله المتشبهين من النساء بالرجال، لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال، هذا لعن عام، لكن لا تقل: لعن الله أبا فلان لأنه كذا؛ فإنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لعن المؤمن، وقال: ( لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم )، لا تقل: فلان ملعون، لكن اللعن العام، كأن تقول: لعنة الله على من يتشبه بالكافرين، فلا حرج، لعن الله آكل الربا، لعن الله السارق، لعن الله عاق الوالدين مثلاً. من أين أخذنا هذا؟ أما قال تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161]؟ بعد أن أخبر تعالى عن لعنهم من قبله والملائكة والناس أجمعين، فكيف تتحرج أنت؟ الممنوع أن تقول: خالد لعنة الله عليه لأنه فعل كذا وكذا.

تفسير قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم)

والآن مع قوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، هذا بيان، هذا إعلام، هذا إعلان من الله، يا بني الناس! إلهكم إله واحد، فاعرفوه وتوبوا إليه، واستقيموا على شرعه ودينه تكملوا وتسعدوا. وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163]، لا ثاني له، ولا ثالث ولا رابع، وهو إله واحد في ذاته، في صفاته، في أفعاله، لا شبيه له، لا نظير له، لا كفؤ له أبداً، وعندنا سورة تعدل ثلث القرآن جاءت بهذا المعنى: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:1-3]، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].ومعنى إله: معبود، وكلمة: (إله) وردت في القرآن، وأطلقت على غير الله، كآلهة المشركين المتعددة، لكن لفظ (الإله) لم يكن إلا لله، لفظ (الإله) لا يكون إلا الله، لكن (إله) بالتنكير: إله معبود من سائر المعبودات، أما الإله الحق فهو الله الذي لا إله إلا هو، ولهذا فكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، يقول العلماء: هذه الجملة أولها كفر وآخرها إيمان، وهذه لطيفة، يعني: حين تقول: (لا إله) وتسكت فإنك تكفر، لكن حين تقول: إلا الله تكون آمنت، أولها كفر وآخرها إيمان، فلهذا لا يحل لك أن تقول: لا إله وتسكت، إلا إذا شرقت مثلاً، أو غلبك التثاؤب فما استطعت، فيعفى عن هذا، أما أن تقول: لا إله وتسكت، وبعدها تقول: إلا الله؛ فيا ويلك؛ لأنك لو قلت: لا إله ومت فإلى جهنم. وَإِلَهُكُمْ [البقرة:163]، أي: معبودكم الحق، الذي لا معبود بحق سواه. لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:163]، لا معبود يستحق أن يعبد لما يتفضل به ويعطي ولأنه يحيي ويميت إلا الله.وقال: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، فلولا أنه الرحمن الرحيم لكان يمسخ أو ينزل بلاء بكل من كفر به، لكن من صفاته الرحمن الرحيم، يسبونه، يشتمونه، يكذبون، يكفرون، ويسقيهم المطر، وينزل عليهم الغيث، ويأكلون ويشربون، فمن يشك في أنه هو الرحمن الرحيم؟يعبدون غيره، لا يبالون به وهو خالقهم، رازقهم، بل ويسبونه وينسبون إليه ما لا ينبغي، ومع هذا يطعمهم ويسقيهم، لو كان من يملك غير الله فأنكره أهل إقليم فقط وجحدوه، وحاربوه، فإنه سيمسحهم من الأرض، إذ لا يملك هذه الرحمة إلا الله. وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، لم هاتان الصفتان: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]؟ يخلق أهل إقليم من عنده تفضلاً، ويخلق أرزاقهم ويخلق ما يحفظ حياتهم، ثم يظلون ويبيتون يسبونه، ويشتمونه، وينكرون فضله وإحسانه، لو لم يكن رحيماً رحمة ذاتية فهل سيمهلهم؟ سيحولهم كلا شيء، لكن ها هم البشر، يكفرون به، يسبونه، قالوا: له ولد، أوجدوا معه آلهة عبدوها معه، ومع هذا لا يأخذ إلا إذا تعين العذاب، هذا سر قوله: هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163].

لوازم الشهادة لله تعالى بالوحدانية

إذا عرفت هذا يا عبد الله فاعبده وحده، ولا تشرك في عبادته غيره، فإن أنت ما عبدته فقد ضحكت وسخرت، كأنك تقول: عرفنا أنه لا معبود إلا أنت، ولكن تركت عبادته استخفافاً وعدم مبالاة، أو تقول: لا أؤمن بأنك تعذب، فهذا موقف. ثم حين تعبده كيف تعبد غيره؟! هل تستهزئ به؟ علمت أنه لا إله إلا هو وحده وعبدته، فكيف تعبد معه غيره؟! فلهذا قررنا هذه الحقيقة مئات المرات، وهي: من قال: (أشهد أن لا إله إلا الله) لا تصح شهادته ولا تقبل منه ولا يدخل بها الجنة إلا إذا التزم بما يلي:أولاً: يعبده؛ لأنه أقر وأشهد على أنه لا معبود إلا الله، فإذا لم يعبده فما معنى شهادته؟ إنه يكذب، لم تقول: لا معبود إلا هو ولا تعبده؟ثانياً: أن يعبده وحده، فإن عبد معه غيره تناقض، وأبطل فعله قوله، فشهادتك باطلة، كيف تقول: لا معبود إلا الله، وها أنت تعبده وتعبد معه غيره؟ إذاً: شهادتك باطلة منقوضة.ثالثاً: ألا يعترف ويقر بعبادة غيره، فإذا رأى من يعبد الأصنام وسكت ورضي وابتسم فقد تناقض، فيقال له: قل -إذاً- من أول مرة: لا إله إلا الله وفلان وفلان! لا إله إلا الله وما يعبده الفلانيون! من قال: لا إله إلا الله لزمه أن يعبد الله وإلا فهو كاذب ما عرف لا إله إلا الله، قالها بلسانه وما يعتقدها، كيف يعتقد أن لا معبود إلا الله ولا يعبده؟! كالذي يعتقد أن هذه سيارتك ثم يقول لك: والله! لا تركبها، فماذا تقولون فيه؟ قال: هذه سيارتك، إذاً: انزل ودعني أركب، فهل اعترف؟ ما اعترف، بل كذب، فمن قال: لا إله إلا الله وجب أن يعبد الله.وكيف يعبده يا شيخ؟! يذل له ويخضع وينقاد، كما يفعل العبيد مع ساداتهم، إذا قال: قف وقف، إذا قال: امش مشى، إذا قال: اجلس جلس، إذا قال: احمل كذا حمله، إذا قال: ضع وضع، أليست هذه هي العبادة؟ قال: صوموا صمنا، حجوا حججنا، اخرجوا الزكاة أخرجناها، صلوا صلينا، امسكوا عن الباطل واللغو لا تتكلموا لم نتكلم؛ لأننا عبيده، هذه هي العبادة.إذاً: وبم نعبده؟ بما شرع، من طريق رسول الله، فلهذا قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن قلت: لا أعترف بأن محمداً رسول الله، ولكن أقول: لا إله إلا الله، قلنا: إذاً: كيف تعبد الله؟ دلنا؟ لا تستطيع، فلا بد من رسول يعلمك كيف تعبده وبم تعبده، فلهذا كانت الشهادتان مقترنتين، لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله ولكن لا أشهد لمحمد بالرسالة حتى أفكر سنة فهو كافر.

مظاهر رحمة الله تعالى المتجلية في المخلوقات

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، ورد أن (الرَّحْمَنُ): هو رحمان الدنيا والآخرة، لأن هذه الصغية صيغة مبالغة، كظمآن وعطشان، وهو كذلك رحمان الدنيا والآخرة.و(الرَّح ِيمُ) بأوليائه في دار السلام، ولكن لا مانع أنه الرحيم بنا، ومظاهر الرحمة تتجلى في مخلوقاته، هل تعرفون الدجاجة؟ إذا فقس بيضها وخرجت الكتاكيت فماذا تصنع معها؟ والله! إنها لتفرد جناحها وتدخلها تحتها، تكاد تدخلها في بطنها، وتأخذ تعلمها كيف تنقر الحب.أما العنز فوالله إنك تراها وهي تنخفض حتى يصل وليدها إلى ثديها، ثم تأخذ تناغية مناغاة خاصة؛ حتى يرتاح ويشرب اللبن. والطائر رأيناه يزق أفراخه، يحمل الطعام والماء من بعيد ويأتي به ويصبه في أفواه أفراخه، هذه مظاهر الرحمة، وأجل منها أن لبن المرأة أو البهيمة كان دماً خالصاً فاستحال إلى لبن أبيض.ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى خلق مائة رحمة، فرحمة بين خلقه يتراحمون بها، وادخر لأوليائه تسعة وتسعين )، قسم الله تعالى الرحمة مائة قسم، فتسعة وتسعون قسماً ادخرها لأوليائه في دار السلام يرحمون بها، وقسم واحد للخليقة كلها تتراحم بها، ( حتى إن الفرس لترفع حافرها مخافة أن تطأ مهرها )، وهذا مشاهد، ترفع رجلها خشية أن تطأ مهرها الذي يرضع منها.

تفسير قوله تعالى: (إن في خلق السموات والأرض والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ...)

تقول الروايات: لما سمع بعض المشركين المتوغلين في الإلحاد وفي الشرك قوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]؛ قالوا: ما هي الأدلة على أنه لا إله إلا الله؟ نريد أدلة تثبت أنه لا إله إلا هو؛ لأن الآية تقول: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163]، قالوا: ما الدليل على أن الإله واحد فقط؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية الثانية فقط وفيها ستة أدلة. ‏

الآيات الستة الدالة على وحدانية الله تعالى

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ الدليل الأول: خلق السماوات والأرض، وهو خلق عظيم لا يتأتى إلا للقادر الذي لا يعجزه شيء ]، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:164]، أكبر دليل، فهل الذي يخلق السماوات والأرض وحده يحتاج إلى أن يكون معه إله آخر؟[ ثاني الأدلة: اختلاف الليل والنهار بتعاقبهما، وطول هذا وقصر هذا ] طول العام، فمن أوجد الظلمة والضياء؟ أوجد الليل والنهار يختلفان، إذا جاء الليل رحل النهار، وإذا جاء النهار رحل الليل لصالح العباد، هذا مظلم وهذا مضيء منير، يطول هذا ويقصر هذا، كيف يطول ويقصر؟ الآن دخل في النهار ساعتان تقريباً من ساعات الليل، وعما قريب يدخل من النهار ساعتان في الليل، باللحظة والدقيقة. [ ثالثاً: جريان الفلك -السفن- في البحر على ضخامتها وكبرها وهي تحمل مئات الأطنان من الأرزاق وما ينتفع به الناس في حياتهم ]، السفن بواخر تحمل ألف طن من البر، تحمل ألف شاة، تحمل كذا.. تمخر البحر من الشرق إلى الغرب، هذه السفن على سطح الماء كيف لا تغرق؟ من دبر هذا؟ من أوجده؟ هذا العليم الحكيم، لم أوجد هذا؟ رحمة بعباده؛ حتى يرزقوا وينتفعوا بما خلق الله من الأطعمة، والغافل ما يهتدي لهذا، وإلا فلو تفكر في سفينة تمخر البحر من أقصى المحيط الجنوبي إلى أقصى المحيط الشمالي لقال: من أوجدها؟ كيف تسير فما تغرق؟ [ رابعاً: إنزاله تعالى المطر من السماء لحياة الأرض بالنباتات والزروع بعد جدبها وموتها ]، من ينزل الماء من السماء؟ الله. وأشيع من سنوات أنهم الآن يصبحون في غير حاجة إلى المطر، استطاعوا الآن أن ينزلوا المطر، سموه: المطر الصناعي، واندهشنا وقلنا: كيف هذا؟ هل يأتون بالسحب ويسوقونها ويعصرونها؟ ووالله! إنهم لكاذبون، ولا قطرة يستطيعون خلقها أو إيجادها، كل ما في الأمر أن الماء يرتفع بالرش، فقالوا: مطر صناعي، وهذا كذب، أما يستحون من الله؟ فإنزال المطر من السماء لحياة الأرض بالنباتات والزروع بعد جدبها وموتها أكبر دليل على أنه لا إله إلا الله. [ خامساً: تصريف الرياح، حارة وباردة، ملقحة وغير ملقحة، شرقية، غربية، شمالية، جنوبية، بحسب حاجة الناس وما تطلبه حياتهم ]، من أين الرياح؟ كيف تأتي؟ من أين تخرج؟ من أوجدها؟ لن تجد من يقول: أبي ولا أمي، هنا لا عبد القادر ولا اللات ولا عيسى، ما هو إلا الله، وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ [الأعراف:57]. [ سادس الأدلة: السحاب المسخر بين السماء والأرض، تكوينه أولاً، وسوقه من بلد إلى آخر ليمطر هناك ولا يمطر هنا حسب إرادة العزيز الحكيم ]، سمي السحاب سحاباً لأنه يسحب كما تسحب الشاة في الأرض من مكان إلى مكان، من يسحبه؟ خالقه، وإن رأيت سنة من سننه تسوقه فمن خلق تلك السنة حتى انسحب بها السحاب؟إذاً: فكان ذلك رداً مفحماً للذين قالوا: ما الدليل على أنه لا إله إلا الله؟ فالقادر على خلق هذه المخلوقات هل يوجد معه إله آخر؟ ثم إن القادر على خلق هذه المخلوقات لن يكون إلا عليماً أحاط علمه بكل شيء، قديراً لا يعجزه شيء، رحيماً رحمته تغلغلت في كل شيء.ونقرأ الآيات: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ [البقرة:163-164]، يا من طلبت الدليل اسمع: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164].

معنى قوله تعالى: (لآيات لقوم يعقلون)

(لَآيَاتٍ): علامات، أدلة، براهين على وجود الله وعلمه، وحكمته، وقدرته، وربوبيته، وألوهيته، وتنزهه عن مخلوقاته، وصفات من أحدثهم، ولكن من يشاهد هذا؟ العقلاء، فالذي لا عقل له يكذب أمامك، وينكر الشمس؛ لأنه يتبع هواه وشهوته وما يمليه عليه الشيطان. لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164] أي: فيما ذكر تعالى، إن في كذا وكذا لآيات لقوم يعقلون، فقوله تعالى: (لآيات) هو اسم (إِنَّ)، إن في هذه المخلوقات لآيات لقوم يعقلون، أما الذين لا يعقلون فليس لهم في هذا شيء.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات:الإله: المعبود بحق أو بباطل، والله سبحانه وتعالى هو الإله الحق المعبود بحق ]، وسبق أن قلت: لا تقل: الإله في غير الله عز وجل، أما كلمة (إله) فلما عبد من دون الله، كتأليه النصارى لعيسى وأمه، كعبادة المشركين الأصنام، فهذا يقال فيه: إله، أما الإله بحق فلا يكون إلا الله.[ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] في ذاته وصفاته، وفي ربوبيته، فلا خالق ولا رازق ولا مدبر للكون والحياة إلا هو، وفي ألوهيته، أي: في عبادته، فلا معبود بحق يستحق العبادة سواه. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة:164] بوجود أحدهما وغياب الثاني؛ وذلك لمنافع العباد، بحيث لا يكون النهار دائماً ولا الليل دائماً. وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [البقرة:164]، وفرق في الأرض ونشر فيها من سائر أنواع الدواب. وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ [البقرة:164]، باختلاف مهابها: مرة صبا، ومرة دبور، ومرة شمالية، ومرة غربية، أو مرة ملقحة ومرة عقيم ]. هذا معنى المفردات.

معنى الآيات

إليكم شرح هذه الآيات.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيتين: لما أوجب الله على العلماء بيان العلم والهدى وحرم كتمانهما أخبر أنه الإله الواحد الرحمن الرحيم، وأن هذا أول ما على العلماء أن يبينوه للناس، وهو توحيده تعالى في ربوبيته وعباداته، وأسمائه وصفاته، ولما سمع بعض المشركين تقرير هذه الحقيقة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163]، قالوا: هل من دليل؟ يريدون: على أنه لا إله إلا الله، فانزل الله تعالى هذه الآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:164].. إلى قوله: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، مشتملة على ست آيات كونية كل آية برهان ساطع ودليل قاطع على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته، وهي كلها موجبة لعبادته وحده دون من سواه ].وقد بينا هذه الآيات الست أو الأدلة الستة.

هداية الآيات

الآن مع هداية هاتين الآيتين: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ أولاً: لا إله إلا الله، فلا تصح العبادة لغير الله تعالى ]، لم؟ [ لأنه لا إله حق إلا هو.ثانياً: الآيات الكونية في السماوات والأرض تثبت وجود الله تعالى رباً وإلهاً موصوفاً بكل كمال منزهاً عن كل نقصان.ثالثاً: الآيات التنزيلية القرآنية تثبت وجود الله رباً وإلهاً، وثبوت النبوة المحمدية، وتقرر رسالته صلى الله عليه وسلم ]. كيف ذلك؟ الجواب: نقول: هذا الكلام كلام من؟ كلام الله. إذاً: الله موجود، وهل يوجد كلام بدون متكلم؟ وهذا الكلام يحوي العلوم والمعارف، إذاً: الله ذو علم، والذي نزل عليه لن يكون إلا رسول الله، وهل يعقل أن ينزل عليه كتاب الله ولا يكون رسولاً ولا نبياً، كيف يعقل هذا؟[ رابعاً: الانتفاع بالآيات مطلقاً ] آيات الكتاب أو آيات الكون [ خاص بمن يستعملون عقولهم ]، آيات الكون: وجود الليل والنهار والشمس والقمر والمطر، والحياة والموت، هذه آيات أم لا؟ فمن ينتفع بها؟ العقلاء؛ إذ الله تعالى قال: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، آيات التنزيل، آيات القرآن المختلفة، وفي القرآن ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، كل آية تدل على أنه لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والله العظيم! إن كل آية تدل على أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله. كيف دلت على أنه لا إله إلا الله؟ لأنها أنزلها الله عز وجل الموجود الحق، وهو يخبر أنه لا إله إلا هو، وكيف تثبت أن محمداً رسول الله؟ لأنها نزلت عليه، فكيف تنزل عليه ولا يكون رسولاً؟! لا وجود لهذا أبداً. فالانتفاع بالآيات مطلق، سواء كانت آيات الكتاب أو آيات الكون، فالشمس آية وعلامة على وجود خالق عليم حكيم، والمطر آية دالة على وجود خالق عليم رحيم حكيم ذي قدرة وعلم لا يعجزه شيء، وهكذا كل ذرة في الكون آية من آيات الله، لكن من ينتفع بهذه الآيات؟ أصحاب العقول. أما الذين فسدت عقولهم أو تعطلت وما أصبحت تعقل بسبب التأثيرات والمؤثرات من الشيطان عليه لعائن الله، فهؤلاء يشاهدون الشمس وينكرون وجود الله، أما قال علماء الاتحاد السوفيتي في مؤتمرات كثيرة: لا إله أبداً والحياة مادة؟ أين عقولهم؟هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا دائماً بما ندرس ونسمع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-13, 10:04 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (106)
الحلقة (113)



تفسير سورة البقرة (72)

يبين الله عز وجل أنه مع تنزيل الآيات الباهرات الدالة على وحدانيته سبحانه إلا أن من الناس من يتخذ مع الله آلهة آخرى من الأصنام والأوثان والرؤساء الذين يحبونهم كحبهم لله تعالى، ثم بين الله حالهم ومآلهم يوم القيامة، يوم أن يعاينوا عذاب ذلك اليوم وفظاعته، يومها يتبرأ المتبوع من التابع، ويتنصل المعبود من العابد، ويتمنى التابعون الضالون أن لو ردوا إلى الدنيا ليتبرءوا من أولئك كما تبرءوا منهم، ولكن لا مصير لهم إلا النار، وهي مستقرهم وبئس القرار.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الواجبات الثلاثة على من شهد أن لا إله إلا الله

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس التفسير لكتاب الله العظيم، والآيات التي ندرسها في ليلتنا المباركة هذه إليكم تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:165-167].قبل الشروع في تفسيره هذه الآيات المباركات أذكر الصالحين بما علمناه من تفسير الآيات السابقة، فقد قلنا: يجب على من شهد أن لا إله إلا الله ثلاثة أمور: أولاً: يجب عليه أن يعبد الله.ثانياً: يجب عليه بأنه يفرد العبادة لله واحده.ثالثاً: ألا يعترف بعبادة أحد غير الله عز وجل.هذه الحقيقة تساوي الدنيا وما عليها، من قال: أنا شهدت على علم أنه لا إله إلا الله، نقول له: إذاً: اعبد الذي شهدت ألا تعبد إلا هو، فإن تفصى أو تنصل أو أعرض فشهادته باطلة، ما اعتقد ولا علم ولا عرف إذ لو علم بالأدلة والبراهين أنه لا إله إلا الله؛ والله ما استطاع ألا يعبد إلا الله، أبداً فما دام أنه ما عبده فشهادته لا تقبل.ثانياً: ألا يعبد معه غيره، إذ أعلن للملأ أنه لا معبود إلا الله وعبده، فكيف إذاً يعترف بعبادة غيره فيعبده معه؟ فإن عبد معه غيره دل هذا على أنه ما شهد شهادة الحق، وأنه ما عرف، إذ لو عرف حقاً أنه لا معبود إلا الله وعبده فكيف يعبد معه غيره؟ بأي منطق؟ فإذا كان يعبد مع الله غيره نقول: ما عرف الله ولا حقق معنى: لا إله إلا الله، كعوام المسلمين بالملايين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله، ويعبدون الله، ويدعون الأولياء ويذبحون لهم وينذرون لهم، ويتقربون إليهم كأنهم آلهة.إذاً: لو عرفوا ما عرفنا والله ما التفوا إلى غير الله، ولا وقفوا بين معبود يسألونه أو يتضرعون أبداً، لكن ما عرفوا.والحقيقة الثالثة: ألا يعترف بعبادة غير الله، من عبد صنماً كمن عبد نبياً، كمن عبد ولياً، كمن عبد اللات والعزى، الكل يقرر أن عبادتهم باطلة ولا يرضاها ولا يقرهم عليها، وبذلك يكون قد أدى الشهادة على علم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فهل استقرت هذه الحقيقة؟ إذاً: بلغوها، من أراد أن يستقر العلم في نفسه فليبلغه.

البراهين الستة على وحدانية الله تعالى

وكيف عرفنا أنه لا إله إلا الله وشهدنا هذه الشهادة؟ ما أدلتنا؟ ما براهيننا؟ ما حججنا؟ أم نحن جهال سمعناهم يقولون فقلنا؟لما نزل قول الله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] ماذا قال بعض المشركين؟ طالبوا بالدليل، قالوا: ما الدليل؟ ما هي أدلتك يا محمد على أنه لا إله إلا الله؟ وهل أنزل الله أدلة؟ نعم. ستة براهين، ستة أدلة في الآية التي بعدها.هيا نستعرض تلك الأدلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، فأفحمهم، قطع ألسنتهم، طالبوا بالدليل فقال: إليكم الأدلة، هذه آيات الكون، آيات الله الكونية التي قال لها: كوني فكانت، فهي شاهدة على أنه لا إله إلا الله وأنه أعلم من يعلم، وأنه الخالق الذي لا يعجزه شيء، والحكيم لا يخرج عمله عن حكمة، والقدير، وله كل صفات الكمال، وبهذا استحق أن يعبد وحده دون سواه.إذاً: هذه الأدلة الستة نستعرضها كما في الكتاب:[ الأول: خلق السماوات والأرض، وهو خلق عظيم لا يتأتى إلا للقادر الذي لا يعجزه شيء ]، فخلق السماوات والأرض وإيجادهما وتكوينهما هل يتم مع عاجز؟ لا يتم إلا لذي قدرة لا يعجزها شيء، وهو الله تعالى، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:164]، فأعظم آية تدل على وجود الله، وعلى ألوهيته، وأنه لا إله إلا هو هي خلقه السماوات السبع والأرضين وما فيهما.[ ثانياً: اختلاف الليل والنهار بتعاقبهما، وطول هذا وقصر هذا ]، لو تجتمع البشرية كلها إنسها وجنها على أن يأتوا الآن بالنهار فجأة فوالله ما يستطيعون، لو كنا في النهار، في رابعة النهار، في الضحى، ونريد ليلاً، واجتمعت البشرية كلها بسحرها ودجلها وقواتها أيستطيعون أن يقدموا الليل؟ ما يستطيعون، فدل على عجزهم وعلى قدرة خالقهم. واختلاف الليل والنهار لصالح الخليقة، لو كانت الحياة كلها ليلاً ما استتب أمرها ولا كانت، ولو كانت كلها نهار فكذلك، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ [القصص:71-72]، والآيات القرآنية في هذا الباب لا تسأل عنها، فتقف البشرية والجن مطأطئة رأسها، فمن الخالق؟ من المدبر؟ من يقول: عيسى أو أمه أو اللات أو العزى أو عبد القادر أو البدوي ؟ من يقوى أن يقول غير الله؟ولهذا قال الله تعالى عن المشركين: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، يستحون أن يكذبوا، كذبت البلشفية اليهودية الشيوعية خمساً وسبعين سنة وانتهت، كانوا يقولون: لا إله والحياة المادة، فمسخهم الله، أين الشيوعية؟ والحمد لله فقد وقفنا ضدهم حتى ذبحوا، أما كنا نندد بالاشتراكية؟ أين الاشتراكية والاشتراكيون؟ انتهوا ومسخوا.[ الثالث من الأدلة: جريان الفلك ]، السفن تجري من أقصى الشرق إلى أقصى العرب تحمل البضائع والرجال والسلاح، هذه السفن من يجريها؟ من وفق البشر لصنعها وهداهم إليه؟ أتعلمون أول سفينة على وجه البحر؟ سفينة نوح، من علمه صنعها؟ فهذه السفن التي تجري في البحر في المحيطات تتنقل لصالح البشرية من خلقها؟ ستقول: الصانع، فنقول: ومن خلق الصانع؟ فاسكت إذاً.وهنا مثل وقع عندنا ذكرناه من يوم بدأنا التدريس في المسجد النبوي، هو: أن صقلبياً من شمال أوروبا روسياً أبيض ما ذاق التمر ولا عرفه، جاء عندنا إلى بلاد التمر، فقدمنا له صحفة من الرطب أو من التمور الجزائرية، فقال: من صنع هذا؟ ألكم مصانع؟ قلنا: لا. هذا صنعه الله، قال: إن ربكم عظيم. أيوجد هذه؟ قلنا: نعم. وخرجنا في جولة إلى البستان، فوجد النخل والأقنية والعراجين ورأى الفلاحين، فقال: من هذا؟ قلنا: هذا الفلاح، هو الذي يؤبر النخل ويغرسه، قال: إذاً: خدعتموني، لم تقولون: ربنا، قولوا: الفلاح! قلنا :له يا غبي! يا جاهل! التربة التي غرس فيها الفلاح الفسيلة من أوجدها؟ الفلاح أم أمه؟والماء الذي يتفاعل مع التربة حتى تخرج الفسيلة من أوجده، الله أم الفلاح؟ ثم إيجاد هذه الحياة من التراب إلى الماء حتى تنبت الفسيلة، من فعل هذ؟ والفلاح من خلق يديه؟ ومن وهبه عقلاً وسخر له المسحاة والتربة حتى يفعل؟ إنه الله. إذاً: لا إله إلا الله.ولهذا فالذين لا عقول لهم ما يهتدون، أما ختم الله الآيات بالعقل: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]؟ أما الذين لا عقول لهم فتتحكم فيهم أهواؤهم وشهواتهم، أو يقادون بالتقليد الأعمى، هؤلاء يعون ولا يفهمون ولا قيمة لهم.قد يقول قائل: مصانع بريطانيا وهولندا هي التي تصنع السفن! فنقول: والأخشاب من صنعها؟ والحديد من أوجده؟ وهؤلاء الكفرة من ساقهم، من قادهم؟ من علمهم؟ من دفعهم؟ من سخر لهم؟ الله. إذاً: نقول من أول مرة: من صنع السفن؟ والجواب: الله، لا تتعب نفسك، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ [البقرة:164].[ الرابع: إنزاله تعالى المطر من السماء لحياة الأرض بالنباتات والزروع بعد جدبها وموتها ]، إنزال الماء من السماء، أولاً: من كوَّنه ماء؟ بالسحر؟ ثم من سخر السحب وساقها من هنا إلى هناك؟ ومن أذن لها أن تمطر؟ قد تقولون: الحرارة تعصرها فيسيل منها؟ فنقول: الآن في شهر الأسد تمر بكم سحب ضخمة عظيمة، والسماء كما تعرفون والأرض ملتهبة، وما تمطر، وتذهب إلى أوروبا حيث البرد والثلج وتمطر، أين نظريات البشرية؟السحب تأتينا في شهر الأسد، في شهر أغسطس، وتقف أياماً عندنا وترحل ما تمطر ولا قطرة، وتأتي إلى البلاد الجامدة ذات الثلوج فتمطر، فقولوا: آمنا بالله.قال: [ الخامسة: تصريف الرياح: حارة وباردة، ملقحة وغير ملقحة، شرقية، غربية ]، على اختلاف أنواعها، هذه الرياح من أوجدها؟ أمهاتنا؟ آباؤنا؟ مصانع في اليابان؟ مستحيل! من سخر الريح؟ من يسحب السحاب كأنه يجره بالسلاسل لينقله من مكان إلى مكان، ومن إقليم إلى إقليم، تدبير من هذا؟ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الروم:48]، من يفعل هذا؟ سيدي عبد القادر ؟ ليس إلا الله، إذاً: لا إله إلا الله وإن سخط العالم. [ السادسة: السحاب المسخر بين السماء والأرض، تكوينه أولاً، وسوقه من بلد إلى بلد ليمطر هنا ولا يمطر هناك حسب إرادة العزيز الحكيم ].أقول مرة ثانية: لما نزل قول الله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:163] في تقرير هذه العقيدة، أي: لا معبود بحق إلا هو، كل الآلهة باطلة وإن بلغت الملايين؛ لأنها مربوبة، مخلوقة، محدثة، فانية، فكيف تعبد؟! إلا أن الشياطين زينت عبادتها، فلما قال ما قال قالوا: ما الدليل على أنه لا إله إلا الله؟ فساق الله لنا هذه الآية فيهما ستة أدلة.اسمعوا القراءة مرة ثانية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، فالذين لا عقول لهم ما يدركون، ولا يفهمون. والآن استقر التوحيد فكل عبادة تفرض لغير الله صاحبها مشرك وهو كافر، ومصيره العذاب الذي لا يخرج منه أبداً، فاللهم ارزقنا التوحيد.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ...)

والآن مع هذه الآيات، وهي ذات شأن خطير: يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:165]، ناس من الناس، ما قال: ومن الجن والإنس؛ لأن الهداية التي يقوم بها الرسول متعلقة بالبشر، وللجن دعاتهم. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا [البقرة:165]، الأنداد: جمع ند، وهو المثيل والضد، فلان ندك يساويك، يطلب ما تطلب أنت من العظمة والخير، فالأنداد: جمع ند، وهو ما عبد من دون الله، مما اتخذه الجهال والضلال آلهة يعبدونه، هذا إخبار من الله، وهو حق، والله! كما أخبر: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، يحبون تلك الأنداد وتلك المعبودات مع الله كحب الله، هذا بالنسبة إلى المشركين من العرب، كانوا يحبون الله، ويدلك على حبهم أنهم يعظمون حرمة الأشهر الحرم، إذا أهل هلال رجب لا تسمع قعقعة السلاح، إذا دخل الشهر الحرام لا قتال ولا نهب ولا غزو ولا غارة، إذا دخل الحرم وقد قتل أباك لا تنظر إليه، ويعظمون بيته، ويحجونه، إذاً: فهم يحبون الله شيئاً ما، ويحبون اللات والعزى ومناة والآلهة، فيخبر الله عنهم فيقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165].

معنى قوله تعالى: (والذين آمنوا أشد حباً لله)

وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، أشد حباً من كل محبوب ومحب لله، فالذي يروح على أنفسنا هو: هل يوجد بيننا مؤمن أو مؤمنة يكره الله؟ لا والله، مستحيل أن يكرهه مؤمن أو مؤمنة، وإذا لم يكرهوه فمعناه أنهم أحبوه، فالحمد لله أننا أشد حباً لله. فالمشركون منهم من يحبون الله ويحبون آلهتهم، سواء كانت الآلهة أنبياء أو أولياء أو ملائكة أو أصناماً وأحجاراً، ونحن نحب الله عز وجل، ولكن نتفاوت في هذا الحب، وتتجلى محبة الله في العبد بقدر ما هو مقبل على طاعته، والرسول صلى الله عليه وسلم علمنا وهو يدعو: ( اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني من حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من أهلي ونفسي ومالي )، هكذا يدعو بهذا الدعاء: ( اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني من حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من أهلي ونفسي ومالي وأحب إلي من الماء البارد )، الماء البارد تعرفون قيمته أيام لم تكن الثلاجة في هذه البلاد الحارة في الصيف، الماء يكاد يغلي غلياناً، فمن ذا الذي يفضل على الماء البارد شيئاً آخر من الطعام أو الشراب أو كذا؟ويقول معلماً صلى الله عليه وسلم: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحبه )، وهل الذي يحب الله لا يحب رسوله ولا يحب أولياءه؟ إذ قلنا: الذي يحب الله تعالى يحب كل ما يحب الله، أليس كذلك؟

ذكر نعم الله تعالى محصل لمحبته في قلب العبد

وهناك لفتة تستطيعون إدراكها: من أراد أن يشعر بحب الله في قلبه، من أراد منكم -أيها السامعون ويا أيتها المستمعات- أن يشعر شعوراً حقيقياً بأنه يحب الله تعالى فوق كل محبوب؛ فليذكر نعم الله تعالى عليه، يغمض عينيه ويطأطئ رأسه ويذكر إفضال الله وإنعامه عليه، فإنها لحظات وإذا عيناه تذرفان الدموع، وجلده يقشعر، وهو كأنه بين يدي الله.اخل بنفسك وإن كنت مع الناس، واذكر ما أنعم الله به عليك وما أكثر تلك النعم، يوم نجاك من حادث السيارة، يوم وهبك، كذا، يوم أعطاك كذا، فوالله! لا تزال تذكر حتى تندفع بالبكاء وتعرف حب الله عز وجل، وويل للغافلين. وهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحبه )، أنا عبده ورسوله، وهكذا المؤمنون الصادقون يحبون الله تعالى، ويجبون كل ما يحب الله من معتقد، ومن قول وعمل ومن صفة، ومن ذات من الذوات، إذا علمنا أن الله يحب فلاناً فنحن مدفوعون إلى حبه، ونكره ما يكره الله، إذا علمنا من طريق الوحي أن الله يكره الكلمة الفلانية فيجب أن نكرهها، يكره السلوك الفلاني فيجب أن نكرهه، وتجد هذا مغروساً في نفسك. من منكم يحب المشركين؟ لا أحد، من منكم يحب الخائنين؟ لا أحد، من منكم يحب الظالمين؟ لا أحد، لم؟ لأن الله يكره ذلك، ونحن أولياؤه وعبيده نحب ما يحب، ونكره ما يكره. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا [البقرة:165] شركاء، يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، ولو تسأل عن عوام وجهال المسلمين الذين يتمسحون بالقبور ويعكفون عليها ويحلفون بها، ويسوقون إليها الشاة، وينقلون المريض، فستجدهم يحبون تلك الأضرحة كما يحبون الله، هذا خبر من؟ أليس الله هو القائل؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، قولوا: نحن أشد حباً لله من كل محبوب عندنا، نحن نحب البرتقال والبطاطس والبقلاوة، لكن هذا الحب هل كحب الله؟ لا والله، نحب حب الغريزة، ولكن نسخر ذلك لله، ولولا الله ما أحببنا الطعام ولا الشراب، ولا طعمنا ولا شربنا؛ إذ حياتنا على الله موقوفة.

معنى قوله تعالى: (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب)

ثم قال تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:165]، أي: أشركوا، ظلموا ربهم، أخذوا حقه من العبادة وأعطوه غيره من مخلوقاته، فتقرر لدينا أنه لا ظلم أعظم من الشرك، واقرءوا لذلك قول لقمان الحكيم: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13]، لم يا أبتاه؟ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وبينا ذلك باللهجة العامية القريبة، وفهم المؤمنون والمؤمنات، فظلمك لأخيك ليس كظلمك لنبيك، أليس كذلك؟ فظلمك لربك بأخذ حقه وسلبه ونهبه وإعطائه لمخلوقاته تحاده وتضاده بها؟ أي ظلم أعظم من هذا؟! إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165] لرأوا الفظائع، الخبر هنا لا يذكر، ومن يقوى عليه؟ أي: لرأوا الهول العظيم، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165]، وهذا متى؟ عند الموت وفي القبر، ويوم القيامة بصورة أوضح، لو رأوا ذلك لعلموا أن القوة لله، وأن الله شديد العذاب. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165]، إذا عذب فعذابه شديد ما يطاق.

تفسير قوله تعالى: (إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب)

ثم قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ [البقرة:166]، هذه كلها ظروف في وقت واحد، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، الرؤساء، المعبودون، المؤلهون، ما إن يقفوا بين يدي الله ويساقوا إلى جهنم ويدخلوها حتى يتبرءوا ممن عبدوهم البراءة الكاملة، يقولون: ما عرفناهم، وينكرون. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166]، شاهدوا العذاب بأعينهم، والأسباب انتهت، لم يبق سبب، لا حبل ولا صلة ينجون بها أو يخرجون من عذاب الله؛ لأنهم وقفوا في ساحة فصل القضاء يوم القيامة.قال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، أي: اتبعوهم، فسيدي عبد القادر والله! ليتبرأن من هذه الآلاف والملايين من الذين ذبحوا له وحلفوا باسمه وعظموه وفعلوا وفعلوا، لا يعترف أبداً بعبادتهم، وما يقوى، ما هناك إلا البراءة الكاملة، وهو رحمه الله تعالى ما أمرهم ولا دعاهم ولا رغبهم ولا رضي بعبادتهم، الشياطين هي التي زينت لهم ذلك بعد موته وحسنته لهم فعبدوه، فعبد القادر كمثال، وقد عبدت فاطمة والحسين ، والبدوي ، وعيدروس .قد تقول: كيف عبدوهم؟! والجواب: حلفوا بهم: وحق سيدي عبد القادر ، فهذه عبادة، جعلوه مثل الله وحلفوا به، هذه أقل الأشياء، أما الذي ينذر النذر: يا سيدي فلان! إن ولدت امرأتي في معافاة وولدت كذا فلك علي كذا، أي نذر أعظم من هذا في باب العبادة؟ أم تقول: لا بد من الركوع والسجود في العبادة؟ فوالله! إنهم ليدخلون الأضرحة راكعين، وفي بلاد يأتون زاحفين وهم يقرءون القرآن، مضت فترة قبل هذه الدعوة الربانية هبطت فيها أمة الإسلام إلى ما تحت الجاهلية.وعندنا مثال: ذكر الشيخ رشيد رضا تغمده الله برحمته في تفسير المنار أن سفينة عثمانية على عهد الخلافة العثمانية تقل الحجاج من طرابلس الغرب إلى الإسكندرية، إلى حيفا عبر موانئ الشرق الأوسط، وكانت تقل حجاج المسلمين من طرابلس، الشام، فلسطين، سوريا، ذاهبون إلى الحج أيام كانت السفن قليلة، فقال رحمه الله: وكان الشيخ محمد عبده معهم في السفينة، فاضطربت السفينة وتململت، وإذا بالحجاج: يا سيدي عبد القادر ! يا الله! يا مولاي إدريس ! يا مولاي فلان! يا الله! يا كذا! وكان بينهم عملاق لا ندري أوهابي هو أم لا، قال: فوقف ورفع يديه وقال: اللهم أغرقهم فإنهم ما عرفوك. فشفى صدره، أفي حال الغرق يدعون غير الله! المشركون ما كانوا يفعلون هذا، والله! ما يفعلونه، إذا دقت ساعة الخطر فزعوا إلى الله.ويوضح هذا: أن عكرمة بن أبي جهل ، وأبو جهل طاغية المشركين في مكة وذبيح بدر، ترك ولداً مثله في البطولة والشجاعة، وكان رقم واحد بعد موته في بغض الرسول والمسلمين، وسقطت مكة في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثمان، وبعض الطغاة هربوا، وبعضهم سكتوا ينتظرون حكم الرسول، وأكثرهم جلس حول الكعبة، فدخل فقال: ( يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، هذا محمد رسول الله، فعكرمة هرب مع الذين هربوا إلى الساحل، فوجد سفينة ما ندري في جدة أو في ميناء آخر في ذاك الوقت، فركب، فلما ركب السفينة وأقلعت في البحر إذا بعاصفة تتململ تحتها السفينة، فقال ربان السفينة: يا معشر الركاب! ادعوا الله فإنه لا ينقذكم إلا هو! ففكر عكرمة ، قال: لم أنا هربت من محمد؟! ثم قال: والله! لترجعن بنا، ارجع بالسفينة إلى الشاطئ، ما دام أنه لا بد من التوحيد فلم أهرب أنا؟ لا بد أن آتي محمداً وأصافحه، وبالفعل رجع ودخل في رحمة الله، هذا عكرمة .والشاهد من هذا: أن المشركين من العرب قبل الإسلام كانوا في حال الشدة يفزعون إلى الله، لا يعرفون اللات ولا العزى ولا مناة، وإذا كانوا في حال الرخاء يفرفشون: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، أما جماعتنا ففي الرخاء والشدة على سواء، ما هناك فرق.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا ...)

قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً [البقرة:166-167]، رجعة إلى الحياة الدنيا، فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167]، هذا الذي شفوا به صدورهم، لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً [البقرة:167]، أي: رجعة ثانية إلى الحياة الدنيا، فنبرأ من هؤلاء الذين عبدناهم أمس وتبرءوا منا اليوم.وختم تعالى هذا بقوله: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [البقرة:167]، أعمالهم التي قاموا بها في الدنيا، الأعمال الشركية الباطلة، أراهم إياها حسرات: جمع حسرة، الهم والغم والكرب الذي يقعد بك ويحسرك. وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، والله! ما هم بخارجين منها، ماتوا على الكفر والشرك، من يشفع لهم؟ أما أهل التوحيد فنعم، يوجد من يشفع لهم، وأما أهل الشرك والكفر فلا شفاعة، واسمع عيسى عليه السلام مع بني إسرائيل: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، هذه كلمة عيسى في بني إسرائيل اليهود.إذاً: نسمعكم الآيات مرة ثانية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:165-167].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

نقرأ الشرح دون المفردات، قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: لما تقرر في الآيتين السابقتين بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة أن إله الناس -أي: ربهم ومعبودهم- واحد، وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه ]، لما تقرر هذا [ أخبر تعالى أنه مع هذا البيان ومع هذا الوضوح يوجد ناس يتخذون من دون الله آلهة أصناماً ورؤساء يحبونهم كحبهم لله تعالى، أي: يسوون بين حبهم وحب الله تعالى، والمؤمنون أشد منهم حباً لله تعالى. كما أخبر تعالى أنه لو يرى المشركون عند معاينتهم العذاب يوم القيامة لرأوا أمراً فظيعاً يعجز الوصف عنه، ولعلموا أن القوة لله وأن الله شديد العذاب، إذ تبرأ المتبعون وهم الرؤساء الظلمة دعاة الشرك والضلالة من متبوعيهم الجهلة المقلدين، وعاينوا العذاب أمامهم، وتقطعت تلك الروابط التي كانت تربط بينهم، وتمنى التابعون العودة إلى الحياة الدنيا لينتقموا من رؤسائهم في الضلالة فيتبرءوا منهم في الدنيا كما تبرءوا هم منهم في الآخرة، وكما أراهم الله تعالى العذاب فعاينوه يريهم أعمالهم القبيحة من الشرك والمعاصي، فتعظم حسرتهم ويشتد كربهم ويدخلون بها النار فلا يخرجونهم منها أبداً ].

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات ]، سنستخرج من هذه الآيات الأربع هدايتها:قال: [ من هداية الآيات: أولاً: وجوب حب الله تعالى وحب كل ما يحب الله عز وجل بحبه تعالى ]، دلت الآيات على وجوب حب الله تعالى وحب كل ما يحب الله من أجل الله.[ ثانياً: من الشرك الحب مع الله تعالى ]، نحن لا نحب زيداً ولا عمراً ولا ديناراً ولا منزلاً إلا بحب الله ومن أجل الله، أنت تحب بقرتك لا بأس، ولكن من أجل من؟ من أجل الله؛ لأنك تحلب لبنها وتقتات به لتعبد الله، لا تحبها استقلالاً، أنت تحب الشيخ أو لا؟ لم تحبه؟ من أجل الله، وهكذا، حتى حب الغريزة نصرفه لله، لا نحب إلا لله وبالله. [ ثالثاً: يوم القيامة تنحل جميع الروابط من صداقة ونسب، ولم يبق إلا رابطة الإيمان والأخوة فيه ]، هذا الذي يبقى، كل الروابط انحلت، لا قرابة لا صداقة، إلا ما كان في الله.[ رابعاً: تبرؤ رؤساء الشرك والضلال ودعاة الشر والفساد ممن أطاعوهم في الدنيا واتبعوهم على الظلم والشر والفساد، وليس بنافعهم ذلك ]، فحين يتبرءون هل يرحمون، أو يكون هذا عذراً لهم؟ ما ينفع، بل زيادة في الحسرة لا أقل ولا أكثر.قلت لكم: هل المؤمن يكره الله؟ أيوجد مؤمن يكره الله أو يكره ما يحب الله؟ إذاً: هذا معناه أنه يحب الله، وبذلك سعدنا وارتحنا. قلنا: لا يوجد في نفوس المؤمنين الصادقين كره لله قط، ومعناه أنهم يحبونه، فالشخص الذي لا تكرهه تحبه، وهل الذي تحبه تكرهه؟ الجواب: لا.ثانياً: من أراد أن يحب الله حباً يسيطر على مشاعره فليذكر آلاءه وإنعامه عليه، لا تنس إفضال الله وإنعامه عليك، فتتوق نفسك إلى الله. وزد ثالثاً: ذكره تعالى، ذكر الله إذا لازمته يكسبك حب الله أكثر. والله تعالى أسأل أن يرزقنا هذا، وأن يجعلنا من أحبائه ومحبيه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-13, 10:11 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (107)
الحلقة (114)



تفسير سورة البقرة (73)

إن غضب الله عز وجل لا يقوم له شيء، وعذابه جل وعلا لا يتصور أحد من خلقه تحمله فضلاً عن اللبث فيه، والمشركون حين يرون غضب الله ويعاينون ما أعده لأهل الشرك من العذاب، ثم بعد ذلك تأتي متبوعاتهم ومعبوداتهم لتتبرأ من شركهم، وتتنصل عن عبادتهم، فعندها يسقط في أيديهم، وتأكل الحسرة قلوبهم ألا يستطيعوا الرجوع إلى الدنيا والتبرؤ من هذه المعبودات، وإخلاص العبادة لله الواحد القهار.

تابع تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ...) وما بعدها

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، فنحن نرجو من الله تعالى أن يحقق لنا ما وعدنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله كما في صحيح مسلم : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع قول ربنا جل ذكره من سورة البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:165-167]، وقانا الله وإياكم عذابها.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهان السامعين والسامعات أن عقيدة المؤمن تقوم على مبدأ الإيمان بالله عز وجل وبلقائه، وأركانها الستة هي ضمن هذا المبدأ؛ لأن الله كثيراً ما يقول لنا: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232]؛ لأن هذه العقيدة بمثابة الروح، إذا حلت في القلب واستشرت آثارها في الجسم حيي عبد الله وأصبح يعي ما يقال له ويفهم، وأصبح قادراً على أن ينهض بالتكاليف فعلاً أو تركاً؛ وذلك لكمال حياته.فالإيمان بالله رباً وإلهاً لا إله غيره ولا رب سواه، بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء، يحيي ويميت، يعطي ويمنع، يضر وينفع، هذا الإيمان يضاف إليه الإيمان بالبعث الآخر، وهو لقاء الله والوقوف بين يديه للسؤال والاستنطاق ثم الجزاء إما بالنعيم المقيم أو بعذاب أليم، فهذه الآيات الكريمة -وهي ثلاث آيات- تقرر مبدأ البعث الآخر. ‏

اتخاذ المشركين الأنداد لله تعالى في عبادته

فقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:165] ناس وما أكثرهم؛ إذ المشركون أكثر من الموحدين في كل الأعصر وفي كل الأزمان، وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:165] والعياذ بالله تعالى مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]. والأنداد: جمع ند، والند: الضد والمثل، والمراد من الأنداد من عبدوا من دون الله، فمن الناس من عبدوا الملائكة، وقالوا: إنهم بنات الله، قبيلة بكامل رجالها ونسائها من العرب عبدوا الملائكة.ومن الناس من يعبد الأنبياء، وجيراننا النصارى يعبدون عيسى، ومن الناس من يعبد الأولياء وصالح عباد الله، وهذا حدث في جاهلية المسلمين، إذ عبدوا الأولياء عبادة حقيقية؛ رفعوا أكفهم إليهم، سألوهم، تضرعوا بين يديهم، ساقوا لهم قطعان البقر والغنم، حلفوا بهم، نذروا لهم النذور، عكفوا حول قبورهم، رفعوا إليهم مرضاهم، وهي عبادة لا ينكرها إلا ذو جهل، وعلة هذا هي الجهل، ما وجدنا من يعلمنا، ما وجد بيننا من يعرف الحق وأهله ويعمل به فنقتدي به؛ إذ هي قرون أصابت المسلمين بظلمة لا نظير لها.ومن الناس من يعبد أصناماً وتماثيل لا تعبد لذاتها، ولكنها تمثل ملائكة أو تمثل أنبياء أو تمثل صالحين فيعبدونها، وها هو ذا عز وجل يخبر بما يعملون، وهل هناك من يعلم علم الله؟

جمع بعض المشركين بين محبة الله تعالى ومحبة آلهتهم

فالله يقول وقوله الحق: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] وبالفعل يحبونهم كحب الله تعالى، إلا أن هذا قد يكون خاصاً ببعض الناس، إذ من العرب -وخاصة القرشيين ومن إليهم- من كانوا يحبون الله، يدلك على حبهم لله أنهم يكرمون الضيف، وأنهم يحجون بيت الله، وأنهم يحرمون ما حرم الله من الأشهر الحرم.. إلى غير ذلك من الصفات الدالة على أنهم يحبون الله، ولكنه حب مع حب آلهتهم، فبطل لذلك حبهم؛ لأن الله عز وجل لا يقبل عملاً أشرك فيه غيره، إما أن يكون العمل كله لله، وإلا فلا يقبله الله، فهم يحبون الله ويحبون الآلهة التي يعبدونها من أجل أن تقربهم إلى الله، ما كان العرب في الجاهلية يعبدون الآلهة لذاتها، يعبدونها متقربين بها إلى الله رب إسماعيل وإبراهيم، وشاهد هذا من كتاب الله عز وجل؛ إذ قال تعالى من سورة الزمر: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، ردوا على الرسول صلى الله عليه وسلم لما أنكر عليهم عبادتهم، قالوا: نحن ما نعبدهم استقلالاً لذاتهم، ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله قربى وزلفى.ويشهد لهذا بوضوح أن هؤلاء المشركين ممن نزل فيهم هذا القرآن كانوا إذا كانت شدة وأزمة قوية يفزعون فيها إلى الله، وخاصة إذا ركبوا البحر واضطربت السفينة للعاصفة التي أثرت فيها يدعون الله وحده ولا ينادون معه سواه، وجاء هذا في عدة آيات: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل:65-55]. وهنا حادثة كررناها للعظة والعبرة، وهي أن عكرمة بن أبي جهل ، وأبو جهل هو عمرو بن هشام المخزومي القرشي ، كان أحد طغاة الشرك وعتاتهم في مكة، وكان أشد خصم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذبح في بدر، له ولد يقال له: عكرمة رضي الله عنه، هذا الشاب كان نسخة من أبيه في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقي على عدائه، وشن الحروب مع قومه في الأحزاب وما إلى ذلك، ولما فتح الله تعالى على رسوله والمؤمنين مكة ودخلوها باثني عشر ألف مقاتل وانهزم المشركون بفضل الله كان عكرمة ممن فر وهرب، وما أطاق أن يعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الكثيرون فجلسوا ينتظرون حكم الرسول فيهم، وقد خلدت تلك الكلمة لما اجتمعوا حول البيت، حول الكعبة، وطأطئوا رءوسهم أذلاء صاغرين، ودخل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم والسيف بيده أو الرمح، فقال لهم: ( يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء ).ونعود إلى عكرمة فما أطاق أن ينظر إلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة الحنق والتغيظ والبغض، وأخذ ساحل البحر لا أدري هل جدة أو قبلها من الساحل، وإذا بسفينة تكاد تقلع، فركب، إلى أين؟ إلى الحبشة أو إلى فارس أو إلى بلاد أخرى، ومشت السفينة في البحر وجاءت موجة عاتية من تلك الموجات البحرية، فاضطربت السفينة يميناً وشمالاً، وخافوا الغرق، فنادى ربان السفينة أو ملاحها: معشر الركاب! سلوا الله عز وجل وحدوه، فإنه لا ينقذكم إلا هو! فعجب عكرمة وقال: الذي هربت منه وجدته هنا؟! لا بد من توحيد الله؟ إذاً: والله! لترجعن بنا يا ملاح إلى ساحل البحر وأذهب إلى محمد وأصافحه، وبالفعل مالت السفينة إلى الساحل ونزل عكرمة وأتى مكة بعد يومين أو كذا، واعتنق الإسلام، وعاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن عن حبه كأشد ما يكون حباً له.

شدة محبة المؤمن لله تعالى فوق محبة المشرك لمعبوده

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، والذين آمنوا بصدق وحق بالله ولقائه ورسوله محمد وكتابه، وقضاء الله وقدره، هؤلاء أشد حباً لله.وأولئك المشركون يحبون آلهتهم التي تقربهم -في زعمهم- من الله وترضي الله تعالى عنهم، ويحبون الله، لكن حبهم للآلهة أشد، والمؤمنون أشداً حباً لله، فلا يحبون معه غيره أحداً، وإنما يحبون به. وهنا تأمل أيها السامع وأيتها السامعة: أحب -يا عبد الله- بالله، ولا تحب مع الله، باستثناء ما هو غريزة البشر كحبنا الطعام والشراب والراحة ورقيق اللباس، هذا الحب نحن أهل الحق نحبه أيضاً لله؛ نأكل من أجل الله، نشرب من أجل الله، ننام من أجل الله، وهكذا نعطي نمنع من أجل الله، إذا أعطينا فمن أجل الله، وإذا منعنا فمن أجل الله، ما وجه العطاء والمنع لله؟ إن تصدقت بزائد عن حاجتي وأهلي تصدقت به لله من أجل الله، وإذا منعت فلأن ورائي أطفالاً أو نساء أو كذا، فمن أجل الله، بل قلنا: نبني ونهدم من أجل الله، نسافر يوم نسافر ونقعد يوم نقعد لله، إذ حياة المؤمنين بحق وقف على الله عز وجل، واقرءوا لذلك آية الأنعام فهي واضحة الدلالة، يقول تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، قوله: محياي ومماتي لله، أي: حياتي وموتي. إذاً: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] من حب عابد الآلهة لله، ومن حب عابد الآلهة لآلهته، عباد الآلهة يحبونها حباً عظيماً، ولكن حب المؤمنين لله -والله- أشد من حبهم لآلهتهم، ولهذا ورد الحب في الله والبغض في الله، إيمان المؤمنين قائم على هذا المبدأ وعلى هذا الأساس، إن أحببنا زيداً أو عمراً أحببناه لله، وإن كرهنا فلاناً أو فلاناً فمن أجل الله، إن أكلنا أو شربنا، إن ركبنا أو نزلنا، كل حياتنا دائرة في فلك واحد ألا وهو رضا الله وطلب مرضاته.

الشرك بالله تعالى أعظم الظلم

ثم قال تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:165]، أي: أشركوا بالله عز وجل غيره، إذ الظلم أنواع، لكن إذا أطلق في القرآن فالمراد به الشرك، إذ هو أعظم الظلم، كيف كان الشرك أعظم الظلم؟ إليك البيان: يخلقك ويرزقك ويحفظك ويخلق كل شيء حولك من أجلك، ويربيك، وينشئك، ثم تلتفت إلى غيره وتغمض عينيك فلا تنظر إليه، فتمدح غيره وتشكر غيره، وتثني على غيره، وتطيع غيره، وتتقرب إلى سواه، وهو كأن لم يكن ذاك الذي لولاه ما كنت، فأي ظلم أعظم من هذا؟ يخلقك يرزقك يربيك يكلؤك، يخلق كل شيء من أجلك، ثم لا تلتفت إليه وتتقرب إلى سواه؟ فهل عرفتم أن الشرك أعظم أنواع الظلم؟و لقمان الحكيم هذا من المؤمنين على عهد بني إسرائيل أيام داود عليه السلام، وهو نوبي من النوبة، كان له ولد يحبه كأنه الوحيد، فأجلسه بين يديه يوماً يعظه، وقد نقل تعالى إلينا تلك القصة بكاملها بالحرف الواحد، إذ قال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ [لقمان:13]، أي: اذكر يا رسولنا للمسلمين، اذكر لقومك المصرين على الشرك والمعاندين فيه، بل والمحاربين من أجله، اذكر لهم ما يلي علهم يفيقون، علهم يرجعون: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، هل فهمتم أن الشرك ظلم كبير أو لا؟ لما ضربت لكم مثلاً وقلت: يخلقك ويرزقك ويكلؤك ويحفظك طول حياتك، ويخلق كل شيء من أجلك وتلتفت إلى غيره تدعوه أو تتملقه وتتقرب إليه، أي ظلم أعظم من هذا؟! أنت مخلوق لله أو لا؟ يجب عقلاً ومنطقاً وسياسة وقانوناً أن تكون جميع تصرفاتك له، فشاتك صوفها لمن؟ لجارك أو لك؟ لبنها، حملها، حياتها كلها لك أيها المالك، فكيف يملكنا الله ملكاً حقيقياً -لأنه خالقنا ورازقنا- ونلتفت إلى غيره نعبده؟ أي فظاعة أعظم من هذه؟ مع العلم أن الذين نعبدهم لا يملكون شيئاً، عبادتنا لهم هراء وباطلة، لو نعبد حجراً أو ملكاً أو إنسياً أو جنياً ألف سنة فلا يستطيع أن يعطينا ما لم يعطنا الله، ولا يدفع عنا ما لم يدفعه الله، فلم -إذاً- هذه العبادة؟! إن الشيطان هو الذي زين عبادة غير الله ليهلك العابدون معه، هذا هو السر.

فظاعة عذاب الظلمة يوم القيامة

ثم قال تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:165] أشركوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165] لرأوا أمراً فظيعاً لا يقادر قدره ولا يمكن للعبارة أن توضحه أو تدل عليه، فوق ما يطاق، فالجواب محذوف؛ لأنه أمر عظيم. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165]، ما بقي من له قوة يحدث بها شيئاً أو يتصرف بها في شيء والخليقة كلها واقفة حفاة عراة إنسها وجنها.

تبرؤ المتبوعين من عبادة متبعيهم وتعظيمهم لهم

وجاء تفصيل هذا: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، والتبرؤ معروف: أنا بريء من قولك، بريء من سلوكك، بريء من عملك هذا، ليس لي فيه دخل. تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، من هم الذين اتُّبعوا؟ الذين عبدوا من دون الله، كعيسى عليه السلام والعزير، والعذراء مريم، وسيدي عبد القادر والبدوي والعيدروس، وفاطمة والحسين، ملايين عبدوهم من دون الله، فيتبرءون منهم: ما أمرناكم، ما رضينا بعبادتكم، ما كلفناكم، نفي كامل، وهل يستطيع معبود أن يقول: نعم يا رب عبدوني؟ لا يقوى على هذا. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا [البقرة:166]، أي: المتبوعون، تبرءوا ممن عبدوهم من دون الله أو قدسوهم أو بجلوهم أو عظموهم، أو اتبعوهم في الباطل، كالرؤساء والزعماء وما إلى ذلك، هؤلاء المتبعون هل يستطيعون أن يدافعوا عن متبوعيهم؟ هل يقولون: ما اتبعونا إلا حباً في الله فقط، إلا طلباً لمرضاتك يا رب، هؤلاء كانوا جهلة، اعف عنهم وسامحهم؟ والله !ما يقولون كلمة من هذا، ولا عيسى يقول هذا. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166] اتبعوهم.

انقطاع العلائق بين الأتباع والمتبوعين بعد معاينة العذاب

وَرَأَوُا الْعَذَابَ [البقرة:166]، وشاهدوا العذاب، جهنم جيء بها تجر بالسلاسل، شاهدوا ما علموه من الغيب، ما حدثوا عنه في الدنيا شاهدوه عياناً. وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166] لا مصاهرة، لا نسب، لا صداقة، لا وطنية، لا أخوة أبداً، كل الأسباب تمزقت، لم يبق إلا سبب الإيمان هو الذي ما تمزق: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166]، المفروض أن الشيخ يشفع لمريديه، والمعبود يشفع لمن عبدوه، والعظيم الذي اتبعوه في الباطل ففجر وقتل وسفك الدماء يشفع لهم، ولكن لا شفاعة، فهل فهمتم معنى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166]؟ كل واحد موكول إلى عمله، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر.

تمني الأتباع الرجعة إلى الدنيا للبراءة من المتبوعين

وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:167] صاحوا: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167]، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:167] العوام الذين لا بصيرة لهم، عبدوا الشيخ، وجروا وراءه، عبدوا الحكام والسلاطين، وقالوا بقولهم وسلكوا مسالكهم، قالوا: لو أن لنا كرة، أي: رجعة إلى الحياة الدنيا، لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ [البقرة:167] في الحياة الدنيا كما تبرءوا منا الآن، لا نقبل من يقول لنا ولا من يزين ولا من يحسن ولا من يعد ولا من يتسلط علينا أو يدعي القوة علينا أبداً. لكن هذا التمني هل ينفع؟ ما ينفع، بل يزدادون به ألماً وحسرة، إذ هذه كلمات المتحسر المتأسف المتحطم، لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً [البقرة:167] أي: رجعة إلى الحياة الدنيا، فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167] اليوم، ولا نسمع لقولهم ولا نجري وراءهم، ولا نقبل أحاديثهم ولا أمانيهم.

زيادة حسرة الكافرين وخلودهم في النار

قال تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [البقرة:167]، أعمالهم التي هي المدائح والقصائد والأناشيد والذبائح، ويقضون ليلة كاملة في مدح الشيخ، أعمالهم يريهم الله إياها حسرات تمزق قلوبهم. والخاتم الأخير: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]؛ لأنهم ماتوا مشركين، والمشركون آيسون من الخروج من النار ودخول الجنة، اللهم إلا الموحدين الذين ماتوا على التوحيد، عبدوا الله وحده، ولكن قارفوا ذنوباً وارتكبوا سيئات وما تابوا منها وماتوا عليها، فدخلوا النار لتطهيرهم؛ لأنهم يحترقون فيها ويمتحشون حتى يكونوا كالفحم، ثم يعودون إلى الجنة بتوحيدهم؛ لأن الله قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، أما أهل الكفر والشرك فأعمالهم الصالحة قد يخفف بها عنهم العذاب، فينزلون في دركات أخف، أما أن يخرجوا من عالم الشقاء وينتقلوا إلى عالم السعادة فوالله ما كان، هم آيسون، فلهذا من مات من أقارب المرء على الشرك والكفر فليبك عليه، لا رجاء أبداً في نجاته من النار. كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [البقرة:167] الحسرات: جمع حسرة، وهي الألم القاتل الشديد الذي يقعد بصاحبه ولا يستطيع أن يتحرك، على حد: يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:4] من الحسرة.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

إذاً: معاشر المستمعين! زيادة في البيان والتوضيح نقرأ الكلمات مفسرة بهذا التفسير وازدادوا بها علماً.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات:أنداداً: جمع ند، وهو المثل والنظير، والمراد بالأنداد هنا الشركاء ]، سواء كانوا ملائكة أو أنبياء أو أولياء أو حيوانات أو نباتات أو جمادات، [ يعبدونها بحبها والتقرب إليها بأنواع العبادات كالدعاء والنذر لها والحلف بها ]، هذه من أنواع العبادات.وقولهم: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167] ما معنى التبرؤ يا عبد الله؟ قال: [ التبرؤ: التنصل من الشيء والتباعد عنه لكرهه ]، تبرأ منه: تنصل وابتعد لأنه يكرهه.وقوله: الَّذِينَ اتُّبَعُوا [البقرة:166]، من المراد بهم؟ قال: [ المعبودون والرؤساء المضلون ]، وهل يوجد اليوم مضل؟ نعم. جميع رؤساء الروافض والله! لمضلون لأتباعهم، يعرفون الحق ويضلون، ومن أهل السنة والجماعة مضلون من أجل أن يركبوا رءوس الناس ويأكلوا طعامهم، يزخرفون لهم الباطل ويحسنون لهم البدع من أجل أن يتبعوهم، موجود هذا البلاء.قا: [ الذين اتَبعوا: هم المشركون والمقلدون لرؤسائهم في الضلال ].قال تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166]، ما معنى الأسباب هذه؟ قال: [ الأسباب: جمع سبب، وهي لغة: الحبل ]، السبب: الحبل الذي تربط به بين شيئين، [ ثم استعمل في كل ما يربط بين شيئين، وفي كل ما يتوصل به إلى مقصد أو غرض خاص ]، فما سبب مجيئك إلى المسجد؟ لا بد من حبل ربطك به، كلمة أو إيمان أو دعوة أخيك.وقوله تعالى: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ [البقرة:167]، ما معنى الكرة؟ قال: [ الكرة الرجعة والعودة إلى الحياة الدنيا.الحسرات: جمع حسرة، وهي الندم الشديد الذي يكاد يحسر صاحبه فيقعد به عن الحركة والعمل ]، شدة الحزن والألم تقعد بالإنسان فما يستطيع حتى المشي، وهذا واقع، إذا كرب عبد وأصيب بحزن يلصق بالأرض. تلك مفردات قد تكون خفية على أكثر المؤمنين، فتفسر لهم كلمة كلمة.

معنى الآيات

أما الشرح الموجز فإليكموه كما هو في هذا التفسير.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات.لما تقرر في الآيتين السابقتين ]، وهي قوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، هذه آية، وجاء الآية الأخرى فيها ستة أدلة على أنه لا إله إلا الله؛ إذ قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164] ]، أما الذين لا عقول لهم فكيف يفهمون؟ مجانين.بعد هذا قال: [ لما تقرر في الآيتين السابقتين بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة أن إله الناس -أي: ربهم ومعبودهم- واحد وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه ]، والله! ما هو إلا واحد، لو تجتمع الخليقة كلها على أن توجد ثانياً فوالله! ما أوجدته.قال: [ أخبر ] بعد التقرير للألوهية، بعد تقرير الوحدانية لله، [ أخبر تعالى أنه مع هذا البيان وهذا الوضوح يوجد ناس ]، أي: مع هذه الأدلة الستة التي لا تبقي أبداً في النفس شكاً في أنه لا إله إلا الله، ومع هذا وجد ناس [ يتخذون من دون الله أصناماً ورؤساء يحبونهم كحب الله تعالى، أي: يسوون بين حبهم وحب الله تعالى ]. وبينت لكم هذا، فالمشركون في مكة وفي غيرها يجمعون بين حب الله وحب ألهتهم، والنصارى الآن كذلك، واليهود، والحب إذا شاركه حب آخر بطل، رد على صاحبه، فنحن نحب الله ونحب في الله، إن أحببنا طعاماً أحببناه من أجل الله، أحببنا زيداً أو عمراً أحببناه من أجل الله، ما هناك حب خارج عن دائرة حب الله، وإلا فنحن مشركون إذاً.قال: [ والمؤمنون ] بحق وصدق [ أشد منهم حباً لله ]، هم يحبون الله، لكن حباً ضعيفاً؛ لأن نصفه أعطاه لغير الله، توزع هذا الحب، ما أصبح حباً حقيقياً، أما المؤمنون الكمل في إيمانهم الصادقون فهم أشد حباً لله تعالى.قال: [ كما أخبر تعالى أنه لو يرى المشركون عند معاينتهم العذاب يوم القيامة ]، لو يرى المشركون الذين أشركوا في الدنيا مع الله غيره، [ عند معاينتهم العذاب يوم القيامة لرأوا أمراً فظيعاً يعجز الوصف عنه، ولعلموا أن القوة لله، وأن الله شديد العذاب ]، يدلك على هذا [ إذ تبرأ المتَّبعون وهم الرؤساء الظلمة ودعاة الشرك والضلالة من متبعيهم الجهلة المقلدين، وعاينوا العذاب أمامهم، وتقطعت تلك الروابط التي كانت تربط بينهم، وتمنى التابعون العودة إلى الحياة الدنيا لينتقموا من رؤسائهم في الضلالة، وكما أراهم الله تعالى العذاب فعاينوه يريهم أيضاً أعمالهم القبيحة من الشرك والمعاصي ]. والآن لا تقل: كيف يريهم الله أعمالهم؟ يري القاتل يقتل، والفاجر يفجر، والسارق يسرق، ولا تقل: كيف يمكن هذا؟ فالآن بعد شاشة التلفاز بقي شيء؟ تعرض أعمالهم هكذا، حتى يتمزقوا من الكرب والهم والحسرة، يريهم أعمالهم كما هي، وفي سورة الزلزلة: لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6]، من الذي يريهم أعمالهم؟ هو الله، الأولون يفسرون الآية بنتائج أعمالهم وثمراتها، لكن الواقع أن الأعمال ترى، والآن الواقع شاهد، يعرضون عليك معركة فتشاهد الدماء تسيل والرءوس تتقطع، والقتال دائراً، وينقلون صورة لفاجر تراها كما هي.[ وكما أراهم الله تعالى العذاب فعاينوه يريهم أيضاً أعمالهم القبيحة من الشرك والمعاصي فتعظم حسرتهم ويشتد كربهم، ويدخلون بها النار فلا يخرجونهم منها أبداً ] فقولوا: الحمد لله على أننا من أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله.

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات ]، كل آية تحمل هداية أو لا؟ أما قال تعالى: هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة:185]؟ كل آية تحمل هداية، كما أن كل آية تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لا توجد آية من الستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية لا تقرر أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن يسألني: كيف يا شيخ؛ فسأبين له كيف:فقوله تعالى: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]، هذا كلام أم لا؟ من تكلم به؟ أتقول: أبي.. أمي.. جدي.. شيخ القبيلة الفلانية؟ لن تجد من تكلم به سوى الله تعالى.إذاً: هذا الكلام هل يوجد بدون متكلم؟ أيستقر في عقولكم وجود كلام بدون متكلم؟ مستحيل، فمن المتكلم إذاً؟ الله، إذاً: الله موجود، وهذا القرآن كلامه كله علم وحكمة، ومظاهر الكون كلها تدل على علم الله وحكمته ورحمته.إذاً: الله عز وجل أخبرنا أنه لا إله إلا هو، وشهد بذلك شهادة، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ [آل عمران:18] أيضاً وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18] كذلك، فالآية وحدها تدل على وجود الله. والآية الواحدة تدل على أن محمداً رسول الله، لو لم يكن رسول الله فكيف يوحي الله إليه هذه الآية، هل أوحى الله إلينا نحن؟ منذ أن كنا وكانت البشرية إذا لم يوح إلى نبي فهل يوحي إلى غيره؟إذاً: فكل آية هي علامة على أنه لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم.فهذه الآيات الأربع فيها أربع هدايات، يا من يريد أن يهتدي إلى حب الله، يا من يريد أن يهتدي إلى رضوان الله، يا من يريد أن يهتدي إلى العلم والمعرفة بالله! إليك هذه الهداية من أربع آيات:[ أولاً: وجوب حب الله ]، الذي لا يحب الله والله! ما هو بمؤمن.. والله! ما هو بمؤمن .. والله! ما هو بمؤمن، حب الله لا بد منه، وأشد من حبك لأمك وأبيك، بل ونفسك التي بين جنبيك والناس أجمعين، اذكر ما أنعم به عليك، اذكر إفضاله، اذكر إحسانه، لولاه هل تكلمت أنا؟ لولاه هل جلستم أنتم؟ فصاحب هذا الإنعام، هذا الإفضال، هذا الإحسان، هذه القدرة، هذا الجلال، هذا الجمال، هذا الكمال، كيف لا يحب؟! والضائعون أحبوا الأمريكاني لاعب الكرة ماردونا والعياذ بالله. فطرتك يا آدمي تحب كل ذي فضل وإحسان وكرم، تسمع أن فلان شجاع فتحبه لشجاعته، فلان كريم تحبه لكرمه، فلان جميل الوجه والطلعة فتحبه، والله خالق الجمال، خالق الكمال، واهب الكائنات، كل ذلك فضله وإحسانه، فكيف لا تحبه؟ أما أخبر تعالى عنكم بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].قال: [ وجوب حب الله وحب كل ما يُحب الله عز وجل ]، هذه أخرى، كل ما بلغنا أن الله يحبه حتى المشية نحبها، حتى اللحظة والنظرة إذا بلغنا أن الله يحبها أحببناها، فإذا أخبر الله أنه يحب عبده فلاناً فإنا نحبه، وعلى أتم الاستعداد، متى علمنا أن الله يحب كذا أحببناه، ويجب، وإلا فقدنا الإيمان الصحيح.[ ثانياً: من الشرك الحب مع الله ]، هل هناك فرق بين الحب مع الله والحب لله؟ نعم. هل نحن نحب مع الله؟ لا، نحب بالله، أحب الله تعالى (سبحان الله وبحمده) فأحببناها، أحب الله صفوف الجهاد فأحببناها، أحب صفوف الصلاة فأحببناها، أحب الله محمداً فأحببناه، أحب الزهراء فأحببناها، نحب بحب الله، لا استقلالاً.قال: [ من الشرك الحب مع الله، ومن التوحيد الحب بحب الله عز وجل.ثالثاً: يوم القيامة تنحل جميع الروابط من صداقة ونسب، ولم تبق إلا رابطة الإيمان والأخوة فيه ]، كل الأسباب والروابط انحلت إلا رابطة الإيمان والأخوة فيه، أي: في الإيمان، هذه لا تنحل فحافظوا عليها.[ رابعاً: تبرؤ رؤساء الشرك والضلال ودعاة الشر والفساد ممن أطاعوهم في الدنيا واتبعوهم على الظلم والشرك والفساد، وليس بنافعهم ذلك شيئاً ]، تبرءوا ولكن ما ينفع التبرؤ، التبرؤ ينفع الآن، لا نقلد أعمى ولا نجري وراء جاهل، ولا نطيع حاكماً ولا محكوماً في معصية الله عز وجل.قال: [ تبرؤ رؤساء الشرك والضلال ودعاة الشر والفساد ممن أطاعوهم ]. هم تبرءوا لأنهم ما يستطيعون أن يقولوا: هؤلاء عبدونا، يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:109]، ما قالوا: أجابنا فلان ولم يجبنا فلان، فوضوا الأمر إلى الله عز وجل، أما المتبوعون فكل ما في الأمر أنهم يتحسرون ويتمزقون: آهٍ لو رجعنا إلى الدنيا لتبرأنا منهم.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-16, 03:38 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (108)
الحلقة (115)



تفسير سورة البقرة (74)

بعد أن عرض الله عز وجل أحوال أهل الشرك والمعاصي، وما انتهوا إليه من نهاية مرة وهي الخلود في النار، نادى سبحانه وتعالى البشرية جمعاء مبيناً لهم أنه أحل لهم ما في الأرض من الطيبات، أما ما نهاهم عنه وما لم يأذن لم فيه فإنه لا خير لهم في أكله، لما فيه من الأذى لأرواحهم وأبدانهم، ثم نهاهم سبحانه من اتباع خطوات وآثار عدوه وعدوهم؛ لأنه لا يقود إلا إلى الشقاء والهلاك، وخسران الدنيا والآخرة.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله، رزقنا الله وإياكم فهمه والعمل به. آمين.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات المباركات، وهي قول ربنا جل جلاله وعظم سلطانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:168-170].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني الكريم. ‏

عموم النداء بلفظ الناس لبني البشر

معاشر المستمعين! هذا النداء الإلهي عام يشمل الأبيض والأسود، الكافر والمؤمن، الأول والآخر، إذ لفظ الناس عام.أما نداءات الرحمن التسعون فهي خاصة بكم أيها المؤمنون، أما هذه النداءات بعنوان الناس فهي عامة. يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:168]، والناس لفظ مفرد دال على متعدد، من أين اشتق لفظ الناس؟ من ناس ينوس إذا تحرك، والإنسان يتحرك، فلعله اشتق هذا من ذاك، ولا عبرة بالاشتقاق، فالعبرة بأن نعرف من هم الناس؟ هل بنو تميم، سكان اليمن، الأوربيون؟ هذا الذي نحتار نريد أن نعرفه؟ قلنا: إنهم بنو الإنسان، مؤمنهم وكافرهم، عربهم وعجمهم، أولهم وآخرهم سواء، الكل مخلوق لله والله خالقهم، ناداهم ليأذن لهم بأن يأكلوا مما في الأرض: العنب، البرتقال، التفاح، الأرز، القمح، الشعير، الفواكه، الخضر، اللحوم، مما في الأرض، هذا الذي في الأرض من أوجده؟ الله جل جلاله، هؤلاء عبيده، فهل يستطيعون أن يعيشوا بدون أكل ولا شرب؟ كلا أبداً.

الإذن في أكل الطيب الحلال وتحريم الخبيث في غير ضرورة

فأذن لهم بقوله: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168] حال كونه حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168]، أما ما كان حراماً فلم يأذن فيه لهم أن يأكلوه ولا أن يشربوه ولا أن يركبوه حتى الجلوس عليه، ما حرمه الله تعالى- أي: حظره ومنع منه- فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أكله إلا في حالة بينها تعالى في كتابه، وهي حالة الاضطرار القصوى: إما أن يأكل وإما أن يموت، وجاء ذلك في قول الله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ [المائدة:3]، بطنه يبس من شدة الجوع، فلا بأس أن يأكل ما حرم الله من الميتة على أنواعها، ومن لحم الخنزير، لا بأس، ولكن بقيد: غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ [المائدة:3]، في مخمصة حال كونه غير مائل إلى الإثم، لا أنه يفرح فيقول: الآن نأكل من لحم الخنزير، الآن نأكل الميتة، بل لأنه أصبح مضطراً، يأكل وهو متألم ومتحسر ومتأسف، لا أن يقول: أذن لنا فيأكل ويفرفش.

المراد بالأمر في الآية الكريمة

إذاً: الأمر في الآية الكريمة للإباحة، وقد يكون للوجوب، لو أن شخصاً قال: أنا لا آكل، سأصوم الليل والنهار، فإنه يؤمر بالأكل وجوباً وإلا قتل نفسه، لا بد أن يأكل ويشرب إبقاءً على جسمه صالحاً لعبادة الله، إذ قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فهذه تدلنا دلالة واضحة أن علة وجودنا وسر حياتنا أن نعبد الله بما أحب أن نعبده به، لا بأهوائنا وما تزينه الشياطين لنا، ولكن بما أحب هو أن يعبد به، من الذكر إلى الدعاء وما بينهما مما شرع الله من العبادات. وكثيراً ما أعيد على أذهانكم أنه أراد الله عز وجل أن يذكر ويشكر، بمعنى: أراد أن يعبد، فأوجد هذه العوالم كلها علويها وسفلها، وأوجد فيها مواد بقاء أهلها، وخلق آدم وحواء، وأنزلهما وبارك في ذريتهما، حتى أصبحت الذرية لا يحصي عددها إلا الله، لم فعل هذا؟ ليعبد. وعالم الجن كذلك، وعالم الملائكة، أين البشر وأين الجن من عدد الملائكة؟ هذا الواحد منكم مكلف به عشرة من الملائكة، إذاً: فمن يحصي هذا العدد، لم فعل الله هذا؟ من أجل أن يعبد.إذاً: فالأكل والشرب لا بد منهما من أجل البقاء على الحياة التي بها يعبد الله، فمن هنا قد يقول: كلوا على سبيل الوجوب.

حقيقة وجود ما يؤكل على غير كوكب الأرض

ثم قوله تعالى: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168]، لو جاء كذاب بفواكه وخضر يقول: هذه أتينا بها من سطح القمر، فهل يجوز أكلها أو لا؟ أهل الورع والبصيرة يقولون: ما أذن الله لنا في أكل ما على الزهرة أو عطارد أو القمر، قال: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168] لا نأكل من غير الأرض، وإنهم لعلى حق.والحمد لله، ففرية صعود القمر انفضحت، انكشفت سوأتها، ظهرت عورتها، والحمد لله، ما أماتنا الله حتى أرانا الحق حقاً، أيام كنا في باب المجيد والإذاعات العربية تتعنتر، وصحف العرب الهابطين تتعنتر: صعدوا القمر! ونحن نرتعد خائفين نقول: يا عباد الله! لا تتمدحوا بأمجاد أعدائكم، لا تتبجحوا بفضائل أعدائكم، اجحدوها، فيضحكون: هذا جمود! ومضت فترة من الزمان، ووقعت في يدي مجلة صينية، قال صاحب المجلة: كذبة صعود القمر مؤامرة بين الدولتين العظميين لتخدير الشعوب والسيطرة على قلوبها، وما هي إلا أفلام تمت في الأرض، والله! كما تسمعون، وموقفنا نحن -المؤمنين- أننا قلنا: من الجائز أن يكون هذا، ولكن لا نثبت ولا ننفي، نقول: من الجائز، ولكن لا نتمدح بأمجاد أعداء الإسلام ونسبقهم إلى القول. وقلنا لهم: هيا نرجع إلى أربعة آلاف سنة، إلى بلقيس الملكة اليمنية، بلقيس ملكة اليمن، لما أراد سليمان أن يغزو بلادها، وما كانت المواصلات السلكية واللاسلكية والبرية، وإنما أناس يعيشون في إقليم لا يسمع بهم آدمي لقرون، فالهدهد طائر ممتاز، بارع في الذكاء والفطنة، واستخدم أيضاً في الجيوش والاطلاع على أسرارها، فالهدهد فقده سليمان؛ لأن الطير كان يحضره، ويحلق فوق جيشه، فافتقد الهدهد فسأل عنه، وقال متوعداً: مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّه ُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:20-21]، كيف يخرج عن النظام بدون إذن؟ وجاء بالخبر: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل:23-24]، كفار، وتم الذي تم، وخلاصته أنه أحضر عرش بلقيس بين يدي سليمان ورجاله، كرسي الملك من الذهب والفضة، فوضع بين يديها، فقال لها: أهكذا عرشك يا بلقيس ؟ قالت: كَأَنَّهُ هُوَ [النمل:42]، فهربت من الورطة، لو قالت: هو ولم يكن كذلك لقيل: هذه حمقى مجنونة، كيف يؤتى بعرشها من اليمن هكذا ويوضع بين أيدينا، ولو قالت: مستحيل، لن يكون؛ فإنها ضائعة؛ حيث تنفي حتى عرشها، فكيف تصلح للملك هذه؟ فاتقت العار والذم والملامة بكلمة خالدة، قالت: كأنه هو؛ حتى ما تؤاخذ، هكذا قلنا للعرب: قولوا: ممكن وجائز أن يكونوا قد صعدوا، ولكن الصين نفته لم؟ لأنها القوة الثالثة عدوة للغرب والشرق، فأرادت أن تحمي قلوب شعبها، حتى ما يخدروا بالخوف والهم، فكتبت وصرحت؛ ليبقى الشعب الصيني قوياً وقادراً، وأما العرب فلسان حالهم: اذبحوهم، امسخوهم، فإذاعاتنا وصحفنا تتغنى بأمجاد أمريكا وروسيا. وتمضي الأعوام ويعلن الذي كان يدعي أنه صعد القمر فقال: هذا كذب كامل، ما صعدنا ولا عرفنا قمراً! وما استطاعوا أن يقتلوه ولا أن يكذبوه، بل سكتوا، وطأطئوا رءوسهم.فقول ربنا: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168] لو يأتينا من الشمس، من القمر فلن نأكل.

امتناع دفن بشر في غير كوكب الأرض

ونظير ذلك قوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، كنت أحلف بالله: لن يستطيع أحد أن يبقى على سطح القمر حتى يموت ويدفن هناك، لا بد أن يدفن في الأرض؛ لأن الله قال: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، وإذا مات في القمر أو في الزهرة أو في عطارد أو في هذه الأفلاك فكيف يدفن هنا، ومن ثم عرفنا أنها كذبة، أرادوا أن يتمدحوا بالباطل ليضلوا البشرية ويسحروها بالباطل.ونظير هذه القضية أن المملكة -حفظها الله- صبرت وما اعترفت أبداً بالشيوعية، ولا أقرت بالسفارة في المملكة لأية دولة شيوعية، وحفظها الله واستمرت كذلك حتى تمزقت الشيوعية وتحطمت وباءت بالفشل، لولا الصبر لكنا ماذا سنصنع؟ سنقول: افتحوا سفارة لألبانيا وأخرى لكذا، والحمد لله. ومعنى هذا: إذا عرفت الحق يا عبد الله فاصبر، ما هي إلا أوقات وتنتهي ويظهر الحق كما هو، أما تذوقتم هذه؟ الشيوعية والاشتراكية والعلمانية والكفر والباطل الذي ملأ بلاد العرب ما سببه؟ أليست السفارات والاتصالات بروسيا؟ والله! إنها لهي، بل بعثوا أولادهم يدرسون في روسيا والدول الشيوعية، وبلغنا أن شاباً درس في روسيا وتخرج؛ يدرسون الكفر الخالص، لما دخل على أبيه وأسرته نظر إلى أخته فوجدها جميلة وطويلة فقال: يا أبي! زوجني بأختي! فقال له: أزوجك بأختك؟! قال: ماذا في أختي، أنا أولى بها! فقيل له: حرام هذا! فقال: من حرمه؟! هذه خرافات باقية في عقولكم! فما كان من ذلك الوالد إلا أن قام في ليله المظلم وذبحه كالكبش وفصل رأسه. لو كنا كـعبد العزيز وأبنائه حين استقللنا فلن نعترف بالشيوعية والإلحاد، ولن يدخلوا بلادنا ينشرون الكفر، وما كان سيحصل الذي حصل، لكن كنا نصفق لهم، هل فهمتم أيها الساسة والسياسيون أو لا؟ أم أن أهل القرآن لا سياسة لهم؟ إن الذي يقرأ كتاب الله ويفهمه هو أعلم إنسان على وجه الأرض بالسياسة، أما سياسة الزندقة والكذب والافتراء والباطل والتخمينات والحيرة فماذا أجدت؟ أي شعب ارتقى إلى الطهر والصفاء والكمال والكرامة والبشرية والآدمية بها؟ هبطوا وأصبحوا كالحيوانات، بل أقبح من الحيوانات أيضاً، فأين السياسة؟

أهمية توافر الحل والطيب في المأكول

يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:168] يا بني آدم! كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168] على شرط أن يكون حلالاً وطيباً، قد يكون حلالاً وهو مستخبث مستقذر فما يؤكل، عندك صحفة فيها أرز، فجاءت دجاجة وسلحت عليها، فهل تستقذرها أو لا؟ ما تؤكل، وإن كانت حلالاً فما هي طيبة، فالحلال: ما انحلت عقدة المنع منه بإذن الله تعالى بأكله أو شربه، وكونه طيباً شيء آخر، قد يستقذر ويستخبث بمرور الأيام، توجد فيه ديدان، يوجد فيه وسخ فما يؤكل؛ لأنه يؤذي الجسم الذي نحفظه لنذكر الله به ونعبده، هذه واحدة.

معنى قوله تعالى: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان)

ثم قال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، لم يا رب؟ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، أذن لنا في الأكل من الطيبات والحلال ولم يأذن لنا في اتباع خطوات الشيطان، وهل للشيطان خطوات يا شيخ؟ أي نعم، سأدلك عليها: حين يخرج الرجل من بيته ذاهباً إلى المخمارة إلى الحانة، إلى المزناة، إلى محل اللعب والباطل، فمن الذي يمشي أمامه وهو يتبع خطواته، أهو ملك؟ لا والله، بل الشيطان، هو الذي زين له وحسن له ودفعه ليمشي وراءه إلى أن يعمل المعصية.أزيدكم توضيحاً: كل من يمشي خطوة أو أكثر إلى معصية الله ورسوله فأول من حسنها وشجع عليها وزينها هو الشيطان، ثم يمشي أمامه وهو لا يشعر، حتى يصل إلى الجريمة ويقارفها. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، إذ الشيطان هو الذي فعل بالعرب العجب، ماذا فعل؟ هو الذي دعاهم إلى عبادة اللات والعزى ومناة وهبل والأصنام كلها، مع أنهم مؤمنون بالله يعرفون الله، يكفيهم أنهم يحجون بيته ويعتمرون، ويكرمون الحجاج ويفعلون ويفعلون، كانوا مؤمنين بالله، وزين لهم عبادة الأصنام بحكم التوسل بها إلى الله، والتقرب بها إليه.ثانياً: زين لهم تحريم أربعة أنواع من الغنم والإبل، ما هي؟ البحيرة والوصيلة والحامي والسائبة، هذه أنواع من الإبل والغنم من حرمها عليهم؟ الشيطان، والوصيلة التي تصل بطناً ببطن، أو تصلى أنثى بأخيها، يقولون: اتركوها للإله هبل، والبحيرة التي تعيش كذا سنة أو يفعلون كذا بها، يقولون: ابحروا أذنها واتركوها للات والعزى، والسائبة كذلك يسيبونها لأصنامهم.فمن فعل بهم هذا والله يقول: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [المائدة:103]، يقولون: هذا حرمه الله. فقال لهم: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] لا الذي حرمتموه أنتم بوسواس الشيطان.وخلاصة القول: ليس من حق أحد أن يحرم ما أحل الله، أو يحلل ما حرم الله، لم؟ لأن الملك الحق هو الله، كل ما في الأرض له، ما أذن فيه أحله، وما لم يأذن فيه حرمه، فهل يتدخل شيخ أو إمام ويقول: هذا ما ينبغي، لا تأكلوه، وهذا كلوه؟ فقد نازع الله في منصبه، نازع الله عز وجل في سلطانه، العبيد عبيده، وهو الذي يحل لهم ويحرم، وهذا جاء يريد أن يحل لهم ما حرم الله أو يحرم عليهم ما أحل الله، فنازع الله في الملك وفي الألوهية والعبادة والربوبية، هذا أقبح إنسان؛ الذي ينصب نفسه هذا المنصب.

معنى قوله تعالى: (إنه لكم عدو مبين)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، لم؟ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، ما معنى: مبين؟ ظاهر العداوة، لا تسفك دماء على الأرض بين بني آدم إلا والشيطان هو العامل، لا يتم خناً ولا زناً ولا رباً ولا كذب ولا باطل ولا شر ولا خيانة للأمانة ولا خلف للعهد، وكل الجرائم إلا وهو الذي زينها، أما قال أمام الله عز وجل: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]؟ لولا الشيطان فالإنسان بفطرته يكره الخيانة، يكره الكذب، يكره الظلم، ما تميل نفسه إليه أبداً، حتى يأتي هذا العدو بجيشه ورجاله، ويحسن ويغش ويخدع، وويل للغافلين.إذاً: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، هل يجوز لك أن تمشي وراء عدوك، السكين في يده أو البندقية ليدفنك تحت الجبل، وأنت تمشي وراءه، أين عقلك، أين يذهب بك؟ فلهذا إذا شعرت بخاطر يدعو إلى معصية الله والرسول فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وعاكسه، قم صل، حتى في الغضب حين يوقد النار في قلبك ويظهر الحمرة في عينيك وينتفخ أوداجك فهو نفخ فيك، فماذا تصنع؟ قل: الله أكبر وادخل في صلاة نافلة، فإنه يتمزق.فهل عرفت البشرية أن الشيطان عدوٌ لها؟ ما عرفت، الكفار من أين يعرفون؟ الجهال كيف يعرفون؟ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، أي: بين العداوة ظاهرها.
تفسير قوله تعالى: (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)

المراد بالسوء وبيان علة أمر الشيطان به

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، ثلاث سيئات من أقبح السيئات:الأولى: يأمركم بالسوء، وهو ما يسوء إلى النفس البشرية، فيلوثها ويخبثها ويعفنها وينتنها، حتى تصبح كأرواح الشياطين، لأن الله أصدر حكمه فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].إذاً: لكي يسعد بوجود بني آدم معه في عالم الشقاء، وهو يتبجح بينهم ويعقد أيضاً حفلة عظيمة، يعقد احتفالاً عظيماً في النار، وتجتمع عليه البشرية، وإليكم نص كلماته بالحرف الواحد، فالله قد علم ما سيقول، وكتبه قبل أن ينطق، جاء من سورة إبراهيم عليه السلام: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ [إبراهيم:22]، ماذا قال؟ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22]، الله أكبر! لولا القرآن فكيف سنحصل على خطبة تقال في عالم الشقاء؟ فالحمد لله.والله! إنها بالحرف الواحد، وإن كنت تشك في وجودك فشك في هذه الكلمات: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ [إبراهيم:22]، ودخل أهل الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار، واستقرت الأحوال، يقوم خطيباً، ويوضع له السرادق، كما تعرفون عن الزعماء حين كانوا يخطبون أيام الاشتراكية. فماذا يقول؟ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [إبراهيم:22]، فكلمة (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) تطرده ألف كيلو، فأي سلطان له؟ هل تشعر أنه يقودك إلى المعصية؟ كلا، بل تزيين فقط. وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]، ما هو إلا أن أدعوكم وأنتم تمشون ورائي وتأتون إلي: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]، إذاً: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22].وأخيراً ييئسهم: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ [إبراهيم:22]، أي: بمزيل صراخكم، فيصرخون إلى الأبد، وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22]، أنا أبكي وأندب فهل ستنفعونني؟ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22] أشركوه من قبل أم لا؟ كل من عبد غير الله عبد الشيطان؛ إذ هو الذي دعا إلى ذلك وزين وحسن. إذاً: هنا ثلاثة أفعال: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، أولاً: السوء: وهو ما يسوء النفس البشرية، ويجعلها تهبط إلى مستوى الحيوانات أو الشياطين في الخبث، كيف هذا؟ الكذب، الخيانة، السرقة، الكبر، العجب، الحسد، تلك العلل هي السوء، ما يسوء، الآن تقوم إلى الشيخ وتبصق في وجهه وتسبه، وتقول: اسكت يا وهابي يا ملعون، فماذا يحصل؟ تحصل إساءة بهذا أم لا؟ هذا هو السوء.

المراد بالفحشاء

يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ [البقرة:169] هل هناك أفحش من اللواط؟ ما عرفت البشرية من عهد آدم إلى عهد قوم لوط هذه الجريمة، حتى الشيطان علمهم إياها في كز يهم، فهل هناك أقبح من هذه؟ ما هناك أبداً، بل الحيوانات ما تفعلها، هل رأيتم فرساً ينزو على الفرس الذكر؟ هل زكجمل ينزو على الجمل؟ هل الكلب ينزو على الكلب؟ لا أبداً، ولكن الشيطان لما زين هذه الفاحشة وحسنها بلغنا أن أنزية موجودة في أوروبا، أندية اللوط، من يفعل هذا؟ هذا عدوكم، زين الفحشاء، والفحشاء بعد اللواط الزنا، فالزنا أفحش فاحشة: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، لو لم يكن فاحشة بالفطرة فمن الذي يرضى أن يز ى بأخته أو بأمه أو بامرأته؟ وإن كان فاجراً فإنه ما يرضى، النفس ما تقبل هذا، ولكن الشيطان يحسنها ويحمل عليها ويسوق إليها. قالوا: لفظ الفحشاء إذا أطلق فالمراد به الزنا واللواط، وأطلق لفظ الفحشاء على البخل في آية واحدة من كتاب الله من سورة البقرة: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] أي: بالبخل. فلم كان البخل فاحشة؟ لو كنا نعيش أيام الفطرة السليمة فإن الشخص إذا كان في يده أو بين يديه طعام وقلت له: أريد أن آكل معك فأنا جائع، فقال: لا؛ فكيف تنظر إليه؟ ما كانوا يعرفون البخل، إذا زاد عنك طعامك أو شرابك وهذا يموت بالعطش أو بالجوع فما تستطيع أن تمنعه. فلهذا من أصيب بهذه المحنة والشيطان غرسها فيه يصبح من أفحش ما يقول قوله هذا ومنعه. الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268] أي: إذا أنفقتم، يقول: إذا أخرجت ما في جيبك الآن تصاب بالفقر، فلا تنفق، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] بالبخل.

عظم خطر القول على الله بغير علم

والثالثة من عظائم المعاصي: القول على الله بدون علم: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169] هذه أعظم، ولم كانت أعظم؟ القول على الله بدون علم هو الذي يفسد الدين، ما الذي أفسد الديانات الإلهية؟ والله! إنه للقول على الله بدون علم، كاليهودية، النصرانية، الصابئة، والإسلام ما هبط إلا حين قال الناس بآرائهم وعقولهم. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169] ومن قال على الله بدون علم أباح الحرام أو حرم الحلال أو عطل كذا وكذا، وفي سورة الأعراف آية اشتملت على أصول المفاسد، والأولى منها أخف، والثانية أشد، والثالثة أشد، ثم الرابعة، والخامسة أعظمها، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].مرة أخرى: ما أفسد دين الله -سواء في المسلمين أو في غير المسلمين- إلا القول على الله بدون علم، فلهذا لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقول: هذا حرام أو حلال إلا إذا علم، ولا أن يقول: واجب أو جائز أو ممنوع أو بدعة حتى يعلم. وقد تقولون: معنى هذا أنك ألجمتنا بلجام؟ فأقول: أي نعم، نلجمكم خيراً من أن نهلككم. وشيء آخر: لو التزمنا بألا نقول إلا بعد علم ما بقي جاهل بيننا، كلنا نطلب العلم، لكن ما دام الواحد منا يقول كما يشاء فلماذا يتعب وينقطع ليطلب العلم، لماذا يرحل إلى البلاد الفلانية؟ قل بعقلك وكفى، ولهذا في قول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7] قلنا: حقيقة هذه الآية أنه ما يبقى جاهل في العالم الإسلامي ولا جاهلة أبداً، لم؟ لأن من كان عالماً هو عالم، وإذا سئل يجب أن يعلم، ومن لم يكن عالماً يجب عليه أن يسأل، وحرام أن يبقى بدون علم، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7]، لكن من بين لنا هذه الآية، وما عرفناها إلا بعد قرون مضت، فالقرآن لا يقرأ إلا على الموتى، وإذا سمعوا الشخص يقول: قال الله يغلقون آذانهم، وما يسمعون.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ...)

والآن مع المشركين في مكة وحولها: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا آبَاءَنَا [البقرة:170] أي: ما وجدنا عليه آباءنا. وهذا عندنا في القرى، في المدن، في الضواحي، في القاهرة، في العالم الإسلامي، صاحب السنة والبيان يقول كذا فيقولون: لا، نعمل كما يعمل علماؤنا، أنت وهابي، أنت من كذا، هل آباؤنا كلهم كانوا ضلالاً ما يعرفون إلا أنت تعرف؟ هذه هي، فمن يمليها؟ الشيطان. وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ [البقرة:170] في كتابه وعلى لسان رسوله، سواء قيل هذا لليهود أو النصارى أو للعرب والمشركين، فيحتجون بماذا؟ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170] ما نحن في حاجة إلى دين جديد. وهذا هو واقع البشر. فقال تعالى منكراً عليهم مستفهماً استفهام إنكار وتأديب: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا [البقرة:170] يتبعون آباءهم ولو كان آباؤهم جهالاً ما يعرفون ولا يعلمون؟ أعاقل يقول هذا؟ تتبع أباك وإن كان ما يفرق بين الكاف والياء ولا الكوع والبوع؟ أهذه حجة؟ فالتقليد الأعمى حرام، لا يحل لك أبداً أن تمشي وراء أعمى، أين يصل بك؟ إلى الحفرة، امش وراء ذي بصيرة وعينين، قلد عالماً، أما أن تقلد جاهلاً فلا، هكذا ينكر الله تعالى علينا، وانتفع بهذا خلق لا يحصون عدداً، من عهد الصحابة والتابعين وتابعي التابعين في القرون الذهبية ما كان أحد مقلداً آخر إلا قال الله وقال رسوله، لكن عرف العدو هذا وأماتونا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

نعود إلى الشرح للبركة من جهة، ولتقرير القضية من جهة ثانية. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات: الحلال: هو ما انحلت عقدة الحظر عنه ] أي: المنع منه، [ وهو ما أذن الله تعالى فيه ] من قول أو فعل أو أكل أو شرب أو اعتقاد، الحلال ما انحلت عقدة المنع والحظر منه، فلو سئلت عن الحلال ما هو؟ فهو الذي انحلت عقدة الحظر منه. وهنا اختلف أهل العلم: هل الأصل في الأشياء التحليل أو التحريم؟ منهم من قال: الأصل في الأشياء الحل حتى ينزل وحي بالمنع، ومنهم من قال: لا، الأصل في الأشياء المنع حتى يأتي إذن بالفعل، وهذه الآية شاهد للآخرين، فالحلال: ما انحلت عقدة الحظر عنه؛ إذ كان محظوراً.ثم قال: [ الطيب: ما كان طاهراً غير نجس ولا مستقذر تعافه النفوس ] كما شرحنا.[ خطوات الشيطان: الخطوات: جمع خطوة، وهي المسافة بين قدمي الماشي، والمراد بها هنا: مسالك الشيطان وطرقه المفضية بالعبد إلى تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم.عدو مبين: عداوته بينة، وكيف وهو الذي أخرج أبوينا آدم وحواء من الجنة ]، هل هناك عداوة أكثر من هذه؟ يطرد أباك وأمك من دارهما وتقول: ما هو عدوي؟ قال: [ وأكثر الشرور والمفاسد في الدنيا إنما هي بوسواسه وبإغوائه ] أنا قلت أولاً: ما سالت قطرة دم إلا وهو الذي أسالها، ما من ذنب إلا وهو الذي دعا إليه.قال: [ السوء: كل ما يسوء النفس ويصيبها بالحزن والغم ويدخل فيها سائر الذنوب.الفحشاء: كل خصلة قبيحة؛ كالزنا، واللواط، والبخل، وسائر المعاصي ذات القبح الشديد.ألفينا: وجدنا ]، وجاء في آية أخرى: مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [لقمان:21]، ألفاه على كذا: وجده على كذا.

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: بعد ذلك العرض لأحوال أهل الشرك والمعاصي والنهاية المرة التي انتهوا إليها، وهي الخلود في عذاب النار ]، كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] لا بعد مليون سنة ولا مليار، بل خلود أبدي.قال: [ بعد ذلك العرض لأحوال أهل الشرك والمعاصي والنهاية المرة التي انتهوا إليها، وهي الخلود في عذاب النار؛ نادى الرب ذو الرحمة الواسعة، نادى البشرية جمعاء ] لأن لفظ الناس عام، [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168] وهو عطاؤه وإفضاله، حلالاً طيباً؛ حيث أذن لهم فيه، وأما ما لم يأذن لهم فيه فإنه لا خير لهم في أكله؛ لما فيه من الأذى لأبدانهم وأرواحهم معاً ]؛ لأن المحرمات في نفس الوقت تضر بالجسم، كالجيفة، الدم، ولحم الخنزير بإجماع الأطباء أنه يضر. وعندنا لطيفة: هل تعرفون الدياثة؟ لا أراكم الله، نجانا الله منها، نحن فحول نغار على نسائنا وبناتنا، بالتجربة وجد أن الذين يأكلون لحم الخنزير يفقدون الغيرة، ويصبح يرى امرأته يصافحها فلان ويقبلها وهو ميت لا حركة به، من أين ورثوا هذا؟ لأن هذه الدياثة من الخنزير، لا يغار على أنثاه أبداً.ودائماً نقول: ما عندنا كلام نقوله بدون علم، فالخنزير موجود في غابات في جبال في العالم، الخنزير ما يغار على أنثاه، والجمل يغار أم لا؟ يغار، وله هدير، والقط يغار، وسائر الحيوانات إلا الخنزير -والعياذ بالله- فغيرته ميتة، من أكل لحمه وعاش على لحم الخنزير يفقد الغيرة من نفسه.إذاً: عرفتم لماذا حرم الله عليكم الخنزير؟ قال: [ فإنه لا خير لهم في أكله لما فيه من الأذى لأبدانهم وأرواحهم معاً، ثم نهاهم عن اتباع آثار عدوه وعدوهم، فإنهم إن اتبعوا خطواته قادهم إلى حيث شقاؤهم وهلاكهم، وأعلمهم وهو ربهم أن الشيطان لا يأمرهم إلا بما يضر أبدانهم وأرواحهم. والسوء، وهو كل ما يسوء النفس، والفحشاء وهي أقبح الأفعال وأردى الأخلاق، وأفظع من ذلك أن يأمرهم بأن يكذبوا على الله فيقولوا عليه ما لا يعلمون فيحرمون ويحللون ويشرعون باسم الله، والله من ذلك بريء، وهذه قاصمة الظهر والعياذ بالله تعالى، حتى إذا أعرضوا عن إرشاد ربهم واتبعوا خطوات الشيطان عدوهم ففعلوا السوء وارتكبوا الفواحش وحللوا وحرموا وشرعوا ما لم يأذن به الله ربهم، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتبعوا -إذاً- ما أنزل الله، قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. يا سبحان الله! يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم ولو كان باطلاً وضلالاً؟ أيقلدون آباءهم ولو كان آباءهم لا يعقلون شيئاً من أمور الشرع والدين، ولا يهتدون إلى ما فيه الصلاح والخير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-16, 03:45 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (109)
الحلقة (116)



تفسير سورة البقرة (75)

ندد الله عز وجل بالتقليد والمقلدين الذين يعطلون حواسهم ومداركهم، ويفعلون ما يأمرهم به رؤساؤهم، ويطبقون توجيهاتهم بتسليم تام، لا يعرفون لم فعلوا هذا ولم تركوا ذاك، ثم مثل سبحانه وتعالى حالهم بمثل عجيب، وهو أنهم حينما عطلوا قواهم العقلية واكتفوا بالتبعية صاروا كالأغنام التي لا تسمع من داعيها إلا مجرد الصوت، لكنها لا تفهم ولا تعي، وإنما تتجه إلى مصدر الصوت الذي ألفته دون تردد، حتى لو كان هذا النداء لها لتذبح.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت المبارك- ندرس كتاب الله عز وجل، ولنا رجاء أن يتحقق لنا ذلك الموعود على لسان سيد كل مولود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .وها نحن مع قول ربنا جل ذكره: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171].

أمر الناس بالأكل من الحلال الطيب دون المحرم

نعود إلى الآيات السابقة لهذه الآيات، وقد درسناها وما استوفينا كل معانيها، وهي قول ربنا جل ذكره: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:168]، وقد علمنا أن هذا نداء عام يشمل الكافر والمؤمن، والأبيض والأصفر والأحمر، فهو نداء لبني آدم أجمعين، والمنادي هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، الله الذي خلقهم وخلق هذه العوالم من أجلهم، خلقهم ليرى شكرهم ويسمع ذكرهم، ناداهم بهذا النداء العام فقال لهم: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168] إذ هو المالك لكل شيء، فما أذن فيه فهو الحلال، وما لم يأذن فيه فهو الحرام، هذه الأرض عبارة عن مائدة أوجدها الله لبني آدم وحواء، وقبل أن يتناسلا، وقبل أن يكثر هذا العدد من بنيهما أوجد هذه الأرض، فها هو ذا تعالى يقول لنا: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168] على شرط أن يكون حلالاً طيباً.فما كان حراماً ممنوعاً منهياً عنه من قبله تعالى، إذ الملك ملكه والمخلوقات مخلوقاته، فما أذن في أكله أو شربه أو لباسه فليأكل عبد الله وليشرب وليلبس، وما لم يأذن بل نهى ومنع وحرم فلا يحل للآدمي أن يلبس أو يأكل أو يشرب ما لم يأذن له فيه سيده ومالك أمره، مع العلم اليقيني أن الله عز وجل ما نهى أو حرم إلا لما في ذلك المنهي عنه أو المحرم من الضرر والفساد بحيث يعود على فاعله بالضرر في الدنيا أو الآخرة. ما نهى الله تعالى عن شيء أو حرمه أو منعه إلا لما فيه من الضرر، أي: فيه ما يضر بفاعله، وإن شئتم حلفت لكم في ذلك، ما حرم الله قولاً ولا عملاً ولا فكراً ولا اعتقاداً إلا لأنه ضار بابن آدم، إن عاجلاً أو آجلاً، لا بد من الضرر. وإن قلتم: لم؟ فالجواب: لأنهم عبيده وهو خالقهم وسيدهم ومولاهم، وخلقهم من أجل أن يسمع ذكرهم له ويرى شكرهم له، فهو -والله- لأرحم بهم من أنفسهم. وأذكر هنا وتذكرون: أن امرأة في غزاة من الغزوات وقعت في السبي فطلبت طفلها فما وجدته، فاحترق كبدها وهاجت نفسها وأخذت تبحث عنه حتى وجدته، فضمته إلى صدرها وهي تبكي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله عز وجل لأرحم من هذه المرأة بولدها )، لأرحم بعباده من هذه المرأة بطفلها، فكيف إذاً لا يمنعهم مما يؤذيهم ويفسد حياتهم عليهم؟ أما الذين ما عرفوا الله ولا آمنوا به -كما سيأتي حالهم في الآيات الآتية- فهم كالأموات، بل الأموات أحسن حالاً منهم، هذا بالنسبة إلى العقلاء البصراء أهل الإيمان والمعرفة. يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168]، وهنا لفتنا النظر إلى أن من أراد أن يفتري فرية ويكذب كذبة وينمق ويحسن ويقول: نأتيكم بالبقلاوة، أو بالبطاطس من القمر أو من كوكب الزهرة أو عطارد لا يسمع لكلامه ولا يلتفت إليه، وإنه دجال كذاب، لأن الله قال: مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168]، فما كان خارج الأرض لا حق لنا فيه ولا يصل إلينا ولسنا من أهله. كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168]، وكلمة (طيب) نعت للفظ الحلال، معناه: غير مستقذر ولا مستخبث، فيوجد طعام مستقذر مضت عليه ليال فتعفن، وجدت فيه جراثيم، يوجد طعام خبث وتعفن، أو ألقي عليه بعض النجاسات، فلا تقولوا: هذا مما أحل الله، فالله قيد ذلك بقوله: حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168].

نهي الله تعالى الناس عن اتباع خطوات الشيطان

ثم وجه إليهم هذا النهي، بعد ما أذن لهم في الأكل وأباحه لهم لقوام حياتهم حذرهم من الخطر الأحمر، فقال: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، يا بني آدم! يا أيها الناس! لا تتبعوا خطوات الشيطان، فهل للشيطان من خطا؟ أي نعم، ما يستطيع أن يأخذ بثوبك أو يضع السلسلة في عنقك ويقودك إلى المزناة أو إلى المخمارة أو إلى مجالس الباطل أو إلى سلوك الانحراف، هذا ما يقدر عليه وما هو شأنه، وإنما يمشي أمامك ويزين لك ويحسن لك ذلك القبيح، فإن مشيت وراءه فوالله! ما انتهى بك إلا إلى معصية ربك. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، إذاً: اعلموا -والعلم ينفع- أن كل ما حرم الله عز وجل من الاعتقادات والأقوال والأفعال على اختلافها وتنوعها؛ ما حرمها إلا لضررها وفسادها وما تنتجه لعباد الله من الضرر والأذى في الحياتين: في الدنيا والأخرى، وأن تلك المحرمات الشيطان مهيأ لدعوة الناس إليها وحملهم على إتيانها بالوسائل التي يملكها، ولا يملك سوى التزيين والتحسين، يجري الشيطان من ابن آدم مجرى الدم من العروق، ويتصل بقلبك محطة الإرسال والتلقي، وقد يفسد قلبك عليك، ويصبح يأمر وينهى وأنت تستجيب، واقرءوا توجيه الله عز وجل لنا لطلب المناعة والحصانة والحفظ من هذا العدو، اقرءوا قوله في آخر سورة من كتابه العزيز: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:1-6].هذا هو القلب، وهو إذا ما استعذت بالله ولا لجأت إليه ولا احتميت بحماه؛ فإنه يرفع رأسه ويسيطر على قلبك ويملي ما شاء أن يملي، فإذا استيقظت وعذت بالله واستعذت انخنس، لأننا قررنا غير ما مرة أن قلوبنا كالمحطات للتلقي والإرسال، فمن عصمها وحفظها من الشياطين كانت تلك المحطة صالحة لتتلقى عن الله، وإن دمرها إبليس وخربها ما بقي لصاحبها شيء، واستدللنا بقول ربنا من سورة الأعراف: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ [الأعراف:200-201] طيف مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ [الأعراف:201-202] إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202]. فبهذا إن عملت حراسة كاملة لمحطتك فلن يصل إليها العدو ولن يفتنك ولا يفتن غيرك بك، وإن أنت أهملتها واحتلها وأصبح الذي يعطي ويأخذ فقد انتهى أمرك يا عبد الله: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200].اسمع: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201] اتقوا من؟ الله. كيف اتقوه؟ ما عصوه، ما أهملوا ما أوجب ولا غشوا وارتكبوا ما نهى عنه وحرم، هؤلاء جهازهم صالح للتلقي والإرسال، بدليل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، والرادارات الموجودة للحراسة في العالم إذا حومت طائرة العدو يتلقونها من أقصى البلاد لقوة هذه الأجهزة الرادارية، والمؤمن له هذا الجهاز، ذو الروح الزكية والنفس الطاهرة التي ما تلوثت بأدران الذنوب وأوساخ الآثام، هذه الروح في صفائها كالرادار الصالح للعمل، فبمجرد أن يحوم العدو يضربه. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202] ولا يقصرون في الذنوب والآثام. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168] جمع خطوة، وهي كل طريق إلى معصية الله ورسوله، تلك هي خطوات الشيطان، وهناك من سورة النور يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النور:21] هذا خطاب لأولياء الله، لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21]، وعندنا ملايين البشر والله! ليأمرون بالفواحش ويحسنون ويزينون ويظهرون في مظاهر الدعوة الصريحة إليها، فالذين يمشون وراء الشيطان يوماً بعد يوم لا يأتي زمن إلا وهم دعاة الباطل والمنكر.

الإخبار عن عداوة إبليس الظاهرة لبني آدم

ثم قال تعالى معللاً للنهي عن اتباع خطواته: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168] بين العداوة ظاهرها، ومن هنا فإني أحلف بالله أنه ما ارتكبت جريمة على وجه الأرض من بني آدم إلا والشيطان هو الذي دعا إليها وحمل عليها، وقد عرفنا ببيان ربنا لنا أنه ناقم ساخط علينا لأننا السبب في شقائه وخسرانه، أليس هو الذي أخرج آدم من الجنة مع حواء؟ إذاً: وهو كيف أبلس وطرد من رحمة الله وأيس من الخير؟ بسبب ماذا؟ بسبب آدم، لما خلق الله تعالى آدم ومضى عليه أربعون سنة بأيامنا هذه، كما قال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]، فكان إبليس يمر بهذه الصورة من ذاك الطين ويقول: إن لهذه شأناً، يتوقع أن يكون لها خطر عليه، فلما نفخ الله تعالى فيه الروح وأصبح آدم حياً يسمع ويبصر؛ أمر تعالى ملائكته أن يسجدوا لآدم تحية، السجود لله والتحية لآدم، كصلاتنا خلف مقام إبراهيم، الصلاة لله ولكن المقام تشريف له لما قدم من خدمة جلى لله في بناء بيته، فأمرنا الله أن نوقع هذه العبادة دونه: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فالصلاة لله.فسجود الملائكة لمن؟ لله؛ إذ هو الذي أمر به، والفضل والشرف لمن يحصل؟ لآدم، وأسجد له ملائكته، هذا العدو أبى أن يسجد تكبراً، وقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف:12]، وعلل فقال: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، والنار أسمى وأشرف من الطين الهابط. وقالت العلماء: لقد أخطأ إبليس في نظريته هذه كما يخطئ أصحاب النظريات، أخطأ بدليل أن النار تحرق، أليس كذلك؟ والطين ينبت الزهور والفواكه وأنواع الخضر، فأيهما أفضل: النار أم التراب؟ التراب، والطين أفضل، فقاس قياساً أخطأ فيه، وما أصاب. إذاً: فلما أفلس ويئس من رحمة الله واجه الحق بما أخبر تعالى، فقال: فَبِعِزَّتِكَ [ص:82] يا رب لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83].فهاهو ذا تعالى يقول: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168] عداوته ظاهرة، كيف تستجيبون لندائه؟ كيف تمشون وراءه؟ كيف تأخذون في الخطوات التي يخطوها بكم إلى سخط الله تعالى ونقمته وعذابه؟ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، فمن سمع نداء الله وأجابه نجا، ومن أعرض عنه هلك كما سيأتي بيان ذلك.

دعوة الشيطان إلى السوء والفحشاء والقول على الله بغير علم

ثم قال تعالى: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169] هذه عظائم ثلاث، أولاً: يأمركم بالسوء، وهو ما يسوء إلى النفس البشرية، ما يسوء إلى الإنسان في عقله، في دمه، في بدنه، في ماله، في أخلاقه، لا يأمر إلا بما يسوء ويضر ويفسد، كما يأمر أيضاً بالفحشاء، وقد علمنا أن الفحشاء هو الذي قبح واشتد قبحه، فكل ما قبح وعظم قبحه واشتد فهو فحشاء، ولكن إذا أطلقت الفحشاء في القرآن فافهم أنها الزنا واللواط، وأطلقت مرة واحدة على البخل من سورة البقرة: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] أي: بالبخل لتبخلوا، وما عدا هذا فلفظ الفحشاء هو الزنا واللواط: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [النمل:54] في آيات قوم لوط.والثانية: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، هذه مدمرة أكثر من الأولى والثانية، والناس عنها غافلون. وَأَنْ تَقُولُوا [البقرة:169] ويأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون، فتصفون الله بغير ما وصف به نفسه، وتقولون على الله بغير علم، وتحللون وتحرمون وتشرعون وتبيحون وتمنعون وتنسبون ذلك إلى الله، والله ما حرم ولا شرع ولا أمر ولا قال.فما وجه هذه الحقيقة؟ وجهها أنه لو أن كل إنسان التزم بألا يقول على الله إلا ما علم منه بواسطة كتبه أو رسله لما كان للجهل وجود بين الناس، نحن في ديارنا الإيمانية لو التزم أهل البلد أو أهل القرية بألا يقول الرجل ولا المرأة إلا ما علم، وما عدا ذلك لا ينطق ولا يتكلم ولا يفتي ولا يأذن؛ لوجدتمونا نطلب العلم نساءً ورجالاً وكباراً وصغاراً، فالذي حرمنا من طلب العلم أننا نقول بالجواز والمنع بدون إذن من الله، فلو خفنا من الله وعرفنا أن القول عليه من أكبر الذنوب وأعظم الخطايا لما تجرأ أحدنا أن يقول على الله بدون علم، وحينئذ أصبحنا مضطرين إلى طلب العلم، وقد جاء في سورة الأعراف بيان عظائم الذنوب في سلسلة، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33] لا فرق بين الزنا العلني أو السري، وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، الأولى أخف والثانية أعظم ثم الثالثة، وآخرها: القول على الله؛ لأن القول على الله يبطل شرائع الله، ما دام كل واحد يقول بما شاء وينسب ذلك إلى الله فما بقي تشريع ولا بقي علم ولا علماء، أكبر الذنوب أن يقول العبد أو الأمة على الله ما لا يعلم، فيقول: هذا حلال أو حرام، هذا يجوز، هذا ممنوع بدون علم. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فهذا مما يأمر الشيطان به ويحسنه ويزينه لأصحابه، فتهلك الأمة وتضل. فهذه الآيات درسناها فيما سبق.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ...)

والآن مع قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ [البقرة:170] من هؤلاء؟ إنهم المشركون على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ هم الذين حرموا السائبة والوصيلة والحامي، وقالوا: هذه نذرناها للآلهة لا يحل أكلها، وفيهم نزل هذا الخطاب: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168] إذ هو الذي حرم عليكم ما أحل الله لكم، فاخترعوا مذهباً أو طريقة أو تقنيناً وشريعة وقالوا: السائبة من الإبل والحامي من الجمال والوصيلة من النوق هذه لا تحل لنا؛ لأنها للآلهة، من حسّن لهم هذا؟ من زينه؟ من علمهم هذا؟ الشيطان، اتبعوا خطواته فوقعوا في هذا. إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، بدليل أنه قال تعالى لهم: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151]، لا الذي حرمتموه أنتم أو مشايخكم أو رؤساؤكم أو أهل الديانة الباطلة عندكم، وإنما أنا أقرأ عليكم ما حرم عليكم ربكم، وذكر لهم عشر محرمات. وهنا قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ [البقرة:170]، يا عباد الله! أنتم عبيده أم لا؟ فاتبعوا ما أنزل في كتابه وعلى لسان رسوله من الواجبات والمستحبات ومن بيان المحرمات والممنوعات، فكان جوابهم: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170]، هذا هو الجمود والتقليد الأعمى، الرسول صلى الله عليه وسلم ورجاله ودعاته وأصحابه يقولون لهم: اتبعوا ما أنزل الله في العبادات، في الآداب، في الأخلاق، في الشرائع، في التقنين، في الحقوق، في كل شيء اتبعوا ما أنزل الله، فكانت حجتهم الباطلة: لا، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا.

مرض تقليد الآباء والمشايخ في العالم الإسلامي

هذا المرض انتشر في أمتنا أيضاً بعد دخولها في الإسلام ورحمة الله، وأصبح الكثيرون يرفضون كل دعوة تأتيهم من طالب علم أو شيخ من مشايخ العلم، ويقولون: يكفي ما وجدنا عليه أهل بلادنا، فكم من بدع، فكم من ضلالات، فكم من صور واضحة للشرك بالله عز وجل، ويتمسكون بهذه الكلمة: حسبنا ما وجدنا عليه مشايخنا أو آباءنا وأجدادنا! فهذا القول أنكره الله وقبحه، فكيف يبين لك الحق وتقول: لا، نحن أهل هذا الإقليم أو البلاد ما عندنا هذا، نعيش على ما عاش عليه أجدادنا؟ ولكن هذا هو الواقع، لم؟ لأن الشيطان هو الداعي لذلك والحامل عليه والواقف على نشره ودفع الناس إليه. وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا [البقرة:170] لا، بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170] وألفينا بمعنى: وجدنا. ألفيت فلان عند فلان: وجدته. والآن حين نقول لحكام العالم الإسلامي: اتبعوا ما أنزل الله في أحكامكم فطبقوا ما شرع الله لكم، يعتذرون: وجدنا الوضع هكذا، ما نستطيع تغييره، فهل هذه حجة؟ والله! ما هي بحجة، وإنهم لمؤاخذون. قد تقول: يا شيخ! لا تحلف، وأقول: قد أخذهم الله، فعن الفقر والذل والبلاء والمصائب والمحن لا تسأل، فهذه ثمرة ماذا؟ نتيجة الإعراض عن شرع الله عز وجل، والله! لو طبقوا شرع الله في بلادهم لسادهم أمن ما عرفته الدنيا، ولسادهم طهر ما عرفته الحياة، ولسادهم شبع ما عرفته أوروبا ولا غيرها، لكن حجتهم: ما نستطيع، ما عرفنا هذا، ما وجدنا كذا. ومن دفعهم إلى هذا؟ الشيطان: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:168-170] قال تعالى: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170]، أيقولون هذا ويحتجون به ويقفون عنده ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟نعم نحتج بما بين لنا آباؤنا ودعونا إليه وعشنا عليه إذا كان على نور من الله، إذا كان من كتاب الله، من هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا كان آباؤنا وأجدادنا عقلاء علماء بصراء.أما أن نحتج بآباء جهال وأجداد لا يعرفون الشرق من الغرب فكيف يمكن؟ هذه معرة كبيرة أن يقفوا هذا الموقف ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون إلى خير وإلى معروف أو إلى كمال. فهنا التقليد الأعمى محرم بيننا أيها المسلمون، التقليد: هو أن تقبل قول الغير بدون دليل ولا حجة ولا برهان، وإنما قال فلان، فلا بد أن نتبع العلماء العارفين بالله البصراء الذين أهلهم الله لمعرفة شرعه ودينه وبينوه للناس ودعوا إليه، أما أن نقلد من لا يعلم فهذا التقليد باطل وحرام، ويكفي هذا الإنكار الإلهي: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170]، ما وكلنا الله إلى الآباء ولا إلى الأجداد، بل وكلنا إلى كتابه، فإن قال العالم قولته ننظر: هل مصداقها في كتاب الله أو في سنة رسول الله؟ فإن وجدنا ذلك فأهلاً وسهلاً ومرحباً، فإن وجدناها فرية أو ضلالة أو جهالة ما وجدنا لها دليلاً من كتاب ولا سنة رفضناها وتبرأنا منها ولم نقبلها، لأننا أهل نور وبصيرة.

معنى قوله تعالى: (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)

أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170]، فتقليد الجهلة حرام، تقليد الضلال حرام، تقليد العلماء بدون معرفة الدليل كذلك لا يجوز، لا بد من معرفة دليل هذا الحكم الذي قاله العالم، ومعنى هذا: يجب أن نكون كلنا علماء؛ لأن مصدر العلم قال الله وقال رسوله، ما يحتاج إلى بناية كليات ولا مدارس، في بيوت الله، في القرى، في الأرياف، في الجبال أهل القرية يجتمعون من المغرب إلى العشاء بنسائهم وراء الستارة وأطفالهم دونهن والفحول أمامهم، وليلة آية وليلة حديث مع الله ورسوله طول العمر، والله! ما يبقى جاهل ولا جاهلة وإن كانوا لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، كما كان أصحاب رسول الله أكثرهم لا يقرأ ولا يكتب أبداً، فقط حفظوا ما قال الله، فهموا معناه، عملوا به، ما هي إلا سنيات معدودة والقرية كلها نور، وإذا عمها النور نور العلم فهل يبقى فيها ظلمة الجهل: الزنا واللواط والربا والخيانة والكبر والعجب والسخرية؟ والله! ما كان ولن يكون. والبرهنة أننا دائماً نقول: أيما أهل قرية انظر إلى أعلمهم بالله وأتقاهم لله، وطبق من الآن، أيما أهل حي من الأحياء أعلمهم بالله أقلهم خيانة وكذباً وسرقة وفجوراً وباطلاً، ومن يرد هذا الكلام؟ فلهذا إذا علموا وعرفوا ارتقوا وسموا، وصلوا إلى الكمال الذي أعده الله لأمة الإسلام.

تفسير قوله تعالى: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ...)

والآن مع هذه الآية: مثل عجيب يروح على النفس: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:171] مع داعيهم إلى الله موجههم إلى الكمال والإسعاد في الحياتين، كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ [البقرة:171] نعق الغراب ينعق ونعب ونغق ونعق: إذا رفع صوته. كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ [البقرة:171] أي: ينعق ببهائم، بحيوانات لا تسمع، إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171] أنت مع الغنم، مع البقر تتحدث، فهل تفهم شيئاً؟ لا تسمع ، إلا إذا قلت (وا) بأعلى صوتك. إِلَّا دُعَاءً [البقرة:171] والدعاء هو الصوت القريب، كدعائنا لله؛ لأن الله ما هو ببعيد منا، فنقول: يا رب.. يا رب! بدعائنا، ولا نناديه المناداة للبعيد، نحن ننادي الله أو ندعوه؟ هل قال تعالى: (ادعوا ربكم) أو قال: نادوه؟ هل في القرآن: نادوه؟ ادعوه لأنه معكم. كيف يكون معنا يا شيخ؟ إذا كانت الأرضون السبع والسماوات السبع يضعهما في كفه فأين البعد؟ نحن بين يديه، هو فوق عرشه بائن من خلقه، والخليقة كلها بين يديه، لا يخفى عليه من أمرهم شيء، فلهذا تدعو ربك: يا رب.. يا يا رب، يا الله، يا عليم، يا حليم، ما هناك حاجة إلى أن ترفع صوتك.وقوله: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ [الأنبياء:89] ناداه نداء خفياً: يا رب.. يا رب! هب لي من لدنك ذرية، والشاهد عندنا في لغة القرآن: أن النداء غير الدعاء، الدعاء للقريب والنداء للبعيد. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]، إذاً: فيا أيها الداعي! تسلى، لا تحزن، لا تكرب، إن كنت تدعو كفاراً مشركين إلى الله فلا تفهم أنك بمجرد أن تقول: أيها الناس! أيها القوم! آمنوا وافعلوا فإنهم سيستجيبون، حالك معهم كحال من مع غنم أو بقر أو إبل أو حيوانات يدعوها ويناديها إذا كانت بعيدة، فلا تسمع إلا الدعاء إن كانت قريبة أو النداء، أما أن يفهموا عنك الحلال والحرام والطيب والخبيث والصالح والفاسد فما هم بأهل لذلك أبداً.وذكر ابن جرير معنىً لطيفاً لهذا أيضاً، قال: حال الكفار مع أصنامهم وآلهتهم التي ينادون ويعبدون ويتبركون ويذبحون ويعكفون حولها؛ كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء. وهو كذلك، لكن المعنى الأول هو أن مثل الداعي إلى الله مع الكفرة والمعرضين كالذي يدعو وينادي الصم البكم الذين لا يعقلون، فلا يحزن ولا يكرب وليواصل دعوته، لا يفهم أنه بمجرد أن يقول: أيها الناس! إن ربكم واحد فآمنوا به سيستجيبون، أنى لهم ذلك والشياطين قد أعمتهم وأصمتهم وحجبت عنهم كل نور وهداية؟ فتحتاج إلى مواصلة الدعوة وتلوين الأسلوب وتغيير النظام شيئاً فشيئاً عاماً بعد عام حتى تصل؛ لأن حالك وحالهم كما قال الله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:171] بربهم وألوهيته، بلقائه، بكتبه، برسله، حجبوا حجباً كاملاً عن الله فلا يعرفونه ولا يعرفون أسماءه ولا صفاته، حالهم كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [البقرة:171] ويرفع صوته بما لا يسمع إلا دعاء أو نداء فقط، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] فكان المؤمنون وعلى رأسهم نبيهم يتسلون بمثل هذه، ما يحزنون، ما يكربون، ما يشتد ألمهم عندما ترفض دعوتهم ولا يجابون لها، لأن القوم هكذا، هذا شأن الكافر، أعماهم الشيطان وأصمهم وذهب بسمعهم وأبصارهم، فكيف يستجيبون لك؟ استعن بالله عز وجل وواصل دعوتك في حدود قدرتك وما تستطيع، والأمر لله.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

لنستمع إلى شرح هذه الآيات، حيث قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات: مثل: المثل: الصفة والحال ]، فلان مثله مثل كذا، أي: صفته وحاله كحال كذا.[ ينعق: يصيح، والاسم النعيق، وهو الصياح ورفع الصوت.[ الدعاء: طلب القريب؛ كدعاء المؤمن لربه: يا رب يا رب. النداء: طلب البعيد، كأذان الصلاة ]، يقول: حي على الصلاة على خمسة كيلو حول المدينة، فهذا نداء أم دعاء؟ وفي الحديث: ( قم فألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً ) . [ والصم: جمع أصم، وهو فاقد حاسة السمع فهو لا يسمع.البكم: جمع أبكم، فاقد حاسة النطق فهو لا ينطق.لا يعقلون، أي: لا يدركون معنى الكلام ولا يميزون بين الأشياء لتعطل آلة الإدراك عندهم، وهي العقل ]، العقل أخذه الشيطان وصرفه كما شاء.

معنى الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآية الكريمة:لما نددت الآية قبل هذه بالتقليد والمقلدين ]، أما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170]؟ قال: [ لما نددت الآية قبل هذه بالتقليد والمقلدين الذين يعطلون حواسهم ومداركهم ويفعلون ما يقول لهم رؤساؤهم ويطبقون ما يأمرونهم به مسلمين به لا يعرفون لم فعلوا ولم تركوا؛ جاءت هذه الآية بصورة عجيبة ومثل غريب للذين يعطلون قواهم العقلية ويكتفون بالتبعية في كل شيء حتى أصبحوا كالشياه من الغنم يسوقها راعيها حيث شاء، فإذا نعق بها داعياً لها أجابته ولو كان دعاؤه إياها لذبحها ] وهو كذلك، [ وكذا إذا ناداها بأن كانت بعيدة أجابته وهي لا تدري لم دعيت، إذ هي لا تسمع ولا تفهم إلا مجرد الصوت الذي ألفته بالتقليد الطويل والاتباع بدون دليل ].عندي مثل: الذين خرجوا عن مذهب أهل السنة والجماعة من الفرق والضالة والله! لهذه حالهم، لو كانوا عقلاء وقد سمعوا أن العالم الإسلامي هم أهل السنة والجماعة، هم أصحاب رسول الله وأتباعهم إلى يوم القيامة؛ فكيف سيعيشون متقوقعين هناك بمذاهب ومبادئ وكلام يمليه عليهم رؤساؤهم ومشايخهم ولا يسألون؟ هل جاءنا واحد وسألنا في ليلة من الليالي؟ أبداً. والله! لهذه حالهم، كيف يرون أن العالم الإسلامي هم أهل السنة والجماعة وأن الفرق الضالة منها الكافر ومنها الضال ولا يسألون؟ يقولون: وجدنا آباءنا هكذا، وتقليداً لمشايخهم، ولا يقولون: أين الدليل من قال الله وقال رسوله![ فقال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:171] في جمودهم وتقليد آبائهم في الشرك والضلال كمثل غنم ينعق بها راعيها، فهو إذا صاح فيها داعياً لها أو منادياً لها سمعت الصوت وأجابت ولكن لا تدري لماذا دعيت ولا لماذا نوديت؛ لفقدها العقل. وهذا المثل صالح لكل من يدعو أهل الكفر والضلال إلى الإيمان والهداية، فهو مع من يدعوهم من الكفرة والمقلدين والضلال الجامدين كمثل الذي ينعق ] بالغنم والإبل.

هداية الآية

هذا وفي الآية هدايات في ثلاثة مواضع: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآية: من هداية الآية الكريمة:أولاً: تسلية الدعاة إلى الله تعالى عندما يواجهون المقلدة من أهل الشرك والضلال ]، يتسلون بهذه الآية.[ ثانياً: حرمة التقليد لأهل الأهواء والبدع ]، صاحب بدعة وطالب هوى لا نقلده ولا نمشي وراءه ولا نتبعه أبداً.[ ثالثاً: وجوب طلب العلم والمعرفة حتى لا يفعل المؤمن ولا يترك إلا على علم بما فعل أو بما ترك ]، هذا واجبنا وهذا طريقنا.[ رابعاً: لا يتابع إلا أهل العلم والبصيرة في الدين؛ لأن اتباع الجهال يعتبر تقليداً ] والعياذ بالله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-18, 10:57 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (110)
الحلقة (117)



تفسير سورة البقرة (76)

بعد أن ذكر الله حال الكفرة المقلدين لآبائهم في الشرك، وما أقدموا عليه من تحريم ما أحل سبحانه وتعالى من الأنعام، نادى هنا سبحانه وتعالى عباده المؤمنين آمراً لهم بأن يأكلوا من طيبات ما رزقهم، وأن يشكروه على ما أنعم به عليهم من حلال اللحوم، ولا يحرموها كما حرمها مقلدة المشركين؛ لأنه ليس لهم إلا أن يحرموا ما حرمه الله عز وجل من ميتة ودم ولحم خنزير وما أهل به لغيره تعالى.

تحقق الكمال والطهر في تعلم الكتاب والحكمة في المساجد

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين المباركة- ندرس كتاب الله، آملين، راجين، طامعين في ذلك الموعود الذي جاء على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .ولم يرغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القضية بالذات؟ لعلمه أن هذه الأمة لن تكمل ولن تسعد، لن تسمو ولن ترتفع إلا إذا اجتمعت في بيوت ربها على كتابه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن طالبنا بالدليل وقال: ما البرهنة على ما تقول؟ نقول: أيام كانت هذه الأمة تتعلم الكتاب والحكمة في بيوت ربها من أهل الكتاب والحكمة بلغت من الكمال شيئاً -والله- ما بلغته أمة على وجه الأرض، كمال الطهر والصفاء، كمال العزة والكرامة والسمو والعلو والآداب والأخلاق، في خلال خمس وعشرين سنة فقط حملت راية الكتاب والسنة إلى ما وراء نهر الصين شرقاً وإلى ديار الأندلس غرباً، ولا تملك صواريخ ولا هيدروجين ولا ذرة، وإنما إيمان صادق ويقين ثابت ومعرفة، علم بالكتاب والسنة. ومن أراد أن يرد علينا فليتفضل، فليجمع أهل قرية من قرى العالم الإسلامي سواء كانوا عرباً أو عجماً، يجمعهم بنية أن يتعلموا الكتاب والحكمة ليزكوا ويسموا ويطهروا، ويجمعهم بنسائهم وأطفالهم وذلك كل ليلة وطول العام من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، ويجلس لهم رباني يعلم الكتاب والحكمة كجلوسنا هذا، ليلة آية والتي بعدها حديث، الليلة آية والتي بعدها حديث طول العام. ولينظروا: فإن بقي جهل فليطالبونا بغرامة، وإن انتفى الجهل فوالله! ما يبقى زناً ولا قمار ولا رباً ولا سرقة ولا تلصص ولا حسد ولا بغضاء ولا كبر ولا ظلم، ويصبح أهل تلك القرية كأنهم أسرة واحدة متحابين في الله، متآخين في دين الله، متعاطفين متراحمين برحمة الله، وتعالوا بالعالم ليشاهد من بعيد أنوار تلك القرية. وقد جربتم الشيوعية والاشتراكية والمبادئ الغربية، فأين وصلت هممكم وأخلاقكم وآدابكم وعزتكم وسيادتكم أيام كنتم تقولون: اشتراكيتنا نوالي من يواليها ونعادي من يعاديها؟ أرونا عزنا وكمالنا وسعادتنا وطهرنا وصفاءنا، هل هناك من يرد على هذا غير المجانين؟ أما العقلاء فحاشاهم. إن لله سنناً لا تتبدل ولا تتغير، واقرءوا دائماً: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43]، ومن ثَمَّ فالطعام يشبع، ترقت الشعوب ووصلت إلى القمر فهل استغنوا عن الطعام، فما أصبح الطعام يشبعهم لا خبز ولا تمر ولا لبن؟ والنار تحرق، فهل تعطلت هذه السنة وأصبحت النار ما تحرق؟ والحديد يقطع، فهل أصبح الحديد الآن ما يقطع؟إن لله سنناً لا تتبدل ولا تتغير شاءها كذلك، ومن ذلك سنته في أن من عرف الله فأنتجت له المعرفة حب الله فأحبه، أنتجت له خوف الله فخافه؛ فإنه بذلك يستطيع أن يستقيم على منهج الحق والعدل والخير والطهر والصفاء، سنن لا تتبدل أبداً. ونطالب ببرهنة: فنقول: هيا نذهب إلى أية قرية من قرى العالم الإسلامي في صدق، فنجد أن أعلمهم بالله أتقاهم له، أقلهم شراً وفساداً، وأن أجهلهم بالله ومحابه ومساخطه أكثرهم فسقاً وفجوراً وخيانة وكذباً، فمن يرد؟ لم إذاً؟ ما الذي يمنع أمة الإسلام أن تعود إلى بيوت ربها؟ تحمل نساءها وأطفالها ساعتين من المغرب إلى العشاء فقط يتعلمون الكتاب والحكمة ويزكون أنفسهم، ما المانع؟ ما وجدنا لذلك مانعاً أبداً، رأينا اليهود، النصارى، البوذيين، المشركين، الشيوعيين، الكل إذا مالت الشمس إلى الغروب ودقت الساعة السادسة يقف دولاب العمل، لا مصنع ولا متجر ولا مطعم ولا مقهى، وتذهب تلك الجماعات من النساء والأطفال والرجال إلى الملاهي، إلى المقاهي، إلى الملاعب، إلى المساخط، ولا لوم فإنهم أموات: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]. فما المانع لنا؟ هيا نجرب في قرية فقط، فإن قيل: ما نستطيع، قلنا: لم ما نستطيع؟ ما الذي يقف في وجهنا؟ هل التجارة تتعطل، هل الصناعة تقف؟ إن أرباب التجارة والصناعة الذين نجري وراءهم ونقلدهم يوقفون أعمالهم مع غروب الشمس، لم ما قالوا: تعطلت تجارتنا وصناعتنا؟

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ...)

وها نحن مع هذه الآيتين من كتاب الله من سورة البقرة، فهيا نتلوهما.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:172-173].هذه لو يكررها أهل المسجد ثلث ساعة ويحفظها الأطفال والنساء والرجال ويفهمون معناها ويطبقونه فستتغير الحياة رأساً على عقب، يصبحون خلقاً غير هذا الخلق الهابط، عرف العدو هذا، المجوس واليهود والنصارى عرفوا هذا منذ ألف سنة، عرفوا أن الروح التي بها الحياة هي القرآن العظيم، أن النور الذي به الهداية إلى السعادة والكمال هو القرآن، فصرفوا المسلمين بالسحر والتدجيل والحيل، صرفوهم عن القرآن، وأصبح القرآن لا يقرأ إلا على الموتى، لا تسمع من يقرأ القرآن إلا إذا كان في البيت ميت، وهل أفقنا؟ ما أفقنا. أينزل الله كتابه يحمل العلم والمعرفة والهداية ونعرض عنه ونقرؤه على الموتى؟ لم لا نجتمع عليه في بيوت ربنا ندرسه ونتعلمه؟ لعلنا ما نحن في حاجة إلى هذا، حسبنا كليات العلم ومدارس التربية، أهذا يكفي؟ إليكم صورة ربانية: ماذا تعرفون عن رسول الله؟ أليس هو الذي أنزل عليه القرآن؟ أليس الذي أمر ببيان القرآن وتفسيره؟ يقول يوماً لـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( يا ابن أم عبد ) يكنيه تدليلاً له، ( يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن. فيعجب عبد الله ويقول: سبحان الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. وأخذ عبد الله يقرأ بإلهام، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1] حتى بلغ قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] وإذا بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان وهو يقول: حسبك ) . أين أمة الإسلام؟ أين مظاهر الكمال فيها؟ الآن الركض المتواصل بين طلبة العلم وبين الأمة بكاملها -إلا من رحم الله- على الأكل والشرب والنكاح، إذاً: أصبحنا كالآخرين، ما نستطيع أن نتفرغ ساعة بأبنائنا ونسائنا لنسمع كلام الله ونحثهم ونحضهم على فهمه وتطبيقه والعمل به، لأنه سلم كمالنا ورقينا في الدنيا والآخرة.

علة نداء المؤمنين بلفظ الإيمان ومقاصده

اسمع هذا النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:172] لبيك اللهم لبيك، أما نادانا؟ هل نقول: لا، ما نحن بمؤمنين؟ أعوذ بالله! عبد الله بن مسعود يقول لنا: إذا سمعت الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك، أعطها أذنك. لم يا عبد الله ؟ لأنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه. وهل أنت ترضى بفقدان الخير أو بحلول الشر؟ إذاً: كيف لا تسمع؟ناداهم بعنوان الإيمان، لم يا أبنائي؟ لأن المؤمن حي كامل الحياة يسمع، يبصر، ينطق، يعي ويفهم، يأخذ ويترك، قادر على أن يفعل لأنه حي، لو كان كافراً ميتاً فلن يناديه ولن يكلفه، فهو ميت، أتضع بين يديك ميتاً وتأخذ تأمره: قم صل، قم اغتسل من جنابتك، أد حقوقك؟! فلكمال الحياة يناديهم الله عز وجل إما ليأمرهم بما فيه خيرهم، أو لينهاهم عما فيه شرهم، أو لينذرهم عما فيه مخاوف لهم وعواقب سوء، أو يبشرهم بما يزيد في فرحهم وسرورهم، أو ليعلمهم، أما أن يناديهم لا لشيء فتعالى الله عن اللهو واللعب، تعالى الله علواً كبيراً.

أمر المؤمنين بالأكل من طيبات الرزق

فماذا قال لهم الآن؟ ماذا قال لنا؟ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] أولاً، وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172] ثانياً إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]. كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، والطيبات جمع طيب، ما الطيب يا أبنائي؟ الحلال، وهو ما انحلت عقدة الحظر منه وأصبح مأذوناً فيه من مالكه مباحاً، هذا هو الحلال. كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] هل من رازق غير الله؟ المرأة تقول: أنا الذي طهوت الطعام وأنا الذي فعلته، نقول لها: وأنتِ من خلقكِ؟ يداك من شغلهما؟ عقلكِ من قاده؟ من علمكِ؟ ما هو إلا الله.

معنى قوله تعالى: (واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون)

وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172] من لم يشكر نعم الله ما عبد الله، وقد عرفنا أن علة الحياة بكاملها وسر هذا الوجود الذكر والشكر، أراد الله عز وجل أن يذكر ويشكر فأوجد هذه العوالم وأوجد البشر ليذكروه ويشكروه، فمن أعرض عن ذكر الله تمزق وتلاشى، ومن كفر نعم الله تمزق وخسر نهائياً.أما الذكر فمعروف، الصلاة التي نصليها نفتتحها بذكر الله: الله أكبر، ونختمها بـ(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، وما بين الافتتاح والسلام كله ذكر: الله أكبر، سبحان الله، قراءة القرآن، كله ذكر.إذاً: وأعظم من هذا أننا نحن -المؤمنين بحق- الذين ننادى لا يمكن أن تمضي الساعة والساعتان على أحدنا ولا يذكر الله أبداً، إلا إذا نام فقط، القلوب والألسنة متفقة متواطئة، يذكر القلب فيتبعه اللسان، ويذكر اللسان فيتبعه القلب؛ لأن ذكر الله غذاءنا الروحي، لأن ذكر الله حصننا الحصين، لا تستطيع الشياطين أن تدخل على قلب صاحبه يذكر الله، ولا تحتله أبداً، والذين يتركون ذكر الله تحتل الشياطين قلوبهم وتعبث بها كما شاءت. وقد تقول: يا شيخ! كيف هذا الكلام؟ فأقول: الذي يجري إلى معصية من دفعه؟ من حسنها؟ من زينها إن لم يكن الشيطان؟ وقد عرفتم أن الخناس ذاك الذي يوسوس، فإذا لاح في الأفق (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) انخنس وانكسر وسكت، ما يقوى، وعرفنا أن أهل التقوى التي هي طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر فيما أمر الله به ونهى عنه، هذه الطاعة هي التي تزكي النفس البشرية وتطيبها وتطهرها، بمعنى أن ما نقوم به من عبادات يزكي أنفسنا يغسلها ينظفها يطهرها، وما نتجنب من المعاصي والذنوب وغير ذلك من الذي يخبثها ويدسيها، فإذا اتقينا الله وخفنا منه فعملنا بما أمر وتركنا ما نهى عنه وزجر احتفظنا بطهارة أرواحنا، احتفظنا بزكاة نفوسنا، فإذا جاء العدو يريد أن يغزوك تلوح على الفور أنوار التقوى فيشاهدها فيهرب، كالرادار الممتاز الآن في مطاردة العدو، ولنقرأ لذلك دائماً: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202] إخوان من؟ إخوان الشياطين، فهل يصبح الآدمي أخاً للشياطين؟ أي نعم، إذا تزيا بزيهم ونطق بمنطقهم ولبس لباسهم وعمل عملهم فهو واحد منهم، أما قال تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [هود:119].

حقيقة الشكر

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172] وحده، فما هو الشكر؟ نريد أن نشكر، فما هو الشكر؟ الشكر مادته مأخوذة من الظهور، شكرت الدابة: إذا ظهر سمنها بالعلف الذي قدمته لها، شكرت فهي شكور، فالشكر -إذاً- إظهار النعمة، وذلك يتم بثلاثة أمور: أولاً: الاعتراف للمنعم بقلبك ولسانك، ما هذا الثوب الذي ترتديه؟ من الله، ما هذه السيارة التي تركبها؟ من الله، ما هذه المرأة التي في بيتك؟ من الله، كل شيء من الله لا من زيد أو عمرو، فالاعتراف بالنعمة لله، فما بنا من نعمة إلا وهي من الله. ثانياً: الاعتراف باللسان بأن تحمد الله عز وجل على نعمه، أكلت فقل: الحمد لله، شربت فقل: الحمد لله، ركبت الدابة والسيارة فقل: الحمد لله، نزلت فقل: الحمد لله، نمت فقل: الحمد لله، استيقظت فقل: الحمد لله، وتتبع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يستيقظ من النوم فيقول: ( الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور )، ( الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي ). وما رفعت مائدته بين يديه بعد الفراغ من الأكل إلا قال: ( الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ).فالشكر: الاعتراف بالنعمة للمنعم أولاً. ثانياً: النطق بها وحمده والثناء بها عليه. ثالثاً: صرفها فيما يحب، فمن صرفها فيما يكره فوالله! ما شكر، وكيف تصرف النعمة فيما يحب الله؟

كيفية شكر نعمة العلم

هيا نبدأ بالنعم القائمة عندنا، نعمة العلم نعمة، إذاً: شكرها كيف يتم؟ هل في المقاهي والملاهي؟ هل في قضاء العطلة في لندن؟ بم يتم شكر الله على نعمة العلم؟ أولاً: بالعمل به. ثانياً: بتعليمه غيرك، فإن لم تعمل به فأنت كافر النعمة -والله- وجاحدها، أين هي النعمة؟ فإن عملت ولم تعمل فأنت أيضاً غير معترف بفضلها ولا بكمالها ولا بأجرها ولا بحسناتها، لم لا تعلمها؟ وهكذا أصبح العالم في القرية في المدينة في أي مكان يعلم ويعمل ويعلم.

كيفية شكر نعمة الصحة البدنية

ننتقل إلى شكر القوة البدنية، فهذه نعمة أم لا؟ لو مرضت يوماً فقط عرفت قيمتها، هذه النعمة من أعظم النعم، صحة البدن والقدرة على القول والعمل، هذه النعمة كيف نشكر الله تعالى عليها؟ أولاً: الاعتراف بأن هذه الصحة من الله عز وجل. ثانياً: نحمده في كل مناسبة: الحمد لله.. الحمد لله. ثالثاً: ألا نعمل بها معصية من المعاصي. ونبدأ من ذلك باللسان، لا تغتب مؤمناً، لا تسب مؤمناً، لا تؤذ مؤمناً، لا تنطق ببذاء، لا تنطق بسوء أبداً، حتى تشكر نعمة الله على المنطق والنطق. ونعمة العين انظر بها إلى كتاب الله، انظر بها إلى الآيات الكونية، انظر بها الطريق إلى بيتك، انظر بها إلى كتابك الذي تقرؤه، انظر بها إلى أولادك لتحبهم وتفرح بهم، أما أن تنظر بعينيك إلى ما حرم الله عليك فوالله! لأنت كافر بهذه النعمة، وما شكرت الله. وهل هناك أشياء غير مسموح لنا النظر إليها؟ أي نعم، كل محارم المؤمنين لا يحل النظر إليها، لا يحل لك أن تقلب عينيك في امرأة ليست من محارمك، وسواء كانت في الشارع أو في الطيارة، غض بصرك وطأطئ رأسك ولا تلتفت إليها، وما لك إلا النظرة الضرورية الأولى، وإلا فما شكرت نعمة البصر. والسمع نعمة أم لا؟ سلوا أهل الصمم: كيف حالكم؟ في كرب، ما يسمعون، فهذه النعمة كيف تشكر، هذه تشكر بسماع الحق، تشكر بسماع ذكر الله، تشكر بسماع كلام يفيد وينفع، أما أنك تصغي إلى عاهرة تغني أو إلى ماجن ساقط هابط يغني فوالله! ما شكرت هذه النعمة، لقد كفرتها وسيؤدي بك هذا الكفر إلى ويلات، قد تموت على سوء الخاتمة. وإن قلتم: ما هذا التشديد يا شيخ؟ قلت: أما عرفتم لماذا؟ إن أمريكا والصين واليابان وأوروبا والعالم آيسون من الصعود إلى الملكوت الأعلى والنزول في الفراديس العلا، آيسون بالمرة، ونحن نرجو ونأمل، إذاً: فإذا صمنا الدهر كله فذلك لا يضر، وإلا فكيف ترقى، كيف تخترق مسافة سبعة آلاف وخمسمائة سنة ساعة خروج روحك، كيف تنزل في الملكوت الأعلى؟ لو طلب منك أن لا تأكل فلا تأكل، أو أن لا تشرب فلا تشرب، أو أن تقف في مكان لا تتحرك فإنك تقف، لم؟ لأن الغاية عظيمة. ومع هذا فما حرمه الله علينا من السماع وكلام البذاءة ما منعه إلا لأنه يلوث أرواحنا ويخبث نفوسنا ويحول بيننا وبين حب الله ورضاه. إذاً: عرفتم الصحة البدنية، إذا مررت بأخيك يحمل حملاً ثقيلاً فاحمل معه ساعده، وإذا كنت ما تستطيع فادع له بالعون من الله عز وجل.

كيفية شكر نعمة المال

وننتقل إلى نعمة الدينار والدرهم، فهذه نعمة معروفة أم لا؟ هي السلم لعيشنا وحياتنا، والله يقول: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، حياتنا تقوم على الدينار والدرهم، به نشتري اللباس والطعام والسكن والمركوب ونعالج المريض، هذا تدبير الله عز وجل، لو صرف قلوب البشرية في يوم ما عن الدينار والذهب والفضة فإنها تكسد وتصبح أوساخاً فقط، وعندنا علم اليقين أن يوماً -والله- قريباً سيخرج فيه أحدنا بصدقة الذهب فما يجد من يقبلها، والوقت قريب جداً. إذاً: هذا المال الذين يشترون به ما يسمونه بالصحن الهوائي كان يساوي مبالغ مالية طائلة ما يملكها أمثالنا، يبلغ خمسين أو ستين ألفاً، فعرف العدو الماكر إبليس وجنده أن هذا ما يفسد على هذه الأمة عقولها ولا قلوبها، ونحن نريد دمارها وخرابها، فأنزلوا ثمنه حتى أصبح بألفي ريال أو بثلاثة، وأصدر فتيا ربانية إلهية سماوية أعلم أهل الأرض -فيما نعرف- وأتقاهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بحرمة هذا، ووزعت الفتيا وكتب في الجرائد، وإخوانكم الهابطون يتحدون الله ورسوله والمؤمنين، وبعضهم فقراء ولا تشعر إلا والدش على السطح، البيت الواحد فيه أربعة أو خمسة بحسب السكان في المدينة، فهل المؤمنون عرفوا الله حقيقة؟ أنا في حيرة، المؤمن يقول كلمة فيرتبك ويضطرب، ويبحث ويقول: كيف وقعت هذه المحنة؟ بكيف بهذا الذي يتحدى، وتحدوا أيضاً حكومة القرآن، وأصدرت بياناتها وأبطلتها، وهم إلى الآن يتحدون. نعرف مؤمنين في القرى إذا قال الشيخ: هذا حرام يبتعد عنه نهائياً وهو أمي، يقول: أنا سألت فقال الشيخ: ما يجوز هذا، فما يدخله بيته! ونحن ندعي العلم والمعرفة والصناعة ونتحدى الله ورسوله والمؤمنين، فهل يجوز؟ واسمعوا وبلغوا: لو دخل الرسول صلى الله عليه وسلم بيتك وفيه عاهرة تغني أو ماجن راقص يرقص، فماذا تقول؟ وفي مدينته وتحت رايته: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، هذه -والله العظيم- وحدها لو وعاها ذو وعي أو معرفة لمزق هذا، وإن أكره بالتعذيب والضرب فإنه يهاجر ولا يتحدى رسول الله ويغضبه. والله! لقد كتبت كتاباً بالعبارات التي سمعتم، وأعطيناه لصاحب دش مقابل المسجد النبوي، ولا أدري من هو هذا، فوالله! ما التفت ولا تغير، وقلت لكم: والله! لو كان يهودياً لخجل واحترم هذا الكتاب والكلام وتركه، فهل عرفتم وضعنا أم لا؟ إننا منحدرون، ما علة هذا يا شيخ؟ الجهل بالله، مؤمن مقلد، اسأله عن الله، ما عرفه، فكيف يحبه أو يخافه. لكن المحنة أن يعرف أن هناك علماً وعلماء يجب أن يسألهم ولا يسأل، والله تعالى يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، وجاهد نفسك، إذا قال عالم: هذا باطل فلا تجعله حقاً أبداً. وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172] نعمه الظاهرة والباطنة بالاعتراف بها وحمد الله بالألسن عليها وبإنفاقها في محابه وإبعادها عن مساخطه، إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، ألستم تدعون تقولون: إننا مؤمنون؟ تقولون: لا إله إلا الله أم لا؟ تقولون: لا نعبد إلا الله؟ إذاً: إن كنتم كذلك فاشكروا الله، ومن قال: لا فقد كذب.

تفسير قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ...)

ثم قال تعالى وهو يعلم ويربي عباده المؤمنين به، يقول لهم: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173]، هذا الذي حرم أو حرم رسوله باسم الله، ككل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور، فما هذه المحرمات الممنوعة المحظورة التي لم يسمح لنا ربها ومالكها بأن نأكلها؟ أربعة: أولاً: الميتة، فالحيوان المأكول اللحم كالأنعام من الإبل والبقر والغنم والأرانب والغزلان إذا مات بدون عملية التذكية فهو ميتة، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يأكلها، لم؟ فيها جراثيم فيها أمراض فيها كذا، حاشاه سبحانه أن يحرم شيئاً لا خطر فيه ولا ضرر، والله! ما كان، وإن كابر الأطباء الدنيا. الثاني: الدم، ما هو الدم؟ هو القاني الأحمر، هذا الدم الذي يتجمع إذا ذبحت الشاة أو البعير أو البقرة ووضع له إناء يجمع فيه، أما الدم مع العظام مع اللحوم فما فيه شيء، الدم المسفوح المصبوب صباً، فهذا الدم المسفوح حرام، أما المختلط باللحم والعظم فلا شيء فيه. الثالث: لحم الخنزير، حرمه لم؟ لأنه يورث الدياثة، والديوث لا يدخل الجنة، بهذا أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الديوث هو الذي يرضى الخبث في أهله، والذي يأكل لحم الخنزير ويتربى عليه يصبح ديوثاً، يقدم امرأته أو أخته للآخر وهو يبتسم، أما رأيتموهم في أوروبا يكونون جالسين في المرقص فيقول لزوجه: قومي ارقصي مع فلان، أو يأتي فلان فيأخذها يقول: تعالي نرقص، ويرقص مع امرأة فلان وهو جالس؛ لأنهم أكلوا الخنزير ففقدوا الفحولة والمروءة. وعندنا كلمة نبلغها للنساء حفظناها عن عائشة أمنا قالت: الديوثة من النساء التي يسمع صوتها الضيف في حجرتها. فبلغوها، الديوثة من النساء من هي؟ التي يسمع صوتها ضيف زوجها في حجرته وهي ترفع في صوتها. والله تعالى أسأل أن يحيي قلوبنا وأن يردنا إلى الصراط المستقيم حتى نعرف الله ونحبه ونخشاه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-18, 11:05 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (111)
الحلقة (118)



تفسير سورة البقرة (77)


إن الله عز وجل طيب لا يقبل إلا الطيب، ولا يرتضي لعباده المؤمنين إلا الطيب من المآكل والمشارب، لذلك فإنه سبحانه قد أحل لهم الطيبات من هذه المآكل والمشارب وحرم عليهم الخبيث منها، فلم يأذن لهم بأكل الميتة ولا الدم المسفوح ولا الخنزير؛ لأن هذه كلها تحمل نجاسة عينية، كما حرم عليهم أكل ما أهل به لغيره سبحانه لأنها تحمل نجاسة معنوية، أما من اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات فإن له ذلك على قدر الحاجة والإبقاء على حياته ولا يزيد على ذلك.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله راجين أن ينالنا ذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا يا ولي المؤمنين ويا متولي الصالحين. وقد انتهى بنا التفسير إلى هذه الآيات المباركات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:172-173].شرعنا في دراسة هذه الآيات في الدرس السابق، وإليكم خلاصتها: ‏

نداء المؤمنين لشرفهم

أولاً: من المنادي بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:172]؟ إنه الله جل جلاله وعظم سلطانه، ومن المنادَى؟ نحن المؤمنين والمؤمنات، فلنذكر هذا ولا ننسه، وهو شرف وأي شرف أن ينادينا رب السماوات والأرض وما بينهما، رب العالمين. وقد علمتم -وزادكم الله علماً- أن سر هذا الشرف هو الإيمان، لو ما كنا مؤمنين لما كنا أهلاً لينادينا عز وجل، ولكن إيماننا هو السبب، وعلة ذلك أيضاً أن المؤمنين أحياء يسمعون نداء ربهم ويجيبونه، إن أمرهم فعلوا وإن نهاهم تركوا وإن علمهم علموا، وإن بشرهم استبشروا، وإن حذرهم حذروا؛ لكمال حياتهم.

أمر المؤمنين بالأكل من طيب الزرق وشكر الله الرزاق

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] هذه منة أخرى امتن بها علينا؛ إذ أذن لنا بأن نأكل من طيبات ما رزقنا، والمشركون الوثنيون الجهال الفاسقون أكلوا ما حرم الله من الميتة والدم ولحم الخنزير وما وضعوه لآلهتهم الباطلة وأوثانهم الملعونة، وحرم عليهم مشايخهم ما أحل الله، فحرموا السوائب وما إلى ذلك مما كان المشركون يحرمونه على أنفسهم. أما نحن -المؤمنين- فقد آمنا بالله وبلقائه وبكتابه الذي أنزله على رسوله وهو هذا الكتاب، فنحن أذن لنا بأن نأكل من الطيبات، جمع طيب، وهو ما كان حلالاً غير مستقذر، الطيب: ما كان حلالاً، أي: أذن الله لنا في أكله أو شربه، وكان غير مستقذر، ما فيه قذر ولا وسخ، لا بد من الجمع بين الحلية وبين الطيب، وإن كان فيه أوساخ وقذر فما نأكله إلا في حالة الضرورة كما سيأتي. قال تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] من الرازق؟ الله. وإياك أن يخطر ببالك أن هناك رازقاً سوى الله، فجميع المأكولات والمشروبات من خلقها؟ من أوجدها؟ من سخرنا لطلبها والحصول عليها؟ من أذن لنا في تناولها؟ إذاً: كل ذلك من رزق الله، فكلوا مأذوناً لكم من طيبات ما رزقناكم، وبعد هذا فاشكروا إذاً، أم أنك تأكل الغلة وتسب الملة كما تقول العجائز من العرب والمسلمين، أيجوز هذا؟ تأكل وتشرب ولا تقول: الحمد لله، أيصح هذا؟ أي جحود وأي كنود وأي إساءة أدب أعظم من هذ؟ تجلس على مائدة أخيك فتأكل وتشرب بإذنه وبعد ذلك لا تقول شيئاً! فهذا لن يصح عقلاً أبداً. إذاً: فبما أنه أذن لنا في الطيبات التي رزقناها أمرنا بشكره.

أركان الشكر

وقد عرفتم الشكر زادكم الله معرفة، الشكر يتكون من ثلاثة: أولاً: شكر القلب، اعترف بقلبك بأن هذا الطعام أو الشراب أو الكساء أو المركوب أو المسكن هو من الله. ثانياً: ترجم عن ذلك الذي وقع في قلبك بكلمة: الحمد لله، عندما تنظر إلى النعمة وتعرف أنها من الله المنعم بها لا تجد بداً من أن تقول: الحمد لله .. الحمد لله، أما الغافل الذي لا يعترف بالمنعم فكيف يحمده؟ إلا إذا قلد المؤمنين وكان يقول إذا فرغ من الطعام: الحمد لله، فنحن لا نقلد، نحن أولاً ننظر إلى النعمة ومن أنعم بها علينا، فنجد أنفسنا مضطرين إلى حمده وشكره والثناء عليه، فلا نلبث أن نقول: الحمد لله. وهكذا من أكل من شرب من لبس من ركب، كل من حصلت له نعمة فليعترف بها في قلبه أولاً ثم يعلن عنها بلسانه بكلمة: الحمد لله. ثالثاً: أن يصرف تلك النعمة فيما من أجله أنعم الله تعالى بها عليه، وهنا وقفنا وقفات، والخلاصة: أن نعمة المال شكر الله تعالى عليها أن لا تنفق درهماً واحداً في معصية الله، أيعطيك أخوك السلاح لتقاتله؟ فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينفق درهماً واحداً وهبه الله وأعطاه إياه في معصية الله، لا في خمر ولا زناً ولا لباس ولا سفر، أنعم الله عليك بهذه النعمة فأنفقها حيث أذن لك في إنفاقها، أما أن تتحداه وتنفقها ضده وهو ساخط غير راض فإنك تحارب الله، ولولا حلمه لسلبها فور إعطائك، فأحلم به تعالى!فهل فهم السامعون والسامعات؟ هل يجوز لمؤمن أو مؤمنة أن يشتري ما حرم الله ليلبس أو يركب أو يأكل، والله! لا يجوز. ثانياً: نعمة البدن، عرفنا أن صحتك نعمة جلى، فلا تبدد طاقة من طاقاتك في معصية الله ولو أن تمشي خطوات إلى معصية، وسمعك بصرك نطقك لسانك يداك رجلاك كل هذا نعمة الله عليك، فإياك أن تنفقها في سخطه وعدم رضاه، ومعنى هذا: لا تمش إلى باطل ولا إلى منكر ولا تسافر إليه، ولا تنظر إلى محرم ولا تسمعه ولا تتكلم به ولا تتناوله بيدك ولا تمش إليه برجلك. قد يقال: قيدتنا يا شيخ! فأقول: أي نعم، نحن -كما تعرفون- وقف على الله، وأنتم تعرفون الوقف، كعمارة هي وقف على طلبة العلم، هل يجوز أن تنفق في غيرهم؟ وقف على المهاجرين، هل يعطى مالها لغيرهم؟ وقف على مسجد، هل يعطى لغير المسجد، ونحن وقف أم لا؟ وآية الوقف هي قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، هذا الأمر للرسول وأتباعه وراءه أم لا؟فصحتنا وقف على الله، فالذي يبيت ساهراً أمام فيديو أو تلفاز ينقل الباطل ويعرض الشر والسوء هل يجوز أن ينظر إليه بعينين وهبه الله إياهما، هل يجوز أن يصغي ويسمع الباطل والمنكر وقد وهبه الله سمعه، هل يجوز أن يضيع الساعة والساعتين في غير خدمة الله وطاعته؟ والله! ما يجوز. إذاً: ماذا تريد منا يا شيخ؟ أريد أن نكون أولياء الله، وهل هناك مرتبة أسمى أو أعلى منها؟ نريد أن نكون أولياء الله، لا نأكل ولا نشرب ولا نسمع ولا ننظر ولا نأخذ ولا نعطي ولا ننام ولا نستيقظ ولا نأكل إلا من أجله ووفق مراده، ومن زلت قدمه منا فغلط استغفر وتاب وعاد إلى ربه، إلى متى؟ حتى تدق الساعة وننتقل إلى الملكوت الأعلى. إذاً: ونعمة العلم بم يكون شكرها؟ بعد الاعتراف بها وحمد الله عليها يكون بالعمل بهذا العلم الذي علمك الله، ثم بتعليمه سواك من عباد الله، اشكر هذه النعمة ولا تكفرها، أما عالم يعرف كل شيء ولم يعمل فأي علم هذا؟ هو أجهل الخلق، يعمل ولا يعلم غيره ويجحد هذا العلم ويكتمه، هذا كفر هذه النعمة وما بينها وما شكر الله عليها، وبهذا ينتشر العلم بين المؤمنين المؤمنات، فمن علم شيئاً علمه غيره.

استلزام عبادة الله تعالى شكر نعمه

إذاً: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172] لا لغيره إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172] . وقوله تعالى: إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172] هذا تذكير، إذا كنتم تعبدون الله إذاً فاشكروه على ما أولاكم ووهبكم وأعطاكم، ولأن النعم كلها تدور على الذكر والشكر، ما من عبادة -سواء كانت من أعمال القلوب أو أعمال الألسن أو الجوارح- إلا وهي مظهر من مظاهر ذكر الله وشكره. فبما أنكم تعبدونه إذاً فشكره عبادة، فكلوا من طيبات ما رزقكم واشكروا له هذه النعم بذكره وصرف النعمة في مرضاته.
تابع تفسير قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ...)

معنى قوله تعالى: (وما أهل به لغير الله)

ثم قال تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173]، وهو الذي ذبح باسم غير اسم الله، والإهلال: رفع الصوت، كما يقال في هلال رمضان: انظر فقد طلع الهلال. فالذي يذبح الشاة أو الطير أو العصفور ويقول: باسم فلان، هذا لا يؤكل ما دام بغير اسم الله ولو كان سميناً نظيفاً صالحاً والتذكية جيدة وراقية، ما دام أنه ذكر اسم غير اسم الله فلا يحل أكله، لم؟ تقدم أن قلنا: حين نشرب نقول: باسم الله أم لا؟ حين نأكل نقول: بسم الله أم لا؟ لولا إذنه لنا فهل سنفعل؟ وقلنا: لا يحل لرجل يشعل سيجارة ويقول: باسم الله، فهو كاذب، أو يتناول الخمر ويقول: باسم الله، أو يتناول المحرم من الطعام ويقول: باسم الله، هذا كذب على الله، فما دام أنه تعالى قد حرم ما أهل لغير الله فكيف يأكله والله ما أذن به، هذا سمي عليه آخر، فإن كنت عبد هذا الذي سميت له فنعم، ولكن ما أنت بعبده، أنت عبد الله وهذه نعمة الله. وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173] إذ كانوا لا يقولون: باسم الله، ولكن بالعزى أو مناة أو كذا، ولما بعدنا عن القرآن ودراسته وما فيه وأصبحنا نقرؤه على الموتى فقط عم الجهل العالم الإسلامي، أصبح المؤمنون والمؤمنات -والعياذ بالله تعالى- يذبحون لغير الله، فشاة لسيدي عبد القادر ، وعجل لسيدي البدوي ، هذا شائع في العالم الإسلامي، هو عند الذبح يقول: باسم الله، ولكن لمن هذه؟ هذه لسيدي فلان، حتى بلغ بنا الجهل والهبوط أن المرأة في القرية أيام كنا نستولد الدجاج من بيضه ونتركه لأمهاته، كانت المرأة تضع تحت الدجاجة عشر بيضات ثم تحلق على واحدة بالفحم معلمة وتقول: هذه بيضة سيدي عبد القادر، هذه بيضة سيدي مبروك أو سيدي البدوي، لم يا أماه؟ حتى يحفظ الله هذه البيضات وتفقس عن فراخ ولا تفسد ولا تصاب بالمرض. إلى هذا الحد! ويغرس الرجل غرساً فيجعل منطقة كلها زيتوناً ويجعل فيها شجرة لسيدي فلان، والله! إنهم ليغرسون النخيل ويقولن: هذه نخلة سيدي فلان، فهم يمشون وراء أهل الجاهلية خطوة بخطوة ولا غرابة ولا عجب، فمن علمهم؟ ما عرفوا، الشياطين تحسن وتزين وتعلم والناس معرضون وغافلون وجهلاء. فلهذا إذا قيل: هذه شاة سيدي البدوي فلا يحل لمؤمن أن يأكل منها قطعة لحم قط، هذا العجل لمن؟ لفلان، فلا يحل أبداً أن يأكل شيئاً منه، لقول الله تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173]، وقوله من سورة المائدة: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3]، والنصب: جمع نصب، وهو ما ينصب، كما بلغنا أيام أصبح عندنا زعماء في البلاد العربية أنهم نصبوا لهم تذكارات، ومن السنة إلى السنة يذبحون عندها، فهذا لا يحل أكله أبداً بنص كتاب الله.

ذكر أنواع الميتة

وفي آية المائدة ذكر تعالى أنواع الميتة فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3]، هذه كلها داخلة في لفظ الميتة مفصلة فقط؛ لأن حال الموت سيكون بالتردي من جبل أو من السطح إلى الأرض فيموت الحيوان، وأحياناً يكون موقوذاً بحجر أو بعصا فيموت، أحياناً يختنق بين شجرتين تدخل الشاة رأسها بين غصنين فما تستطيع أن تخرج رأسها فتموت، أو تكون مربوطة بحبل فتحاول أن تطلق نفسها فتختنق. فالموقوذة والمتردية والنطيحة تنطحها أختها بقرنها فتقتلها، وما أكل السبع، الذئب يجري وراءها فيأخذها، فهذه إن ماتت بدون تذكية فهي ميتة، من أدركها حية والحياة مستقرة فيها تستطيع أن تعيش بعدها وذكاها حلت له: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3]، أما إذا وجدها وقد أيس من حياتها حيث فارقتها الروح وبقيت فيها بقية لا تنفع فهذه لا تذكى ولا تنفع، لا بد أن تكون الحياة مستقرة فيها وإن كان بطنها مفقوءاً. وإذا صاد الصائد حيواناً وقال: باسم الله وأطلق رصاصته، أو باسم الله وضربه بسيفه، فإن وجده حياً ذكاه وإن وجده قد مات فهو حلال، لكن لو وجده حياً فبدل أن يذكيه لوى رأسه وقطعه بيده فهذا ما يجوز، إن وجده حياً ذكاه، وإن وجده مات يأكله ولا حرج، هذا مشروط بأن يقول: باسم الله ويرمي، فإن لم يسم الله فلا يأكل.

معنى قوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)

وقوله تعالى: غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173]، هذه عامة وتحتاج إلى بعض الحفظ، فمن الباغي هذا؟ هذا يتناول البغاة الذين يخرجون على إمام المسلمين، خرجوا عن الإمام وتحزبوا وتعصبوا بالجبال والطرق، وهم خارج البلد، هؤلاء إن جاعوا لا يأكلون الميتة ولا الدم ولحم الخنزير.الباغي: الذي يقطع طرقات المؤمنين وليس ضد الحكومة فقط، متسلط جبار يروع المسافرين ليستولي على ما عندهم ويقتلهم، هذا الذي في الطرقات يبغي على الناس هل يجوز له أن يأكل الحرام؟ لا يجوز، موته أولى، ما أذن الله له فيه، لأنه قال: غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173]، والعادي بمعنى: المعتدي، فإذا خرج لمخرج باطل وسوء ليقتل المسلمين أو يأخذ أموالهم أو يسلبهم ما عندهم فهذا المعتدي، فهذا إذا جاع لا يأكل الميتة. نظيره المسافر إذا سافر لمعصية الله، سافر باغياً أو عادياً، لا يحل أن يتيمم ولا أن يجمع الصلاة أو يقصرها؛ لأن سفره حرام لا يحل له ذلك السفر. ويدخل في قوله تعالى: (غير باغ) أن يأكل القدر الذي يسد رمقه ويقيم صلبه، ولا يشبع من الميتة أو الدم ولحم الخنزير، فإن طلب ما هو زائد على حاجته. كذلك الاعتداء إذا كان في غير حاجة ماسة إلى أكل هذه الميتة، ويدخل في الاعتداء أيضاً أنه لا يشبع ويمتلئ بطنه بالميتة أو بالمحرم؛ لأنه يأكل بالقدر الذي يحفظ حياته ليذكر الله ويشكره، فلا بد من هذا الاستثناء: غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173] ظالم معتد متجاوز للحد، إلا أن مالكاً رحمه الله يرى أنه إذا أكل فلا بأس أن يشبع، لكن ليس رغبة في الأكل من هذا الحرام، وإنما يعرف أن الطريق والمسافة بعيدة ولا يمكنه أن يواصل سفره، فلهذا يأكل القدر الذي يستطيع أن يسافر به ويواصل سفره، بل أجاز بعضهم أن يأخذ منها لأنه يعلم أن الطريق بعيدة، فيأخذ هذا الفخذ من الشاة لكن لا على نية أن يأكله إلا إذا خاف على نفسه الموت؛ لأنه لا يحل له أن يأكل مما حرم الله إلا إذا خاف الموت والهلاك على نفسه، لا أن يأكله متلذذاً طالباً له، بل لا بد ألا يأكل إلا حفاظاً على حياته ليعبد الله ربه، هذا معنى قوله تعالى: غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173]، فإن كان باغياً أو عادياً فعليه الإثم وحرام أن يأكل المحرم، لا ميتة ولا دم ولا لحم خنزير. وعلل لذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173] غفور لمن تاب رحيم بعباده، ولولا رحمته ما أذن لهم ولقال: موتوا ولا تأكلوا.

حكم ترك المضطر الأكل من المحرم مفضلاً الموت على ذلك

وهنا السؤال: هل يجوز للمؤمن أن يموت وبين يديه جيفة ميتة أو لحم خنزير أو دم؟ الجواب: لا يحل له أن يرضى بالموت ولا يأكل، لم؟ لأنه عصى الله عز وجل، أذن الله له فقال: ما نأكل، فهذا تعدي أم لا؟ فلا يحل له أبداً أن يمتنع من الأكل حتى يموت أو من الشرب حتى يموت؛ لأن حياته لله؛ فكيف يقضي عليها لينقطع ذكره وشكره؟ فالله ما يرضى هذا لعباده، وحسبنا أننا نسمع قوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173].

تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير

وقوله تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ [البقرة:173] لما أذن لنا في الحلال، وهو اللبن والشاي والبن والعسل والبطيخ والتفاح، وما أكثر الحلال، فمن الحكمة اكتفى بقوله: مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57]؛ لأن ذكر كل الحلال صعب ما يتسع له الوقت ولا الورق، والذي هو حرام محدود يعد، فذكر تعالى ما حرم علينا من المطاعم فقال: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [البقرة:173]، وهي كل ما مات حتف أنفه بدون تذكية له من بعير أو بقرة أو كبش أو أو دجاجة أو عصفور، كل المأكولات من الأنعام والطيور، اللهم إلا السمك والجراد، فميتة السمك وميتة الجراد أحلهما الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( أحل لنا ميتتان: السمك والجراد ) فكل ما مات حتف أنفه بدون تذكية فهو ميتة وحرام ولا يؤكل. ثانياً: الدم، بشرط بأن يكون سائلاً مسفوحاً، أما الدم الذي هو ممتزج مختلط باللحم والعظم فلا شيء فيه؛ لأنه من الصعب أن نصفي اللحوم ونزيل الدم، ما كلفنا الله بهذا، فالدم الحرام الذي يؤذي هو الدم الذي يسيل حين تذبح الشاة أو البقرة أو البعير، فكانوا يجعلون آنية تحتها ويجمعون الدم ويطبخونه. هذا الدم حرام، وعلة تحريمه ما فيه من الضرر والأذى، والله! إن فيه أذى وضرراً وإن أكله الكفار سمان الأجسام، فهم لا يعترفون، وإلا فهم يتأذون به، وسواء كان دم حيوان أو طير. قال تعالى: وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ [البقرة:173]، والخنزير حيوان معروف من أخبث الحيوانات، وهو ديوث، فلم لا نأكل لحم الخنزير؟ لأنه يورثنا الدياثة؛ لأنه الحيوان الوحيد الذي لا يغار على أنثاه، والديوث في الإسلام والمسلمين من يرضى الخبث في أهله، والديوث لا يدخل الجنة. وبلغنا عن أمنا عائشة أنها قالت: الديوثة من النساء تلك التي يسمع ضيفها صوتها في حجرتها. هذه أمكم تقول هذا، يا معشر المؤمنات! اسمعن عائشة تقول لكن: إن الديوثة من النساء هي التي ترفع صوتها حتى يسمعها ضيفها وهي في حجرتها. فلتكن أصوات المؤمنات منخفضة على قدر الحاجة، وحتى أصوات الرجال، فلا تبدد طاقتك فيما لا معنى له، أما قال تعالى: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:19]؟ تكلم بصوتك على قدر الحاجة كريالك في جيبك تخرجه على قدر حاجتك تنفقها، فلا تبدد طاقتك فتتكلم بصوت عال، بل اخفض من صوتك وتأدب. هذا الفحل فكيف بالمرأة؟ فهي من باب أولى أم لا؟ لأن صوتها يتأثر به الفحل، ومن يمسح هذه الطبيعة والغريزة التي جبلنا الله عليها؟ صوت الأنثى في الحيوان يتأثر به ذكور الحيوانات، فصوت الأنثى في البشر يتأثر به الرجل، ونحن نحافظ على طهارة أرواحنا استعداداً للعروج إلى السماء، نخشى أن نموت والنفس خبيثة فيبطل عملنا ونهلك.

حرمة كل أجزاء الخنزير

إذاً: ولحم الخنزير حرام، وهل شحمه لا بأس به؟ النص يقول: اللحم؟ فما حكم الشحم؟الجواب: كل أجزائه محرمة، العظام والعصب والعنق والدم والجلد أيضاً، ينبغي ألا يوجد في ديارنا ولا نسمح بتربيته أو وجوده في بلادنا؛ إذ لا يحل أكله بأية صورة من الصور، وهل يوجد في المدينة خنازير؟ كلا. هل يوجد في المملكة خنازير؟ كل بلاد المسلمين يجب أن تطهر من هذا الحيوان، لا خير فيه.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيتين
إذاً: نسمعكم دراسة هاتين الآيتين من الكتاب:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيتين الكريمتين: بعد أن بينت الآية السابقة حال الكفرة المقلدة لآبائهم في الشرك وتحريم ما أحل الله من الأنعام؛ حيث سيبوا للآلهة السوائب وحموا لها الحامات وبحروا لها البحائر؛ نادى الجبار عز وجل عباده المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:172] أي: بالله رباً وإلهاً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً! كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57] وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172] ربكم على ما أنعم به عليكم من حلال اللحوم ولا تحرموها كما حرمها مقلدة المشركين؛ فإنه تعالى لم يحرم عليكم إلا أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغيره تعالى.ومع هذا من ألجأته الضرورة فخاف على نفسه الهلاك فأكل فلا إثم عليه، على شرط أن لا يكون في سفره باغياً على المسلمين ولا عادياً يقطع الطريق عليهم، وذلك لأن الله غفور لأوليائه التائبين إليه رحيم بهم لا يتركهم في ضيق ولا حرج ]، هذا معنى الآيات.

هداية الآيتين

في الآيتين هدايات إلهية: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيتين: من هداية الآيتين: الندب إلى أكل الطيبات من رزق الله تعالى في غير إسراف. ثانياً: وجوب شكر الله تعالى، وذلك بالاعتراف بالنعمة له وحده وحمده عليها وعدم صرفها في معاصيه. ثالثاً: حرمة أكل الميتة والدم المسفوح ] بهذا القيد، أي: السائل، لا العالق بالعظم أو اللحم، [ ولحم الخنزير ]، وقد عرفتم أن كل أجزاء الخنزير محرمة، [ وما أهل به لغير الله ] سواء كان عبد القادر أو اللات أو عيسى أو موسى عليهما السلام، كل ما قيل: هذا لفلان فهو له، إلا من قال: هذه لله فنعم. رابعاً: جواز الأكل من المذكورات عند الضرورة، وهي خوف الهلاك، مع مراعاة الاستثناء في الآية، وهو (غير باغ ولا عاد).خامساً: أذن النبي صلى الله عليه وسلم في أكل السمك والجراد وهما من الميتة، وحرم أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور ]، فالذئب حلال أو حرام؟ له أنياب، والسبع النمر الفهد، وذوات المخالب من الطيور كالبازات، كذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكلها، كل ذي ناب من السباع وذي المخلب من الطير. وما الفرق بين الميتة والميِّتة؟ هذه مسألة لغوية: ما الفرق بين الميِّت والميت؟ قالوا: الميت من انقطعت حياته نهائياً، وأما الميِّت فهو في حياة ما مات، ومن هنا قال الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت إنما الميِّت ميت الأحياء.والآية واضحة، فالميِّت يكون حياً ويموت، وأظهر من هذا كله قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، فهل لما نزلت الآية كان الرسول ميتاً؟ لكن بحكم أنه سيموت قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، فإذا أطلق لفظ الموت ننظر: فإذا كان بلفظ: الميِّت أو الميِّتة فما انقطعت روحه ولا انتهت حياته، فكلمة (ميِّت) يصح أن تطلق على حيوان مات، لكن الصواب أن تقول: ميت، أما الميِّت فما زال في الحياة ويموت فيما بعد. والدم مقيد، فما كل دم حرام، فهناك دم حلال، فقيد الدم هو المسفوح، ما معنى المسفوح؟ السائل، هل هذا الدم المسفوح من الشاة أو البعير أو البقرة حرم لضرر يحصل منه أو لا لشيء وإنما تعبداً فقط؟ الجواب: لضرر، لأن الجراثيم عندما تذبح الشاة والحيوان تخرج مع ذلك الدم فما تبقى في الجسم، فإذا ما ذبحت الشاة أو البعير بقيت تلك الجراثيم فيها، فحرم الله الميتة لما فيها من الضرر، فإذا خرجت مع الدم واحتسينا الدم أو طبخناه حصل نفس الضرر، فمن هنا من لطف الله ورحمته بعباده أنه حرم الميتة لما فيها من الضرر وحرم الدم المسفوح السائل الذي تخرج معه الجراثيم لما فيه من الأذى والضرر، وأما الشاة المريضة فتذبح وتؤكل، إذا ذبحها وسالت الجراثيم والدم أكلها. وما علة تحريم لحم الخنزير؟ الجواب: لأنه يورث الدياثة، وهي عدم الغيرة على الأنثى، فالحيوانات تغار على إناثها إلا الخنزير فلا يغار، إذاً: فالديوث من الرجال هو الذي لا يغار على امرأته أو أهله، وحكمه أنه لا يدخل الجنة، والديوثة من النساء تقول عنها عائشة هي التي يسمع ضيفها صوتها في حجرتها. ومعنى هذا أن نتأدب ذكوراً وإناثاً فلا نرفع أصواتنا إلا على قدر الحاجة، فإذا كنت تنادي بعيداً فارفع صوتك، أما رفع الصوت بغير حاجة فتبديد للطاقة وتبذير لما أعطاك الله، وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:19]. اللهم ارزقنا الأدب معك والأدب في طلب العلم يا رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-21, 07:41 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (112)
الحلقة (119)



تفسير سورة البقرة (78)

يبين الله عز وجل حال اليهود ويندد بصنيعهم من كتمان لما أنزل الله من الكتاب والدين، وبيعهم له بعرض من الدنيا خسيس، جاحدين ما جاء به نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم وإرضاء لأهل الشرك والنفاق، رغبة في عطاياهم وحرصاً على هداياهم، مخبراً سبحانه أن كل ما يأكلونه من ذلك إنما هو النار، مع ما يصاحب ذلك من غضب الجبار، فلهم الويل والبوار.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله نفسر آيات الله وكلنا رجاء في أن يتحقق لنا ذلك الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) اللهم اجعلنا منهم. وها نحن مع هذه الآيات الثلاث من سورة البقرة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:174-176].

سبب تسمية السور القرآنية

معاشر المستمعين والمستمعات! من المخبر بهذا الخبر؟ الله، هذا خبر وأي خبر! يقول الله جل جلاله وعظم سلطانه في كتابه العزيز القرآن الكريم الذي أنزله على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم من سورة تسمى سورة البقرة، وسميت سورة البقرة لأن لفظ البقرة فيها، فتسمى سور القرآن ببعض الكلمات التي تمتاز بها حتى تتميز عن باقي السور؛ لأن السور مائة وأربع عشرة سورة، فمن تدبير الله وحكمته أن جعل لكل سورة اسماً علماً عليها، فهذه السورة الجليلة العظيمة ذات الجزئين والنصف اسمها البقرة؛ إذ قال تعالى فيها عن موسى عليه السلام: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، هذا الخطاب موجه لليهود، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، وإذا ذبحتموها اسلخوها وخذوا قطعة لحم منها وقولوا: باسم الله واضربوا قتيلكم؛ فإن الله يحييه وينطق ويقول: قتلني فلان. وذلك لأنهم وقعت بينهم جريمة القتل، فاتهمت كل قبيلة الأخرى وكادوا يقتتلون، فمن رحمة الله بهم وإنعامه عليهم أوحى إلى عبده موسى أن يقول لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67]، أعوذ بالله! أنجاس أجلاف قساة جهلة، كيف يخاطبون رسول الله بهذا؟ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]؛ إذ لا يستهزئ إلا جاهل، أما العالم العارف بربه فحاشاه أن يستهزئ أو يسخر من مؤمن، وسوف تكشف هذه الآيات عن حالهم، والشاهد هنا أنها سورة البقرة.

المراد بكتمان ما أنزل الله في الكتاب

إذاً: يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ [البقرة:174]، والكتمان: الجحود والستر والتغطية والإخفاء بشيء معلوم يغطونه، يكتمون ماذا؟ ما أنزل الله من الكتاب؟ وما المراد بالكتاب؟ إنه التوراة، والإنجيل والقرآن أيضاً، فمن كتم آيات القرآن لمصالحه ومنافعه فهو -والله- منهم، والنصارى إن كتموا ما في الإنجيل -وقد فعلوا- فهم -والله- منهم؛ لأن القرآن كتاب هداية عامة للبشرية كلها منذ نزوله إلى أن يرفعه مولاه، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. نعم نزلت في أحبار اليهود: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ [البقرة:174]، والمراد مما كتموا صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونعوته المبينة له المظهرة له، كتموها جحدوها غطوها حتى لا يؤمنوا به ولا يتابعوه.

معنى قوله تعالى: (ويشترون به ثمناً قليلاً)

وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:174] يشترون بذلك الكتمان والجحود والتغطية، ويقولون: إن نبي آخر الزمان لم يظهر بعد وسيظهر، أما هذا الذي ظهر الآن فليس هو، راجع حاشية فلان، راجع تعليق فلان على التوراة، راجع شرح فلان. وهم يحرفون الكلم عن مواضعه ويفسرون بغير مراد الله منه للإبقاء على المنصب من طاعة وإجلال ومال؛ ليعيشوا على حساب العوام الجهلة يكرمونهم يبجلونهم يطيعونهم يأتونهم باللبن والزبدة ويأتونهم بالطعام واللباس، فهم ساداتهم وأئمتهم ومشايخهم، وقد فعل هذا بين المسلمين، فعجب هذا القرآن! وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:174] ويشترون بذلك الذي كتموه ثمناً قليلاً، فما قيمة ما يعطونه من عوامهم من الطعام أو اللباس أو المال أو التبجيل والتعظيم وتقبيل اليدين والرجلين، أي شيء هذا؟ ليس بشيء، هو ثمن قليل.

معنى قوله تعالى: (أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار)

واسمع: أُوْلَئِكَ [البقرة:174] البعداء الأشقياء التعساء الهابطون السفلة الجاحدون لآيات الله الغاشون لعباده، ما قال: هؤلاء، بل أشار إليهم بلام البعد، فما أبعدهم عن الخير والكمال! أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:174]، فالبيض واللحم المشوي والبرتقال والموز، كل هذا هو عبارة عن نار في بطونهم، وسيئول هذا إلى نار يأكلونها عند موتهم، ما يأكلون في بطونهم إلا النار، ومن سورة النساء قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] لمن هذه وفيمن نزلت؟ فينا أم لا؟ أيما مسلم يدعي الإسلام والإيمان ويصلي ويزكي ثم يأكل أموال اليتامى بدون حق ظلماً إما بالاختلاس أو بالسرقة أو بادعاءات فالويل له: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10] ثم وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] . فلهذا كان أكل مال اليتيم من كبائر الذنوب، وأكل ماله كالشرك وقتل النفس والسحر وعقوق الوالدين، يتيم فقد أباه امتحاناً من الله له ووكلك أنت بهذا الولد، سواء ابن أخيك أو ابن أختك أو عمك، فاحفظ ماله حتى يكبر ونمه وأنفق عليه في حدود ما يستطيع أن يعيش واحفظ له هذا المال، أما أن تستغله وتأكله ظلماً وعدواناً فهذا حرام، وأغلب الذين يتولون أمور اليتامى قبل هذه الإفاقة كانوا يأكلون أموال اليتامى إلا من رحم الله. ولا عجب: فالذين يقتلون المسلمون تعجب منهم؟ الذين يتعاطون سحر المؤمنات تعجب منهم؟ الذين يتركون الصلاة تعجب منهم؟ لا عجب، فهو الجهل، المال بين يديه يوفر ماله ويأكل من مال اليتيم، وشاهدناهم ورأيناهم. ما هي العلة؟ إنها الجهل؟ هل الجهل بالتقنية؟ بالسحر؟ إنه الجهل بالله تعالى وبمحابه ومساخطه وبما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه، فالجاهل بهذه يفعل ما لا تتصور. دلونا -يرحمكم الله- على طريقة نذهب بها هذا الجهل عن المسلمين ونبعده من ديارهم ليستنيروا ويعودوا إلى ربهم فتزدان الحياة بهم ويصبحون هداة الخلق وأئمة البشرية.الطريق: أن يعرف المسلمون هذا الذي هبط بهم وسقط بهم من علياء كراماتهم إلى أسفل الأرض، فهذا الجهل يعرفونه أولاً كما عرفناه الآن، لا سعادة معه ولا كمال ولا هداية ولا طهر ولا صفاء ولا هدوء ولا استقرار أبداً، يعرفون هذا فيقولون: هيا نطلب العلم الذي هو معرفة الله ومعرفة محابه من عقائد من عبادات من أقوال، ومساخطه من ذلك، وما عنده وما لديه، فمعرفة هذا أيها المسلمون تتم لكم بأن تعترفوا أولاً بهذا، ثم تعزموا على ألا تغيب الشمس في دياركم إلا وأنتم في بيوت ربكم المساجد، النساء الأطفال الرجال، الأغنياء كالفقراء والمسئولون كغيرهم، الشمس غابت فأهل القرية كلهم في بيت ربهم، النساء وراء الستائر والأطفال دونهن والفحول أمامهم، والمعلم المربي أمامهم يتعلمون ليلة آية وأخرى حديثاً، وهذا هو الكتاب وهذه الحكمة، يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وفي كل القرى والمدن، المدن ذات المناطق، كل منطقة في المدينة أو كل حي كما يسمونه يوسعون مسجدهم حتى يتسع لأفراد الحي كلهم ذكوراً وإناثاً ويجلسون من المغرب إلى العشاء، يقف دولاب العمل فلا يبقى واحد في الشارع ولا في البيت، أين أهل الحي؟ في بيت ربهم، ماذا يريدون؟ يريدون رضاه، يريدون أن يحبهم يريدون أن يسعدهم ويكملهم يريدون أن يرفعهم وأن يعزهم بمعرفته التي توجد لهم حبه في قلوبهم أكثر من حبهم لأنفسهم، وتوجد لهم خوفاً في نفوسهم فترتعد فرائصهم إذا ذكر ربهم بين أيديهم، فضلاً أن يكفروا أو يكذبوا أو يفجروا، فهل فهم السامعون هذه اللغة؟ كم كررناها؟ بالله الذي لا إله غيره! لن يرتفع شعب ولا أهل إقليم ولا أهل بلدة ولا قرية ولا حي في العالم الإسلامي إلا من هذا المبدأ، اقبلوا أو لا تقبلوا، والبرهنة والتدليل كالشمس. ثم نقول: لم لا نفعل هذا؟ اليهود والنصارى والكفار والمشركون إذا غابت الشمس ودقت الساعة السادسة وقف دولاب العمل، إلى أين يذهبون؟ إلى المقاهي والملاهي والمراقص إلى نصف الليل، ولا لوم؛ فهم بهائم على الأرض لا هم لهم إلا شهوة بطونهم وفروجهم، والمسلمون لم لا يذهبون إلى ربهم، لا إلى المقاهي والملاهي، يجلسون في بيت مولاهم يستمطرون رحماته ويضفي عليهم آلاءه وإنعامه ورضاه، سنة واحدة وهم كلهم أولياء الله، فاختفى الفقر والظلم والفسق وسوء الأدب وأصبحت القرية كأنهم ملائكة في السماء، فلم لا نعمل هذا؟ ما وجدنا لهذا جواباً إلا أن نقول: كتب الله هذا!

معنى قوله تعالى: (ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم)

إذاً: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:174]، والمراد من عدم التكليم: التكليم التكريمي والإكبار والإجلال والرحمة، أما مطلق التكليم فإنه يكلمهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] هذه كلماته أم لا؟ يقول لأهل النار: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، لا يكلمهم هنا تكليم تكريم وإعزاز وإكبار لشأنهم كما يكلم أولياءه، أما أعداءه فلا يكلمهم إلا تكليم الإهانة والتصغير والتحقير، فحين يصرخون في النار يقول: (اخسئوا)، كما تقول للكلب: اخسأ في مكانك، يقول لهم الله عز وجل: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُو هُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:108-110]، يسخرون بالمؤمنين الآن، فلا تلمهم يا شيخ لأنهم ما عرفوا، إي والله ما عرفوا، الذي عرف هل يسخر من سنة الرسول ومن شرائع الله ودينه؟ والله! ما كان، بل يرضى أن يصلب أو يقتل ولا يسخر من دين الله. لكنهم جهلاء، وهل جهلاء وهم يقرءون ويكتبون؟ نقول: وهل القراءة والكتابة هي العلم؟ فعدنا من حيث بدأنا، فنقول: تعالوا نتعلم، قالوا: ما نستطيع، نحن مشغولون من طلوع الفجر إلى المغرب، مشغولون بالدنيا. قال تعالى: وَلا يُزَكِّيهِمْ [البقرة:174] أيضاً، لا يكلمهم ولا يزكيهم، ومعنى: ولا يزكيهم: أي: ولا يطهرهم من ذنوبهم وأوضارها حتى يدخلهم دار السلام، لا يزكيهم، تبقى أدرانهم وأوساخهم وذنوبهم عليهم حتى يعيشوا في جهنم ولا يخرجون منها.

معنى قوله تعالى: (ولهم عذاب أليم)

وأخيراً: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:174] الأليم: الموجع الشديد الإيلام، آلمه يؤلمه العذاب: إذا اشتد عليه، وما أطاقه، هذا العذاب ألوان، أتريدون صورة منه؟ يقول الشقي: عطشت، أريد ماءً، فيؤتى بقدح من الحميم، فما يدليه من فمه حتى تسقط جلدة وجهه! وفي آية سورة محمد: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15]، ماذا نعرف عن عذابهم؟ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:19-21].أهل النار ما هم كذباب مثلنا حتى تقول: ضربة واحدة تكفيه، إن ضرس أحدهم -والله- كجبل أحد، لأن عرض جسمه أخبر به أبو القاسم فقال صلى الله عليه وسلم: ( ما بين كتفي الكافر يوم القيامة في النار كما بين مكة وقديد )، ومكة وقديد بينهما مائة وخمسة وسبعون كيلو، هذا العرض فقط، لا تسأل عن الطول إذاً، فضرسه كجبل أحد، فلهذا يحترق ويعذب ملايين السنين فما يموت.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار)

ثم قال تعالى في خبر بعد خبر: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:175] شروها بكتمان الحق، وصرف الأمة عنه ليعيشوا سعداء أغنياء مرفهين، باعوا آخرتهم بدنياهم: أُوْلَئِكَ [البقرة:175] البعداء الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:175]، الناس العقلاء يطلبون الهدى، وهم اشتروا الضلالة، أعطوا الهدى وأخذوا الضلالة! أبعدوا الهدى مرة واحدة، وأقبلوا على الضلالات يعيشون وينشرونها بين إخوانهم؛ من أجل أن يستمتعوا يوماً من الأيام في حياتهم بالطعام والشراب! قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ [البقرة:175] شروا العذاب بالمغفرة أم لا؟ كل من فسق فجر كفر فقد اشترى الضلالة بالهدى، واشترى العذاب بالمغفرة، بدل أن يتوب إلى الله ويرجع إليه بعدما لاحت أعلام الحق وظهرت الهداية؛ أعرض عنها، فكان كمن اشترى الضلال بالهدى والعذاب بالمغفرة.وأخيرا : يقول تعالى: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175] ما أعظم صبرهم على النار! وإلا فكيف يقترفون هذه الذنوب، ويرتكبون هذه الجرائم ويعلمون أن مصيرهم هذا ويعرفونه، إذا:ً فصبرهم على النار عجب، فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175].إذاً: فمصيرهم إلى جهنم حتماً.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ...)

ثم قال تعالى: ذَلِكَ [البقرة:176] الحكم الذي سمعتم بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ [البقرة:176] نزل القرآن بالحق والتوراة والإنجيل بالحق، وهؤلاء أعرضوا عن الحق وجحدوه وكتموه، وعملوا بالباطل وعاشوا عليه، إذاً: فهذا هو الذي حصل. تم ذلك ونفذ لأن الله أنزل الكتاب بالحق، والكتاب: اسم جنس، يدخل فيه القرآن والتوراة والإنجيل كما علمنا، وإن كان يراد به أولاً: التوراة، فنزل الكتاب بالحق ليبطل الباطل، فهم أعرضوا عن الحق وحرفوه وبدلوه، وأخذوا بالباطل، أما ينتقم الله منهم؟ ينزل كتابه ويعلمهم إياه ليهدوا به ويهتدوا به ويعاكسونه ثم يتركهم؟ لا بد من هذا العذاب، فهذا العذاب الشديد العظيم بسبب أنهم كتموا الحق الذي أنزل الله به كتابه.

خطر الاختلاف في كتاب الله وشريعته

وأخيراً: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176]، يخبر تعالى بأن الذين يختلفون في الكتاب في التوراة والإنجيل والقرآن في شقاق بعيد.كم بلغت فرق اليهود؟ إحدى وسبعين طائفة وملة، كم بلغت فرق النصارى؟ اثنتين وسبعين فرقة، كم بلغت فرق المسلمين؟ ثلاثاً وسبعين فرقة! ما سبب هذا؟ اختلافهم في الكتاب، يؤولون ويفسرون بحسب أهوائهم وأغراضهم الهابطة؛ فيحدثون الشقاق والخلاف ثم التناحر والدماء والقتال، ثم التعصب للمذهب وللطائفة وللقبيلة.سأكشف الغطاء عن بعض الأشياء، الروافض يقولون: عثمان وأبو بكر وعمر تمالئوا وجحدوا سوراً من القرآن الكريم! قالوا: الآيات التي فيها الثناء على آل البيت وحقوق آل البيت كلها كتموها وجحدوها! فهل اختلفوا معنا أم لا؟ إذاً: هل نحن معهم على اتفاق أو شقاق؟ وشقاق بعيد أو قريب؟ بعيد كما بين الشرق والغرب.فهذه آية واضحة، الذين يفسرون القرآن على أهوائهم إبقاء على مناصبهم، ويفسرون: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فيقولون: هذه عائشة! والشاهد: ما من قوم اختلفوا في كتاب الله إلا انشقوا وانقسموا، وأصبح شقاقهم بعيداً، فلهذا يجب على المسلمين أن ينكبوا على دراسة كتابهم، وتفهم وفهم ما فيه، حتى تتحد عقائدهم وآدابهم وأخلاقهم وشرائعهم وأحكامهم، ويصبحوا الأمة الرفيعة ذات الشأن، أما أن نحرف كلام الله ونفسر كما يبدو لنا حتى تتم الفرقة والتعصب للمذهب؛ فهذا هو الذي توعدنا الله به.اسمع: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176] فلهذا لا يحل لنا أن نختلف في كلمة واحدة في كتاب الله، ما عرفناه جهرنا به، وما لم نعرفه قلنا: آمنا بالله!
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

معاشر المستمعين! الآن ندرس هذه الآيات الثلاث في الكتاب: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات:يكتمون: يجحدون ويخفون.ما أنزل الله من الكتاب: الكتاب التوراة، وما أنزل فيه من صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به.لا يكلمهم الله: لسخطه عليهم ولعنه لهم ]، هذه هي العلة.[ ولا يزكيهم: لا يطهرهم من ذنوبهم؛ لعدم رضاه عنهم ]، فإذا زكاهم أدخلهم جنته.[ الضلالة: العماية المانعة من الهداية للمطلوب.الشقاق: التنازع والعداء؛ حتى يكون صاحبه في شق ومعاديه في شق آخر.بعيد: يصعب إنهاؤه والوفاق بعده ]، إذا كان الشقاق بعيداً بين الاثنين فيصعب تلافيه.

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات:هذه الآيات الثلاث نزلت قطعاً في أحبار أهل الكتاب ] العلماء [ اليهود، تندد بصنيعهم، وتريهم جزاء كتمانهم الحق وبيعهم العلم الذي أخذ عليهم أن يبينوه، بيعهم له بعرض خسيس من الدنيا، يجحدون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ودينه إرضاء للعوام؛ حتى لا يقطعوا هداياهم ومساعداتهم المالية، وحتى يبقى السلطان الروحي عليهم، فهذا معنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:174].وأخبر تعالى أن ما يأكلونه من رشوة في بطونهم إنما هو النار، إذ هو مسببها، ومع النار غضب الجبار، فلا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.كما أخبر تعالى عنهم في الآية أنهم -وهم البعداء- اشتروا الضلالة بالهدى،. أي: الكفر بالإيمان، والعذاب بالمغفرة، أي: النار بالجنة، فما أجرأ هؤلاء على معاصي الله وعلى التقحم في النار! فلذا قال تعالى: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175].وكل هذا الذي تم مما توعد الله به هؤلاء الكفرة لأن الله نزَّل الكتاب بالحق، مبيناً فيه سبيل الهداية، وما يحقق للسالك من النعيم المقيم، ومبيناً سبيل الغواية، وما يفضي بسالكه إلى غضب الله والعذاب الأليم.وفي الآية الأخيرة أخبر تعالى أن الذين اختلفوا في الكتاب -أي: التوراة والإنجيل، وهم اليهود والنصارى- لفي عداء واختلاف بينهم بعيد، وصدق الله؛ فما زال اليهود والنصارى مختلفين متعادين إلى اليوم؛ ثمرة اختلافهم في الحق الذي أنزله الله وأمرهم بالأخذ به، فتركوه وأخذوا بالباطل، فأثمر لهم هذا الشقاق البعيد ].قد يقول القائل: اليهود الآن متفقون مع النصارى؟ والجواب: متفقون فقط لأنهم سحروا النصارى، وجاءوهم بالمبدأ اللاديني اللائكي الفلسفي الأحمر؛ فأخرجوهم من عقيدة النصارى؛ فأصبحوا كالأبقار والحيوانات؛ فركبوهم واستولوا على أموالهم وبنوكهم، وأصبح النصارى خانعين خاضعين.فالنصران بحق ما يستطيع أن ينظر إلى يهودي بعينيه، بل كانوا يقلونهم كالسمك في الزيت، وقد بينت لكم فقلت: الذي قتل ربك وإلهك كيف تنظر إليه؟ ما أنت بالمؤمن إذاً! لكن سادوا بالمكر والحيل، ووجدوا النصارى حيوانات فركبوا ظهورهم، حتى إن بولس الثامن منذ حوالي سبع عشرة سنة أعلن أن اليهود برآء من دم السيد المسيح! فقامت الدنيا وقعدت، فقلنا لهم: نحن عرفنا هذا من ألف وأربعمائة سنة، أخبرنا الله بقوله: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، والآن النصارى ترقوا فقالوا: اليهود ما قتلوا السيد المسيح. فبالضغط والمال والسيطرة والسحر أعلن رئيس الكنيسة في العالم: أن اليهود برآء من دم السيد المسيح، وهم يعلقون الصليب في أعناقهم أم لا؟ فمن صلبه وقتله في نظرهم؟ إنهم اليهود.

هداية الآيات

هذه الآيات تحمل هداية، وكل آية من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية تحمل هداية، بل هدايات لمن أراد الطريق والوصول إلى الجنة.كل آية تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الآية من أنزلها؟ هل نبتت بها شجرة؟ هل قالها إبراهيم أو عثمان؟ لا، ما هناك إلا أن الله الذي أنزلها، فالله موجود، وهذه الآية تحمل العلم أم لا؟ فالله عليم حكيم، وتحمل الهداية للخلق أم لا؟ إذاً: لا إله إلا الله. والذي نزلت عليه من هو؟ محمد بن عبد الله، فهل هو رسول الله أم لا؟ والله! إنه لرسوله، كيف ينزل عليه كتابه وما هو برسوله؟ كيف يعطيه كتابه ليبلغه ويقول: ما أنت برسول؟! مستحيل هذا عقلاً، فكل آية تقرر معنى: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فضلاً عما تحمل من آداب في الأخلاق وفي الأموال، وفي الحياة كلها.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات.أولاً: حرمة كتمان الحق ].الحرمة بمعنى: التحريم، لم سميت أمك حرمة؟ لأنها حرام عليك، فلا يحل لإنسان أن يكتم الحق، وما معنى: يكتمه؟ يجحده ويغطيه، ما يعترف به، لا سيما إذا كان للحصول على منافع دنيوية مالاً أو رئاسة، فيكون أبشع، فكتم الحق من أجل ريال أو بقرة حرام، لكن هذا هين بالنسبة لمن يكتم الحق من أجل أن يغوي البشر أو يصرفهم عن الله، فبينهما فرق كبير، والذنوب تتفاوت، كتمان الحق محرم ولو في بيضة تجحدها وتكتمها، لكن كونه يكتم الحق من أجل أن يتوصل إلى منافع دنيوية مالاً أو رئاسة هذا أبشع، لأنه يصرف الناس عن الحق والعمل به والانقياد له.[ ثانياً: تحذير علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب ]، لأن هذه الآيات وإن نزلت في علماء أهل الكتاب فهل نحن ما ننتفع بها؟ كل من يسلك سلوكهم هو منهم وإن كان هاشمياً قرشياً.[ تحذير علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب بكتمانهم الحق وإفتاء الناس بالباطل؛ للحصول على منافع مادية معينة ]، ولما هبطت أمتنا ظهر فيها علماء ومشايخ طرق وزوايا يفعلون صنيع علماء اليهود بالضبط، يجحدون الحق لتبقى لهم تلك المنزلة.أعطيكم مثلاً عشناه: لما بدأت فترة التوحيد كانوا يقولون لأتباعهم: لا تستمعوا لهؤلاء، هؤلاء وهابيون؛ ليصرفوهم عن الحق، لأنهم إذا انصرفوا عنهم ذهب ذاك المنصب الذي كان لهم، هذا كان يأتي بدجاجة، وهذا يأتي بشاة، هذا يقبل رجليه، والآن من أين يأتي ذلك؟كلنا سواء.ويوجد أيضاً علماء يفتون بالمال، ويحللون الحرام في الفتيا! وهذا انتشر في العالم الإسلامي فترة طويلة، ما يفتيك مجاناً أبداً، تسأل عن طلاق فيقول: هات ألف ريال ويفتيك، ويحل لك الحرام إذا أكثرت العطاء، ولا لوم ولا عتاب؛ لأنهم ما عرفوا، ما علموا، ما عرفوا ربهم معرفة أوجدت خشيته في قلوبهم ومحبتهم له، فلهذا يفعلون، علوم سطحية مادية فقط.[ ثالثاً: التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم ]، أما حذرنا الله؟ الأولون اختلفوا في الكتاب فهم في شقاق بعيد، فإن اختلفنا نحن في القرآن فوالله! ليتمن هذا، وقد حصل، فهذه الطوئف: الإباضية، الزيدية، الجعفرية، والله! إنها للاختلاف في القرآن في تفسيره ومعانيه.لو أقبلوا على الحق وأرادوه لانتهى الخلاف في سنة واحدة، لم نختلف؟ أم يجوز هذا؟ هو الذي هبط بأمة الإسلام إلى الأرض، وإلا فكان يجب أن يقال: هيا نستعرض آي القرآن ونحضر العلماء وتثبت القضية بيننا، واقبلها وطأطئ رأسك، وإن عاش أسلافك وأجدادك على الباطل فلا تبق أنت على الباطل، أنت تريد النجاة أم لا؟ تريد دار السلام أم لا؟ أم تريد فقط بقاء العصبية لقبيلتك أو لحزبك وجماعتك؟ [ التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم لما يفضي إليه من العداء والشقاق البعيد بين المسلمين ]، وهو واقع ثابت من ألف ومائة سنة.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-21, 07:48 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (113)
الحلقة (120)



تفسير سورة البقرة (79)

لما أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة تجاه البيت الحرام، زعم اليهود أن قبلتهم هي القبلة الحق، وزعم النصارى أيضاً أن قبلتهم هي القبلة الصحيحة، فبين الله سبحانه وتعالى هنا أن البر ليس باستقبال المسجد الحرام أو بيت المقدس، ولكن البر والحق هو بالإتيان بأركان الدين، وفعل ما أمر الله عز وجل به، والانتهاء عما نهى الله عز وجل عنه، فإن ذلك هو سبيل المتقين، والموصل إلى مرضاة رب العالمين.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ....) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة السبت من يوم الجمعة المبارك- ندرس كتاب الله من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي القدير.وقد انتهى بنا الدرس عند هذه الآية المباركة الكريمة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، هذه آية من أجل الآيات القرآنية وأعظمها. ‏

هداية الآيات

ونشير هنا إلى هداية الآيات السابقة؛ حيث قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: حرمة كتمان الحق ]، علمنا الله عز وجل بما قص علينا من شأن أهل الكتاب أنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يكتم الحق إذا عرفه، ولا يلتفت إلى أي اعتبار يطلب منه لأن يكتم هذا الحق.قال: [ حرمة كتمان الحق إذا كان للحصول على منافع دنيوية مالاً أو رياسة ]، تشتد حرمة كتمان الحق إذا كان الكاتم للحق يرجو من وراء ذلك منفعة دنيوية مالاً أو جاهاً؛ لأن الذين كتموا الحق من أهل الكتاب كتموه من أجل مصالح دنيوية بحتة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:174-176]، وهم اليهود والنصارى عليهم لعائن الله.[ ثانياً: تحذير علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب ]، الآية الكريمة تهدينا إلى أن الله حذرنا نحن -علماء الإسلام- من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب [ بكتمانهم الحق وإفتاء الناس بالباطل للحصول على منافع مادية معينة ]، فعلماء اليهود والنصارى كتموا الحق، إذ صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته في الكتابين في التوراة والإنجيل واضحة وضوح الشمس، ولكن للبقاء على السلطة والسيطرة الروحية على أتباعهم حرفوا تلك الصفات، وجحدوا أكثرها، وهذا هو الكتمان؛ لأجل البقاء على الرئاسة والسيطرة الروحية على أتباعهم. ومع الأسف حصل هذا للمسلمين ووقع، فكثير من مشايخ الطرق وأصحاب الزوايا كانت هذه حالهم، فاستولوا على العوام من الناس وحرموهم هداية الله عز وجل، وما علموهم إلا أشياء قليلة من دين الله، كل ذلك للحفاظ على أتباعهم؛ حتى لا يتصدروا ويهربوا منهم، فإذا سمعوا بدعوة الحق بغضوها إلى أتباعهم، وحرموهم من قبولها وطلبها، وما زال إلى الآن الروافض يسيطرون على العوام، ويحرمونهم من هداية الله ليبقوا تحت سلطتهم وسلطانهم، هذا واقع البشرية.إذاً: هذه الآية تحذر علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب، وذلك بكتمانهم الحق، وبإفتائهم الناس بالباطل، يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله من أجل الحصول على المادة، سواء كانت السلطة أو الرئاسة، أو كان المال: الدينار والدرهم.[ ثالثاً: التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم ]؛ لأن اليهود والنصارى اختلفوا في كتب الله، وسبَّب ذلك الاختلاف انقسامهم وسقوطهم وهبوطهم، فالآية تحذرنا من الاختلاف في القرآن الكريم؛ [ لما يفضي إليه الاختلاف من العداء والشقاق البعيد بين المسلمين ]. وها نحن مع الروافض مختلفون، والسبب أنهم حرفوا كلام الله وفسروه بأهوائهم، فمنعوا من أن يتصلوا بالعالم الإسلامي ويعيشوا معهم.وسبحان الله! فقد تبين بالتتبع والاستقراء أنه ما من عبادة إلا ووضعوا فيها ما يخرجون به عن جماعة المسلمين! لا حج ولا عمرة ولا غسل، ولا وضوء، ولا تيمم، ولا صلاة، كل عبادة حتى النكاح، أباحوا المتعة لا لشيء إلا للخروج من جماعة المسلمين؛ ليبقى ذلك الشعب وتلك الأمة خاضعة لسلطان الأئمة! فها هو ذا تعالى يحذرنا من الاختلاف في القرآن الكريم، إذ اختلف اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل فحصلت الفرقة وتم الخلاف على أشده، فحذرنا تعالى من أجل ما يفضي إليه الخلاف من العداوة بين المؤمنين والشقاق البعيد، فكيف -إذاً- يحملون راية التوحيد؟

تفسير قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ...)

والآن مع هذه الآية الكريمة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].

سبب نزول الآية الكريمة

سبب هذه الآية: أن اليهود زعموا أن قبلتهم هي القبلة الحق، والنصارى كذلك قالوا: قبلتنا هي القبلة الحق. وتأثر بعض السفهاء من المنافقين، ونسمع قول الله تعالى فيهم: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل المدينة، وقويت شوكته فيها وعظم سلطانه؛ كان يرغب جداً في أن يخالف أهل الكتاب، ولا يرضى أن يتصل بهم في أي جانب من جوانب الدين، من ذلك: أنه نهانا عن صيام يوم السبت، من ذلك: أنه كان يتطلع إلى أن يحول الله القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، إذ صلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بالمدينة سبعة عشر شهراً وهم يستقبلون بيت المقدس، فكانت القبلة غرباً وليست بالجنوب، فكان عليه الصلاة والسلام يتطلع متى ينزل الوحي بتحويل القبلة، إذ قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، وقال تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وقال تعالى: وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ [البقرة:145] فهل اليهود استقبلوا المشرق كالنصارى؟ ما استقبلوا، ولا النصارى استقبلوا بيت المقدس، فاحتفظت كل أمة بقبلتها، فلما حصل هذا تبجح من تبجح، فقال تعالى في رده على هذا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177] ليس الخير كل الخير والإسلام كل الإسلام والهداية كل الهداية في أن تستقبلوا بيت المقدس أو الكعبة، لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177] أي: في الصلوات، وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:177] أو صاحب البر أو ذا البر مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة:177]، وذكر من أركان الإيمان خمسة ركناً بعد ركن.

مجمل أركان الإيمان الواردة في الآية الكريمة

وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:177] أو ذا البر أو الخير أو فاعل الخير بحق عبد آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، هذه خمسة أركان في آية واحدة، والركن السادس جاء في سورة القمر، إذ قال تعالى من سورة القمر: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فكان هذا الركن السادس لأركان الإيمان الستة.وقد ذكر منها أيضاً في آخر البقرة في قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة:285] عدة أركان، مجموعها ستة عليها ينبني الإيمان، فإن سقط ركن سقط البناء، وأصبح صاحبه كافراً.وفي حديث جبريل في صحيح مسلم عدها الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل، وجبريل يقول: صدقت، صدقت، إذ سأله عن الإيمان فقال: ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ).إذاً: هذا رد على من ظنوا أن القضية كلها تدور حول استقبال القبلة أو بيت المقدس، وهذا جزء من آلاف الأجزاء، نحن الآن إذا أردنا أن نصلي وما عرفنا القبلة صلينا حيث صلينا: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115]، ولكن كوننا نرغب في أن نتميز ونستقل هذا أمر ضروري، ما دمتم لا ترضون بديننا ولا تدخلون في إسلامنا إذاً: فالمفاصلة بيننا أولى حتى لا تكون شبهة على المؤمنين، فكانت رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في أن تتحول القبلة، وعرف الله ذلك منه، واستجاب له، وحول القبلة، وبقي من يتكلم ويكرر الكلام في موضوع القبلة كما تعرفون الطابور الخامس الذين ينشرون الفتنة؛ فأسكتهم الله عز وجل بقوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:177] صاحب البر الحق مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177].

معنى الإيمان بالله تعالى

وهنا بإيجاز نقول: الإيمان بالله: التصديق بوجود الله رباً وإلهاً، لا رب غيره ولا إله سواه، وأنه موصوف بكل صفات الجلال والكمال، منزه عن كل صفات النقصان، إذ هو رب كل شيء ومليكه، لا إله إلا هو ولا رب سواه.ثم الإيمان باليوم الآخر، وهو آخر يوم تنتهي فيه هذه الحياة، فندخل في ذلك اليوم الذي هو آخر الأيام، هذه الأيام التي تمر بنا يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام سوف تنتهي في آخر يوم وهو يوم الجمعة، فيه تقوم الساعة.وفجأة نستقبل اليوم الآخر، إذ لم يبق بعده يوم، وفي الحساب وفي فصل القضاء يدوم ذلك اليوم خمسين ألف سنة، ثم يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، أهل الملكوت الأعلى في الملكوت الأعلى، وأهل الملكوت الأسفل في الأسفل، وطويت صفحة هذه الحياة.

الإيمان بالملائكة وذكر بعض خبرهم

والملائكة: جمع ملأك، ويجمع على ملائك، والملائكة مادة خلقهم من النور، خلقهم الله تعالى من النور، وخلق الجان من مارج من نار، فلهذا يوجد تقارب بين عالم الملائكة وعالم الجن، ويدلك أن إبليس عليه لعائن الله قبل أن يبلس من رحمة الله كان مع الملائكة يعبد الله، وأخبرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أن الملائكة في السماء إذا تكلمت بكلمة يختطفها الجني ويقرقرها في أذن صاحبه.إذاً: الملائكة عالم من نور، ولا يوصفون بأنوثة ولا بذكورة، لا يقال فيهم: إناث ولا ذكور، ما هم بإناث ولا بذكور، ولولا أن الله عرفنا بالإناث والذكور فهل سنعرف شيئاً؟ لما خلق هذا أخبرنا، خلق الملائكة من نور، ولم يجعل بينهم ذكراً ولا أنثى؛ ولهذا زين الشيطان لبعض القبائل في العرب خطيئة وزلة كبيرة، وهي قوله لهم: إن الله تعالى أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة، وفي الآية من سورة اليقطين: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [الصافات:158]، قالوا: الملائكة بنات الله! وكيف تولد الملائكة؟ قالوا: إن الله أصهر إلى الجن، خطب منهم جنية وتزوجها، فولد الملائكة؛ فلهذا نعبدهم بوصفهم بنات الله! ولا تعجب، فالعرب جهال، فكيف بالنصارى الذين يقولون: عيسى ابن الله؟! لا تعجب لأن الحامل لراية الإفساد والإغواء والإضلال هو الشيطان، إلى الآن النصارى أطباء ودكاترة وفلاسفة يقولون: عيسى بن مريم هو ابن الله! أو الناسوت واللاهوت، مركب من إله وعبد مخلوق.إذاً: فالملائكة عبدهم قبيلة من العرب بهذه الفرية التي افتراها إبليس ليضللهم! فرد الله تعالى بقوله: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:153-158] ممنوعون من الوصول إلى السماء ومخالطة الملائكة فيها، وآيات كثيرة تشنع على هذا النوع من العبادة، وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19]، وجعلوا له البنات سبحانه وتعالى عما يشركون.المهم أن هذه الخدعة الشيطانية وجدت مناخ الجهل في الجزيرة، فوجدت قبيلة تعبد الملائكة بوصفهم بنات الله.فالملائكة خلقهم الله من نور لعبادته فقط، وليسوا بذكور ولا بإناث، وتعالى الله أن يصهر إلى الجن وهو خالق كل شيء.

أصناف الملائكة وأعمالهم

إذاً: عرفنا عن الملائكة وأنهم أصناف، أعظمهم وأجلهم الملائكة المقربون من الله، ولا يعرف عددهم إلا هو، كذلك حملة العرش أربعة منذ أن خلق الله العرش، خلق هؤلاء الملائكة وأسند إليهم مهمة حمل العرش، فهم يحملونه، ويوم القيامة يعززون بأربعة، فيصبحون ثمانية، واقرءوا لذلك من سورة الحاقة: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:17-18].ومنهم المخلوقون فقط لتسبيح الله وذكره، لا يفترون أبداً: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، يلهمون التسبيح كأنفاسنا نحن نرددها، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20].ومنهم من كلفهم بالجنة ونعيمها، مهمتهم فقط إسعاد أهل الجنة، والملائكة يطوفون عليهم: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24]، ومنهم الذين يقدمون أطباق الطعام وألوان الشراب، هذه مهمتهم.ومنهم أيضاً ملائكة موكلون بالنار فقط وعذابها، لا مهمة لهم إلا هذه، وقد أعلمنا الله عن عددهم فعلمناه، ألا وإنهم تسعة عشر من الزبانية! جاء هذا من سورة المدثر: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [المدثر:30-31]؛ لأن أبا جهل لما نزلت الآية قال: يا معشر قريش! أنا أكفيكم شر سبعة عشر، فهل تعجزون أنتم عن اثنين ونطفئ النار ونخرج الناس من بعدنا؟! فهذا مجنون؛ لأنه يكثر التبجح، يقول: تسعة عشر؟! أنا أكفيكم سبعة عشر! وما درى هذا الجاهل الأحمق أن ملكاً أخبر الرسول عنه كما في سنن أبي داود بحديث سنده صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: ( أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام )، فيا أبا جهل ! أين أنت؟ وجبريل عليه السلام لما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء، بعد أن دخل عليه في صورة رجل كريم، وعلمه وأدبه، بعد ذلك تركه، وحين كان الرسول عائداً رآه وقد تجلى في الصورة التي خلقه الله عليها، وكان له ستمائة جناح، فسد الأفق كله، وناداه: يا محمد! أنت رسول الله وأنا جبريل. ومدائن قوم لوط -عمورة وسدوم وغيرها-كيف قلب ظاهرها على باطنها بجناح جبريل؟! إذا:ً لا تسأل عن عظم الملائكة وما آتاهم الله من قدرة.ومن الملائكة الموكلون بالعباد والحمد لله، وما حمدنا الله على هذه النعمة؛ لأننا جهال، فمن أنت حتى يوكل الملك بك؟ عشرة ملائكة يحرسونك، فكيف تشكر الله؟ الآن إذا كان أمير أو كذا يخاف عليه يعطونه عسكرياً واحداً يحرسه، وما ينفع، وأنت با ابن آدم يحرسك عشرة، اثنان من الكرام الكاتبين، وثمانية يحمونك من الجن والشياطين.فكم عددهم إذاً؟ الجواب: لا يحصي عددهم إلا الله، يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير.

قدرة الملائكة على التشكل

والملائكة يتشكلون بإذن الله كما شاء الله، وحسبنا أن جبريل عليه السلام يشاهده المؤمنون بينهم، ففي حديث عند مسلم وهو صحيح، ولا نزاع فيه، أن الرسول كان جالساً بين أصحابه يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم في الروضة، وإذا بجبريل يأتي في صورة رجل، ولا يرى عليه أثر السفر، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لحيته سوداء، شاب سهل، ثيابه نظيفة بيضاء، ما عليه غبار ولا رمل؛ لأن المسافر في ذلك الوقت ينكره أهل البيت، فالرمال والرياح والعواصف وهو على جمل أو على حمار، ما إن يصل حتى يدخل الحمام للغسل، وجربنا هذا، والحمد لله، كنا نأتي من الرياض على السيارة التي تسمونها (لوري) مكشوفة ثلاثة أيام، ما نصل إلى المدينة إلا وكلنا رمال! إذاً: فلهذا قال: ( لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد ) أيضاً، وجاء من طرف الحلقة وهو يشق الصفوف، فتعجب الأصحاب من هذا البدوي، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، ليعلمهم كيف التلقي، فالذي يتلقى العلم ما يلتفت، ما ينظر إلا إلى ما يخرج من كلام، فوضع يديه على فخذيه، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، أسندهما ووضع يديه على فخذيه يتلقى، وأخذ يسأله، فسأله أولاً عن الإسلام، فقال: كذا، قال: صدقت، قالت الصحابة: عجبنا له يسأله ويصدقه، هذا أعلم منه إذاً! فلما فرغ من ذلك التعليم الذي حوى الشريعة بكاملها، وأعظم ما جاء فيه الإحسان المفقود عندنا من قرون؛ فلما فرغ قال: أخبرني عن الساعة، قال: ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل )، أنت أعلم مني، وأمر الساعة خفي على الإنس والجن والملائكة والبشر، علمها عند الله: لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف:187] حتى ينتظم الكون وتمشي الحياة إلى نهايتها.قال: ( فأخبرني عن أماراتها )، والأمارة: العلامة، والجمع علامات، قال: أخبرني عن أماراتها، أي: العلامة الدالة عليها.قال: ( أن تلد الأمة ربتها ) وهل الأمة تلد سيدتها؟! السيدة هي التي تلد، كيف يتم هذا؟ تم على عهد الصحابة والتابعين، إذ كان الرجل يشتري الأمة وقد كان تسراها أحد الناس، وأنجبت لمن تسراها بنتاً، فيبيعها، وتتنقل بحسب الظروف والأيام والأعوام، فيشتريها الأول، فتصبح البنت ربة الأمة.المهم أنه لما كثر الناس ما التزموا، كحالنا، وإلا فمن تسرى جارية وولدت له بنتاً فهي حرة بسبب بنتها، وهي تابعة له مع ابنته، لا يبيعها، والشاهد عندنا: هذه العلامة، وهي خفية، لكن العلامة الواضحة هي: أن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، تحققت بعد ألف سنة أو أكثر، أن ترى الحفاة العراة من سكان البادية والجبال والأرياف في العالم بكامله حتى في أوروبا يتطاولون في البنيان: أيهم عمارته أعلى؟! هذا خبر عجب، من يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلهذا أخبار الغيب تشهد أن محمداً رسول الله.

الأدب مع الملائكة

والشاهد عندنا في الملائكة عليهم السلام، هؤلاء الملائكة ما موقفنا معهم يا معشر المؤمنين؟! أن نتستر ولا نبدي عوراتنا لهم، حاول أن تستر نفسك دائماً ولا تكشف عورتك.ثانياً: احذر أن تلوث ساحتهم برائحة كريهة، وويل للمدخنين الذين ينفخون الرائحة الكريهة في وجوه الملائكة وهم لا يشعرون.يا معشر المستمعين والمستمعات! لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يشعل سيجارة فينفخ في وجه الكرام الكاتبين ذاك اللهب وتلك الرائحة الكريهة، ومن شك في هذا القول فليذكر ما جاء في صحيح الأحاديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، من أكل ثوماً أو بصلاً نيئاً رائحته في فيه فلا يدخل المسجد، لم يا رسول الله؟! لأنه يؤذي الملائكة وهم سكان بيوت الله.فإن شاء الله لا يسمع هذا الخبر مؤمن ولا مؤمنة ويدخن ليلته هذه! ثالثاً: معاشر الأبناء والإخوان! معاشر المؤمنات! لا تطردوا الملائكة من بيوتكم، لا تسلطوا عليهم صور الخلاعة والدعارة في بيوتكم، فأزيلوا آلات الفيديو وأزيلوا التلفاز إذا لم تكن قادراً على صيانته والتحكم به؛ حيث لا تفتحه إلا لأمر ينفعك في دينك ودنياك.أما أن تفتحوه لبناتكم ونسائكم وأبنائكم؛ فتدخلون على قلوبهم الخبث فيفسدون أمامكم وأنتم السبب، وأعظم من هذا وذاك أن تطردوا الملائكة من بيوتكم! وقد تقول: وكيف؟ الجواب: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ) صورة في كتان، أو في ورق، أو في خشبة.وشيء آخر: لو يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك في بيتك، ويجدك جالساً مع بناتك وأولادك، وممكن أن أمك معكم أيضاً، وعاهرة تغني وترقص وهي كافرة وخبيثة، أو فاسقة من العرب والمسلمين، فكيف يكون موقفك؟ تذوب أمام الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟ يغمى عليك، فما حملك على هذا؟ فأنا أقول بأعلى صوتي: إن كانت هذه المناظر -يا أهل القرآن، يا أهل لا إله إلا الله- تكسبكم مالاً وأنتم في حاجة إليه لسد جوعتكم وستر عريكم فلا مانع، فأنتم مضطرون، ولكن هل يكسبكم مالاً؟ إذا كان هذا يدفع عنكم البلاء، والأمراض والعاهات من الحمى إلى غيرها، فقولوا: نحمي أنفسنا حتى نعبد الله، ولكن هل يكسب هذا صحة وعافية بدنية؟ والله! إنه ليبددها.إذاً: ما هو السبب إلا أن نغضب الله ونخرج الملائكة؟! أعوذ بالله! ما عندنا سبب إلا أن نغضب الله ونطرد الملائكة من بيوتنا حتى يرضى اليهود والنصارى عنا! أرأيتم هذا الكفر كيف عمل؟ شيء عظيم هذا، لو أن أهل البيت يجتمعون على آية من كتاب الله يتغنون بها ساعة ويحفظونها لكان خيراً من أوروبا وما فيها، لأن يجتمعوا على حديث من أحاديث نبيهم يصلون عليه ويسلمون، ويتعلمون الهدى والمعرفة من قال رسول الله؛ لكان خيراً من الدنيا وما فيها.لكن غشونا وخدعونا وضللونا؛ فوقعنا في هذه المحنة إلا من نجاه الله، ولكن إلام؟ بل في بعض بلاد العرب من أدخل التلفاز يدفع ضريبة أيضاً، الحكومة فقيرة، تضرب ضريبة على من يدخل تلفازاً في بيته، ويعطون الضرائب ويدخلون التلفاز! فسلوا الله تعالى العافية، من عوفي فليحمد الله!

الإيمان بالكتب

قال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ [البقرة:177]، و(أل) هنا للجنس، لا بمعنى القرآن فقط، الكتاب كالإنسان لفظ جنس يستغرق كل إنسان، والكتب -معاشر الأبناء- التي نزلت جملة واحدة بين لنا تعالى منها التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، وأخبرنا الرسول عن صحف شيث عليه السلام، لكن الكتب الأربعة هي التي عليها المدار، وناسخها القرآن العظيم وهو آخرها نزولاً، ونزل مفرقاً في خلال ثلاث وعشرين سنة؛ فلهذا قال المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32] يعنون ما سمعوا عن اليهود والنصارى، ولله تعالى في تنزيله الحكمة العالية البالغة، فلو نزل جملة فمن سيحفظه؟ من يعمل بما فيه؟ لكن ينزل آيات بحسب الأحوال، كلما يحصل إشكال تنزل الآية تبين وتفصل، ويحفظها المؤمنون والمؤمنات.إذاً: إيماننا بالكتب هو أن نصدق بكل ما أنزل الله من كتاب في الجملة، لا بما داخله من الزيادة والنقص والتبديل والتحريف؛ لأننا علمنا أن الله نسخ تلك الشرائع وتلك الأحكام من تلك الكتب، وجعل القرآن الكتاب الحاوي لكل ما فيها! لو كان اليهود أو النصارى يعقلون لأفهمناهم بكلمة واحدة، وهي: أن رئيس الجمهورية يصدر أحكاماً لعشر سنوات والشعب يطبقها، أليس كذلك؟ ثم يصدر حكماً بإلغائها، هل يبقى مواطن يحتج يقول: هذا كان الحاكم قد أمر به؟ مضى عشرون سنة والدولة تقوم بكذا، والشعب يقوم به، ثم بدا لها نقض هذا القانون لفساده، أو لوقوع ظروف لا يتناسب معه، فأبطلوه، فهل يبقى المواطنون يحتجون بالأول ويعملون به؟والله! ما كان، إذاً: اليهود والنصارى يعرفون أن القرآن نسخ الكتب السابقة، فلم لا يعملون به ويتركون المنسوخ؟! الجواب: ما علمتم الآن: رؤساؤهم، أحبارهم، علماؤهم الذين يعيشون على حسابهم يحملونهم على هذا الباطل، وإلا فأدنى عاقل يفهم، أنت تؤمن بالكتب الإلهية أم لا؟ هذا آخر كتاب نسخ الله به ما سبق من القضايا والأحكام؛ لأن الزمان تغير. إذاً: يجب أن نعمل بهذا الكتاب ونلغي تلك الكتب.

الإيمان بالأنبياء والرسل

قال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، والنبيون يقال فيها: والنبيئون، كالنبي والنبيء، وقرأ ورش : (يا أيها النبيء) في كل القرآن، من أنبأ ينبئ إنباء، فهو منبأ من الله عز وجل، ولا بأس للتخفيف أن تحذف الهمزة وتعوض بها الياء: النبيون، فهذا أسهل من: (النبيئون)، كـ(الآخرة والأولى) بنقل حركة الهمز إلى الساكن قبله، فتقرأ: (الاخرة ولولى)، وهو أسهل من (الآخرة والأولى). ورأيت لبعض أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحذف الهمزة في مثل الآخرة والأولى؛ لأنه أسهل في المدينة، وقراءة ورش هي قراءة أهل المدينة بالتخفيف.إذاً: النبيون أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهم صنفان: أنبياء رسل، وأنبياء ليسوا برسل، ما كل رسول إلا وهو نبي، لا يكون رسولاً حتى يكون نبياً، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً.وعدد الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر على عدة قوم طالوت الذين هزم الله بهم جالوت ، وعلى عدة أهل بدر الذين هزم الله بهم أبا جهل ، فسبحان الله! عدة قوم طالوت ثلاثمائة وأربعة عشر هزموا جيشاً عرمرماً، وكان داود البطل فيه، ثلاثمائة وأربعة عشر فقط من المدينة من المهاجرين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم هزموا ألف مشرك في بدر.إذاً: عدد الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر، وعدد الأنبياء مائة وعشرون ألفاً، ولا تنكر العدد، إن أنكرته أنت أنكره غيرك، ولكن الذي عليه جمهور الأئمة أن هذا العدد ثابت بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يضرنا إن زاد العدد أو نقص، وفي الجملة أن الأنبياء هكذا كان عددهم. وفي حديث صحيح: أن اليهود كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم الواحد! ويقيمون أسواقهم في المساء للبيع والشراء وكأن شيئاً ما وقع! وذلك لموت قلوبهم، وقساوة قلوبهم، قتلوا زكريا نبياً ورسولاً، وقتلوا ولده يحيى نبي الله ورسوله، وتآمروا على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، وكادوا يقتلونه مرتين أو ثلاثاً.والرسول: من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، أو أرسل ونبئ بشريعة سبقته، كأنبياء بني إسرائيل.وعندما نذكر الأنبياء ماذا نقول؟ نقول: عليهم السلام: يوسف عليه السلام، يعقوب عليه السلام، إلا إبراهيم فإننا نقول: صلى الله عليه وسلم، وإننا في كل صلاة نصليها نقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.وأول الأنبياء آدم، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأولو العزم منهم خمسة، وحفظ هؤلاء الخمسة ومعرفتهم واجب وركن من أركان العقيدة، وهم: نوح عليه السلام، إبراهيم عليه السلام، موسى عليه السلام، عيسى عليه السلام، محمد صلى الله عليه وسلم، وهم في آية واحدة من سورة الأحزاب: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7] بدأ بقوله تعالى: (منك)، فهو أولهم وأفضلهم في الآية، وحديث الشفاعة العظمى جاء بمثل هذا.قال تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] وصبر إبراهيم معلوم.نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-30, 03:35 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (114)
الحلقة (121)



تفسير سورة البقرة (8)


أنزل الله سبحانه القرآن الكريم برهاناً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى العرب وغيرهم أن يأتوا بمثله فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بسورة فعجزوا، بل إن الله سبحانه قد بين أنهم لن يستطيعوا، وأن الأجدر بهم أن يتقوا النار التي وقودها العصاة من الناس والحجارة، والتي هيأها الله سبحانه لكل من جحد به أو بدينه.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع بعض الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم. ‏

استشعار العبودية لله في كل شئون الإنسان وأحواله

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! دراسة كتاب الله وقراءته من أجل استخراج تلك الدرر والمعاني التي تغمر النفس والقلب بالنور الإلهي، فيصبح عبد الله وأمة الله النور على علمه وفي سمعه وبصره وفي لسانه، ويصبح أشبه بملاك في الأرض، فلا يصدر عنه شيء اسمه معصية لله ورسوله، ويقضي أوقاته كلها في ذكر الله وطاعته وعبادته.وقد قلت وبينت أن هذا المؤمن الذي يعيش على طاعة الله تحقيقاً للعبودية، تراه يحصد الزرع والمنجل في يده وهو في طاعة الله! تراه يضرب بفأسه الصخرة ليكسرها وهو في طاعة الله! تجد المائدة بين يديه يأكل ويشرب وهو في عبادة الله! هذا هو العبد الخالص لله. لمَ؟ لأنه يذكر دائماً بأنه خلق لذكر الله وشكره، وذكر الله تعالى يكون بالقلب واللسان، وشكره يكون بالأركان .. بالطاعة، فعبد الله إذا وجدته يبني أو يهدم اسأله: لم؟ يقول: أردت أن أبني غرفة أو حجرة لتكنني من الحر والبرد أنا وأفراد عائلتي، فعملي هذا لله. وتراه يحرث أو يزرع أو يصنع، لم؟ لله، لأنني وقف لله، وهذا الزرع أو هذه الصناعة من أجل عباد الله، أنتفع أولاً بشيء يسد حاجتي، والعمل كله لله، وينتفع به عباد الله.وإذا جلست في مجالس هؤلاء فإنك لا تسمع كلمة سوء، ولا بذاء، ولا باطل، ولا منكر أبداً كأنهم الملائكة، فأحاديثهم وكلامهم لا تخرج أبداً عن دائرة مرضاة الله عز وجل، وهؤلاء أهل النور الإلهي الذي اكتسبوه من كلامه؛ لأن كلام الله نور، إذا يقول تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، و جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].وآية الوقفية على الله ينبغي أن لا ننساها؛ لتفهم أنك إذا كنت مؤمناً حقاً فأنت وقف على الله، فريعك ودخلك وغلالك كلها لله، وحياتك وموتك لله، وفي هذا يقول تعالى من سورة الأنعام واحفظوا الآية وتأملوها: قُلْ [الأنعام:162]، والمخاطِب هو الله، والآمر هو الله، والمخاطَب هو رسول الله، والمأمور هو رسول الله، وأمته تابعة له، ولا تنفك عنه في أغلب الأحوال، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، فهذه هي آية الوقفية، فنحن وقف على الله، فنأكل من أجل الله، ونشرب من أجل الله، ونتزوج من أجل الله، ونطلق من أجل الله، ونبني .. نهدم .. نبيع .. نشتري .. الكل من أجل الله. فصاحب هذا النور إذا باع أو اشترى هل يغش .. يخدع .. يكذب؟! والله لا يفعل، وصاحب هذا النور إذا بنى هل يبني على غير هدي الله ورسوله؟ يقتطع قطعة أرض ويبني عليها؟! والله لا يفعل.المهم فيما نريد أن نقوله: هيا نتدبر كلام الله، فإنه الروح التي بها الحياة، والنور الذي به الهداية.

هداية القرآن الكريم

عرفنا مما درسنا أن هذا القرآن الكريم -كلام الله- لا ريب فيه، وأن فيه هدى، والهدى: ما يصل بك إلى مطلوبك، وينتهي بك إلى رغائبك، وما تريد أن تنتهي إليه من كمال وسعادة، لكن هذا الهدى مكنون في باطنه. من ينال هذا الهدى؟أولاً: من يؤمن بالله ولقائه .. بالله ورسوله .. بالله وكتابه، ثم يتقي الله عز وجل فلا يخرج عن طاعته فيما يأمر وفيما ينهى، فهذا الذي تتجلى له أنوار الهداية ويجدها في القرآن الكريم، هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].وذكر الله تعالى أنهم: هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، واقرءوا إن شئتم: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:2-5]، لا سواهم.

أقسام الكافرين

ثم ذكر تعالى حال الكافرين، وقد عرفنا أنهم صنفان: صنف توغلوا في الشر، في الظلم، في الفساد، في الخبث يوماً بعد يوم، عاماً بعد عام، حتى مضت فيهم سنة الله عز وجل، فختم على قلوبهم وعلى أسماعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فهم لا يسمعون، ولا يفهمون، ولا يعقلون، ولا يبصرون، هؤلاء مصيرهم معلوم، الخلود في عالم الشقاء في النار دار البوار، لا يخرجون أبداً بليارات السنين، وليس هناك مكان آخر، وفيهم يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] لم؟ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7]، الختم على الظرف، الختم على الآنية، من أين يدخل الشيء والختم موجود؟ من أين يدخل نور الإيمان أو معاني الإيمان أو مفاهيم الكلام وقد أغلق على القلب، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]، نعوذ بالله أن نكون منهم، أو يكون بيننا أحد منهم!الصنف الثاني: كفروا، وظلموا، وفسدوا، لكنهم ما توغلوا، أي: ما وصلوا إلى مستوى أن طبع على قلوبهم وختم على سمعهم وأبصارهم، فهؤلاء بلغهم دعوتك يا رسولنا! وأنذر وخوف، فإنهم يدخلون في رحمة الله، وقد دخل من هذا العدد بلايين.

صنف المنافقين

جاءت الآيات تذكر لنا صنفاً آخر من الخلق، ألا وهم المنافقون.ومن هم المنافقون أيها المؤمنون؟ هم الذين يبطنون الكفر في قلوبهم ويخفونه في نفوسهم ولا ينطقون به أمامكم أيها المؤمنون، وهم الذين يتظاهرون بالإسلام فيصلون معكم، وقد يجاهدون إلى جنبكم، ولكن من باب أن يحفظوا على أنفسهم حياتهم وأموالهم ووجودهم؛ لأنهم لو أعلنوا عن الكفر والردة لقتلوا بيننا، ولا نسمح لهم بالبقاء في ديارنا.فخوفهم من السيف حملهم على أن يصروا على كفرهم، وعلى تكذيبهم بوجود الله .. بعلم الله .. بقدرته .. بحقه في الطاعة والعبادة .. بالكفر برسول الله وبكتابه، ولكن يداهنون مؤقتاً.وهؤلاء المنافقون كانوا موجودين والقرآن ينزل في هذه المدينة النبوية، فما زال القرآن ينزل ويصفي ويغربل حتى ما بقي منهم أحد، فمنهم من مات على كفره ونفاقه، وأغلبهم مات على الإيمان والتوحيد.والآن لا يسمون بالمنافقين بل يسميهم العلماء بالزنادقة، والواحد زنديق، والجمع زنادقة، فالزنديق: هو الذي يتكلم ببسم الله، ورسول الله، كأنه مؤمن، وهو فقط يضحك على المؤمنين، ويسخر منهم من أجل أن يصل إلى أغراضه الهابطة الدنية، أو يخاف أن يطرد من القرية أو من الحي أو يهجر فلا يتكلم معه، فهذا يقال عنه: الزنديق، وهو المنافق.وهؤلاء المنافقون نسمع الله تعالى يخبرنا عنهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، ومن أخبر عنهم؟ العليم بقلوبهم، وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:8-9]، إي والله. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10]، أي مرض هذا؟ هل يعرفه الأطباء؟! هل هو الخفقان؟! هذا مرض الشرك، والكفر، والنفاق، وبغض الإسلام وأهله، وبغض التوحيد والداعين إليه، وبغض دار السلام وأهلها، فهؤلاء يزيدهم الله مرضاً، والمرض إذا لم يعالج في الجسم فإنه يستشري وينتصر فيعجز الأطباء عن مداواته، فهذا الفريق من المنافقين يموت على الكفر ولا يعالج. وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10]، إن ماتوا على كفرهم ونفاقهم. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:11-12]، وقد ذكرنا وأشرنا إلى أنهم كانت لهم اتصالات باليهود، واتصالات بالكافرين في مكة وخارجها، بل حتى مع الروم، وإذا سئل يقول: هذا من أجل تحقيق الأمن للبلاد .. من أجل أن ندفع شر هؤلاء الكفار أو اليهود، نحن مصلحون، وعندما يقول له المؤمن: كيف تتصل بفلان، فالبارحة كنت في بيته وهو كافر من اليهود؟ يقول: لغرض صحيح، للدفاع عن الحقيقة، لرد هؤلاء عن ظلمنا والاعتداء علينا.إذاً: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11] أي: بالمعاصي، فالإفساد في الأرض يكون بماذا؟ وأنا أريد أن يبقى هذا علماً راسخاً في نفوس المؤمنين والمؤمنات فلا نتردد: الإفساد في الأرض بم يكون؟ الإفساد يكون بمعصية الله ورسوله؛ لأن الذي عصى الله: أجرم، ظلم، فجر، اعتدى، سرق، كذب.إذاً: هذا هو الفساد؛ ولهذا جاء في آية سورة الأعراف: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، كان في البلاد كفر، وظلم، وشر، وفساد، فجاء نور الإيمان فاشتملته القلوب والأبصار، وظهر النور، واستقام أهل البلاد، فمن جاء يحدث باطلاً أو شركاً أو كفراً أو ذنباً فقد جاء ليفسد في الأرض.إذاً: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:12-13]، آمنوا كما آمن فلان وفلان وفلان من إخوانكم وجيرانكم: قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13]، فيعتبرون الذين دخلوا في الإسلام من اليهود ومن العرب المشركين سفهاء، كيف يذوبون في هذه الدعوة ويتخلون عن عقائد آبائهم وأجدادهم ومميزاتهم، ويدخلون في هذه الدعوة التي قد لا تدوم أعواماً بعد اليوم؟! فيقولون بهذا القول: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13].قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13]، كيف يعلمون وهم كالأبقار انطمست بصائرهم وعميت عيونهم.

ضرب الأمثال للمنافقين

ضرب الله تعالى للمنافقين مثلين فقال: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:14-16]. هنا مثلين: مثل ناري: مضروب للذين علم الله أنهم يموتون على النفاق، ومثل مائي: مضروب لمن يرجى لهم العودة إلى الطريق المستقيم، وإلى الدخول في رحمة الله.قال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18]، وهذا النور معبر عنه بالنار والنور القرآني، والآيات تنزل، فإذا نزلت الآية وكانت تحمل بشرى وهداية، وما سمتهم، ولا عرَّضت بهم، فرحوا واطمأنوا، فإذا نزلت الآية كالرعد القاصف تخرج نفاق المنافقين -والعياذ بالله تعالى- أصابهم ما أصابهم، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18].المثل الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:19]، مطر يقال فيه: الصيب؛ لأنه يصب، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19]، هذه هي الآيات وأنوارها، فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:19-20]، برق الآيات وأنوارها. كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، ولو شاء الله لأصابهم ما أصاب الأولين، وماتوا على النفاق، ولا دخول في الإسلام، ولا نظر إلى رحمة الله.

نداء الله للناس أجمعين

بعد الآيات الأولى التي كشفت الهدى وبينته جاء نداء الله عز وجل للبشرية كلها بعنوان: الناس، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21]، أبيضكم وأسودكم .. عربكم وعجمكم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، أمرنا بأن نعبده، كيف نعبده؟ نعبده بما يبين لنا من أنواع الطاعة، إذ العبادة من العبودية، إذا قال: قوموا قمنا، وإذا قال: اقعدوا قعدنا، وإذا قال: انظروا، نظرنا، وإذا قال: أغمضوا أعينكم غمضنا. ولو لطول الحياة؛ لأننا عبيد.قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، أي: بما شرع لكم من أنواع العبادات والطاعات.لم هذه العبادة؟ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21]، إذا خطر ببال أحد: مَنْ هو هذا الذي يأمرنا بعبادته؟ من هو؟ الله الذي خلقك، وخلق أمك، وأباك، وجدك، وجدتك وإلى آدم الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، قد يقولون: نحن لسنا بمخلوقين، إذاً: هؤلاء مجانين، فلا يدخلون في دائرة الكلام معهم، مخلوقون وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] أيضاً، ما أنتم وحدكم، أي: اعبدوا الله الذي خلقكم، وخلق من قبلكم بل وخلق كل شي، وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:81]، فالذي صنعك، وصورك، ووهبك حياتك، طلب منك أن تطيعه من أجل أن يكملك ويسعدك وأنت تقول: لا، لا. هذا جنون أو عقل؟! خلقك وصورك، ووهبك سمعك وبصرك وحياتك، وخلق كل شيء في الكون من أجلك، وطلب منك أن تطيعه؛ لأجلك أنت لا لأجله هو، حتى تكمل وتسعد في الدار الأولى والدار الثانية، وأنت تقول: لا، لا.. لا أعرفه.أرأيتم هبوط الكافرين والمشركين؟! دون البهائم، فالذين يرفضون عبادة الله مستواهم أحط من البهائم، والله تعالى ما قال: اعبدوا الجبار العظيم الذي بيده أرواحكم وأرزاقكم، والذي إن شاء أماتكم وأبادكم. ما نادى بهذا النداء، بل نادانا بما يمكن أن يعقله الرجل والمرأة والعربي والعجمي. اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، أي: خالقكم، الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21]، وعلل فقال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] بذلك عذابه ونقمه، أي: اعبدوه لتحصلوا بتلك العبادة على النجاة مما تخافون، ومما تحزنون وتتألمون. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، نتقي ماذا؟ عذاب الله، حتى لا نقع في فقر، ولا في فتنة، ولا في اضطراب، ولا في آلام، ولا في حروب، ولا ولا.. هذا في الدنيا، وعلَّنا نتقي أيضاً عذاب الدار الآخرة التي نرحل إليها تباعاً، واحداً بعد واحد، ومائة بعد مائة، والمصير واحد إلى دار البوار أو دار السلام.سبحان الله العظيم! ماذا يريد الله تعالى من العباد؟ يريد أن يكملوا ويسعدوا في الدنيا والآخرة، وأسباب الكمال والسعادة في طاعته، طاعته فيما وضع من قوانين من شأنها أن تزكي النفس وتطهرها، وأن تهذب الأخلاق وترفعها، وأن تحسن الآداب وتسمو بها، فينتهي الظلم والشر والخبث والفساد، فيعيشون على سطح الأرض كالملائكة في السماء، قالوا: لا، الشيطان ما يريد.

إثبات ربوبية الله على العباد وتفضله عليهم

زاد الله الأمر بياناً فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة:22]، إذا ما عرفتم الله بخلقه لكم، وخلق من قبلكم انظر .. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة:22]، مبسوطة: تبني، تنام، تحرث، أليس كذلك؟! وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22]، فوقكم، لو شاء لخرَّت من فوقكم، من يبقى؟ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج:65].لو تسقط الشمس فقط -والعياذ بالله- والله لا يبقى موجود على الأرض. لا يا شيخ! ما من شأنها أن تنزل، أن تسقط فقط، فلو نزلت عن مستواها لاحترق الكون، والشمس حرارتها معروفة والأبعاد ما تدركها بعقلك، ومع هذا لو تخرج عن فلكها وتنزل لاحترق كل شيء، ولو ارتفعت لتجمد كل شيء، فنحن نعيش بحرارة الشمس بفضل الله. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [البقرة:22]، تكلمنا عن المطر الصناعي، وهل هناك مطر صناعي هذه الأيام في الصين أو في اليابان؟ قالوا: المطر الصناعي .. المطر الصناعي، وكتبت الجرائد والصحف: يتحدون بالمطر الصناعي، هل فعلاً حصل مطر صناعي؟ فرنسا عندما أصابها جدب في عام من الأعوام قالوا للمسلمين: صلوا وادعوا لنا الله عسى أن يمطرنا، وخرجنا وصلينا وأمطرهم الله.أين المطر الصناعي؟! فقط أنابيب مخروقة يخرج الماء منها، وقالوا: هذا المطر الصناعي.تدرون قبل ثلاثين .. أربعين سنة لما بدءوا يفكرون في قضية الطلوع إلى القمر، أخذت صحف العرب تكتب: من يحجز من الآن؟ احجزوا منازل في القمر، وشطحوا ورقصوا. فأين الطلوع إلى القمر؟! وقبل أيام أعلن أنها مناورات وكذب، وتمثيليات في الجبال فقط، وقد سبقت إلى هذا الصين الشيوعية أيام قوتها وشدتها، فنشرت في مجلاتها أنها مؤامرة ضد البشرية تمت بين الدولتين العظيمتين: روسيا وأمريكا، لإذلال البشر وإخضاعهم، وكل ما قالوا باطل، والذي يعرضونه في التلفاز وشاشات السينما تمثيليات فقط. أما نحن فبكينا، وقلنا: يا رب!يا مسلمون! اخجلوا، لا تتبجحوا بانتصارات أعدائكم، فعدوك يحقق هذه الأهداف السامية العالية، وأنت تمدحه وتثني عليه، ما تستحي؟! أما الصين فما أخفت هذا عن شعبها ولم تذكره، بل قالت: باطل، ليبقى الشعب الصيني متماسكاً وقوي الروح، ويستطيع أن يقف في وجه روسيا أو أمريكا، ونحن أبقار هابطون نصفق لهم، وإذا قلت: ما طلعوا. قالوا: اسكت، أنت رجعي، وأنت كيف ما طلعوا؟! وهذا الحديث سمعتموه أو لا؟ أعدناه من ثلاثين سنة، أين الطلوع إلى القمر؟ آه.إذاً: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، رزقاً لمن؟ لله وملائكته! لا، لكم يا بني آدم، من ينزل الماء من السماء؟ كيف يتحول هذا الماء؟ كيف يتكون؟ كيف؟ دعنا من آثار تكوينه، نزل ماءً عذباً فراتاً، فإذا انقطع ماتت الأرض ومات أهلها، وهذا ما نعرفه، أنه ربنا وخالقنا، نقول: من هذا؟

ربوبية الله تقتضي توحيده في عبادته وعدم الإشراك به

قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، فبعد هذه المعرفة اليقينية يجوز أن تقول: يا ألله! ويا عيسى؟! أو يا رب ويا هبل؟ أو يا رب وسيدي عبد القادر ؟! يجوز أن تجعل مضاداً لله تضاده به؟! لا يصح أبداً إلا التوحيد: لا إله إلا الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي من الصالحين، فضلاً عن الأوهام، وما عبد البشر إلا بأمر الشيطان وتزيينه، إذ عبدوا حتى الفروج.إذاً: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22]، تضادونه بها بأن تعبدوه، فمعه تدعونها، تستغيثون بها، تذبحون لها الذبائح، تنذرون لها النذور، تتمسحون بها، تعكفون عليها، تعلقونها في أعناقكم.واليوم أخبرني طالب وهو صادق، أن مسيحياً مصرياً مدسوساً هنا جاء للعمل، فضبطوه وفي عنقه سلسلة الصليب، فمسكوه وكسروا الصليب وتركوه، وهو لا ينفعه. وعيسى نفسه الذي وضع الصليب له والله لن يغني عنك من الله شيئاً، والصليب في عنقه مضادة لله ومحادة له، فماذا ينفع الصليب؟ ماذا ينفع عيسى، أو أمه، أو جبريل عليهم السلام؟ من يستحق أن يعبد؟ الله، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فالذي ما خلق، ولا أمر، ولا كوَّن كيف يعبد؟إذاً: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، نعم يعلمون، لو تسألوه عن هذا الصليب: هل يشفيك من مرضك؟ تترك العلاج؟ يقول: لا، لا يشفي، هذا الصليب يمثل عيسى، وعيسى عليه السلام أنت تقول: ذبحوه وقتلوه، فلو كان ينفع ويضر فكيف يصلبونه على أخشاب والناس يشاهدون؟ أين عقول النصارى؟! والله -سبحان الله العظيم- إذا تكلم البصير منهم يقول: عادات فقط جرى عليها الناس، الإله يذبح ويصلب! سبحان الله العظيم! والدليل على أنه صلب أنهم يعلقون الصليب؛ لأنه صورة عيسى لما قتل وصلب من قبل اليهود، يا سبحان الله! والقرآن يصرح بأن عيسى ما قتل ولا صلب، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، ونقول: لا. القرآن يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، لا لا لا.. هذا قرآن العرب.وتمضي الأيام وتتوالى القرون والأعوام ونسمع ونحن في الدرس أن بولس الثامن أعلن أن اليهود برآء من دم المسيح، أما سمعتم بهذا بولس ! والغريب أن بولس هذا اسم قس، ورئيس كنيسة، وبولس عندنا ماذا في جهنم؟ درك من دركات النار اسمه: بولس.بولس يقول: إن اليهود برآء من دم السيد المسيح، فلا تحملوا لهم أيها النصارى العداء والبغضاء، وما قال هذا إلا بالمال؛ لأن اليهود سيطروا على العالم في باب البنك والرصيد والمال، فأخضعوا أوروبا وأمريكا، وأخضعوا العرب والمسلمين. سمعتم بهذه؟ قلنا: آمنا بالله، نحن من قبل نقول: عيسى حاشاه ما قتلوه وما صلبوه، بل رفعه الله إليه، وسينزل، وهم: لا لا لا.. قتلوه، هل استطاعوا أن ينزعوا الآن الصليب من أعناقهم؟ ما استطاعوا.

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ...)

الآن مع قول ربنا: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، يخاطب الله تعالى البشرية كلها، وبخاصة الكافرين، والمشركين، والمنافقين، فيقول لهم: وَإِنْ كُنتُمْ [البقرة:23]، وبعد هذا النداء الذي وجهناه إليكم، والبيانات والبراهين التي لاحت في الآفاق بينكم بأنه لا إله إلا الله، فاعلموا أن محمداً رسول الله. يا من شهدوا أن لا إله إلا الله لما ظهر لهم من الآيات ولاح لهم في الآفاق من بينات، وعرفوا ألا يعبد إلا الله، فقالوا: لا إله إلا الله قولوا: محمد رسول الله.والبرهنة والتدبير على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله اسمع! وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة:23]، والريب: الشك الذي معه اضطراب في النفس، وقلق وحيرة، فليس مجرد شك وصاحبه هادي النفس بل في قلق. وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، من عبده هذا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الإضافة للتشريف: عبد الله، ومن منا يرقى إلى هذا المستوى، ويصبح حقاً عبد الله؟ تصبح عبداً لله مطيعاً له في حركاتك وسكناتك، وفي أفكارك، وميولك، وما تحمل من حياة، كل ذلك لله فأنت عبده إذا قال: قف. وقفت الدهر كله، وإذا قال: نم. نمت كذلك، ولا تصرف لك أبداً بل الكل لله. هذا العبد الذي استعبده بالخدمة، بالطاعة .. بالعمل المتواصل .. بترك كل شيء من أجل الله عز وجل. وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] من الآيات القرآنية التي حواها هذا الكتاب. ومن نزل هذا الكتاب؟ الله جل جلاله.فإن كنتم في ريب من تنزيل هذا الكتاب، أي: من كونه نزله الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ليقرر رسالته ونبوته، وليجيب طاعته والاتباع له فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، تفضلوا! الباب مفتوح، نعطيكم عاماً .. عامين .. ثلاثة .. ألف سنة، تفضلوا فأتوا بسورة من مثل محمد في أميته، وعدم قراءته وكتابته وعلمه، أو من مثل هذا القرآن الكريم، والقرآن حمال أوجه.والشاهد في الاثنين، فأتوا بسورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم وقد عاش أربعين سنة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ونزل عليه القرآن، وهو لا يفرق بين الألف والباء، ولا بين الهاء والواو.ولما بلغ الأربعين سنة نبئ، وهذه سنة الله في تنبئته وإرسال رسله، فعامتهم ينبئهم إذا بلغوا سن الرشد والكمال العقلي؛ لأن الفتوة والشباب يوجد فيها طيش للعبد؛ ما فيه ثبات ورصانة، ولكن إذا بلغ الأربعين اكتمل عقله ونماؤه، فسنة الله في هذا الباب ما نبأ ولا أرسل إلا من بلغ الأربعين، هذا في الغالب. فَأْتُوا بِسُورَةٍ [البقرة:23] من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وتفضلوا!ووجه آخر: فَأْتُوا بِسُورَةٍ [البقرة:23] من مثل القرآن.وهذا التحدي الإلهي قائم إلى الآن، فهل استطاعت البشرية أنت تأتي برجل يقول: أوحي إلي القرآن وأنزل علي كتاب، وهذه سورة من سوره؟! ما استطاعوا.وهنا حقيقتان أو وجهان مشرقان:الأول: أن الله عز وجل صرف قلوب البشر عن محاولة الإتيان بسورة، ومن يقوى على صرف قلوب البشر إلا الله؟ أجيال، الجيل بعد الجيل، وما هناك من حاول أن يأتي بسورة من مثل القرآن، ومن يقدر على قلب القلوب وصرفها؟ ما هي من جيل ولا من أمة؟ ألف وأربعمائة سنة، وهو كذلك.ثانياً: القرآن المعجز بألفاظه .. بكلماته .. بجمله .. بمعانيه لا يستطيع أحد مهما أوتي من الفصاحة والبلاغة والبيان لن يستطيع أن يأتي بسورة من مثل القرآن.إذاً: هذا التحدي قائم وباقٍ إلى الآن، فهو وحده يشهد أن محمداً رسول الله، إن طولبت وطلب منك التدليل على نبوة محمد ورسالته أجيبوا بكل سهولة: أنزل الله عليه كتابه مائة وأربعة عشر سورة، وتحدى الله البشرية كلها أن تأتي بسورة من مثله فعجزت، فدل هذا يقيناً أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، وجاء قول الله عز وجل: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، وجاء أيضاً: فأتوا بمثل القرآن، فعجزوا إذ قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ [الإسراء:88] وتعاونوا وتضافروا، عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88]، من سورة الإسراء، قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، أي: معيناً ومساعداً، فالشياطين والجن فسقتهم وفجرتهم، والبشرية فجارهم وطغاتهم كلهم تعاونوا على أن يأتوا بمثل القرآن في هدايته وقضائه وأحكامه وشرائعه وبلاغته وبيانه فوالله ما استطاعوا، ومن هنا نزل تعالى وتحداهم بعشر فقط: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود:13]، ثم تحداهم بسورة واحدة من سورة يونس: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس:38]، وفي البقرة هذه الآية التي ندرسها: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، أي: من القرآن بأحكامه، وشرائعه، وآدابه، وقصصه، وأخباره، وأنبائه: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ [البقرة:23] الذين تعبدونهم، وتستغيثون بهم، وتستعينون بهم، وترجون شفاعتهم فليتفضلوا ليعينوكم، ويقفوا إلى جنبكم، ويساعدوكم على إتيان سورة فقط من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، ويشهدوا لكم بأنكم على حق أيضاً، فعجزوا وما استطاعوا إلى اليوم.
تفسير قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين)

تصريح القرآن بعجز المنكرين له عن الإتيان بسورة من مثله

قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، يفعلون ماذا؟ الإتيان بسورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، مستعينين بشهدائهم، بآلهتهم، بشركائهم، بمن يدعونهم، بمن يعولون عليهم من الإنس والجن، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، هذه (لن) الزمخشرية.وقد اختلف النحاة في (لن) هل نفيها مؤبد أو نفيها كنفي لا: لا تأكل .. لا تشرب، لن تأكل بعد اليوم ولن تشرب؟ فالجمهور على أنها مثل لا النافية، أما الزمخشري اللغوي البحر فيقول: (لن) هذه تدل على النفي المؤبد، فإذا أردت أن تحرم أخاك من شيء، تقول له: لن أعطيك بعد اليوم، فلا يطمع، أما إذا قلت له: لا أعطيك بعد اليوم. ممكن تتراجع وتعطيه، لكن إذا قلت: (لن) أبَّدت النفي، وهنا (لن) للتأبيد. وَلَنْ تَفْعَلُوا هل فعلوا؟ لا.وهنا دائماً أذكر الأبناء والإخوان والمؤمنات من باب التبيين والتوضيح، أقول: لو أن أمريكا أنتجت آلة من الآلات الصناعية، ثم أعلنت أنها تتحدى العالم الإنساني سبعين سنة، ومن بين ذلك أوروبا الصناعية، واليابان الصناعية، وروسيا الاتحادية، فإذا استطاعوا أن ينتجوا مثل هذه الآلة، وهل تفعل أمريكا هذا التحدي؟ لا تفعل، وإذا تحدت فإنها تفضح.وأقول كذلك: اليابان الصناعية الآن متفوقة، فهل تستطيع أن توجد شيئاً من الصناعات ولو إبريقاً من أباريق الماء أو الشاي وتقول: أتحدى العالم الإنساني لمدة خمسين سنة أن ينتجوا مثل هذا؟ ممكن يقع هذا؟!والجبار جل جلاله وعظم سلطانه يقول: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، إلى الأبد، هل فعلوا؟ ما فعلوا.لو اجتمع علماء اللغة والبيان والفصاحة والسحر والمنطق كلهم وقالوا: نجمع عقولنا وقلوبنا على أن نأتي بسورة، ونعلن عنها في الصحف وفي الجرائد وفي الكتب أنها كسور القرآن:أولاً: الله يصرفهم، والله ما يجتمعون على ذلك، أليست قلوبهم بيد الله فهو الذي يصرفهم!.ثانياً: لو أراد الله أن يتركهم يتخبطون ليفضحوا، وتنكشف عورتهم، والله ما أن يقدموه حتى يضحك منها النساء والرجال: هذا كلام الله؟ هذا يشبه كلام الله حتى ننسبه إلى الله عز وجل؟ وتتم الفضيحة الكبرى.هذا معنى قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24].

كيفية اتقاء النار

إذاً: ماذا تنتظرون؟ ثبتت نبوة محمد، وتقررت رسالته، صح دينه. إذاً: فانجوا واطلبوا النجاة لأنفسكم: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، وما دمتم عجزتم، وعرفتم ضعفكم وعجزكم، ولاحت أنوار الكمال المحمدي وأنه رسول الله، وأن هذا وحي الله وكتابه، فأنقذوا أنفسكم من النار.إذاً: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا [البقرة:24]، أي: ما تتقد به وتشتعل، ليس فحماً، ولا حطباً، ولا بنزيناً، ولا غازات، بل وقودها أجسام الكفرة والكافرات، والمشركين والمشركات، العظام واللحوم، ومادة أخرى هي حجر من سجين، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، وهذا النوع من الحجارة ما رأيناه، ولكن البشر رأيناهم، فما هناك حطب، ولا خشب، ولا غازات، ولا.. هذا العالم المشتعل يشتعل بأجسام البشر وبالحجارة التي كانت آلهة وأصناماً يعبدها المشركون، وهذه الحجارة هي أصنام المشركين التي نصبوها حول بيوتهم وفي المنعطفات يعكفون عليها ويأتونها، ويتقربون إلى الله بالتمسح بها، والعكوف حولها.ومن الأمثال اللطيفة، أن العرب في جاهليتهم لما جاءهم عمرو بن لحي بالأصنام من الشام، الذي رآه الرسول في النار لما كشفت له وشاهدها، فوجده يجر قصبه في جهنم، فـعمرو بن لحي لما جاء بالأصنام انتشرت، وأصبح كل منعطف، كل حي في المدن، يجعلون تمثالاً، وإذا بأحد الأعراب ذهب إلى صنمه ليزوره ويستشفع به ويتبرك به، فلما دنا منه وجد ثعلباً قد رفع رجله ووضعها على كتفه ويبول عليه، كعادة الذئاب والكلاب عندما يبول أحدها يرفع رجله على شيء مرتفع، فنظر إليه ثم قال:أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالبواعتزله حتى مات، وتخلى عنه. ففطرته اقتضت هذا، كيف أن ربي آتيه لأعبده والثعلب يبول على رأسه، وما يدفعه ولا يقتله؟!ووا أسفاه، ووا حسرتاه!! فقد وقع آباؤنا وأجدادنا من القرن الثامن أو السابع في مثل هذه العمياء فعبدوا قباب الصالحين وقبورهم، وتقربوا إليها أكثر مما يتقربون إلى الله، فيحلفون بها، ويستغيثون بها، ويجعلون البقر والغنم لها، ويجعلون الأشجار لها، وهكذا مثل ما كان المشركون، ولا لوم ولا عتاب؛ لأن نور القرآن صُرف عنهم، فعاشوا في ظلام.وأنتم الآن ترون شيخاً يدرسكم القرآن أو لا؟ هذا كان مستحيلاً، يقولون: كيف يتكلم في كلام الله؟ ممنوع، لم؟ يقولون: القرآن فيه الناسخ والمنسوخ، فيه مجمل ومفصل، فيكفينا كتب الفقه، لا نتورط ونكذب على الله، فأصبح من يقول: قال الله؛ يرمى بالحجارة، فصرفوا أمة الإسلام عن القرآن.إذا ذهب القرآن بنوره أسألكم بالله: من أين تأتي الهداية؟ كيف يعرفون التوحيد؟! هذا هو السر.الحمد لله الآن، ولا ندري لو كنا في بلد آخر يسمحون لنا أو لا؟ الآن الحمد لله من نيف وأربعين سنة ندرس كلام الله في بيت الله ومسجد رسوله.والشاهد عندنا في أن ظلام الجهل هو الذي أوقعهم في عبادة غير الله عز وجل يستشفعون بغير الله.وقوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، والسؤال معاشر الأبناء: بم نتقي النار؟ كنا نقول بالأمس: بم نتقي الله أو لا؟ وبم نتقي الحر أسألكم بالله؟ بالمكيفات والشمسيات أو لا؟ وبم نتقي البرد؟ وبم نتقي الجوع؟ لكل ما نخاف منه له ما يتقى به أو لا؟ فالنار بم تتقى؟إن عرفنا بم يتقى الله عرفنا بم تتقى النار، وإذا اتقينا الله بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمرا باعتقاده وقوله وعمله، وفيما نهيا عن اعتقاده وقوله وفعله، فذاك الذي نتقي به النار؛ لأننا إذا اتقينا الله وبعُد غضبه عنا وعذابه اتقينا النار، لكن من باب التوضيح ومن باب البيان: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، فلا تشتعل بمادة غير أصنام المشركين وآلهتهم التي عبدوها ثم بأجسامهم الضخمة في تلك النار أو ذلك العالم.

إعداد النار للكافرين برب العالمين

هذه النار أُعِدَّتْ [البقرة:24]، الإعداد للشيء إذا كان ذا قيمة، تقول: أعددنا لكم عشاء، معناه تعبنا وهيأنا، كذا أو لا؟ أعددنا للحرب عدتها، أعدت وهيئت بعناية خاصة. لمن أعدت النار؟ للكافرين، للكافرين بيض أو حمر، سود أو سمر. من هم الكافرون؟ إنهم الذين أنكروا وجود الله، وقالوا: الحياة مادة، وهؤلاء كفار جدد ما مضى عليهم أكثر من مائة وخمسين سنة، وهم البلاشفة الحمر الروس، وهؤلاء لم يسبقهم من كفر كفرهم قط في البشرية، بل البشرية موحدوهم ومشركوهم، مؤمنوهم وكافروهم يؤمنون بوجود الله الخلاق العليم، الذي يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويضر وينفع، ولكن أهل الشرك يتوسلون إليه بعبادة غيره، تلك العبادة التي زينها العدو لهم فعبدوها من أجل الله، واقرءوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].ويدلك لذلك أن أبا سفيان يحلف بالله، وأبا جهل يقسم بالله عز وجل، ويحج بيته، فهم مؤمنون بوجود الله، وأما هذا الكفر فجديد، وقد تغير بعدما انهزمت الشيوعية وتحطمت فلبسوا بدلة جديدة وهي العلمانية؛ ليسلبوا عقول البشر، وليتغنوا بالعلم، فيرفضون كل شيء إلا العلم، وهم ما يسمون بالعلمانيين.هل عرفتم الآن العلمانيين؟ ما استطاعوا أن يقولوا: لا إله والحياة مادة. فشلت هذه النظرية. إذاً: كيف يختبئون؟ تستروا بالعلم، فلو رفعت يديك بالدعاء قيل لك: قم اشتغل واسترزق، ولا ترفع يديك إلى السماء، بل اعمل وتعلم العلم.ومن هو الذي وضع هذا المبدأ البلشفي؟ والله إنهم اليهود، ولا عجب، فهم الذين وضعوا هذه من أجل التعجيل بتدمير البشرية والقضاء عليها لتصبح حيوانات يركبون منها ما شاءوا، ويأكلون ويذبحون ما شاءوا، وترتفع راية بني إسرائيل، ومملكة بني إسرائيل، فكل العظائم من السحر ومن موبقات الجرائم من وضعهم، وهم السر في ذلك، لو يسمعون كلامي هذا تأخذهم الحمى، ونحن ما يأخذنا شيء.وأخيراً: ما قلت لكم منذ أيام أنهم عرفوا أن هذه الدولة القرآنية لا تسقط ولا تزول إلا إذا عم أفرادها الخبث، وغطاها الفسق والفجور بالله العظيم، ومددنا أعناقنا كالأبقار، وما بكينا ولا اطرحنا بين أيدي ربنا، واستجبنا لهم ونحن لا نشعر، فهم يعملون على نشر الإلحاد والفسق والفجور؛ حتى تزول هذه العقبة من بين أيديهم، وهذه هي المانعة، عرفوا هذا أو لا؟ فهيا نقارن معرفتهم بأن نستقيم، لا نأكل إلا الحلال، ولا ننطق إلا بالحق، ولا نسكت إلا على الحق، وهكذا طهر وصفاء، ولو يجمعون الجن كلهم بسحرهم ما يؤثرون علينا، ولا يطفئون هذا النور الذي نعيش عليه، لكن عرفوا وما عرفنا، نشروا أفلام الدعارة والفجور بأنواعها، والسحر بضروبه، والآن في المدينة سحرة فكل يوم يكتشفون ساحراً.واسمع الآن، يقول لي طالب: في المدرسة أساتذة يقررون أن كشف الوجه ليس بحرام، بدليل القرآن والسنة، المرأة تكشف عن وجهها وكفيها. يا هؤلاء! أنسيتم قول ربنا: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ [النور:60] أية ثياب يضعونها؟ تنزع ثيابها وتخرج حمراء؟ هذا مقصود الله؟ أعوذ بالله! ما الذي تنزعه؟ تنزع ما كانت تغطي به وجهها وعنقها ويديها، ومع هذا يقول الله: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60] تبقى كالبنت، عمرها مائة وعشرون سنة وهي تخرج كالكتلة في ثيابها السوداء، لا تعرف كبيرة هي أو صغيرة. ولولا هذه الصيحات لفعلوا ما فعلوا، وبدأ الحجاب من عشرين سنة يزول في جامعة جدة، لكن بكى العلماء وبكى المسلمون وأدبوهم، الآن بدءوا يرددون -أيضاً- عن كشف الوجه، وهل ترضى أن تخرج امرأتك كاشفة وتضحك في الشوارع يا ديوث؟ يرضى بهذا مؤمن أو عاقل؟! حتى ولو كانت رمصاء، عمشاء، عمياء ما تريد أن تفضح بين الناس.إن نساء المؤمنين مستورات في الخيام مقصورات حتى في الجنة، فكيف نرضى بأن تصبح المرأة كاشفة عن وجهها ثم عن عنقها أيضاً، وكفيها وهي تلوح في الشوارع؟ أعوذ بالله.ثم لما بدأ دعاة السفور؛ عملاء اليهود في العالم الإسلامي، هل انتهى السفور فقط إلى الوجه؟ نزل إلى الفخذين والركبتين والساعدين، ودمج النساء مع الرجال في كل الأعمال والوظائف حتى أصبحوا كاليهود والنصارى.وهؤلاء في المدرسة لا يستحون أن يقولوا: الكشف ليس في الوجه والكفين، إذا كان فقط الكف والوجه مكشوفان إذاً ماذا بقي؟أنا أقول لهم: انظروا، أنا مستور أو مكشوف؟ انظروا إليّ، هل هناك غير وجهي وكفي؟ هذا هو الحجاب، إذاً السعوديون كلهم متحجبون، هذا فهم وذوق الذي يقصر الحجاب على الوجه والكفين.والشاهد عندنا: هذه أصابع الماسونية اليهودية لعنها الله عز وجل وقطع دابرها. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-30, 03:44 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (115)
الحلقة (122)



تفسير سورة البقرة (80)


رد الله عز وجل على أهل الكتاب تبجحهم بالقبلة، وادعاءهم الإيمان والكمال فيه، لمجرد أنهم يصلون إلى بيت المقدس، ثم بين سبحانه أن البر الحقيقي، والإيمان الصادق هو بالإيمان بالله سبحانه وتعالى وكتبه ورسله، وإقامة شرع الله عز وجل، وحكم دينه في سائر شئون حياته، والالتزام بأداء الحقوق على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، وهذا هو طريق الفلاح والنجاح.

تابع تفسير قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) اللهم حقق لنا ذلك يا رب العالمين.وقد كنا مع هذه الآية العظيمة الجليلة وما استوفيناها شرحاً ولا تفسيراً.

معرفة مقياس الإيمان بعرضه على قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ...)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]. يصح -معشر المستمعين والمستمعات- أن نقول: هذا عرض للمؤمنين الصادقين، شاشة بيضاء من نور الله عز وجل، إن شئت أن ترى نفسك في هذه المواكب السعيدة فانظر: فإن وجدت نفسك فيهم وبينهم ومعهم فاحمد الله وأكثر من حمده وشكره، وإن وجدت نفسك غير موجود فابك على نفسك، واقرع باب الله فإنه يفتحه لك، وادخل في رحمته.وإن وجدت نفسك تظهر في معرض وتغيب في آخر فجد في عزمك من جديد، وأصلح حالك، وحدد وجهة نظرك في مسيرتك، وادخل مع مواكب الإيمان والإسلام قبل أن تفوت الفرصة، والله! إنها لضيقة.

الرد على اليهود والنصارى في ترك حقائق الإيمان والاعتراض بتحويل القبلة

ذكرت لكم أنه لما استجاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، إذ كان يتطلع إلى القبلة ليستقبل بيت الله الكعبة المشرفة، وقد جاء في هذا قول الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، لما استجاب الله تعالى لرسوله اغتاظ اليهود، وكانوا يساكنون اليهود في المدينة، وقالوا: بالأمس يستقبل قبلتنا، واليوم يعدل عنها، ومن الجائز أن يعدل عن القبلة الثانية غداً! والمرض موجود، وكانت شائعات تألم لها المؤمنون، ويكفي أن نسمع قول الله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]، إذ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون قرابة سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس، ثم رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في مخالفة اليهود، فكان يتطلع إلى ذلك، ففتح الله، وأمر المؤمنين أن يتجهوا نحو الكعبة المكرمة.هذه الشائعة أبطلها الله عز وجل بقوله: لَيْسَ الْبِرَّ [البقرة:177] وفي قراءة: ( ليس البرُّ ) أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177]، ما هي قضية قبلة وصلاة فقط، وهذه الآية أيضاً تهز قلوب الذين لا هم لهم من الإسلام إلا الصلاة، فإذا صلى ظن أنه بلغ الكمال في إسلامه!ليس البر تولية وجوهكم قبل المشرق والمغرب، أي: للصلاة، ولكن البر الحق والبرور والصدق والبار بالحق هذا الذي آمن بالله حق الإيمان أولاً، وهل هناك إيمان غير صحيح غير حق؟ نعم. إنه إيمان المنافقين بألسنتهم، ولا دخل له في قلوبهم، وكم من مدعي الإيمان وما هو بمؤمن، فإيمانه كاذب وليس بصادق.

صور الإيمان الحق المتجلية في أركانه وأعماله

فالإيمان الحق تتجلى لكم صوره فيما يأتي: أولاً: آمن بالله، أي: رباً وإلهاً، لا رب غيره ولا إله سواه، هذا الإيمان الحق إن وجد أثمر لصاحبه ثمرتين عجيبتين: الأولى: حب الله، فيصبح يحب الله أكثر من نفسه وأهله والناس أجمعين.ثانياً: يثمر له خشية الله، الخوف من الله، يصبح إذا ذكر الله ترتعد فرائصه ويوجل قلبه، فأيما دعوة للإيمان وصاحبها لا يحب الله ولا يخشاه فهي دعوى باطلة ما هي بحق.ثانياً: وآمن باليوم الآخر، أي: آمن بالله وبلقائه، ولقاء الله متى يتم؟ يوم القيامة في اليوم الآخر حيث البشرية كلها في صعيد واحد في ساحة واحدة تسمى ساحة فصل القضاء، وانظر إلى هذا المنظر: قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر:67-71] ثم قال تعالى بعدها: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر:73]، وانتهى كل شيء، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، فاستقر أهل النعيم في نعيمهم وأهل العذاب في عذابهم.فالإيمان بلقاء الله والإيمان باليوم الآخر قوة دافعة للعبد على أن يطيع الله ورسوله، إذا قويت هذه العقيدة في النفس وأصبح لا يفارق قلبه ذكر الدار الآخرة فهذا يجد العصمة الكاملة، وقد أثنى الله على بعض عباده الصالحين وقال: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] الآخرة، من نسي يوماً واحداً الموت والفناء والبلاء ثم الوقوف بين يدي رب الأرض والسماء أكلته المعاصي واجتاحته، فلهذا من الحكمة أن تجعل الموت نصب عينيك.والإيمان باليوم الآخر -معاشر المستمعين والمستمعات- معناه: الإيمان بالبعث والحساب والجزاء، ليس مجرد لقاء. ثم الإيمان بالملائكة، وقد عرفنا عنهم ما شاء الله، ومن ذلك أنهم لا يحصي عددهم إلا الله، وأنهم موكلون بوظائف وأعمال يقومون بها، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأن من أعظمهم المقربين، ثم الكروبيين، ثم حملة العرش الأربعة الذين يعززون يوم القيامة بأربعة فيصبحون ثمانية، إذ قال تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، وأن منهم الموكلين بالجنة ونعيمها، ومنهم موكلون بالنار وعذابها، وقد عرفنا الزبانية التسعة عشر، وعرفنا مدى قوة هؤلاء الملائكة، فجبريل تجلى وظهر بمكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيام البعثة الأولى وقد سد الأفق كله بستمائة جناح، وعرفنا قوته في سدوم وعمورة مدن قوم لوط؛ جعل عاليها سافلها، ونفخة إسرافيل في البوق في الصور نفخة واحدة تتزلزل الكائنات وتبددها، وقد عرفنا عددهم، فإذا كان كل واحد منا له عشرة: ثمانية حراس واثنان يكتبان أعماله، فكم عددهم إذاً؟وعرفنا الإيمان بالكتب، وهي جمع كتاب، والمراد من الكتب ما أنزل الله تعالى على رسله، وأعظم الكتب أربعة: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وهناك صحف شيث عليه السلام ستون صحيفة، وصحف إبراهيم عليه السلام، وما لم نعلمه أكثر، والذي جاء في كتاب الله وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن نعرفه وأن نؤمن به.ثم الإيمان بالنبيين: جمع نبي، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فما كان رسول إلا وهو نبي، ثم أرسل فهو رسول، وأما النبي فقد يكون نبياً وليس برسول.وقلنا: الفرق بينهما: أن الرسول يحمل الرسالة يبلغها أهل إقليم من الأقاليم أو بلاد من البلدان، والنبي لا رسالة له، يعلمه الله ويخبره ويوحي إليه ولكن هو يعيش على شريعة ورسالة من سبقه، هذا الفرق. فلهذا فعلماء المسلمين شبيهون بالأنبياء، إذا صاموا وصلوا، إذا صدقوا واستقاموا وبلغوا رسالة الله فهم كالأنبياء في بني إسرائيل، لم يوح إليهم بشرع والشرع موجود وهم يدعون إليه.وعرفنا أن عدد المرسلين ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، على عدة قوم طالوت وعلى عدة أهل بدر، وأما الأنبياء فقد ورد في الحديث أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، ويدلك على كثرتهم ما أخبر به أبو القاسم صلى الله عليه وسلم من أن اليهود لما هبطوا هبوطنا هذا كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم ويقيمون أسواقهم في المساء. إذاً: ذلك الذي درسناه من الآية وهو بعضها.

معنى قوله تعالى: (وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين)

انتهينا إلى قوله تعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، (آتى) بمعنى: أعطى، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ [الحاقة:19] أي: أعطي كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الحاقة:19]. فهذا البار المؤمن الصادق صاحب البر: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177] أي: على شدة حبه له وضنه به أعطاه، وإن شئت أيضاً فقل: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177] أي: من أجل حبه الله تعالى أنفق فيما أمره أن ينفق، والكل صحيح، والقرآن حمال الوجوه، ولولا حب الله ما أنفق ماله، ولكن الظاهر هو الأول: أنفق المال مع حبه له ورغبته فيه، وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177] ذوي بمعنى: أصحاب، ذو المال: صاحب المال، ذو الجاه: صاحب الجاه، والجمع ذوو مرفوع وذوي منصوب.(ذوي القربى) أي: القرابات الأقرب فالأقرب، كما قال عمر رضي الله عنه: تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فأنت لا تستطيع أن تصل كل رحم وهم ألف نسمة أو أكثر، لكن الأقرب فالأقرب، الابن قبل ابن الابن، والبنت قبل بنت البنت، والأخ قبل ابن الأخ.. وهكذا في حدود طاقتك وما تتسع له. وَآتَى الْمَالَ [البقرة:177] أعطاه، يحمله بيده ويضعه في يد الآخر.وقوله تعالى: وَالْيَتَامَى [البقرة:177] الذين فقدوا الآباء قبل بلوغهم واستكمال حياتهم، فهؤلاء اليتامى من يقيتهم؟ من يعيشهم؟ لا بد من مؤمنين صادقين ينفقون عليهم.وقوله تعالى: وَالْمَسَاكِينَ [البقرة:177] جمع مسكين، من أسكنته الحاجة وأذلته وقعدت به، فمن لهذا المسكين؟ المؤمنون الصادقون في إيمانهم ذوو البر والتقوى هم الذين ينفقون. وَابْنَ السَّبِيلِ [البقرة:177] وهل السبيل تلد؟ ما السبيل يا هذا؟ هي الطريق، فالسبيل لا تلد ولداً ورجلاً، لا، ولكن الذي جاء معها ودخل بلادنا ولا يعرف فيها أحداً هو ابن السبيل، لا تعرف أباه ولا أمه فتقول: هذا ابن عثمان ولا ابن زيد، هذا ابن السبيل، فهذا إذا نزل بالقرية كما في الزمن الأول لا فندق ولا مطعم، فمن له؟ وإن كان من أغنى الأغنياء في دياره، لكن انقطع، جاء على راحلته أو على رجليه بينه وبين بلاده آلاف الأميال وإن كان غنياً، فماذا يصنع؟ فالمؤمنون الصادقون هم الذين ينفقون عليه حتى يعود. وَالسَّائِلِينَ [البقرة:177] أي: وينفقون على السائلين الذين تدفعهم الحاجة إلى أن يقولوا: يا فلان! سد حاجتي، جعت.

معنى قوله تعالى: (وفي الرقاب)

قال تعالى: وَفِي الرِّقَابِ [البقرة:177] أيضاً، ما معنى: في الرقاب؟ الرقبة هي الجزء المعروف من البدن، ما بين الرأس والجسد، والمراد من الرقاب: المملوكون، المملوك يملك من رقبته أم لا؟ من أين يجر؟ يؤخذ من رقبته، إذاً: هذا المملوك ينتظر من يحرره؟ من يعتقه؟ متى؟ ما يستطيع، فيتفضل المؤمنون المتقون أولياء الله فيشترونه: فيقولون: أنت حر في سبيل الله فاعبد ربك، يتملقون إلى الجبار ويتزلفونه بتحرير عبيده، فهم استُعبدوا بما أذن الله به، ولكن يمتحن الله أولياءه بعتق هؤلاء وتحريرهم. فهذه مشاريع وأبواب الإنفاق: أولاً: (ذوو القربى)، ثانياً: (اليتامى)، ثالثاً: (المساكين)، رابعاً: (ابن السبيل)، خامساً: (السائلون)، سادساً: (في الرقاب)، أي بيان أعظم من هذا البيان؟ بيان من هذا؟ هذا بيان الله، فلهذا أمة حرمت القرآن أمة ضلت وهلكت.

معنى قوله تعالى: (وأقام الصلاة)

قال تعالى: وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177] هذا الذي هو بحق مؤمن بار من ذوي البر، آمن بالله وباليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله والقضاء والقدر، كما في آية سورة القمر: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، الآية الوحيدة، وبينته السنة في صحيح مسلم وغيره من حديث جبريل عليه السلام.ثم بعد هذا بين وجوه الإنفاق بالمال الذي يحبه، أما إذا كان يكره المال وما له فيه حاجة فما يكون هذا مظهراً من المظاهر كما لهذا الفحل، لكن ما حاجته إليه؟ورد في السنة النبوية أن أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت قوي شحيح، أما إذا مرضت وتخاف الموت فالصدقة هينة، أو كنت سخياً طبعت على السخاء تنفق الليل والنهار، لكن أعظم الصدقة أجراً ومثوبة وأنت قوي شحيح تحب الدنيا والمال. وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177]، هل عرفتم إقام الصلاة، ما قال: وصلى، كلا، قال: وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177]، وورد: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4]، فرق بين (صلى) وبين (أقام الصلاة)، فذاك صلى صلاة لا تنتج له الطاقة النورانية، لا تولِّد له الحسنات، أيما صلاة لا تستوفي شرائطها وأركانها وسننها وواجباتها فهذه عملية فاشلة، ما تولد النور، وقد علمنا -زادنا الله علماً- أنه لا عبادة أكثر توليداً للحسنات من الصلاة، شاهد هذا قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فما من مؤمن يقيم الصلاة إلا وينتهي انتهاء كلياً عن القول أو الفعل الفاحش أو الفعل الباطل والمنكر، وكل من ترك الصلاة فهو عرضة لغشيان الذنوب والآثام، وكل من صلى ولم يقم الصلاة لا يسلم من السقوط في الجرائم والموبقات.وهنا كلمة رددناها مئات المرات ولكن ما استجاب أحد، حيث قلت: إذا كنتم تريدون أن تتأكدوا فاذهبوا إلى محافظ المدينة أي مدينة، وقولوا: يا سيد! أعطنا قائمة بالمجرمين في هذا الشهر، وهم كثيرون، هذا سرق.. هذا كذب.. هذا عق أباه.. هذا سب فلاناً، فأقول: أنا أقسم بالله! لن تجدوا نسبة أكثر من خمسة في المائة من المقيمين الصلاة وخمسة وتسعون من تاركي الصلاة ومن المصلين، وأحياناً أقول: اذبحوني إذا ما صدقت، وفي أي بلد في العالم الإسلامي.فالذي يناجي ربه في الليل والنهار لا يفارق محاربه هل هذا ينغمس في المعاصي والذنوب والآثام؟ ما يستطيع، النور يمنعه، أما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فكل المخالفات نتيجة ترك الصلاة أو التهاون بها وعدم إقامتها.والآن أسألكم: لم يقول تعالى: وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177]ولم يقل: صلى؟لأن هذه عبادة إذا أديت على ما وضعها الله عليه تنتج النور للقلب، فإذا امتلأ القلب نوراً فاض على سمعه فلا يسمع باطلاً، فاض على لسانه فلا ينطق بسوء، فاض على عينيه فلا ينظر حراماً، غطاه النور، والذي يعيش في الظلمة أما يقع في الهاوية؟

معنى قوله تعالى: (وآتى الزكاة)

ثم قال تعالى: وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177] فضلاً عن الإنفاق العام في تلك الطرق الستة قال: (وآتى الزكاة)، فيعترف بها أنها قاعدة الإسلام، وآتاها وأعطاها أهلها، وما سميت الزكاة زكاة إلا لأنها تزكي النفس وتطهرها وتزكي المال وتنميه بإذن الله أيضاً، إذا أديت إيماناً واحتساباً وعلى الوجه الذي بين الله عز وجل بلا زيادة ولا نقصان فهذه من شأنها أن تزكي النفس البشرية وتطهرها كالصلاة، لكنها دون الصلاة، الصلاة كل يوم والزكاة في العام مرة.

معنى قوله تعالى: (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا)

قال تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة:177] هذه لا تظنوها سهلة، والموفي من: أوفى، عاهد وأوفى، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة:177] إذا عاهدوا الله أولاً أو عاهدوا رسوله أو عاهدوا إخوانهم أو عاهدوا من عاهدوا لا ينقضون العهد، ولو يترتب عليه هلاكهم أو ضياع مالهم. ومن لم يوف فهو مريض بالنفاق، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وأعطى رجاله أمارة، وما كان عندهم شرطة ولا مخابرات ولا أمن، كل مؤمن شرطي وخبير بالمخابرات وحام وحارس للبلاد والعباد، ولماذا نعمل نحن الآن المخابرات والشرط؟ لأننا هبطنا، فكل مؤمن يجب أن يكون في القرية حارساً أميناً يرعى الحق والفضيلة، وكم كان للرسول من شرطي؟ فكل مؤمن شرطي، أتمر بجريمة وتسكت؟ أتمر بفساد أو شر وتسكت؟ غيِّره فأنت المسئول، لكن قلدنا الغرب من جهة؛ لأن الغرب كفار لا يخافون الله، إذا جاع أكل أمه، لكن المؤمن إذا جاع يحتسب جوعته لله، ما يأكل مال أخيه، لكن لما هبطنا وأصبحنا لا نأمر بمعروف ولا ننهى عن منكر، بل نتآمر ونكون عصابات للشر، إذاً: لا بد من الشرطة والمخابرات والآلات، فاللهم سلم سلم، أو تريدون أن نقول لكم: اتركوا هذا؟ أسلموا يوماً واحداً فقط، هيا نسلم، والله! لتبيتن أبوابكم مفتوحة، أما وقد أعرضنا وما أسلمنا لله شيئاً فكيف إذاً يتحقق الأمن؟ هل لكوننا كنا مؤمنين؟يقول صلى الله عليه وسلم: ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان )، إذا ضبطتم الرجل في القرية هكذا فألقوا القبض عليه فإنه منافق، ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)، والعياذ بالله.

الحاجة إلى التربية المسجدية لإصلاح أخلاق المسلمين

تدخل المحاكم في العالم الإسلامي فتتجلى في الخصومات أنواع الفجور، والخروج عن الآداب واللياقة والعقل والمعروف، ما علة هذا؟والله! لا علة إلا الجهل، قد يقال: كيف تقول: الجهل، والكليات والجامعات والمدارس من موريتانيا إلى إندونيسيا، أي جهل هذا الذي تعني؟ تريد منا أن نجعل في كل بيت مدرسة؟فأقول: الجهل بالله جل جلاله وعظم سلطانه، الجهل بمحابه تعالى ومكارهه، الجهل بما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه، وهذه شريعته كائنة ما كانت، فالذي ما عرف الله بأسمائه وصفاته فما أحبه ولا خافه، فمثل هذا تأمنه؟ يفجر ويأكل ويسخط.إذاً: هيا نتعلم، وما الطريق؟ سوف أموت وتبقى هذه الكلمة مسجلة ولم تطبق، لم؟ أمة هبطت، كيف نطهر قلوبنا ونزكي أرواحنا؟ كيف نبعد ظلمة الجهل عن نفوسنا؟ المدارس كثيرة ووسائل التعليم لا حد لها ولكن ما نفعت؛ لأننا ما طلبنا العلم لله، ما وضعنا وسائله لله.الطريق الوحيد -اللهم اشهد- أن نراجع تاريخ الحبيب صلى الله عليه وسلم، وحينئذ نجد أنفسنا كما كان رسول الله وأصحابه.إذا مالت الشمس للغروب في الساعة السادسة وقف دولاب العمل، الفلاح يرمي بالمسحاة ويوقف العمل، والتاجر يغلق باب المتجر، والعامل، حتى الكناس يلقي المكنسة، أهل البيت يحملون أطفالهم ويخرجون إلى بيت ربهم، ما إن يؤذن المغرب إلا وأهل القرية كلهم في المسجد، ما بقي أحد خارج المسجد إلا مريض أو من في حكم المريض، أهل الحي من المدينة ذات الأحياء إذا أذن المغرب لا يبقي من هو خارج المسجد، كلهم في بيت ربهم، النساء وراء ستارة ومكبرات الصوت تبلغهن الكلام، والأطفال صفوف كأنهم ملائكة دون النساء، والفحول مثلكم أمامهم، ويجلس لهم مرب يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وذلك كل ليلة، فليلة آية وأخرى حديثاً، وهم ينمون ويرتقون ويتعلمون ويعملون، وبعد سنة فقط لن تعثر على معصية في تلك القرية، فلم يبق شح ولا بخل ولا حسد ولا رياء ولا كبر ولا نفاق ولا زناً ولا سرقة ولا خلف العهد ولا كذب، كل ذلك يزول؛ لأنها سنة الله، فالطعام يشبع والماء يروي والنار تحرق والكتاب والسنة يزكيان النفس ويطهرانها، سنة الله تعالى لن تتخلف أبداً، ومن مرض أو اشتد مرضه فليرحل ولا يقيم في الحي ولا في القرية، فلان رحل وما أطاق أن يعيش على نور الله، هذا هو الذي يزول به الجهل، لا المدارس والمكاتب والكليات، هذا هو الطريق، والمدارس افتحوها وتعلموا أنواع الصناعات فيها وتفوقوا، ما عندنا مانع، افتحوها ليتخرج علماء الكتاب والسنة والشريعة، أما التعليم الرباني الروحي المزكي للنفس الذي تظهر نتائجه في أول ساعة فهو في بيوت الله عز وجل، بـ(قال الله قال رسوله)، فتنتهي الفرقة والمذهبية نهائياً، أهل بيت الله يتعلمون كتاب الله وسنة رسول الله، لا إباضي ولا زيدي ولا رافضي، ولا مذهبي، هم مسلمون، والذي ما يطيق هذا النور فهو كالشيطان فليرحل، والله! ما يبقى في القرية أبداً ولا يبقى في الحي، يذهب إلى من هم على صفاته، فهذا هو الطريق.ولا غير هذا أبداً، وقلنا لهم: جربوا، ونحن سنزورهم، والله! لو أن أهل قرية التزموا بهذا المبدأ المحمدي وعاشوا سنة لذهبنا إلى دارهم لنشاهد كمالاتهم، ولكن ما وجدنا، كم مرة ونحن نعيد هذا الكلام، فأين العلماء؟ أين الأمراء؟ أين الأذكياء؟ أين الأغنياء؟ أين البصراء؟ خيم علينا ظلام المستقبل، فلا إله إلا الله!

معنى قوله تعالى: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس)

قال تعالى: وَالصَّابِرِينَ [البقرة:177] أيضاً فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ [البقرة:177]، هؤلاء أصحاب البر الحق، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ [البقرة:177]، والبأساء:حالة البؤس، قد تكون فقراً، والضراء: حالة الضرس، مرض أو غيره من آلام، لا يتتعتعون ولا يتزعزعون، فقير ما يشكو فقره إلا إلى الله، مريض لا يفارقه قول: الحمد لله .. الحمد لله، هذا الصبر لن يتم إلا لأصحاب العقائد التي مرت بنا، فهم الصابرون بحق في حال البأساء وحال الضراء. وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177] أي: وقت الحرب والشدة، البأس هنا القتال، إذا اندفعت كتائب الله تجاهد لا يتزعزعون والموت يتخطفهم، أولئك العالون السامون أين هم؟ في الملكوت الأعلى.

معنى قوله تعالى: (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)

أُوْلَئِكَ [البقرة:177] أشار إليهم بلام البعد، أولئك الذين صدقوا في أنهم مؤمنون، وادعوا الإيمان وقالوا: نحن مؤمنون، هؤلاء هم الذين صدقوا، ومن لم يكن على نهجهم وعلى التجمل بصفاتهم فما هو بصادق، ما صدق في دعواه الإيمان وأنه من أهل البر والتقوى. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] هؤلاء هم المتقون لسخط الله وغضبه وعذابه ونقمه، هؤلاء هم المتقون لغضب الله فلا يغضب عليهم، ولسخطه فلا يسخط عليهم، ولعذاب الله فلا يعذبهم، لا يخزيهم ولا يذلهم لا في دنياهم ولا في أخراهم، لما هم عليه من هذه المناعة الكاملة: إيمان وعمل صالح، فاللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآية الكريمة

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآية الكريمة:في الآيات الثلاث السابقة لهذه الآية ندد الله تبارك وتعالى بأحبار أهل الكتاب وذكر ما توعدهم به من غضبه وأليم عقابه يوم القيامة، كما تضمن ذلك تخويف علماء الإسلام من أن يكتموا العلم على الناس طلباً لحظوظ الدنيا الفانية.وفي هذه الآية رد الله تعالى على أهل الكتاب أيضاً تبجحهم بالقبلة، وادعاءهم الإيمان والكمال فيه؛ لمجرد أنهم يصلون إلى قبلتهم بيت المقدس بالمغرب أو طلوع الشمس بالمشرق؛ إذ الأولى قبلة اليهود والثانية قبلة النصارى، فقال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ [البقرة:177] كل البر أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177]، وفي هذا تنبيه عظيم للمسلم الذي يقصر إسلامه على الصلاة ولا يبالي بعدها ما ترك من واجبات وما ارتكب من منهيات.بين تعالى لهم البار الحق في دعوى الإيمان والإسلام والإحسان فقال: وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:177] أي: ذا البر أو البار بحق هو مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة:177]، وذكر أركان الإيمان إلا السادس منها: القضاء والقدر، وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177] وهما من أعظم أركان الإسلام، وأنفق المال في سبيل الله مع حبه له وضنه به على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فهو ينفق ماله على من لا يرجو منه جزاء ولا مدحاً ولا ثناء؛ كالمساكين وأبناء السبيل والسائلين من ذوي الخصاصة والمسغبة، وفي تحرير الأرقاء وفكاك الأسرى، وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177]] أي: [ أدامها على الوجه الأكمل في أدائها، وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177] المستحقين لها، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من أعظم قواعد الإسلام، وذكر من صفاتهم الوفاء بالعهود والصبر في أصعب الظروف وأشد الأحوال، فقال تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177]، وهذا هو مبدأ الإحسان وهو مراقبة الله تعالى والنظر إليه وهو يزاول عبادته.ومن هنا قرر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون في دعوى الإيمان والإسلام، وهم المتقون بحق غضب الله وأليم عذابه، جعلنا الله منهم، فقال تعالى مشيراً لهم بلام البعد وكاف الخطاب لبعد مكانتهم وارتفاع درجاتهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] ]. هذا معنى الآية.

هداية الآية الكريمة

ومن هدايتها: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآية الكريمة:من هداية الآية الكريمة:أولاً: الاكتفاء ببعض أمور الدين دون القيام ببعض لا يعتبر صاحبه مؤمناً ولا ناجياً ]، فالذي يكتفي ببعض العبادات أو بعض التكاليف عن الأخرى ما آمن ولا هو بناج.[ ثانياً: أركان الإيمان هي المذكورة في هذه الآية، والمراد بالكتاب في الآية: الكتب.ثالثاً: بيان وجوه الإنفاق المرجو ثوابه يوم القيامة، وهو ذوو القربى... إلخ ] إلى آخر ما ذكر تعالى.[ رابعاً: بيان عظم شأن الصلاة والزكاة ]، ولو أن أهل إقليم أقاموا الصلاة فقط فوالله! لانتفت مظاهر الباطل كلها، ما بقي شيء اسمه جريمة، تقام الصلاة فقط، فإذا تركت الصلاة أو أهملت الصلاة تجلى الفسق والظلم والفجور في أعظم صوره.وقد استقل العالم الإسلامي من بريطانيا وفرنسا ومن إيطاليا، وما استطاعت دولة أن تأمر بالصلاة، فأنا في حيرة من هذا، فمن إندونيسيا إلى بريطانيا تستقل الحكومة عن الحكومة الغاصبة والمستعمرة ولا يصدر أمر بإقام الصلاة، ما السر في هذا؟العدو عرف قبل أن نعرف، فمن ثم نزع هذا من قلوب من ولاهم وسلطهم، عرفوا لو أن الصلاة أقيمت فإنه ينتهي الفقر والبلاء والذل والهون والجرائم كلها، تمسح مسحاً كاملاً إذا أقيمت الصلاة، لم؟أما قال الله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]؟ فالكذب والخيانة وخلف الوعد كل هذه المصائب من ترك الصلاة وعدم إقامتها.[ خامساً: وجوب الوفاء بالعهود.سادساً: وجوب الصبر وخاصة عند القتال ]؛ لقوله تعالى: وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177]. [ سابعاً: التقوى هي ملاك الأمر والغاية التي ما بعدها غاية للعاملين ].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-01-30, 03:51 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (116)
الحلقة (123)



تفسير سورة البقرة (81)


كان بعض قبائل العرب يتعاملون مع قضايا القتل والثأر بنوع من التميز، ويتخذون لأنفسهم مقاماً أعلى من مقام الناس، ظناً منهم أن ذلك يجوز لهم، فإن قُتل لهم امرأة قتلوا بها رجلاً ممن سواهم، وإن قُتل لهم عبد قتلوا به حراً من غيرهم، فجاء الإسلام مبطلاً لذلك، ومبيناً لهم ضوابط الاقتصاص والأخذ بحق الدم، فلا يقتل بالعبد حر ولا عبدان، ولا بالرجل رجلان، ولا بالمرأة رجل ولا امرأتان، لكن من قتل إنساناً قتل به، إلا أن يتنازل أولياء الدم إلى الدية أو العفو فلهم ذلك.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله جل جلاله وعظم سلطانه.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات من سورة البقرة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:178-179].معاشر المستمعين والمستمعات! أذكركم بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، كما أذكركم بفضيلة أخرى هي لكم بإذن الله، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).وهذه الآيات سبقت لنا دراستها في نداءات الرحمن؛ لأنها إحدى النداءات الإلهية، ولا بأس بتكرارها؛ إذ الشيء إذا تكرر تقرر، بهذا قال أهل العلم، فهيا إلى شرح هذه المفردات المباركة.

شرح الكلمات
قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178]، من الذي كتب؟ الله جل جلاله، وهذا الكتب بمعنى الفرض، وكتب في أي كتاب؟ في القرآن وكتاب المقادير اللوح المحفوظ، إذ القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، واذكروا قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]، ونزل في ليلة القدر، واستمر نزوله ثلاثاً وعشرين سنة.

وسطية الأمة في استيفاء الولي حق دم وليه

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات: كتب: فرض، والقصاص: إذا لم يرض ولي الدم بالدية ولم يعف ]، أما إذا رضي ولي الدم بالدية أو بالعفو فلا قصاص، وقد عرفتم فضيلة هذه الأمة؛ إذ كان القصاص فرضاً على بني إسرائيل ولا دية ولا عفو، لو قال ولي المقتول: آخذ دية، لم يقبل الحاكم بذلك، ولو قال: نعفو لوجه الله، لم يقبل الحاكم بذلك؛ وذلك لحكمة علمتموها: أن القوم قست قلوبهم وتمردوا على شرع الله وفسقوا عن أوامره، فلما عتوا أغلظ الله الحكم عليهم تأديباً وتربية.وأما النصارى من عهد عيسى عليه السلام فقد استقلوا أيضاً بديانتهم، فرض الله تعالى عليهم العفو، فلا قصاص ولا دية، من صفعك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر.وهذه الأمة أمة الوسط، وهي -في الحقيقة- البشرية اليوم كلها، وإنما من أجاب أصبح من أمة الإجابة، ومن أعرض أصبح من أمة الكفر والعياذ بالله، والكل نزل القرآن لهم، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم ولهم.قال: [ في القتلى: الفاء سببية، أي: بسبب القتل ]، فقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] أي: بسببه.[ والقتلى: جمع قتيل ]، قتيل وقتلى كمريض ومرضى. [ وهو الذي أزهقت روحه فمات بأي آلة ] كان القتل، بحصاة أو بعصا، بسيف أو برمح، الكل واحد.

قتل العبد بالعبد وبيان تشوف الإسلام إلى تحرير الرقيق

[ الحر ] في قوله تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ [البقرة:178] [ خلاف العبد ]، وهو كذلك، [ والعبد هو: الرقيق المملوك ].كلنا عبيد الله، ولكن فيما تعارفت عليه البشرية أن العبد من مُلِك وتُصرِف فيه، ولملكه عوامل وأسباب أظهرها: أن الحرب إذا أعلنت وانتصر فريق على آخر فسبيهم من الذراري والنساء والأطفال يسترقون، فإذا ما استرقوا ووزعوا على المجاهدين أو المقاتلين يصبح كل واحد مالكاً لعدد من أولئك العبيد، جاء الإسلام والحال هكذا في العالم بأسره، فلم يشأ الله أن يبطله رأساً وفوراً؛ لما في ذلك من تبعات ومسئوليات وقضايا قد لا يتمكن ولاة المسلمين من تنفيذها، لكنه عمل على تحرير الأرقاء.واذكروا قوله صلى الله عليه وسلم: ( من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة حين يصبح كان له عدل عشر رقاب )، ففيه الترغيب بتحرير العباد المسترقين.واذكر لذلك: أن من حلف بالله لا أعطيك، أو بالله لأعطينك وحنث فعليه كفارة، بم يكفِّر هذا الذنب الذي علق بنفسه؟ وسبب الذنب هو أنه نسي أو غفل عن أنه لا يملك أن يعطي ولا يأخذ، أنفاسه مملوكة لله، فمن أين لك القدرة على أن تفعل أو لا تفعل، أتملك ذلك أنت؟ المفروض أن تقول: إن شاء الله، أو: إلا أن يشاء الله، فإذا ما قلت هذا وتجاهلت وقلت: والله! لأفعلن، ثم عجزت تعلق بك إثم لا يمحى ولا يزول أثره إلا بما حدد الشارع وعين، إذاً: فمن حنث فليكفِّر أولاً بعتق رقبة، فإن لم يجد فبإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإن عجز صام ثلاثة أيام، هذه دعوة إلى تحرير العبيد أم لا؟ومن ظاهر من امرأته وقال: أنت عليَّ كأمي أو كأختي، فعليه كفارة، لم؟ لأنه كذب، لأنه حرم ما أحل الله، كيف تكون كأمك أو كأختك؟ فتعلق به إثم عظيم، بم يزول هذا الإثم؟ هل بالتوبة؟ لا تكفي التوبة هنا، شاء الله أن يكون المزيل لهذا الأثر هو أن تعتق رقبة وتحررها لتعبد الله عز وجل، فإن عجزت فصيام شهرين متتابعين، فإن عجزت فإطعام ستين مسكيناً، هذا من عوامل تحرير العبيد أم لا؟والشاهد عندنا في اصطفاء الله لهذه الأمة وتفضيله لها على غيرها من الأمم، ومن ذلك هذه التي نعالجها وهي القصاص، فالحر بخلاف العبد، والعبد هو الرقيق المملوك.

حكم قتل المسلم بالكافر

وقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178]، هناك لطيفة في كلمة: (من أخيه)، هل هو أخوه ابن أبيه أو ابن أمه؟ هذه أخوة الإسلام، والسر فيها: أن الكافر لا يقتل بالمؤمن، ليس الكافر بأخينا حتى إذا قتلناه نُقتل بسببه، وهذا الذي عليه جماهير العلماء والأئمة من الصحابة والتابعين؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( المسلمون تتكافؤ دمائهم )، ثم قال: ( ولا يقتل مسلم بكافر )، لو قتل مسلم كافراً من أي جنس فهل يقتل هذا المسلم؟الجواب: لا؛ لأن دمه لا يتكافأ مع دم المؤمن، والسر وراء ذلك: هو أن هذا المسلم لما أبقي على حياته يبقى يذكر الله ويشكره، والذكر والشكر سر الحياة كلها ووجودها، فإذا قتلناه عطلنا هذا الخير، وحرمناه منه، وعطلنا الملائكة الذين كانوا يكتبون؛ فلهذا من الحكمة أن المسلم لا يقتل بكافر: ( لا يقتل المسلم بكافر )، ما السر في هذا؟الكافر لو قُتل أو ترك هل يعبد الله؟ هل يذكر الله ويشكره؟ لولا رحمة الله والرجاء أن يسلم لم يكن له حق أن يأكل ولا يشرب ولا يتنفس الهواء، لولا رجاء أن يسلم ويعبد الله لم يكن له حق في الحياة، إذ خلق الله كل شيء من أجلنا وخلقنا نحن من أجل أن نعبده، وكثيراً ما تترد هذه الجملة، لو سئلنا عن سر الحياة وعلة الوجود ما هي؟ فإنا نقول: ذكر الله وشكره، أراد الله أن يذكر ويشكر فأوجد هذا الكون وأوجد هذه البشرية، فمن عطل ذكر الله وشكر الله فكفر بالله ونسيه لا حق له في الحياة، فلم يأكل ويشرب؟ وهل هناك سر غير هذا؟ والله! لا وجود له فيما نعلم.فمن هنا هذه اللطيفة في الآية: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178] أي: في الإسلام والإيمان، أما إذا كان ليس بأخ فلا قصاص.

الواجب على الولي والقاتل حال العدول عن القصاص

قال: [ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178] فمن تنازل له ولي الدم عن القود إلى الدية أو العفو ].ما معنى: ولي الدم؟ إذا قلت لأخيك: أنت ولي الدم، قتل عمك فأنت ولي الدم.قال: [ فمن تنازل له ولي الدم عن القود ] وقال: لا أقتادك إلى المجزرة حيث القصاص، تنازل عن القود إلى الدية أو العفو، عفونا عنك، اعبد الله والأجر لنا ولك، أو: قال: أعطونا المبلغ الذي أعطانا الله. [ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178]: فالواجب أن تكون مطالبة الدية بالمعروف ]، أي: [ بالرفق واللين ].[ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178]: وأن يكون أداء الدية بإحسان خالياً من المماطلة والنقص ] وما إلى ذلك، فهذه تعاليم ربانية، هذا هو الأدب الإلهي، الله يؤدب عباده في هذا الكتاب وعلى لسان من أنزل عليه هذا الكتاب. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178] المؤمن شَيْءٌ [البقرة:178] تنازل عن القصاص عن القود ورضي بالدية، فيا من وجبت عليك الدية! تأدب عند أدائها لا تماطل ولا تنتقص منها لا تأتي بأشياء غير سليمة كالإبل يأتي ببعض الأبعرة المريضة أو لا تساوي شيئاً، وأنت أيها المطالب بالدية وقد عفوت ورضيت بالدية أيضاً اطلبها بالتي هي أحسن، لا تعنف وتؤذي هذا المؤمن وقد عفوت عنه، هذه الآداب أين توجد في غير القرآن العظيم؟ والمسلمون عنه معرضون. [ ذَلِكَ [البقرة:178] ] أي: ما سمعتم من الأحكام [ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:178] أي: ذلك الحكم العادل الرحيم وهو جواز أخذ الدية بدلاً من القصاص تخفيف عنكم من ربكم؛ إذ كان في شرع من قبلكم القصاص فقط أو الدية فقط، وأنتم مخبرون بين العفو والدية والقصاص ].أي توسيع أعظم من هذا؟ فقولوا: الحمد لله، الحمد لله.

حكم قتل القاتل بعد أخذ الدية

وقوله تعالى: [ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ [البقرة:178] يريد ] أن [ من أخذ الدية ثم قتل فإنه يتعين قتله لا غير ].رجل قتل آخر فأهل القتيل أخذوا الدية وقالوا: نتنازل عن قتله إلى الدية، ولما أخذوا الدية قتلوه، اعتدوا وقتلوه، فما الحكم؟قال: [ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ [البقرة:178] يريد: من أخذ الدية ثم قتل فإنه يتعين قتله لا غير ] عند بعض أهل العلم.قال في الهامش: [ اختلف فيمن قتل بعد أخذ الدية:فقال مالك والشافعي وكثير من العلماء: هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله، وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة ].مالك والشافعي قالا: هذا كالذي قتل ابتداء، أولياء المقتول مخيرون: إن شاءوا عفوا وإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية، وهذا مذهب الجمهور في هذه القضية.[ وقال آخرون: عذابه أن يقتل، ولا يمكِّن الحاكم الولي من العفو ]، لو قال ولي الدم: أنا عفوت، يقول الحاكم: لا بد من قتله، من أجل هذه الجرأة والوقاحة، كيف يقبل الدية وبعد ذلك ينتقم ويقتل؟[ وقال عمر بن عبد العزيز ]، وعمر بن عبد العزيز كان أميراً على المدينة، وجاء الحر في مثل هذه الأيام، وكان مولاه يروح عليه حتى ينام؛ إذ ما هناك حيلة، فالمرأة تروح على زوجها، والولد على والده، والصديق على صديقه، والعبد على مولاه، فأخذ النعاس العبد فنام أيضاً، فاستيقظ عمر وإذا بمن يروح عليه نائم، فأخذ المروحة وأخذ يروح عليه، فاستيقظ العبد فقال: لا تخف، ما الفرق بيني وبينك؟ أنت عبد الله وأنا عبد الله، نم أروح عليك، فمن يرقى إلى هذا المستوى؟وكان والياً لعمه الخليفة بالشام، ولما ولي الخلافة انكسرت درجة من درج بيته، فقالت المرأة أو الخدم: يا سيدي! الدرجة الفلانية لا بد من إصلاحها، قال: لا أصلحها، ما دمت قد وليت أمر المسلمين فلا أضع لبنة على أخرى، لا أبني بيتاً ولا منزلاً ولا أصلح درجة! هذا الزهد الحقيقي.إذاً: عمر بن عبد العزيز ماذا قال في هذه القضية؟ قال رحمه الله: [ أمره إلى الإمام ]، أمر هذا القاتل الذي أخذ الدية وقتل إلى الإمام، فينظر الإمام هل تحدث هذه القضية اضطرابات بين القبائل.. بين الأفراد.. بين الأسر، فالأمر الذي يراه يحقق الأمن والاستقرار يطبقه، ويجوز اجتهاداً منه ومن أئمة العلم.

المساواة في القصاص

وما معنى القصاص في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178]؟قال: [ القصاص: المساواة في القتل والجراحات وفي آلة القتل أيضاً ].المساواة في القتل، قتل واحد فلا يقتل به اثنان، والجراحات تقدر حتى بالمعاير والمقاييس وتتساوى، وفي آلة القتل كذلك، هذا قتل برصاص فما تقتله أنت بعصا، فالمرء مقتول بما قتل، قاعدة وضعها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.وقد ورد أن يهودياً قتل جارية مسلمة رضخ رأسها بين حجرين، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقتل كذلك، وهذا هو معنى القصاص.

تحقق حياة الناس بالقصاص

قال: [ حياة ] في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] أي: [إبقاء شامل عميم، إذ من يريد أن يقتل يذكر أنه سيُقتل فيترك القتل فيحيا ] إذاً، [ ويحيا من أراد قتله، ويحيا بحياتهما خلق كثير وعدد كبير ].وصدق الله العظيم: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] عظيمة كثيرة، وجهها: [ إبقاء شامل عميم، إذ من يريد أن يقتل ] أول مرة [ يذكر أنه سيُقتل فيترك القتل فيحيا، ومن أراد قتله يحيا ]، وهكذا يحيا بحياتهما أيضاً آخرون، وهذا معنى قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179].وقوله: [ أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179] ] في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179]، أولي وأولو مثل: ذو وذي بمعنى صاحب، هذا ذو المصحف الفلاني، هذا ذو السيارة الفلانية، بمعنى صاحب، هذا ذو الدار أو ذو الخلق العظيم، هؤلاء أولو الدار الفلانية، بمعنى: أصحابها، أولو: بمعنى أصحاب.[ أولو الألباب: أصحاب العقول الراجحة ]، الألباب: جمع لب، ولب الخبزة وسطها اللذيذ منها، ولب الإنسان أيضاً قلبه، أعظم جزء في الإنسان وأبركه وأطيبه القلب: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).إذاً: أصحاب الألباب أي: أرباب العقول، ذوو العقول.قال: [ أصحاب العقول الراجحة ]، أما العقول المرجوحة التائهة فلا قيمة لها، أولو الألباب: أصحاب العقول الراجحة الثقيلة الوزن التي لا تتحرك بسرعة فتخطئ.قال: [ واحد الألباب: لب، وهو في الإنسان العقل ].وقوله: [ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179] ليعدكم ]، هذه (لعل) ليست للترجي، بل للإعداد، قال بعض أهل العلم -وأصابوا-: هذه لعل الإعدادية.أي: [ ليعدكم بهذا التشريع الحكيم لاتقاء ما يضر ولا يسر في الدنيا والآخرة ]. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، شرعنا هذا الحكم بالقصاص لماذا؟ لنعدكم للتقوى فتتقون ما يؤذيكم ويضركم في دنياكم وفي آخرتكم، ولله الحمد والمنة. هذا شرح الكلمات، فهيا بنا إلى معنى الآية الكريمة.

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: هذه الآية نزلت في حيين من العرب كان أحد الحيين يرى أنه أشرف من الآخر، فلذا يقتل الحر بالعبد والرجل بالمرأة تطاولاً وكبرياء، فحدث بين الحيين قتل وهم في الإسلام، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:178]، أجمله تعالى وتركه هكذا، وأهل العلم والحكم يوفقهم الله لما فيه الخير، فما قالوه لا يخطئون؛ لأن اللفظ عام. فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:178-179]، ليعدكم بذلك إلى التقوى، نتقي ماذا؟ البلاء والشقاء الخسران والعذاب في الدنيا والآخرة.قال: [ هذه الآية نزلت في حيين كان أحد الحيين يرى أنه أشرف من الآخر؛ فلذا يقتل الحر بالعبد والرجل بالمرأة تطاولاً وكبرياء، فحدث بين الحيين قتل وهم في الإسلام، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية تبطل ذحل الجاهلية وتقرر مبدأ العدل والمساواة في الإسلام ].تبطل ذحل الجاهلية: الذحل هو يجمع على ذحول، أي: الثأر الذي كان في نفوس أهل الجهالة؛ ولهذا ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة )، اللهم لا تجعل واحداً منا منهم، ( إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة: رجل قتل غير قاتله )، قتل ابن عمه أو أباه أو أخاه، قتل غير الذي قتل، ( رجل قتل غير قاتله، ورجل قتل في الحرم )، في حرم مكة أو المدينة، ( ورجل أخذ بذحول الجاهلية ) جمع ذحل، أي: بعاداتها الباطلة من الثأر إلى غير ذلك.الله أكبر! هكذا إذاً نطوي الكتاب، العرب والمسلمون اليوم كلهم من أعتى الناس على الله يوم القيامة، يطبقون شرائع الغابات، لا قصاص أبداً يعرفونه.فالآن العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى موريتانيا لا يطبق شريعة الله ويأخذ بقوانين الشرق والغرب وهم أجهل الجاهلين، لا إله إلا الله! قال: [ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178]، فلا يقتل بالرجل رجلان، ولا بالمرأة رجل ولا امرأتان، ولا بالعبد حر ولا عبدان، فمن تنازل له أخوه ]، أخوه في الإسلام، [ فمن تنازل له أخوه -وهو ولي الدم- عن القصاص إلى الدية أو العفو مطلقاً فليتبع ذلك، ولا يقل: لا أقبل إلا القصاص، بل عليه أن يقبل ما عفا عنه أخوه ]، لو أن القاتل قال: اقتلوني، وأولياء الدم قالوا: لا نقتل، سنأخذ الدية، عفونا عنك، فلا يؤخذ برأيه.قال: [ ولا يقل: لا أقبل إلا القصاص، بل عليه أن يقبل ما عفا عنه أخوه له من قصاص أو دية أو عفو، وليطلب ولي الدم الدية بالرفق والأدب، وليؤد القاتل الدية بإحسان بحيث لا يماطل ولا ينقص منه شيئاً ]، هذا كله تقرر عندنا زادنا الله وإياكم علماً. [ ثم ذكر تعالى منته على المسلمين ] ولله الحمد والمنة، [ حيث وسع عليهم في هذه المسألة فجعل ولي الدم مخيراً بين ثلاثة: العفو، أو الدية، أو القود ] أي: [ القصاص، في حين أن اليهود كان مفروضاً عليهم القصاص فقط، والنصارى الدية فقط.وأخبر تعالى بحكم آخر في هذه القصة، وهو: أن من أخذ الدية وعفا عن القتل ثم تراجع وقتل، فقال: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:178]، واختلف في هذا العذاب الأليم هل هو عذاب الدنيا ] بالقتل [ أو هو عذاب الآخرة؟ومن هنا قال مالك والشافعي : حكم هذا المعتدي كحكم القاتل ابتداء: إن عفي عنه قبل، وإن طولب بالقود أو الدية أعطى. وقال آخرون: ترد منه الدية ] التي أخذها [ ويترك لأمر الله ]، نقول له: أعطنا الدية واذهب، نتركك لله عز وجل.[ وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: يرد أمره إلى الإمام يحكم فيه بما يحقق المصلحة العامة.ثم أخبر تعالى: أن في القصاص الذي شرع لنا وكتبه علينا مع التخفيف حياة عظيمة؛ لما فيه من الكف عن إزهاق الأرواح وسفك الدماء، فقال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179] ].واضح معنى الآيات، ولو درسنا القرآن هكذا ما بقي مؤمن غير عالم.

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآية الكريمة ]، كل آية فيها هداية تحملها، كما أن كل لقمة فيها مادة مغذية.قال: [ من هداية الآية الكريمة:أولاً: حكم القصاص في الإسلام وهو المساواة والمماثلة، فيقتل الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، والمرأة بالرجل والرجل بالمرأة، ويقتل القاتل بما قتل به مماثلة ]، فالسكين بالسكين -كما علمتم- والرصاصة بالرصاصة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [ ( المرء مقتول بما قتل به )، ولما كان العبد مقوَّماً بالمال فإنه لا يقتل به الحر ]، وهذا عرفناه وتقرر عندنا؛ لأن الحر إذا قتل العبد فالعبد هذا يباع في السوق وقيمته معروفة، إذاً: يعطى هذا المبلغ لمولاه وسيده ينتفع به ولا يُقتل هدراً، وهذا الذي عليه الجمهور، وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن العبد يُقتل بالحر والحر يُقتل بالعبد، فخالف الجمهور.قال: [ وعليه الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد ، وخالف أبو حنيفة ] رحمه الله، [ فرأى القود، فيقتل الحر بالعبد أخذاً بظاهر الآية ]، فـأبو حنيفة احتج بآية المائدة: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]. [ ثانياً: محاسن الشرع الإسلامي وما فيه من اليسر والرحمة حيث أجاز العفو والدية بدل القصاص.ثالثا: بلاغة القرآن الكريم ]، ما وجه ذلك؟ [ إذ كان حكماء العرب في الجاهلية يقولون: القتل أنفى للقتل ].حكماء العرب في الجاهلية أطلقوا هذه الحكمة وقالوا: القتل أنفى للقتل، ما معنى: القتل أنفى للقتل؟أي: إذا قتل قيل: اقتلوه، فهذا يجعل حداً للقتل، فالقتل أنفى للقتل، فماذا قال القرآن الكريم؟ [ فقال القرآن: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] ]، ما ذكر القتل؛ لأن لفظ القتل مزعج.[ فقال القرآن: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179]، فلم يذكر لفظ القتل بالمرة، فنفاه لفظاً وواقعاً ]، فقال: فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] لأننا إذا تركنا القتل فهذا المؤمن يعبد الله عز وجل.هذا والله تعالى أسأل أن ينفعني وإياكم دائماً بما ندرس ونتعلم ونسمع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-06, 05:31 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (117)
الحلقة (124)



تفسير سورة البقرة (82)


بعد أن ذكر الله في الآيات السابقة أحكام القصاص، ثنى هنا بذكر الوصايا لارتباطها بمن استحق حكم القصاص وأن عليه أن يوصي للوالدين والأقربين، ولكن هذه الآية نسخت بآية المواريث، ونسخ الحكم بالوجوب في الوصية إلى الاستحباب، فصارت الوصية مستحبة لغير الوالدين أو الأقربين الوارثين، إلا أن يجيز ذلك بقية الورثة.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله.
نسخ قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) بآية المائدة
وكنا مع قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178].وهذه الآية نسخت بآية سورة المائدة، في قوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [المائدة:45].وقد قلنا: كان العرب -أي: حكماؤهم- يطلقون كلمة يعتزون بها؛ لأنها من حكمهم، فنزلت آية طمستها ولم يبقَ لها أثر، حيث كانوا يقولون: القتل أنفى للقتل. ونزلت الآية: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179].

ذكر سبب نزول آية القصاص في القتلى وبيان وسطية الأمة فيه

وسبب نزول هذه الآية التي نسخت، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ .. [البقرة:178]، نزلت في قبيلتين من العرب، كانت إحداهما تتفوق في الشرف والمكانة، فكان إذا قتل منهم امرأة يقتلون من القبيلة الثانية رجلاً، ما يقبلون امرأة، وإذا قتل منهم عبد قتلوا حراً، فأبطل الله هذا، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178]، ونزلت آية المائدة: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة:45].وهل القصاص خاص بالنفس أو يتناول الأعضاء؟ يتناول الأعضاء، فالعين بالعين، والأنف بالأنف.. حتى الجراحة تقدر بمقاييس، وهذه نعمة فازت بهذه الأمة الإسلامية دون غيرها، فقد كان حال اليهود القتل في النفس فقط، إذا قتل اليهودي فلا بد أن يقتل، لا دية ولا عفو، بل القصاص تأديباً لهم، لأنهم قساة القلوب، وكان النصارى بعدهم: لا دية ولا قصاص، فمن صفعك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، لِم هذا؟ تربية وتأديب، فجاءت أسمى الأمم وأشرفها فأعطيت الثلاثة: إن شئتم قتلتم، إن شئتم أخذتم دية، إن شئتم عفوتم، الأمر واسع لكم، ونعم السعة هذه.وقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178] أي أن الذي يريد الدية يتبعها ويطالب بها بالمعروف، لا بالعنف والشدة، والذي يؤدي الدية ينبغي أن يؤديها أيضاً بلا مماطلة ولا نقصان.

امتناع قتل المسلم بالكافر

وذكرنا في قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178] لطيفة في قوله تعالى: (من أخيه)، أي: في الإسلام، وبناءً على هذا فالكافر إذا قتل مسلماً فلا عفو ولا دية، الكافر إذا قتل مسلماً فالقصاص، لا عفو ولا دية، أنت تعفو عنه ليواصل كفره بالله وشركه! ما استفادت الدنيا، لكن المؤمن إذا عفوت عنه عبد الله سنين، والكافر ماذا يصنع؟ يزداد في الظلم والشر والخبث، إذاً: فالموت خير له، ولهذا قال تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178]، لا ابن أبيه أو أمه، أي: في الإسلام.ولا يقتل مسلم بكافر، وفي الحديث الصحيح: ( لا يقتل مسلم بكافر )، قد يقول الجفاة: هذا تعصب، وهذه شدة، وهذه غلظة!والجواب: أن الكافر ميت، أتقتل حياً بميت؟ أتميت حياً بميت؟ وقد تقرر عندنا أن الكافر حكمه حكم الميت، فالكافر من حقه أن لا يحيا ولا يعيش؛ لأنه خلق لعبادة الله بذكره وشكره فعطلها، إذاً: لِم يأكل ويشرب ويتنفس الهواء إلا رجاء أن يؤمن ويعبد الله، فلهذا لا يستحق القتل أبداً إلا قصاصاً، رجاء أن يسلم غداً أو بعد غدٍ فيعبد الله، فلهذا فالمؤمن حي يسمع ويعي، ينطق ويفهم، ويأخذ ويعطي، ولهذا كلفناه بالغسل فاغتسل، وبالحج فحج، وبالصيام فصام، وكلف كافراً فهل سيصوم؟ هل سيصلي؟ سيغتسل من جنابة؟ كلا، لأنه ميت، فلا نكلفه، وأهل الذمة في ديار المسلمين لا يكلفون، لا بصلاة ولا صيام، ولا بحج ولا زكاة، ولا بجهاد، ولا برباط، شأنهم شأن الموتى، فإذا أسلموا حيوا، وحينئذ كلفهم ولا تخف.
تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين ...)

مناسبة الآية الكريمة لما قبلها

ونحن الآن مع آيات أخرى، والمناسبة بينها وبين السابقة أنه لما ذكر تعالى القصاص، والقصاص موت، فهذا الذي أريد أن يقتص منه له وصايا، فينبغي أن يوصي، فمن هنا قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180].فهيا نسمع الآيات مرتلة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:180-182]، هذه آيات الأحكام. كُتِبَ عَلَيْكُمْ [البقرة:180]، الخطاب لمن؟ للمؤمنين قطعاً، ومعنى (كتب): فرض، وكتب في اللوح المحفوظ وفي القرآن العظيم.

معنى قوله تعالى: (إذا حضر أحدكم الموت)

كُتِبَ عَلَيْكُمْ [البقرة:180] ماذا؟ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة:180]، بمعنى: إذا جاءه الموت وعرفنا مجيئه، لا أنه جاء في شخصية بارزة، وإذا جاء الموت فحينئذ ما بقيت وصية، فالمعنى: إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة:180] أي: حضرت أسبابه وعوامله، ومقتضياته، صدر الحكم على فلان بالقتل، قد يقتل بعد سنة، لكن يعتبر أنه حضر الموت، فليوصِ بما لديه وما عنده لغيره ولنفسه، ومن هذا قول الشاعر:أنا الموت الذي حدثت عنهفليس لهارب مني نجاءهذا جرير سمى نفسه الموت، باعتبار أنه سبب الموت، فقال وهو يهجو الفرزدق في مناورات عجيبة، قال له: أنا الموت الذي حدثت عنهفليس لهارب مني نجاءوالشاهد عندنا في ذكر الموت، والمراد أسبابه ومقتضياته وعوامله، وإن لم يحضر هو بعد عام أو أعوام.

معنى قوله تعالى: (إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين)

قال تعالى: إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ [البقرة:180] أيها المؤمنون الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180] إن ترك الذي حضره الموت ولاحت أعلامه ودلائله وبراهنه، ككبر السن مثلاً، فماذا يفعل؟ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180] ما الخير الذي يتركه الإنسان؟ المال، صامتاً كان أو ناطقاً، كالأراضي.. الدكاكين.. الإبل.. البقر.. الذهب.. الفضة، كل ما يتمول يسمى مالاً وخيراً. إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] أي: فالوصية، فالوصية هنا من حيث هي واجبة، لا يحل لمؤمن أن يبيت وله ديون أو عليه ديون ولم يكتب وصيته عند رأسه، بهذا جاءت السنة الصحيحة: ( ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده )، إن كانت له حقوق أو عليه حقوق، حتى لا تضيع بموته، فمن الناس من لهم حقوق عند آخرين، فالورثة يفقدونها إذا مات، ومن الناس من عليه حقوق للآخرين إذا مات وما كتبها فالورثة يجحدون، ينكرون، ويعذب هو، إذاً: الوصية.وهنا لطيفة لأهل النحو: لِم ما قال: إن ترك خيراً فالوصية؛ إذ إن (إن) الشرطية الجواب بعدها يكون مقروناً بالفاء: من حضرته الصلاة فليقم، من حضره الطعام فليأكل أو ليتقدم. والجواب: حذفت هذه الفاء من باب التخفيف: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]، بدلاً من: (فالوصية)، وهذا الكلام الإلهي الراقي السامي تتجلى فيه آيات الإعجاز في بلاغته وفصاحته في مثل هذه المواطن، وهذا معروف بالضرورة: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]؟ أي: وصية واجبة عليه أن يفعل كذا وكذا. ومن هذا قول الشاعر:من يفعل الحسنات الله يشكرهاوالشر بالشر عند الله مثلان.والشاهد: من يفعل الحسنات الله يشكرها، كان المفروض أن يقول: فالله يشكرها، ولكن ضرورة الشعر والهروب إلى التخفيف، ما قال: (فالله)، لو قال: فالله فإنه ينخرم الوزن.

نسخ الوصية للوالدين والأقربين بآيات المواريث

والشاهد عندنا في قوله: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180].وهنا نسخ هذا اللفظ بالذات، ما هذا اللفظ؟ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] الواجبة لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا [البقرة:180] واجباً عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180]، هذا قبل نزول آية المواريث، قبل أن تنزل سورة النساء، وفيها: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] إلى آخر الآيات.فقد فرض الله أولاً على المؤمنين إذا حضر أحدهم الموت أن يوصي لوالديه أولاً ثم الأقربين كالأبناء والإخوان وما إلى ذلك، إذ ما كانت قسمة، وهذا هو التدرج والترقي لتبلغ هذه الأمة كمالها في ظرف ثلاث وعشرين سنة.أمك قبل كل شيء، أوص لها بشيء، وأبوك كذلك، ثم الأقرب فالأقرب، هذا قبل نزول آية المواريث، قبل قسمة المواريث التي أنزلها الله فيما بعد. إذاً: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180] معناه: واجباً على الذين يتقون غضب الله وسخطه، الذين يتقون النار وما فيها من عذاب مقيم، حق واجب عليهم، وهذه الآية منسوخة، وبقيت فيها أحكام لم تنسخ، منها ما علمتم من أنه لا ينبغي لمؤمن له حقوق أو عليه حقوق أن يبقى ثلاثاً وليست وصيته عند رأسه.

حكم الوصية للوارث

ثانياً: أذن الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يوصي المؤمن أو المؤمنة بثلث ماله في وجوه البر والإحسان، ولا يوصي للورثة، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( لا وصية لوارث ) خلدت هذه الكلمة، قلها يا عبد الله، فالوارث له حق في التركة أم لا؟ فلِم توصي له؟ لو فتح الله هذا الباب لكان الرجل يوصي لمن يشاء من أحبائه، من أبنائه وأعمامه وأخواله، لكن الباب أغلقه أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( لا وصية لوارث ) ما معنى هذا الكلام؟ أي: لا توصِ بالثلث أو بالربع أو بالسدس أو بشيء لواحد من ورثتك وأنت تموت، وأجاز أهل العلم أخذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصي لوارث بشرط أن يرضى بذلك سائر الورثة، فيقول: يا أبنائي.. يا إخوتي: إن فلاناً أعمى أو أعرج، أو أمي كذا، ونريد أن نوصي له بشيء، فهل توافقون؟ قالوا: نوافق ونوقع، أوص لأخينا مثلاً، فإن أجازها الورثة أجمعون جازت.فـ ( لا وصية لوارث )، فإذا رضي الورثة بأن عرض عليهم الهالك أن فلاناً أو فلانة في حاجة إلى كذا، وذكر الأسباب والعوامل، فاقتنع الورثة كلهم، وقالوا: لا بأس فإنه يجوز، أليس هو خيراً أو لا؟ أصبح الورثة قد تصدقوا على هذا، ولهم أجرهم، كأنهم اشتركوا في صدقة، فيجوز.

حكم رجوع الموصي عن الوصية

وهل للموصي أن يتراجع عن وصيته قبل أن يموت؟ الجواب: نعم. أوصى بالبستان الفلاني للفلانيين، أو الدار الفلانية للفلانيين، ثم أصابه ضعف أو مرض أو حصل له موانع فتراجع وأبطل الوصية وهو حي، وهي لا تنفذ إلا بعد موته، حتى ولو كتب، والوصية بالكتابة وبالشهود، أوصى لابن عمه الذي ليس من الورثة، ولاحظ فيه بعد أعوام أو أيام التمرد والفسق والباطل والشر، فقال: أنا ما أعطي مالي لهذا ليعصي به الله، فأبطل الوصية عند القاضي، فيجوز إبطالها، فله أن يوصي ثم يتراجع لأمر شرعي أو لنظرية سديدة صالحة، فله الحق في ذلك ما لم يمت أو يحضره الموت.

تفسير قوله تعالى: (فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم)

وقوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ [البقرة:181]، إذا أوصى المؤمن بوصية وأشهد اثنين وسمعا، ثم لما مات بدلا وغيرا، فهل يأثمان أو لا؟ يأثمان، والمتوفى ما يأثم: فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181]. وقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181] تهديد، إياك أن تظن أنك وحدك، وتغير الوصية وتزيد وتنقص، فمعك السميع العليم، السميع لأقوالك، العليم حتى بنياتك وإراداتك.

تفسير قوله تعالى: (فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه ...)

قال تعالى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182]، من هو هذا؟ أنت حاضر في المجلس، وخفت من هذا الذي يوصي ميلاً عن الحق، أو رأيت منه جنفاً واضحاً في وصيته، حيث قال: تعال يا فلان، يا فلان، أنا مريض أشهدكم على وصيتي، فَمَنْ خَافَ [البقرة:182]، منكم مِنْ مُوصٍ [البقرة:182]، من هذا الموصي جَنَفًا [البقرة:182] ميلاً، إما عن جهل وإما عن عدم بصيرة، خاف ميلاً عن الحق في وصيته أَوْ إِثْمًا [البقرة:182]، بمعنى أنه متعمد الحيف والجور في وصيته، قال: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ [البقرة:182]، قال للموصي: هذا ما ينبغي، ما يجوز هذا، كيف تحيد، كيف تجور؟ ما الفرق بين ابنك إبراهيم وخالك فلان أو عمك فلان، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182]، فهذا غير الوصية وبدلها؛ لأنه كان فيها انحراف واعوجاج، فتحمل واجتهد وأصلح تلك الوصية ومضى بها على الوجه المطلوب، فهل حين بدل وغير يعتبر آثماً؟الجواب: لا، فإن الله قال: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182]؛ لأنه أصلح فاسداً، لا لرغبة ولا لهوى، ولكن للحق وحب الخير، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182]، لِم لا إثم عليه؟ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182]، يغفر له ويرحمه، ويغفر للموصي الذي مال وصوبناه، أو انحرف، بل سقط في الإثم وأنقذناه، وإن كان مريضاً ومات بعد ساعات، لكن لما استقر الوضع على وصية شرعية فلا إثم عليه، لِم؟ لأن الله غفور رحيم، فيغفر له ويرحمه، هذا معنى الآيات، ونقرؤها في الكتاب.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات: كُتِبَ [البقرة:180]: فرض وأثبت. خَيْرًا [البقرة:180] أي: مالاً، نقداً أو عرضاً أو عقاراً ]، والعقارات: الأراضي والمباني، والنقد: الدينار والدرهم.[ الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] الوصية: ما يوصى به من مال وغيره. بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:180] هو ما تعارف عليه الناس كثيراً أو قليلاً؛ بحيث لا يزيد على الثلث ]، لا تزيد وصيتك على ثلث مالك، لو أوصيت بثلثين أو بنصف فالقاضي يبطل هذه الوصية، ما عندك أبناء ولا آباء، عندك أبناء عم أغنياء، فقلت: إذاً: أوصي بالنصف فلا، فالقاضي لا يقر ذلك، أو بالثلثين، فهذا حسد للورثة، ما أنت بمسئول عن غناهم وفقرهم.إذاً: الذي تعارف عليه المسلمون: أن الوصية لا تزيد على الثلث، سواء لحي أو ميت.قال: [ فَمَنْ بَدَّلَهُ [البقرة:180] التبديل: التغيير للشيء بآخر. جَنَفًا أَوْ إِثْمًا [البقرة:182]، الجنف: الميل عن الحق خطأ، والإثم: تعمد الخروج عن الحق والعدل ].هذه كلمات تحتاج إلى شرح، والآن مع معنى الآيات.

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: بمناسبة ذكر آية القصاص، وفيها: أن القاتل عرضة للقتل، والمفروض فيه أن يوصي في ماله قبل قتله؛ ذكر تعالى آية الوصية هنا، فقال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ [البقرة:180] أيها المسلمون إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180] إن ترك مالاً الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] أي: الإيصاء لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180].ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بآية المواريث ]، في سورة النساء: يُوصِيكُمُ اللَّهُ .. [النساء:11] إلى آخر الآيات، [ وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا وصية لوارث ) .ونسخ الوجوب وبقي الاستحباب، ولكن لغير الوالدين والأقربين الوارثين، إلا أن يجيز ذلك الورثة، وأن تكون الوصية ثلثاً فأقل ] إن أجاز الورثة، [ فإن زادت وأجازها الورثة جازت؛ لحديث ابن عباس عند الدارقطني : ( لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ) ]، إذا أجاز الورثة ما فوق الثلث فلهم ذلك؛ لأن المال مالهم إذا أرادوا أن يتطوعوا.[ ودليل الاستحباب ] استحباب الوصية [ حديث سعد في الصحيح؛ حيث أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم في الوصية بالثلث. وقد تكون الوصية واجبة على المسلم، وذلك إن ترك ديوناً لازمة أو حقوقاً واجبة في ذمته، فيجب أن يوصي بقضائها واقتضائها بعد موته، لحديث ابن عمر في الصحيح: ( ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده )، هذا ما تضمنته الآية الأولى، وهي المائة والثمانون. وأما الآية الثانية -وهي: المائة وإحدى وثمانون- فيقول تعالى لعباده المؤمنين: فمن بدل إيصاء مؤمن أوصى به بأن زاد فيه أو نقص، أو غيره، أو بدل نوعاً بآخر؛ فلا إثم على الموصي، ولكن الإثم على من بدل وغير، وختم هذا الحكم بقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181]، تهديداً ووعيداً لمن يقدم على تغيير الوصايا لغرض فاسد وهوى سيئ. وفي الآية الأخرى أخبر تعالى: أن من خاف من موصٍ جنفاً أو ميلاً عن الحق والعدل بأن جار في وصيته بدون تعمد الجور، ولكن خطأ، أو خاف الإثم على موص حيث جار وتعدى على علم في وصيته فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ [البقرة:182] أي: بين الموصي والموصى لهم، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182] في إصلاح الخطأ وتصويب الخطأ والغلط، وختم هذا الحكم بقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182].

هداية الآيات


قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: نسخ الوصية للوارثين مطلقاً إلا بإجازة الورثة ].وهنا سؤال: هل يجوز للمؤمن أن يقسم التركة قبل موته؟الجواب: يجوز، وإذا كسب مالاً جديداً فإنه يقسمه أو يتركه يُقسم بعده.إذاً: من هداية الآيات أولاً: نسخ الوصية للوارثين مطلقاً إلا بإجازة الورثة، وإذا أجاز بعض الورثة أجاز والبعض ما أجاز فلا تنفذ الوصية، لا بد أن يتفقوا.[ ثانياً: استحباب الوصية بالمال لمن ترك مالاً كثيراً يوصي به في وجوه البر والخير ].يستحب لأي مؤمن أو مؤمنة يكون له مال كثير وخير كثير أن يوصي في وجوه البر كالمساجد، الفقراء، طلبة العلم، المسافرين، الغرباء، المرضى، المستشفيات، يوصي بشيء من ماله، يستحب له هذا، لكن هل هذا واجب؟ الجواب: لا، فيستحب لمن حضره الموت أن يوصي بالثلث فأقل في وجوه البر والإحسان.[ ثالثاً: تأكد الوصية حضر الموت أو لم يحضر ]، ليس شرطاً أن يحضر الموت، وإنما الغالب، فالشخص إذا مرض مرضاً شديداً وخاف الوفاة فإنه يوصي.[ تأكد الوصية حضر الموت أو لم يحضر لمن له أو عليه حقوق، خشية أن يموت فتضيع الحقوق، فيأثم بإضاعتها ]كما قدمنا، فلا يبيت أحدنا ثلاث ليال أو ليلتين كما ورد وله شيء يوصي به إلا وكتب وصيته، كم من إنسان عنده ديون عند الناس، فإذا وما وصى فالورثة لا حق لهم، أو تكون عليه حقوق لفلان وفلان وفلان، فإذا مات يؤاخذ بها ويطالب، فلا بد أن يوصي.[ رابعاً: حرمة تبديل الوصية وتغييرها إلى غير الصالح ]، ما معنى (إلى غير الصالح)؟ الشيخ الفلاني حضره الموت والمرض فقال: أوصيكم بأن تأخذوا ثلث مالي بعد موتي لبناية القباب على قبور الصالحين، فالآن ما بقي الناس يحترمون الأولياء، ولا يقدسونهم، وأصبحت القباب إذا سقطت لا تجدد، فهذا المال في ذمتكم أن تجددوا به قباب الصالحين، فهل يجوز هذا؟وآخر كان مغرماً بالحشيشة أو بالخمر، فقال: ثلث مالي للحشاشين من أصدقائي وأحبائي! فهل يجوز؟! لا يجوز، وهكذا، فإن كان تغييرها وتبديلها لأجل الصالح فنعم، هذا أوصى على الخمر فيبدلونها إلى الفقراء والمساكين، أوصى لبناية القبور أو للمواليد، فلان يقول: كل سنة تقيمون المولد على حسابي، غلة البيت الفلاني أو البستان الفلاني تنفق في هذا! فهل يجوز هذا؟ لا يجوز، ويبدل إلى الصالح، فهذا لا يصح، هو بدعة، فكيف تنفق فيها المال؟مرة أخرى أقول: هذه الآيات ذات هدايات: الهداية الأولى: [ نسخ الوصية للوارثين مطلقاً إلا بإجازة الورثة ]، فإذا أجاز الورثة فلا بأس، كم من إنسان يكون له أربعة أولاد أكثرهم موظفون وأغنياء وواحد منهم معتوه وضعيف، فيقول: أبنائي! الدار الفلانية أوصينا بها لأخيكم، فهل توافقون؟ إن قالوا: لا أسكتوه، وإن قالوا: نعم يا والدنا، ونحن أحق بهذا منك، فلا حرج.[ استحباب الوصية بالمال لمن ترك مالاً كثيراً ]، لماذا قلنا: كثيراً؟ عندك أربعة أولاد وعندك دخل خمسة آلاف في الشهر، فتوصي بماذا؟ مثلاً: عندك ثلاث بنات متزوجات ومع أولادهن، وعندك مال ما شاء الله، فأوص بالثلث، لِم؟ لأن ورثتك أغنياء، يرضون أو لا يرضون؟ لا حق لهم؛ لأنك أوصيت بما دون الثلث أو بالثلث فقط.هذه الوصية مستحبة، وتذكرون سعداً رضي الله عنه، ذهب إلى مكة فمرض، فخاف أن يموت في غير دار هجرته، فعاده النبي صلى الله عليه وسلم، فبكى وذكر له ماله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الثلث والثلث كثير ) .[ تأكد الوصية سواء حضر الموت أو لم يحضر ] وهذا للذي عليه حقوق أو له حقوق، فكيف لا يكتب ويوصي إلا عند المرض؟ لا يدري الإنسان فقد يموت وهو يمشي، أو وهو راكب، فالذي له حقوق ينبغي أن يكتبها ويوصي، والذي عليه حقوق كذلك يكتب: لفلان علينا كذا، لفلان علينا كذا وكذا، حتى إذا مات فالورثة يوزعون ذلك المال على الورثة، إذ القسمة لا يبدأ بها إلا بعد سداد الدين وقضائه.[ تأكد الوصية حضر الموت أو لم يحضر لمن له أو عليه حقوق خشية أن يموت فتضيع الحقوق فيأثم بإضاعتها ]؛ إذ هو الذي أضاعها. وأخيراً: [ حرمة تبديل الوصية وتغييرها إلى غير الصالح ]، هل هذا له إشارة في الآية؟ نعم. قال تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181].فإن أوصى بمال لبناء قبة، أو أوصى بأن يدفن في المسجد الفلاني، فهذا التبديل يصح، فإن كان التبديل لغير صالح فهو حرام، ولا يجوز، وعليه الإثم: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181].هذا والله تعالى أسأل أن ينفعني وإياكم بما ندرس ونسمع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-06, 05:39 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (118)
الحلقة (125)



تفسير سورة البقرة (83)

لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدأت تتوالى الأحكام وبدأ التشريع ينزل تباعاً، ولما كان الصيام من أعظم ما يكوّن عند الإنسان ملكة التقوى، فقد أنزل الله عز وجل فرضه في السنة الثانية من الهجرة، وشرع لعباده صيام شهر رمضان، وبين سبحانه أنه فرضه على هذه الأمة كما فرضه على من كان قبلهم من الأمم، وهون عليهم سبحانه بأن جعله شهراً واحداً في العام، ورتب عليه الثواب الجزيل إضافة إلى غفران الذنوب وذهاب الأدواء والأمراض.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات المباركة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:183-184].معاشر المستمعين والمستمعات! أذكركم ونفسي بالموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) فليهننا ذلك الخير وهذا الموعود على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألسنا في بيت الله؟ أليست هذه آيات من كتاب الله؟ ألسنا متدارسين لها؟ إذاً: الحمد لله، ولولا فضل الله علينا ورحمته ما اجتمعنا ولا تلونا ولا تدارسنا، فالمحرومون ملايين البشر.يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] هذا نداء الله عز وجل، وإن كنا درسناه في النداءات في الأسبوع الماضي هذا النداء باختصار، وليس بوافي الدراسة، والشيء إذا تكرر تقرر وثبت، هذا النداء موجه من قبل الله عز وجل إلى عباده المؤمنين ونحن إن شاء منهم. ينادينا بعنوان الإيمان، وسر ذلك معروف؛ لأننا أحياء بإيماننا نسمع ونعي، ونعقل ونعمل، نادانا ليخبرنا بخبر عظيم، يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، افرحوا، أبشروا، فرض عليكم الصيام.

حقيقة الصيام وشرط تبييت النية فيه

والصيام: إمساك عن شهوتي البطن والفرج، إمساك بمعنى امتناع عن شهوتين: شهوة البطن فلا طعام ولا شراب، والفرج فلا جماع ولا وطء.هذا الصيام امتناع وإمساك، وقد علمنا أن من شرط صحته تبييت النية، العزم على أن نصبح غداً إن شاء الله صائمين، وعلمنا -وزادكم الله علماً- أن النية تبيت بالليل، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح ولم يفطر ولم يتناول شيئاً من المفطرات، ودخل على أهله يطلب طعاماً ليفطر، فإذا قالوا له: ما عندنا يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء، قال: إذاً أنا صائم. وينوي الصيام ويصوم إلى الليل، هذا الصيام صيام النافلة، لا الفريضة ولا الواجب، ومن حدث له هذا وفعل فإنه قد ائتسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن نعوذ بالله أن نصبح نطلب طعاماً ولا نجده، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أهله يطلب فطوراً، فقالوا: ما عندنا شيء، فقال: إذاً: أنا صائم.أما أحدنا إذا أصبح وما نوى الصيام، فلما أصبح وطلع النهار وجاء الضحى، وجاء الإفطار قال: إذاً: أنا سأصوم، فهذا لا يصح: ( من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له )، ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، لا توجد عبادة إلا وتسبقها نية التقرب إلى الله والتزلف إليه والتملق، أو نية أداء الواجب وما افترضَ عليّ مولاي، وما ألزمني به سيدي.

فرض الصيام على الأمم السابقة وفائدة ذكره

و(كتب) هنا بمعنى: فرض، وهو مكتوب أيضاً في اللوح المحفوظ، مكتوب في القرآن كتابة. كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، من آدم عبد الله ونبيه إلى آخر أمة، وهي أمة الإسلام، لما في الصيام من عوائد خير وبر وبركة على المؤمنين، سنستعرض بعضها إن شاء الله؛ لأن الله حكيم عليم، أليس كذلك؟ والحكيم إذا شرع أو قنن فهل يشرع لغير مصلحة؟ مستحيل هذا، وينزه الله تعالى عنه، فإذا شرع للمؤمنين الصيام فقد شرعه لحكم عالية، وفيه من الخيرات والبركات والعوائد ما لا يقادر قدره.وفي قوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] معنى التهوين والتخفيف، لستم وحدكم الأمة التي كتب عليها الصيام، فتمتنع من الطعام والشراب والوقاع، بل هذا تم لكل الأمم المؤمنة قبلكم، فلا حاجة إلى التململ أو التضجر.وشيء آخر: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، لا أعوام ولا أشهر، بل أيام معدودات: تسعة وعشرين يوماً، وأكثر شيء ثلاثون يوماً.

تحصيل التقوى بالصيام

وقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، هذه (لعل) نسميها الإعدادية، أي: ليعدكم بذلك للتقوى، والتقوى رأس مالكم، وأهل هذه الحلقة يعرفون قيمة التقوى، وباقي المسلمين لا يعرفون، إنها الخطوة الثانية للوصول إلى ولاية الرب تبارك وتعالى، فخطوتان يخطوهما العبد أو الأمة يصل إلى ولاية الله، ويصبح ولياً من أولياء الله، لا خوف عليه ولا حزن.اقرءوا قول الله عز وجل: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم يا رب؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].فمن لم يؤمن إيماناً يوقع عليه القرآن ويصدقه، ويعيش على تقوى الله فيأتي بالواجبات ويتخلى عن المحرمات وينافس في الصالحات ويبتعد عن المكروهات والمشبوهات؛لم تتحقق له ولاية الله، لن يكون ولي الله، فمَن من السامعين والسامعات يرغب أن يصبح غداً ولياً لله؟ الجواب: كلنا. إذاً: حقق إيمانك، واعرضه على القرآن، فإن وافق عليه وصدق فأنت مؤمن، مشيت الخطوة الأولى فزد الثانية، وهي أن تعيش تتقي الله، لا تتكلم بالكلمة حتى تعلم هل أذن لك أو لم يأذن، لا تفتح عينيك تنظر حتى تتأكد أذن لك أن تنظر أو لم يأذن، لا تتناول اللقمة -بله حبة العنب- حتى تعرف أذن لك أو لم يأذن، لا تنام حتى تعلم أذن أو لم يأذن، ولا تقم ولا تقعد، وهكذا تحقق تقوى الله عز وجل فتصبح من أولياء الله تعالى ممن قال الله فيهم: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64] فاللهم اجعلنا منهم.والبشرى في الحياة الدنيا: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له )، لن تموت يا ولي الله حتى تبشر بالجنة دار السلام، إما أن ترى ذلك أنت أو يراه لك عبد صالح ويخبرك ويبشرك.أما عند سياقات الموت وحال سكراته فلا تعجب، وفود تنزل من السماء محتفلة بروحك ورفعها في الملكوت الأعلى، وهي تبشرك وأنت تبتسم وتفارقك روحك وأنت تبتسم، وجاء هذا في كتاب الله، إذ قال تعالى من سورة (حم فصلت): إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] هؤلاء هم الأولياء أو لا؟ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، بشارات متتالية، هؤلاء أولياء الله ينتظرونه ساعة الاحتضار وهو في غرفة الإنعاش كما يقولون، فهل يتم لنا هذا؟ فهل عرفتم منزلة التقوى؟ الصيام يساعدكم على تقوى الله عز وجل؛ لأنك طيلة ما أنت صائم ما تجرؤ على أن تقول باطلاً أو ترتكب محرماً وأنت صائم أو تقول سوءاً، أو تحدث باطلاً، فأنت معصوم بالصيام.

تفسير قوله تعالى: (أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ...)

ثم قال تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا [البقرة:184]، والمرض من أعراض الحياة، وفيه خير أيضاً، فبالنسبة إلى المؤمنين المرض خير لهم، وبالنسبة لغير المؤمنين هو عذاب عجل لهم في الدنيا قبل الآخرة، أما المؤمن فبالمرض تكفر سيئاته وتمحى ذنوبه، وترتفع درجاته، ما من مؤمن تصيبه مصيبة حتى الشوكة يشاكها إلا حط الله بها خطاياه، فالحمد لله.أحد الصحابة لما سمع هذا الخبر قال يا رسول الله: اسأل الله تعالى أن لا تفارقني الحمى ولكن لا تقعد بي عن العمل. واستجاب الله له، فما سافر إلا والحمى عليه ليل نهار طول حياته، وهو يواصل الطاعات والعبادات ولا تفارقه الحمى رضي الله عنه وأرضاه. فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فالواجب عدة أخرى من أيام أخر يصومها. فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ [البقرة:184] أيها المؤمنون والمؤمنات مريضاً مرضاً لا يقوى معه على الصيام، والمرض درجتان: درجة الخطر، وهنا يحرم الصوم، ودرجة دون الخطورة، درجة ألم فقط، فالصوم أفضل، ولو أفطر جاز له الإفطار، والمسافر المسافة المعروفة: ثمانية وأربعون ميلاً، والميل ألفا ذراع، والكيلو متر بالحساب الفرنسي ألف متر، والمتر ذراعان، فهذا القول الوسط عند أهل العلم، وهو: أن المسافة لا تنقص عن ثمانية وأربعين كيلو متر، فإن زادت فلا تسأل. فَعِدَّةٌ [البقرة:184] أي: فعليه، أو فواجب عدة من أيام أخر بعددها.

معنى قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)

وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184]، يقدرون عليه ولكن مع المشقة، وهذا الجزء منسوخ، فالصيام فرض على مراحل، حيث فرض صيام عاشوراء في السنة الأولى من الهجرة، ما إن دخل النبي صلى الله عليه وسلم في محرم حتى وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسألهم فقالوا: ( هذا يوم أنجى الله فيه موسى وبني إسرائيل فنحن نصومه شكراً لله، قال: نحن أحق بموسى منكم ) ، ونحن أحق بموسى منهم، فصام وأمر أهل المدينة أن يصوموا، فصوم الأنصار والمهاجرون أطفالهم الصغار، صاموا وصوموا أطفالهم الصغار.ثم جاءت السنة الثانية ففرض الله صيام رمضان، ونسخ الصيام الأول، وبقي صيام عاشوراء سنة مستحبة، ليس بواجب أبداً.إذاً: ففي أول سنة فرض صيام رمضان كانت هذه الآية تقول: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184]، وما يقال: تطيق في نحو حمل الكتاب، لكن إذا وضع بين يديك كيساً فيه مائة كيلو فإنه يسألك: تطيق حمله أم لا؟ أقول: هل من المعقول أن تقول لأخيك: تستطيع أن تحمل هذا الكأس من الشاي؟ هذا لا يقوله عاقل، لكن إذا كانت غرارة، أو صندوق، أو شيء كبير يقول: تطيق هذا أو لا؟ فقوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] معناه: يتحملونه بمشقة وعناء، إما لكبر سن وإما لمرض وإما للعادة، ما تعودوا أن يتركوا الأكل والشرب طول النهار، فقال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] أي: يقدرون عليه مع العناء والمشقة والألم والتململ، هؤلاء يفطرون ويطعمون عن كل يوم مسكيناً رحمة من الله تعالى. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] يدفع الفدية ويأكل، ولا يلومه أحد، لأنه ما هو منشرح الصدر وقوي على أن يصوم، ما يقوى، فمن رحمة الله بالمؤمنين أوليائه شرع هذا: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] يقدمها ويفطر، ولا يقضي.ثم نسخ هذا بالآية التي تأتي بعد هذا، وهي قول الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، أما مجرد أنه يتململ أو ما تعود فقد انتهى. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [البقرة:185] أي: دخول الشهر، وشهده وحضر الإعلان عنه أو رآه، فالصيام لا بد منه حينئذ، إلا أن يكون مريضاً حقاً، أو مسافراً. فهذا الجزء نسخ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا [البقرة:184] أطعم عشرة مساكين فله ذلك. والإطعام يقول فيه أهل العراق في الزمان الأول: إنه نصف صاع، أي: مدان. وأهل الحجاز وأهل المدينة بالذات يقولون: مد واحد، والمد: حفنة بحفنة الرجل المتوسط، والآن الإطعام هو كيلو إلى كيلو ونصف.

معنى قوله تعالى: (فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون)

فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [البقرة:184]، إذا أطعم عشرين فليفعل، بدل أن يعطي المد يعطي أربعة أمداد، هل هناك من يقول: لا؟ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [البقرة:184]. وَأَنْ تَصُومُوا [البقرة:184] أيها المطيقون للصيام بالتكلف، إن شئتم أطعمتم، ولكن: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184] ففوائد الصيام وآثاره طيبة في النفس والحياة، خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184].

الأحكام المتعلقة بفطر الشيخ الكبير والمريض والحامل والمرضع

هنا عندنا شيخ كبير هرم، وعندنا مريض ميئوس من شفائه، على سرير الموت، وعندنا حامل في بطنها جنين أو جنينان، وعندنا مرضع ترضع ولداً، ما كان الثدي الصناعي ولا كانت الإبرة، هؤلاء أربعة أصناف. فالرجل الكبير المسن، طالت به الحياة فما أصبح يستطيع الصيام، هذا يفطر بلا نزاع، ولا يكلف نفسه ما لا يطيق، ويطعم عن كل يوم مسكيناً.ونظيره المريض الذي لازمه المرض، وما أصبح ينتظر الشفاء حتى يقضي، هذا أيضاً كالأول يطعم مسكيناً عن كل يوم ولا قضاء عليه.أما الحامل والمرضع فشفقة بهما ورحمة بهما، الحامل في بطنها الجنين، وهي تتألم، إذا جاعت تخشى أن يسقط جنينها، والمرضع تخشى إذا جاعت أن ينقطع لبنها ويبكي طفلها ويصرخ، فتفطران وتطعمان وتقضيان، تفطران وتطعمان عن كل يوم مسكيناً، وتقضيان.هنا مسألة: المرضع إذا خافت على ولدها، والحامل إذا خافت على حملها، هاتان تفطران وتطعمان وتقضيان، وإذا خافت على نفسها فقط لا على الولد، مرضع أو حامل خافت إذا صامت أن تتأذى وتمرض هي، فهذه تقضي ولا تطعم، كالمسافر والمريض.والموضو يحتاج إلى تأمل، فأقول: ما حكم المريض والمسافر؟الجواب : يفطران ويقضيان. وما حكم الشيخ الهرم والمريض الذي لا يرجى برؤه؟الجواب: يفطران ويطعمان.فعندنا حامل ومرضع، فإن خافتا على نفسيهما لا على ولديهما فإنهما تفطران وتقضيان، ولا تطعمان، شأنهما شأن المريض، لكن إن خافتا على ولديهما لا على نفسيهما، فهنا تفطر وتطعم وتقضي، لأن خوفها على ولدها أو على ما في بطنها، ما هو بخوف على نفسها، ما هي مريضة، خافت على طفلها. إذاً: لابد أن تطعم مسكيناً.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

وبعد ذلك البيان نسمعكم ما في التفسير لزيادة معرفة وعلم.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات:كتب: فرض وأثبت ].ما معنى كتب؟ معناه: فرضه وأثبته بالكتابة تأكيداً له. [ الصيام: لغة: الإمساك، والمراد به هنا: الامتناع عن الأكل والشرب وغشيان النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ]. غشيان النساء، يقال: غشيها: إذا غطاها، وفي ذلك تعبير قرآني فيه الأدب: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا [الأعراف:189]، هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ [البقرة:187]. ودعنا نبكي قليلاً، فالآن بلغنا: أن مؤتمراً عالمياً سيعقد في القاهرة يضم مائة، هذا المؤتمر إشفاقاً منه ورحمة على البشرية،يريد أن يبيح اللواط والزنا والباطل والشر، وأن يحدد الولادة ويمنع الولادة، نصب نفسه منصب الرب تعالى ليخطط ويشرع، وأحسب أنه ما ارتكبت زلة أعظم من هذه في الحياة، حتى قلت وأنا في كرب: لو يستطيع أحداً أن يأخذ كلمات مني في الرسالة ويقرؤها في المؤتمر الذي أسأل الله أن لا ينعقد، فوالله! لأعطينه خمسة آلاف ريال، يطير بالطائرة بألف ويقرأ الرسالة.فهؤلاء كفار، بلغ بهم الكفر حتى تنكروا للفطرة، والذي نقول لهم: يا كفرة! ابتعدوا عن ساحة الرب، فهو الذي يشرع ويقنن لعباده، هل خلقتم أنتم امرأة أو رجلاً، خلقتم طفلاً أو طفلة؟ من أين لكم أن تشرعوا وأن تقننوا، وتبيحوا ما حرم الله، وتحاربوا الله عز وجل ورسله وأولياءه في الأرض والسماء؟أمر يكرب ويحزن ويحطم في بلد إسلامي، قالوا: حقوق الإنسان، ومن حقوق الإنسان أن يسمح للأولاد بأن يلوط بعضهم ببعض أمام أهليهم وذويهم، فالحق حقهم! كلام قذر وأوساخ.والحقيقة أنهم لا يلامون: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل:21]، بهائم، بل شر من البهائم وأسوأ، ظهروا لما غبنا، ورفعوا رءوسهم لما ذللنا وطأطأنا رءوسنا، نحن الذين أضعناهم وأهملناهم، ما عرفناهم بالله ولا عرفوه، ما عرفناهم بشرائع الله وما تنتجه وما تظهره من كمال البشر في الأرض، فلهذا نحزن فقط.قال: [ الصيام لغة: الإمساك، والمراد به هنا: الامتناع عن الأكل والشرب وغشيان النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ]، لِم عبر بالغشيان والتغطية واللباس؟ ينزه المؤمنين أن يتكلموا بكلمة سوء، أو ينطقوا بعبارة تدل على الفحش والقبح، إنهم أولياء الله، وهؤلاء الملاحدة والمسحورون بسحر اليهودية يتبجحون بفتح المجال للأولاد أن يلوط بعضهم ببعض![ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً بحسب شهر رمضان ]، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( الشهر هكذا وهكذا وهكذا )، وعقد بكفيه تسعة وعشرين وثلاثين، وما هناك واحد وثلاثون ولا ثمانية وعشرون أبداً.[ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فعلى من أفطر لعذر المرض أو السفر فعليه صيام أيام أخر بعدد الأيام التي أفطر فيها ].وهنا مسألة: إذا فرط المسافر أو المريض وما قضى، عاد من سفره ولم يقضِ حتى دخل العام الثاني؟ هنا يسن له أن يطعم عن كل يوم مسكيناً مع القضاء قطعاً؛ لأن المفروض ألا يمضي عليه سنة كاملة ولا يقضي، إلا إذا كان في مرض متواصل أو سفر متواصل فلا حرج، فيقضي في العام الآتي وليس عليه إطعام.[ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] أي: يتحملونه بمشقة لكبر سن أو مرض لا يرجى برؤه. فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، فالواجب على من أفطر لعذر مما ذكر أن يطعم على كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليه ]، وهذا الجزء منسوخ.[ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا [البقرة:184] أي: زاد على المدين أو المد أو أطعم أكثر من مسكين، فهو خير له. وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184]، الصيام على من يطيقه ولو بمشقة خير من الإفطار مع الإطعام ].هذا الشرح للكلمات، كل كلمة على حدة.

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيتين:لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ]، أي: المدينة النبوية [ وأصبحت دار إسلام ] بعدما كانت دار كفر وأوثان، [ أخذ التشريع ينزل ويتوالى، ففي الآيات السابقة كان حكم القصاص، وحكم الوصية، ومراقبة الله في ذلك، وكان من أعظم ما يُكوِّن في المؤمن ملكة التقوى الصيام، فأنزل الله تعالى فرض الصيام في السنة الثانية للهجرة، فناداهم بعنوان الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:183] وأعلمهم أنه كتب عليهم الصيام كما كتبه على الذين من قبلهم من الأمم السابقة، فقال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، وعلل لذلك بقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] أي: ليعدكم به للتقوى، التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، لما في الصيام من مراقبة الله تعالى ]، فالصائم دائماً يراقب الله، لولا أنه يراقب لكان يأكل ويشرب، فما دام مع مراقبة الله فإنه ما يعصي الله.[ وقوله: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، ذكره ليهون به عليهم كلفة الصوم ومشقته، إذ لم يجعله شهوراً ولا أعواماً، وزاد في التخفيف أن أذن للمريض والمسافر أن يفطر، ويقضي بعد الصحة أو العودة من السفر، فقال لهم: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، كما أن غير المريض والمسافر إذا كان يطيق الصيام بمشقة وكلفة شديدة له أن يفطر ويطعم على كل يوم مسكيناً، وأعلمهم أن الصيام في هذه الحالة خير، ثم نسخ هذا الحكم الأخير بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].وقوله: إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184]، يريد: تعلمون فوائد الصوم الدنيوية والأخروية، وهي كثيرة، أجلها: مغفرة الذنوب وذهاب الأمراض ].

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات: أولاً: فرضية الصيام وهو شهر رمضان.ثانياً: الصيام يربي ملكة التقوى في المؤمن.ثالثاً: الصيام يكفر الذنوب؛ لحديث: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).رابعاً: رخصة الإفطار للمريض والمسافر.خامساً: المرأة الحامل أو المرضع دل قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] أنه يجوز لهما الإفطار مع القضاء، وكذا الشيخ الكبير فإنه يفطر ولا يقضي، والمريض مرضاً لا يرجى برؤه كذلك ] يفطر ويطعم ولا يقضي، [ إلا أن عليهما أن يطعما عن كل يوم مسكيناً، بإعطائه حفنتي طعام ]، هذا نصف صاع، [ كما أن المرأة الحامل والمرضع إذا خافت على حملها أو طفلها أو على نفسها أن عليها أن تطعم مع كل صوم تصومه قضاء مسكيناً ].لكن فصلنا فقلنا: إذا خافت الحامل أو المرضع على نفسيهما فتفطران وتقضيان ولا تطعمان كالمريض، وإن خافتا على ولديهما فتفطران وتقضيان وتطعمان.[ سادساً: في الصيام فوائد دينية واجتماعية عظيمة، أشير إليها بلفظ: إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184] ].

فوائد الصيام

[ من هذه الفوائد: أولاً: يعود الصائم الخشية من الله تعالى في السر والعلن.ثانياً: كسر حدة الشهوة، ولذا أرشد العازب إلى الصوم ]، كما في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) أي: خصاء، وبعض الشباب يقولون: كلما صمنا زادت قدرتنا، فنقول: لا، واصلوا الصوم، ولا تسرفوا في الطعام والشراب طول الليل، صوموا الصوم الشرعي فلن يتخلف أبداً.[ ثالثاً: يربي الشفقة والرحمة في النفس ]، فالذين ما ذاقوا الجوع أبداً لو سقط أمامهم أحد بالجوع لا يفهمونه، لكن لما يصومون يعرفون الذي يتلوى من الجوع أو العطش.[ رابعاً: فيه المساواة بين الأغنياء والفقراء والأشراف والأوضاع ]، يقال: غداً رمضان فتصبح كل الأمة صائمة، الشريف، الوضيع، الغني، الفقير، العالم، الجاهل، فهذه مساواة أو لا؟[ خامساً: تعويد الأمة النظام والوحدة والوئام ]، يقال: غداً رمضان فتصبح كلها صائمة، وبعد غد العيد فتصبح كلها مفطرة، فيعود على النظام والوئام.وعندنا مثل للنظام: فالآن لو نربي الحجاج في بلادهم ونأتي بهم ليرموا الجمر فإذا أحسنوا النظام سيرمونها وهم يبتسمون، ولما نزلت آية تحويل القبلة إلى الكعبة جاءَ جاءٍ من المسجد النبوي إلى مسجد القبلتين فوجدهم يصلون غرباً صفوف النساء والرجال، فأعلمهم فاستداروا كما هم عليه.والآن والله! ما تستطيعون، فأولئك استداروا كلهم في خط واحد، وقد كانوا إلى الغرب فاستداروا كما هم، فهذا يحتاج إلى تربية، والأمة قابلة للطلوع، فنحن الآن هابطون ما نستطيع.[ سادساً: يذهب ] أي: الصيام [ المواد المترسبة في البدن ] من الشحم وما إلى ذلك، [ وبذلك تتحسن صحة الصائم ]، وفي الحديث: ( صوموا تصحوا، وسافروا تغنموا ) .وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-06, 05:45 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (119)
الحلقة (126)



تفسير سورة البقرة (84)

لما ذكر سبحانه وتعالى أنه كتب على الأمة الصيام وجعله أياماً معدودات، ذكر هنا أن هذه الأيام المعدودات هي أيام شهر رمضان المبارك، الذي أنزل فيه القرآن هادياً وموضحاً طرق الهداية، وفارقاً بين الحق والباطل، ثم بين سبحانه أن من كان حاضراً في البلد عند دخول الشهر فقد وجب عليه الصوم، ومن كان مريضاً أو مسافراً أفطر ثم قضى بعدة الأيام التي أفطرها بسبب ذلك تيسيراً على العباد، ورفعاً للمشقة عنهم.

تفسير قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآية المباركة، فلنتلها أولاً ثم نأخذ في بيان ما احتوت عليه من العلم والمعرفة.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]. ‏

معنى رمضان

أولاً: شهر رمضان هو الشهر التاسع من شهور الشمس القمرية، ورمضان مأخوذ مشتق من الرمضاء، وهي شدة الحر، ولهذا ورد: ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال )، والفصال جميع فصيل: ابن الناقة الصغير، إذا اشتد الحر وارتفعت الشمس فالفصيل ما يقوى على الوقوف بخفيه، فيبرك على الأرض، فهذا وقت صلاة الأوابين، والمراد منها: صلاة الضحى حين ترتفع الشمس وتشتد الحرارة، والرمض: هو شدة الحر للعطشان، من به ظمأ وعطش ترمض نفسه، فمن هذا سمي شهر الصوم برمضان، ويجوز أن تقول: شهر رمضان أو تقول: رمضان، ولا حرج. وقوله تعالى: الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] أولاً: أنزل القرآن في بيان فضل الصيام، وأنزل القرآن في شهر رمضان، بل ورد أن كتب الله من صحف إبراهيم إلى الإنجيل إلى القرآن كلها نزلت في رمضان.

نزول القرآن في شهر رمضان

ثم إن نزول القرآن من اللوح المحفوظ، أما قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]؟ نزل في رمضان إلى السماء الدنيا في بيت العزة، ثم أخذ ينزل منجماً نجماً بعد نجم بحسب أحوال البشرية، فكلما تطلب الأمر نزول آية أو آيات تنزل والرسول يعلم ويبلغ، والكتبة يكتبون ويدونون، إذ كان للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون كاتباً يحسنون الكتابة، وكلما نزلت الآية أو السورة كتبوها.إذاً: وما هي الليلة التي نزل فيها القرآن؟ الظاهر أنها ليلة القدر، وذلك لقول الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:3-5]، وقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:1-5]. شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، والقرآن: هذا اللفظ علم على كتاب الله، وله علم آخر: الفرقان، القرآن مشتق من القرء الذي هو الجمع، جمعت حروفه وكلماته وآياته وسوره في كتاب واحد، فهو قرآن، وسمي بالفرقان؛ لأن الله فرق به بين الحق والباطل، بين المعروف والمنكر، بين الشر والخير، بين كل متلابسات الحياة.

معنى قوله تعالى: (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)

وقوله: هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى [البقرة:185] هذا هو القرآن، والله! لهدى للناس أبيضهم وأصفرهم، عربهم وعجمهم، لفظ الناس عام، فأيما إنسان ذكر أو أنثى يؤمن بهذا الكتاب ويقبل عليه يقرؤه ويتفهم مراد الله منه ويعمل به إلا اهتدى إلى طريق سعادته وكماله ونجا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ولا يقولن قائل: قرأناه ولم نجد فيه الهداية! فهذا كلام باطل ولا ينطق به حتى إبليس. هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى [البقرة:185] ليس مجرد هدى، بل كان بينات، أنواع وفنون من أنواع الهدايات، فهو في العقل، في الآداب، في الأخلاق، في المال، في الحياة بكلها لا يوجد موضع في الحياة إلا والقرآن يهدي ويبين ما فيه.إذاً: والفرقان كذلك، فرق الله بالقرآن بين الكفر والإيمان، بين الشرك والتوحيد، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الصالحين والمفسدين، بين الأبرار والفجار، القرآن هو الفرقان، وشأن الفرقان عظيم.

معنى قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)

بعد هذا قال تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، وتقدم لنا في الدرس الماضي أن الله أخبرنا أنه كتب علينا الصيام، وأنه أيام معدودات لا أعوام ولا أشهر، وكما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين تسعة وعشرين يوماً إلى ثلاثين، وأن هذا ليس مما كلفنا به دون غيرنا، بل الأمم التي عرفت الله كلها فرض عليها الصيام.إذاً: متى نصوم؟ بين تعالى الشهر الذي كتب أيامه، فقال: شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة:185] كأن سائلاً يقول: ما هو الشهر الذي نصوم فيه؟ ما هي الأيام التي نصومها؟ فأخبر تعالى أنها أيام شهر رمضان. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [البقرة:185] كيف يشهد الشهر؟ يشهده: يحضر في القرية أو في الحي، يشهد من يقول: انظروا إلى الهلال، أو يقول: أنا رأيت الهلال أو رؤي الهلال، شهده وكان حاضراً غير مسافر.ثم هنا مسألة فقهية لا بد من معرفتها: وهي أن ثبوت رؤية الهلال للصيام تثبت برؤية المؤمن العدل، ولا يتطلب الأمر شاهدين أو استفاضة الشهادة، أ يما مؤمن عاقل يشهد بأنه رأى مساء الليلة الهلال فقد وجب على المؤمنين الصيام، هذا الذي عليه أكثر أئمة الإسلام.أما الإفطار -وهو الإعلان عن شهادة رؤية هلال شوال- فثَمَّ لا تقبل شهادة الواحد وإن كان عدلاً، وإنما لا بد من شهادة اثنين من المسلمين العدول.والسر واضح؛ لأن الذي يشهد بأنه رأى هلال رمضان ليصوم ويصوم المؤمنون؛ فالفطرة تتنافى مع تحمل الأتعاب والظمأ والعطش وترك الأكل والشرب، فكيف إذاً يقول: رأيته وما رآه؟ أما الرؤية من أجل أن يفطر فقد يكذب حتى يفطر، هذا ليس واجباً أنه يقع، لكن هذه وضعية البشر، هذه فطرة الناس، فمن هنا تقبل في رؤية هلال رمضان شهادة مؤمن واحد ولا نطلب شهادة اثنين أو ثلاثة.أما العيد برؤية هلال شوال فلا بد من اثنين من العدول، فلو قال واحد: أنا رأيت فلا نأخذ برؤيته، له أن يفطر هو في بيته، فإذا تأكد من الرؤية ورآها فله الحق أن يفطر، لكن لا يحمل الأمة أن تفطر برؤيته، ولا يقبل منه هذا أبداً، إلا إذا شهد اثنان فأكثر على أنهم رأوا الهلال. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ [البقرة:185] أيها المؤمنون، ولو قامت كتلة من اليهود وقالوا: رأينا الهلال فلا نقبل قولهم، لو قالت أوروبا الصليبية كلها: لقد رأينا الهلال الليلة، فصوموا، فلا نقبل؛ لأنهم غير عدول، وأي انحراف وهبوط أكثر ممن يكفر بالله ويجحده؟ إذاً: قوله تعالى: مِنْكُمُ [البقرة:185] أيها المؤمنون.ثم هنا أمر آخر: مِنْكُمُ [البقرة:185] أيها المكلفون، فغير المكلف لا يدخل في هذا، والمكلف هو المؤمن العاقل البالغ، فغير المؤمن ما هو بمكلف، لو رأى الهلال فلا التفات إليه، وطفل صغير لم يبلغ لا تقبل شهادته، ومجنون مختل العقل لا تقبل شهادته.

معنى قوله تعالى: (ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ...)

قال تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].[ ذكر تعالى عذر المرض والسفر، وأن على من أفطر بهما قضاء ما أفطر بعدده، وأخبر تعالى أنه يريد بالإذن في الإفطار للمريض والمسافر اليسر بالأمة، ولا يريد بها العسر، فله الحمد وله المنة ].

معنى قوله تعالى: (ولتكبروا الله على ما هداكم)

ثم قال تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185] على هدايته لكم، وهذا في ليلة العيد، فهل الكافرون يكبرون؟ ائت لي بكافر يكبر وسنعطيك ألف ريال، يكره أن يقول: الله أكبر، وإذا بك أنت تتلذذ بها وترفع صوتك بها وأنت في فرح وسرور، أليس هذا مما يحمد الله عليه ويشكر؟ عندنا مثل عامي، فالعجوز إذا كانت تكره جارتها تقول: لا تنطقي باسمي، ما أسمح أن تقولي: فلانة، فكيف هذا؟ بمعنى: أنا فوق مستواكِ أنتِ حتى تذكري اسمي. ومن هنا أذن الله لنا في ذكر اسمه، فهذا إنعام لا حد له، وإلا فمن نحن وما نحن حتى نذكر اسم الله الجليل؟ هل نحن أهل لأن نذكر الله؟ والله! ما نحن بأهل، ما قيمتنا؟ ولكن من فضله علينا وامتنانه أن أذن لنا في ذكره، بل وأثابنا عليه، بل ورفعنا درجات بذكره.

معنى قوله تعالى: (ولعلكم تشكرون)

وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] أي: وليعدكم أيضاً للشكر، وقد تقرر عند السامعين والسامعات الشكر، فالشكر أولاً: الاعتراف في القلب بالنعمة للمنعم.ثانياً: ترجمتها والإعراب عنها باللفظ: الحمد لله.ثالثاً: صرف النعمة فيما من أجله أنعم بها المنعم، لا أن ينعم عليك بألف ريال فتشتري بها كأس خمر وتشربه، أنعم عليك بنعمة الصحة فلا تبدد طاقتك في معصيته، أنعم عليك بنعمة الشرف والمكانة الرفيعة فتواضع وتطامن، لا تترفع على أوليائه وتتكبر عليهم، وهكذا.. فهذه الحقيقة لن تفوت المؤمنين والمؤمنات، الشكر علة الحياة كلها، أليس كذلك؟ لو سألت: يا رب! لم خلقت هذه العوالم كلها؟ يقول: خلقتها لأجلك. يا رب! وأنا خلقتني لم؟ يقول: من أجل أن تذكرني وتشكرني. فعلة الوجود بكله: أن يذكر الله ويشكر، لهذا فالذي لا يذكر الله ولا يشكره جزاؤه أن يخلد في العذاب الأبدي.وبينا غير ما مرة فقلنا: لو أن شخصاً نسف مدينة فسيحكمون عليه بسجن خمسين سنة، وإذا كان نسف قارة بكاملها فسيسجن حتى الموت، وهذا الذي ترك ذكر الله وشكره كأنما نسف السماوات كلها ونسف الأرض وبدد العوالم كلها، إذ كلها مخلوقة لأن يذكر الله ويشكر، فلما رفض ذكر الله وشكره كان كمن نسف العوالم كلها وصيرها دخاناً، إذاً: كم يعذب هذا؟ لا نهاية لعذابه؛ لأن جريمته أعظم.قد يقول قائل: هذا كفر سبعين عاماً فكيف يخلد في جهنم؟ فنقول: لأنه ما كفر سبعين عاماً، بل لأنه كمن نسف الكون كله ودمره، لأن الحياة كلها مخلوقة لنا، أما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29]، وقال: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية:13]؟ وفي الحديث: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك )، إذاً: فإذا أراد من عبده أن يذكره ويشكره فرفض الذكر والشكر كان شر الخليقة والبرية، وجزاؤه أن يخلد في عذاب لا ينتهي.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

الآن نقرأ الدرس من الكتاب.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات:شهر رمضان: هو الشهر التاسع من شهور السنة القمرية، ولفظ الشهر مأخوذ من الشهرة ]، والشهرة: الاشتهار والانتشار، مأخوذ من الشهرة؛ لأنهم يشاهدون الهلال.ورمضان مأخوذ من: رمض الصائم إذا حر جوفه من العطش. الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] هذه آية فضله على غيره من سائر الشهور حيث أنزل فيه القرآن، وذلك في ليلة القدر منه لآية: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] ] وفي ليلة مباركة.قال: [ أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل ] منجماً [ نجماً بعد نجم ]، والنجم كوكب، لأن البشرية قبل الحساب وقبل هذا الترقي في المادة كانوا إذا طلع النجم الفلاني فإن أحدهم يسافر، أو طلع النجم الفلاني فيسدد دينه، يشاهدون السماء والنجوم تطلع وتغيب، فيحسبون هذا الحساب، هذا معنى أنه منجم نجماً بعد نجم، فترة بعد فترة، زمناً بعد زمن.قال: [ وابتدئ نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان أيضاً ]، وهل في ليلة السابع عشر؟ خلاف. [ هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة:185]: هادياً للناس إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم في الدارين. وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185] البينات: جمع بينة، والهدى: الإرشاد، والمراد أن القرآن نزل هادياً للناس ومبيناً لهم سبيل الهدى موضحاً طريق الفوز والنجاة فارقاً لهم بين الحق والباطل وفي كل شئون الحياة.شهد الشهر: حضر الإعلان عن رؤيته. فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185] أي: فعليه القضاء بعدد الأيام التي أفطرها مريضاً أو مسافراً ] أو حائضاً أو نفساء.قال: [ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [البقرة:185] وجب القضاء من أجل إكمال عدة الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين يوماً. وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185] وذلك عند إتمام صيام رمضان من رؤية الهلال إلى العودة من صلاة العيد، والتكبير مشروع وفيه أجر عظيم، وصفته المشهورة: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ] هذا محفوظ عند أكثر الناس.[ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] أي: فرض عليكم الصوم وندبكم إلى التكبير لتكونوا بذلك من الشاكرين لله تعالى على نعمه؛ لأن الشكر هو الطاعة ] هذه هي المفردات، فهيا معنى الآية الإجمالي.

معنى الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآية الكريمة:لما ذكر تعالى أنه كتب على أمة الإسلام الصيام في الآية السابقة وأنه أيام معدودات؛ بين في هذه الآية أن المراد من الأيام المعدودات أيام شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن هادياً وموضحاً طرق الهداية، وفارقاً بين الحق والباطل، فقال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] يريد شهر رمضان، ومعنى شهد: كان حاضراً غير مسافر لما أعلن عن رؤية هلال رمضان، فليصمه على سبيل الوجوب إن كان مكلفاً ]، والمكلف: العاقل البالغ، وإن أسلم الكافر وبلغ الغلام في الليل وجب الصيام، وإن كان في النهار فلا شيء عليه.[ ثم ذكر عرض المرض والسفر، وأن على من أفطر بهما قضاء ما أفطر بعدته، وأخبر تعالى أنه يريد بالإذن في الإفطار للمريض والمسافر اليسر بالأمة، ولا يريد بها العسر، فله الحمد وله المنة، فقال تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].ثم علل تعالى للقضاء ] قضاء رمضان [ بقوله: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [البقرة:185] أي: عدة أيام رمضان، هذا أولاً. وثانياً: لتكبروا الله على ما هداكم عندما تكملون الصيام برؤية هلال شوال. وأخيراً: ليعدكم بالصيام والذكر للشكر، فقال عز وجل: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] ].الآن مع هداية الآيات، وكل آية فيها هداية، والله! لكل آية فيها هداية، كل آية تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أليس كذلك؟ هذه الآية من أين أتت؟ إذاً: الله موجود وعليم، وعلى من نزلت؟ على محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً: هو رسول الله.

هداية الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآية: من هداية الآية:أولاً: فضل شهر رمضان وفضل القرآن.ثانياً: وجوب صيام رمضان على المكلفين، والمكلف هو: المسلم العاقل البالغ مع سلامة المرأة من دمي الحيض والنفاس.ثالثاً: الرخصة للمريض الذي يخاف تأخر برئه أو زيادة مرضه ]، فالمريض الذي إذا صام يتأخر الشفاء وتطول مدة مرضه يفطر، أو يخاف زيادة المرض وارتفاع درجته.قال: [ الرخصة للمريض الذي يخاف تأخر برئه أو زيادة مرضه، والمسافر مسافة قصر ]، وهي ثمانية وأربعون كيلو متر، وأصلها: أربعة برد، والبريد اثنا عشر ميلاً، والميل: هو عند علماء الأندلس والمغرب: ألفا ذراع، أما عند أهل العراق والمشرق فلا بد من مسافة سبعين كيلو، ومنهم من يقول: ثمانين، ما هي بمضبوطة؛ لكن المسافة التي يمشيها الرجل على ناقته لا تزيد على ثمانية وأربعين كيلو في اليوم، ومشينا هذا وجربناه، اركب ناقتك في الصحراء وامش، تأتي القيلولة فتنزل، تنام وتستريح وتجدد السفر، فتمشي ثمانية وأربعين كيلو، فهذا الحساب للأندلسيين المالكية من أبدع ما يكون، جاءت فرنسا تركض وأوروبا وأخذوا به، فقالوا: الكيلو ألف متر، والمتر ذراعان، فاتفقنا إذاً، جروا وراءنا وسبقناهم. وهذا ننظر إليه من جهة أخرى: أن من أهل العلم من يقول: من سافر ولو عشرين كيلو فله أن يفطر ويقصر، كالظاهرية، ومنهم من قال: مسافة سبعين كيلو، ونحن دائماً مع الوسط، وهو ثمانية وأربعون كيلو، يبتدئ عندما يغادر البلد ويترك الديار وراءه، أما وهو ما زال في بلده ويفطر فلا يصح، أما قال تعالى: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:185]؟ وهذا ما سافر بعد فكيف يفطر؟ [ رابعاً: وجوب القضاء على من أفطر لعذر ] والذي أفطر لغير العذر فعليه الكفارة والقضاء، فالذي أفطر بعذر من مرض أو سفر أو دم حيض أو نفاس يقضي، أما أن يقول: لن نصوم؛ فهذا عليه الكفارة والقضاء. وهذه المسألة شيخكم فيها يجري وراء ظل ابن عباس رضي الله عنه، فـابن عباس رضي الله عنه كان إذا جاء الرجل يسأل: ما تقول فيمن قتل نفساً، فهل له توبة؟ هل تقبل توبته؟ يقول له الحبر: أنت قتلت؟ فإن قال: نعم قتلت. يقول: من يمنعك من التوبة وباب الله مفتوح والله يدعو إلى التوبة، تب يا بني. وإن قال: لا، ما قتلت، قال: أعوذ بالله! هل قاتل النفس له توبة، والله يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. ففرق بين من قتل ومن لا يقتل، فنحن كذلك إذا جاءنا الشخص وقال: ما تقول فيمن يأكل في رمضان فقط، فيشرب ويأكل؟ فنقول: عليه القضاء والكفارة. وإن قال: أنا أكلت ولم أستطع، قلنا: هل جامعت؟ فقال: لا، ولكن أكلت وشربت، فنقول له: اقض فقط ولا كفارة عليك؛ وذلك لأن مذاهبنا الأربعة نصفهم يقول بالقضاء ونصفهم يقول: لا قضاء إلا في الجماع، فالمفتي أو الذي يعلم ينبغي أن يسلك مسالك الهداية. [ خامساً: يسر الشريعة الإسلامية وخلوها من العسر والحرج.سادساً: مشروعية التكبير ليلة العيد ويومه، وهذا التكبير جزء لشكر نعمة الهداية إلى الإسلام.سابعاً: الطاعات: هي الشكر، فمن لم يطع الله ورسوله لم يكن شاكراً أبداً حتى يعد مع الشاكرين ] فمن لم يطع الله تعالى ورسوله فما شكر، بل كفر.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-06, 05:51 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (120)
الحلقة (127)



تفسير سورة البقرة (85)

لما جاء نفر من الصحابة إلى النبي يسألونه عن ربهم أهو قريب فيناجى أم بعيد فينادى، فجاء الجواب مباشرة من عند الله لهم ولمن بعدهم، أنه سبحانه قريب مجيب لدعوة الداعي، فمن التزم آداب الدعاء وأطاب مطعمه ومشربه كان أرجى أن تجاب دعوته، وما من مؤمن يدعو دعوة إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يستجيب له بها، أو يرد عنه من الشر ما يقابلها، أو يدخرها له يوم القيامة، وما عند الله خير لعبده مما أراد لنفسه.

تفسير قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآية القرآنية النورانية المباركة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].

سبب نزول الآية الكريمة

هذه الآية لها سبب نزلت به، وكثير من آي القرآن الكريم ينزل لأسباب اقتضت نزوله، ومعرفة السبب تساعد على معرفة المراد من الآيات التي نزلت لذلك السبب.سبب هذا: هو أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: ( أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ ) لأن المناجاة تكون سرية خفية، وقد عرفتم المناجاة وحكم الله فيها: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المجادلة:9]، وناجى الله تعالى موسى عليه السلام، قالوا: ( أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ )، والنداء بـ(يا ألله)، فنزلت هذه الآية: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186] أي: أقريب أم بعيد؟ فأجبهم أني قريب أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].إذاً: هذا السؤال معقول ومشروع، لا عنت فيه ولا تكلف، أرادوا أن يعرفوا إذا نادوا ربهم هل ينادونه بأعلى أصواتهم أو يدعونه بالألفاظ القريبة، فقالوا: ( أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ ) فأنزل الله تعالى قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ [البقرة:186] يا رسولنا عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186] أي: في كوني قريباً أم بعيداً، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] إذا دعاني الداعي أجيب دعوته.

مثال توضيحي لقرب الله تعالى من عباده

وهنا -معاشر المستمعين والمستمعات- كثيراً ما أكرر تلك اللطيفة لتعرفوا القرب والبعد، فالله تعالى يقول: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] يضع الجبار السموات والأرض في كفه ويقلبها ويقول: أنا الملك، أين الملوك؟ هذه أخبار النبي صلى الله عليه وسلم التي يتلقاها بالوحي الإلهي. إذاً: فأين البعد؟ فنحن بين يديه، لو وضعت نملة في كفك فأنت محيط بها من كل جوانبها، أنت فوقها، أنت تحتها، أنت عن يمينها، عن شمالها؛ لعظمتك وحقارتها، إذاً: فالله عز وجل والعوالم كلها كهذه النملة بين يديه، فكلنا بين يديه. وشيء آخر: أحوالنا الظاهرة والباطنة هو الذي يسيرها، لا تنطق حتى ينطقك، لا تبصر حتى يجعلك تبصر، لا ترفع يديك حتى يجعلك ترفعها، وكل شيء قد كتبه في كتاب المقادير قبل خلق السماوات والأرض فضلاً عن البشر، إذاً: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].إذاً: فالله معنا، قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] لا تفهم أنك تبعد عن الله أو تغيب عن الله، هيهات هيهات! وهنا -معاشر الإخوان والأبناء- أذكر أن أحد المؤمنين رأى رؤيا، وفيها: أن على الشيخ هذا أن يعلم المستمعين والمستمعات الآداب مع الله عز وجل، وهي رؤيا صالحة، والله يعلم أننا ما تأدبنا معه، ودائماً نذكر هذا، أدبنا مع الله ليس بشيء، فباسم الله كل ليلة إن شاء الله أضع بين أيديكم مسألة فاذكروها وتأدبوا بها مع الله. الأولى: الشكر على النعم. لو أن أحد إخوانك في بيتك وبين يديك تطعمه وتسقيه، تكسوه وتلبسه، تسكنه وتركبه، تحميه وتدافع عنه، ولا يذكرك بخير، ولا يقول: جزاك الله خيراً، ولا يشكر لك نعمة بين الناس، كيف تنظر إلى هذا؟ أي أدب هذا عنده؟ هذا أسوأ الناس أدباً. ونحن نعيش في كنف الله وفي نعمه وفي رعايته وحمايته، وفي أرضه وتحت سمائه، وبه نأكل ونشرب، ونجيء ونذهب، حركاتنا من فضله وإحسانه، فمن الأدب أن ننسى هذه النعم وأن ننساه وهو المنعم المتفضل، فهيا نتأدب مع الله، فدائماً لساننا يذكر الله ويحمده، دائماً مع الله نشكر له إنعامه وإفضاله وإحسانه، لا يفارقنا لفظ: الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله، في المرض والصحة، في الجوع والشبع، في القيام والقعود، في السفر والإقامة، في كل حال: الحمد لله، نذكر النعم التي نتقلب فيها، ونذكر المنعم بها وهو الله، ونحمده بما علمنا، والحمد لله أن قبل منا كلمة: الحمد لله، هذه نعمة أخرى، أن قبل منا كلمة: الحمد لله وشرعها لنا وانتدبنا إليها، هذه نعمة أخرى. فإن شاء الله سنتأدب من الآن، فنعم الله لا ننساها، وحمد الله وشكره لا ننساه، هذه خطوة إن شاء الله، وسنواصل خطواتنا بإذن الله حتى نصبح من أهل الأدب مع الله، وإن كانت الرؤيا تعنيني أنا فقط فأنا مقصر في الأدب مع ربي، فاسألوا الله لي أن يجعلني من المتأدبين معه، اللهم آمين.

معنى قوله تعالى: (أجيب دعوة الداع إذا دعان)

إذاً: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي [البقرة:186] فأعلمهم أني قَرِيبٌ [البقرة:186] أي: منهم. أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة:186] وحذفت الياء للتخفيف؛ لأن القرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار، يتلوه العربي والعجمي والصغير والكبير والفصيح والألكن، فهو قائم على الخفة، بدل الداعي: الداع، فالياء محذوفة. أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] ما معنى: دعاني؟ قال: يا رب! اغفر لي وارحمني، يا رب! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، يا رب! فرج ما بي، يا رب! فرج كربي، يا رب! اقض حاجتي، يا رب! أسكني المدينة، هذا مؤمن قال لي: ادع الله لي أن يجعلني من سكان المدينة، فاللهم اجعله من سكان المدينة يا رب العالمين، اللهم ائت به إلى المدينة.إذاً: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] والذي لا يدعو الله كافر، الذي يستغني عن الله تربب وتأله وادعى الربوبية، وإلا فكيف يستغني عمن أنفاسه بيده؟ والدعاء هو العبادة، اذكروا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، و( الدعاء مخ العبادة ) في حديث ضعيف؛ لأن المخ في الحيوان هو مقر الحياة، إذا أخذ المخ سقطت البنية، لكن الحديث الصحيح: ( الدعاء هو العبادة ) .وقد عرفتم كيف كان الدعاء هو العبادة، وسأعلمكم بهذه للناسي والغافل أريكم كيف كان الدعاء هو العبادة:فأنا إذا رفعت يدي إلى السماء فقد أعلنت عن فقري، الذي يرفع كفيه أعلن عن فقره أم لا؟ المتسول يقول هكذا فتضع ريالاً في يده، إذاً: هذه صورة معناها: أن هذا الشيخ فقير محتاج إلى الله.ولو كان غير الله يقضي حاجته ويسد خلته لقال هكذا أو هكذا يميناً وشمالاً، لكن يرفع يديه إلى من فوق عرشه وفوق سماواته، إذاً: أنا مؤمن بعلو ربي عز وجل، وأنه فوق ليس تحت ولا عن يمين وشمال، وأنا فقير ومحتاج. ثم حين أقول: يا رب يا رب فأنا مؤمن بأنه يسمع سري ونجواي، ولهذا أقول: يا رب يا رب يا رب! فمعناه: أنني مؤمن بأن الله يسمعني، وأن الله قادر على قضاء حاجتي وإعطائي سؤلي وإلا فما رفعت كفي إليه.ثم لو كان في الكائنات من يقضي حاجتي أو يفرج كربي أو يعطيني سؤلي لسألته، إذاً: عميت عن كل المخلوقات ولم أر إلا الله، فأعطيته قلبي ويدي ولساني وكلي وأملي، وهذا هو التوحيد، العبادات كلها تعود إلى هذا، فصلوا على أبي القاسم صلى الله عليه وسلم القائل: ( الدعاء هو العبادة ).فلذا أيما إنسان يتجه إلى غير الله ويسأله حاجته فقد مسخ ومسح اسمه من ديوان المؤمنين وإن صام وصلى، فالذي يقول: يا سيدي عبد القادر ، يا مولاي، يا فاطمة، ينادي ميتاً وغائباً أعطاه صفات الله من الجلال والكمال وسأله فقد مسخ وما بقي مسلماً، فلولا يقيننا بأن الله يسمعنا ويرانا ويقدر على إعطائنا الحاجة هل سنسأله؟ فالذين يدعون غير الله عز وجل ويرفعون أصواتهم بأسمائهم منادين صارخين هؤلاء لولا أنهم جهلة ما علمهم العلماء لقلنا لهم قولاً غير هذا، ولكن نكل أمرهم إلى الله. وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] إذا لم تدع واستغنيت عن الله وتكبرت فإنه لا يجيبك، ما هو في حاجة إليك، وفي هذا ترغيب في الدعاء وحث عليه وحظ عليه، لو تظل طول ليلك ونهارك: يا رب يا رب؛ فأنت في أحسن حال، فأكثروا من الدعاء.

آداب الدعاء

لكن للدعاء آداب، نذكر بعضها:أولاً: الذي يمنع الإجابة أكل الحرام، سواء كان دماً أو ميتة أو خنزيراً أو مالاً مسروقاً أو مغصوباً أو مأخوذاً، المال الحرام، أكل الحرام محجوب صاحبه عن إجابة الدعاء، والذين يعيشون على الربا كيف حالهم؟ ارحموهم، استغفروا لهم، ادعوا لهم بالتوبة، ما ترفع لهم دعوة أبداً، ورطهم الجاهلون. وإن قلت: ما الدليل على ما تقول؟ قلت: حديث مسلم ؛ إذ ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ( الرجل يطيل السفر -في الجهاد والغزو والحج والعمرة- أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟ ) كيف؟ فهذا الحديث واضح. فالذي في بطنه الحرام محروم من الإجابة، إلا إذا تقيأ وأخرج ما في بطنه، وهل يستطيع؟ فعل ذلك أبو بكر الصديق ، والله! لقد تقيأ اللقمة التي أكلها، أدخل أصبعه وأخرجها، وهي بالنسبة إلينا من أحل الحلال واعتبرها شبهة وأخرجها، هذه واحدة.ثانياً: الاستعجال في الدعاء، وهذا متورط فيه أكثر الناس، وهو أن تقول: دعوت وما استجيب لي! فأنت ترجوا الاستجابة ولو بعد أربعين سنة، إلا إذا قلت: دعوت وما استجيب لي فقد انتهيت، فلا تيأس، لا تقنط، لا تقطع رجاءك، ابق مع سؤالك عشرين سنة، أربعين سنة، ستين عاماً ما تترك الدعاء، ويستجيب الله لك، فلا تستعجلن الدعاء وتقول: دعوت ولم يستجب لي.من الآداب: أن على الداعي أن يعزم في دعوته، يطلب: اللهم أعطني، اللهم أكرمني، اللهم افعل بي كذا، ولا يقول: اللهم ارزقني ولداً إن شئت، اللهم أسكني مدينة نبيك إن رأيت ذلك أو شئت، هذا حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يقل: اللهم أعطني كذا إذا شئت، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري : ( فإذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني؛ فإنه لا مستكره لله ) ما هناك قوة فوق الله تكره الله على أن يعطي أو لا يعطي، اعزم المسألة: أعطني، اغفر لي، ارحمني، ارفعني، أعزني، بلا تردد. ومن الآداب: أنه يستحب الإسرار بالدعاء، أي: يستحب إخفاء الدعاء، ما معنى الإسرار به؟ عدم الجهر، واذكروا قول الله تعالى عن نبيه زكريا: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3] الخفي ضد العلني والجهري فيستحب في الدعاء أن يكون خفياً، فلهذا لا ندعو كل ليلة وفي كل حلقة، بل ندعو عند المناسبة ونسأل الله العفو، وإلا فالدعاء يكون سراً فيما بينك وبين الله عز وجل.

أوقات إجابة الدعاء

هناك أوقات يستجاب فيها الدعاء، نضبطها ونسأل الله فيها، أوقات عدة بينها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.من الأوقات التي يرجى فيها استجابة الدعاء: ما بين الأذان والإقامة، فإذا أذن المؤذن ادخل في الدعاء حتى يقول المقيم للصلاة: قد قامت الصلاة، وهي عشر دقائق وأحياناً عشرون دقيقة، فهذه -والله- نتصيدها كل يوم على علم، قبل أن يقول: الله أكبر ونحن في الطريق أو في الصف ندعو، فبين الأذان والإقامة اطلب حاجتك.ثانياً: السَّحر، وقت السحور، الثلث الأخير من الليل إلى أذان الصبح، هذا الوقت وقت استجابة، وسر ذلك: أن الله عز وجل ينزل في هذا الوقت إلى السماء الدنيا وينادي: هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ فهذه فرصة.ثالثاً: وقت الفطر، وقت فطر الصائم، عندما يؤذن المؤذن قبل أن ترمي بالتمرة في فيك ادع الدعوة التي تحتاج إليها وبعد ذلك أفطر، وتحين الوقت، بعدما يقول: الله أكبر قل: يا رب! افعل بي كذا وكذا، ثم كل التمر أو اشرب الماء.رابعاً: حال السفر. أيها المسافرون! إن كان سفركم لله لا للشيطان ولا للهوى فلكم دعوة مستجابة، ادعوا الله عز وجل فإنه يستجيب لكم؛ لأنكم مسافرون له، حتى ولو كنت تاجراً تتجر من أجل أن تعول أسرتك وتحفظ نفسك عن سؤال غير الله، والتجارة مأذون فيها والمال حلال وبيعك وشراؤك على أسس البيع والشراء الذي أباح الله؛ فأنت في عبادة، ادع الله وأنت مسافر، أما إذا كنت في الحج والعمرة والزيارة وطلب العلم والدعوة إلى الله فادع بما شئت.أما إذا كان السفر كسفر الغافلين للنزهة والترويح على النفس، ويخالطون الكفار والفساق والفجار، ويعيشون معهم الشهر والشهرين ويعودون ملطخين، وأعوذ بالله من هذه الحالة، ولا تغضبوا، فما سمينا زيداً ولا عمراً، لكن بلغنا أن هناك من يسافر لا لشيء إلا للهوى، تخرج من مدينة الرسول؟ تترك مكة وتذهب إلى بلد لتروح على نفسك؟ !والله إن الذي لا يجد الروحانية في الحرمين لن يجدها في العالم، لو أعطوه أموال بريطانيا ونساءها كلها فوالله لن يجدها، ولكن الجفاف والقسوة سببها البعد عن الله، فيحاولون كيف يخففون.خامساً: المرض، أيها المرضى -ونحن منهم- ادعوا الله عز وجل طول الليل والنهار فدعاؤكم لا يرد، إذا كان المرض ما تسببنا فيه بمعصية الله، إذا امتحنك الله وابتلاك ليطهرك ويزكيك، أما إذا أنت شربت الخمر أو لعقت السم بيدك فهذا أمر ثان، أنت عاص لله، حتى الذي يسرف في الأكل والشرب حتى يتخم ويمرض لا يستجاب له، عصى الله عز وجل.سادساً: في السجود، هذه أصعب من سابقتها، يضع رأسه بسرعة ويرفع، فما هي قضية سهلة، ما يعرف حتى سبحان الله أو سبحان ربي الأعلى، يخطفها ويرفع رأسه، فإين يسجد؟ أين يدعو؟ فالدعاء يستجاب في السجود وأعظمك السبعة على الأرض ووجهك معفر في التراب وأنت تسأل الله، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، لو تظل ألف سنة وأنت صاعد في السماء فما أنت بأقرب من ساجد في الأرض يسجد لله، واقرءوا قول الله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19] واسجد واقترب من الله عز وجل، والسجود: وضع الجبهة والأنف والكفين والركبتين والرجلين على الأرض، ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ) حال السجود.سابعاً: دبر الصلوات، عرفنا حديث معاذ : ( يا معاذ! والله إني لأحبك، لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) هل فيكم من لم يدع بهذا الدعاء اليوم؟ نحن لا نتعلم ونترك، ما تعلمنا مسألة إلا طبقناها، وإلا فكيف نسمو؟ ثامناً: عند اشتداد الكرب من ظلم وغيره، إذا اشتد البلاء وعظم الكرب ففي الحالة هذه الله معك، فادع الله عز وجل، إذا ابتلينا بحرب، بفتنة، بعذاب، بعدو يعذبنا، عند اشتداد الكرب من ظلم وغيره، فقد ورد من الأحاديث والآثار ما يصدق هذا ويؤكده. تاسعاً: عند رؤية الكعبة، ورد عندما ندخل المسجد ونشاهد الكعبة أننا ندعو بدعاء، والحاصل أن ما ذكرنا ليس معناه الإحصاء والإحاطة، فأبواب الفضل كثيرة.وأما الدعاء في الركوع فباطل، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ) لا دعاء في الركوع.

معنى قوله تعالى: (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)

قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، قوله: وَلْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة:186] فالذي لا يؤمن بالله ولقائه، لا يؤمن بما أمر الله بالإيمان به من الغيب والشهادة؛ هذا سفيه، ضائع، خاسر، لا وجود له.فقوله تعالى: وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] أقول: الكفار السفهاء، لا يعرفون الرشد أبداً، ولا يذوقون له طعماً، ولا يظفرون بفائدة منه قط، لأن الله اشترط للرشد أولاً الإيمان به، وَلْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة:186] بجلالي، بكمالي، بوجودي، بإنعامي، بإفضالي، بإحساني، بشرائعي، بقوانيني، وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. لكن نعود إلى الوراء: فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي [البقرة:186]، فكيف تدعو الله: يا رب! أكرمني، تريد أن يستجيب لك وأنت لم تستجب له؟ أعوذ بالله! تقول: يا رب أعطني، يا رب افعل بي، وتلح تريد أن يستجيب لك، وهو يدعو: عبدي، ولا تستجيب، فوالله! لا يستجاب لك. وهل نادانا الله؟ نعم، نادانا تسعين نداء إلا نداء، فالذي لا يستجيب لله إذا ناداه الله فهل يستجيب له الله تعالى؟فهل هذا هو الأدب مع الله: أن تقول: أعطني وأنا لا أعطيك، أمعقول هذا؟ أتقول: يا فلان! أعطنا، خذ كذا، أعنا، وأنت لا تعطيه، كيف يمكن هذا؟ هذا هو سوء الأدب مع الله. عجب هذه الآية: فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي [البقرة:186] إذا دعوتهم، وكم دعانا ربنا في القرآن؟ تسعين مرة، دعانا لأي شيء؟ لا لشيء، وإنما دعانا ليأمرنا بفعل ما يسمو بنا ويعزنا ويكملنا، دعانا لينهانا عما يشقينا ويردينا ويهبط بنا، دعانا ليبشرنا لننطلق في ميادين الصالحات، دعانا لينذرنا من عواقب السوء والمصائب والويلات، دعانا ليعلمنا فنسموا ونتعلم، فالذي ما استجاب لله ويقول له: أعطني فهل سيستجيب له؟ هذا سوء أدب.فمثله: أني أعطيك ما تسأل وما تطلب، دائماً أقول: خذ، وحين أقول: من فضلك أعطني كذا تسكت، فهل هذا أدب؟ لعام وعامين وأنت تعطيه وبعد ذلك قلت: أعطني فلوى رأسه. فحالنا مع الله تعالى هي هذه، كأننا ما سمعناها أبداً: فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي [البقرة:186] إذا دعوتهم، وقد دعانا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] استجبنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، استجبنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، في تسعين نداء، أكثر المسلمين ما شعروا أن الله ناداهم، وقد تضمنها القرآن الكريم، والحمد لله، فقد علمنا الله وهدانا وكتبنا وعرفنا، وها نحن ندرسها. فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي [البقرة:186] إذا كانوا يريدون أن نستجيب لهم وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، الرشد ضد السفه، فالرشد هو أن تمشي دائماً في سبيل نجاتك، بعيداً عن سبيل هلاكك، هذا الرشد، فالإيمان بالله وطاعته في أوامره ونواهيه بعد معرفة الأمر والنهي والله! لهو الرشد، وصاحبه راشد ورشيد.والإعراض عن معرفة محابه ومساخطه والعيش بعيداً عنها والله! لهو السفه الكامل، وصاحبه خاسر.إذاً: هذه (لعل) الإعدادية ما هي للترجي، ليعدكم بذلك للرشد، فمن آمن بالله وعرف محابه ومكارهه وأخذ بطريق طاعته رشد، أصبح من الراشدين، أعطه مليار ريال أمانة وغب أربعين سنة، فوالله! لتجدنها كما هي؛ لأنه ما هو بسفيه، بل راشد.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

الآن نعود للآيات في الكتاب. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات: الداعي: السائل ربه حاجته ]، يقال فيه: الداعي.[ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي [البقرة:186]: أي: يجيبوا ندائي إذا دعوتهم لطاعتي وطاعة رسولي بفعل المأمور وترك المنهي والتقرب إلي بفعل القرب وترك ما يوجب السخط. يَرْشُدُونَ [البقرة:186]: بكمال القوتين العلمية والعملية، إذ الرشد: هو العلم بمحاب الله ومساخطه، وفعل المحاب وترك المساخط، ومن لا علم له ولا عمل فهو السفيه الغاوي والضال الهالك ].

معنى الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة:ورد أن جماعة من الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: ( أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى قوله: (( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ))[البقرة:186].. الآية ).ومعنى المناجاة: المكالمة بخفض الصوت، والمناداة: برفع الصوت ]، ناجاه: كلمه بصوت منخفض، ناداه: كلمه بصوت عالٍ مرتفع.[ وإجابة الله دعوة عبده معناها: قبول طلبه وإعطاؤه مطلوبه، وما على العباد إلا أن يستجيبوا لربهم ] إذ دعاهم [ بالإيمان به وبطاعته في أمره ونهيه، وبذلك يتم رشدهم ويتأهلون للكمال والإسعاد في الدارين: الدنيا والآخرة معاً ].

هداية الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية ]، كل آية فيها هداية، إذ في كل تمرة مادة غذاء وفي كل حبة عنب كذلك، فكيف بآية ما فيها هداية؟ والله! ما تخلو آية من هداية.قال: [ من هداية الآية:أولا: قرب الله تعالى من عباده ]، لو كان الله بعيداً عنا فمن يبلغ صوتنا، من يرفع سؤالنا؟ لكنه معنا، قريب منا، فادع وأنت مرتاح.[ قرب الله تعالى من عباده، إذ العوالم كلها في قبضته وتحت سلطانه، ولا يبعد عن الله شيء من خلقه؛ إذ ما من كائن إلا والله يراه ويسمعه ويقدر عليه، وهذه حقيقة القرب ]. فالقرب ما هو؟ أن يسمعك ويقدر على أن يمنعك ويعطيك، هذا هو القرب.[ ثانياً: كراهية رفع الصوت بالعبادات، إلا ما كان في التلبية والأذان والإقامة ]، مطلق العبادات رفع الصوت بها مكروه، فلم ترفع صوتك، أما يسمع هو؟ هذا اتهام له، فهذا وجه الكراهة، هل أنت خائف أنه لا يسمعك، فلهذا العبادة كلها يستحب فيها خفض الصوت والمناجاة مع الله، إلا التلبية، فقد أذن الرسول بذلك، فارفعوا أصواتكم: لبيك اللهم لبيك، حتى تصاب بالبحة، والإقامة والأذان، فالأذان لا بد حتى يسمع أهل الحي، والإقامة حتى يسمع أهل المسجد، فقط هذه الثلاثة: الأذان والإقامة والتلبية، وهل ترفع التلبية للمؤمنات؟ لا، هذا خاص بالفحول الرجال، أما أم سعيد فلا، المؤمنة لا يحل لها أن ترفع صوتها، والديوثة التي يسمع ضيفها صوتها في حجرتها، هكذا تقول الصديقة ، فالمؤمنة صوتها منخفض فكيف تلبي بصوتها؟[ ثالثاً: وجوب الاستجابة لله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال ]، أما دعانا فقال: فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي [البقرة:186]؟[ رابعاً: الرشد في طاعة الله والغي والسفه في معصية الله ]، أين يوجد الرشد؟ في طاعة الله ورسوله، أين يوجد السفه؟ في معصية الله ورسوله، والسفيه: هو الذي يشرب الخمر وينفق أمواله في الباطل.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-08, 09:26 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (121)
الحلقة (128)



تفسير سورة البقرة (86)

كان في بداية فرض الصيام أن من نام بالليل ثم استيقظ في وسطه لم يأكل ولم يشرب ولم يقرب امرأته حتى الليلة الآتية، وكأن الصيام هنا يبتدئ من النوم لا من طلوع الفجر، فأتى ناس من الصحابة نساءهم في الليل فشق ذلك عليهم، فأنزل الله عز وجل بيان وقت الصيام من النهار، وأذن لهم بالأكل والشرب وإتيان النساء طالما وأن الفجر لم يطلع، ثم امتن سبحانه عليهم بما بين لهم من الأحكام وما شرع لهم من الشرائع التي توصلهم إلى تقواه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلك الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا ذاك، أنت ولينا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآية المباركة من سورة البقرة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187].

اختصاص الله تعالى بالتشريع

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ [البقرة:187] من الذي أحل لنا؟ الله، إذ لا يحل ولا يحرم إلا هو، لم؟ لأنه هو المالك لكل شيء، فما أذن فيه فهو كذلك، وما منعه وحظره ولم يأذن فيه فممنوع، أليست هذه حالكم؟ مالك الدار إن أذن لأحد نزل وإن لم يأذن لم ينزل، هذا أولاً.وثانياً: أليس الله عليماً حكيماً؟ فالعليم يعرف المنافع والمضار، فلا يأذن إلا بما فيه منفعة، ولا يمنع إلا ما فيه مضرة، والحكيم يضع كل شيء في موضعه، إذاً: لا يحل ولا يحرم إلا الله، ومن أخذ يحلل ويحرم بدون إذن الله فقد تربب وادعى الربوبية. وهنا لطيفة كررناها عمراً طويلاً، وقلنا للحكام المسلمين: أيها الحاكم! طبق شرع الله في جماعتك في أمتك، أنت عبد الله، كلفك الله وأناط بك هذا، فطبقه كما أراد هو، فإن شقي الشعب أو سعد فلا لوم عليك، إن أصابهم بلاء وجوع فقل: ربكم هو الذي فعل وتبرأ ذمتك، إن أصابهم خير وطهارة وكمال فقل: هذا فضل الله عليكم، فإن أبيت هذا فاخلق إقليماً من الأقاليم من البلاستيك أو من الطين وانفخ فيهم الأرواح، واجلس على سرير ملكك، وإذا نازعك أحد في حكمك فاقتله، فهل يستطيع أحد أن يخلق أمة حتى يحكم فيها بما يريد؟ الجواب: لا.إذاً: أما تستحي يا عبد الله أن تبعد الله عز وجل عن حكمه وتحكم أنت بما تشتهي؟ يا ويحك، يا ويلك! إلا أن يتوب الله عليك.فإذا أراد الإنسان أن يحكم بهواه على المؤمنين أهل الكتاب والسنة فليصنع ما شاء من البلاستيك مليون نسمة أو مليونين وينفخ فيها الروح وليتربع على سرير ملكه يأمر وينهى: افعلوا، لا تفعلوا، ولا يلومه أحد، لأنه يقول: خلقي، صنعي وصنعتي، فمن يلومه؟ أما أن يخلق الله ويرزق الله ويدبر الله وينزل كتابه ويبعث رسوله ويكل الأمر إليك لتطبقه فتعرض عن الله وعن كتابه وشرعه، وتطبق على المؤمنين شرائع الهوى والأباطيل فهذا عار ومذمة، ولو فقه هذا واحد فإنه سيدعي الجنون ويهرب، ما يقبل أبداً أن يبقى على كرسي الحكم، لكن من بلغهم؟

الأدب القرآني في الكناية عن الجماع

والشاهد عندنا قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ [البقرة:187] من المحلل؟ الله، ماذا أحل لنا؟ قال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187]، الرفث: الجماع، لم ما قال: الجماع أو الوطء أو النكاح؟ لأن هذا كتاب مقدس، هذا تقرؤه الفتاة وتتلقى عن أبيها، ويتلقاه الشاب عن أبيه، بل عن أمه، فكل عبارة من شأنها أن تثير الغريزة أو تحدث فكرة في الجنس لا يستعملها، آمنا بالله!ومعنى هذا: تربوا يا عباد الله وطهروا ألسنتكم وأقلامكم، فلا تتكلموا بما يسيء، بما يضر، تأدبوا بآداب ربكم، وارتقوا إلى مستويات نبيكم، هذا هو المطلوب منا، وقد يقال: يا شيخ! من علمنا هذا، ما وجد من يعلمنا، ونحن مشغولون بالملاهي والمقاهي والملاعب والطعام والشراب! إذاً: فلا نلومن إلا أنفسنا، ولا حجة لنا عند الله أن نقول: ما تعلمنا، فلم ما تعلمتم؟ كان سلفكم يرحل الرجل من المدينة إلى حمص من أجل حديث واحد يتعلمه، وأنتم التعليم في بيوتكم وتعرضون عنه، فأي عذر لهذه الأمة؟قال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ [البقرة:187]، أي: إذا كان الغد هو يوم صيام فتلك الليلة قبله هي ليلة الصيام، الرَّفَثُ [البقرة:187]، أي: الجماع ومخالطة نسائكم.

معنى قوله تعالى: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)

ثم قال تعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187]، من هن هؤلاء؟ الزوجات، والضمير يختلف، فـ(هن) غير (أنتم). ودعاة المساواة بين الرجل والمرأة يقولون: اتركوا كلمة (هن) هذه، فالكل (هم)! فيا للسخرية والاستهزاء والهبوط، أين تهبط البشرية؟ هذا شأن من جهلوا الله وما عرفوه، شأن من كفروا بالله وأنكروه، شأن من أعرضوا عن ذكر الله وكتابه وتجاهلوه، فهم في حيرتهم يتخبطون. إن الله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، شر الخليقة، من شر الخليقة؟ الكفار، من قضى بهذا؟ خالقهم، ولو حللنا ذلك تحليلاً علمياً فوالله! لوجدناهم شراً من القردة والخنازير، ولكن ما دمنا هبطنا وجاريناهم ومشينا وراءهم فما يتبين لنا هذا، لو كنا في سمائنا وكمالاتنا ننظر إليهم كالقردة والخنازير لا وزن لهم ولا قيمة، لكن هبطنا فتساوينا، بل تفوقوا علينا، فماذا نقول؟ هُنَّ [البقرة:187]، أي: الزوجات لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] كيف لباس؟ العامة من عجائز القرية يقلن: فلانة تستر زوجها وهو يسترها، واللباس هل يستر أو يفضح؟ فزوجتك تسترك، وأنت تسترها، حتى لا تتعرض للفضيحة أنت ولا هي، إذاً: فهي لباس وهو لباس، سبحان الله!

معنى قوله تعالى: (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ...) وبيان سبب نزول الآية

وقوله بعد: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة:187]، لهذه الجملة سبب نزلت به، حيث كانوا إذا نام أحدهم بعد المغرب ثم استيقظ لا يأكل ولا يشرب حتى اليوم الآتي ويفطر مع غروب الشمس، فمن أراد أن يأكل، يشرب، يجامع أهله فقبل أن ينام، إذا نام واستيقظ فهو صائم لا أكل ولا شرب ولا جماع، ومشى الحال هكذا لسنة أو سنتين، أو لأيام وليال، فـعمر رضي الله عنه استيقظ وأتى أهله رضي الله عنه، فشعر بأنها زلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقص عليه القصة، فأجاب الله تعالى عمر والمؤمنين: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:187]، فتلوثونها بأدران المخالفة والمعصية، فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة:187]، بشراك يا ابن الخطاب بشراك، الحمد الله، فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة:187]، لا مؤاخذة، ولا قضاء ولا إثم، منة الله على ذاك النور الأرضي عمر .و عمر يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه )، ما يقدر وما يستطيع الشيطان أن يمشي مع عمر في شارع واحد، فيحترق، ويقول فيه: ( لو كان في أمتي محدثون -أي: من تحدثهم الملائكة- لكان منهم عمر ، ولكن لا نبي بعدي )، هذا هو عمر ، هذا هو ابن الخطاب .ويوجد من الغافلين والجهال المضلين من يسبونه، وضبط واحد منهم يبصق على قبره! فما هذا العمى، ما هذا الجهل، ما هذا الضلال؟! تعالوا اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، ما عندنا إلا أن نقول: كتب الله خلقاً للجنة وخلقاً للنار.إذاً: عرفتم سبب نزول الآية، وتأمل قوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة:187]، وإن كان الذي فعل واحداً فقط، لكن القرآن في سماء الآداب والكمال، ما يقول: علم أنك، فتسأل: من هذا؟ فقال: (أنكم) أنتم أيها المؤمنون، إذ الواحد منكم جزء منكم والكل واحد، كما قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، أمرنا واحد.

معنى قوله تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم)

وقوله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، أي: أذنا لكم، إذا أذن المغرب وأكلت أو أشربت أو صليت العشاء فائت زوجتك، نم حتى تشبع نوماً وقم وائتها وكل واشرب حتى الفجر، والحمد لله، هذه فضيلة عمر . فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، فالآن بعد الذي حدث وبعد العفو الذي تم باشروهن، ما معنى باشروهن؟ من أراد أن يجامع زوجته فليجامع، وإن نام واستيقظ ولا حرج، لم هذه المباشرة، لم هذا الجماع يا حكيم يا عليم؟ قال تعالى: وَابْتَغُوا [البقرة:187]، اطلبوا ماذا؟ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187]، ما هو بجماع شهوة فقط، اطلبوا البنين والبنات، إذا كتب الله لكم ذلك في كتاب القضاء والقدر في اللوح المحفوظ فسوف يكون الولد والبنت، فانظر كيف رفع مستوانا إلى الكمال، ما هي بقضية بهائم فقط، باشر انكح.. اطلب الولد حتى يعبد الله عز وجل، ما هو لمجرد الشهوة.

معنى قوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)

قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، كان أحد الأصحاب قد فهم من الآية أنها خيوط، فوضع تحت رأسه عند وسادته خيطين أبيض وأسود، وما عندهم كهرباء، فكان ينظر: فإذا وجد الخيط أسود قال: ما زال الليل، وإذا وجد الخيط الأبيض قال: طلع الفجر، فذكر ذلك للحبيب صلى الله عليه وسلم، فقال: ( إنك لعريض القفا )، قفاك عريض، لم؟ تجعل المشرق والمغرب كله تحت رأسك؟! تجعل الأفق بكامله تحت رأسك وأنت نائم! هذه اللطيفة المحمدية، فليس المراد من الخيوط هذه خيط يلوح هكذا أبيض فتظن الفجر، وخيط يأتي بعده أسود. وهذا عرفناه وعشناه وجربناه قبل وجود هذه الكهرباء الظالمة التي أفسدت حياتنا، وقد تقول: يا شيخ! لا تقل هذا. فأقول: والله ما استعملناها في منافعنا، لو استعملناها في النافع لكانت نعمة، الآن أقل ما يكون أن أولادنا يعلبون طول الليل وهم يجرون ويصيحون، وينامون بعد الفجر إلى الظهر أو إلى العصر، بل حتى النساء تغيرن فجعلن النهار ليلاً والليل نهاراً؛ بسبب ماذا؟ أيام كان الفانوس والزيت أو جريد النخل ما كان هذا، الآن يسهرون فلا يصلون الصبح ولا يشهدونها، ولا يذكرون الله، ولولا هذه الكهرباء فمن أين يأتي التلفاز والفيديو؟ هي محنة الكهرباء.المهم أننا سفهاء، لا رشد لنا، فلهذا ما ننتفع بما فيه نفعنا، ونحول المنافع إلى مضار؛ وذلك لهبوطنا، ما نحن سادة البشرية وقادتها.إذاً: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، إلى متى؟ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ [البقرة:187]، نكون في المسجد في القرية، وفجأة يضاء المسجد من النوافذ وما هناك كهرباء ولا فوانيس، فنقول: طلع الفجر، ونأخذ في صلاة النافلة، وفجأة يأتي الظلام كما كان خيطاً أسود، بعدها بدقائق ينبلج الصبح، هذا الذي أراده الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، الخيط الأول كذنب السرحان، حيث يطلع بياض في الأفق عشر دقائق أو خمس دقائق ثم ينسخ ويأتي ظلام الخيط الأسود، بعدها ينبلج الفجر. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، وسمي الفجر فجراً لانفجار الضوء وانتشاره، فاشرب مع الخيط الأسود وكُلْ حتى ينبلج الفجر الخيط الأبيض.وقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، هذا الأمر للإباحة، منة الله، ولو أن شخصاً قال: يجب أن نأكل، فربي قال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، فسيبقى يراقب الفجر حتى يأكل، ولكن هذا للإباحة، فإذا لم ترد أن تأكل فلا تأكل ولا تشرب، فقد كان ذلك ممنوعاً فأذن لهم فيه.

معنى قوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل)

قال: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] أتموا الصيام من الفجر الذي هو انتشار الضوء في الأفق إلى الليل، والليل يبتدئ بغروب الشمس، سقطت عين الشمس بالأفق فدخل الليل.إذاً: وأتموا الصيام إلى الليل، ما هو الصيام؟ هو الإمساك والامتناع عن شهوتي البطن والفرج، وهل للبطن شهوة؟ أي نعم، يشتهي الطعام والحلويات أو لا؟ يشتهي الماء والعصير أو لا؟ والفرج له شهوة.

معنى قوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)

إذاً: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، أي: الزوجات وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، هذا إعلام لنا بمشروعية الاعتكاف، وهو ملازمة المسجد للعبادة، ويشترط للعكوف أن يكون المسجد مسجداً جامعاً، أي: تصلى فيه الجمعة، حتى لا يخرج منه ليصلي الجمعة، والعكوف أقله يوم وليلة، كونك تجلس نصف النهار أو الليل وتقول: اعتكفت ليس هو العكوف الشرعي، هو عكوف لغوي، العكوف في المسجد: ملازمة المسجد لا تخرج إلا للبول أو الوضوء، أو تأتي بطعام من السوق أو شراب بدون أن تتكلم ولا تجادل، إذا لم يكن لك من يأتيك بطعامك وشرابك، وتنام في المسجد، وإن احتلمت فاخرج على الفور اغتسل وارجع، لا تبق محتلماً.إذاً: هذا الاعتكاف فيه فضل عظيم لا يقادر قدره، حسبك أن عبد الله عكف في بيت ربه يذكره، وهو قراءة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء والركوع والسجود أربعاً وعشرين ساعة، فإذا جاءك النوم فنم ولا حرج، وقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم عشر ليالٍ، والاعتكاف سنة في العشر الأواخر من رمضان.يقول تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، ما معنى: ولا تباشروهن؟ المباشرة: أن تمس البشرة البشرة، فنحن بشر لأن بشرتنا ما عليها ريش ولا وبر، فـ(باشر زوجته): اختلطت بشرته ببشرتها، كناية عن الجماع والوطء. وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، لا الناهية، حرام عليكم، وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، فمن غلبته شهوته فذهب إلى بيته وواقع امرأته بطل اعتكافه وفسد، ويجب قضاؤه حتماً؛ لأنه دخل في عبادة وتركها بدون مقتضٍ ولا موجب، أثم وعليه أن يقضيها، إذ المعتكف قد تغلبه نفسه ويمشي إلى البيت مثلاً ليأتي بطعام أو شراب فينهزم، فإذا انهزم بطل اعتكافه وعليه قضاؤه، وهذا كلام الله: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187] والحال أنكم عاكفون في المساجد.ويقضي في شوال أو في أي وقت، إذا التزم بعشرة أيام فإنه يقضيها في شوال، وإذا التزم بيوم وليلة فقط يقضي يوماً وليلة.

معنى قوله تعالى: (تلك حدود الله فلا تقربوها)

ثم قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:187]، تلك الأحكام التي بيناها من قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ [البقرة:187] إلى هذه الجملة: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] هذه كلها حدود الله، فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187] ولا تعتدوها، ابتعدوا عنها، وقوله: فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187] أعظم من: تعتدوها؛ لأن النهي عن قربانها من بعيد.

معنى قوله تعالى: (كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون)

ثم يقول تعالى: كَذَلِكَ [البقرة:187] كهذا البيان والتبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ [البقرة:187] التي تحمل شرائعه وأحكامه، وآداب وأخلاق الكمال البشري، يبينها للناس أبيضهم وأسودهم من عرب وعجم، ولكن من هم؟ الذين يؤمنون بهذا الكتاب، ويقرءونه ويفهمون ما فيه من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعلة: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187] كل هذا من أجل التقوى، إذاً: للتقوى شأن عظيم. والذين ما حضروا هذه الحلقة ليقم أحدهم ويبين لنا سر التقوى وسنعطيه ألف ريال، ولكن لا يعرفون، وقد يقال: يا شيخ! ماذا تريد؟ فأقول: نريد أهل المدينة المنورة يأتون بيوت الله يتعلمون العلم، في ساعة ونصف فقط بين المغرب والعشاء، ينبغي أن يمتلأ المسجد بنا نحن ونسائنا وأطفالنا، كل ليلة نتلقى الكتاب والحكمة، وتمضي الأيام والأعوام وأحدهم ما يجلس جلسة كهذه أبداً، فكيف يتعلم، من أين له أن يتعلم، أيوحى إلينا؟ إنما العلم بالتعلم كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.فالتقوى هي امتثال الأمر واجتناب النهي، أن تطيع الله ورسوله وأولي الأمر في الأمر والنهي، هذه هي التقوى، فكيف علت وأصبحت هكذا؟ الجواب: لأن المتقي طيب النفس زكي الروح، روحه كأرواح الملائكة في السماء، هذا الذي يقبله الله ويرضى عنه ويدنيه، وولاية الله التي يطلبها العقلاء متوقفة على التقوى، من هم أولياء الله؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، أولياء الله من ألف سنة عند العرب والعجم سيدي عبد القادر ، سيدي عيدروس وفلان وفلان، ولا يعرفون ولياً بين الناس، تدخل إلى القاهرة وإلى الإسكندرية أو دمشق أو بغداد أو الرياض، وتقول لشخص: من فضلك أنا جئت من بلاد بعيدة، نريد ولياً من أولياء هذه البلاد أزوره، فوالله! ما يأخذك إلا إلى ضريح، ولا يعرف أن هناك ولياً لله! فمن فعل بنا هذا؟ الثالوث الأسود المكون من المجوس واليهود والنصارى، كيف فعلوا بنا هذا؟ لأننا بالولاية نحفظ، فولي الله انتبه أن تقول فيه كلمة سوء: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فأصبح الرجل إذا فجر ما يمر بقبر الولي أو بضريحه، بل يأتي من شارع آخر خائفاً من الولي، فحصروا خوفنا في القبور، وسلطوا بعضنا على بعض: الزنا، السرقة، الكذب، القتل، الضرب، الدمار بيننا؛ لأننا أعداء الله ما نحن أولياء الله، لو علمونا أننا أولياء فما يستطيع الإنسان أن يؤذي ولي الله أبداً والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فانظر كيف توصلوا إلى أن أبحنا الزنا والربا واللواط والجرائم، فالمؤمن أخوه يقتله يسبه يشتمه، ويزني بامرأته، فكيف يتم هذا؟ لأننا لسنا أولياء الله، ما علمونا أننا أولياء الله، من فعل هذا؟ العدو، هل عرفنا عداوته؟ كلا أبداً، بل هم أصحابنا! إذاً: ماذا نقول؟ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، الولاية تتحقق بخطوتين: آمن حق الإيمان واتق الرحمن فأنت ولي الله، وإن لم تؤمن أو لم تتق فأنت ولي الشيطان.فلهذا أمرنا بهذه الحدود وهذه الآداب في الصيام والاعتكاف ثم قال: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187] فيصبحوا أولياء الله عز وجل، فاللهم اجعلنا من المتقين.

ذكر بعض أحكام سنة السحور

من سنن الصيام: السحور، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر )، الفرق بين صيامنا وصيام اليهود والنصارى أكلة السحر، هم لا يتسحرون؛ لأنهم بهائم، أما نحن فمرابطون مجاهدون صناع، نأكل قبل الفجر بخمس دقائق ونمشي للعمل لننتج، فالسحور هو الغداء المبارك، لو كنا أهل علم فلن نتسحر وننام، بل نتسحر وإذا أذن المؤذن صل واحمل مسحاتك أو آلتك إلى عملك، ولن تفكر في الطعام لأنك شبعان. ويدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى تأخير هذه السنة فيقول: ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور )، ما هذه الرحمة المحمدية؟ يدعونا إلى أنه بمجرد أن تغيب الشمس نأكل، رحمة بنا أو لا؟ لو قال: أخروا حتى تصلوا العشاء أو المغرب ففي ذلك أجر لكان ذلك ضرراً بنا، لكن قال: ( عجلوا الفطر وأخروا السحور ) إلى قبيل الفجر بدقائق، فهذا الشارع حكيم أو لا؟ إنه أستاذ الحكمة ومعلمها صلى الله عليه وسلم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

والآن تسمعون شرح هذه الآيات مرة ثانية.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات: لَيْلَةَ الصِّيَامِ [البقرة:187]: الليلة التي يصبح العبد بعدها صائماً.الرفث: الجماع. لِبَاسٌ لَكُمْ [البقرة:187]: كناية عن اختلاط بعضكم ببعض؛ كاختلاط الثوب بالبدن. تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:187]: بتعريضها للعقاب، ونقصان حظها من الثواب بالجماع ليلة الصيام قبل أن يحل الله تعالى ذلك. بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]: جامعوهن، أباح لهم ذلك ليلاً لا نهاراً. وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187]: أي: اطلبوا بالجماع الولد إن كان قد كتب لكم في قضاء الله وقدره، ولا يكن الجماع لمجرد الشهوة ]، هذه تربية ربانية.[ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ [البقرة:187]: الفجر الكاذب، وهو بياض يلوح في الأفق كذنب السرحان ]، أي: كذنب الذئب. [ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ [البقرة:187]: سواد يأتي بعد البياض الأول فينسخه تماماً. الْفَجْرِ [البقرة:187]: انتشار الضوء أفقياً، ينسخ سواد الخيط الأسود ويعم الضياء الأفق كله. عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]: منقطعون إلى العبادة في المسجد تقرباً إلى الله تعالى. حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:187]: جمع حد، وهو ما شرع الله تعالى من الطاعات فعلاً أو تركاً. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ [البقرة:187]: أي كما بين أحكام الصيام يبين أحكام سائر العبادات من أفعال وتروك ليهيئهم للتقوى التي هي السبب المورث للجنة ]. التقوى سبب مورث للجنة، كما قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، قالها إبراهيم عليه السلام، إذاً: الجنة تورث، وسبب إرثها التقوى.

معنى الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة:كان في بداية فرض الصيام أن من نام بالليل لم يأكل ولم يشرب ولم يقرب امرأته حتى الليلة الآتية؛ كأن الصيام يبتدئ من النوم لا من طلوع الفجر، ثم إن ناساً أتوا نساءهم وأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة تبيح لهم الأكل والشرب والجماع طوال الليل إلى طلوع الفجر، فقال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] أي: الاختلاط بهن؛ إذ لا غنى للرجل عن امرأته، ولا للمرأة عن زوجها. هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187]: يسترها وتستره؛ كالثوب يستر الجسم، وأعلمهم أنه تعالى علم منهم ما فعلوه من إتيان نسائهم ليلاً بعد النوم قبل أن ينزل حكم الله فيه بالإباحة أو المنع، فكان ذلك منهم خيانة لأنفسهم، فقال تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة:187] فاحمدوه.وأعلن لهم عن الإباحة بقوله: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187]، يريد: من الولد؛ لأن الجماع لا يكون لمجرد قضاء الشهوة، بل للإنجاب والولد ]، وغداً سينعقد مؤتمر يمنع الولادة، فلعنة الله عليهم.قال: [ وحدد لهم الظرف الذي يصومون فيه، وهو النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فقال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، وحرم على المعتكفين في المساجد مباشرة نسائهم، فلا يحل للرجل وهو معتكف أن يخرج من المسجد ويغشى امرأته، وإن فعل أثم وفسد اعتكافه ووجب عليه قضاؤه، قال تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، وأخبرهم أن ما بينه لهم من الواجبات والمحرمات هي حدوده تعالى فلا يحل القرب منها ولا تعديها، فقال عز وجل: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]، ثم قال: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187]، فامتن تعالى على المسلمين بهذه النعمة، وهي بيان الشرائع والأحكام والحدود بما يوحيه إلى رسوله من الكتاب والسنة؛ ليعد بذلك المؤمنين للتقوى، إذ لا يمكن أن تكون تقوى ما لم تكن شرائع تتبع وحدود تحترم، وقد فعل فله الحمد وله المنة ].وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-08, 09:33 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (122)
الحلقة (129)



تفسير سورة البقرة (87)

يبين الله عز وجل في هذه الآية حكم أكل أموال المسلمين بالباطل، وأنه يحرم على المسلم أن يأكل لحم أخيه بغير طيب نفس منه، ثم ذكر نوعاً من شر أنواع أكل المال بالباطل، وهو دفع الرشوة إلى القضاة والحكام ليحكموا لهم بغير الحق، فيورطوا القضاة في الحكم بغير الحق ليأكلوا أموال إخوانهم بشهادة الزور واليمين الغموس الفاجرة، وهذا الحكم من الله يدخل فيه مال المسلم ومال غير المسلم على حد سواء.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ...) من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله؛ رجاء أن يتحقق لنا ذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا ذلك يا ولي المؤمنين.كنا قد أخذنا في الدرس السابق قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187]، هذه الآية شرحناها وفهمنا مراد الله تعالى منها، وبقي أن نذكر هداية هذه الآية الكريمة.

هداية الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية: من هداية الآية:أولاً: إباحة الأكل والشرب والجماع في ليالي الصيام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: (( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ))[البقرة:187] الآية.[ ثانياً: بيان ظرف الصيام ]، بيان وقت الصيام، [ وهو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس ]، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ))[البقرة:187]، فالفجر إذاً فجران: صادق وكاذب.[ ثالثاً: بيان ما يمسك عنه الصائم، وهو الأكل الشرب والجماع ]، من أين أخذ هذا الحكم أو هذه الهداية؟ من قوله تعالى: (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ))[البقرة:187] الآية.[ رابعاً: مشروعية الاعتكاف وخاصة في رمضان، وأن المعتكف لا يحل له مخالطة امرأته وهو معتكف، حتى تنتهي مدة اعتكافه التي عزم أن يعتكفها ]، من أين أخذنا ذلك من الآية؟ من قوله تعالى: (( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ))[البقرة:187]، وقد عرفنا أن من باشر امرأته وهو معتكف فسد اعتكافه، ووجب قضاؤه بعد رمضان، وعرفنا أن الاعتكاف لا يقل عن أربع وعشرين ساعة، عن يوم وليلة، ولا يكون اعتكافاً شرعياً إلا إذا كان صاحبه صائماً، لا اعتكاف بدون صيام، أقله يوم وليلة، وأفضل ما يكون الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.[ خامساً: استعمال الكناية بدل التصريح فيما يستحى من ذكره ]، حيث قال تعالى: (( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ ))[البقرة:187]، فكنى عن الجماع بالمباشرة من باب تربيتنا لنعيش على الآداب وحسن الأخلاق، ما قال: ولا تجامعوهن. [ سادساً: حرمة انتهاك حرمات الشرع وتعدي حدوده ]، من قوله تعالى: (( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ))[البقرة:187].[ سابعاً: بيان الغاية من إنزال الشرائع ووضع الحدود وهي تقوى الله عز وجل ]، إذ قال تعالى: (( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ))[البقرة:187].[ ثامناً: ثبت بالسنة سنة السحور، واستحباب تأخيره ما لم يخش طلوع الفجر، واستحباب تعجيل الفطر ]، لحديث: ( فصل ما بين صومنا وصوم أهل الكتاب أكلة السحر )، ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور ).

تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ...)

ولننتقل للآية الآتية من هذه السورة المباركة.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].هذا النهي الإلهي، والذي نهانا هو ربنا العليم الحكيم، فقال: وَلا تَأْكُلُوا [البقرة:188] و(لا) ناهية، ويطلق الأكل للمال على كل استعمالاته، سواء للباس، للسكن، للركوب، للشراء، الكل يطلق عليه لفظ: أكل المال؛ لأن الغالب أن الأموال تستعمل فيما يأكله الآدمي. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ [البقرة:188] هل هي أموالنا؟ أي نعم، فالله هو واهبها لنا، ونحن كفرد واحد، أمة واحدة، لا فرق بين البعيد والقريب ولا الشريف والوضيع، ولا العربي ولا العجمي، نحن مثل أمة واحدة. وَلا تَأْكُلُوا [البقرة:188]أيها المؤمنون أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] والباطل خلاف الحق، وفي هذا يدخل المال الذي يؤخذ من طريق الاغتصاب، إذ الاغتصاب باطل، والذي يؤخذ من طريق الخداع والغش فهو باطل، والذي يؤخذ من طريق شهادة الزور فهو أخذ باطل، الباطل ما كان بغير مقابل، فلا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه، وكل ما أخذ بغير طيب النفس فهو حرام، وهو مأخوذ بالباطل، وقد حرم الله علينا أن نأخذ أموالنا بالباطل، وقد يأخذ المرء مال أخيه مع طيب نفسه؛ وذلك كالذي يقامر ويأخذ مال أخيه بالقمار ونفسه طيبة، لكن كونه راضياً ولا ينكر هل هو راضٍ حقيقة عن أخذ ماله؟ والله! ما هو براضٍ، إذاً: فيبقى اللفظ على عمومه، لا يحل لمؤمن أن يأكل مال مؤمن بغير حق، بأن يأكله بالباطل، وأموال أهل الذمة كأموال المسلمين، لا يحل لمؤمن أن يأخذ مال كتابي كيهودي أو نصراني بغير حق، لا فرق بين هذا وذاك، وكلمة (بينكم) تشمل الأمة كلها على اختلافها.

معنى قوله تعالى: (وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون)

وقوله: وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة:188] هذا يندد بالرشوة وبأصحابها وبالقضاة الذين يأخذونها، الرِشوة والرُشوة والرَشوة: ما يعطى للحاكم ليحكم بغير حق، يعرف المواطن المؤمن أن هذا البستان لي لا له هو، ولوجود شبهة أو محاولة يرشي الحاكم ليحكم له بذلك البستان، والبستان كالدار، كالدابة، ككل شيء، الأمور ذات البال هي التي ترفع إلى القضاء، فحرم الله تعالى على المؤمنين أن يدلوا بأموالهم إلى القضاة والحكام ليتوصلوا بذلك إلى أكل أموال إخوانهم بالباطل؛ إذ قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].وقوله تعالى: لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا [البقرة:188] قدراً معيناً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ [البقرة:188] الملطخ للنفس، المقبح لها المشوه لها، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188] أن هذا المال حرام، وأن الدابة ليست لك أو البستان أو كذا، وترشي الحاكم مع وجود شبهة تدعي بها أن الدابة دابتك أو أن الدار دارك، وأنت تعرف أنها ليست لك، وتغرر بالحاكم وتضلله، وتفسد عليه حياته، فتشجع القضاء بالباطل بما تدلي به إليه من مال، وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة:188] من أجل ماذا؟ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا [البقرة:188] يقل ويكثر، وهذه اللام لام العاقبة والصيرورة، لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ [البقرة:188] وكلمة (النَّاسِ) تشمل الكافر والمؤمن، فلهذا قال أهل التفسير: أهل الذمة بيننا لا يصح لمؤمن أن يأكل أموالهم بالباطل بحال من الأحوال، لا يقولن: هذا يهودي أو هذا نصراني ويقيم شبهة، ويقدم القضية للحاكم ويقول: هذا يهودي عدو، فيقضي له بالباطل ويأكل مال الناس.وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188] والحال أنكم تعلمون أن هذا حرام ولا يصح ولا يجوز بحال من الأحوال، ولهذا كانت الرشوة من أفظع الذنوب وأسوئها؛ أن نعطي الحاكم مالاً كالرشاء الذي ننزع به الدلو من البئر، من أجل أن نحصل على مال محرم.هذه الآية نص في حرمة الرشوة واستعمالها، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يدعي أخيه في ماله، ثم يرفع القضية إلى القضاء إلى الحاكم ويرشي الحاكم ليحكم له بمال أخيه. ولنرجع إلى الآية الكريمة في الكتاب.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات:الباطل: خلاف الحق ]، فالشيء إما أن يكون حقاً أو باطلاً، لا وسط بينهما، ما هناك شيء ما هو لا حق ولا باطل، إما أن يكون حقاً أو باطلاً، فالباطل خلاف الحق.[ تدلوا: الإدلاء بالشيء: إلقاؤه، والمراد هنا: إعطاء القضاة والحكام الرشوة ليحكموا لهم بالباطل حتى يتوصلوا إلى أموال غيرهم ] فيأكلوها بالباطل.[ فريقاً: أي: طائفة وقطعة من المال ]، وفريق من الناس: جماعة، كذلك فريق من المال، قطعة من المال، كل ما يؤخذ من مجموعة ويفرق بينه وبين غيره يقال فيه: فريق، سواء كان دنانير ودراهم، أو كان رجالاً ونساء، الفريق هو القطعة من المال في هذه الآية: لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].[ بِالإِثْمِ [البقرة:188]: المراد به هنا: بالرشوة وشهادة الزور، واليمين الفاجرة، أي: الحلف بالكذب ليقضي القاضي لكم بالباطل في صورة حق ]؛ لأن المدعي هذا قد يحلف، يقول القاضي: احلف، فيحلف بالله الذي لا إله غيره وهو كاذب، ولهذا فاليمين الغموس هي التي يحلف صاحبها وهو كاذب ويتعمد، بعض أهل العلم قالوا: هذه لا كفارة فيها، ومنهم مالك ، ما يكفي فيها صيام ولا إطعام؛ لأنها سميت بالغموس؛ لأنها تغمس صاحبها في أتون الجحيم، وبعض أهل الفقه يقول: مهما كان فإنه يكفر فيطعم عشرة مساكين ولا ينفعه ذلك؛ لأنه حلف فاجراً متعمداً من أجل أن يأخذ أموال الناس أو يمزق أعراضهم، فلهذا قال: المراد بالإثم هنا: الرشوة وشهادة الزور، وشهادة الزور أن يقول: أشهد بالله أن كذا لفلان وهو يكذب، أشهد أن فلاناً ما قال كذا وكذا، يقوله أمام القاضي.ولهذا في الصحيح أيام كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي رجاله كان جالساً بينهم في هذا المسجد، ثم قال لهم بهذا الاستفهام: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس -اهتماماً بالأخيرة- ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور )، وما زال يكررها حتى فزع الأصحاب وتمنوا أن لو سكت خشية أن ينزل ما ينزل، قال الراوي: ( حتى قلنا: ليته سكت ). وشهادة الزور كثرت لما هبطت أمتنا وأصبح يحوم حول المحكمة صعاليك ويتحسسون، فإذا جاء أحد قال له: تريد شهادة؟ أنا أشهد معك، فيضع في جيبه نقوداً ويدخل يشهد، ويحلف بالله ما كان هذا أو لم يكن، أما إذا كان من قبيلته أو من أهل قريته -بل حتى من إقليمه- فيشهد له شهادة زور لكونه من بلاده، ما سبب هذا؟ الجهل، ما جلسوا في حجور الصالحين كما جلس الأصحاب في حجر الحبيب صلى الله عليه وسلم، فمن أين يعرف ويتعلم؟ بل يشهد وهو يضحك.قال: [ بِالإِثْمِ [البقرة:188]: المراد به هنا: بالرشوة وشهادة الزور، واليمين الفاجرة ]، أي: اليمين الغموس، هذه يمين الفجور والخروج عن طاعة الله ورضوانه.قال: [ أي: الحلف بالكذب ليقضي القاضي لكم بالباطل في صورة حق ]؛ لأنه قال: اعتمد على شهادة فلان وفلان. فهذه مفردات هذه الآية المباركة.

معنى الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآية الكريمة: لما أخبر تعالى في الآية السابقة ] ذات الأحكام المتعددة [أنه يبين للناس ] إذ قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ [البقرة:187]، والآيات القرآنية هي التي تحمل الأحكام الشرعية: الحلال والحرام والحق والباطل وما إلى ذلك.[ أنه يبين للناس أحكام دينه ليتقوه بفعل المأمور وترك المنهي ]، ليتقوه: أي: ليتقوا الله، بأي شيء يتقوه؟ بفعل ما أمرهم وترك ما نهاهم، والتقوى: التي بها نتقي الله حتى لا يسخط علينا ولا يغضب ولا ينتقم، فهي امتثال أوامره وأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم، واجتناب نواهي الله ونواهي الرسول صلى الله عليه وسلم، بهذا يتقى الله، ما يتقى بالجيوش الجرارة، بالحصون العالية، بالأسوار الحصينة، هذه ما تنفع، والله! لا تنفع، بم يتقى الله؟ بطاعته وطاعة رسوله، فمن أطاع الله تعالى فيما أمر وفيما نهى -أي: في فعل المأمور وترك المنهي- وأطاع الرسول في ذلك فهو متقٍ، وهو في عداد المتقين.

وراثة الجنة بالتقوى

وللتقوى فضل عظيم، فهي سبب وراثة الجنة، فالجنة دار السلام تورث، وورثتها معلومون، وسبب الوراثة تقوى الله عز وجل، واقرءوا: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، يورث الله الجنة من كان تقياً. وإبراهيم الخليل في دعوته التي حفظناها قال: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، إذاً: الجنة تورث كالتركات المالية تورث، نحن الآن نتوارث بثلاثة أسباب: النسب، المصاهرة، الولاء، فالنسب: كالبنوة والأخوة والقرابة، والمصاهرة: بين الزوجة والزوج، والولاء أيام كان عندنا العبيد، والآن كلنا عبيد، لكن هل نحن عبيد لله؟ لا، للدينار والدرهم، إذاً: فالجنة دار السلام لها ورثة يرثونها، وسبب إرثهم تقواهم لله عز وجل. وسر هذه التقوى: أنها تزكي النفس أي: تطهرها، كيف تزكي النفس يا شيخ، كيف تطهرها؟ الجواب: أن الله إذا أمر بكلمة تقال أو حركة تحدث فقد جعل تلك الكلمة يخرج منها إشعاع نوراني يصل إلى النفس فتطهر به، ما شرع الله جل جلاله من عبادة قولية أو فعلية أو اعتقادية إلا وعمل ذلك يولد الطاقة النورانية في النفس المعبر عنه بالحسنات، فالمتقي كل يوم يزكي بنفسه، المواد التي تزكي النفس يفعلها، والمواد التي تخبث النفس يتركها، يفعل المأمور المزكي للنفس، ويترك المنهي المخبث لها الملوث لها، وهكذا كل يوم يزكي هذه النفس ويبعدها عما يخبثها، وإن حدث مرة أنه أذنب فإنه يتوب إلى الله ويرجع إليه، ويغسل ذلك الأثر بما يفرغ عليه من الحسنات، فإذا وافاه الأجل والنفس طاهرة فإنه تفتح له أبواب السماء. وهل تعرفون حكم الله في هذه القضية؟ صدر على البشرية كلها، حكم الله صدر وأكثر البشر لا يعرفون هذا ولا يسمعون به، ولو كانوا بصراء فإنه إن قيل: صدر حكم الله عليكم، وبلغنا أن عالماً بالهند عرف هذا الحكم؛ فوالله ليمشن إليه. فما هذا الحكم؟ إنه قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، ومن يراجع؟ لا استئناف ولا مراجعة، قد أفلح من زكى نفسه أي: طيبها وطهرها، وقد خاب -أي: خسر- من دساها بما صب عليها من أطنان الذنوب والآثام حتى لم يبق لها وجود.هذا حكم الله الذي صدر على البشرية، ولشأن هذا الحكم ولتأثيره أقسم الله عليه بأقسام ما أقسمها على حكم كهذا، فماذا قال تعالى؟ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8].والمقسم عليه قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]؛ لأن الله عز وجل لما خلق الجنة، وهيأها بنعيمها حكم ألا يدخلها إلا ذو نفس طاهرة، ولما خلق عالم الشقاء وأعده كذلك حكم بألا يدخله إلا خبيث النفس منتن الروح.ولهذا قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، من هم الأبرار؟ بنو هاشم؟ أتباع عيسى؟ الأبرار: جمع بر أو بار، هم المطيعون الصادقون.والفجا : جمع فاجر، فمن هو هذا الفاجر؟ هو الذي فجر عن الطريق السوي، وأخذ يذهب ذات اليمين وذات الشمال، ما مشى مع الطريق إلى باب الجنة، إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13] لبرهم، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:14] لفجورهم، هذا يؤكد معنى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، بل يبينه ويشرحه.وفي آية الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41]، عجب هذه الآية!أخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: أن ملك الموت وأعوانه إذا أخذوا الروح الخبيثة يعرجون بها إلى السماء، فيستفتحون السماء فلا تفتح لهم أبواب السماء، ويرجعون من السماء الأولى، وأما الأرواح الطاهرة، النقية، النظيفة بسبب العبادات المزكية للنفس، المطهرة لها، وبسبب الإبعاد عن الذنوب والآثام المخبثة للنفس المدسية لها؛ فوالله! ما ينتهى بها إلا إلى تحت العرش.

حكاية شيخ الإسلام ابن تيمية مع خالته في مرض موتها

ولهذا عندنا لطيفة ذكرها شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى ورضي الله عنه، يقول عن شيخه الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله: كانت لي خالة في دمشق، فمرضت، فزرتها في مرضها. وزيارة المرضى سنة من سنن الإسلام، قال: فعدتها في مرضها، فقالت لي: يا شيخ! أنا مقبلة على الله، كانت شاعرة بقرب أجلها؛ لأن المرض له آثاره، أو لرؤيا رأتها، على كل حال قالت: إني مقبلة على الله، وإذا وقفت أنا بين يديه فماذا أقول؟ علمني. قال: فارتج علي وفزعت، وما عرفت ماذا أقول؟ قال: ثم فتح الله علي، فقلت لها: قولي: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. هذا الذي نقوله نحن مع الله بعد كل فريضة، بعد السلام نستغفر الله؛ لأننا قد أسأنا في المقابلة وما أدينا المناجاة على وجهها، وهذا واقع، فنفزع إلى الاستغفار أولاً، ثم نقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. قال: وقمت عنها وماتت رحمة الله عليها، فرأيتها في المنام فقالت: يا شيخ! جزاك الله خيراً، جزاك الله خيراً، جزاك الله خيراً؛ إني لما وقفت بين يدي ربي ما عرفت ما أقول، واندهشت، ثم ذكرت الكلمة التي علمتني فقلتها، فجزاك الله خيراً. فبعد كل صلاة فريضة تقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ما نقول: السلام عليك يا رب الأرباب، السلام عليك يا خالق العباد، السلام عليك يا ذا الجلال والإكرام، فهو السلام، فكيف تقول: عليك السلام وهو السلام ومنه السلام؟ تقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. واسم البر التقي يدون في عليين، فحين يسجل في عليين يهبطون بالروح إلى القبر للمحنة والابتلاء، واقرءوا كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:18-21]. والفجار والظلمة أين كتبهم؟ أين تسجل أسماؤهم؟ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:18-9]، في أسفل الكائنات.إذاً: احمدوا الله على نعمة الإيمان والإسلام.

تتمة معنى الآية

ونعود إلى معنى الآية الكريمة، وهي قول الله عز وجل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].قال: [ معنى الآية الكريمة: لما أخبر تعالى في الآية السابقة أنه يبين للناس أحكام دينه ليتقوه بفعل المأمور وترك المنهي؛ بين في هذه الآية حكم أكل أموال المسلمين بالباطل، وأنه حرام، فلا يحل لمسلم أن يأكل مال أخيه بغير طيب نفس منه، وذكر نوعاً هو شر أنواع أكل المال بالباطل، وهو دفع الرشوة إلى القضاة والحاكمين ليحكموا لهم بغير الحق، فيورطوا القضاة في الحكم بغير الحق ليأكلوا أموال إخوانهم بشهادة الزور واليمين الغموس الفاجرة والتي يحلف فيها المرء كاذباً، وقال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، حرمة ذلك ومنعه ]، فمعنى الآية -والحمد لله- واضح.

هداية الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين:[ هداية الآية ]، إذ كل آية تحمل هداية.[ من هداية الآية:أولاً: حرمة أكل أموال المسلم بغير حق، سواء كان بسرقة أو بغصب أو بغش أو باحتيال ومغالطة.ثانياً: حرمة الرشوة، وهي ما يدفع للحاكم ليحكم بغير الحق ]، الحاكم قد يكون قاضياً، وقد يكون شيخ قرية أو جماعة، يدفع له ليحكم بغير الحق.[ ثالثاً: مال الكافر غير المحارب كمال المسلم في الحرمة ]، أما المحارب فدمه وماله حلال، والمحارب: العبد الذي بيننا وبين قومه حرب دائرة، فماله حلال؛ لأن دمه حلال، لكن إذا كان معاهداً ذمياً فلا يحل، أو كان مستأمناً لا يحل أكل ماله، ولهذا اذكروا قول الله تعالى من سورة الفرقان في صفات عبادة الرحمن: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ [الفرقان:68] أي: قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان:68]، فما هي النفس التي لا تقتل إلا بالحق؟ هي نفس المحارب، فلا يحل لمؤمن أن يأكل مال كافر، ولا أن يسيل دمه أبداً بوصفه كافراً.قال: [ مال الكافر غير المحارب كمال المسلم في الحرمة، إلا أن مال المسلم أشد حرمة؛ لحديث: ( كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه ) ]. مال الكافر حرام، لكن مال المؤمن أعظم وأشد؛ لأن إزعاجك لمؤمن، وتخوفيك، وإقلاقك له من أكبر الذنوب، بخلاف الكافر، فلو فزع أو انقبض أو تألم فما هو بشيء.[ ولقوله تعالى ] في هذه الآية: [ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] ]، وحكم الحاكم لا يحل الحرام، لا تفهم أن القاضي إذا قضى لك بمال أنه أصبح حلالاً، فحكم الحاكم لا يجعل الحرام حلالاً، لا يحل ما حرم الله!قال في الهامش: [ حكم الحاكم لا يحل حراماً، سواء كان أموالاً أو فروجاً ]، وإذا قضى القاضي بأن الزوجة زوجتك مثلاً وأنت ليس بزوج لها فهل يصبح النكاح حلالاً؟ كلا.قال: [ لهذا الآية أولاً، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أم سلمة رضي الله عنها ]، وهي التي مكثت سنة كاملة وهي تبكي في الأبطح، أخذ ولدها، وذهب عنها زوجها، فعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا إنما أنا بشر )، ما أنا بملك من الملائكة، أنا بشر والبشر يصيب ويخطئ أو لا؟ ( وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن -أفصح- بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها ). يقول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب أصحابه وأمته: (أنا بشر) لست بملك أعرف الغيب وأعلم ما غاب، وقد يكون الخصم ألحن من خصمه وأفصح، يحسن التعبير، فأقضي له بحسب ما سمعت من بيانه، فمن حكمت له بغير حقه فإنما هو قطعة من النار إن شاء أخذها وإن شاء تركها؛ لأن القاضي قد يخدعه الفصيح، يؤثر عليه بإيراد حجج باطلة، لكن يزوقها ويحسنها ويجعلها معقولة ومقبولة، والآخر المظلوم ما يفصح، بل يتلكأ في كلامه، بل قد يقول ما لا يقبل، فيتهمه القاضي بأنه أيضاً كاذب، فيصدر القاضي حكمه، وهو هنا غير آثم، ولا إثم عليه؛ لأنه قضى بحسب ما سمع، والذي يأخذ ذلك الحق وهو يعلم أنه خدع الحاكم فإنما هو قطعة من نار إن شاء أخذها وإن شاء تركها.

وقفة مع أدب الحياء

معاشر المستمعين! بدأنا في الآداب، وذكرنا منها أدباً، ونحن مأمورون بأن نتأدب مع الله، بل مأمورون بأن نتأدب مع بعضنا، مع أقاربنا، مع أباعدنا، فكيف -إذاً- لا نتأدب مع ربنا؟ وقد قلنا: أول أدب: الشكر على النعم، كيف تأكل وتشرب وتكتسي في بيت ولا تحمد صاحب البيت ولا تشكره؟ أهذا أدب؟ يركبك دابته، يسقيك ماءه، يكسوك ثوبه، ولا تقول له: جزاك الله خيراً؟! أين الأدب؟!فنحن نتقلب في نعم الله، فإذا لم نشكره على كل صغيرة وكبيرة أسأنا الأدب، ما نحن بأدباء أبداً، ومن هنا قلنا: كلما أكلنا لقمة، كلما حصلت نعمة نفزع إلى قول: الحمد لله، والشكر لله، لنكون قد تأدبنا مع الله الذي ينعم علينا ويجدد النعم في كل لحظة.والأدب التالي: هو الحياء من الإيمان، الحياء كله خير، وفي هذا خبر الرجلين اللذين مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم في أزقة المدينة، أحدهما يلوم أخاه ويعتب عليه، يقول له: اترك هذا الحياء، افعل كذا، أضعت نفسك، أضعت مالك بهذا الحياء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، ( دعه؛ إنما الحياء من الإيمان )، هو ينصح أخاه بأن الحياء أضاع مالك، أضاع حقوقك.. كما يفعل الناس، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم توجيه هذا قال: ( دعه -اتركه- فإن الحياء من الإيمان ).والحياء: خلق، من عمل على اكتسابه اكتسبه، وأصبح لا يستطيع أن ينطق ببذاءة أو سوء، إذاً: الحياء عندما يميل أحدنا إلى المعصية يجب أن يستحي من الله.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-08, 09:40 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (123)
الحلقة (130)



تفسير سورة البقرة (88)

سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ما بالها تكون صغيرة، ثم تكبر حتى تتكامل، ثم تعود لتصغر حتى تكون كما بدأت، فجاءه الوحي صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم أن هذه الأهلة هي مواقيت، وعلة بدئها صغيرة، ثم تكبر حتى تتكامل، ثم تعود تصغر حتى المحاق، هي أن يعرف الناس بها مواقيتهم التي يؤقتونها لأعمالهم وعباداتهم، فتفرق الشهور ويعرف الصيام ويعرف الحج، وتعرف العقود وآجالها وغير ذلك من المصالح.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل.وأعيد تلك البشرى التي زفت إليكم من طريق الحبيب صلى الله عليه وسلم، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: (من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله).وأخرى ما ننساها: أن المؤمن إذا صلى الفريضة وجلس ينتظر أختها التي تأتي بعدها كانت الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث، حتى يصلي الصلاة الثانية، ولو أردنا هذا الخير بالمال فلن يقادر قدره، ولن نجد مالاً يبلغه، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.وثالثة البشريات: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وقد سبق لنا دراسة قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، هذه الآية دلت دلالة قطعية على حرمة أكل أموال الناس بغير طيب نفوسهم، وسواء كانوا مؤمنين أو كافرين، نص قطعي الدلالة على تحريم أكل أموال الناس بغير طيب نفوسهم.ثانياً: دلت على تحريم الرشوة، وأنها من أقبح ما يكون، وأن المؤمن لا يقدم على مثلها.والرشوة: أن تعطي الحاكم أو القاضي مالاً ليقضي لك بحق أخيك فتأخذه، فتهلك وتهلك القاضي معك، إذ قال: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].

تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ...)

وها نحن الليلة مع هذه الآية المباركة من سورة البقرة، إذ انتهى الدرس إليها:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189].قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189]، هذا الخطاب ممن؟ من الله عز وجل، وإلى من؟ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقال: سأله كذا، أي: طلب منه كذا، سأله مالاً، سأله قرطاساً، سأله دابة، أي: طلبه، وإذا كان المطلوب خبراً وعلماً يقال: سأله عن كذا ليعرف، فسأل للطلب يتعدى بنفسه، سألته كذا، أي: طلبت منه، وسألته عن كذا: طلبت بيانه وما أريد منه. يَسْأَلُونَكَ [البقرة:189]، عم؟ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189]، ولم يسألون هذا السؤال؟ سألوا وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: لم الأهلة تبدو صغيرة ثم تتكامل وتصبح قمراً، ثم تأخذ في الاضمحلال حتى تغيب، ما سر هذا؟ وعلى كل حال فصاحب الفراغ يسأل هذا السؤال، وإلا فما هناك حاجة إلى هذا، وقد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره تعالى بقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189].

المراد بالأهلة

الأهلة: جمع هلال، وهو الأيام الأولى من الشهر، ثلاثة أيام، إذا رآه الناس رفعوا أصواتهم: الهلال.. أهل الهلال، ظهر، وبعد الثلاثة أيام يصبح قمراً إلى أن يضمحل، والعامة يقولون: مات الشهر، ويولد يوم كذا! وهذا مأخوذ عن اليهود وجهالهم، وإلا فالقمر ما يموت ثم يخلق في اليوم الثاني، وإنما يستتر ويظهر في اليوم الذي بعده. والشهر تسعة وعشرون يوماً أو ثلاثون، قرر هذه القاعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلن يستطيع ابن امرأة تحت السماء أن ينقضها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( الشهر هكذا وهكذا وهكذا ) وعقد أصابعه، يعني: تسعة وعشرين يوماً وثلاثين يوماً.

معنى قوله تعالى: (قل هي مواقيت للناس والحج)

يقول تعالى: قُلْ [البقرة:189]، أجبهم يا رسولنا عن سؤالهم هذا، قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، هذا الجواب، بمعنى أن الشهر حين يبتدئ بالهلال ثلاثة أيام ثم يتكامل ويصبح قمراً ثم يضمحل وينتهي ويستأنف رجوعه من جديد، العلة في هذا أو السر أو الحكمة أن ذلك مواقيت للناس وللحج.ومواقيت: جمع ميقات، والميقات أخص من الوقت، الوقت عام، والميقات محدد، مواقيت للناس؛ لأنهم يتعاملون بالسلم، بالاستقراض، بالديون، فلولا الشهر فكيف سيعرفون الآجال؟ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189]، يعده مدة شهرين ويأتيه بما وعده، يعده لشهر رجب أو رمضان، لولا هذه الأهلة بهذه الطريقة فكيف سيعرف الناس الآجال؟ ستتعطل حياتهم، وفوق ذلك الحج، وهو يوم واحد في السنة، وهو تاسع ذي الحجة، فلولا الأهلة تبدو صغيرة وتتكامل وتكبر ثم ترجع وتعود، فكيف سنعرف الحج الذي قرره الله وافترضه على عباده. قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] بصورة خاصة؛ لأنه تاسع شهر ذي الحجة، فكان الجواب مقنعاً مسكتاً، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189] يا رسولنا، قُلْ [البقرة:189] لهم: هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189] عامة، أبيضهم وأصفرهم، والحج بصورة خاصة، فمواعيد الناس وعقودهم لا بد لها من ضوابط وليس إلا الشهور، لو جعلنا الشهر الشمسي فكيف سنعرف أن الشهر دخل أو لم يدخل؟ إلا من يحسب أو في جيبه مفكرة، لكن البشرية ليست كلها هكذا، يعرفون الشهر بالهلال، يعرفون العام بعدة الشهور، يعرفون نصف السنة كذلك.

معنى قوله تعالى: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى)

قال تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، هذا يقرر أن العرب في الجاهلية -وخاصة أهل المدينة من الأوس والخزرج- كان أحدهم إذا أحرم بالحج أو العمرة وتجرد وخرج من بيته يريد مكة، فإذا عنَّ له أن يعود إلى بيته لأمر ما فماذا يصنع؟ لا يجيز لنفسه أن يدخل تحت نجف الباب يظلله، فيحتاج إلى أن يصعد على الجدار من فوق السقف ويهبط؛ حتى لا يدخل تحت نجف الباب. ولا تضحك؛ فالروافض إلى الآن ما زالوا إذا أحرم أحدهم لا يريد أن يظلله شيء، حتى سقف السيارة!إذاً: فأبطل الله هذه البدعة، إذ الله ما تعبدنا بها، والله لا يعبد إلا بما شرع، فكوننا نخترع، نبتكر، نوجد ما نسميه طاعة لله، ونطيع الله به وهو ما شرعه، فهذا لا يحل أبداً وهو بدعة وضلال. وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [البقرة:189]، من فوق السقف وتهبطون؛ خشية أن تنزلوا تحت نجف الباب.

صور من إنكار الشارع التقرب بغير المشروع

وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، البر بر عبد اتقى الله عز وجل، بفعل أوامره وترك نواهيه، هذا هو العبد البار، وهذا هو البر والخير، أما بدعة تبتدعها يا عبد الله وتتقرب بها فما تقبل.ونذكر حادثة أبي إسرائيل أحد الصحابة رضوان الله عليهم، ولعله كان من اليهود وأسلم، نذر أن يقوم ولا يقعد، وأن يقوم في الشمس ولا يستظل، وأن يسكت ولا يتكلم، وأن يصوم ولا يفطر، وهو في الحصباء، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجل فرأى أنه واقف في الشمس ولم يقعد وطالت مدته وهو ساكت لا يتكلم، فسألهم عن حاله، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم لله ولا يقعد، وأن يسكت ولا يتكلم، وأن يصوم ولا يفطر، وأن يقف في الشمس ولا يستظل بأي شيء يظله، فأمرهم أن يأتوا به، وقال لهم: ( مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه )، اسقط ثلاثاً وأبقى الرابعة؛ لأن الله ما تعبدنا بالوقوف في الشمس، ولا بالقيام دون القعود، ولا بدون استظلال، وإنما أمرنا بالصيام، فمن أراد أن يصوم تملقاً لله وتزلفاً فليفعل، أما أن يتملق الله ويطلب حبه ورضاه ببدعة يبتدعها فوالله! ما تنفع؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )، ضلالة تضل صاحبها عن طريق الهدى ليشقى ويردى، فإياكم، احذروا! وهذا القضية واضحة.وفي خبر الثلاثة الذين دخلوا على عائشة رضي الله عنها وسألوا عن صيام الرسول صلى الله عليه وسلم وقيامه، فيه أنها أخبرتهم، فتعاهدوا فقال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، والآخر قال: أنا لا أتزوج النساء، والثالث قال: أنا أصلي الليل كله ولا أنام، فإذا كان الرسول يصوم ويقوم فأين نحن منه؟ وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف يخطب الناس وقال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ إني -وأنا رسول الله- أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، هذه سني ومن رغب عن سنتي فليس مني، فتابوا وتراجعوا، وعلى رأسهم ابن مظعون رضي الله تعالى عنه أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة.والشاهد عندنا: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [البقرة:189]؛ لأن هذه بدعة ابتدعها الناس، فالله أمر بتعرية الرأس وكشفه والتجرد من المخيط، بهذا تعبدنا الله على لسان رسوله، فكل من أراد مكة للعمرة والحج لا بد أن يتجرد من المخيط وأن يعري رأسه ويكشفه لله في الحر والبرد على حد سواء، أما أن نبتكر أو نخترع أو نحاول أن نتقرب إلى الله بما لم يشرع فهذا لا يقربنا من الله، بل يبعدنا.

انتفاء تحصيل الطهارة بغير العبادات المشروعة

وهذه الحقيقة تقررت عندنا مئات المرات، وهي: أن هذه العبادات ما سرها؟ هل لأن الله في حاجة إليها؟ لا والله، إذا: عوائدها تعود على من؟ على العباد، فهذه العبادات شأنها شأن الغذاء والماء والهواء للبدن، حياتك متوقفة على الغذاء والماء والهواء، بدونها تموت يا عبد الله، فصحتك متوقفة على هذه.إذاً: وطهارة روحك لتصبح كأرواح أهل السماء في الطهر والصفاء؛ ليتم التجانس وتنتقل إلى أهل السماء وتعيش معهم، فهذه الروح بم تطيب وتطهر؟ ما هي الأدوات؟ الجواب: هي هذه العبادات التي شرعها الله عز وجل، لا غيرها، فمن لم يعبد الله تعالى بها فوالله! ما زكت نفسه، ولا طابت، ولا طهرت، ولا ينفع فيها ماء ولا صابون، ولا حيلة أبداً.إذاً: هذه الأدوات التي تزكي النفس إن لم يكن الله قد شرعها فهل تفعل شيئاً؟ كلا. ولو اجتمع العلماء ليخترعوا بدعة عظيمة.وعلى سبيل المثال: هل هناك أفضل من الحجرة النبوية وما فيها بعد الكعبة؟ كلا. فلو قال قائل: هيا بنا نطوف بحجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم ونحن نهلل ونكبر ونصلي على الرسول وآله وصبحه سبع مرات لنشفي صدورنا، لنطهر نفوسنا، وأخذوا يفعلون، فهل هذا الطواف يحدث زكاة لنفوسهم؟ والله! ما كان، ولن يحدث إلا ظلمة وعفناً ونتناً، وعلى هذا المبدأ لا يرضى مؤمن ببدعة مهما كانت؛ لأنها لا تنتج الطاقة المطلوبة وهو النور المعبر عنه بالحسنات.

رد التقرب بغير المشروع

وعندنا قاعدة حفظها المؤمنون والمؤمنات، كلمة فاصلة هي قول الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي يسمعها ولا يحفظها وما يبالي بها ميت، ولأن يخرج من المسجد خير له. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، من عمل عملاً ما أمرنا به فهو مردود على صاحبه، لن يعود بأجر ولا مثوبة ولا حسنة أبداً؛ لأننا ما كلفناه، هو الذي اخترع وابتدع وفعل، وهكذا سائر البدع التي استحسنتها العقول الفارغة أو الضالة أو اللاهية البعيدة عن سر هذه الشريعة الإلهية فجعلت البدعة لوجه الله. فهؤلاء قالوا: أحرمنا، فكيف أدخل تحت الباب ويكون فوق رأسي السقف! وهذا تقرب إلى الله، فعلوه تقرباً، إي والله العظيم، ما هو لأجل الرياء ولا السمعة، يريدون رضا الله، لكن لما لم يشرع الله هذا عاتبهم وأبطل به عملهم.

كيفية تقوى الله عز وجل

وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، أي: صاحب البر المتقي.ونعود فنقول: الله جل جلاله بم يتقى عذابه وسخطه، هل بجحافل الجيوش؟ هل بالأموال؟ بالرجال؟ بالعصبيات؟ بما يتقى غضب الله وعذابه؟يتقى فقط بطاعته وطاعة رسوله، لا تعصه فقط، قال: صم فصم، قال: أفطر فأفطر، قال: نم فنم، قال: استيقظ فاستيقظ، هذا الذي يتقى به الله عز وجل، فالبر كله في تقوى الله عز وجل، وصاحب البر هو التقي، أما الفاجر الخارج عن طاعة الله ورسوله فما هو بالمتقي أبداً ولا يستطيع أن يتقي عذاب الله، ولا غضبه ولا سخطه بأي وسيلة من الوسائل إلا بالإسلام له، بأن يسلم قلبه ووجهه لله. يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ [البقرة:189] يا رسولنا هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، يوقتون بها ديونهم وأعمالهم، وميقات للحج بصورة خاصة، إذ الحج عرفة: ( الحج عرفة )، ويوم عرفة هو تاسع ذي الحجة، فلولا هذه الأهلة فكيف سنعرف الحج؟ كيف نعرف الشهر، ونعرف التاسع منه؟ ما نستطيع، مع أن الحج مفروض قبل الإسلام، من يوم أن بنى إبراهيم البيت أمر أن يؤذن في الناس أبيضهم وأصفرهم بالحج.وقوله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:189] بر مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، الذي يتقي الله، يخافه، فلا يفجر، ولا يفسق، ولا يخرج عن طاعته، ذاك الذي حصل له النجاة، ذاك الذي اتقى عذاب الله.

معنى قوله تعالى: (وأتوا البيوت من أبوابها)

ثم قال تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، هذا كالمثل، من طلب شيئاً ينبغي أن يطلبه من الطريق الذي يحصل منه عادة، وَأْتُوا الْبُيُوتَ [البقرة:189]، من أين؟ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، كل من أراد أن يطلب شيئاً جرت سنة الله الحصول عليه يطلبه من ذاك الطريق لا من طريق آخر.رجل أراد أن يصبح غنياً ثرياً، فكيف يطلب الآن الغنى والثروة؟ يجب أن يكدح، وأن يعمل الليل والنهار، وأن يربط على نفسه، من أجل أن يحصل، إذ من هنا تأتي الثروة أو لا؟ وإن قال: أنا آتي بالثروة وأحصل عليها من طريق الإجرام والتلصص والسرقة والاحتيال فهل هذا هو الطريق؟ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، لا تأتوها من ظهورها.أراد أن يشبع، فهل يدخل الطعام من أذنيه أو منخريه؟ لا بد أن يدخله من فمه، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189].

معنى قوله تعالى: (واتقوا الله لعلكم تفلحون)

إذاً: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189]، نقول: هذه (لعل) الإعدادية: لتعدكم التقوى للفلاح، ولو قلنا: (لعل) للترجي فسيبقى العاملون المتقون خائفين دائماً وأبداً، فالتقوى تعدهم للفلاح، هذه سنة الله، فمن أكل شبع، من شرب ارتوى، من اتقى الله عز وجل أفلح. والفلاح يكون دنيوياً وأخروياً، فمن اتقى الله ففعل الأوامر واجتنب النواهي فوالله! ليسعدن في دنياه، فلا وسواس، ولا هواجس، ولا آلام ولا خوف ولا اضطراب أبداً ما دام على منهج الله سائراً، والفلاح الأخري هو المقصود بالذات، فما هو الفلاح في الآخرة؟ أن يبعد عن النار ويدخل الجنة، لآية آل عمران: زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، آمنا بالله، اجتاز المفازة المهلكة ودخل دار النعيم. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189]، واتقوا الله -يا عباد الله، أيها المؤمنون- رجاء أن تفلحوا، فمن اتقى الله أفلح؛ لأن المتقي لله ذاك الذي أسلم لله قلبه ووجهه، قلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وجهه لا يلتفت أبداً إلى غير الله، دائماً مع الله، فهذا العبد أفلح.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

نقرأ هذه الآية من الكتاب؛ لنقف على بعض ما فيها من بيان وهدى.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات: الأهلة: جمع هلال، وهو القمر في بداية ظهوره في الثلاثة الأيام الأولى ]، يقال فيه: هلال؛ [ لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم: الهلال .. الهلال.المواقيت: جمع ميقات، الوقت المحدد المعلوم للناس ]، الوقت المحدد المعلوم للناس، فإن كان مطلقاً غير محدد ولا معلوم فهو الوقت، والدنيا كلها وقت واحد من بدايتها إلى نهايتها، لكن الميقات وقت محدد بالشهر أو بالشهور أو بالأعوام.[ إتيان البيوت من ظهورها: أن يتسور الجدار ويدخل البيت تحاشياً أن يدخل من الباب ]، هذه بدعة باطلة لا يثابون عليها.[ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]: البر الموصل إلى رضوان الله تعالى بر عبد اتقى الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه ]، فليس البر دخول البيوت من ظهورها، هذه بدعة لا تصح ولا تقبل.[ الفلاح: الفوز، وهو النجاة من النار ودخول الجنة ]، كما قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:90-91]، الجنة تبرز للمتقين كما يبرز القمر، فالجنة أزلفت وأدنيت وقربت للمتقين، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:91].أتذكرون كيفية بروز النار؟ أما تذكرون قول الله تعالى من سورة الفجر: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر:23]، جيء بها من أين؟ تجر بسبعين ألف زمام، كل زمام ممسك به سبعون ألف ملك، تجر حتى تبرز ويشاهدها أهل الموقف.إذاً: إياك أن تفهم أن الزمام هذا حبل غليظ صنعته اليابان، نحن علمنا أن أهل النار، أهل الكفر والفجور والظلم والشر كل واحد منهم تدخل فيه سلسلة من فيه وتخرج من دبره طولها سبعون ذراعاً، ما هو بذراع السلطان اليوم، فإذا كان عرض هذا الكافر مائة وخمسة وثلاثين كيلو متر، وضرسه كجبل أحد؛ إذاً: فهذه السلسلة بأي ذراع؟ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:32]، لم؟ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:33-34].إذاً: برزت الجحيم للغاوين، أزلفت الجنة للمتقين، هذا الموقف والبشرية هائجة مائجة، تنتظر حكم الله فيها، فمن نجاه الله من النار وأدخله الجنة دار الأبرار قيل عنه: فاز فلان ابن فلان، هذا هو الفوز العظيم: النجاة من النار أولاً، ودخول الجنة ثانياً.أما من دخلوا النار ولو خرجوا منها بعد أحقاب من السنين فما فازوا، فإنهم يخرجون منها وقد امتحشوا، أصبحوا كالفحم، ويغسلون في نهر عند باب الجنة يقال له: نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في السيل.وقد يقال: يا شيخ! عرفنا الفلاح أنه النجاة من النار ودخول الجنة، فنريد أن نعرف بم يكون هذا الفلاح؟ ما هي الأدوات؟ ما هي الآلات؟ كيف نحصل عليه؟ الجواب: طاعة الله ورسوله والتقوى هي السبب المورث، يا من يريدون الجنة! إن للجنة سبباً فحققوه وإلا فلا حظ لكم في هذا الأمل أو الطمع، السبب هو التقوى؛ لأنها تزكي نفسك وتطهرها حتى تصبح كأنفس وأرواح أهل السماء في الملكوت الأعلى. وأصحاب الأرواح الخبيثة، العفنة، المنتنة من أوضار الذنوب والآثام؛ أرواحهم كأرواح الشياطين، والله! ما تدخل الجنة وهي كذلك، بل تنزل إلى عالم الخبث والدرن.وهل من شاهد في القرآن على هذه القضية؟ يا أهل القرآن! الأرواح الطاهرة تفتح لها أبواب السماء إلى أن تصل إلى دار السلام، والأرواح الخبيثة المنتنة تخبث بالمعاصي، فالكذبة يكذبها العبد تحول نفسه إلى هذا العفن أو النتن، فإذا لم يبادر إلى غسلها وتنظيفها خسرت. إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:40]، والذي كذب بآيات القرآن هل صام وصلى؟ هل تجنب الربا والزنا؟ ما آمن، كذب بالآيات. وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40]، والمستكبر عنها وإن آمن هل يعمل بها؟ الآن المسلمون استكبروا عن شرع الله وما طبقوه، فهل انتفعوا بالشريعة؟ هل طهرت البلاد؟ هل حصل أمن وإخاء ومودة؟ الجواب: لا؛ لأنهم ما طبقوا.وضربنا مثلاً لنفرق بين المستكبر والمكذب، فقلنا: مريضان في مستشفى، هذا على سرير وهذا على سرير، ففحصوا فقالوا لهما: عليكما أن تستعملا هذه الأدوية بهذا النظام بالساعة كالصلوات الخمس، فالأول قال: أنا لا أومن بهذه الخرافة، أي دواء هذا؟ ما آمن بالدواء ورفضه، فهلك ومات.والثاني: وصفوا له الأدوية وأوقاتها فقال: جزاكم الله خيراً، لكن نفسي ما تقبله، ما عندي قابلية لهذه الأدوية، أنا أعرف أنها نافعة لكن ما هناك انشراح للصدر عندي، فما استعملها فهلك كالأول، فأي فرق بينهما؟ فاليهود والنصارى ما آمنوا بالشريعة الإسلامية، فهلكوا، والمسلمون من يوم أن أعرضوا عنها وتركوها مثلهم، أولئك كفروا وهؤلاء في صورة المستكبرين، يقولون: كيف نطبق قانون الرجعية؟! والواقع يشهد أنه ما في العالم إلا هذا البلد، فكل دولة استقلت تطبق قوانين وشرائع من استعمرها، كأنهم مسحورون، فما تحقق أمن ولا طهر ولا صفاء؛ لأنها سنة الله، فالطعام يشبع، الماء يروي، النار تحرق، الحديد يقطع، سنن لا تتبدل، من لم يطبق شرع الله الذي أنزله لتحقيق الطهر والأمن والصفاء والكمال فوالله! لن يحصل له شيء. إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40]، ما لهم؟ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، هل الجمل الأورق يدخل في عين الإبرة؟ والإبرة: حديدة رقيقة فيها ثقب تدخل فيها المرأة الخيط وتستخرجه وتخيط الثياب المقطعة، فهل يمكن أن ندخل بعيراً في عين إبرة؟ مستحيل، كذلك مستحيل أن يدخل من كذب بآيات الله واستكبر عنها فخبث بشركه وكفره وفسقه، مستحيل أن يدخل دار السلام، فمن يفتح له أبواب السماء حتى يلج ويدخل؟وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، لقد قضى الله، لقد حكم الجبار، ولا مراجع لقضائه ولا معقب لحكمه، فقد قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، هنا تقرير المصير، لا في الأمم المتحدة، يا ابن آدم! يتقرر مصيرك في الدار الآخرة، فإن أنت آمنت واستقمت وجاهدت نفسك والهوى وفعلت ما أمر به وتركت ما نهي عنه فأنت قررت مصيرك إلى الجنة، وإن أعرضت واستكبرت وتجاهلت وجريت وراء الشهوة والهوى والدنيا ولعبت معرضاً عن الله وذكره فأنت قررت مصيرك في العالم الثاني الأسفل.

معنى الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآية الكريمة ]، وهي قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189]قال: [ روي أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين: ما بال الهلال يبدو دقيقاً، ثم يزيد ثم يعظم ويصبح بدراً ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما كان أول بدئه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] ].قال: [ وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: هي مواقيت للناس، وعلة بدئها صغيرة، ثم تتكامل، ثم تنقص حتى المحاق: هي أن يعرف الناس بها مواقيتهم التي يؤقتونها لأعمالهم، فبوجود القمر على هذه الأحوال تعرف عدة النساء ]، فالمرأة المعتدة بالموفاة عدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، فلولا الهلال فكيف سنعرف الأشهر؟ قال: [ وتعرف الشهور، فنعرف رمضان ونعرف شهر الحج ووقته، كما نعرف آجال العقود في البيع والإيجار، وسداد الديون وما إلى ذلك ]، فلا بد من هذا القمر بهذه الطريقة.[ وكان الأنصار في الجاهلية إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة وخرج من بيته وأراد أن يدخل لغرض خاص لا يدخل من الباب حتى لا يظله نجف الباب، فيتسور الجدار ويدخل من ظهر البيت لا من بابه، وكانوا يرون هذا طاعة وبراً، فأبطل الله تعالى هذا التعبد الجاهلي بقوله عز وجل: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:189] بر أهل التقوى والصلاح، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها فقال تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، وأمرهم بتقواه عز وجل ليفلحوا في الدنيا والآخرة فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189] ].

هداية الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[هداية الآية الكريمة:من هداية الآية: أولاً: أن يسأل المرء عما ينفعه ويترك السؤال عما لا ينفعه ]، وفي الحديث الصحيح: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فحين تقوم الآن وتسأل سؤالاً ما يتحقق به أي خير لك ولا للسامعين، فهل يجوز هذا السؤال؟ هو إضاعة للوقت، ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، كل ما لا علاقة له بطهره وصفائه أو بكماله لا يلتفت إليه.[ ثانياً: فائدة الشهور القمرية عظيمة؛ إذ بها تعرف كثير من العبادات.ثالثاً: حرمة الابتداع في الدين، ولو كان برغبة في طاعة الله تعالى وحصول الأجر ]؛ لأن المبتدع في الغالب يريد رضا الله والحصول على الأجر، لا يبتدع فقط للفتنة، قد يوجد في الضلال من يبتدعون لفتنة الناس، لكن أغلب الناس يبتدعون رغبة فيما عند الله وحباً فيه.[ رابعاً: الأمر بالتقوى المفضية بالعبد إلى فلاح العبد ونجاته في الدارين ]. معاشر المستمعين والمستمعات! هيا نتأدب مع الله، وقد عرفنا أول أدب: أننا نشكره على آلائه وإنعامه، وإلا فقد أسأنا الأدب مع الله، فهو يطعمنا ويسقينا، يركبنا ويكسونا ويداوينا، خلق الكون كله لنا حتى الجنة والنار، ثم لا نقول: الحمد لله والشكر لله، أي أدب هذا؟ ويا ويل من يسب الله ويشتمه، ويكذبه ويكفر به وهو يأكل ويشرب من رزقه!ثانياً: الحياء عند الميل إلى المعصية، عندما تميل يا عبد الله إلى الكلمة السيئة أو الفعل المحرم فاستح من الله؛ لأنه يراك، ويعلم حالك، وما تقدم على فعله، فأنت بين يديه، فكيف لا تستحي؟ هل يستطيع واحد الآن وهو عاقل أن يكشف عن سوأته ويبول؟ هل يكشف عن فرجه فقط؟إذاً: فيا عبد الله! عندما تميل نفسك إلى معصية اذكر أن الله يراك، فاستح منه، واقطع عملك وقف؛ لأنك بين يديه، كيف يراك وأنت تسرق؟! كيف وأنت بين يديه ترتكب إثماً وهو يراك؟ فمن رزق الحياء من الله فما يستطيع أبداً أن يعصي الله، فقط نحتاج إلى الذكر ونبعد الغفلة، عندما يهم أحدنا بمعصية الله فليذكر الله أنه معه ويراه، فيقف، ولا يقدم عليها.إذاً: الحياء عند الميل إلى معصية الله، عندما تميل النفس وتريد أن تفعل اذكر أن الله تعالى يراك وأنك بين يديه فتستحي منه كما تستحي من الناس، وكنا نعرف كثيراً من الشبيبة يدخنون، لكن ما يستطيع أن يدخن أمام والده، أبداً، بل رأيناهم إذا مروا برجل صالح من أهل العلم أو الصلاح أو كبار السن يطفئون السيجارة حياء، فمثل هذا لو علم أن الله يكره التدخين لأنه يؤذي ملائكته لما دخن، ولكن الجهل هو المصيبة.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-08, 09:50 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (124)
الحلقة (131)



تفسير سورة البقرة (89)

هذه الآيات من أوائل ما نزل من القرآن في شأن قتال الكافرين، وهي متضمنة الإذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتال من يقاتلهم، والكف عمن يكف عنهم، مبيناً سبحانه أن فتنة قتال أهل الشرك والكفر أهون عند الله من فتنة الكافرين للمؤمنين، وحملهم على الكفر باضطهادهم وتعذيبهم وصدهم عن دين الله، وأن إخراج الكافرين وقتالهم إنما هو جزاء كفرهم واعتدائهم وظلمهم.

تفسير قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل أملاً في أن يحقق الله تعالى لنا ذلك الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا ذلك يا ربنا.وها نحن مع هذه الآيات الأربع من سورة البقرة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:190-193].

مراحل تشريع الجهاد

بين يدي تفسير هذه الآية أعلمكم: أن الله لم يأذن لرسوله والمؤمنين بقتال الكافرين والمشركين فترة من الزمن، كما هو شأنه صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة أذن الله تعالى لهم في القتال، وأول آية في هذه الشأن قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]، ثم خص هذا العام بهذه الآية الكريمة: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190]، من؟ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ [البقرة:190]، فمن قاتلكم قاتلوه، من كف عن قتالكم كفوا عن قتاله، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].إذاً: أذن لهم في قتال من يقاتلونهم، ولم يأذن لهم في قتال من لم يقاتلهم، ثم بعدما انتصر الإسلام وانتشرت الدعوة نزلت آيات من سورة التوبة، فأعطى الله المشركين في الجزيرة فرصة للتفكر والتأمل: إما أن يدخلوا في الإسلام، أو أن يخرجوا من هذه الديار، وإلا فسوف يقاتلون، قال تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]، أعطاهم أربعة أشهر، حيث قال تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة:1-3]، إذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم علياً في السنة التاسعة يعلن هذا الإعلان: لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن مشرك بعد هذا العام.إذاً: فهم ممهلون أربعة أشهر، هؤلاء أصحاب العهود، فمن كانت مدته أقل من أربعة أشهر فمدته تلك، ومن كانت أكثر من أربعة أشهر فأربعة فقط: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]، والمراد من هذا: تطهير هذه الديار، ديار التوحيد، ديار الجزيرة. ثم نزلت آية أخرى في آخر سورة التوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، إعلان في قتال المشركين والكافرين، ومعنى (يَلُونَكُمْ) أي: يحاددونكم.إذاً: فدائرة القتال تكون ضيقة أولاً، ثم نقاتل من حولنا فتتسع وتتسع حتى تنتظم الكرة الأرضية، فالجهاد واجب كفائي، ولا ينتهي حتى لا يبقى في الأرض من يعبد غير الله.

خطوات ومراحل قتال الكفار

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39]، أي: شرك، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، ولفظ (قاتِل) غير (اقتل)؛ فلهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم كيف نقاتل المشركين الذين يلوننا، مهما اتسعت ديارنا، وهو أن نعسكر بجيوشنا على مقربة من بلادهم، ثم نبعث رسولنا أو سفيرنا إليهم، فهم مخيرون بين اثنين، فإن رفضوهما تعين القتال:الأول: أن يدخلوا في رحمة الله، في الإسلام، نقول لهم: جئناكم بدين ربكم، من أجل إكمالكم وإسعادكم، والقضاء على الشر والفساد والخبث بينكم، فإن قبلوا دعوة الله وادخلوا في رحمته فكلنا إخوان في الله عز وجل، وإن رفضوا، وأصروا على معتقداتهم ودينهم قلنا: إذاً: اسمحوا لنا أن ندخل دياركم، ونتولى أمر قيادتكم وأنتم آمنون في بلادكم على دينكم؛ لأن دخولنا ومشاهدة إخوانكم لنا يحملهم على أن يدخلوا في الإسلام، كانوا خائفين من الإسلام والمسلمين، إذا دخل المسلمون ديارهم، وشاهدوا أنوار الصدق والطهر والعدل والرحمة والكمال انجذبوا ودخلوا في رحمة الله، ونحن نتولى حمايتكم والدفاع عنكم، مقابل إعلان أنكم قابلون لحمايتنا، ويدفعون الجزية، يدفعها الذكور منهم دون الإناث، والقادرون دون العجزة، كذا درهماً في السنة يسمى بالجزية، فإن قبلوا هذه دخل المسلمون وتولوا القضاء، ونشر الدعوة والتعليم والإصلاح؛ وفي سنة أو أقل إذا البلاد كلها أنوار. فإن رفضوا فلم يبق إذاً إلا القتال، فإن رفضوا الأولى والثانية تعين قتالهم، لا قتلهم، فندخل في حرب مع جيوشهم، وسوف ينكسرون، وتدخل خيل الله لتنشر الهدى والطهر والصفاء، وهذا الذي تم في البلاد الإسلامية، طهرت الجزيرة، يليها الشام، يليها اليمن، يليها العراق، وأخذ الإسلام ينتشر.هذه لا بد من معرفتها:أولاً: ما أذن للمؤمنين بالقتال؛ لضعفهم وعدم قدرتهم، كانوا يؤمرون بكف أيديهم، ولم يسمح لهم بقتال، فما اغتال مؤمن كافراً في مكة ثلاث عشرة سنة أبداً، ولم يسمح لهم بالقتال ولا في المدينة، حتى نزلت آية: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج:39] لأنهم يقاتلونهم بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]. ثم تتابعت الآيات، فأذن لهم بقتال من يقاتلهم والكف عمن يكف عنهم، وبعد فترة من الزمن انتشر الإسلام وانتصرت دولته، فأمروا أولاً بتطهير الجزيرة، حتى لا يبقى فيها دينان أبداً، لا يجتمع دينان في الجزيرة، وبعد طهر الجزيرة نزل قوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ [التوبة:123]كلما اتسعت الحدود قاتلنا من يلينا حتى لا يبقى على الأرض من لا يعبد الله، هذا هو المفروض الواجب، فإن عجز المسلمون فعجزهم مؤقت، ويوم يزول ويقوون ويقدرون يقاتلون ويدخلون الناس في رحمة الله.

المقصد الشرعي من الجهاد

فالآن قوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190] هذا قيد، وسبيل الله هي أن يعبد وحده وتعلو كلمته، هذا سبيل الله، وقاتلوا في سبيل الله لا في سبيل قبلية ولا مال ولا سمعة ولا انتصارات، وإنما الدافع الأول والأخير هو أن نقاتل من أجل أن يعبد الله وحده، لا هدف سوى هذا، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ [البقرة:190] والذين لا يقاتلونكم لا تقاتلوهم، وَلا تَعْتَدُوا [البقرة:190] بقتالهم؛ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].

تفسير قوله تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ...)

قال تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191] الذين قاتلوكم وحاربوكم اقتلوهم حيث تمكنتم منهم، وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [البقرة:191] من دياركم، أما أخرجوهم من مكة؟ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:191] يعني: ذنب الشرك ومصيبته أعظم من القتل، وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:191] والمراد به مكة والحرم، لا المسجد فقط، وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:191]، أي: في حرم مكة حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة:191]، ولهذا لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم ورجاله فاتحين سنة ثمان أعلن أن مكة حرمها الله منذ أن خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، ولم تحل إلا ساعة أحلها الله له ثم عادت حرمتها إلى الأبد. وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ [البقرة:191] إذاً فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ [البقرة:191]، أي: قتالكم لهم وإخراجكم لهم كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [البقرة:191]، هم قاتلوكم وأخرجوكم.

تفسير قوله تعالى: (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم)

قال تعالى: فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:192] فدخلوا في الإسلام وعبدوا الله وحده فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ [البقرة:192] لهم رَحِيمٌ [البقرة:192] بهم، لا يحاسبهم ولا يجزيهم على شرهم وكفرهم وقتالهم لكم قبل إسلامهم، وعد الله الصادق، فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:192] عن الشرك والظلم وقتال المؤمنين فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:192] سيغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم.

تفسير قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ...)

وقوله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193] هذا في الجزيرة، فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193] إذا كفوا عن قتالكم فكفوا عنهم؛ فإنه لا عدوان إلا على من ظلم.وأطلق العدوان هنا من باب المشاكلة فقط، وإلا فقتالنا لمن قاتلنا لا يسمى عدواناً ولا ظلماً، مثل قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، ما هي بسيئة لكن من باب المشاكلة في اللفظ.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

إليكم شرح هذه الآيات: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات: سبيل الله: الطريق الموصل إلى رضوانه وهو الإسلام، والمراد إعلاء كلمة الله ].هذا سبيل الله: الإسلام؛ لأنه يصل بالسالك إلى الجنة، والإسلام معناه: أن من أسلم قلبه لله عبد الله وحده، إذاً: فسبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضوانه تعالى وهو الإسلام، فلن يظفر إنسان برضا الله ما لم يسلم له قلبه ووجهه. الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ [البقرة:190]: المشركون الذين يبدءونكم بالقتال. وَلا تَعْتَدُوا [البقرة:190]: لا تجاوزوا الحد فتقتلوا النساء والأطفال أو من اعتزل القتال من الرجال ].نقاتل ولكن في عدل لا في ظلم واعتداء، فلهذا لا يحل قتل النساء ولا الأطفال ولا من اعتزل القتال ولم يرض به، فالنساء إن قاتلن ودخلن المعارك يقتلن، كذلك أهل الصوامع والرهبان والعُبّاد من اليهود والنصارى إن بقوا في صوامعهم وعبادتهم فلا يحل قتالهم، فإن دخلوا المعارك وحملوا السلاح فإنهم يقتلون، والأطفال أمرهم واضح أنهم لا يقتلون.[ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191]: تمكنتم من قتالهم. وَالْفِتْنَةُ [البقرة:191]: الشرك. الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:191]: المراد به مكة والحرم من حولها. وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193]: بأن لم يبق من يعبد غير الله تعالى. فَلا عُدْوَانَ [البقرة:193]: أي: لا اعتداء بالقتل والمحاربة إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، أما من أسلم فلا يقاتل ] ولا يقتل.

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيات: هذه الآيات الثلاث: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190] ] إلى قوله: جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [البقرة:191] هذه الآيات الثلاث [ من أوائل ما نزل من الآيات في شأن قتال المشركين، وهي متضمنة الإذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتال من يقاتلهم، والكف عمن يكف عنهم.وقال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190] أي: في سبيل إعلاء كلمة الله ليعبد وحده الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ [البقرة:190]، واقتلوهم حيث تمكنتم منه، وأخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم أيها المهاجرون من دياركم ] لأن المهاجرين في المدينة هم الذين يعودون إلى قتال أهل مكة.[ ولا تتحرجوا من القتل، فإن فتنتهم للمؤمنين لحملهم على الكفر بالاضطهاد والتعذيب أشد من القتل نفسه. وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة:191] فلا تكونوا البادئين؛ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191]، كذلك القتل والإخراج الواقع منكم لهم يكون جزاء كل كافر يعتدي ويظلم، فإن انتهوا عن الشرك والكفر وأسلموا فإن الله يغفر لهم ويرحمهم؛ لأن الله تعالى غفور رحيم.أما الآية الرابعة ] في هذه الآيات [ وهي قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة:193] فهي مقررة لحكم سابقاتها؛ إذ فيها الأمر بقتال المشركين الذين قاتلوهم قتالاً يستمر حتى لا يبقى في مكة من يضطهد في دينه ويفتن فيه، ويكون الدين كله لله فلا يُعبد غير الله عز وجل في مكة.وقوله: فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:193] من الشرك بأن اسلموا ووحدوا فكفوا عنهم ولا تقاتلوهم؛ إذ لا عدوان إلا على الظالمين، وهم بعد إسلامهم ما أصبحوا ظالمين.

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات: من هداية الآيات:أولاً: وجوب قتال من يقاتل المسلمين، والكف عمن يكف عن قتالهم، وهذا قبل نسخ هذه الآية ].أما الآية الختامية من آخر سورة التوبة وآخر ما نزل فهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، كيف يلوننا؟ مثلاً: لنفرض أن البلاد التي حول الجزيرة ما زالوا كافرين، فهل نزحف لنقاتل تركيا قبل الشام؟ هل نقاتل إيران قبل بغداد؟ الجواب: لا، هل نقاتل شمال إفريقيا قبل المصريين؟ الجواب: لا.نقاتل الذين يلوننا، فإذا أسلموا دخلوا في رحمة الله ويصبح جيرانهم من الجهة الثانية هم جيراننا، ونأخذ في القتال حتى تتسع دائرة الإسلام وتنتظم الأرض كلها، كبركة ماء أو مستنقع واسع، فخذ حجراً وارمه في وسطه، فستنفتح دائرة ثم لا تزال تتسع حتى تصل إلى كل حافاته. فما نتجاوز بلداً مجاوراً ونذهب نقاتل من وراءه، لا يصح هذا، فالذي يلينا أولى بالرحمة والإحسان ممن كان بعيداً، والناس يعرفون أن الصدقة أولى بها الأقربون؛ لأن هذه الدعوة ما هي دعوة استعمار واستغلال، هذه دعوة نشر الهدى والرحمة بين البشر، والله رب الجميع هو الذي أذن في هذا وأمر به.وهكذا فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما وصلوا إلى الأندلس إلا بعدما فتحوا شمال إفريقيا، ما وصلوا إلى جبال الألب في فرنسا حتى فتحوا أسبانيا.. وهكذا، قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123].

التشابه في التدرج بين تشريع الجهاد وتحريم الخمر

وشأن الجهاد كشأن تحريم الخمر، فالخمر ما حرمت في يوم واحد، أو في آية واحدة، بل في فترات، وأول ما نزل فيها: أننا إذا شربناها لا نصلي: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، فمن كان سكران لا يحل له أن يدخل في الصلاة، حتى يزول سكره ويتوضأ ويصلي. وهنا حدثت التساؤلات: لماذا -إذاً- نشرب الخمر؟ فنزلت: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، فأجاب الله تعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، واستمرت الحالة على هذا فترة من الزمن، فكان عمر يرفع صوته: يا رب! بين لنا في الخمر بياناً شافياً، يا ألله! بين لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت آخر آية بشأن الخمر في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة:90] إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] فقال عمر : انتهينا يا ربنا. فأهريقت في أزقة المدينة حتى جرت في الأرض. فكذلك القتال، كانوا يتمنون ويطلبون الإذن من الرسول فقال لهم: اصبروا، أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما قويت شوكتهم وأصبحوا أهلاً نزلت: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج:39] نزلت هذه الآية أن: قاتلوا من يقاتلكم، ثم في الآية قبل الختامية أعطوا المشركين عهداً لأربعة أشهر: إما أن تسلموا أو تخرجوا من الجزيرة؛ لأن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قربت، ولم يصلح أن يموت الرسول وفي الجزيرة من يعبد غير الله، لتكون قبة الإسلام وبيضته، وبعدها نزلت آية: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ [التوبة:123] فتحمل مسئوليتها أبو بكر الصديق، فبعث بجيش أسامة إلى الأردن والشام، وعمر بعث بجيشه إلى العراق وفارس.. وهكذا، وعثمان بعث بجيشه إلى شمال إفريقيا، وأخذ الإسلام ينتشر وأصبحت حدودنا تلي نهر السند، ثم توقفنا بكيد أعدائنا ومكرهم، لكن في يوم ما لو عاد لنا سلطاننا وقدرتنا وقتالنا فسنطبق أمر الله عز وجل، نبدأ من جديد بأسبانيا لأنها في حدود المغرب، نبدأ بروسيا لأنها في حدود يوغسلافيا.. وهكذا.

معية الله تعالى بالنصر للمتقين الآخذين بالأسباب

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123] بالسلاح والعتاد والقوة، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123] ومعنى هذا: اتقوا الله في كل أوامره ونواهيه، فالتفريط في السلاح والعتاد أيضاً معصية، صاحبه ما ينتصر، الخلاف والفرقة هي آيات الهزيمة، الإعلان عن معاصي الله والمجاهرة بها أهلها لا ينتصرون؛ فالله تعالى ما قال: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله معكم، ما قال هذا، فلو قال هذا فحينئذ سيكونون مخدوعين، سيقولون: الله معنا! إذاً: غنوا واشربوا الخمر وغداً قاتلوا، فالله معكم! ولكن قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123] الذين يتقون غضب الله بترك معاصيه ومعاصي رسوله، أما أن نقاتل ونحن مرتكبو الجرائم والموبقات فلن ينصرنا، ومن أيسر ما يكون هنا أننا إذا اختلفنا انهزمنا، فالخلاف حرام بيننا، وإذا ما أعددنا العدة والسلاح فلن ننتصر، والله يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، ونحن نقول: لا، ما هناك حاجة، فالله معنا!فلو كانت الآية: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله معكم؛ لغنى المؤمنون، ولما أصبح أحدهم يبالي بالمعصية، فالنصر حتم لأن الله معنا، لكنه قال تعالى: (مع المتقين)، إن اتقيتم أوامرنا فنحن معكم، وإن عصيتم تركناكم لأنفسكم.

وجوب قتال الكفار بمراحله وخطواته

فالهداية الأولى: [ وجوب قتال من يقاتل المسلمين، والكف عمن يكف عن قتالهم، وهذا قبل نسخ هذه الآية]، أما قلنا: إن الخطة هي: أن الذين يلوننا في الشمال في الجنوب في الشرق في الغرب نعسكر حقيقة أمامهم، ثم نراسلهم، وهم مخيرون بين الدخول في الإسلام ليكملوا ويطهروا ويسعدوا، ولا شيء ولا درهم يؤخذ منهم، بل نحمل إليهم المال إن كانوا فقراء، فإن رفضوا فليأذنوا لنا أن ندخل ديارهم لتعليم الناس وهدايتهم، وأن نطبق بينهم شرع الله لإصلاحهم وإكمالهم، ويعطونا ما يسمى بالجزية، يعني: نقد لا قيمة له، وإنما هو إعلان عن أنهم دخلوا في ولاية المسلمين وحمايتهم، فإن رفضوا فلم يبق حينئذ إلا أن نقاتلهم حتى يخضعوا، ومن نقاتل؟ نقاتل الجيوش والحكومة، فهل يبقى الشعب المسكين محروماً من هداية الله؟ فإذا هزمنا الجيوش دخلنا ونشرنا الرحمة والخير والهدى بينهم.

حرمة الاعتداء في القتال

[ ثانياً: حرمة الاعتداء في القتال ]، ويكون الاعتداء في القتال مثلاً بالإحراق بالنار، يكون الاعتداء بقتل الأطفال، كيف بطفل يقتل، أو يضرب، أو يؤذى؟! يكون الاعتداء بقتل النساء، النساء حسب سنة الله تعالى لا يبرزن للقتال، وإن حدثت حادثة نادرة فلا قيمة لها، النساء لا يقاتلن أبداً.والآن بعض حكوماتنا المتقدمة جيشت النساء! وهذه أضحوكة، رأيت في المجلة مجاهدات، والشاهد عندنا أن هذا خبط وضلال وتفاهة في العقول، نعرض عن الإسلام ولا نطبق قواعده ولا شرائعه، ونجيش النساء ونجعل الحارسات والمجاهدات، هل انعدم الرجال؟قال: [ حرمة الاعتداء في القتال بقتل الأطفال والشيوخ والنساء إلا أن يقاتلن ] فشيء آخر، فمن أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].

حرمة القتال في الحرم وبيان حكم قتل اللائذ به

[ ثالثاً: حرمة القتال عند المسجد الحرام، أي: في مكة والحرم، إلا أن يبدأ العدو بالقتال فيه ].لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم باثني عشر ألفاً هل دخلوا ليقتلوا المشركين؟ كلا أبداً، من قاتلهم قتلوه، ومن أسلم وانقاد لم يقتل، ومع هذا أعلن الرسول عن حرمتها من يوم أن خلق الله السماوات والأرض، وأنها حرام إلى يوم القيامة، ولم تحل إلا ساعة من نهار، أحلها الله لرسوله، ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة، لكن لو أن أشخاصاً هربوا إلى مكة وهم مجرمون فما الحكم؟ الجواب: الأولى أننا نلقي القبض عليهم ونخرجهم خارج الحرم، ونعدمهم إذا كانوا قد قتلوا، ولا نقتلهم في الحرم، هم قتلوا إخواننا خارج مكة في جدة في الطائف وهربوا إلى الحرم، فهل نقتلهم في الحرم؟ الذي عليه الجمهور أن يخرجوا إلى خارج الحرم ويقام عليهم حد القتل خارج الحرم، امتثالاً لقول الله تعالى: وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:191]، لكن لو هاجموا ودخلوا برجالهم إلى مكة فماذا نصنع؟ نقاتلهم، ما دام أنهم قد قاتلونا فيه فلا بد أن نقاتلهم.

محو الإسلام والتوبة ما قبلهما من الذنوب

[ رابعاً: الإسلام يجب ما قبله ]، ما معنى: يجب؟ يقطع، الجب: القطع، ما قبل إسلام المرء يترك كله ولو قتل ألف مقتول وأخذ مليار دولار وفعل ما فعل، إذا أسلم جاء في عهد جديد والأول كله معفو عنه، لا يطالب به ولا يؤاخذ به أبداً، الإسلام يجب ما قبله، والتوبة أيضاً تجب ما قبلها، كان يشرب خمراً، كان يتعاطى ربا، كان عاقاً لوالديه، كان خائناً لجيرانه، ثم تاب توبة نصوحاً، فما يبقى مطالباً بشيء، اللهم إلا الحقوق الخاصة بالأفراد، فالمال يرده إلى أصحابه. فالتوبة أيضاً تجب ما قبلها، وهي التوبة النصوح التي صاحبها لا يعود إلى الذنب ولو صلب وقتل وأحرق، والإسلام يجب -أي: يقطع- ما قبله، ما الدليل على هذا؟ هو قوله تعالى: فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:192] عن الشرك والكفر وقتالكم وأذيتكم وإخراجكم من دياركم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:192]، فإن انتهوا وتابوا فالله عز وجل يغفر لهم ويرحمهم، لماذا؟ لأنه تعالى غفور رحيم.فالإسلام يجب ما قبله، أخذنا ذلك من قوله تعالى: فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:192] عن قتالكم وحربكم وعن الشرك والكفر والفسق والفجور؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:192] فسيغفر لهم ويرحمهم؛ لأنه هذا وصفه: الغفور الرحيم.

حكم الجهاد وبيان حالات تعينه

[ خامساً: وجوب الجهاد ] أي: قتال الكفار من أجل أن يعبد الله وحده، هذا القتال واجب، [ وهو فرض كفاية ]، وفرض الكفاية يقابل فرض العين، فرض العين هو ما تعين على كل واحد من أهل الجهاد ذكر ليس بأعرج ولا مريض ولا أعمى، وليس بشيخ هرم، هذا هو الذي يتعين عليه القتال، أما النساء والأطفال والمرضى والعميان والعرجان فلا، فالجهاد فرض كفاية إذا قام به بعض المؤمنين وأدوا الواجب وانتصروا أو دفعوا عن المسلمين الخطر فالآخرون لا يأثمون أبداً، نعم يحرمون الأجر وما في ذلك شك، ما داموا جالسين ولا يقاتلون فكيف يثابون؟ كل ما في الأمر أنهم لا يأثمون، ومن أراد الثواب فليخرج، إلا إذا قال إمام المسلمين: لا تخرجوا، فحينئذ أطاعوا إمام المسلمين فأطاعوا الله، فهم مأجورون لأن قلوبهم مع الجهاد، كالذين رجعوا لضعفهم وعجزهم وقلوبهم تتحرق. إذاً: [ وجوب الجهاد، وهو فرض كفاية ] إذا قام به جيوش المسلمين أو مقاتلوهم سقط الواجب عن الباقين، فإن عجز الجيش ولم يقدر على الفتح أو الدفع فحينئذ تعين على المؤمنين أن يكملوا ذلك النقص ويسقط الواجب حينئذ، ولهذا يقول أهل الفقه: يتعين الجهاد ويكون فرض عين في ثلاثة مواطن:الأول: أن يداهم العدو مدينة من مدننا في حدوده، ميناء من موانئنا، فأهل المدينة أو المنطقة يجب عليهم أن يقاتلوا هذا العدو نساء ورجالاً حتى يردوه من حيث أتى، ويواصلوا قتالهم حتى يصلهم المدد، وفي الزمان الأول كان المدد يحتاج إلى عشرة أيام، لأنهم يسيرون ببغال وخيول وجمال، والآن في خمس ساعات، فأهل المنطقة التي هاجمها العدو بالليل أو بالنهار يجب أن يقاتلوا ولا يسقط الفرض عن أحدهم إلا عن عاجز، حتى يردوا العدو ويقهروه، أو يصل إليهم إمدادات المسلمين وحينئذ يسقط وما يصبح فرض عين، هذا موطن.الموطن الثاني: أن يعين الإمام المجاهدين، يقول: أبناء الخامسة والعشرين إلى الثلاثين كلهم في التعبئة، أو يقول: أصحاب الواحد والعشرين من أعمارهم إلى الثلاثين الكل يدخلون ويلتحقون بالجهاد، فلا يصح لواحد من هؤلاء أن يتأخر.وموطن آخر وهو ما يعرف بالتعبئة العامة أو النفير، إذا رأى إمام المسلمين أن هذا العدو ما يكفي له عدد فالأمة كلها تدخل المعركة، كما حدث في غزوة تبوك ونزل: إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ [التوبة:39]، فلم يبق مؤمن إلا مريض أو من اعتذر بعذر باطل، وما تخلف إلا ثلاثة نفر بدون عذر، وحصل الذي حصل، وتاب الله تعالى عليهم.

حكم جهاد النفس

ذاك هو التعبئة العامة، وما عدا هذا فالجهاد فرض كفاية، إلا أن جهاد النفس -وهو أشق- فرض عين، لا يسقط عن مؤمن ولا مؤمنة، جاهد نفسك حتى لا تعبد إلا ربك، أي: لا تعبد هواك ولا دنياك ولا شياطينك، بل اعبد الله وحده، ومعنى هذا أن تحملها على النهوض بالتكاليف والواجبات بلا تردد، وتحملها على الابتعاد عن معاصي الله، وحاربها ليلاً ونهاراً، ما هو بعام أو عشرة أعوام، بل طول عمرك، فلهذا يقال: الجهاد الأكبر هو جهاد النفس، والجهاد الأصغر ضمنه، وورد في هذا حديث ضعيف لكن معناه صحيح، لما عادوا من غزوة قال لهم: ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ).وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] هذا يتناول أولاً جهاد النفس، يجاهد نفسه في ذات الله، أتدري لم نجاهد الكفار؟ لأجل أن يعبدوا الله أولاً، من أجل أن يعبدوا الله وحده ويدخلوا في الرحمة.إذاً: وجهادنا لأنفسنا لأجل ماذا؟ من أجل أن نعبد الله أولاً، وأن ندخل في رحمته، ولهذا فجهاد النفس ذكره الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري فقال: جهاد النفس هو أن تحملها وهي كارهة على أن تتعلم ما يُعبد به الله، وتعرف كيف تعبده. فتعلم العلم الضروري، تتعلم كيف تتوضأ، وتغتسل، وتتيمم، وتصلي،و تصوم، وتزكي، وتحسن.. وسائر هذه الضروريات، تحملها على أن تتعلمها وهي كارهة قطعاً، فهي ما تريد التعب ولا السهر، ثم تحملها على أن تعمل بكل ما علمته، ولا تتخلى أبداً عن فريضة عرفتها أو واجب علمته ولم تعمله، وهذا يحتاج إلى إكراه لها وضغط عليها، حتى تعمل بكل ما تعلمته، ثم تحملها على أن تُعلِّم ذلك، فهذا هو الجهاد الأكبر. نحن نغزو الكفار من أجل أن نعلمهم، وهذه المرتبة الثانية، إذ نحن أولاً نعبد الله ونستقيم على منهجه، فإذا كملنا وطبنا وطهرنا ننقل رحمة الله إلى غيرنا، هذا الجهاد هو جهاد النفس.

حكم المعاهدات مع الدول الكافرة في حالة ضعف المسلمين

أما جهاد الكفار فكما علمتم: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123] بجيوشنا المدربة المسلحة في الحدود، وهي تراسل من حولها وتغزوهم، فإن ضعفنا فلا بأس أن نتخذ معهم معاهدات مؤقتة، فإذا ما استطعنا أن نقاتل فرنسا فإننا نتخذ معها عهداً لأربعين سنة، لثلاث سنوات.. لكذا، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم باليهود في المدينة، لما نزل المدينة عاهد بني قريظة، عاهد بني النضير، عاهد بني قينقاع، ومن أخلف الوعد ومزقه فإنه يستوجب القتال، وما قاتلهم حتى نقضوا، فبنو قينقاع ماذا فعلوا؟ آذوا مؤمنة جاءت إلى حداد تصلح عنده سواراً أو خلخالاً أو كذا، وجلست تنتظر بنقابها، فجاء يهودي وهي جالسة يتهكم بها وأخذ ثوبها من ورائها ووضعه على رأسها لتبدو عورتها، وهم يضحكون، فصاحت فجاء مسلم فقتله، فاجمعوا على المسلم فقتلوه، وحينئذ أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتالهم؛ لأنهم نقضوا العهد بأذية المؤمنة، وشفع لهم ابن أبي وأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المدينة بدون قتال، ولكن خرجوا ولم يبق منهم أحد.وبنو النضير تآمروا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، كان بينه وبينهم معاهدة على أنهم يدفعون الدية باشتراك وتعاون، وكانت الدية كثيرة، فذهب الرسول مع أبي بكر وعمر إلى بني النضير يطالب بموجب الاتفاقية أن يساهموا في هذه الدية التي تحملها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مرحباً، وأنزلوه في ظل جدار وفرشوا له الفراش، ثم أخذوا يفكرون كيف يقتلونه، فهداهم الشيطان إلى أن يطلقوا عليه رحى من السطح، واتفقوا على هذا، وأوحي إليه صلى الله عليه وسلم بالمؤامرة بالهاتف الإلهي أن: قم، فجمع عليه ثيابه وقام ومشى وراءه أصحابه، ودخل المدينة وأمر بإعداد العدة لجهاد بني النضير، فخرج مع رجاله وعلى رأسهم الراشدون وطوقوا البلاد.ونزل فيهم قرآن: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]هؤلاء بنو النضير، فلما هاجمهم الأصحاب قطعوا نخلهم، كما قال تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:5]، وإن كان بعض الصحابة تألم لقطع النخل أو إحراقه؛ لأنهم أصروا وأبوا أن ينزلوا، وبعد ذلك أعلنوا عن هزيمتهم وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحملوا أمتعتهم، فأذن لهم، فحملوا حتى الأبواب والأخشاب، وذهبوا ونزلوا بخيبر.وبنو قريظة آخرهم لما جاءت الأحزاب بالمؤامرات وتضامنوا مع أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن ثم أعلن عن قتالهم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-11, 06:01 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (125)
الحلقة (132)



تفسير سورة البقرة (90)

في سياق الأمر من الله عز وجل لنبيه ومن معهم من المؤمنين بقتال المشركين، وجههم سبحانه هنا بأن من قاتلهم في الشهر الحرام فليقاتلوه في الشهر الحرام، ومن قاتلهم في الحرم فليقاتلوه في الحرم، ومن قاتلهم محرماً فليقاتلوه وهم محرمون، وهكذا الحرمات قصاص بينهم ومساواة، ومن اعتدى عليهم فلهم أن يعتدوا عليه بمثل ذلك، ثم أمرهم سبحانه بتقواه والإنفاق في سبيله لمجاهدة أعدائه سبحانه؛ لأن في ذلك نجاتهم، وفي التخلي عنه خسرانهم وهلاكهم.

تفسير قوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، بالإضافة إلى ذلكم الأمل الغالي المنشود لكل العقلاء من المؤمنين والمؤمنات، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).فحالكم كحال المجاهدين والحمد لله، هل يمكن أن نظفر بمثل هذا الخير في غير هذا المجلس؟ لا. وها نحن مع قول ربنا عز وجل: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:194-195].هذه الآية الأولى مع ما قبلها في سياق تشجيع المؤمنين المعتدى عليهم على قتال أعدائهم، وتعليمهم أن من قتلهم في الشهر الحرام فليقاتلوه في الشهر الحرام. ‏

المراد بالشهر الحرام

إذاً: قوله جل ذكره: الشَّهْرُ الْحَرَامُ [البقرة:194] ما المراد بالشهر الحرام؟ الأشهر الحرم أربعة: ثلاثة سرد، أي: متوالية واحداً بعد واحد، وآخرها فرد ليس قبله ولا بعده شهر حرام، فالثلاثة السرد هي: القعدة، والحجة، ومحرم، ثلاثة أشهر سرد واحداً بعد واحد، والفرد هو: رجب، بين شعبان وجمادى الآخرة، ويقال فيه: رجب الأصم؛ لأنك لا تسمع فيه صوت السلاح وقعقعته، هدنة فرضها الله عز وجل على العرب في الجاهلية، إذا شاهدوا هلال رجب لم تسمع صوت السلاح أبداً، ويسود الجزيرة أمن لن تستطيع الأمم المتحدة أن تفرضه لو جلبت كل قواتها، ولكن تدبير الله.ويقال فيه: رجب الأصب؛ لأن الخير يصب فيه صباً، هذا الشهر صيامه مستحب، ولكن لا يكمل كرمضان، لا بد من الفرق بين الواجب والمستحب، فليصم ما شاء أن يصوم، ثم يفطر في أوله أو آخره.

المراد بكون الشهر الحرام بالشهر الحرام وكون الحرمات قصاصاً

فقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ [البقرة:194] أي: من قاتلكم في الشهر الحرام فقاتلوه في الشهر الحرام، أما أن يستحل هو القتال بالشهر الحرام ويقاتلكم وأنتم لا تستحلونه وتمدون أعناقكم لهم فسيدكم ما يرضى لكم بهذا. وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [البقرة:194] الحرمات: جمع حرمة، كظلمات وظلمة، والحرمة: ما يحرم تناوله أو أخذه أو إعطاؤه، الحرمات منها الشهر الحرام، منها البلد الحرام، منها الإحرام، فمن قاتلنا في البلد الحرام نقاتله، من قاتلنا في الشهر الحرم نقاتله في الشهر الحرم، من قاتلنا وهو محرم نقاتله ونحن كذلك محرمون، هذا تدبير الله لأوليائه.

معنى قوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)

فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، هنا تأمل يا عبد الله وتأملي يا أمة الله، لا تفهمن أنك أنت مأمور بأن تعتدي على من اعتدى عليك، هذا لا يصح أبداً؛ لأن الفوضى انتهت وأصبحت الدولة الإسلامية قائمة بإمام المسلمين، والشريعة والقانون لا يحل لأحد أن يعتدي عليه آخر فيعتدي هو عليه، بل يجب أن يحمل أمره إلى الحاكم وهو الذي يقتص، وإلا فمعناه الفوضى على منتهاها، هذا بالنسبة إلى الفرد، أما بالنسبة إلى الأمة فنعم، والله يخاطب رسوله والمؤمنين: يا أمة الإسلام! الحرمات قصاص، من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى.أما الفرد المسلم فلأن يعفو ويصفح أفضل بكثير من أن ينقل أمره إلى الحكومة ويطالب بحقه فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، فإن كان ولا بد فليرفع أمره إلى المسئولين: كقضاة، أمراء، حكام، وهم الذين يقتصون له من عدوه. فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194] أيتها الأمة الإسلامية، دولة من الدول أغارت واعتدت على شعب أو على قبيلة، أذن الله لنا في ذلك، أما الأفراد المؤمنون فإياكم أن تفهموا أن كل من ضُرب يضرب، وكل من أُخذ ماله يأخذ، فإنه إن كان هذا فلا حكم ولا حكومة ولا نظام إذاً، فأين الإسلام؟

حكم أخذ المرء مثل ماله من مال ظالمه

وهنا مسألة دقيقة من استطاع أن يفهمها فلا بأس، فإن لم تسطع فهمها فلا تحكها ولا تعمل بها، وهي أن محمد بن إدريس الشافعي الإمام من أئمة أهل السنة والجماعة، هذا القرشي المطلبي يرى أن المؤمن إذا سلبه أحد إخوانه مالاً، وتأكد أن فلاناً أخذ نعجته أو أخذ ثمرته، أو أخذ ثوبه، وهو متأكد أنه لو رفع أمره إلى الحاكم لا يستطيع الحاكم أن يعطيه حقه؛ ما هناك بينة ولا حجة، يقول الشافعي باجتهاد منه فقط: إذا كان في إمكانك يا عبد الله المسلم أن تأخذ من صاحبك بقدر ما أخذ، لا تزد ولا ربع تمرة، إذا كنت تقدر على أن تأخذ ممن أخذ منك بقدر ما أخذ أو أقل فلك ذلك، وإياك أن تزيد بأدنى شيء، فإن كنت قادراً على هذا الموقف وتستطيع ألا يعلم بك فتتهم بالسرقة ويقام عليك الحد بقطع يدك، فالموقف صعب، قد يتأتى لواحد ولا يتأتى لألف، لكن في بلاد ما فيها حكم عادل، فلان أنا موقن أنه أخذ مني نعجة، وأنا في حاجة، فإن كنت أعلم أنني سآخذ نعجة دون نعجته في السمن والجسم ولا يطلع علي أحد فلا بأس؛ لأني ما ظلمت، استرددت حقي فقط، ولكن من الخير أن تترك هذا، فوض أمرك إلى الله واعف واصفح والله يعوضك.فقوله: فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194] هذا خطاب لرسول الله والمسلمين، يخاطب الأمة والدولة وليس الأفراد، وهذا أيضاً منسوخ بآية الجهاد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5] اعتدوا أو لم يعتدوا، انتهى أمر وجودهم في دار الإسلام.

معنى قوله تعالى: (واتقوا الله)

وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:194] هذا أمر إلهي لعباده المؤمنين بأن يتقوه، أي: يتقوا غضبه وسخطه وعذابه؛ لأنه إذا غضب، إذا سخط، إذا انتقم فهو شديد العقاب.وأنتم أيها المؤمنون تعرفون قدرة الله، يحول النعمة إلى نقمة، والسعادة إلى شقاء، والصحة إلى مرض، والحياة إلى موت، أمم يقلب عليهم الأرض، إذاً: فاتقوا الله، أي: لا تخرجوا عن طاعته، لا تفسقوا عن طاعته، امتثلوا أمره بفعله وامتثلوا نهيه باجتنابه.أوامر الله ونواهيه لا تتصور فقط في الصلاة والزكاة، هي في كل ما شرع لنا أن نأخذ به ونعمل به، فالجهاد فريضة الله وقد عرفنا حكمه وبيناه، هذا الجهاد لا بد له من عدة، فإن خرجنا نقاتل عدونا بدون عدة وبدون عدد يكافئه ويقاتله فما اتقينا الله، إذاً: فقد يصيبنا بالنكبة ويسلط علينا العدو بالهزيمة؛ لأننا ما اتقيناه، فلو اتقيناه لعملنا بقوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]، فإذا كان عدونا يقاتلنا بالمدافع ونخرج بالعصي ونقول: عصاي أفضل من مدفع بريطانيا أو إسرائيل؛ فهذا موقف غير صحيح. وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:194] أي: خافوا نقمته، خافوا سننه أن تنعكس عليكم، إذاً: فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه، أطيعوا رسوله وأطيعوا قائدكم في المعركة، لا تفترقوا ولا تختلفوا عليه.

معنى قوله تعالى: (واعلموا أن الله مع المتقين)

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194] أمرهم أولاً بأن يتقوه، ثم أعلمهم أنه مع المتقين، ما قال: واتقوا الله واعلموا أن الله معكم، فمن يضمن أنهم اتقوا الله حتى يكون معهم؟ فلهذا قال: واعلموا أن الله مع المتقين له، الذين يعملون بسننه الكونية، ولا يفرطون أبداً فيما سن وقنن من قوانين الحياة، هؤلاء الله معهم بالنصر والتأييد، وما إلى ذلك من أنواع حب الله عز وجل للمؤمنين، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194].

أهمية العلم في تحصيل التقوى

وهنا لطيفة: لو قيل لنا: من هم المتقون؟ نقول: بنو هاشم، الأنصار؟ المتقون: الذين يفعلون ما أمر الله به ورسوله وينتهون عما نهى الله عنه ورسوله.ثم ما الذي أمر الله به ورسوله، وما الذي نهى الله عنه ورسوله؟ هنا الوقفة الطويلة: فـ(95%) من المسلمين والمسلمات ما يعرفون ما أمر الله به ولا ما نهى عنه، فكيف يتقونه إذاً؟ الذي ما يعرف ما أمر الله به كيف يتقيه فيه ويطيعه؟ لا يعرف ما نهى الله عنه فكيف يتقيه بتركه؟ هنا نبدأ بأول خطوة: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] بم بدأ؟ اعلم أولاً، اعرف الأوامر والنواهي بالتفصيل في المعتقد والقول والعمل والسلوك معرفة يقينية، ثم افعل ما أمر الله به واترك ما نهى الله عنه، وبدون معرفة لن يستطيع أحد أن يكون تقياً، يغش نفسه، من يريد أن يكون من المتقين وهو لا يعرف بم يتقى الله وما سأل كيف يتحقق له ذلك؟ومن هنا وجب طلب العلم قبل أية حركة، قبل أن تتوضأ وتصلي يجب أن تعرف كيف تتوضأ، وكيف تصلي، ومعنى هذا: أن على المسلمين أن يتعلموا.

كيفية تحصيل العلم الموصل إلى التقوى

وكيف يتعلمون يا شيخ وهم مشغولون، يطلبون العيش من الصبح إلى الليل فكيف يتعلمون؟ أما تجدون لنا حلاً أيها المؤمنون؟ كيف نتعلم ونحن في هموم الحياة ومتطلباتها؟ الجواب معروف مللناه بالتكرار: اعملوا أيها العمال في المزارع، في المصانع، في الدكاكين، حتى العمال في السماء صاعدين هابطين بالمظلات، وإذا دقت الساعة السادسة مساء أوقفوا دولاب العمل، تطهروا، البسوا ثيابكم الطاهرة النظيفة، ألقوا بثياب العمل، واحملوا نساءكم وأطفالكم إلى المسجد الجامع، وليجلس النساء وراء الستارة والأطفال دونهن، والفحول أمامهن، ويجلس لهم عالم رباني يعرف عن الله ورسوله، فليلة آية وليلة حديث، ليلة آية يتعلمون وليلة حديثاً طول الحياة، هذا نظام حياتنا؛ لأننا نتهيأ لنخترق السبع الطباق وننزل بالملكوت الأعلى، فلا يشق علينا أبداً أن ننقطع إلى الله ساعة ساعتين في بيته، ويتم لنا -والله- العلم الكامل، ما يبقى في القرية ولا في الحي رجل ولا امرأة لا يعرف ما أحل الله ولا ما حرم، ولا يعرف ما أوجب الله ولا ما حرم، بالسماع فقط. قد تقول: يا شيخ! لا يمكن أن نتعلم بالسماع هذا؟فأقول: وأصحاب نبيك صلى الله عليه وسلم هل تعلموا بالقراطيس والأقلام؟ جلهم ما كان يقرأ ولا يكتب، هذا العلم ما يتطلب أبداً قراءة ولا كتابة، بل اعلم واعمل فقط، تعلمت مسألة فطبقها الليلة، فيرسخ العلم في جسمك كاملاً وفي كل حواسك، وإذا قلنا: ما نستطيع هذا، وأردنا أن ننفس عن أنفسنا إذا تركنا العمل وقلنا: نمشي إلى المقاهي ونريح أنفسنا كاليهود والنصارى؛ فإذاً: لا بأس، لكن لا ترفع رأسك إلى السماء ولا تطمع أن تدخل الملكوت الأعلى، كن كالهابطين إلى الدركات السفلى.

حكم الله تعالى بفلاح مزكي نفسه وهلاك مدسيها

قد تقول: يا شيخ! هذه مبالغة! فأقول: هل بلغكم حكم الله الصادر علينا؟ ما نص هذا الحكم؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] زكاها أي: نفسه، بم يزكيها؟ بالبقلاوة، بالأرز واللحم، بالرقص؟ بم يزكيها؟ بما شرع من هذه العبادات التي تؤدى على الوجه الذي شرعت لتنتج الزكاة والطهارة للنفس، وفي نفس الوقت يتخلى ويبعد عن كل ما من شأنه أن يدسي نفسه كالكذب والنظرة المحرمة وسائر المعاصي إلى الكفر والشرك.وجهاد متواصل حتى الموت، ما هو بالأمر الهين أن تغمض عينيك وأنت في الملكوت الأعلى مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.من أين لنا هذا؟ ولكن ضاعت قرون عديدة لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وهم كالبهائم، والآن هل أفقنا؟ ما زلنا، فثلاثة أرباع المسلمين ما يعرفون الله ولا مراده ولا محبته.فلم لا تبلغون هذا؟ حتى لا نلوم الغائبين: لم أنتم لا تبلغون؟ هذا الشيخ يبكي كل ليلة فأدى الواجب، وأنتم لم كل صاحب حي لا يقول لأهل الحي: تعالوا نصلي المغرب والعشاء في مسجدنا، نأتي ببناتنا ونسائنا ونتعلم كتاب الله وسنة رسول الله، حتى نخرج من ظلمة الجهل حتى نزكي أنفسنا، وأهل القرية كذلك. إن كلامي هذا كان المفروض أن رؤساء البلديات يطبقونه، وشيخ القرية يقول: يا معشر المؤمنين! أنتم ماذا تصنعون بعد نهاية العمل؟ تعالوا إلى بيت الرب فكلنا نتعلم الكتاب والحكمة، لنزكي أنفسنا، لنهذب أخلاقنا، لنتأدب بآداب نبينا، لنكمل، وإذا صلينا العشاء شبعنا، ما نبغي أغاني ولا لهواً ولا باطلاً، حتى الأكل، فوالله! لتفاحة تكفيك ليوم، وتنامون مع الملائكة.فإن قالوا: لا. قلنا: غنوا، زمروا، واعبثوا لتناموا مع الشياطين، هذا واقعنا المر رضينا أم أبينا، حتى نتوب إلى الله توبة الصدق ونعود إليه بحق.

أركان التقوى وحقيقة المتقين

قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194] من هم المتقون؟ الذين عرفوا فيم يتقون الله من الفعل والترك، وفعلوا المأمور وتجنبوا المنهي، أولئك هم المتقون، أولئك الله معهم لن يخذلهم ولن يسلط عليهم عدوهم، ولن يكربهم ولن يحزنهم أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، للبيان السابق الذي أعلنه تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، اللهم اجعلنا منهم، فمن هم هؤلاء؟الجواب: المؤمنون المتقون هم أولياء الله، كأن سائلاً يقول: يا رب من هم أولياؤك؟ قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].

تفسير قوله تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ...)

وقوله تعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] الإنفاق في سبيل الله إنفاق الطاقات، المال، العقل، البدن.وسبيل الله الإسلام الموصل إلى جوار الله في الملكوت الأعلى، سبيل الله أن يُعبد الله وحده، وتعبد البشرية كلها ربها حتى تصل إلى جواره في الملكوت الأعلى. وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] التهلكة والهلكة والهلاك بمعنى واحد. ‏

مناسبة نزول الآية الكريمة

هنا يروى أن أبا أيوب الأنصاري مضيف نبيكم صلى الله عليه وسلم أول ضيافة في المدينة قال: لما رأينا انتصار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قلنا: هيا بنا يا أهل المدينة نعود إلى حقولنا ومزارعنا ننميها ونصلح من حالها، فقد أوقفنا العمل فيها لسنوات أربع أو خمس والآن الإسلام ظهر وانتصر، هيا نعود إلى أعمالنا الدنيوية، ما إن فاهوا بها ونطقوا في مجتمع خاص حتى فوجئوا بهذه الآية: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] لأن إيقاف الجهاد وإيقاف الاستعداد يجعل العدو ينظر إلينا على أننا ضعفة لا قدرة لنا فيكر علينا ويحطمنا.فلهذا رحم الله الشيخ رشيد رضا في مناره، قال: هذا يسمى بالسلم المسلح، على الأمة أن تعد العدة ما أمكنها، وإن كانت لا تنوي القتال، وليس هناك من يخامره فكر أن يقاتلها، معاهدات وأمن كامل كما هي أحوالنا، في هذا الوقت بالذات يجب أن تكون عدتنا أعظم عدة، أنواع السلاح على اختلافه، وأنواع رجالها، وإن كان ما لنا أمل في أن نقاتل، إذا شاهد العدو تلك القوة لا يفكر في الإغارة علينا ولا في قتالنا، أما إذا ميز وقدر وعرف كميات سلاحنا وما عندنا إذاً يدفعه الشيطان إلى أن يغير علينا، ولهذا قال لنا تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [الأنفال:60] يعني: في حدود قدرتكم.ومن القدرة أنه إذا قيل: اسمعوا أيها المواطنون: من الآن لا نأكل أكلة الصباح أبداً، نكتفي بالغداء والعشاء، ونفقة الصباح كلها في ميزان الجهاد، فلا تصبح دولة أخرى أقوى منا، يعلن الإمام: اسمعوا: نكتفي بأكلة واحدة في الأربع وعشرين ساعة، وثمن تلك الأكلة في ميزانية الجهاد وإعداد العدة، والله! لكما تسمعون، وإلا فكيف يقول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]؟ أي: ابذلوا ما تستطيعونه، وكوننا نحرم أكلة في اليوم مثلاً لأن نصبح أهل عتاد حربي ما هو بشيء أبداً في سبيل إبقائنا أحياء سعداء أطهاراً أتقياء، حتى لا يسلط علينا خبيث نجس كافر مشرك يذلنا ويهيننا ويفعل بنا العجب، وهل فعل أو لم يفعل؟ استعمرتنا بريطانيا، إيطاليا، أسبانيا، بلجيكا، هولندا.. العالم الإسلامي بكامله وضع تحت أقدام النصارى واليهود، واليهود حثالة البشر أذلونا، أهانونا، فعلوا بنا العجب، فلم؟ والله! إني لعلى علم، لقد أعرضنا عن الله فأعرض عنا ووكلنا إلى أنفسنا.وقد عرفنا قول أبي أيوب الأنصاري لما ظهر الإسلام وانتصر النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قلنا لبعضنا: نحن الأنصار نعود إلى حدائقنا وأعمالنا وبساتيننا، فلم يرض الله تعالى ذلك لهم، فأنزل قوله تعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195].

معنى قوله تعالى: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)

وقوله تعالى: وَأَحْسِنُوا [البقرة:195] من هم المخاطبون؟ المؤمنون، أحسنوا لا تسيئوا، الإحسان بمعناه الحقيقي هو ثلث الإسلام، الدين الإسلامي السبيل الموصل إلى الله يتكون من ثلاث خطوات: الإيمان، الإسلام، الإحسان.والخطوة الأخيرة -الإحسان- أعظم من الإيمان والإسلام، لم؟ إذا لم يحسن إسلامه ما انتفع به، فالإحسان معناه العام: الإحسان إلى الفقراء المساكين المحاويج، إلى الأقارب، إلى إخوانك المؤمنين بالابتسامة والسلام عليهم، والنصرة.. وما إلى ذلك، كله إحسان، لكن الإحسان الخاص هو أن تعبد الله عبادة من شأنها أن تنتج لك القوة والكمال والطهارة والنظافة والسعادة في الدنيا والآخرة، بمعنى: أن تطبق شرع الله تطبيقاً تاماً فينتج هذه الكمالات.ولا يتم لك ذلك إلا إذا كنت تعيش مع الله، لا تفارق الله أبداً، أنت مع الله، إذا أردت أن تقول كلمة فاستئذنه هل تقولها أو لا، فإن كانت حلالاً نافعاً أذن لك، وإن كانت حراماً ضالة قال: لا تقل، لا تنظر نظرة إلا بإذنه، لا تأكل لقمة إلا بإذنه، لا تمش خطوة إلا بإذنه، لا تنم ساعة إلا بإذنه، أنت مع الله، فالذين يعيشون مع الله والله معهم هؤلاء لن يضرهم شيء ما داموا مع الله، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ( أن تعبد الله كأنك تراه )، فإن ضعفت عن هذه المرتبة السامية ونزلت فاعبده وأنت تعلم أنه يراك، أما أن تعبده ولا أنت تراه ولا تعتقد أنه يراك فوالله لن تحسن العبادة، حتى ولو كان الوضوء فلن تتقنه.لا يمكنك أن تحسن العبادة حتى تنتج الطاقة الحقيقية من النور إلا إذا كنت تراقب الله في ذلك، مع مراقبة الله لا تستطيع أن تعبث أو تزيد أو تنقص أبداً، تؤديها كما هي، فإذا أديتها كما هي فإنها تولد النور الذي هو الحسنة. وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، هل الذي أحبه الله يلقي به في أتون القاذورات والأوساخ؟ والله! ما كان، إذا أحبك الله أمنت يا عبد الله؛ لا لشيء إلا على طهر وصفاء وكمال، ومناعة من كل عدو وكل شيطان، والذين يرغبون في حب الله فمن الليلة يحسنون فقط والله سيحبهم، هل تريدون أن يحبنا الله حقاً؟ لنحسن أعمالنا فقط، صلينا ركعتين، صلينا ركعة، ذكرنا، قرأنا، مشينا، جلسنا.. نحسن أعمالنا، ولا يتم ذلك إلا بمراقبة الله كأننا بين يدي الله نستحي أن نزيد أو ننقص.هذا الإحسان يولد النور فتشرق النفس والقلب، ويشع ذلك النور على السمع والبصر والمنطق واللسان، فنصبح كأننا ملائكة أطهار، والله يحب المطهرين، الله لا يحب الخبث أبداً ولا يحب أهله، يحب الطهر، والطهور شطر الإيمان، فمن أراد أن يكون من أحباء الله فماذا يعمل؟ يحسن عمله، كيف يحسن عمله؟ يؤديه كما هو مطلوب، لا يزيد، ولا ينقص، لا يقدم، لا يؤخر، لا يضيع منه شرطاً من شروطه ولا ركناً من أركانه، هذا العمل يولد له الحسنات فتشرق نفسه وتطيب وتطهر، فيصبح بذلك أهلاً لأن يحبه الله؛ لأنه من المطهرين.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

لنستمع إلى شرح الآية في التفسير:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات: الشهر الحرام: الشهر المحرم القتال فيه، والأشهر الحرم أربعة: ثلاثة سرد وواحد فرد، فالثلاثة هي: القعدة، والحجة، ومحرم، والرابع الفرد: رجب.الحرمات: جمع حرمة؛ كالشهر الحرام، والبلد الحرام، والإحرام ] هذه حرمات.[ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194]: المتقون: هم المؤمنون الذين يتقون معاصي الله تعالى ومخالفة سننه في الحياة، وكونه تعالى معهم يسددهم ويعينهم وينصرهم.التهلكة: الهلكة، والهلاك مثلها.الإحسان: اتقان الطاعة وتخليصها من شوائب الشرك، وفعل الخير أيضاً ] كله إحسان.

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيتين: الآية الأولى في سياق ما قبلها تشجع المؤمنين المعتدى عليهم على قتال أعدائهم، وتعلمهم أن من قاتلهم في الشهر الحرام فليقاتلوه في الشهر الحرام، ومن قاتلهم في الحرم فليقاتلوه في الحرم، ومن قاتلهم وهم محرمون فليقاتلوه وهو محرم، وهكذا الحرمات قصاص بينهم ومساواة، ومن اعتدى عليهم فليعتدوا عليه بمثل اعتدائه عليهم، وأمرهم بتقواه عز وجل وأعلمهم أنه معهم ما اتقوه بالتسديد والعون والنصر ]، فهو معهم ما اتقوه، أي: مدة ما هم متقون، بماذا؟ بالتسديد والعون والنصر.[ وأما الآية الثانية فقد أمرهم بإنفاق المال للجهاد لإعداد العدة وتسيير السرايا والمقاتلين، ونهاهم أن يتركوا الإنفاق في سبيل الله الذي هو الجهاد، فإنهم متى تركوا الإنفاق والجهاد كانوا كمن ألقى بيده في الهلاك، وذلك أن العدو المتربص بهم إذا رآهم قعدوا عن الجهاد غزاهم وقاتلهم وانتصر عليهم فهلكوا قطعاً، كما أمرهم بالإحسان في أعمالهم كافة ]، حتى في الطبخ، فالذي ما يحسن طبخ قدر هل يؤكل طعامه؟ الشاي إذا لم تحسن طبخه لا يشرب، فكيف بمعراج السماء الصلاة، إذا لم تحسنها ما تنتج الطاقة ولا تولدها أبداً.[ وإحسان الأعمال: إتقانها وتجويدها، وتنقيتها من الخلل والفساد، وواعدهم إن هم أحسنوا أعمالهم بتأييدهم ونصرهم، فقال تعالى : وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] ومن أحبه الله أكرمه ونصره وما أهانه ولا خذله ]؛ لأن الله لا يهين أحباءه ولا يخذلهم، فما ذلك من شأنه عز وجل.

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيتين:من هداية الآيتين:أولاً: احترام الشهر الحرام وسائر الحرمات ]، فهيا نحترم الشهر الحرام، إذا دخل القعدة تركنا التدخين، دخل الحج فتركنا لعب الكيرم، دخل المحرم فتركنا السهرات، هذه أشهر حرم نحترمها، دخل رجب فما بقي فينا من يعصي الله، هذا شهر الله.[ ثانياً: جواز المقاصة والمجازاة لمن اعتدى بحيث يعامل بما عامل به سواء بسواء ].هذا في حق الحكومات لا في حق الأفراد، فـ( المرء مقتول بما قتل )، والقصاص لا يسقط إلا في شيئين: فجر فاجر بامرأة فماتت، فلا يقتل بالفجور به، وكيف يمكن ذلك؟ أو لاط لائط فقتل، فهل يقتل بطريق اللواط؟ كلا، أما إذا ضرب بعصا فإنه يضرب بعصا، أو سقى السم فإنه يسقى السم، أو قطع الرأس فإنه يقطع رأسه، المرء مقتول بما قتل، فالقصاص: المساواة.ففي الحديث: ( المرء مقتول بما قتل )، فالجارية التي قتلها اليهودي بحجر على رأسها أما قتله الرسول صلى الله عليه وسلم بالحجر أيضاً؟ هذا الحكم الشرعي، قتل برصاص يقتل برصاص، ذبح بسكين يذبح بسكين عندما يقام الحد عليه، إلا من قتل بزنا أو لواط فإنه لا يقتل بذلك، استثنى أهل العلم هذا الذي لا يمكن فيه المقاصة، فيقتل وكفى، فإن زنا حتى ماتت من زنا بها فإنه يقتل بها، أو لاط حتى مات من فعل به فإنه يقتل به، وفي باقي الأشياء المقاصة، كما لو أخذ منك نعجة فإنه تؤخذ منه نعجة، أخذ ألف ريال فيؤخذ منه ألف ريال، قطع يداً فتقطع يده، والذي يقوم بهذا هو الحاكم، أما أفراد الشعب والأمة فلا، ومن عفا وسمح وصفح فذلك أفضل له، وإن طالب بحقه فالقصاص، وقد سبق ما حكيناه عن الشافعي رحمه الله تعالى. [ ثالثاً: رد الاعتداء والنيل من المعتدي الظالم البادئ بالظلم والاعتداء ].هذا للدولة، يفعله إمام المسلمين إذا اعتدت دولة مجاورة، مع أن هذا منسوخ -كما قدمنا- بآية الجهاد، فالآن اعتدوا أو لم يعتدوا فنحن نعسكر أمامهم وندعوهم إلى الله ليدخلوا في رحمة الله، فهذه الآيات نزلت قبل آيات سورة التوبة.[ رابعاً: معية الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى والإحسان ].معية الله: كون الله معهم يؤيدهم وينصرهم ويفتح عليهم ويحبهم، من هم؟ أهل التقوى والإيمان والإحسان، أما المعية العامة فالله عليم بكل خلقه، إذا كانت السموات يطويها بيمينه فأين البعد بيننا وبينه؟ نحن بين يديه حيثما كنا، فقط جاء المدفوعون إلى تحطيم الإسلام والقضاء عليه فجعلوا الحلول مبدأ وقالوا: الله حل في كل شيء، والله منزه أن يحل في هذه الأجسام الغارقة الباطلة الهاوية، هذا الكون يحمله بيديه فكيف يحل فيه؟ وهذا المذهب مذهب شر، وأخزاهم الله وما بقي منهم أحد، فحين نقول: الله معنا بنصره وتأييده فنعم، والله مع الكل أينما كانوا؛ لأنهم بين يديه كالنملة بين يدي إنسان، لا يخفى من أمرنا على الله شيء ولا يبعد عن الله منا شيء.[ فضيلة الإحسان لحب الله تعالى للمحسنين ].الإحسان ذو فضل كبير؛ لأنه يرزقك حب الله، وأي شيء يقربنا من حب الله هو أحب الأشياء إلينا، فالإحسان يقرب من حب الله؛ فالإحسان فضيلة لا تساويها فضيلة، اللهم اجعلنا من المحسنين.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-11, 06:07 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (126)
الحلقة (133)



تفسير سورة البقرة (91)

شرع الله عز وجل لعباده المؤمنين حج بيته الحرام، وجعل ذلك ركناً من أركان الإسلام التي يقوم عليها، فمن استطاع حج بيت الله وتوفر له زاده وراحلته وكفاية أهله وجب عليه الحج ولم يعذر بتركه، والحج يصاحبه أحياناً ما يمنع الحاج من إتمام حجه، لذا شرع الله له أن يشترط عند تلبيته بحج أو عمرة، حتى إذا ما أحصر ومنعه مانع من إتمام نسكه جاز له أن يتحلل في مكانه ويعود إلى بلده ولا شيء عليه.

تفسير قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، ورجاؤنا في الله أن يتحقق لنا ذلك الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع قول ربنا تبارك وتعالى من سورة البقرة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196].معاشر المستمعين والمستمعات! هيا بنا نتدارس هذه الآية.فقول ربنا جل ذكره: وَأَتِمُّوا [البقرة:196] يخاطبنا الله عز وجل والحمد لله، ومن نحن وما نحن حتى يخاطبنا رب السماوات والأرض ورب كل شيء ومليكه؟ فالحمد لله، بم فزنا -يرحمكم الله- بهذا الكمال؟ هل بشرف الآباء.. بالوطن، بم؟ بإيماننا؛ لأن المؤمن حي متهيئ لأن يخاطب ويسمع ويعي ويفعل ويترك، والكافر ميت، فالحمد لله أن أحيانا الله مرتين: أحيانا بأرواحنا وأحيانا بالإيمان، فأصبحنا أهلاً لأن يشرفنا بأمره ونهيه.إذاً: نحن مأمورون بهذا، فبماذا يأمرنا؟ قال تعالى: وَأَتِمُّوا [البقرة:196] أيها المؤمنون الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].

كيفية إتمام النسك لله تعالى

والسؤال: كيف نتمهما لله يا شيخ؟ بين لنا ما الطريق؟ الجواب: أولاً: ألا يخطر ببالنا خاطر يلفتنا إليه ويتركنا بعيدين عن ربنا، بل نتمهما لله وحده لا شريك له، ومن هنا فلا رياء ولا سمعة ولا قصد تجارة ولا كسب ولا فائدة، لا هم لك يا عبد الله إلا أن تحج أو تعتمر. وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فلا يحل لك أن تدخل في حج ثم بعدما تأتي ببعض الفرائض تقول: يكفينا، أو: أنا شعرت بتعب فسأعود إلى أهلي، فإتمامهما من كلمة: لبيك اللهم لبيك إلى طواف الوداع، فلا يحل أن تنقص منهما واجباً ولا ركناً، هذا الإتمام، وأن يكون عملك خالصاً لله، لا تقل: أنا ذاهب إلى الحج وسأشتري بضائع من مكة فأربح فيها ما يشاء الله أن أربح، مع العلم أنك إذا ما نويت ثم وجدت بضائع في مكة أو في منى واشتريت للتجارة فلا حرج؛ لقول الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، لا تشرك التجارة في الحج أو العمرة، وإلا فما أطعت الله تعالى في أمره إياك بقوله: (وأتموا)، فقد نقصتهما وما أتممتهما.خلاصة ما نفهم به هذا ونقوله ونعمل به: أولاً: الإخلاص في هذه العبادة كغيرها، لا ليقال: حج فلان ولا اعتمر فلان، ولا لنشاهد البشرية أو نرى مظاهر الناس، لا يخطر هذا ببال، وإن خطر بباله لفظه وطرده، لا يريد إلا زيارة بيت الله والوقوف بعرفات يوم يباهي الله بعباده المؤمنين.ثم هذه النية -كما قدمنا- لا يخلط فيها عمله التعبدي بعمل دنيوي، لأنه تعالى قال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] فإتمامهما كيف يكون؟أولاً: بالإتيان بكل منهما وافياً كاملاً، لا يسقط ركناً ولا فرضاً ولا واجباً.ثانياً: أن تكون الفريضة لله لا يتمها لغير الله، ومن ذلك: ألا يشرك التجارة فيها فيحمل النقود ويقول: أنا إذا فرغت من الحج أو العمرة سأشتري بضائع وأبيعها، بل ينفي هذا عن نفسه، وإن حصل له ذلك.

معنى قوله تعالى: (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي)

وقوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] الإحصار والحصر معناه: أن عدواً أحصرنا في الطريق وقال: لن تدخلوا مكة، كما فعل المشركون بالمؤمنين في عمرة الحديبية، إذ خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم ومعه ألف وأربعمائة معتمرين يلبون من ذي الحليفة، وعلمت قريش بخروجهم فأعدت عدتها وجهزت جيشها وقالت: لن يدخلوا، إذاً: فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن نزل بالحديبية، وجرت سفارة بينه وبين قريش، وانتهت بألا يعتمروا هذا العام ولهم أن يعتمروا العام المقبل، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك تسمى بعمرة القضاء أو القضية، وتمت الاتفاقية على صلح بارك الله فيه ونفع الله به المؤمنين نفعاً عظيماً، ومن ذلك إلقاء السلاح وإطفاء نار الحرب عشر سنين. فحين حصروا ما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن أمر أصحابه بأن ينحروا ويذبحوا ما عندهم ويتحللوا.

حكم التحلل بحصر المرض

إذاً: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [البقرة:196] بسبب العدو أو بسبب مرض شديد مانع، وهنا يقف مالك وحده ومعه الشافعي فيقولان: المريض يبقى على إحرامه ولو بقي سنة لا يتحلل حتى يعود إلى مكة ويطوف، وفي هذا من الشدة ما فيه.ثم إنه ليس عندهم دليل، فالأمر قضية اجتهادية، فما دامت اجتهادية فالإحصار كما يكون بالعدو يكون بالمرض، سواء بالسيف أو بالأذى، وهل إذا ما استطاع أن يواصل العمرة أو الحج يبقى سنة وهو في مرضه على إحرامه يلبي؟ رحمة الله أوسع من هذا؛ فلهذا آثرنا هذا، فجعلنا الإحصار بالعدو وبالمرض الشديد، لا أن يبلغه أن امرأته ماتت أو حدث حادث في بيته فيرجع، هذا لا يسمى إحصاراً، الإحصار حقاً من الحصر والضغط، فما يستطيع، لمرض، أو عدو قال: لن تمر هذا العام، فما الحكم؟قال تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [البقرة:196] فالواجب هو فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] إن استطعت، يعني: شاة أو بقرة أو بعيراً، الذي يتيسر لك، فَمَا اسْتَيْسَرَ [البقرة:196] أي: استسهل وخف وسهل، فاذبح وعد إلى بيتك. فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] والهدي ما يهدى إلى الحرم لجيران الله عز وجل، فالواجب هو ما استيسر من الهدي.

معنى قوله تعالى: (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله)

(( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ))[البقرة:196] إذا كان في الإمكان أن نبعث بالغنم.. بالبقر.. بالإبل إلى مكة فتذبح في الحرم، وحين نعلم أنهم وصلوا وانتهوا نحلق رءوسنا ونلبس ثيابنا ونعود، والمسافة ليست بعيدة، وإذا كان لا يتأتى أن نذبح في مكة فإننا نذبح في المكان الذي نحن فيه إذا كنا في قرية من القرى، فإن لم نستطع فإنا نذبح في أي مكان، أو نعود إلى المدينة ونذبح ونوزع على الفقراء والمساكين، (( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ))[البقرة:196]، وبعدما نذبح نحلق شعورنا ونعلن عن تحللنا.(( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ))[البقرة:196] ومحله الحرم، ليس مكة فقط ومنى، الحرم حدوده عشرين كيلو من الغرب وحوالي سبعة عشر من الشرق وكذا من الجنوب وسبعة كيلو من الشام؛ لأن ميقات عائشة هو التنعيم أو جبال التنعيم، هذه قريبة من مكة، والآن دخلت المباني وغطتها، لكن بقيت حراماً إلى يوم القيامة.

حكم التحلل بحصر الحوادث وحكم الاشتراط في الحج

وأما الحصر بالحوادث فالحوادث تختلف، أنا أصابني حادث وانقلبت بي السيارة وضربت في رأسي وبقيت محرماً في المستشفى حتى شفيت وعدت إلى مكة واعتمرت، فإذا كان الحادث خطيراً فحينئذ هذا هو المرض الخطير الذي يحصر به، وأما إذا كان جزئياً وأنت بوعيك، وإنما جراحات أو آلام فقط فلتصبر عليها بالعلاج حتى تشفى، هذا كله إذا لم يشترط المعتمر أو الحاج عند إحرامه، فإن اشترط وقال: لبيك اللهم لبيك عمرة لا رياء فيها ولا سمعة، وإن محلي حيث تحبسني من الأرض، فهذا الذي اشترط على ربه إذا أصابه حادث أو مرض أو منع من عدو فما عليه إلا أن يتحلل ويعود إلى دياره.هذه القضية خالف فيها مالك وحده، ولم يبلغه الاشتراط، ولكنه صح وثبت وعمل به الصحابة، فلا نلتفت إلى رأي إمام من الأئمة والحديث أمامنا، ولم نعمل نحن بالحديث، فقد عمل به أئمة من إخوان مالك، ونحن لا قيمة لنا.فلهذا من اشترط على ربه تعالى أن محله من الأرض حيث يحبسه، وحبس بالفعل بمرض أو بمانع آخر فليتحلل بحلق رأسه وليعد إلى بلاده، ولا حرج عليه. وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] أين محل الهدي؟ الحرم، إذا كان في الإمكان أن يبلغ، وإذا قالوا: لا يدخل شيء بلادنا، فماذا نصنع؟ نفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ نحر هناك في الحديبية، وإذا ما استطعنا لأنه ما عندنا شاة ولا بعير فإنا نعود إلى ديارنا وننحر وقد امتثلنا أمر ربنا عز وجل.

معنى قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك)

وقوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] هذا حكم آخر، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ [البقرة:196] أيها المؤمنون ويا أيتها المؤمنات مَرِيضًا [البقرة:196] به جراحات لا يستطيع أن يعري جسمه، لا بد من ثياب، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ [البقرة:196] لا بد أن يحلق شعره؛ لأن القمل آذاه، كما حدث للصحابي الجليل كعب بن عجرة . فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة:196] فليغط رأسه، فليلبس الثوب أو السراويل وعليه فدية، فالواجب فدية مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الصيام فقال: ثلاثة أيام، وفسر الصدقة: بإطعام ستة مساكين لكل مسكين كيلو ونصف أرز، والنسك: ذبح شاة أو بقرة أو بعير حسب قدرته، النسك هنا معناه: ذبح شاة لهذا الذي غطى رأسه أو لبس ثيابه لمرض أو لأذى في رأسه كالقمل ونحوه، هذه رحمة الله بعباده المؤمنين، وهذه الفدية على التخيير، إن شئت ذبحت أو صمت أو أطعمت.

معنى قوله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي)

فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] فرغنا من هذا الحكم، وبقي حكم آخر: فَإِذَا أَمِنتُمْ [البقرة:196] من العدو، وانتهت حرب الحديبية، فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196] بمعنى: أحرم بعمرة من أجل أن يقضيها ويبقى في مكة فإذا جاء الحج أحرم به، فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196] بأن يحرم في شوال في القعدة بالعمرة ويقصر شعره ويبقى في مكة، فيدخل الحج فيحج، فماذا عليه؟ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196] فما الواجب؟ قال تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، الذي تيسر: شاة.. بعير.. بقرة، ويشترك سبعة في بقرة أو بعير.

معنى قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة)

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ [البقرة:196] إما أنه ما وجد المال، أو ما وجد الشاة وتعذر وجودها، فالواجب ما هو؟قال تعالى: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196] في مكة ومنى لا في جدة، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] فالمجموع عشرة كاملة، أحرم في شوال بالعمرة وجلس، ثم دخل شهر الحج وهو عازم على الحج، فإنه يصوم ثلاثة أيام: أول الحجة ثاني الحجة ثالث الحجة، أو ثاني وثالث ورابع، أو ثالث ورابع وخامس، أو خامس وسادس وسابع؛ لكن كونه أحرم بالعمرة في شوال وتحلل ينتظر الحج فقد لا يحج، فلهذا قال تعالى: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196].قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] أي: إلى بلادكم ودياركم. تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196] فثلاثة وسبعة عشرة.والخلاصة أن من أحرم بالعمرة في أشهر الحج وبقي في مكة ينتظر الحج ليحج فماذا عليه إن حج؟ عليه هدي ذبح شاة أو أن يشترك في بعير مع سبعة أنفار هو السابع، فإن لم يجد المال أو الحيوان فما هو الواجب؟ صيام عشرة أيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، يصوم ثلاثة أيام في شهر الحج، فهو أحرم بالعمرة في القعدة وجلس، فما هناك حاجة إلى أن يصوم؛ لأنه لا يدري أيحج أو لا؟ لكن حين يدخل شهر الحج فمعناه أن المسألة قربت، فهنا ما دام ليس عنده نقود فإنه يصوم ثلاثة أيام، ولو نسي أو عجز يصوم حتى بعد العيد بثلاثة أيام، أيام التشريق يصح أن يصومها، يصوم السابع والثامن والتاسع أيضاً إلا العاشر، فيوم العيد لا يصومه، أو يصوم الثلاثة الأيام بعده، فإذا انقضت الأيام الثلاثة وما أصبح يسعه الصيام فعليه الهدي في ذمته.

معنى قوله تعالى: (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام)

وقوله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] هذا الذي سمعتم من حكم صيام عشرة أيام أو ذبح شاة على من تمتع، هذا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196]، أما الذي يسكن في مكة وفي منى وفي الحرم بأهله فهذا لو اعتمر ألف عمرة ما عليه هدي، فهذا في بلده، والحكم لمن جاء من خارج الحرم من جدة من الطائف من المدينة من أسبانيا وجلس في مكة ينتظر الحج وقد دخل بعمرة في أشهر الحج، هذا الذي عليه الهدي، أما الذي يسكن في مكة فخرج إلى الطائف وإلى جدة ودخل بعمرة وحج من عامه، فهذا ليس عليه هدي أو صيام؛ لأن الله تعالى قال: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196]. ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] أما من كان أهله نساء وأولاداً في مكة فإنه لو يعتمر عشرين عمرة ليس عليه هدي. ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196]، أما من كان يسكن في داخل الحرم ولو ولم يكن في مكة بل حدود الحرم؛ فهذا إذا اعتمر في أشهر الحج وحج فلا هدي عليه ولا صيام.

معنى قوله تعالى: (واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب)

وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:196] انتبهوا خافوه فلا تفسقوا عن أمره وتخرجوا عن طاعته وتتصرفوا كما تشاءون، وإن كان هذا اللفظ عاماً في أوامر الله ونواهيه، ولكن بصورة خاصة هذه التعاليم لا يعبث بها أو يلعب بها كما علمنا.وهددنا فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196]إذا عاقب؛ فلهذا لا يحل التلاعب أبداً بالعبادة، تؤدى كما هي، وهذا لصالحنا؛ لأن العبادة لو بذلت فيها الملايين وجهدك بكامله وما أديتها على الوجه المطلوب لا تنتج لك حسنة واحدة، وأنت مطالب بها لأجل زكاة نفسك لتدخل الجنة.

الخلاف في اعتبار المعتمر في أشهر الحج متمتعاً إذا رجع إلى بلده

وهنا مسألتان:الأولى: اختلف في هذا الرجل إذا اعتمر في أشهر الحج وعاد إلى بلاده ثم حج من عامه هل يعتبر متمتعاً؟الصحيح الذي عليه أكثر الأئمة أنه ليس بمتمتع متى عاد إلى بلاده، حتى ولو كان في الطائف وجدة أو بحرة، وهذا الذي عليه أئمة الإسلام ونقول به.والقول الشاذ يقول: ما دام حج من عامه فهو متمتع، ولا نلتفت إلى هذا، هذه واحدة.ثم إن اليمني الذي جاء من الجنوب واعتمر ثم جاء إلى المدينة بالشمال هل يعتبر متمتعاً أو غير متمتع؟فنحن نقول: لو كان السفر سفراً كما كان فوالله! لا نقول: إنه متمتع أبداً، يأتي من مكة إلى المدينة في عشرة أيام على رجليه ويعود في عشرة أيام، فأين التمتع؟ تمتع بماذا؟ لا بنوم ولا براحة، ولكن المسألة الآن بالطائرة يسير ساعتين ويعود، فماذا نقول؟نقول: إن استطعت أن تعتبر نفسك متمتعاً فخير لك فصم أو اذبح، أما لو كان السفر كما كان فيأتي المدينة في عشرة أيام ويعود في عشرة أيام فأي شيء تمتع به؟ لا راحة ولا نوم، لكن المتمتع ذاته يستقر في مكة، يأكل ويشرب وهو نائم مستريح، وإذا جاء الحج حج، ويتمتع حتى بزوجته حين يأتيها. لكن هذا السفر إلى المدينة فيه مشقة؛ فلهذا ترانا إذا وجدنا الرجل ضعيفاً نرحمه فنقول: ما دمت قد تجاوزت الميقات لمسافة القصر فلا عليك شيء، وإن وجدناه سميناً نقول: خير لك أن تذبح شاة وتطمئن نفسك؛ لأن الجمهور على أن من خرج من الحرم مسافة قصر-يعني: مسافة ثمانية وأربعين كيلو أو خمسة وسبعين كما عند بعض الأئمة- فما أصبح متمتعاً، وهذا كله ملاحظ أيام كان الذي يمشي مسافة قصر على الأقل ثلاثة أيام ذهاب وثلاثة أيام إياب وهو في شقاء وتعب، أما اليوم فالحمد لله نطير كالملائكة. فمن هنا خذوا هذه ولكم أن تفتوا بها بعد موتي ولا تخافوا، فمن كان فقيراً ضعيفاً فلا تحملوه؛ فقد تجاوز مسافة قصر مرتين أو ثلاثاً، أليس كذلك؟ وهذا مذهب الجمهور، فقولوا: لا بأس، وإذا رأيتموه في استطاعته أن يذبح أو يصوم فقولوا: الأفضل لك لتطمئن أنك تصوم أو تطعم، هذه القضية الأولى.

المفاضلة بين أنواع النسك في الحج

الثانية: أي أنواع النسك أفضل: الإفراد أو التمتع أو القران؟الآية: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196] معناها: فمن لم يتمتع فلا شيء عليه، فالآية نص في مشروعية الحج بدون عمرة.فلهذا أئمة الإسلام وهداة المسلمين على أن أنواع النسك ثلاثة: الإفراد والتمتع والقران، إن شئت أفردت أو تمتعت أو قرنت، الكل جائز.وذهب بعض الذاهبين في متاهات فقالوا: لا إفراد أبداً! فيقال لهم: الله يقول: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196]! فقالوا: ليس بصحيح، فقيل لهم: كيف وهذا تخفيف الله عز وجل؟ ولهم شبهة دحضها أهل العلم وانتهينا منها، الشبهة هذه أنه لما حج الرسول صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وهي الأولى والأخيرة، فرحمة بالمؤمنين الذين كانوا يسيرون على أرجلهم أو على البهائم، فرآهم تعبوا وشعثوا فقال: ( من ساق منكم الهدي فلا يحل، ومن لم يسق الهدي فليجعل حجه عمرة )، وبهذا أدى فائدتين:الأولى: رحمة بإخوانه المؤمنين الشعث الغبر من التعب، قال لهم: تحللوا، والآن بقي على الحج أربعة أيام أو خمسة فتمتعوا وأتوا حتى نساءكم.ثانياً: كان العرب لا يجيزون ولا يبيحون أبداً التمتع في أشهر الحج، لا يتمتعون إلا في صفر، فأبطل الرسول هذه البدعة التي كان عليها المشركون.ففهم من فهم أنه لا إفراد، أحدهم في قرن التابعين، والآخر في القرن الرابع وهو ابن حزم ، وآخر في القرن السابع، وآخر في القرن الرابع عشر، قالوا: ما هناك إفراد!ونحن سلمنا أن أنواع النسك ثلاثة، والله! إنها لثلاثة: الإفراد والتمتع والقران، يبقى: أيها أفضل؟ الجواب: إذا سقت الهدي من قريتك من دويرتك وأنت تلبي فالقران أفضل، وجه الفضل فيه: أن الله اختار لرسوله القران ولا يختار لرسوله إلا ما هو أكمل وأفضل، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ) قاله تطيباً لخواطر إخوانه؛ حتى لا يكربوا ولا يحزنوا، لكل مقام مقال، حتى تطيب خواطرهم، وإلا فالله لا يختار لرسوله إلا أكمل العبادات.أقول: من ساق الهدي من القصيم من نجران من تبوك من المدينة من الطائف، ساق جمله أو شاته وهو يلبي، هذا القران أفضل له، ومن لم يستطع سوق القران وحج قارناً فحجه مفضول. ومن استطاع أن يذهب إلى مكة معتمراً ويعود إلى بلاده ثم يعود فيحج من عامه فالإفراد أفضل بلا شك؛ لأنه أنفق نفقة في سفر خاص للعمرة وعاد إلى دياره وعاد إلى الحج بنفقة أخرى، فكيف يكون مفضولاً وقد أنفق نفقتين؟وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-11, 06:15 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (127)
الحلقة (134)



تفسير سورة البقرة (92)

بعد أن بين الله عز وجل حكم الحج إلى بيته الحرام وفضل ذلك ذكر هنا الأشهر التي يكون فيها الإحرام بالحج، وهي شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، وبين أن من أحرم فيها بالحج فيجب عليه أن يجتنب الرفث والفسوق والجدال، حتى لا يفسد حجه أو ينقص من أجره فيه، وانتدب سبحانه من أراد الحج أن يكثر من فعل الخيرات من صدقات وغيرها، وأن يتقي الله ربه، فالتقوى خير زاد.

تفسير قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل. وسنتلو هذه الآيات الثلاث، ثم نتدارسها بيننا؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، وأعظمه أن يذكرنا الله في الملكوت الأعلى.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:197-199].

المراد بأشهر الحج المعلومات

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من القائل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] ؟ هذا خبر، فمن المخبر؟ الله جل جلاله، كيف عرفنا أنه الله؟ لأن هذا كتابه، أنزله على من؟ على مصطفاه ونبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. هذا الخبر له شأن أم لا؟ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] ما معنى هذا الخبر؟ الحج الذي هو زيارة البيت، وأداء المناسك من الإحرام إلى الوقوف بعرفة إلى طواف الوداع، هذا الحج أشهر معلومات معروفات محفوظات، وما هو في حاجة إلى ذكرها؛ لأن العرب يعرفونها، ولأن رسوله صلى الله عليه وسلم ملزم ببيانها، لأنه لو قال: الحج أشهر معلومات هي شوال والقعدة والحجة فسيصبح القرآن لا يحفظ، ولا تحمله الإبل لطوله! فلهذا يأتي مجملاً والرسول يبينه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فصلوا عليه وسلموا تسليماً.إذاً: المراد من الأشهر المعلومات التي يحرم فيها العبد بالحج هي شهر شوال بعد رمضان مباشرة، والقعدة، وعشر ليال من الحجة، هذه الأشهر يحل لك أن تحرم بالحج من أول شوال، وتبقى تلبي وتذكر الله وتعبده شهرين وعشر ليال، وليس هناك من يلومك، لو أراد أحدنا أن يحرم من رمضان، أو من شعبان، أو رجب فلِم يرهق نفسه؟ ما الداعي إلى هذا؟ فالله عز وجل بين لنا الأشهر التي نحرم فيها ونلبي؛ فلهذا يكره للمؤمن أن يحرم بالحج في غير أشهره، وإن فرضنا أنه أحرم فإنا نقول له: تحلل بفدية، واخرج من هذه، وإن أصر فليبق يذكر ربنا الليل والنهار في العبادة، لأن المحرم لا يتأتى له العصيان، كيف يفسق؟ مربوط بربه، اتركوه محرماً.وهل يستطيع أحدنا أن يحج يوم العاشر من ذي الحجة، فيحرم ويأتي يلبي، ويدخل عرفة وحده ويرجع؟ كلا. فلو أحرم بالحج ليلة العيد وأدرك ووصل إلى عرفات في نفس الليلة قبل الفجر فيعتبر حاجاً وقد صح حجه، لكن إذا أحرم من الشام ومشى وتعطلت الدابة أو هبطت الطيارة وما وصل إلا بعد الفجر؛ فنقول: في العام الآتي تحج إن شاء الله، الحج الآن انتهى، فامش وطف بالبيت واسع وتحلل وانوها عمرة؛ وذلك لأن مولانا عز وجل علمنا فقال: الحج المعروف وتلك العبادة في أشهر معلومات.

معنى قوله تعالى: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)

وقوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] هذا خبر آخر أم لا؟ وهو يحمل معه الإنشاء والتكليف، فمن فرض على نفسه في تلك الأشهر الحج، وقال: لبيك اللهم لبيك حجاً لا رياء فيه ولا سمعة فهذا دخل في العبادة، كالذي يحرم بالصلاة: (الله أكبر) ودخل في الفريضة والنافلة، فهل يجوز أن يضحك؟ يأكل؟ يشرب؟ ينادي أمه؟ يقول: أغلقوا الباب؟ لا كلام أبداً ولا ضحك ولا أكل ولا شرب؛ لأنه دخل في مناجاة الله، ولو تكلم بكلمة بطلت صلاته، فالحج إذا لبى العبد وقال: لبيك اللهم لبيك فقد دخل في هذه العبادة، ومن ثم فَلا رَفَثَ [البقرة:197]، الرفث بعبارة موجزة يطلق على الجماع: وطء الزوجة أو الجارية، ويشمل كل مقدمات الجماع من الغمز والمضاحكة والمجالسة، كل تلك المقدمات داخلة في الرفث.فمن لبى ودخل في الحج لا يحل له أن يجامع امرأته أبداً، ولا يحل له أن يغازلها أو يلمسها بشهوة؛ لأنه كالذي في الصلاة. فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197] ما الفسوق؟ هو الخروج عن طاعة الله ورسوله بترك واجب أو بفعل حرام، فمن منا يعجز عن حفظ هذه الكلمة؟ من هو الفاسق؟ الذي يترك الواجبات ويغشى المحرمات، هذا الفاسق، على شرط أن يواصل ذلك، أما من ترك واجباً وندم ثم فعله فما يبقى فاسقاً. فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197] لا معصية مطلقاً وأنت محرم، لا تحل أبداً، فهي كبيرة عظيمة، وإليكم مثالاً: سبك لفلان وأنت خارج الصلاة كبيرة عظيمة أم لا؟ لكن إذا قلت وأنت تصلي: يا ملعون فكيف يكون هذا الموقف؟ أهو بشع أم لا؟ فسبك للمؤمن وأنت وهو لستما في الصلاة حرام، كبيرة من كبائر الذنوب أم لا؟ لكن أرأيت لو سببته وأنت تصلي، كيف يصبح هذا؟ فكذلك الفسق مطلقاً حرام، ولكن أن يفسق وهو متلبس بعبادة فكيف يكون هذا؟! فلا رفث بالمرة ولا وجود له، ولا فسوق، وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] وكلمة: (في الحج) ليست عائدة على الجدال فقط، بل الرفث والفسوق والجدال الكل في الحج حرام وقبيحة من أكبر القبائح؛ لأن من أحرم بالحج أصبح في الحج، والحج ما هو بيوم واحد، بل شهران وعشرة أيام، أي: سبعون ليلة. فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] ما الجدال؟ الجدل، الخصومة، كل يريد أن يثني رأي الآخر ويغلبه، حتى ولو كان في المساومة في البيع، كأن يقول: بكم الكيلو من التفاح؟ قال: بريالين. فيقول: بريال ونصف! ويتجادلان، فهل يجوز لهما؟ لا يجوز.أو أن يسأل أحدهم: كم يوماً في الشهر؟ فهذا يقول: سبعة عشر، هذا يقول: ستة عشر، ويتجادلان وهما محرمان، لا يجوز مطلق الجدل. لا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] لم؟ لأن الحاج متلبس بعبادة، هو مع الله، كيف يتفرغ ويجادل الناس ويخاصمهم؟ عرفتم هذا؟

ثواب مجتنب الرفث والفسوق في الحج

واسمعوا الرسول الكريم يقول: ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، هذه جائزة محمد صلى الله عليه وسلم، من ظفر بها؟! السابقون الأولون، ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) لا شيء عليه.وإن قلت: كيف؟ فالجواب: إذا وفقك الله لهذا فأنت مهيأ من قبل، إذا وفقت لأن تحج ولم تفسق ولم ترفث فأنت مهيأ لهذا الكمال من قبل، ثم يتوب عليك ويقبل توبتك، وبذلك يمحى كل ذنب سجل عليك، وتكون كأنك ما ارتكبت ذنباً، كأنك الآن خرجت من بطن أمك.وعندنا لطيفة: فهنا ميزان معرفة الطاقة، كيف نعرف أن فلاناً خرج من ذنبه كيوم ولدته أمه؟ نقول: إذا فرغ من الحج وودع، وركب دابته أو طائرته؛ فإن رأيناه يراجع الذنوب بترك الواجب وفعل المنكر والمحرم عرفنا أن هذا ما غفر له، ما زالت نفسه ملطخة عفنة لا نور فيها ولا إشراق، لكن إذا رجع من الحج لا ينطق بسوء، ولا يتلفظ ببذاءة، ولا يمد يده إلى ما حرم الله، ولا يتخلى عن واجب؛ فهذا هو والله العظيم، هذا الذي قبل؛ لأن نفسه مشرقة كأنفس الصبيان، ما يغشى كبيرة أبداً، والنور أمامه، فكيف يعصي؟ لكن إذا كان ما قبل في الحج وما غفر له، فمعناه أنه: بقيت الظلمة على النفس أم لا؟ والسيئات متراكمة ما زالت.إذاً: من السهولة أن يحلف بالكذب في المطار، وأن يدخن وهو في الطيارة، وأن يقرأ مجلة الدعارة والعهر وهو في المطار، في الطائرة. فهذه اللطيفة خير من ألف ريال هذه، وبلغوها: ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) والحمد لله. فكيف نعرف أننا فزنا بهذه الجائزة المحمدية؟ قلنا: عندما نخرج من مكة ونبدأ نباشر في الحياة؛ إن اتحد سلوكنا وانتظم، وأصبحنا مع الله كما كنا في الحج، لا كذب ولا سرقة ولا فجور، ولا حسد ولا رياء ولا شرك ولا نفاق؛ فقد علمنا أننا قد قبلنا وغفر لنا، وإن كنا نبدأ من مكة في الذنوب والآثام فما حججنا.والتعليل واضح: فحين يغفر له تزول كل ظلمة عن النفس أم لا؟ تشرق نفسه أم لا؟ فصاحب النور هل يدوس حية؟ هل يجلس في المرحاض؟ كلا، فالنور أمامه، كيف يقع -إذاً- في المحرمات والنور بين يديه؟ لكن الذي لا نور له هو الذي يتخبط.

معنى قوله تعالى: (وما تفعلوا من خير يعلمه الله)

وقوله تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197] ليست القضية قضية أن لا رفث ولا فسوق ولا جدال فحسب، فهناك أيضاً مساعدات، افعلوا الخير وأنتم في الحج، هذا بالكلمة الطيبة، وهذا بتعليم أخيه، وهذا بتوجيهه، وهذا بإرشاده، وهذا بسد جوعته، وهذا بسقيه الماء، وهذا بإعطائه الدواء، فعل الخيرات في الحج تتضاعف حسناته فوق العادة، وما تفعلوا من خير في الحج يعلمه الله، وإذا كان يعلمه فإنه يثيب عليه، وما قال: يجزي به، ولكن لن يضيع المعروف أبداً عند الله.

معنى قوله تعالى: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) وبيان سبب نزوله

ثم قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] هذا أمر أم لا؟ فمن الآمر؟ الله. من المأمور؟ المؤمنون، يقول تعالى: تزودوا، فمن كان عنده تمر يحمل تمره معه، أو خبز ولو جافاً، أو جبن، ما تطعمه في حجك تزود به، ولا تمد يدك للناس. على الحاج أن يحمل معه طعامه وشرابه، وما تطلبه أيامه وهو في الحج، لا يحرج الناس ويفتقر إليهم ويقول: أعطوني! وإذا ما كان عنده زاد ولا طعام فالحج ما هو بواجب عليه حتى يقوى عليه، أليس كذلك؟ فالاستطاعة مفسرة بالزاد والراحلة، والذي ليس عنده زاد لا يحج، كيف يحج وهو يسأل الحجاج ويؤذيهم؟ حرام هذا.أراد الله رفعتنا وإعلاء مقامنا، فكيف ونحن في ضيافته نسأل غيره ونذل للأغنياء ونسألهم ونحن أولياء الله؟ فما يريد الله لنا هذا.والآية كان لها سبب نزول، فبعض إخواننا من اليمن قالوا: نحن متوكلون، كيف نذهب إليه ونطلبه ونحمل الزاد ونحن ضيوفه؟ كيف ننزل عليه في بيته ونحمل الزاد؟! فلما وصلوا إلى الحج أخذوا يسألون الناس، فنزلت هذه الآية: وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197] فمن ثم ما أصبح حاج من الشرق أو الغرب يأتي أبداً إلا ومعه زاده، إما نقود يشتري بها، أو يحمل طعامه وشرابه، فإن لم يكن عنده قدرة لم يحج، فكيف ببعض الفقراء من العالم الإسلامي يحجون للسؤال؟! يحج لهذا الغرض! فهذه فاحشة أكبر من الأولى، لا يجوز هذا أبداً.وقوله تعالى: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] أي: تزودوا بالطعام والشراب أو بالدنانير والدراهم لتأكلوا وتشربوا وتركبوا، واعلموا أن أفضل زاد هو تقوى الله عز وجل، لا تعتز بالريالات فقط في جيبك فتقول: أنا متزود، هناك زاد أعظم من هذا، وهو تقواه عز وجل، الخوف منه جل جلاله، يتمثل في طاعته وطاعة رسوله، بفعل ما يأمران به وترك ما ينهيان عنه، هذا أغلى زاد، فالزاد محمود وقد أمر الله به، لكن لا تعول عليه فقط، عليك بتقوى الله عز وجل، وهذه التعاليم الإلهية موجهة إلى المؤمنين، زادهم الله كمالاً.

معنى قوله تعالى: (واتقون يا أولي الألباب)

وقوله: وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197] أمرنا بتقواه أم لا؟ إياكم أن تعصوه، وتخرجوا عن طاعته، فإن الأمر صعب، إن أرواحكم بيده، أرزاقكم بيده، مصيركم إليه، فانتبهوا يا أصحاب العقول. والألباب: جمع لب، ولب الشيء: داخله، وأين يوجد العقل؟ في الباطن، أو في المخ، فيا أصحاب العقول! اتقوا الجبار، امتثلوا أمره في هذا وفي غيره.

تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ...)

ثم قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] ما هذه الجملة؟ ما هذا الخبر العظيم؟ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [البقرة:198] أي: إثم أو حرج أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، تبتغوا: تطلبون، فمن أين؟ أمن الأغنياء؟ أم من سيدي عبد القادر؟ كلا. بل من ربكم، خالقكم، مالككم، رازقكم، من إليه مصيركم.هذه الآية أذن الله تعالى فيها للمؤمنين في أيام منى وهم في ضيافة الرحمن عز وجل ثلاثة أيام بلياليها حتى يستردوا قواهم وطاقتهم التي ذهبت في الحج، وبعد ذلك ودع وسافر.في هذه الأيام إذا بعت شيئاً زائداً فاضلاً عندك فلا بأس، وجدت بضاعة نفيسة ولا توجد في ديارك فاشتريتها فلا بأس: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا [البقرة:198] أي: تطلبوا فضل رزق من ربكم، بأية واسطة؟ بدعائه وبالبيع والشراء، على شرط: ألا يخرج من بلاده يريد هذا، لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، إنما لما فرغ من العبادة وانتهى من عرفات ومزدلفة وجلس في أيام المتعة والراحة، فإن اشترى بضاعة أو باع شيئاً من عنده يرى فيه فضلاً من الله فلا بأس. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] واضح هذا المعنى؟ وسبحان الله! هل أصبحنا كلنا مفسرين للقرآن؟! أي نعم، فهو ما نزل إلا ليفهمه الرجل والمرأة، ولو اجتمع عليه المسلمون في جد لفهموه، وأصبحوا علماء ربانيين، ولو لم يقرءوا ولم يكتبوا، هذه تعاليم تلقى إليهم فقط.

معنى قوله تعالى: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام)

ثم قال تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] ما معنى هذا الكلام؟ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] كيف أفضنا من عرفات؟ أفضنا: تدفقنا كالماء، ولو شاهدت الحجيج مع أذان المغرب وهم مفيضون لرأيتهم كسيل وفيضان. فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] ووصلتم إلى مزدلفة حيث المشعر الحرام فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] ما هو المشعر هذا؟ مكان الإشعار، ومشعر على وزن مفعل، كمضرب حيث الضرب، فالمشعر: مكان الإشعار في مزدلفة، وهي بين عرفات ومنى، هذا المكان في جبيل، كان المشركون في الجاهلية يشعرون هديهم هناك، يأتي من الشرق من الغرب فيشعر ناقته أو بقرته ويعلمها، والإشعار: الإعلام، يعلم بأنها مهداة للحرم، إما أن يجرحها بالمبضع في سنامها فيسيل الدم ويلطخها به في الوبر، وإما أن يعلق فيها شيئاً، ليعلم الناس أن هذه ذاهبة إلى الله، مهداة إلى الله عند هذا المكان؛ فسمي بالمشعر الحرام، وهو داخل الحرم، ما هو بخارج الحرم، كمنى داخل الحرم.إذاً: فإذا أفضتم من عرفات، ونزلتم بمزدلفة فماذا تصنعون؟ هل تغنون؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، ومن هنا فالمبيت في مزدلفة واجب، فمن تركه لغير عذر وجب عليه دم والتوبة بالبكاء والندم والاستغفار، ومن عجز عن المبيت فلا شيء عليه. ومن ذكر الله في مزدلفة أن نصلي المغرب والعشاء جمعاً، المغرب دخل علينا في عرفات، والعشاء ونحن مشاة، قد يؤذن قبل أن نصل، أو نصل ولم يؤذن، الكل واحد؛ فنصلي المغرب والعشاء جمع تأخير، وهذا من ذكر الله أم لا؟ الأذان والإقامة والتسبيح هذا هو الذكر. ثم استريحوا، وقبل الفجر قوموا، فيكون الأذان والصلاة ثم الدعاء ساعة كاملة إلى قبيل طلوع الشمس وأنتم واقفون بين يدي الله تسألون حاجاتكم، حتى إذا كان الإسفار مشيتم إلى منى، والتقطتم حصيات سبع لرمي الشيطان بها.

معنى قوله تعالى: (واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين)

فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:198] أين؟ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] كنتم مشركين كفرة ضلالاً تعبدون الأصنام، وفي جاهلية، فمن هداكم؟ الله. فأصبحتم أفضل الخلق على الإطلاق في هذه الأرض.إذاً: اذكروه كما هداكم، اذكروا هدايته لكم، اشكروه عليها، وذلك بدعائه واللجأ إليه، وذكره وتسبيحه وحمده، وإفاضة الخير أيضاً على إخوانكم شكراً لله على هذه النعمة، فهذه نعمة عظيمة يعرفها من عاش في الجاهلية وعاش في الإسلام. وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] أي: الذين ضلوا الطريق ما عرفوه فهم في متاهات الحياة في الجهل والكفر والضلال، فكلام الله بين.

تفسير قوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)

ثم قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] فكيف هذا؟ كان الحمس -جمع أحمس، كحُمر واحدهم أحمر، والحمس: أشراف مكة من قريش- كانت لهم ميزة أنهم لا يقفون مع الناس في عرفة في وسطها، يقفون دونها، يقفون دون عرفة في مزدلفة، حتى إذا أذن المغرب وأفاضوا يصبحون هم الأولين، لا يصطدمون مع الناس ولا يؤذونهم؛ لأنهم أشراف! فلم يرض الله تعالى لعباده هذه الحالة، فقال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] من المكان الذي أفاض منه أهل الموقف أفيضوا أنتم، لا تتميزوا بمكان خاص تقولون: هذا مكان الأشراف، حتى لا تصطدموا بالمشاة والركبان من الحجاج، هذا تعليم الله تعالى، وأصبح القرشي والحبشي على حد سواء. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] عما سبق من ذنوبكم، ولهذا فالملك والمملوك والتاجر والغني والأبيض والأسود بمجرد أن يقول: لبيك اللهم لبيك كلهم سواء: الرءوس عارية، والنعال في الأقدام، والكفن على الأبدان إزار ورداء، ولو كنت تملك بنوك أمريكا كلها فهذا هو سبيلك، أليس كذلك؟ وكذلك الطواف بالبيت، لا تقل: أنا شريف، لا تزاحمني، وكذلك السعي واحد، والذهاب إلى منى، كل الحج صورة واحدة تتجلى فيه عبودية الله عز وجل.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

يقول تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197] والطعام والشراب إذا استطعتم. وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197] لا تأتوا من دياركم إلا ومعكم نقودكم ودراهمكم، لا تعولوا على الحجاج يطعمونكم ويسقونكم، من لم يستطع فلا يأت، وتزودوا لحجكم فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] تأتي بالأموال ولا تطيع الرحمن، هل ينفعك ذلك؟ فهذا تنبيه عجيب.وقوله: وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197] خافوني يا عقلاء قبل أن نحيل نعمتكم إلى نقمة، وسعادتكم إلى شقاء. وكيف نتقيك يا رب؟! يقول: لا تعصني، نفذ أوامري هذه وطبقها، بهذا تتقيني، لا بالجبال ولا بالجيوش ولا بالحصون، يتقى الله بالإذعان له، بالتسليم له، وهل في الإذعان والتسليم له شقاء؟ والله! لا شقاء أبداً، ما فيه إلا زيادة كمال، لا تفهم يا غافل أن الله يأمر بتقواه لإهانتك والتحكم فيك، انزع هذا الباطل من ذهنك، والله! ما أمرنا إلا بما يسعدنا وينجينا من الشقاء والبلاء، ولا نهانا عن شيء إلا لأنه ضار بنا، مدمر لحياتنا، وهو الرحمن الرحيم.وما تراه من ضعف وهزال وشقاء وذل وهون فهو والله لعصيانه، لا بفعل أوامر وترك نواه، بل لخروجنا عن طاعته، كالذي نهاك أن تأكل السم فأكلته فإنك تموت، أنت الذي أمت نفسك. وقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] ما هذه الجملة؟ ما هذا الخبر؟ أي: لا حرج إذا بعت واشتريت أيام منى، لكن لا أنك تأتي لهذا الغرض، ثم ماذا؟ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]. هذا بيان أن النزول بمزدلفة والمبيت بها لذكر الله واجب، أمر الله به: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] والأذان والإقامة والصلاة ذكر، وأي ذكر أعظم من هذا؟ وقوله: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] هل هذه تتلاءم مع الصحابة فقط؟ فنحن أما هدانا؟ من أمثالنا ملايين ضلال، بل مليارات البشر لا يعرفون الله ولا يقفون بين يديه، فهل هدانا نحن أم لا؟ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] أشراف مكة الحمس كانوا يقفون في مكان مستقل حتى يبتعدوا عن الاصطدام حين يفيض الناس، فقال تعالى: لا، أفيضوا مع الناس في وقت واحد من مكان واحد. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ [البقرة:199] أستغفر الله .. أستغفر الله، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] من استغفره غفر له، ومن استرحمه رحمه، إذ هذه صفات الكمال لله تعالى، فاستغفروه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات:أشهر معلومات: هي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة، هذه هي الأشهر التي يحرم فيها بالحج ]، أما العمرة ففي أي يوم طوال السنة، لكن الحج في هذه الأشهر.[ فرض الحج: نوى الحج وأحرم به ]، فقوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة:197] يعني: فرضه على نفسه، أحرم به ودخل فيه.[ فَلا رَفَثَ [البقرة:197]: الرفث: الجماع ومقدماته ] التي تسبقه، وهل الجماع يقع بدون مقدمات؟ مستحيل هذا، كيف يتم؟ [ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197]: الفسق والفسوق: هو الخروج عن طاعة الله بترك واجب أو فعل حرام.الجدال: المخاصمة والمنازعة.الجنا : الإثم. تَبْتَغُوا فَضْلًا [البقرة:198]: تطلبوا ربحاً في التجارة من الحج. أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198]: الإفاضة من عرفات تكون بعد الوقوف بعرفة يوم الحج، وذلك بعد غروب الشمس من اليوم التاسع من شهر الحجة.المشعر الحرام: مزدلفة، وذكر الله تعالى عندها هو صلاة المغرب والعشاء جمعاً بها، وصلاة الصبح ].

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيات.ما زال السياق في بيان أحكام الحج والعمرة، فأخبر تعالى أن الحج له أشهر معلومة، وهي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة ]، يقال: الحِجة والحَجة والقِعدة والقَعدة، كلها جائزة.قال: [ فلا يحرم بالحج إلا فيها ]، أما العمرة فأحرم حيث شئت، [ وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن يتجنب الرفث والفسوق والجدال حتى لا يفسد حجه، أو ينقص أجره ]، إما أن يفسد بالكلية أو ينقص الأجر، كيف؟ أرأيتم من جامع امرأته وهو محرم هل فسد حجه أم لا؟ بالإجماع فسد حجه، ومن كذب كذبة أو قال باطلاً وهو في الحج هل يفسد حجه؟ والله! ما فسد، وإنما نقص أجره؛ لأن العبارة كما ترى: [ وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن يتجنب الرفث والفسوق والجدال؛ حتى لا يفسد حجه أو ينقص أجره ]، إذاً: يفسد بالجماع، وينقص بفعل الحرام.قال: [ وانتدب الحاج إلى فعل الخير من صدقة وغيرها، فقال تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197]، ولازمه أنه يثيب عليه ويجزي به، وأمر الحجاج أن يتزودوا لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن السؤال، فقال: وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197]، وأرشد إلى خير الزاد وهو التقوى، ومن التقوى عدم سؤال الناس أموالهم والعبد غير محتاج ]. فهناك من يسأل ويوفر في المال، فهو غير محتاج، أكثر المتسولين هكذا، عندما يموت يجدون عنده الألوف، لأنه ألف واعتاد، وإلا فالمؤمن ما يسأل أبداً، فإن جاع واشتد جوعه ما يقول: أعطني مائة ريال، يسأله أن يشتري له قرص عيش على قدر حاجته، أو يقول: أنا أتعشى معك الليلة، لا إله إلا الله! أين أمتنا من هذه الكمالات؟ قال: [ وأمر الحجاج أن يتزودوا لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن السؤال، فقال: وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197]، وأرشد إلى خير الزاد وهو التقوى، ومن التقوى عدم سؤال الناس أموالهم، والعبد غير محتاج، وأمرهم بتقواه عز وجل، أي: بالخوف منه؛ حتى لا يعصوه في أمره ونهيه، فقال: وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197] والله أحق أن يتقى؛ لأنه الواحد القهار، ثم أباح لهم الاتجار أثناء وجودهم في مكة ومنى، فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] يريد: رزقاً حلالاً بطريق التجارة المباحة، ثم أمرهم بذكر الله تعالى في مزدلفة بصلاة المغرب والعشاء والصبح بها، وذلك بعد إفاضتهم من عرفة بعد غروب الشمس، فقال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، ثم ذكرهم بنعمة هدايته لهم بعد الضلال الذي كانوا فيه، وانتدبهم إلى شكره، وذلك بالإكثار من ذكره، فقال تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198].ثم أمرهم بالمساواة ]، المساواة في عرفة في موقف واحد، لا الغني هنا والشريف هنا والفقير هنا، كلنا سواء، [ ثم أمرهم بالمساواة في الوقوف في عرفة، والإفاضة منها كذلك، فليقفوا كلهم في عرفات، وليفيضوا منها جميعاً، فقال عز وجل: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] وذلك أن الحمس كانوا يفيضون من أدنى عرفات حتى ينجوا من الزحمة ويسلموا من الحطمة. وأخيراً أمرهم باستغفار الله، أي: طلب المغفرة منه، ووعدهم بالمغفرة بقوله: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]].عجب هذا القرآن! أهذا يقرأ على الموتى؟! فهل يتعلم الميت؟! من حول قراءة القرآن من الأحياء إلى الموتى؟ العدو، ذاك المركب من ثلاث حيات: اليهود، المجوس، النصارى.ووالله! إنهم إلى الآن يتآمرون على الإسلام بشتى أنواع المؤامرات، ومن جملة ما نجحوا فيه أن صرفوهم عن القرآن، بدل أن يجتمع اثنان أو ثلاثة يقرءون القرآن ويتدبرونه حولوه إلى الموتى، فتمر بمدن العالم الإسلامي في الشوارع فإذا سمعت القرآن يقرأ في بيت علمت أن فيه ميتاً! فلا إله إلا الله! وأصبح طلبة القرآن -والله- ما يتعلمون إلا ليقرءوه على الموتى؛ ليحصلوا على الطعام وشيء من الدراهم!وكانت هناك نقابة موجودة، فإذا مات لك ميت فاتصل، فيقولون: تريد كم طالباً؟ تقول: عشرة، فيقال: من فئة مائة ريال أو من فئة خمسين؟! ووالدتي رحمة الله عليها -وقد تابت إلى الله وعرفت، ماتت موحدة- كنت صغيراً في حجرها يتيماً وهي تقول: يا رب! اجعل ولدي طالباً أو جزاراً! لأن الجزار يذبح الشاة ويبيعها، فيأتي باللحم الذي يفضل، يأتي بالقلب بالرئة بكذا، تقول: يا رب! اجعل ولدي طالباً أو جزاراً؛ حتى يأتي باللحم، فاللحم ما نأكله إلا من الموسم إلى الموسم! وكذلك التي ابنها حافظ للقرآن يمشي ليقرأ على الموتى ويأتي باللحمة في منديله، ويقدمه لوالدته، فهي تطلب هذا.ووالله! لو كنا في ذلك الوقت لما استطاع شيخكم هذا أن يتكلم ويقول: قال الله. بل يرمونه بالحجارة، يقولون: أنت تقول: قال الله؟ هل تعرف كلام الله، حرام هذا؟ تفسير القرآن صوابه خطأ، وخطؤه كفر، ويسد أذنيه، فحرموا المسلمين من تلاوة كتاب الله وفهمه والعمل به تماماً حتى هبطنا، لما هبطنا ركبوا على ظهورنا، استعمرونا، استذلونا، فعلوا فينا العجائب، وما زلنا سكارى إلى الآن لم نفق! وكم صرخنا على هذا الكرسي نقول: هيا نعود إلى الله تعالى بأيسر طريق وأسهله، نقول فقط: يا أهل القرية! لا يتخلف أحد من نسائكم ولا رجالكم ولا أطفالكم عن صلاة المغرب في هذا المسجد؛ لنتعلم الكتاب والحكمة، كل ليلة طول العمر؛ فهل يبقى جاهل في القرية أو جاهلة؟ وإذا انتفى الجهل وحل العلم فهل يقع الزنا؟ اللواط؟ السرقة؟ الكبر؟ الغش؟ الخداع؟ هل يبقى من يجوع وإخوانه شباع؟ ومن يعرى وإخوانه مكسوون؟ والله! ما يكون.ومع هذا هل أفقنا؟ هل استجبنا؟ لا شيء، فلا إله إلا الله!وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-11, 06:22 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (128)
الحلقة (135)



تفسير سورة البقرة (93)

يشرع للحاج إذا قضى مناسكه من يوم النحر أن يكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى، وأن يسأل الله عز وجل من خير الدنيا والآخرة، ولا يكون كالجاهلين الذين كانوا يذكرون مفاخر آبائهم، وإذا سألوا الله عز وجل فإنهم يسألونه من خير الدنيا ومصالحها ولا يسألونه من أمور الآخرة شيئاً، فأولئك ليس لهم إلا ما سألوا، وأما أهل الإيمان الموحدون فإن الله يعطيهم من خير الدنيا فضلاً عما يدخره لهم من خير الآخرة ونعيمها.

تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )، فلنحمد الله على هذا الإنعام وهذا الإفضال. وها نحن مع هذه الآيات المباركات، فاسمعوها وتأملوها قبل أن نأخذ في تدريسها وشرحها وبيان معانيها.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:200-203].هذا كلام من؟ كلام الله، فالحمد لله أن عرفنا الله وعرفنا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل علينا كتابه، فأصبحنا نتلو كلامه، ونسمع كلامه تعالى، وما رأيناه لضعفنا وقصور طاقتنا عن رؤية ربنا، إذ لو كشف الحجاب عن وجهه لاحترق الكون، ولكن الحمد لله فهذا كلامه نتلوه، ونتدبره، ونعمل بهداية الله فيه، فأية نعمة أعظم من هذه النعمة؟! والله! لا توجد، وفي الشرق والغرب ملايين البشر لا يعرفون الله عز وجل، ولا يسمعون به، ولا يعرفون له كلاماً، ولا شرعا، يعيشون كالبهائم، والله! لأشر من البهائم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، من هم شر البرية؟ لا تقل: الحيات والذئاب والثعابين. لا؛ تلك طاهرة، شر البرية من كفروا بربهم، وتنكروا له وأعرضوا عن ذكره، وخرجوا عن طاعته، وعبدوا الشهوات والأهواء والشياطين، ومثلوها في أصنام وتماثيل، أولئك شر الخلق.

أمر المؤمنين بذكر الله تعالى بعد فراغهم من مناسك الحج

فاسمع ما يقول تعالى لنا ونحن حجاج بيته يعلمنا ويرشدنا، يقول: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] أكملتموها، أتممتموها، أحرمتم وطفتم ووقفتم بعرفة، ونزلتم للضيافة الإلهية في منى ثلاثة أيام، للتهيؤ للعودة إلى الديار، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] فماذا تفعلون؟ قال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:200] اذكروا الله بألسنتكم: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الحمد لله، هذا ذكر الله. فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ [البقرة:200] أي: يا من كنتم تجتمعون في منى للمفاخرة والمباهاة وإنشاد الأشعار والتباهي بالقبيلة وزعمائها في عهد الظلام عهد الجاهلية! اذكروا الله كما كنتم تذكرون آباءكم، إذ كانوا كفرة مشركين لا يعرفون الله، فيذكرون آباءهم وأجدادهم: هذا فعل كذا، وهذا فعل كذا. أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200] أي نعم، بل أشد ذكراً؛ لأن ذكر الله يرفعهم، وذكر الآباء والأجداد يهبط بهم، ولكن من باب أنكم كنتم أيام منى تتفاخرون ثلاثة أيام وتذكرون أجدادكم فالآن اذكروا ربكم أشد ذكراً.ومن ثم فطول الليل والنهار ونحن في ذكر الله، لا سيما عند رمي الجمرات: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر سبع مرات، وننزل إلى الثانية مثل ذلك، وإلى الثالثة مثل ذلك، وكلنا ذكر، وإذا صلينا الصلوات الخمس من ظهر يوم العيد إلى عصر اليوم الثالث ونحن في بيوت الله في الشرق في الغرب في كل مكان، ما إن نسلم من الصلاة حتى نقول جهراً: الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ولله الحمد، ثلاث مرات في العالم بأسره. والحمد لله، فهل استجبنا لربنا أم لا؟ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] فماذا تفعلون؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200].

معنى قوله تعالى: (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق)

ثم قال تعالى مزيحاً الستار عن صورة: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [البقرة:200] طيلة ما هو في الحج وهو يسأل الله الزوجة، الولد، البقرة، الشاة، المنصب، الوظيفة، لا يسأل الله سوى هذه والعياذ بالله! هابط لاصق بالأرض، نسي الله والدار الآخرة مرة واحدة، همه حين يرفع كفيه: يا رب! زوجني، يا رب! انصرني على فلان، يا رب! أكثر إبلي وغنمي، وهل هذا موجود؟ والله! إنه لموجود، أيخبر الله تعالى وتشك؟! فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [البقرة:200] ماذا؟ الذي بينت لكم، وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] أي: من نصيب، همه الدنيا، تطلع الشمس أو يطلع النهار وتقبل البشرية على العمل و(95%) لا يسألون الله إلا الدنيا، مع أنها زائلة وفانية ومنتنة وعفنة، كلها بلاء وشر، ومع هذا فكل الطاقات والجهود للدنيا، وعلة هذا الكفر والجهل، الكافرون كافرون، والمؤمنون جهلة ما يعرفون.هذا إخبار العليم الحكيم أم لا؟ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] أبداً، مصيره عالم الشقاء إلى الأبد.

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )

قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] اللهم اجعلنا منهم. والذي يسمع هذه الدعوة في المجلس وما كان يحفظها ولم يحاول أن يحفظها الليلة ويعود بها إلى بيته ويدعو بها؛ بشروه بأنه لا شيء، وأنه ميت، ولا تنزعجوا، فهذا الواقع.كيف بدعوة يعلمها الله أولياءه، ويبشرهم بقبولها وأنت لا تبالي بها؟ تقول: امش إلى المقهى خير لك! ما هذا مقامك.هذه الدعوة هي قوله تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] حتى لو كانت على غير لغتك، فسهل عليك أن تحفظها، ما هي؟ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، لا دعوة أجمع من هذه الدعوة، إذا أعطاك حسنة الدنيا فلا تسأل عن الأبناء والزوجة والإخوان والصلاح والطهر، وإذا أعطاك حسنة الآخرة فالجنة، ووقاك النار وصرفك عنها، فماذا بقي لك؟ وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يدخل الجنة يوم الحشر والحساب رجل قبله قط، أول من يدخل الجنة، لا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى، كان إذا طاف في عُمَره أو في حجه يختم الشوط بهذه الدعوة، يبدأ بالحجر الأسود ويطوف، عندما يقاربه يدعو الله بهذه الدعوة: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] في كل شوط، وهو مبشر بالجنة، هو صاحب المفتاح بإذن الله، ونحن نطوف ولا نذكرها! وَمِنْهُمْ [البقرة:201] اللهم اجعلنا منهم مَنْ يَقُولُ [البقرة:201] في تلك الأيام المشرقة أيام الحج: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

تفسير قوله تعالى: (أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب)

قال تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:202] الأشراف السامون الأعلون، لأنه أشار إليهم بكاف البعد، أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:202] لهم نصيب عظيم مما كسبوا من الصالحات، من الإيمان والعمل الصالح، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:202] يعني: موقفهم في ذلك اليوم الذي طوله خمسون ألف سنة يدخلون الجنة في فترة كما بين الصبح والظهر؛ لأن الله سريع الحساب.

تفسير قوله تعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه)

ثم يقول تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] هذا أمر الله أم لا؟ موجه إلى من؟ إلى كل مؤمن ومؤمنة، حتى ولو لم يكن في الحج، أما قدمنا أن تلك الأيام الثلاثة يذكر الله فيها في العالم بأسره بعد الصلوات الخمس؟ إذا سلمنا من صلاة الصبح نقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ثم نقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، والمسجد كله دوي بهذا في العالم بأسره ثلاثة أيام. وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] من بين العدد؟ الموكل ببيان كلام الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، معدودات عداً، يوم العيد ويومان بعده.

معنى قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم إليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى)

قال تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] بمعنى: تعجل السفر والعودة إلى أهله، أفاض وحلق واستراح، فيجوز له في ثاني يوم أن يرمي الجمرة ويودع، يطوف بالبيت ولا شيء عليه. وَمَنْ تَأَخَّرَ [البقرة:203] إلى اليوم الثالث حتى رمى الجمرات بعد العصر أو بعد الظهر فليودع ويخرج. يقول تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] ما هي هذه الأيام المعدودات؟ أيام التشريق الثلاثة، لم قيل فيها: أيام التشريق؟ لأنا نشرق فيها الغنم نذبحها، فمتى نذبح الذبائح؟ أيام التشريق، وأيام التشريق هي يوم العيد وثلاثة أيام بعده.قال: وَمَنْ تَأَخَّرَ [البقرة:203] ما استعجل فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] فلا إثم على الأول ولا الثاني، مع ملاحظة لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] لا يقل قائل: لقد نفى الله عني الإثم في هذا اليوم، فدعنا نفسق ونفجر! وإنما لمن اتقى الله، فلم يخرج عن طاعته، ولم يفسق عن أمره. فبعض الجهلة يقول: هذا اليوم ما فيه شيء، لا إثم علينا، ويشرب المحرم، أو يأكل الحرام، أو ينهش عرض المؤمن أو يسلب ماله، يقول: هذا اليوم ما فيه إثم! فهل انتبهتم لهذا الاحتراس أم لا؟

سبب الأمر بالتقوى في قوله تعالى: (واتقوا الله)

يقول تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:203] لم يأمر بالتقوى دائماً؟ لن تنتظم حياة البشرية على سطح هذه الأرض إلا على قانون تقوى الله عز وجل، إن اتقوا الله فلا سرقة، ولا خيانة، لا حرب، لا كذب، لا خداع، لا غش، لا باطل، لا ظلم، لا جور، لأن تقوى الله تورث هذا الكمال. وإن فسقوا فما اتقوا الله فيا ويلهم، حياتهم حياة الحيوانات والبهائم يأكل بعضها بعضاً، وهل يذكر السامعون منزلة التقوى؟ إن بها تتحقق ولاية الله للعبد، فالإيمان أولاً، وتقوى الله ثانياً، فأيما بشري على الإطلاق أبيض أو أصفر آمن حق الإيمان واتقى الله فقد أصبح من أولياء الله، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].إذاً: بم تتحقق ولاية الله؟ بالإيمان وتقوى الرحمن، هل يمكن أن يوالي الله عبداً ما آمن به ولا اتقاه؟ والله! ما كان.

سبب سعي العدو لصرف المسلمين عن مدارسة القرآن الكريم

الآن عرفتم أنتم ما لم يعرفه آباؤكم وأجدادكم، قبل هذه الحركة الإصلاحية كنت تدخل إلى القاهرة المعزية أو إلى دمشق أو كراتشي أو إسطنبول عاصمة العالم الإسلامي، تدخل وتلتقي بمواطن فتقول: يا أخي! أنا أتيت زائراً من بلاد بعيدة، فدلني من فضلك على ولي من أولياء هذه البلاد. فوالله! ما يقودك إلا إلى قبر عليه قبة وضريح، ولا يفهم أن في أسطنبول والقاهرة ولياً يمشي في الشارع! فهل فهمتم هذه؟ فالشيخ يحلف على علم، ما نعرف ولياً إلا من عبد فذبحت له الذبائح، وأقسم باسمه، والتف حوله النساء والرجال، وعكفوا عليه وزاروه، هذا هو الولي! ومن يكذب هذا فليرفع رأسه وليراجع التاريخ. وما هو السبب؟ من فعل بنا هذا؟ هل سيدنا علي ؟ هل الإمام مالك ؟ هل الإمام أبو حنيفة ؟ من فعل بنا هذا؟ الثالوث الأسود، ما الثالوث الأسود؟! ذاك المكون من المجوس واليهود والنصارى.لم تكون هذا الثالوث؟ للانتقام، فعرش كسرى أسقطه الإسلام، واليهود حرموا من آمالهم وما كانوا يأملونه، والنصارى غشيهم نور الإسلام، فصاح الرهبان والقسس وقالوا: ما بقي لنا وجود، فهيا نتعاون مع الموتورين، فوجدوا عبد الله بن سبأ الزعيم اليهودي، وفلاناً وفلاناً وكونوا منظمة عالمية لضرب الإسلام.ونجحوا، ومن مظاهر نجاحهم أن القرآن الكريم الذي هو روح ولا حياة بدونه، والله الذي سماه روحاً: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، وما حيي المسلمون في القرون الذهبية -والله- إلا على القرآن؛ لأنه روح، وما كانت تلك الأشعة وذلك الكمال البشري إلا على روح القرآن، فالقرآن روح حييت به هذه الأمة، وخاصة العرب الذين كانوا لاصقين بالأرض لا وجود لهم ولا قيمة. فقالوا: ماذا نصنع بالقرآن؟ لا يمكن أن نأخذه من قلوبهم أبداً، هذا يحفظه النساء والرجال، فما هناك حيلة أبداً إلا أننا نحتال عليهم حتى يتخلوا عنه ويتركوه للموتى، فلا يجتمع اثنان على قراءة آية وتدبرها وفهم مراد الله منها، ونجحوا، فمضت قرون عدة والعالم الإسلامي لا يجتمع فيه الناس على القرآن إلا على الموتى. أيها الأحداث! اسألوا كبار الشيوخ يعلموكم، لا يجتمع اثنان ولا عشرة على تلاوة آية وتدبرها، وفهم مراد الله منها؛ للنهوض والعمل بما فيها أبداً، إذا مررت بحي في طرف وسمعت القرآن يقرأ فاعلم أن ميتاً هنا فقط، فهل نجحوا أم لا؟ نجحوا، وإلا فكيف مزقونا واستبدوا بنا واستعمرونا وجهلونا واستغلونا وأذلونا، كيف ما نجحوا؟ هل سنن الله تتبدل؟ فالروح سلبوها فمتنا.الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول لـابن مسعود : ( اقرأ علي شيئاً من القرآن. فيعجب عبد الله فيقول: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري )، وأنتم أيها الحاضرون هل رأيتم رجلاً قال لأخيه: تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن؟! تحت ظل شجرة، أو جدار أو في المسجد أو في المصنع؟ أبداً! لأننا ورثنا هذه القاعدة: القرآن تفسيره صوابه خطأ، وخطؤه كفر، فحرموا أمة الإسلام من الروح فماتت.فهذه مسألة واضحة أم لا؟ ولأن تتعلم هذا خير لك من خمسين ألف ريال تعود بها إلى بيتك أو إلى بلدك إن كنت ذا روح ترقى إلى السماء.

سبب سعي العدو في حصر الولاية في الموتى

والثانية: لماذا حصروا ولاية الله في الموتى؟ كيف تفسر هذه الظاهرة الاجتماعية السياسية؟ ما هو السر؟ حصروا الولاية في الموتى، أتدرون لماذا؟ أعلمكم بإذن ربي أنهم يريدون أن يستبيحوا فروج نسائنا وأموالنا وأعراضنا ودمائنا؛ لأنهم لا يخافون منا، فما نحن بأولياء! أما الولي فترتعد فرائصهم منه؛ لأن الله تعالى قال: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، حتى إن الرجل إذا فجر لا يمر بقبر الولي، يخاف، وتحلفه بالله فيحلف بالله سبعين مرة، وتقول: احلف بسيدي فلان فما يحلف، يخاف، حتى إن القضاة أصبحوا يحلفون بالأولياء، يقولون: دفاعاً عن حقوق الناس! يقول له: احلف بالله فيحلف سبعين مرة، ويقول: احلف بالسيد فلان فما يحلف، فماذا أصنع أنا القاضي؟ أنا مسئول عن رد الحقوق والمحافظة عليها.إذاً: فلما حصروا الولاية في الموتى فالأحياء ما هم بأولياء، سب، اشتم، مزق، قل، افعل بهم، احتل عليهم، امكر بهم، ولا تخف، فما هم بأولياء، فزال الأمن والطهر والإخاء والمودة والولاء، وأصبح المسلمون كالبهائم يأكل بعضهم بعضاً، إلا من رحم الله؛ لأنك لو عرفت أن هذا ولي فلن تستطيع حتى أن تفتح عينيك فيه، هذا ولي الله، والله يقول:( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فجاءوا فقلبوا الوضع وحصروا الولاية في الأموات، كما حصروا القرآن في الأموات، تمشي إلى الضريح فتجد الناس حوله ليلة الجمعة أو الإثنين وترى البكاء والتمرغ والدعاء والصياح أكثر من الطائفين بالبيت!وكم سنة ونحن نصرخ هذا الصراخ: لقد أسمعت لو ناديت حياًولكن لا حياة لمن تناديما زلنا في اضطرابات وشكوك وأوهام، وبعضنا يقول: هذا الشيخ عميل، هذا كذا، يقولون كلاماً يعجز عنه الشيطان وإن كان هو الذي يمليه، ولا شيء إلا لصرف النفوس عن الهدى؛ ليبقى الضلال والفساد كما هو.وا حر قلباه ممن قلبه شبم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

معاشر المستمعين والمستمعات! إليكم شرح هذه الآيات في الكتاب.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح كلمات: قضيتم: أديتم وفرغتم منها ]، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] كيف قضيناها؟ أديناها وفرغنا منها.[ المناسك ] في قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] واحدها منسك، [ جمع منسك، وهي عبادات الحج المختلفة ] من الإحرام إلى الرمل إلى الطواف، إلى الوقوف بعرفة، إلى المبيت بمزدلفة، هذه كلها مناسك أم لا؟ الواحد منسك، بمعنى: أنه مطهر، يطهر الروح البشرية، كلما تقوم بمنسك تطهر نفسك. [ الخلاق: الحظ والنصيب ]، وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] أي: من نصيب.[ حسنة ] في قوله تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً [البقرة:201] [ الحسنة: كل ما يسر ولا يضر ]، عبارة لطيفة، كل ما يسر ولا يضر؛ فشيء يسر ويضر ما هو بحسنة، بل سيئة، ويوجد ما يضر ولا يسر بالمرة، وهذه أقبح سيئة، فالحسنة [ كل ما يسر ولا يضر من زوجة صالحة وولد صالح ورزق حلال، وحسنة الآخرة: النجاة من النار ودخول الجنان ].[ وَقِنَا [البقرة:201] ] يقال: وقاه يقيه وقاية، والوقاية: ما تقي به نفسك من الشمس أوالحر والبرد، فقنا بمعنى: [ احفظنا ونجنا من عذاب النار ].[ نصيب: حظ وقسط من أعمالهم الصالحة ودعائهم الصالح.الأيام المعدودات: أيام التشريق الثلاثة بعد يوم العيد. تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ [البقرة:203] بمعنى: رمى اليوم الأول والثاني وسافر ]، هذا معنى (تعجل)، ويوم العيد لا يحسب.[ وَمَنْ تَأَخَّرَ [البقرة:203]: رمى للأيام الثلاثة كلها. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] أي: لا ذنب في التعجل ولا في التأخر. لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]: للذي اتقى ربه بعدم ترك واجب أوجبه أو فعل حرام حرمه. (تحشرون): تجمعون للحساب والجزاء يوم القيامة ]. فقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203] من يحشرنا؟ الملائكة، فنحن مشتتون في الأرض، من يحشرنا ويقودنا إلى ساحة فصل القضاء والحكم الإلهي؟ الملائكة: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ:38] وهل هناك من يهرب؟ فهذه المفردات يستعين بها الطالب على الفهم اللغوي.

معنى الآيات

الآن تسمعون الشرح في الآيات، وهذا كتاب (أيسر التفاسير) هو أسهل التفاسير، أقول لكم: درسنا التفاسير وتصفحنا وعرفنا ولا يوجد تفسير بهذا المستوى في السهولة واليسر والبيان أبداً، ولا تقولوا: الشيخ يمدح كتابه، نقول هذا من أجل أن يفهم العالم الإسلامي، أما أنا فماذا أستفيد؟ فأجري عند الله.والله! إن المفروض أن يدرس هذا في كل العالم الإسلامي، إذ لابد من فهم مراد الله من كلامه، فإذا كان هذا التفسير يشرح بسهولة ويبين بيقين وسلامة العقيدة قبل كل شيء، لا خرافة لا ضلالة لا تدجيل لا حكايات لا قصص لا أعاجيب، فلم لا يجتمع عليه المسلمون؟ حين يحيون إن شاء الله سيتم هذا.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ بهذه الآيات الأربع انتهى الكلام على أحكام الحج ]، هذا آخر كلام في الحج في هذه الآيات من سورة البقرة، [ ففي الآية الأولى -وهي رقم مائتين- يرشد تعالى المؤمنين إذا فرغوا من مناسكهم بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الإفاضة واستقروا بمنى للراحة والاستجمام أن يكثروا من ذكر الله تعالى عند رمي الجمرات وعند الخروج من الصلوات ذكراً مبالغاً في الكثرة منه على النحو الذي كانوا في الجاهلية يذكرون فيه مفاخر آبائهم وأحساب أجدادهم. وبين تعالى حالهم، وهي أن منهم من همه الدنيا وهو لا يسأل الله تعالى إلا ما يهمه منها، وهذا كان عليه أكثر الحجاج في الجاهلية، وأن منهم من يسأل الله تعالى خير الدنيا والآخرة وهم المؤمنون الموحدون، فيقول تعالى عنهم: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، وهذا متضمن تعليم المؤمنين وإرشادهم إلى هذا الدعاء الجامع والقصد الصالح النافع، فلله الحمد والمنة. وفي الآية الثانية بعد المائتين يخبر تعالى أن لأهل الدعاء الصالح -وهم المؤمنون الموحدون- لهم نصيب من الأجر على أعمالهم التي كسبوها في الدنيا، وهو تعالى سريع الحساب فيعجل لهم تقديم الثواب وهو الجنة. وفي الآية الثالثة بعد المائتين يأمر تعالى عباده الحجاج المؤمنين بذكره تعالى في أيام التشريق عند رمي الجمار وبعد الصلوات الخمس قائلين: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ثلاث مرات إلى عصر اليوم الثالث في أيام التشريق. ثم أخبرهم الله تعالى بأنه لا حرج على من تعجل السفر إلى أهله بعد رمي اليوم الثاني، كما لا حرج على من تأخر فرمى في اليوم الثالث، فقال تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، فالأمر على التخيير، وقيد نفي الإثم بتقواه عز وجل، فمن ترك واجباً أو فعل محرماً فإن عليه إثم معصيته ولا يطهره منها إلا التوبة، فنفي الإثم مقيد بالتعجل وعدمه فقط ]، أما مع الإثم فما ينفى إلا بالتوبة، [ فكان قوله تعالى: لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] قيداً جميلاً، ولذا أمرهم بتقواه عز وجل ونبههم إلى مصيرهم الحتمي وهو الوقوف بين يديه سبحانه وتعالى، فليستعدوا لذلك اليوم بذكره وشكره والحرص على طاعته ].

هداية الآيات

هذه الآيات بعد تفسيرها نستخرج منها درراً غالية، وهذا مما امتاز به هذا التفسير. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات:أولاً: وجوب الذكر بمنى عند رمي الجمرات؛ إذ يكبر مع كل حصاة قائلاً: الله أكبر.ثانياً: فضيلة الذكر والرغبة فيه لأنه من محاب الله تعالى ]، الله يحب الذكر، وكيف لا وقد أمر به فقال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:203]؟ثالثاً: فضيلة سؤال الله تعالى الخيرين، وعدم الاقتصار على أحدهما، وشره الاقتصار على طلب الدنيا وحدها. رابعاً: فضيلة دعاء (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، فهي جامعة للخيرين معاً؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت يختم بها كل شوط ]، ولا تفهم أن هذا خاص بالطواف، كل يوم ندعو بهذا الدعاء ليلاً ونهاراً. [ خامساً: وجوب المبيت ثلاث ليال بمنى ووجوب رمي الجمرات؛ إذ بها يتأتى ذكر الله في الأيام المعدودات وهي أيام التشريق.سادساً: الرخصة في التعجل لمن رمى اليوم الثاني. سابعاً: الأمر بتقوى الله وذكر الحشر والحساب والجزاء؛ إذ هذا الذكر يساعد على تقوى الله عز وجل ].أنا أقول دائماً: أتحدى أن يستطيع أحد أن يذكر الله بقلبه ولسانه ويمد يده ليسرق؟ هل يذكر الله بقلبه ولسانه وينظر إلى امرأة مرت بين يديه ويتابعها بالنظر؟ والله! ما كان. هل يستطيع أحد أن يذكر الله بلقبه ولسانه ويذبح أخاه؟ مستحيل، فلهذا لا حصانة أكثر من الذكر، ولن يقع في المعاصي والجرائم إلا تارك لذكر الله وناسيه. وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-11, 06:31 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (129)
الحلقة (136)



تفسير سورة البقرة (94)

ضرب الله عز وجل في كتابه الكريم مثلاً لأهل الإيمان الصادق وأهل النفاق، فضرب عز وجل لنبيه وللمؤمنين معه مثلاً لأهل النفاق بالأخنس بن شريق، وأنه يحسن كلامه حتى يعجب المؤمنين ويشهد الله على ذلك الكلام، لكنه إذا فارق مجالس المؤمنين تولى في الأرض بالمعاصي والموبقات والفساد الذي يؤدي لرفع رحمة الله عن العباد والبلاد، أما أهل الإيمان فقد ضرب لهم مثلاً في صهيب الرومي رضوان الله عليه؛ لأنه باع نفسه وماله في الدنيا لله عز وجل، وطلباً لرضوانه تعالى، وهذان المثلان هما لكل مؤمن صادق الإيمان، ولكل منافق مريض القلب والوجدان.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). وها نحن مع هذه الآيات القرآنية الكريمة من سورة البقرة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:204-207].

ذكر من نزلت فيهما الآيات الكريمات

هذه الآيات الأربع نزلت في شخصيتين إحداهما ملعونة وثانيتهما مرحومة، الأولى شخصية الأخنس بن شريق من شياطين المشركين، والثانية في صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه، فهيا نتأمل الكلمات الإلهية كلمة كلمة. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204] من القائل؟ الله، يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن أتباعه صلى الله عليه وسلم يتناولنا الخطاب يتناولنا إذا آمنا حق الإيمان وأسلمنا قلوبنا ووجوهنا لله. ومن الناس شخصية عفنة خبيثة منتنة، لأنه ما بعد الكفر وسخ ولا دنس، فكيف إذا أضيف إليه المكر والتمرد والكذب والنفاق؟ والصيغة صيغة تعجب: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204] إذا تكلم في الدنيا: في الطبخ في التجارة في الحرب تعجب بكلامه لبراعته وطلاقة لسانه، كلامه عجب.

معنى قوله تعالى: (ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام)

وإذا تكلم يشهد الله يقول: الله يشهد أني ما قلت إلا حقاً، يشهد الله أنه كذا وكذا وهو كاذب، وإنما يريد التمويه والتغطية والتضليل. وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204] بارع في الخصومة شديد قوي؛ لأن إبليس يمده بالطاقة. وقوله تعالى: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204] استنبطنا منه أن المؤمن إذا قال: أشهد الله على كذا، الله يشهد أني كذا، الله يعلم؛ فاحذر يا عبد الله أن تكون كاذباً فتقع في هذه الهاوية، فلا تقل: أشهد الله على ما قلت، الله يشهد على ما قلت، الله يعلم أني كذا، ينبغي أن تكون صادقاً وإلا فهي الحالقة، لأن هذا المسلك سلكه الأخنس ، واسمع ما توعده الله. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204] أي: إذا تكلم في أمور الحياة -اللباس الطعام الحكم الدولة- تعجب، بيان وفصاحة، ويؤكد أقواله وآراءه بكلمة: يشهد الله على كذا، أشهد الله، الله يعلم، حتى يموه ويغرق الناس في الأوهام والباطل، والله فضحه شر فضيحة.

تفسير قوله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ...)

وَإِذَا تَوَلَّى [البقرة:205] أو حكم وساد واستولى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة:205] الحرث كل ما يحرث ويزرع من الحبوب والثمار إلى غير ذلك، والنسل كل الحيوانات كالإبل البقر، المهم أنه يدمر الحياة. وأيضاً: وَإِذَا تَوَلَّى [البقرة:205] رجع من مجلسه وانصرف عنه وغاب عن حضرتك أهلك الحرث والنسل، فكيف إذا تولى بمعنى حكم وتسلط؟ يدمر الحياة كلها، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205] ويكرهه، وإذا كره الفساد كره المفسد من باب أولى، إذ هو الذي جر الفساد وأتى به، والفساد في الأرض يكون بالشرك والمعاصي، تتعفن وتصبح بلاء وشراً ولا خير فيها إذا ساد الشرك وعبد غير الله وعصي الله عز وجل بمخالفة أوامره ونواهيه. قرية يدخلها شخص يروج فيها الباطل والمنكر والبدعة والضلالة فإنه يفسدها، قرية يأتي تاجر يبيع فيها أشرطة الدعارة والخلاعة فقد أفسدها، وهكذا لا يتم فساد في الأرض إلا بالشرك والمعاصي، ومن قال: لا؛ فليتفضل ليرينا أرضاً طالحة لم يشرك أهلها ولم يعصوا الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ...)

وقوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ [البقرة:206] يقول له من يعرفه، من ينصح له، من يوجهه من قريب أو زميل أو مسئول: اتق الله يا فلان، لا تقل هذا الكلام، لا تفعل هذا الفعل، فكيف يكون موقفه؟ قال: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [البقرة:206] وتعنتر وتعالى وغضب ورد عليه، أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [البقرة:206] مصحوبة بِالإِثْمِ [البقرة:206] لأنه مريض الباطن ما يطيق ولا يتحمل، أما المؤمن فإذا زلت قدمه، إذا قال كلمة سوء، إذا تحرك حركة يكرهها الله، إذا قال قولاً لا يحبه الله وقيل له: اتق الله، أما تخاف الله؟ فعلى الفور يستغفر الله ويتطامن ويعتذر. أما هذا المريض بالشرك والكفر والفساد في الأرض فإذا قلت: اتق الله تأخذه العزة بطيارة الإثم وتعلو به في مجالات الفساد والدمار، لا يطيق كلمة (اتق الله).فخذ أنت هذا الميزان، إذا لاحظ أخوك خطأً منك وقال: اتق الله يا فلان، كيف تقول هذه الكلمة؟ فانظر إلى حالك: إن اشتد غضبك واحمرت عيناك وصحت فإنك من هذا النوع، وإن أنت قلت: أستغفر الله وأتوب إليه، أستغفر الله وأتوب إليه، علمت أنك من أهل الكمال، هذا ميزان. وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ [البقرة:206] هذا الجزاء يكفيه، أما يكفيه جهنم؟ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206] هي، تمهد له.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد)

وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:207] من هذا؟ هذا صهيب الرومي ، قصة صهيب ستأتي، هذا أسلم في مكة، وكان -كما تعرفون- في جوار أحد أهل مكة؛ لأنه رومي من بلاد الروم، وأسلم، وتاقت نفسه إلى الهجرة وأراد أن يهاجر، فخرج فاعترضته قوات قريش في الطريق: إلى أين؟ قال: إلى محمد؟ قالوا: لن تخرج حتى تدلنا أين وضعت مالك، أما أن تخرج بنفسك ومالك فلا! فأطلعهم على كل دراهمه ودنانيره، وخرج لا يملك شيئاً، وما إن رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقبل بوجهه حتى قال: ( ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى )، باع كل الدنيا من أجل الله، وفيه نزل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي [البقرة:207] أي: يبيع نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:207] أي: طلباً لرضا الله عز وجل، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207]، ما تركه الله، أعزه وأكرمه وأصبح من خيرة الناس في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ). وجرب، فمنذ حوالي ثلاثين سنة لما بدأت فتنة الربا كان البنك الأهلي، وكانوا يعملون سراً، فقد كان الربا ممنوعاً، لكن كانوا يرابون بالحيلة، وانكشفت القضية لنا وكتبنا (رسالة إلى اللاعبين بالنار)، من هم اللاعبون بالنار؟ المرابون، وتململ الناس وانكشفت العورة، كانوا يعملون سراً. وكان أحد الطلبة في الحلقة موظفاً عندهم بأربعمائة ريال، فقال: إذاً: من الآن لن أعود، وانقطع وجاءنا بعد أيام وبشرنا بأنه أعطاه الله أفضل مما ترك، وقلنا: الحمد لله، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ) .

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

الآن أسمعكم الآيات مرة أخرى فتأملوا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204] يعني: إذا قال في شئون الحياة الدنيا، قال: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204] أنه صادق وأنه يحبكم وأنه وأنه، وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204] فتميزت هذه الشخصية بين الناس الآن. وَإِذَا تَوَلَّى [البقرة:205] عن مجلسك وانصرف، أو تولى فحكم وأدار شيئاً سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة:205]، الآن يهلكون النسل، ليس نسل البهائم، يريدون أن يهلكوا نسل البشر، بتحديد الأولاد وتنظيم الولادة وكذا، هذا إهلاك للنسل البشري هو مثل إهلاك النسل الحيواني: الإبل والبقر والغنم، والقرآن عجب، فهذا النوع والله! ليوجد الآن، وهذه الشخصيات بالآلاف، يعجبك قوله في مسائل الدنيا، وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204] أني صادق ومحب لكم وأريد خيركم وكمالكم وسعادتكم، وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى [البقرة:204-205] استقل وأدار فإنه يسعى في الأرض بالفساد لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [البقرة:205-206] لم يقل: أستغفر الله، ولا: أتوب إليه، ولا يندم أبداً، بل يبقى مصمماً، إذاً: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ [البقرة:206-207] يبيعها، باع نفسه لله، يذبح يصلب يقتل يخرج من ماله من بيته من أهله لوجه الله: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:207]، همه وطلبه أن يرضى الله عنه، هذه أسمى غاية وأعلى هدف. وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207] معناه: أن الله لا يضيعه، هل ضيع صهيباً الرومي؟ خرج من مكة ليس معه إلا ثيابه عليه، وترك أمواله كلها في الخزانة أو صندوق ودلهم عليه فأخذوه، فما ضيعه الله عز وجل.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

الآن تسمعون شرح الكلمات لتزدادوا معرفة. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات: يُعْجِبُكَ [البقرة:204]: يروق لك وتستحسنه ]، أعجبني كلامه: راق لي ومشى في جسمي واستحليته واستعذبته. [ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204]: إذا تحدث في أمور الدنيا ]، أما أمور الآخرة فليس لها بأهل ولا يعرف عنها شيئاً؛ لأنه لا يؤمن بما فيها، أما الدنيا فإذا تكلم عن التجارة والصناعة يبدع. [ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204] قوي الخصومة شديدها لذلاقة لسانه ] وانطلاقه، خريج كلية السحر أو كلية الأدب، كلية إبليس، كلية القانون. [ تَوَلَّى [البقرة:205]: رجع وانصرف، أو كانت له ولاية ]، والقرآن حمال الوجوه، هذه كلمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: (القرآن حمال الوجوه)، الآية تحمل وجهين وثلاثة وكلها حق ومراد الله عز وجل؛ لأنه موجز، ولو كانت تفسر الكلمة بما تحمله لأصبح القرآن لا يحفظ أبداً ولا تحمله إلا الإبل أو السفن؛ فلهذا فيه إجمال عجب، وأهل البصيرة والمعرفة والنور يستخرجون من الآية أنواراً،كـعلي بن أبي طالب ، فلهذا قال: (القرآن حمال الوجوه). فانظر إلى قوله تعالى: تَوَلَّى [البقرة:205]، فهو صالح لمعنى: رجع من عندكم، أو تولى ولاية وأصبح يدير بلداً أو قرية أو جماعة. [ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة:205]: الحرث: الزرع مطلقاً ]، النخل يزرع وكل الفواكه والخضار زرع، [ والنسل: الحيوان. أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [البقرة:206]: أخذته الحمية والأنفة بذنوبه، فهو لا يتقي الله. يَشْرِي نَفْسَهُ [البقرة:207]: يبيع نفسه لله تعالى بالجهاد في سبيله بنفسه وماله ]؛ إذ هاجر من مكة إلى المدينة ليجاهد مع رسول الله والمؤمنين.

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيات ]، فهيا مع معنى الآيات نتدبرها مرة ثانية. قال: [ يخبر تعالى رسوله والمؤمنين ]، فيقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ [البقرة:204] يا رسولنا، ويعجبكم أيها المؤمنون من أتباعه صلى الله عليه وسلم إن كنتم على منهجه، [ يخبر تعالى رسوله والمؤمنين عن حال المنافقين والمؤمنين الصادقين ] في شخصية الأخنس وشخصية صهيب، وهو صالح لكل المنافقين ولكل المؤمنين، [ فقال تعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: ومن الناس منافق يحسن القول إذا قال يعجبك قوله لما عليه من طلاوة ورونق، وذلك إذا تكلم في أمور الحياة الدنيا، بخلاف أمور الآخرة فإنه يجهلها وليس له دافع ليقول فيها؛ لأنه كافر ]، ينافق بالإسلام يظهره ويبطن الكفر. [ وعندما يحدث يشهد الله أنه يعتقد ما يقول ]، يقول: أشهد الله أني أحبك يا رسول الله وأني مؤمن من المؤمنين، وهذا النوع موجود أمثاله بالملايين. قال: [ وعندما يحدث يشهد الله أنه يعتقد ما يقول، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم: يعلم الله أني مؤمن وأني أحبك، ويشهد الله أني كذا وكذا، وإذا قام من مجلسك يا رسولنا وانصرف عنك سعى في الأرض، أي: مشى فيها بالفساد ليهلك الحرث والنسل بارتكاب عظائم الجرائم، فيمنع المطر وتيبس المحاصيل الزراعية وتمحل الأرض وتموت البهائم وينقطع النسل، وعمله هذا مبغوض لله تعالى، فلا يحبه ولا يحب فاعله ]. ما معنى هذا الكلام؟ هذه المعاصي والذنوب إذا عمت وانتشرت ورضيها أهلها يعاقبهم الله عز وجل بالقحط والجدب وقلة المطر، فلا محاصيل زراعية، والبهائم تموت نقمة من الله عز وجل، فإذا أخذ الناس يعصون الله ويفجرون ويخرجون عن طاعته وطاعة رسوله يوماً بعد يوم فإنهم يستوجبون نقمة الله، وبذلك يكونون هم الذين أهلكوا الحرث والنسل، هم الذين أفسدوا الوضع بذنوبهم وآثامهم. وإن قلت: الكفار قد لا يمنعهم الله المطر؟ فالجواب: كم مرة منعهم، ففي سنة من السنين أجدبت فرنسا جدباً لا نظير له، والله! اضطروا إلى أن يقولوا للمسلمين: استسقوا لنا ليسقينا الله، واجتمع المسلمون وصلوا في مساجدهم وسقاهم الله. فإقبال الناس على المعاصي متحدين غير مبالين بما أحل الله ولا بما حرم، ويواصلون ذلك يجعلهم يتعرضون لنقمة إلهية، ويصبحون هم الذين أفسدوا في الأرض ودمروها، ولهذا قلنا: الشرك والمعاصي بهما يتم الفساد في البلاد والعباد. قال: [ كما أخبر تعالى أن هذا المنافق إذا أُمر بمعروف أو نهي عن منكر فقيل له: اتق الله لا تفعل كذا، اتق الله اترك كذا؛ تأخذه الأنفة والحمية بسبب ذنوبه التي هو متلبس بها، فلا يتقي الله ولا يتوب إليه، فيكفيه جزاء على نفاقه وشره وفساده جهنم يمتهدها فراشاً له يجلس عليها لا يبرح منها أبداً، ولبئس المهاد جهنم ]، والمهاد: الفراش والمهد للطفل، فجهنم مهاد له يجلس عليها. [ كما يخبر تعالى عن المؤمن الصادق ] هذا صهيب ، وهذه أمثلة فقط، فالأخنس انتهى وصهيب في الملكوت الأعلى، ولكن القرآن الكريم كتاب هداية، فلنحذر أن نسلك سبيل الأخنس أو نتخلى عن سبيل صهيب ، لنتبع سلوك صهيب ونبغض سلوك الأخنس بن شريق ، ولهذا فالقرآن يبقى ما بقيت الحياة ثم يرفعه الله لأن المهمة انتهت؛ إذ لا هداية بدون هذا الكتاب. قال: [ كما يخبر تعالى عن المؤمن الصادق فيقول: من الناس رجل مؤمن صادق الإيمان باع نفسه وماله لله تعالى طلباً لمرضاته والحياة في جواره في الجنة دار السلام ]، وهل بلغكم أن رائداً ارتادها؟ لقد ارتادها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجول في ساحاتها ووطئت أرضها قدماه الشريفتان، وشاهد أنوارها وقصورها وحورها حتى امرأة عمر أيضاً، لما قص الرسول صلى الله عليه وسلم على عمر أنه رأى حوراء فقال: لمن هذه؟ قالوا: هذه لـعمر ، قال: فغضضت بصري وانصرفت، خفت من غيرتك يا عمر ، قال: أعليك أغار يا رسول الله؟إذاً: عمر كان غيوراً، لا يسمح لرجل أن ينظر إلى امرأته، والذين هبطوا يقدمونها: تفضل هذه المدام صافحها، وهبطوا حتى أصبح زوجها يجلس وهي ترقص في الحفل، فأين غيرة عمر ؟ ذهبت.فرسول الله صلى الله عليه وسلم أول رائد للسماوات، أما هؤلاء الرواد فكالذباب حول السماء هذه، فأنى لهم أن يخترقوا سماء واحدة والمسافة سمكها مسافة خمسمائة عام وأنت طائر. حتى كذبة صعود القمر انتهت وانفضحت، والله! ما وضعوا أقدامهم على القمر ولا وصلوا إليه، فالذي كانوا يزعمون صعوده كذبهم قبل أن يموت. قال: [ كما يخبر تعالى عن المؤمن الصادق في إيمانه فيقول: من الناس رجل مؤمن صادق الإيمان باع نفسه وماله لله تعالى طلباً لمرضاته والحياة في جواره في الجنة دار السلام ]، هل بلغكم أن الله تعالى يدعو إلى الجنة؟ في سورة يونس يقول تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25] أن: هلموا عباد الله إلى الجنة، ما وكل بذلك ملكاً، هو بنفسه يدعو إلى دار السلام، وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25] إلى صراط يصل به إلى الجنة، هو يدعو إلى الجنة فكيف نصل؟ لا بد من طريق، ما هذا الطريق؟ والله! إنه الإسلام، الطريق الموصل إلى الجنة والله! إنه للإسلام، ولا طريق آخر. وما دامت القضية عنده أنه يهدي من يشاء فكيف نصنع؟ لقد شرحنا هذا وبيناه، فالذي يشاء الله هدايته هو ذاك الذي يطلب الهداية ويبحث عنها ويرحل من أجلها ويترك طعامه للحصول عليها، هذا الراغب هذا الطالب هو الذي يشاء الله هدايته، أما المتكبر المستنكف الضاحك المستهزئ الساخر بالإيمان والمؤمنين فهذا الذي لا يشاء الله هدايته. لأنك قد تقول: إذاً: ما دامت المشيئة له فما هناك حيلة، لنترك الموضوع له! فلا تفهم هذا الفهم، فقد علمنا أنه من قرع بابه أدخله ومن استنكف وأعرض طرده، من طلب الهداية اهتدى ومن أعرض عنها فلن يهتدي، وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]، أي: الصراط الذي يصل إلى الجنة، فهو تعالى يدعو إلى الجنة، وطريقها هو الإسلام، فمن شرح صدره له وانفتح قلبه ولبى وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ مشى في الطريق، ومن أعرض أو لوى رأسه واستكبر لا يهديه الله. قال: [ فقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207] رحيم بهم، قيل: إن الرجل المنافق الذي تضمنت الحديث عنه الآيات الثلاث هو الأخنس بن شريق ، وإن الرجل المؤمن الذي تضمنت الحديث عنه الآية الرابعة هو صهيب بن سنان الرومي أبو يحيى ]، هذا قول، قد لا يكون الأخنس بن شريق بالضبط ولا صهيباً بالضبط؛ لأن الله ما أخبر عنهما، قال: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:207] رجل في الأول والثاني، فلهذا قلت: (قيل) بصيغة التضعيف، ما فيها الجزم. قال: [ قيل: إن الرجل المنافق الذي تضمنت الحديث عنه الآيات الثلاث هو الأخنس بن شريق ، وإن الرجل المؤمن الذي تضمنت الحديث عنه الآية الرابعة هو صهيب بن سنان الرومي أبو يحيى ؛ إذ المشركون لما علموا به أنه سيهاجر إلى المدينة ليلحق بالرسول وأصحابه قالوا: لن تذهب بنفسك ومالك لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلن نسمح لك بالهجرة إلا إذا أعطيتنا مالك كله، فأعطاهم كل ما يملك وهاجر، فلما وصل المدينة ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ( ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى )] من أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كيف اطلع؟ سبق الوحي، فقال: ( ربح البيع )، وهل صهيب باع؟ أما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي [البقرة:207] بمعنى: يبيع، شرى بمعنى: باع واشترى كذلك، يصح هذا وذاك، إلا أن شراه في البيع واشتراه في الشراء في الغالب، قال له: ( ربح البيع أبا يحيى ) وهنا يؤخذ منه أن الكنية الطيبة محمودة، فإذا رأيت رجلاً يحب الكمال فكنه بأبي جميل. وقد كانت كنية علي بن أبي طالب (أبو تراب)، كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أبو الحسن ، وإنما كناه بذلك لقصة لطيفة ظريفة؛ حيث طلب النبي صلى الله عليه وسلم صهره علياً زوج فاطمة لأمر ما، فقال: أي فاطمة ! أين علي ، أين بعلك؟ قالت: خرج، قد يكون في المسجد، ما هناك إلا المسجد، فـعلي لهمه اضطجع ونام في المسجد لا فراش وطاء، فعلاه التراب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( قم أبا تراب ) ، فكان علي يقول: لا أحب إلي من هذه الكنية أبداً؛ إذ كناني بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا جنرال الرسول صلى الله عليه وسلم ومفتي المدينة والعرب بكلها ينام على الأرض في المسجد! فيا ويلنا: ننام على الأسرة ونجلس على الفرش ونصلي على هذا ولا حمد ولا شكر!فلابد من كلمة (الحمد لله) حارة تخرج من القلب على هذا الإنعام العجب كأننا في الجنة، انظر إلى هذه الكواكب فوق رءوسنا، وهذه الفرش التي تحتنا، هذه المراكب أمامنا نطير بها في السماء، كيف نحمد الله وكيف نشكره إن لم نظل طول يومنا على قول: الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله؟وأكثر من (95%) لا يذكرون النعمة ولا يعرفها أحدهم ولا يقول: الحمد لله، أكل شرب لبس ركب هبط نكح ولا يقول: الحمد لله، أموات وهم لا يشعرون، ما علة هذا؟ الجهل. وقد فاتتني كلمة في درس الصباح؛ حيث كان موضوع الدرس الجهاد: أسباب الجهاد وأركان الجهاد، فقلنا: على المسلمين أن يعدوا العتاد الحربي للجهاد، سواء كانوا دولة واحدة أو متفرقين، هذه فريضة الله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، لكن لا بد أن يكون إعداد العدة والرجال والتدريب من أجل الله ليعبد الله وحده، لا من أجل المال والتراب والطين أبداً، فقط من أجل أن يعبد الله، فأولياؤه يحفظون حتى يعبدوا الله أحراراً، ويدخل الآخرون في رحمة الله تعالى. ثم قلت: لم ما يجتمع المسلمون في هذه الروضة؟ لو جاء الحكام واجتمعوا في روضة الرسول وبايعوا إمامهم وقالوا: أنت إمام المسلمين، وأخذوا الدستور في أيديهم وأخذوا يطبقونه، ونحن مستعدون أن نضع لهم الدستور في أربعين يوماً، ما يحتاجون إلى فلسفة ولا فكر هراء، وتصبح أمة الإسلام أمة واحدة. فقيل: هذا بعيد كالمستحيل، وقد طالبنا به وكتبنا رسالة وبعثناها للملوك والرؤساء منذ ثلاثين سنة فكأنما وزعت على المقابر، وبقي شيء: وهو أن هذا الاجتماع لن يتم -والله- ولن يكون إلا إذا أسلم شعوبهم ومحكوموهم قلوبهم لله تعالى.لن يأتي الحكام ويبايعون إماماً في روضة الرسول عاصمة الإسلام الأولى إلا إذا أسلم شعوبهم قلوبهم ووجوههم لله تعالى، فحينئذ يجدون أنفسهم متهيئين، أما والأمم والشعوب هابطة تعبد الهوى والشهوة لاصقة بالأرض تعبد الضلالة والخرافة، ومن يتكلم في الإسلام يبغض ويكره، فأنى لهم ؟ من سيدفعهم لهذا الاجتماع؟ مستحيل. وهل في الإمكان أن يطهر المسلمون ويصفوا في مدة سنة؟ عدنا إلى بيت القصيد، والله لو آمنوا حق الإيمان واجتمعوا في بيوت ربهم بنسائهم وأطفالهم كل ليلة فقط من المغرب إلى العشاء يدرسون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في أربعة أشهر لمحيت الفوارق، لا وطنية ولا حمية ولا حزبية ولا مذهبية، ولأصبحوا كلمة واحدة بيتاً واحداً، وطهرت بلادهم وصفت وزالت تلك المخاوف، لا فقر لا خبث لا خوف لا هم لا كرب لا حزن؛ لأن الله نفى عن أوليائه ذلك: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، ولتغيرت الحياة، ولله ما هي إلا أيام بعد أن يبايعوا إمام المسلمين وتصبح البلاد الإسلامية كلها ولايات تابعة، ويصبح القانون واحداً، والأمة قلبها واحد لا مذهبية ولا عنصرية ولا طائفية، بل مسلم عنده قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم. والفرص مواتية إلى أبعد حد، أصبح العالم كالبلد الواحد، قبل ثلاثمائة سنة يستحيل هذا، أما الآن ففي يوم واحد نطير في السماء، وكتاب واحد يطبع بملايين النسخ على قدر المسلمين ويوضع في كل مسجد. لقد هممت أن أقولها والآن جاءت الفرصة، يستحيل أن يجتمع حكام المسلمين على الحق والهدى والنور وشعوبهم هابطة لاصقة بالأرض، فإذا قامت الشعوب وقالت: الله ربنا، واستقامت وأخذت بمنهج الله عز وجل ورسوله ففي أربعين يوماً فقط يصبح المسلمون أمرهم واحد وعلى كلمة واحدة. قال: [ والآيات وإن نزلت في شأن الأخنس وصهيب فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فـالأخنس مثل سوء لكل من يتصف بصفاته، وصهيب مثل خير وكمال لكل من يتصف بصفاته ]، اللهم اجعلنا من جماعة صهيب .

هداية الآيات

والآن مع هداية الآيات، هذه الآيات الأربع لها هداية تقودك إلى الجنة. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات:[ أولاً: التحذير من الاغترار بفصاحة وبيان الرجل إذا لم يكن من أهل الإيمان والإخلاص ]، أما إذا كان مؤمناً صادقاً مخلصاً وأوتي فصاحة وبلاغة فهذا خير كثير، لكن الفاسق والكافر والمنافق لا تغتر بفصاحته وبيانه.[ ثانياً: شر الناس من يفسد في الأرض بارتكاب الجرائم مما يسبب فساداً وهلاكاً للناس والمواشي ] أيضاً. [ ثالثاً: قول الرجل: يعلم الله، يشهد الله يعتبر يميناً، فليحذر المؤمن أن يقول ذلك وهو يعلم من نفسه أنه كاذب ]، قلت لكم: هذه احذرها، لا تقل: يعلم الله كذا أو يشهد الله إلا إذا كنت صادقاً؛ لأنها يمين. [ رابعاً: إذا قيل للمؤمن: اتق الله، يجب عليه ألا يغضب أو يكره من أمره بالتقوى، بل عليه أن يعترف بذنبه ويستغفر الله تعالى ويقلع عن المعصية فوراً ]؛ لأنه حي قادر على هذا. [ خامساً: الترغيب في الجهاد بالنفس والمال، وجواز أن يخرج المسلم من كل ماله في سبيل الله تعالى، ولا يعد ذلك إسرافاً ولا تبذيراً؛ إذ الإسراف والتبذير في الإنفاق في المعاصي والذنوب ]، فـصهيب خرج من كل ماله يريد الله والدار الآخرة، هل قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أسرفت وبذرت، ما كان من حقك أن تفعل هكذا، اصبر يا صهيب ولا تعط مالك للكفار؟ ماذا قال؟ قال: ( ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى )، اللهم اجعلنا من جماعة صهيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-15, 06:14 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (130)
الحلقة (137)



تفسير سورة البقرة (95)


ينادي الله عز وجل عباده المؤمنين آمراً إياهم بالدخول في الإسلام دخولاً كلياً شاملاً، بحيث لا يتخيرون من أحكامه وشرائعه ولا يتشهون فيها، فما وافق أهواءهم ومصالحهم قبلوه وعملوا به، وما لم يوافق ردوه أو تركوه وأهملوه، ثم نهاهم سبحانه عن اتباع الشيطان في تحسين القبيح وتزيين المنكر، إذ هو الذي زين لبعض مؤمني أهل الكتاب تعظيم السبت وتحريم أكل لحم الإبل بحجة أن هذا ما كان عليه صلحاء بني إسرائيل، حيث أنساهم أن دين الإسلام جاء مهيمناً على كل ما قبله من أديان.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله القرآن العظيم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم لنا هذا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. وها نحن مع قول ربنا جل ذكره وعظم سلطانه من سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:208-210].هذه الآيات عظيمة الشأن أيها المستمعون والمستمعات، فهيا نكرر قراءتها ونتدبرها. يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:208] لبيك اللهم لبيك، نادانا بعنوان الإيمان لأننا أحياء؛ إذ المؤمنون أحياء والكافرون أموات، فالله لا ينادي الأموات ولكن ينادي الأحياء، الحمد لله أن كنا أهلاً لأن ينادينا الله الذي خلق كل شيء وملك كل شيء وبيده كل شيء، ذاك الذي يحيي ويميت ويعز ويذل ويرفع ويضع ويعطي ويمنع، ذاك الذي أمره أن يقول للشيء إذا أراده: (كن) فيكون. الله الذي خلقنا ووهبنا عقولنا وأوجد الحياة كلها من أجلنا، وأوجد دار السلام لنا وأوجد دار البوار لأعدائنا، هذا الله ينادينا، فكيف حال قلوبنا؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] لا يتخلف منكم أحد، لهذا نادانا، نادانا لأن يأمرنا بأن ندخل في الإسلام نساءً ورجالاً أحرارً وعبيداً، لم؟ إذ لا كمال ولا سعادة إلا بالإسلام. ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا شعب ولا قبيلة، هذا سبيل نجاتكم وسعادتكم، فالحمد لله، فأعظم برحمة ربنا وحلمه! ينادينا ليأمرنا بما يسعدنا وينجينا من الشقاء والخسران الأبدي: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].

ذكر المعنيين في الآية الكريمة وبيان مناسبة نزولها

ومن معاني هذه الكلمة -والقرآن حمال الوجوه كما علمنا عن علي بن أبي طالب -، من معانيها: ادخلوا في الإسلام كلكم لا يتخلف رجل ولا امرأة من الذين آمنوا. والمعنى اللطيف الآخر: طبقوا كل ما يأمر الله به وينهى عنه بفعل المأمور وترك المنهي، ولا ترغبوا عن شيء وتعرضوا عن آخر سواء كان أمراً أو نهياً. ويوضح هذا المعنى أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الحبر اليهودي الإسرائيلي الذي كان أول من أسلم من أهل الكتاب، ما إن دخل الرسول المدينة حتى جاء يمتحنه فطرح عليه ثلاثة أسئلة، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم أن جبريل قد أتاه بها الآن قبل مجيئك إلي، فما إن أجابه على الثلاثة حتى قال: أشهد أنك رسول الله، وكان بحراً في العلم. ومضت أيام وزين له الشيطان أن يعظم السبت كما كان يعظمه في شريعة بني إسرائيل، وقال: وما الفرق؟ تعظيم السبت طاعة لله عز وجل؛ إذ فرض هذا على عباده، فلنضف إلى تعظيم الجمعة تعظيم السبت! وسمع ذلك منه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] لا يبقى شيء من الإسلام خارجاً عنكم أو أنتم خارجون عنه، لا تدخل في الإسلام ببعضه، تدخل في الإسلام وتبقى متعلقاً بتعظيم السبت الذي كان شريعة مضت ونسخها الله عز وجل. كما أن بعضهم أيضاً ممن أسلموا استمروا على عدم أكل لحم الإبل؛ لأنها محرمة على بني إسرائيل في الكتاب، فقالوا: نبقى على تحريمها أيضاً، فلا نأكلها، فكانت هذه الآية رادعة لهم عن هذه الخواطر والهواجس التي يمليها الشيطان، فلا يصح إسلامك يا عبد الله حتى تسلم قلبك ووجهك لله، حتى لا يبقى لك اختيار مع الله. والله عز وجل قد نسخ تلك الشريعة بكاملها فلم تتشبث ببعض ما فيها وإن كنت برغبة صادقة تريد أن تزيد حسناتك وأن يعظم أجرك؟ فكفوا عن ذلك وانتهوا.

معنى قوله تعالى: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208] إذ هو الذي مشى أمامهم ووسوس لهم ومشوا وراءه حتى كاد يرديهم ويهلكهم، حتى كاد يوقعهم في الكفر والعياذ بالله، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208] وعلل ذلك بقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208] . أيعقل أن رجلاً يعرف أن آخر عدو له وفي يده سكين ليذبحه ويمشي وراءه؟ أمعقول هذا؟ مستحيل، عدوك الذي يريد أن يقتلك والخنجر أو السكين في يده أو البندقية ويقول: تعال إلى ما وراء الجبل، فهل هناك عاقل يمشي وراءه؟ فالشيطان عدو الآدميين عداوة أصيلة باقية لا تزول ما بقيت الحياة، لا يريد لهم سعادة ولا كمالاً أبداً، لا يريد لهم إلا الشقاء والخسران في الدنيا والآخرة معاً، فكيف -إذاً- نستجيب لندائه ونمشي وراءه خطوة بخطوة؟! من مشى وراءه فوالله! لن ينتهي به إلا إلى فضيحة وإلى جريمة من جرائم الذنوب، فلهذا جاء نداء آخر لعامة المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21]، فكل فاحشة ارتكبت الشيطان هو الذي دعا إليها، وكل منكر فضيع أو غير فضيع ما فعله الآدمي إلا بدعوة الشيطان له وتحسينه له وتزيينه؛ لأنه عدو هذه مهمته، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208] بين العداوة ظاهرها، ما ارتكبت جريمة على الأرض إلا وهو الداعي إليها والباعث عليها. ما يريد الآدمي أن يكمل ويسعد بحجة أنه شقي بسببه، وذلك يعود إلى أنه لما أمر بالسجود لآدم رفض وتعالى وتكبر فأبلسه الله وطرده، فقال: هذا الذي أبلست بسببه وطردت إلى النار وأبعدت من الجنة؛ إذاً: لأعملن طول حياتي على إفساده وإضلاله. وقد قالها واضحة: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، فانظر إلى عبد الله بن سلام المبشر بالجنة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه ووسوس وقال له: ما هناك شيء، فالسبت عظمه الله في التوراة فلنعظمه أيضاً، وهذا اللحم حرمه الله علينا في التوراة، إذاً: لا نأكله، وليس فيه ضرر، لكن فيه حنين وشوق إلى ما نسخه الله من الشريعة السابقة، وما أراد الله هذا. فكانت هذه الآيات تتناول هذه الحادثة بالذات، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لو أن مؤمناً في بريطانيا أو إيطاليا أو في اليابان أو الصين وقال: أنا سأدخل في الإسلام إلا أنني لا أستطيع ولا أقدر على ترك الخمر، هل يقبل إسلامه؟ ما يقبل، لو قال: أنا أسلم وسأفعل كل شيء إلا أنني ما أصلي صلاة الفجر، فهل يقبل إسلامه؟ وهكذا لو رفض مسألة واحدة من واجبات الإسلام ما صح إسلامه حتى يذعن ظاهراً وباطناً ويقبل ذلك، ونقرأ عليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]. وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208] هذا لفظ أيضاً عام. يا معشر المستمعين والمستمعات! إن الشيطان يحسن لنا القبائح ويزين الفضائح، فلا نستجب له، لنطرده بكلمة (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) لم؟ لأنه عدو لنا بين العداوة ظاهرها أصيل فيها، فكيف نتبعه؟

تفسير قوله تعالى: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم)

ثم قال تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ [البقرة:209]، يقال: زلت قدمه، أي: زلق، يمشي في الماء والطين فزلق وسقط وتكسر، يصاب بانكسار في عظمه. فَإِنْ زَلَلْتُمْ [البقرة:209] أنتم ماشون في الطريق إلى الله على الصراط المستقيم، فمن زل أو سقط فاستحل ما حرم الله أو ترك وهجر ما أوجب الله فهذا الذي زل وسقط. فَإِنْ زَلَلْتُمْ [البقرة:209] بترك فرائض أو بارتكاب محرمات، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:209] التي يحملها القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، فما من حرام إلا وقد جاء في القرآن وبينه الرسول عليه الصلاة والسلام، وما من واجب ولا فريضة إلا جاء في القرآن وبينه الرسول عليه الصلاة والسلام. فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا [البقرة:209] ماذا نعلم؟ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:209] عزيز لا يمانع في شيء أراده أبداً، عزيز غالب قاهر لكل شيء، حتى لا تظنوا أنكم بقبائلكم ورجالكم أو ما أنتم عليه يمكنكم أن تنجوا من نقمة الله، انزعوا هذا من أذهانكم، فإن الله عزيز غالب قاهر. وشيء آخر: أنه حكيم لا ينتقم إلا ممن يستحق النقمة، لا يعذب إلا من استحق العذاب، فلا يخلط ولا يخبط حتى تظن أنه يلتبس عليه الأمر ولا يراك وأنت تستر نفسك بمعصيتك، فهو القوي القادر الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه؛ إذ كل الحياة بين يديه، فهل هذا يُعصى؟ هل يحاول العاقل أن يهرب منه ويمشي وراء عدوه؟ لو كان عاجزاً فقد تقول: لا يستطيع أن ينزل البلاء بأمة كاملة، لو كان غير حكيم فستقول: ممكن أنه بدل أن يضربنا نحن العصاة يضرب آخرين، فلا والله ما كان ولن يكون.

تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ...)

ثم قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ [البقرة:210]، فالكسالى المعرضون البطالون الشهوانيون المتعصبون المتزمتون، هؤلاء الذين استجابوا للشيطان عدوهم وأعرضوا عن ربهم فدخلوا في بعض الإسلام وخرجوا من البعض الآخر، فأحلوا بعضاً وحرموا الآخر، وقاموا ببعض وتركوا البعض، هؤلاء ماذا ينتظرون بعد هذا التهديد والوعيد: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:209] وعرفتم الحلال والحرام والواجب والمطلوب فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:209].إذاً: ما لهم تقاعدوا فما تحركوا، ماذا ينتظرون؟ هذا الوعيد الشديد: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] هل ينظر هؤلاء المعرضون عن الله المتكبرون عن طاعته الخارجون عن نظامه، هؤلاء السائحون بالباطل ماذا ينتظرون بعد هذا التهديد والوعيد؟ لم ما أسلموا ودخلوا في الإسلام بكامله، ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة أيضاً؟ وإذا جاء الله لفصل القضاء هل بقي أمل للآملين؟ واقرءوا من سورة الفجر: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:21-23]، ماذا ينفع؟ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى [الزمر:67-68] مرة أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ [الزمر:68-71]، ثم قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:73]، وانتهت الحياة كلها واستقر أهل النعيم في نعيمهم وأهل الشقاء في شقائهم، إذ لا عالم ثالثاً، عالم علوي هو الجنة دار السلام وعالم سفلي هو النار دار الشقاء والبوار.

استبطاء المسلمين في تحكيم الشريعة والعمل بكامل الإسلام

سبحان الله! هذه الآية استبطأت العرب المسلمين، ماذا ينتظرون إلى الآن إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210]؟ حكموا وسادوا فلم ما يعبدون ربهم؟ لم لا يدخلون في الإسلام بكامله؟ يحلون البعض ويحرمون البعض، يقومون ببعض ويتركون البعض، من خيرهم في هذا؟ من أعطاهم الخيرة؟ لا إله إلا الله! يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الإسلام بكامله، حرموا ما حرم الله وأحلوا ما أحل الله وانهضوا بكل ما أوجب الله وتخلوا واتركوا كل ما نهى الله بكلكم، ليس هناك اختيار لا للفرد ولا للجماعة ولا للأمة، وإلا فالنقمة منتظرة. وقد يقال: كيف تقول للمسلمين هذا، وتقول: النقمة منتظرة؟ والله! إنها لمنتظرة، وهل سبق في تاريخ المسلمين أن أصابهم شيء؟ لما عبدوا سيدي عبد القادر وحجوا القبور وزاروا الأضرحة واستحلوا الحرام، وأصبح الذي لا يزني ليس له قيمة، يقول لصاحبه: أنت ما عندك صديقة؟ فيقول: لا، فيقول له: أنت ميت! وأصبح القرآن يقرءونه على الموتى ولا يجتمع اثنان على تلاوة آية يتدبرانها، وهبطت الأمة، فسلط الله تعالى عليهم الكفرة المشركين، فساموهم الخسف وأذاقوهم مر العذاب، استعمروهم استعبدوهم أذلوهم ترفعوا فوقهم وسادوهم، كيف تم هذا؟ لأنهم ما قبلوا الإسلام بكامله، اختل نظام الإسلام، نظام الإسلام نظام دقيق كالمركبات الكيماوية إذا اختل فيه جزء هبط فلم يفعل شيئاً. عطلوا حدود الله عز وجل وأوقفوها، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وفعلوا ما فعلوا، فضربنا الجبار تلك الضربة، والآن ننتظر متى تنزل النقمة، لم لا تقام الصلاة في العالم الإسلامي بكل دقة ولا يبقى عسكري ولا مدني ولا رجل ولا امرأة لا يشهد صلاة الجماعة إذا دقت الساعة؟ أما خلقنا لهذه؟ لم ما تجبى الزكاة ويعرض عن الضرائب إلا من حاجة؟ لم عطلت الزكاة؟ لم ما هناك من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر؟ يقوم الرجل في المقهى فيكفر حتى تحمر السماء، ولا يجد من يقول: هذا لا يجوز، وامرأة تخرج سافرة عاهرة وليس هناك من يقول: هذا باطل أو منكر، فماذا نقول؟ إعراض كامل. وبعد فماذا يفعل الله بهم؟ يمهلهم على حسب علمه، فإذا دقت الساعة ضربهم، وقد قلت: كان نبينا صلى الله عليه وسلم على ذاك المنبر وقرأ قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] ثم قال: ( إن الله ليملي للظالم حتى أخذه لم يفلته ). أين الأندلس؟ أين الجمهوريات الإسلامية في شرق أوروبا؟ انتقم الله تعالى، فهذه الآية هل درسها المسلمون، هل اجتمع عليها ثلاثة أو أربعة وتفكروا فيها؟ هل درسها مجلس الوزراء وتكلم فيها؟ والله! ما قرءوها ولا يريدون أن يقرءوها. المهم النجاة النجاة، يا عبد الله! اطلب النجاة لنفسك، عجل والتزم بما ألزمك الله به، كف لسانك لا تنطق إلا بما فيه رضا ربك، غض بصرك، طيب طعامك وشرابك وكساءك، ولا تبال بما عليه غيرك من الهابطين، والزم باب الله فإنك لن تذل ولن تخزى، ويجعل الله لك النجاة، أما أن تمشي مع ركب الهالكين فستهلك معهم في أي مكان من العالم. يقول تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] من هؤلاء؟ المتباطئون، ماذا ينتظرون وبعضهم في الإسلام وبعضهم خارج عنه والله تعالى يقول لهم: ادخلوا كلكم كافة، قبل أن يحين الحين وتدق الساعة، هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] إذا جاء الله لفصل القضاء وجاء الملك صفاً صفاً انتهت الحياة، وقضي الأمر وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:210] إليه تعود كل القضايا والشئون.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات: السلم: الإسلام.كافة ] في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]: [ جميعاً، لا يتخلف عن الدخول في الإسلام أحد، ولا يترك من شرائعه ولا من أحكامه شيء ]. أما قلت: إن الآية تحمل وجهين مشرقين أم لا؟ أولاً: لا يتخلف عن الدخول في الإسلام أحد لا أبيض ولا أصفر ولا أسود في العالم البشري.ثانياً: لا يترك من شرائعه ولا من أحكامه شيء، كل أحكام الله يجب أن تطبق وتنفذ، كل شرائعه يجب أن ينهض بها المؤمنون والمؤمنات.[ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208]: مسالكه في الدعوة إلى الباطل وتزيين الشر والقبيح. فَإِنْ زَلَلْتُمْ [البقرة:209]: وقعتم في الزلل، وهو الفسق والمعاصي ]، الفسق عن طاعة الله ورسوله والخروج عنها ومعصية الله ورسوله.[ هَلْ يَنظُرُونَ [البقرة:210]: ما ينظرون، الاستفهام للنفي ] ما ينظرون إلا كذا فقط، إلا ساعة الحساب والجزاء.[ الظلل: جمع ظلة، ما يظلل من سحاب أو شجر ونحوهما.الغمام: السحاب الرقيق الأبيض ]، هذا الذي يتجلى فيه الله عز وجل.

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيتين الكريمتين:نادى الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين ] فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:208]، [ ناداهم آمراً إياهم بالدخول في الإسلام دخولاً شمولياً ] ما يبقى جزء لا من الناس ولا من الشريعة، [ بحيث لا يتخيرون بين شرائعه وأحكامه، ما وافق مصالحهم وأهواءهم قبلوه وعملوا به، وما لم يوافق ردوه أو تركوه وأهملوه، وإنما عليهم أن يقبلوا شرائع الإسلام وأحكامه كافة، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان في تحسين القبيح وتزيين المنكر، إذ هو الذي زين لبعض مؤمني أهل الكتاب تعظيم السبت وتحريم أكل الإبل بحجة أن هذا من دين الله الذي كان عليه صلحاء بني إسرائيل، فنزلت هذه الآية فيهم تأمرهم وتأمر سائر المؤمنين بقبول كافة شرائع الإسلام وأحكامه، وتحذرهم من عاقبة اتباع الشيطان فإنها الهلاك التام، وهو ما يريده الشيطان بحكم عداوته للإنسان. هذا ما تضمنته الآية الثامنة بعد المائتين.أما الآية الثانية -وهي التاسعة بعد المائتين- فقد تضمنت أعظم تهديد وأشد وعيد لمن أزله الشيطان فقبل بعض شرائع الإسلام ولم يقبل البعض الآخر، وقد عرف أن الإسلام حق وشرائعه حق ]، وفي العالم الإسلامي من يصلي ومنهم من لا يصلي، منهم من يزكي ومنهم من لا يزكي، امرأة محجوبة متحجبة وأخرى سافرة، الربا مباح، البنوك نتكالب عليها، بيوت المؤمنين من صلاة العشاء تغني فيها العواهر ويزغردن ويرقصن، وفيها صور الفساق والفجار والكفار يتبجحون بالكلام وأهل البيت ينظرون، هل كفروا بعد إيمانهم؟ آلله أذن لهم في هذا؟ هذا هو الإسلام؟ ولولا حلم الله وإنظاره وإمهاله لكانت هذه موجبة لنقمة الله منا، بيوتنا شأنها شأن بيوت الرب لا تسمع فيها لغواً ولا باطلاً ولا كلمة سوء، ولا ترى فيها منظراً يسيء بحال من الأحوال؛ لأن المؤمنون أولياء الله، كيف تصبح كبيوت اليهود والنصارى وأخبث؟ أين يذهب بعقولنا؟ يا شيخ! لا تلمنا لأننا ما علمنا! أي نعم ما علموا، والله! ما علموا، ومن علمهم؟إذاً: الطريق هو أن نعلم أم لا؟ والله الذي لا إله غيره! لا طريق إلى إقامتنا واستقامتنا وتحقيق ولاية ربنا إلا بالعودة إلى الكتاب والحكمة في بيوت الرب تعالى، وأعطوني وزراء الإعلام ووزراء التعليم ووزراء الدولة فإن غلبوني فاذبحوني، والله لا سبيل إلى النجاة مما يتوقع في يوم ما من الخراب والدمار إلا بالعودة إلى بيوت الله عز وجل، ففي الساعة السادسة مساءً يقف دولاب العمل، لا مقهى ولا متجر ولا مصنع ولا مزرعة ولا ملهى، ونحمل نساءنا وأطفالنا وقد تطهرنا وتطيبنا إلى بيوت ربنا، ما هي بيوت الله؟ المساجد حيث الطهر الكامل، ونصلي المغرب كما صليناه الآن ونجلس كما جلسنا الآن، فالنساء وراء الستارة والفحول أمامهن، وليلة آية وأخرى حديثاً، ندرس كتاب الله وسنة رسول الله، فلا نزال نسمو ونعلو ونرتفع، والعلم نور وهداية، فنطهر، فلا غش ولا خداع ولا كذب ولا شح ولا باطل ولا إسراف ولا ترف ولا كسل ولا قعود عن العمل، وبعد سنة واحدة يصير أهل القرية كأنهم أسرة واحدة من أسر الصحابة رضوان الله عليهم. ومن غير هذا فوالله الذي لا إله غيره! لا يتحقق الكمال، وجربنا، أما عندكم مدارس وكليات وجامعات، أين آثارها؟ أين هي؟ السرقة والتلصص والإجرام والخيانة والكذب وشهادة الزور والربا؛ لأننا ما علمنا، ما عرفنا، أعرضنا فأعرض الله عنا.وعندنا بشرى قد يفرح بها بعض المؤمنين، وهي: أننا -كما علمتم- لسنة كاملة وزيادة ونحن نصرخ هذا الصراخ ونبكي هذا البكاء ونقول: هيا بنا نعود إلى ربنا ليرحمنا، فقط من المغرب إلى العشاء، المصانع تشتغل والمدارس وكل الأعمال طول النهار، وفيما بين المغرب والعشاء فقط نأتي بيت ربنا بأطفالنا ونسائنا ونبكي بين يديه ساعة وندعوه ونستمطر رحماته ونطلب ألطافه وإحسانه، ونخرج شباعاً مستنيري القلوب والبصائر، وهذا كل ليلة، فلا تمضي سنة إلا ونحن علماء، ليلة نحفظ آية ونفهم معناها وغداً نطبقها على الفور ونعمل بها، وفي الليلة بعدها حديث من أحاديث الرسول الشارحة للقرآن المفسرة المبينة له، يحفظ الحديث ويعمل به، وبعد سنة أو سنتين كيف تكون تلك الأمة؟ كأنهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، لا غيبة، لا نميمة، لا كبر، لا غش، لا خداع، لا شح، لا بخل، لا كبر، كل مظاهر السوء والباطل تنتهي؛ لأنها سنة الله في خلقه.وندلل على هذا ونقول: هيا يا علماء الفلسفة والنفس، فعندنا شيء واقع: أعلمنا بالله وأعرفنا به وبمحابه أتقانا لله عز وجل، في أي بقعة، هل هناك من يرد هذا؟ أعرفنا بالله أتقانا لله، أقلنا سوءاً وباطلاً ومنكراً، وأجهلنا أكثرنا ضلالاً وظلماً وشراً وفساداً، أمر واضح كالشمس، فمن يرده؟ ثم أكبر برهان أن القرون الذهبية الثلاثة لما كانت الأمة فيها مقبلة على الكتاب والسنة لا تعرف غيرهما أين وصلت؟ والله! ما عرفت الدنيا لهم نظيراً ولا مثيلاً.ثانياً: لما هجرنا الكتاب والسنة وأحيل القرآن إلى الموتى وتركت السنة وأهملت أين وصلنا؟ إلى الحضيض. وهل تطالب بدليل وبرهان؟ تفضل امش إلى قرية واجمع نساءها وأطفالها وعلمهم ليلة آية وليلة حديثاً وانظر العاقبة كيف تتم؟ ففي سنة واحدة فقط نسبة الفساد تقل أكثر من خمسة وتسعين في المائة. وهذه البشرى أزفها إليكم؛ حيث وردنا اليوم كتاب يقول صاحبه: حضرنا دروسكم في المسجد النبوي وقرأنا معكم كتاب (المسجد وبيت المسلم)، وقد حملنا الفكرة كما هي في قرية في مدينة صحراء الديار الجزائرية البعيدة، يقول: نحن الآن إذا جاء المغرب لن تجد رجلاً ولا ولداً ولا امرأة في الشارع، كلهم في المسجد، ونقرأ ليلة آية وليلة حديثاً كما في الكتاب، وضاق المسجد بنا ما اتسع لنا فوسعناه فاتسع. هذه ظاهرة ككوكب لاح في سماء المسلمين، فلو عمل العلماء وأخذوا بهذه لانتشر هذا النور في الشرق والغرب، ولكن ما وفقوا. قال: [ أما الآية الثانية -وهي التاسعة بعد المائتين- فقد تضمنت أعظم تهديد وأشد وعيد لمن أزله الشيطان فقبل بعض شرائع الإسلام ولم يقبل البعض الآخر، وقد عرف أن الإسلام حق وشرائعه حق، فقال تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:209] يحملها كتاب الله القرآن الكريم ويبينها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله سينتقم منكم؛ لأنه تعالى غالب على أمره، حكيم في تدبيره وإنجاز وعده ووعيده. وأما الآية الثالثة فقد تضمنت حث المتباطئين على الدخول في الإسلام؛ إذ لا عذر لهم في ذلك حيث قامت الحجة وظهرت ولاحت المحجة ] أي: الطريق، [ فقال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ [البقرة:210] أي: ما ينظرون إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] وعند ذلك يؤمنون، ومثل هذا الإيمان الاضطراري لا ينفع حيث يكون العذاب لزاماً بقضاء الله العادل، قال تعالى: وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة:210] أي: إذا جاء الله تعالى لفصل القضاء وانتهى الأمر إليه فحكم وانتهى كل شيء، فعلى أولئك المتباطئين المترددين في الدخول في الإسلام المعبر عنه بالسلم -لأن الدخول فيه حقاً سلم، والخروج منه أو عدم الدخول فيه حقاً حرب ] والعياذ بالله عليهم [ أن يدخلوا في الإسلام، ألا إلى الإسلام يا عباد الله ] عجلوا، أسلموا قلوبكم ووجوهكم لله، إذا أحل شيئاً فأحلوه، وإذا حرم شيئاً فحرموه حتى النظرة والكلمة، وإذا أوجب واجباً فقوموا به، وإذا نهى عن شيء فاتركوه، هذا هو الإسلام؟

هداية الآيات

هاتان الآيتان تضمنتا خمس هدايات. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات:أولاً: وجوب قبول شرائع الإسلام كافة وحرمة التخير فيها.ثانياً: ما من مستحل حراماً أو تارك واجباً إلا وهو متبع للشيطان في ذلك.ثالثاً: وجوب توقع العقوبة عند ظهور المعاصي العظام؛ لئلا يكون أمناً من مكر الله.رابعاً: إثبات صفة المجيء للرب تعالى لفصل القضاء يوم القيامة.خامساً: حرمة التسويف والمماطلة ] والتراخي [ في التوبة ].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-15, 06:19 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (131)
الحلقة (138)



تفسير سورة البقرة (96)

لقد أخبر الله عز وجل عن بني إسرائيل وبين حالهم مع أنبيائهم ومع رسالات ربهم، حيث إنه لم يرسل الله إلى أحد من خلقه من الرسل بقدر ما أرسل إلى بني إسرائيل، لكنهم لفرط طغيانهم وتمردهم كذبوا كل رسول جاءهم، وطلبوا الآيات المعجزات الدالة على صدق الرسالة، ومع ذلك لم يؤمنوا ولم تخبت قلوبهم لربهم، وإنما أمعنوا في الضلال فكذبوا المرسلين حتى إنهم قتلوا فريقاً منهم، فاستحقوا بذلك غضب الله وأليم عقابه.

تفسير قوله تعالى: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل وكلنا أمل ورجاء في أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).ولا ننس تلك البشرى أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).وها نحن مع قول ربنا جل ذكره وعظم سلطانه من سورة البقرة: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:211-212].هاتان الآيتان نوران وكوكبان، من يهتدي بهما وعليهما؟معاشر المستمعين والمستمعات! يا من يتدارسون كتاب الله! قوله تعالى: سَلْ [البقرة:211] هذه بمعنى: اسأل، فحذفت الهمزتان للتخفيف؛ لأن هذا القرآن يحفظ عن ظهر قلب، فمن هنا يسره الله وسهله، وقد أخبر بذلك في غير آية: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، ففرق بين: (اسأل) و(سل).

ذكر بعض خبر إبراهيم عليه السلام الذي انحدر من نسله بنو إسرائيل

يقول تعالى: سَلْ [البقرة:211] من المأمور بأن يسأل؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هم بنو إسرائيل؟ إنهم ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ويعقوب هو الملقب بإسرائيل، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، أولاد يعقوب انتشروا وتكونت منهم أمة بني إسرائيل إلى الآن. وهل تعرفون عن إسحاق ويعقوب شيئاً؟لما هاجر إبراهيم من أرض بابل من دياره وديار آبائه وأجداده، فكانت هجرته أول هجرة في التاريخ البشري، هاجر لأنه دعا إلى الله في أمة تعبد الأوثان والأصنام، فلم يجد من يصغي إليه أو يسمع أو يستجيب، ووقف والده آزر في حلقه وشدد عليه، وأصدرت الحكومة حكمها بالإعدام عليه وبأبشع صورة في قتل الآدمي؛ إذ حكموا بإحراقه بالنار، وقد علمنا أنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، ولكنه الظلم البشري، وشاء الله أن يريهم آية من آياته ومعجزة من معجزاته الخارقة للعادات، أججوا النيران وأوقدوها وأسهم كل واحد بحزمة حطب، والحيوانات ما أسهمت في هذه النار إلا الوزغ، فالوزغة كانت تنفخ بفمها لتؤجج النار، ولهذا سن النبي صلى الله عليه وسلم قتلها في البيوت في المدينة، وكانت لأمنا عائشة الصديقة جريدة من جريد النخل في حجرتها، فكلما رأتها قتلتها.لما أرادوا أن يلقوه في ذلك الأتون من النار ما استطاعوا أن يقتربوا من النار، فكيف يصلون بإبراهيم إلى تلك النار الملتهبة كأعظم تنور في التاريخ؟ فما كان منهم إلا أن أرشدهم الشيطان بواسطة أوليائه بأن يصنعوا منجنيقاً أو ما يسمى بالمقلاع، وهو موجود عندنا كنا نرمي به الحجارة، فصنعوا المقلاع ووضعوا فيه إبراهيم ودفعوه؛ لأن الطير ما كان يمر فوقها، كان يحترق من النار.لما رموا به عرض له جبريل يمتحنه: يا إبراهيم! هل لك حاجة؟ وهو في أشد الحاجة، فلحظات وستلتهمه النيران، فقال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. هذه قالها إبراهيم وقالها المهاجرون والأنصار في هذه الدار بعدما تمت هزيمتهم في أحد، سبحان الله! هل هزموا وهم الأنصار والمهاجرون؟ إي ورب الكعبة، لم؟ لتأديبهم وتربيتهم، لأنهم مهيئون لأن يضيئوا الدنيا بنور الله، فلو سامحهم وعفا عنهم وقد خالفوا نظام الحرب والقتال لقالوا: من الآن لا خوف علينا ولا حزن، نفعل ما نشاء، نحن أولياء الله! وقد ذكرت لكم رؤيا رآها الشيخ محمد عبده أو تلميذه رشيد رضا، ذكرت في تفسير المنار لهما قالا: تكلمنا في هذه القضية ونمنا، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته قادماً من أحد وهو يقول: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة. ليوافق ربه عز جل؛ لأن الرماة -وكانوا خمسين رامياً- أجلسهم القائد صلى الله عليه وسلم في مركز وألزمهم بالثبات ألا يتحركوا حتى ولو تتخطفهم الطير، ولكن العدو إبليس لما انهزم المشركون وجرى وراءهم أبطال الإيمان يسلبون ويأخذون الغنائم قال لهم: الآن ما بقي حاجة إلى البقاء في هذا المركز، الهزيمة تمت للمشركين، فنزلوا إلا قائدهم ونفر، قال: أمرنا رسول الله أن نثبت فلنثبت. ما إن نزلوا من الجبيل الموجود إلى الآن حتى جاءت خيل المشركين يقودها خالد بن الوليد ، فاستحلوا المركز وأرسلوا عليهم نبالهم وسهامهم، فوقعوا بين فكي المقراض، فكانت هزيمة، يكفي أن تكسر رباعية الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، وأن يشج وجهه وتسيل دماؤه، يكفي أن يستشهد عمه حمزة بن عبد المطلب ومعه سبعون مؤمناً، لمخالفة لا نعدها نحن مخالفة أبداً ولا معصية، ونريد أن نعيش على طول الخط مخالفين لرسول الله وفي كل شيء وننتصر ونعتز ونسود، والله! ما كان ولن يكون.ثم إن أبا سفيان لما انتصر وعاد بجيشه وتجاوز الروحاء فكر في العودة لاستئصال البقية الباقية، قالوا: ما حققنا الهدف الحقيقي، هيا نرجع. فبلغ رسول الله وأصحابه أن أبا سفيان يريد الكر عليهم من جديد، فقالوا قولة إبراهيم: حسبنا الله ونعم الوكيل. وسجلها الله في كتابه العزيز، واقرءوا: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:171-173]، والله! لقد خرج الرجل يحمل أخاه جريحاً كسيراً ليشهد المعركة من جديد، ما هي إلا ليلة واحدة وحمل المؤمنون أنفسهم وخرجوا لقتال جيش أبي سفيان ، ولكن الله صرف أبا سفيان وأبعده، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:174].فإبراهيم عليه السلام قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنجاه الله، إذ قال الله تعالى للنار المتأججة الملتهبة التي جمع لها الحطب أكثر من أربعين يوماً وهي تشتعل، صدر أمر الله تعالى إليها وهو قوله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، وهل النار تعقل؟ أيكلمها خالقها ولا تعقل ولا تفهم؟ ما الفرق بينك وبينها؟ ما الفرق بينك وبين السحاب والرياح؟ الكل مخلوق فقط. يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] لولا قوله تعالى: وَسَلامًا [الأنبياء:69] لمات إبراهيم من شدة البرد، لكن قال تعالى: وَسَلامًا [الأنبياء:69] فسلم، والله! ما احترق من الخليل إلى كتافه الذي يشد به يداه ورجلاه فقط، وخرج وجبينه يتفصد عرقاً، ومن ثَمَّ هاجر، فلا ضرورة تستدعي بقاءه هنا، فمن خرج معه؟ زوجه بنت عمه سارة وابن أخيه لوط عليه السلام، هذه هي حصيلة دعوة إبراهيم كذا سنة من السنين، فخرج، وتجول في أرض الشام إلى أن انتهى إلى مصر كما تعلمون.

البشارة بإسحاق الذي كان من ذريته بنو إسرائيل

وخلاصة القول في إسحاق: أنه لما أرسل الله تعالى لوطاً إلى سدوم عمورة، مدن كبيرة هي الآن تسمى بالبحر الميت، حتى الحوت لا يوجد فيه، لأنه منتن، إذ قلب جبريل تلك المدن عاليها سافلها.إذاً: لما أرسل الله تعالى لوطاً إلى تلك الأمة العاتية الطاغية المتحضرة المتمدنة التي استزلها الشيطان وأسقطها إلى حضيض الوسخ، وأراد الله عز وجل إهلاكها؛ لأنها بدلت نعمة الله كفراً؛ كان إبراهيم عليه السلام في أرض فلسطين، وإذا بوفد من ثلاثة رجال من خيار الرجال وأحسنهم، إنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، نزلوا عليهم ضيوفاً فأهل وسهل ورحب، وفجأة مال إلى وراء بيته وجاء بعجل ذبيح سمين وقربه إليهم، فلهذا لقب بأبي الضيفان، وقربه إليهم وقال: ألا تأكلون؟ وهنا لطيفتان كثيراً ما قلناهما: اللطيفة الأولى: أنه قربه إليهم، ما وضعه في الغرفة وقال: تعالوا ليسوقهم كالأغنام، بل أدناه منهم وقربه إليهم.الثانية: ما قال: كلوا كأنه يأمرهم ويتحكم فيهم، بل قال: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] ألا: أداة عرض، أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] قالوا: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه. قال: إذاً: كلوه بحقه. قالوا: وما حقه؟ قال: أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره.يا معشر الآكلين والآكلات والمزدردين والمزدردات للطعام كل يوم! افتتحوه بباسم الله واختموه بحمد الله وإلا فأكلكم باطل وما أكلتم حلالاً، ما حق الطعام؟ البسملة في أوله وحمد الله في آخره، باسم الله وتشرع في الأكل، فإذا ختمت فالحمد لله، هذا هو الثمن، وإلا أكلت ما لا ينبغي لك، ما هو حقك. وهنا نظر جبريل إلى ميكائيل أو مكائيل إلى جبريل وقال: حق للرجل أن يتخذه ربه خليلاً! أي: وجب وثبت للرجل أن يتخذه ربه خليلاً، هل بعد الخلة حب؟ كل أنواع الحب الخلة فوقها؛ لأنها تتخلل شرايين القلب وتملؤه، فمن خليل الرحمن؟ هل جاء بعده لله من خليل؟ أي نعم. رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( لو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ) معناه: أنه اتخذ الله خليلاً. إذاً: وعرف أنهم ملائكة، وكانت البشرى، فقد كانت السيدة سارة هذه زعيمة نساء العالم عليها ألف سلام إلى يوم القيامة، كانت تباشر مع زوجها، ساعدته على تقديم الطعام وهي واقفة، فبشروها بغلام، فصكت وجهها متعجبة: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود:72] فصكت وجهها على عادة ربات الحياء وقالت: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:72-73].قال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] لما قدم تلك الضيافة أكرمه الله: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] هذه البشرى لن يقوى عليها كائن من الخلق، بشروه بإسحاق، فشعرت بالولد في بطنها وقد كانت عقيماً ما تلد وكبرت سنها وإبراهيم تجاوز المائة والعشرين، لكن كونه يحيا إسحاق ويولد له ويسمى بيعقوب هذا هو الذي ذكرنا، هذا يعقوب هو إسرائيل، وإسرائيل كعبد الله، كعبد الرحمن، لأن (إيل) بمعنى: الله.

إعراض بني إسرائيل مع كثرة ما رأوه من الآيات البينات

يقول تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:211] عرفنا من هم بنو إسرائيل؟ أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ولم يقول الله تعالى لمصطفاه: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:211]؟ ليخفف عنه آلامه، ليخفف عنه أتراحه وأحزانه مما يعاني من المشركين والمنافقين واليهود. سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:211] يخبروك كم شاهدوا من آيات وما آمنوا ولا انقادوا ولا أسلموا ولا أطاعوا، أما شاهدوا عصا موسى تتحول إلى ثعبان تلتهم وادياً كاملاً بما فيه؟ أما شاهدوا آية أخرى هي يد موسى يخرجها من جيبه وكأنها فلقة قمر؟ أما شاهدوا البحر كيف ينقسم إلى اثني عشر قسماً وكل قبيل يدخل في قسمه؟ أما شاهدوا في تيههم أنه ينزل اللحم المشوي وأن العسل ينزل من السماء؟ آيات، هل نفعتهم تلك الآيات؟ إذاً: لا تحزن يا رسول الله إذا لم يستجيبوا لك ولم يقبلوا دعوتك، كما أن في الآية أيضاً: تأنيباً وتعنيفاً للذين ما زالوا مصرين على الكفر من اليهود والمشركين. سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [البقرة:211] وهنا (كم) للتكثير، والآيات جمع آية، وهي العلامة الدالة على الشيء، ولكنها هنا خارقة للعادة.مثالها: أنهم لما قتل أحدهم عمه ليرثه ورفعت القضية إلى موسى وما عرفوا من القاتل، وكل ادعى كذا وأخذ القتيل ووضعوه عند باب الآخر، فقال تعالى لهم: اذبحوا بقرة وخذوا قطعة من لحمها واضربوه فإنه يحيا وينطق ويقول: قتلني فلان، والله! لكان ذلك، إذاً: أية آية أعظم من هذه الآية؟ أما كان عيسى ينادي من على النعش وهو محمول إلى المقبرة: يا فلان بن فلان، فيرفع عن نفسه الكفن ويقول: لبيك يا روح الله، يقول: ضعوه، امش إلى أمك!آيات، فهل آمنوا عليها؟ ما آمنوا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان له آية انفلاق القمر وانشقاقه فلقتين، أية آية أعظم من هذه؟ القمر مثل الأرض أو أكبر ينقسم قسمين أمامهم ما بين جبل أبي قبيس ورأوه أمامهم، هل آمنوا؟ آيات الرسول بلغت ألف آية، منها أنه حان الأذان يوماً وأخذ الناس يتوضئون فما وجدوا الماء، إذاً: فجيء بركوة فيها ماء فغمس فيها الرسول أصابعه وإذا بها تفيض بالماء، فتوضأ منها سبعون رجلاً أو ثمانون. وفي الحديبية كان العمار ألفاً وأربعمائة معتمر، عطشوا أيضاً وانقطع الماء وخافوا من العطش والموت، فأتوا بركوة أيضاً فوضع فيها أبو القاسم يده فصارت كعين فوارة، فسقوا وملئوا قربهم وأزودتهم وتوضئوا وشربوا والماء يفور، أية آية أعظم من هذه؟ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [البقرة:211] واضحة كالشمس دالة على وجود الله ووجوب عبادته وحده دون من سواه، وعلى نبوة النبي وصدق دعواه فيما يدعو إليه.
معنى قوله تعالى: (ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب)
قال تعالى: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ [البقرة:211]، اسمع هذا الخبر العظيم: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] ما الذي يحصل؟ الانتقام، التدمير، التخريب، الإذلال، الإهانة، التمزيق؛ لأن الله شديد العقاب، إذا عاقب وأخذ بعد الإثم أو الذنب فعقابه شديد. والآن كيف أمسيتم؟ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ [البقرة:211] ما هي نعمة الله؟ النعم كثيرة لا تحصى، إذ قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، لكن في هذا الموطن بالذات، في هذا الموقف، في هذا السياق الكريم نعمة الله هنا الإسلام وشرائعه، أما قال تعالى من سورة المائدة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]؟ نعمة الله هنا الإسلام وشرائعه، الموصل أهله إلى عز الدنيا وكرامتها، إلى السيادة والريادة والقيادة على الطهر والصفاء، إلى الغنى، وفي الآخرة إلى دخول دار الأبرار الجنة دار السلام، فكيف تبدل نعمة الله؟ اليهود بدلوها بالكفر والشرك، فأصابهم الذل والإهانة آلاف السنين وهم يعيشون في الذل والهون والدون. هنا يجب أن نتدبر، عرفنا قول ربنا: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211] والله! لا نعمة أجل ولا أبرك ولا أطيب ولا أنفع من نعمة الإسلام، الإسلام بشرائعه وقوانينه، إذ هو سبيل السعادة في الدنيا والآخرة.

الاستعمار عقوبة استبدال المسلمين العقيدة بالخرافة

وقد استبدل المسلمون من القرن السابع بالعقيدة الربانية السليمة الصحيحة الخرافات والأوهام والضلالات، إذاً: فعاقبهم الله -كما علمتم- فسلط عليهم الغرب والشرق فأذلوهم، أهانوهم، حكموهم، فعلوا فيهم الأعاجيب، ويكفي أنهم أورثوا فيهم صفات الدون والهون، الآن نحن نصلي المغرب والرجل ببرنيطته -والله- كأنه يهودي مر بين أيدينا، أعوذ بالله! لأن الغرب لما غلب وساد وانتصر وأذلنا وأهاننا أصبحنا نعشق حياته في المأكل، في المشرب، في الملبس، في الفهم، في كل شيء كشأن المغلوب يتأسى بالغالب.

إعراض المسلمين عن إقامة دعائم الإسلام بعد الاستقلال

والآن جاءت محنة جديدة، استقل العالم الإسلامي من أندونيسيا إلى موريتانيا استقلالاً، لا تعترض علي وتقول: ما استقلوا، والله! استقلوا، الآن يديرون أمورهم بأيديهم، وإذا كان هناك خبراء أو كذا من غير المسلمين فهذا لا حرج فيه ولا ضيق، فهم مستقلون، فماذا فعلوا؟ أين تطبيق شريعة السماء في الأرض؟ ابتدئوا بالقواعد الأربع البسيطة التي لا تكلف ديناراً ولا درهماً، وهي دعائم الدولة الإسلامية، وقد تكررت وقرأناها، إلا أن السورة التي فيها هذه الدعائم ما تقرأ على الموتى، فهي طويلة، لو كانت كالكهف أو (يس) لعرفها المسلمون، أنها سورة الحج، فما هذه الدعائم؟ يقول تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] ما معنى: مكناهم، ومكنا لهم؟ أي: حكموا، سادوا. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] ماذا فعلوا؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] ما معنى: أقاموها؟ لم يسمح لمواطن ذكراً أو أنثى، عزيزاً أو ذليلاً، غنياً أو فقيراً أن يؤذن المؤذن وهو في الشارع يلعب أو في دكانه يبيع ويشتري، الكل إلى بيت الرب عز وجل، ومن ضبط وهو لا يصلي فإنه يستتاب ثلاثة فإن تاب وإلا أعدم، إذ خلقنا للصلاة، خلقنا لأي شيء؟ والله! للصلاة، إذ مظاهر العبادة كلها في الصلاة، وإليكم بعض بيانها: المصلي قبل أن يأتي إلى بيت الرب يطهر ثيابه ويغسل بدنه ويزيل الحدث عنه ويمشي إلى بيت الرب، هذا التطهر، هذا الغسل، هذا الوضوء لوجه الله، فهو عبادة، ثم يدخل بيت الرب فيستقبل بيته لا يحرف وجهه لا شرقاً ولا غرباً، ولكن إلى بيت ربه، ويقف بين يديه وقفة الذليل المنكسر ويرفع يديه: الله أكبر، فما يبقى في العالم من هو أكبر من الله يخافه أو يرهبه أو يلتفت إليه أو يفكر في حاله وشأنه.ويقرأ كتاب الله، يتملقه بآياته التي أنزلها، وفجأة ينحني، يركع بين يديه وإن كان فلان بن فلان، ينكسر ويذل ويركع بين يدي الله، ويأخذ في تسبيحه لله: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة أو إحدى وعشرين، ثم يرفع رأسه بين يدي ربه قلاً: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ثم يخر إلى الأرض ساجداً على التراب يعفر أعز عضو في أعضائه وأطهرها وأصفاها وهو الوجه، هل بعد الوجه شيء؟ وضعك قدمك على الأرض غير مهم، ووضع كفيك غير مهم، ووضع ركبتيك غير مهم، لكن وضع وجهك على الأرض، يضع جبهته وأنفه الذي يشمخ به علواً وكبرياء، يذل بين يدي الله ويأخذ في هذه العملية الساعة والساعات، أية عبادة أعظم من هذه؟ فلهذا فالذي لا يصلي كافر لا يدخل الجنة أبداً، وليس من أهل الإيمان ولا الإسلام. إذاً: هذه العبادة التي خلقنا من أجلها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] لا لشيء آخر أبداً، ما هو في حاجة إليهم أبداً، ما خلقهم إلا ليسمع ذكرهم له ويرى شكرهم له عز وجل.وقد عايشنا -والحمد لله- الاستقلالات استقلالاً بعد استقلال، كلما يستقل إقليم نكبر في نادي الترقي: الله أكبر، طلع الإسلام من جديد، وخاصة يوم استقلت إندونيسيا وباكستان، اعتقدنا أن الإسلام طلع كوكبه، والآن سيسود العالم، فكان يستقل الإقليم ويمكنهم من الله، فبدل أن يقيموا الصلاة يقيموا حفلات الرقص وشرب الخمر والصياح، ولا إله إلا الله! كأنهم ما عرفوا الله ولا سمعوا به. وإياكم أن تفهموا أن هذا الشيخ يقول ما لا يعلم أو يكذب عليكم، انزع هذا من ذهنك، لقد أقاموا حفلات استقلال، والله يقول: أقاموا الصلاة. ورحم الله مسعودنا وأخاه، مضيا وسبقانا إلى دار السلام، لما استقلت الجزائر قالا: هيا بنا نمشي نصلي في قباء على أرجلنا شكراً لله تعالى، وفعلا، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا [الحج:41] ماذا؟ الصَّلاةَ [الحج:41]. وأعطوني علماء النفس والاجتماع والسياسة نتكلم معهم دقيقة، والله العظيم! لو أقيمت الصلاة في بلد في إقليم لساده الأمن الذي لو وضعوا أمام كل باب بوليساً بالرشاش ما حققوه، إذا أقيمت الصلاة بالمعنى الذي يقول الله: أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] على علم وبصيرة، ذلك البلد ينتهي منه الخبث، ذاك الخبث الذي لو تبذل الملايين على إزالته ما يزول إلا بإقامة الصلاة، وما ينفق على إبطال المنكر وما لا يتلاءم مع الأمة ودينها لو يبذلون المستحيل فلا يمكن أن يزول، ولكن يزول بإقام الصلاة. ومن قال: برهن يا شيخ ودلل؛ قلنا: هل دولة الرسول وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي كان عندهم بوليس وشرط؟ لا، هل عرفت الدنيا أمناً وطهراً كما عرفته يومئذ؟ الجواب: لا، لأنهم أقاموا الصلاة، كل مؤمن بوليس، هل تعرفون هذا أم لا؟ أيام أحداث جهيمان خاف بعض أهل القرى إذا أردنا أن نتكلم معهم، فقلت لهم: لا تخافوا أبداً، أتدرون من نحن؟ كل واحد منا هو في المباحث وهو بوليس، هل فينا من يرى منكراً ويسكت؟ يرى باطلاً ويشجع عليه؟ يجوز هذا؟ ما هي مهمة البوليس إذاً؟ أهي مقاومة الفساد أم لا؟ فهيا أروني مؤمناً يشاهد منكراً ويرضى وتطمئن نفسه؟ إذ كل مؤمن باستقلاله آمر بالمعروف ناه عن المنكر، هو سيد البوليس في العالم، ولكن أبوا أن يجعلوا للصلاة شأناً، فمن شاء صلى ومن شاء غنَّى. والبرهنة ما سأقول، وقد يقول لكم إبليس: هذا الشيخ يتملق الحكومة السعودية، عميل، ذنب، فلعنة الله على إبليس، والعجب: كيف يقبل العقلاء هذا الكلام؟ هذا الكلام نقوله ونردده ويا ليتنا أسمعناه كل مسلم في الأرض، هذه براهين أنوار الله في كتابه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.

دولة عبد العزيز وتباطؤ الحكام عن ضم الأقاليم المستقلة إليها

لما أقام عبد العزيز باسم الله هذه الدولة فوالله العظيم! لقد ساد هذه البلاد أمن لم تحلم به ولم تره بقعة في العالم، إلا على عهد القرون الذهبية الثلاثة، كان الرجل يمشي من أقصى المملكة إلى أقصاها لا يخاف إلا الله، أبعد هذا يقولون: كيف؟ ما يريدون هذا؟ لأنهم لا يريدون أن تقام الصلاة ويؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هذا الله واضع هذه القواعد: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انتشرت في هذه المملكة انتشاراً عجباً، أريكم منها صوراً وعندي من ينطق.كان رجل الهيئة وهو إمام المسجد يقرأ في صلاة الصبح قائمة: إبراهيم بن عثمان، صالح بن زيد، علي بن فلان، من هو الذي تخلف عن صلاة الصبح؟ فيذهبون إليه، إن كان مريضاً واسوه أو داووه، وإن كان غائباً حرسوا بيته، وإن كان تأخر أدبوه وجروه بعمامته وأدبوه تأديباً كاملاً، فأقيمت الصلاة وجبيت الزكاة، ويجبون ماذا؟ صاع الشعير والعنز، هل هناك غير هذا؟ لا بترول ولا فضة، بل حفنة التمر والشعير والعنز، جبيت الزكاة طاعة لله عز وجل، إذاً: فساد هذه الأرض طهر لم تعرفه إلا أيام الصحابة وأحفادهم وأحفاد أحفاهم، ثلاثة قرون. فلم حين كان يستقل الإقليم من فرنسا أو بريطانيا أو إيطاليا ويمكن الله للعباد البلاد؛ لم لا يأتون عبد العزيز ويقولون: أنت دولتك أول دولة في هذا العهد، أعطنا قضاة يطبقون الشريعة، ونتعاهد معكم؟ وسوف تعرفون هذا يوم القيامة.كان المفروض أنه أول إقليم يستقل -وأظنه سورية من فرنسا- يجب أن يأتي أهله ويضمون سورية إلى السعودية، والله! إنه لواجب، وامتناعهم هو الذي دمرهم وحرمهم الإسلام، لو انضمت سورية وطبق فيها شرع الله فستصبح كالجنة. واستقل الإقليم الآخر فيأتي رجاله: لقد خرجت بريطانيا، فهيا باسم الله تعالى، ابعث والياً وقضاة، وهكذا، فما تمضي ثلاثون سنة أو أربعون إلا وأمة الإسلام دولة واحدة، وشريعة الله تطبق، فلماذا ما فعلنا؟ ما نريد الإسلام ولا شرائعه ولا قواعده ومن ثَمَّ كان البلاء، وأعطانا الله آية عجيبة، فاللهم لك الحمد، الحمد لله، الحمد لله أن أرانا آية من آياته، وهي: أن أوجد تلك الحفنة من اليهود وأذلنا بهم إذلالاً عجباً، لما دخلوا فلسطين وأخرجوا الأردن جمعوا قناصل وسفراء العرب على جدار وبالوا عليهم! فمن أذلنا؟ الله، لا الغرب ولا الشرق ولا أمريكا ولا الهند، هو جل جلاله وعظم سلطانه، هو الذي أرانا آياته ومع هذا أعمينا أنفسنا عنها وأبينا أن ننظر إليها، واستمر العرب والمسلمون على الإلحاد والباطل والزيغ، لا صلاة ولا زكاة ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ولا وتطبيق لشرع الله وهكذا، فهذا كفر أم ماذا؟ ما هذه الآية؟ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211] معناه: سيعاقب أشد العقاب وآلمه في الدنيا وفي الآخرة معاً، فهل فهمتم هذه؟ هل يسمعها العرب والمسلمون؟ هل رجال العلم والصحافة يكتبون؟ لا، أمة ميتة حتى يحييها الله عز وجل، اللهم أحينا يا ربنا، اللهم أحينا يا ربنا، يا من يحيي العظام وهي رميم أحي هذه الأمة بعد موتها يا رب العالمين.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-15, 06:25 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (132)
الحلقة (139)



تفسير سورة البقرة (97)

إن إبليس عليه لعنة الله أخذ عهداً على نفسه أن يضل العباد، فهو يزين للذين كفروا الحياة الدنيا، ويصور لهم متاعها على أنه المتاع الدائم الذي لا يحول ولا يزول، ويزهدهم في الآخرة فلا يريدون سماع خبرها ولا الكلام عنها، فعاقبهم الله عز وجل بأن وكلهم إليها وجعل متاعها هو جل ما يجنون، وهم في الآخرة محرومون مطرودون، ويرفع المؤمنين فوقهم يوم القيامة بما كانوا يسخرون منهم في الدنيا.

تابع تفسير قوله تعالى: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فكيف نظفر بهذا الخير لولا توفيق ربنا وهدايته لنا، حيث جمعنا على كتابه في بيته نتلوه ونتدارسه؟ وها نحن مع هذه الآيات المباركات، وهما آيتان من سورة البقرة انتهى الدرس إليهما.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:211-212].

الأمر بسؤال بني إسرائيل عما جاءهم من الآيات

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من القائل: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:211]؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه، خالق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما، خالقنا ورازقنا، واهبنا عقولنا وطاقاتنا وقدراتنا، هذا الذي يقول لرسوله ومصطفاه: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:211] عرفتم من الآمر؟ الله جل جلاله، الذي اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم وأرسله رسولاً للعالمين. سَلْ [البقرة:211] أي: اسأل، وحذفت الهمزة -كما قدمنا- مع همزة الوصل للتخفيف، لقوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]؛ فإن قولك: (اسأل) فيه صعوبة، أما (سل) فتخفيف من ربكم، سل يا رسولنا، يا مصطفانا، سل بني إسرائيل أهل الكتاب اليهود، أولاد إسرائيل هم أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، إذ يعقوب يكنى بإسرائيل واسمه يعقوب.

بشارة سارة بإسحاق عليه السلام

وتذكرون أن سارة امرأة إبراهيم لما بشرت بالولد مع عقمها وكبر سن زوجها قالت: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود:72]، قالت الملائكة: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:73]. سارة التي هاجرت وفارقت ديارها مع زوجها إبراهيم الخليل عليهم السلام، ولما دقت الساعة لتدمير حواضر ما حلمت الدنيا بمثلها -سدوم وعمورة- جاء الوفد الذي يقوم بهذه المهمة وعلى رأسهم جبريل، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، نزلوا ضيوفاً على إبراهيم، فلما نزلوا عليه ضيوفاً ماذا فعل؟ قال تعالى: فَرَاغَ [الذاريات:26] مال إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ [الذاريات:26-27] هذا الكرم، ولهذا كني إبراهيم بأبي الضيفان على لسان سيد المرسلين، فجاء بعجل حنيذ، مشوي باللهجة اليمنية، وقربه إليهم، ثم ما قال: كلوا، فما ينبغي أن يكون فوقهم، من آدابه السامية الرفيعة أنه قال: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] عرضٌ عرضه لا أمرٌ أمرهم به. فقالوا: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه. قال: كلوه بحقه. قالوا: فما حقه يا إبراهيم؟ قال: أن تسموا الله في أوله وأن تحمدوه في آخره. والحمد لله؛ فنحن نأكل الطعام صباح مساء بحقه، لا نأكل طعاماً ولا نشرب شراباً بدون أن ندفع القيمة، والحمد لله، القيمة أن تقول: باسم الله، فإذا شبعت قل: الحمد لله، فقد أديت الثمن المطلوب. إذاً: فلما قال إبراهيم: كلوه بحقه، وسألوه: ما حقه؟ قال: أن تذكروا اسم الله في أوله وتحمدوه في آخره؛ التفت جبريل إلى ميكائيل وقال: حق للرجل أن يتخذه ربه خليلاً! هو أهلٌ للخلة، حق للرجل أي: ثبت وتعين أن يتخذه ربه خليلاً.إذاً: وعرف أنهم ملائكة، والملائكة لا يأكلون ولا يشربون، فقالوا: جئناك لمهمة، ومع هذا تلطف إبراهيم وقال: إن فيهم لوطاً، قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّه ُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت:32] خبيثة منتنة، وأما لوط وبناته فسوف نستلهم استلال الشعرة من العجين، فقلبت تلك العواصم وانقلب ظاهرها باطنها وباطنها ظاهرها، وتحولت بمرور الأيام إلى بحيرة منتنة تسمى الآن بالبحر الميت، هذا البحر ما يوجد فيه حوت ولا ضفادع.

ذكر بعض الآيات التي أريها بنو إسرائيل

إذاً: سل بني إسرائيل يا رسولنا كم آتيناهم من آية بينة، عشرات ومئات الآيات، وهل آمنوا؟ ما آمنوا؛ إذ من الجائز أن الرسول صلى الله عليه وسلم تتوق نفسه للمعجزات أو يطالبه أصحابه أو بعض الناس، لكن المعجزات لن تكون سبباً للإيمان، فكم من معجزات خارقة للعادة يسخر منها الكافرون ويستهزئون. إذاً: فاصبر يا رسولنا وتحمل واثبت، وسل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة كالشمس دالة على أنه لا إله إلا الله وأن موسى رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسول الله وما آمنوا. ومن أظهر الآيات -كما عرفتم- العصا، عصا موسى كان يرعى بها الغنم فأمره تعالى أن يلقيها فألقاها فإذا هي حية تسعى تهتز كأنها جان، وابتلعت وأدخلت في جوفها ذلك الوادي المليء بالحبال التي يتصورها ويشاهدها المتفرجون أنها حيات وثعابين، فهذه أعظم آية.وانفلاق البحر، ضربه موسى باسم الله فانفلق اثنتي عشر فلقة، كل طائفة أو قبيل من بني إسرائيل تمشي في طريق واحد خاص بها، فهل أسلموا؟ ما أسلموا، إذاً: فاصبر يا رسولنا وتحمل واثبت.

تخويف المسلمين من تبديل نعمة الله تعالى

ثم قال له: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] هذه الآية لو تتلى على العالم الإسلامي في ساعة واحدة ويسمعونها ويرزقهم الله إيماناً لبكوا منها إلى طلوع النهار، ولتابوا إلى ربهم ورجعوا إليه، لما فيها من الوعيد الذي لا يقادر قدره ولا يطاق، حيث قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211]، إذ العقوبة لا تستطيعونها. وَمَنْ يُبَدِّلْ [البقرة:211] (من) من ألفاظ العموم يدخل فيه الواحد والواحدة والاثنان والاثنتان والجماعة والأمة، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] وشاهدها؛ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211]. وإن أردتم صورة فماذا حل باليهود؟ ماذا أصابهم؟ ما عرفت أمة من الأمم الذل والهون والدون والصغار والاحتقار في العالم كما عرف اليهود،كان المسيحي لا يفتح عينيه في اليهودي بغضاً له وكرهاً له، ما ينظر إلى وجهه، وكانوا يقلونهم كالسمك في قدور الزيت بدعوى أنهم قتلوا إلههم، وتشردوا وتمزقوا وسلط الله عليهم البابليين فساموهم الخسف وسلطوا عليهم ما لا يطاق، ثم تجدد لهم العهد من جديد وظهرت دولتهم وسادت لما رجعوا إلى الله، ثم ما إن فسقوا وخرجوا عن طاعة الله ولبس نساؤهم الكعب العالي حتى أخذوا يهبطون، فاستباحوا الخلاعة والدعارة والزنا والربا، فضربهم وسلط عليهم الرومان فساموهم الخسف والعذاب، شتتوهم، مزقوهم، أهانوهم، فشردت جماعات منهم إلى هذه المدينة، وما زالوا في الهون والدون حتى هبط العالم الإسلامي فظهروا.هبط العالم الإسلامي وذهبت منه السيادة والقيادة وإرادة الخير للبشرية، ولصق بالأرض وأخلد إليها، حينئذ ظهر اليهود من جديد، وظهروا بالمكر والخديعة، مكروا فوضعوا المذهب الشيوعي، اجتمعوا عليه وفكروا فيه ونظموه وقعدوه وأصلوه وعرضوه، فاجتاح ذلك المذهب أوروبا السامية العالية، فثلاثة أرباعها أصبحوا لا يؤمنون بالله ولا لقائه، يقولون: لا إله والحياة مادة! ومن ثم استولوا على قلوب أوروبا، ذاك العدو الألد الذي لا يفتح عينيه في اليهود أصبح يركع لليهود وينحني لهم، ووضعوا فتنة الربا والبنوك وساسوها وتحكموا فيها وسادوها، فوضعوا العالم تحت أرجلهم.ولا ينقذ العالم من اليهود إلا المسلمون فقط، وهل نحن أولئك المسلمون؟ لا، فنحن كفرنا بنعمة الله: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211]، فالعقاب لا يقادر قدره ولا يقوم به شيء؛ لأن الله إذا عاقب فهو شديد العقاب، ها هو ذا قد أذلنا وأهاننا وأفقرنا وشتتنا ورمانا في متاهات لما كفرنا نعمة الإسلام، ما اعتززنا بها ولا التففنا حولها، ولا عشقناها ولا قمنا بها ولا دعونا البشرية إليها، بل أصبحنا نجري وراء الكفر ونتمثله ونعمل ما استطعنا على أن نكون مثلهم، أواقع هذا أو لا؟ والله! إنه لواقع، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211].إذاً: من يؤدب اليهود؟ هم المسلمون، والله! إن ساعتهم لآتية، لكن هذا الجيل منا ما هو بأهل لذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم المتكلم بالغيب المخبر عن الله بما يوحيه إليه، وكم من غيب أعلنه وتحقق كما أخبر بلا زيادة ولا نقصان، فاسمعوه يقول: ( لتقاتلن اليهود )، وهذه الكلمة يقولها في أصحابه، وهل بقي يهود يستحقون القتال؟ بنو قينقاع شردوا عن آخرهم، بنو النضير شردوا إلى الشام، أين اليهود؟ ذهبوا إلى الروم ليذلوهم، فكيف يصبحون أمة ويقاتلهم المسلمون؟ ولكن الغيب لله، ( لتقاتلن ) بلام القسم ( اليهود فتقتلونهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود )، تعرفون شجر الغرقد؟كان البقيع كله غرقداً أيام الأمطار، شجر ذو شوك، وفي بلد المغرب موجود عندنا الآن، فلم يقدِّس اليهود هذا الشجر؟ لعلمهم أنهم إذا اختبئوا تحت الشجرة وجاء مسلم يطاردهم لا تعترف الشجرة بأن اليهودي عندها، وسلوا إخوانكم الفلسطينيين عندما يحجون ويعتمرون فسيعطونكم فكرة كاملة عن شجر الغرقد والعناية به كالتفاح والعنب بل أشد، هم به أكثر عناية من التفاح والتمر.إذاً: هل الشجر والحجر يكذب؟ يقول: يا مسلم وما هو بمسلم؟ لا يكذب، فلهذا نحن لسنا بأهل لذلك، ليس معنى هذا أن هذا مستحيل وما يمكن، والله العظيم! لو نسلم لله أربعاً وعشرين ساعة فقط نعلن (لا إله إلا الله) ويصير أمرنا واحداً على شرع الله لمات اليهود من الخوف والفزع، فما الذي يمنعنا من أن نسلم؟ لا شيء.ليجتمع حكامنا في الروضة بالطيارة، الذي في أقصى الشرق وأقصى الغرب تأتي به الطائرة في ست ساعات، ويبايعون خليفة لهم ويأخذون الدستور ويطبقونه، فتقام الصلاة.. تجبى الزكاة.. يؤمر بالمعروف .. ينهى عن المنكر، ينتشر ظل الآداب والأخلاق، وبعد أربعين يوماً وأمة محمد هي الأمة الرائدة القائدة، وتأخذ الدول تسقط، تمد أيديها للإسلام وتعتنقه، وهذا اليوم سيأتي أيضاً، ليأتين يوم لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل في الكرة الأرضية بكاملها، والمقدمات موجودة، فهيا نسلم.

ضرر تبديل العبد نعمة الله تعالى عليه

إذاً: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] ويبددها، أعطاك الله مالاً فأنفقته في الحشيشة، أنفقته في العهر، أنفقته في أكل الحرام، هذا بدل نعمة الله كفراً أم لا؟ ويعاقبه الله، ويذله ويهينه إلا أن يتوب عليه، أعطاك نعمة السمع والبصر والعقل وأنت البشر المسلم؛ إذا لم تشكر الله على هذه النعمة فإن عقاب الله شديد، وهكذا كل ذي نعمة إذا لم يشكر الله تعالى ولم يعترف بها لله خالقها وواهبها؛ هذا الذي كفر نعمة الله وجحدها وغطاها وسترها يتوقع له عذاب شديد لا يطاق، وأبرز نعمة وأظهرها هي الإسلام، هل هناك نعمة أعظم من الإسلام؟ الكفار حيوانات وبهائم إلى جهنم، فما هذه الحياة؟ والمسلمون بحق سادات الكون في هذه الحياة، طهر وصفاء وآداب وأخلاق وعز وكرامة، قل ما شئت من الكمالات، لا خوف ولا حزن ولا هم ولا كرب، إنه الإسلام.ومع الأسف قد بدل المسلمون نعمة الإسلام بالكفر، من إندونيسيا إلى موريتانيا، باستثناء هذه البقعة، لا يلتفتون إلى الشريعة، القوانين الغربية المستوردة المستوحاة درَّسوها ودرَسوها، بعثوا أولادهم فتعلموا في إيطاليا وأوروبا والإسلام مسكوت عنه، ومن تكلم خافوا منه وقالوا: اسكت لا تزعجنا، اعبد الله إن شئت.

الوعيد بالعذاب لمن بدل نعمة الله تعالى

إذاً: صدق الله العظيم: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211]، دول الخليج كانوا شحاتين فقراء لاصقين بالأرض، يصيدون السمك في البحر، لا عنب ولا زرع، فأغدق الله علينا نعمة المال، فهل سنشكر أم لا؟ والله! إننا لتحت النظارة، ومن يعش سيرى ومن يمت سيسمع أيضاً ويبلغه، إما أن يشكروا وإما أن تسلب هذه النعمة، ما لهم ميزة على باقي البشرية أبداً، كلهم عبيد الله، من كفر نعمة الله سلبها منه وإن كان ابن الرسول. وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] ما هذا العذاب؟ ما يقادر قدره فيطاق، يكفي فيه قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211]، والعقاب سمي كذلك لأن الإنسان يؤخذ من عقبه وهو هالك.معاشر المستمعين! من أوتي نعمة فليشكر الله، على الأقل يقول: الحمد لله .. الحمد لله، ربنا لك الحمد، أنعمت وأفضلت وأحسنت، اللهم لك الحمد، فالله يحب هذا، هيا نتملقه، ثلاثة أرباعنا لا يقولون: الحمد لله عند الطعام والشراب ولا اللباس ولا الركوب، كأنهم هم خالقو النعمة وموجدوها، فهذا كفران للنعمة، أينعم الله علينا بهذه النعم ثم ما نذكرها له، ولا نشكره من أجلها، ولا نحاول أن نرد إفضاله بشكر فنصلي بين يديه ركعتين على الأقل شكراً له على نعمته؟آية عجب: وَمَنْ [البقرة:211] من أبيض وأسود، في الأولين وفي الآخرين، في أي جنس، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] وأصبحت بين يديه وأكلها أو شربها، أو لبسها وعمل فيها، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211].هذه الآية الأولى واضحة، فهل استفدنا شيئاً؟ الآن أصبحنا ننظر إلى العالم بين أيدينا، وأنه يتوقع له الإبادة والدمار.

تفسير قوله تعالى: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا ...)

ثم يقول تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [البقرة:212]، من الذي زينها لهم؟ ما قال: زين الشيطان لهم، ولا قال: زينا لهم، قال: (زُيِّن)، من الذي يزين الحياة الدنيا؟ إبليس أبو مرة العدو، يزين للكفار الذين هم كالأموات، الذين يعيشون في الظلماء، الذين فقدوا الحواس وأصبحوا كالبهائم لانقطاع النور عن قلوبهم لكفرهم بالله وكتابه ولقائه، هؤلاء يزين لهم الشيطان الحياة الدنيا، امش إلى إيطاليا.. إلى بلجيكا.. إلى هولندا.. إلى أمريكا.. إلى روسيا، إلى أي بلد كافر وانظر إلى الكفار ماذا يفعلون؟ همه الدنيا، لا هم له سوى أن يأكل ويشرب ويلبس وينكح، لا هم له أبداً إلا كيف يتجمل.. كيف يتحسن.. كيف يحسن لباسه طعامه شرابه منزله فراشه مركوبه، كل طاقاته مسخرة هنا، زينت لهم الحياة الدنيا، فجروا وراءها، يجرون من الساعة السابعة أو الثامنة وهم في العمل النساء والرجال، فإذا انتهى العمل أقبلوا على الأكل والشرب والنكاح واللهو والباطل، وهكذا، من فعل بهم هذا؟ الشيطان؛ لأنهم رضوا به موجهاً وسائساً وقائداً ورائداً، دعاهم فاستجابوا، ناداهم فقالوا: لبيك أبا مرة لبيك، عرض عليهم الإيمان والإسلام وشرائع الله فرفضوها وقبحها لهم الشيطان وحسن لهم الشرك والمعاصي والجرائم.أزيدكم وضوحاً: كل من يأتي كبيرة من كبائر الذنوب فوالله! إن الشيطان هو الذي زين له، وهل الله يزين الفواحش؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، هل الملائكة تحسن اللواط والجرائم؟ والله! ما كان، فهذه الجرائم المنتنة القبيحة من يزينها للناس؟ الشيطان، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [آل عمران:14]، من يزين؟ العدو. ‏

نماذج من إقبال الناس على زينة الدنيا ونسيان الآخرة

يقول تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [البقرة:212] لا يرون الآخرة، ولا يريدون أن يسمعوها، ولا أن يتحدثوا عنها، ويشمئزون، ومن يذكر الآخرة أو ما يتم فيها يقولون: أنت تريد أن تنغص علينا معيشتنا أو حياتنا، اترك الآخرة.لعلكم شاهدتم هذا، إذا جرى حديث عن الآخرة في جماعة من هذا النوع يغضبون، يجتمعون على اللعب: الكيرم.. الدمنو، ويضحكون ويدخنون ويكفرون ويسب بعضهم بعضاً وكأنهم ما عرفوا لا إله إلا الله، والله! لهذا هو الواقع، ويجلس الرجل مع بناته وامرأته وشاشة التلفاز أمامه أو الفيديو، وعاهرة ترقص وتلوح بيديها وبرأسها وثديها بارز والحمرة في وجهها وشفتيها وهم يضحكون، كأنهم أموات لا يشعرون، أما يستحي أحدهم؟ لو كان فيه إيمان لذاب بين يدي الله، هل هذا هو الطريق الموصل إلى الله؟ أليس هذا المميت للقلوب والمهيج للشهوات والنزعات؟ آهٍ! وامصيبتاه.ما هي مصيبتنا يا مسلمون؟ أعرضنا عن ذكر الله، أعرضنا عن القرآن، وأصبحنا لا نجتمع عليه إلا ليلة الموت، من منكم يقول: أنا قلت مرة لأخ لي ونحن في العمل وتعبنا وجلسنا لنستريح تحت ظل شجرة أو كذا: اقرأ علي شيئاً من القرآن أتدبره؟ هل حصل هذا؟ أو جلس ثلاثة يتحدثون عن أمور دنياهم أو ينتظرون الأكل فيقول أحدهم: أي فلان! أسمعنا شيئاً من القرآن؟ هذا ما عرفناه إلا عند باز هذه الأمة، عند الشيخ عبد العزيز بن باز ، إذا جلسوا للأكل ينتظرون يقول: من منكم يسمعنا شيئاً من كلام الله؟ وعرفت مؤمناً وأنا صبي أحفظ القرآن قبل البلوغ يأتي يقول: أبا بكر ! أسمعني شيئاً من القرآن. والله! ليعمل هكذا ويصغي وهو أمي ما يفرق بين الباء والتاء، لكنه تلميذ خريج هذه المدينة، يجيء يقول لي: أسمعني، اقرأ علي. أما غيره في ذلك العالم فما واحد يقول: أسمعني شيئاً من كلام ربي أبداً، كل ما في الأمر إذا مات الميت ادعوا طلبة القرآن فيحضرون، فإن كان غنياً فسبع ليال، وإذا كان فقيراً فثلاث ليال، وعندهم الأربعين أيضاً عند الأغنياء.وفي سورية بالذات عملوا نقابة، فبالتلفون تقول: ألو! نريد عشرة من طلبة القرآن، مات عندنا ميت، فيقول النقيب: من فئة المائة ليرة أو الخمسين؟ فإن كان غنياً فمن فئة مائة، وإذا كان فقيراً فمن فئة خمسين، هذا القرآن من إندونيسيا إلى موريتانيا لا يجتمع عليه اثنان ولا يتدبرون ولا يتفكرون فيما خاطبهم الله به ودعاهم إليه أو نهاهم عنه أبداً، ومن كذبني فليقل لي: هل استعمرت بلاد العالم الإسلامي من قبل الكفار أم لا؟ إذاً: انقطع الكلام، لو كانوا أهل قرآن فهل سيستغلون ويستعمرون؟ معاذ الله.

تولي الشيطان تزيين الحياة الدنيا

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [البقرة:212]، ولم -ونحن مؤمنون- نقبل تزيين الشيطان لنا ونتنافس فيها؟ وأعظم ما حدث عندنا البنوك، كم من بنك في المدينة يرحمكم الله؟ لتكن عشرة، فهل بالمدينة يهود؟ هل هناك يهود ساكنون هنا؟ هل فيها نصارى أو مجوس؟ كلا أبداً، بل مسلمون، إذاً: مسلمون ويقلدون اليهود ويفتحون البنوك، ومن يعمرها؟ أتظن أنه تأتي الأموال من الخارج وتوضع فيها؟ والله! لمن جيوبنا نحن المواطنين؟ من زين هذا لنا؟ الشيطان، والله! إنه للشيطان، ما جاءنا أبداً عالم من علمائنا ولا سيد من ساداتنا وخطب فينا وقال: اسمعوا: ساهموا، فالبنوك ترفع مقاماتكم وتعزكم، هل فعل هذا أحد؟ إذاً: لم نعمرها؟ الشيطان هو الذي زين. وهو الذي زين اللواط وهو أخبث خبث عرفته البشرية، وأصبحت له أندية في العالم، هو الذي يزين هذه الجرائم والموبقات.وقولو صدق الله العظيم: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:212]، ما الذي زين لهم؟ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [البقرة:212]، عشقوها أحبوها جروا وراءها فنسوا الآخرة نسياناً كاملاً، لم يخطر ببالهم شيء اسمه الدار الآخرة، همهم الدنيا والدرهم؛ لأجل الفحش والإقبال على الشهوات، فقولوا: صدق الله العظيم.

معنى قوله تعالى: (ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة)

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:212] يستهزئون، رأيناهم بأعيننا، يسخرون من المؤمنين، يقولون: هؤلاء متأخرون متخلفون، أو رجعيون، أو أصوليون! سخرية كاملة، هذا أصولي، هذا رجعي متخلف، هذا من القرون الوسطى. وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:212] في هذه الدنيا ويستهزئون بهم، ويحتقرونهم ويذلونهم ويهينونهم، يرهبون أصحاب المال والسلطان، أصحاب الدنيا يجرون وراءهم، أما المؤمنون فسخرون منهم، لأنهم فقراء ضعفاء معرضون عن الشهوات والأطماع والأهواء.وأخيرا اسمع خاتم الله: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212] بكم هذه الفوقية تقدرونها؟ كم هي مليون كيلو متر؟ إذا كانت دار السلام الجنة التي ارتادها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بإذن الله وعاش فيها ساعة من الزمن ورأى قصورها وحورها وأنهارها، إذا كانت المسافة إليها سبعة آلاف وخمسمائة عام لو قدر لك أن تعيش سبعة آلاف سنة وخمسمائة عام، فهل هناك من يعيش هذه الفترة؟ مستحيل! ولا عاشها أحد، أطول من عاش عاش ستمائة سنة وسبعمائة وألف سنة، من آدم إلى اليوم، تحتاج إلى سبعة آلاف وخمسمائة عام وأنت طائر حتى تدخل الجنة، والهبوط كذلك: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5] في سجين. إذاً: الذين اتقوا فوق الكافرين يوم القيامة.

حكمة ذكر وصف التقوى في الآية الكريمة

وهنا القرآن كما علمتم -زادكم الله علماً- كتاب هداية، كتاب تربية وإصلاح، كتاب تنمية للمعارف والآداب والأخلاق، فلاحظوا هنا أنه ما قال: والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة، كان المفروض هو هذا، اسمع: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:212] فهل قال: والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة؟ كلا. قال: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا [البقرة:212] آمنا بالله، ما قال: والذين آمنوا، لو أراد مجرد الإيمان لقال: زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا وهم فوقهم يوم القيامة، ولكن الآية: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212]، دعوة إلى التقوى أم لا؟ إي ورب الكعبة، فما التقوى هذه؟ التقوى: أن لا سرقة ولا خيانة ولا غش ولا خداع ولا كبر ولا سخرية ولا استهزاء ولا نفاق ولا كفر، إذا اتقى أهل الإقليم أو البلد أو القرية ربهم سموا وأصبحوا كالملائكة في السماء، بخلاف الإيمان.وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا [البقرة:212] اتقوا ربهم، بم يتقونه وبيديه كل شيء يقول للشيء:كن فيكون؟ كيف يتقى الجبار الذي يكور الليل على النهار والنهار على الليل؟ كيف يتقى يا عباد الله؟الجواب: يتقى بالخوف منه، خوف من شأنه أن يجعلك ما تفكر في معصيته ولا يخطر ببالك الخروج عن طاعته، فهذا الخائف من جلال الله وسلطانه وجبروته أنه يحيي ويميت، هذا الخائف يبحث طول حياته عما يقربه من الله ويدنيه منه، دلوني عما يحب ربي حتى أفعله له، دلوني على ما يكره مولاي حتى أبتعد عنه وأجتنبه، فيطلب محاب الله ويرحل من إقليم إلى إقليم من قرية إلى قرية من بلد إلى بلد يسأل عن محاب الله ليفعلها تقرباً إليه وتزلفاً، وليعلم مساخط الله ومكارهه ليتجنبها، ليرحل من ساحتها، ليبتعد من دورها وأهلها، هذا هو المتقي، فأين يسكن المتقون؟ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [القلم:34].

التقوى وسيلة الولاية

المتقون هم الأطهار الأصفياء اليوم، المتقون هم العلماء العارفون الربانيون اليوم، هيهات هيهات أن يكون جاهل ولياً لله يحبه الله ويحب الله.قد تقول: يا شيخ! بالغت في هذا الكلام! فأقول: عندنا كلمة حفظناها عن أهل العلم، وهي: ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، إذ لا يتخذه ولياً وهو جاهل، الجاهل بما يحب الله وبما يكره يعاكس أمر الله أم لا؟ الله يحب كذا وهو يكرهه، فهل يغضب الله أو لا يغضبه؟ الله يحب الذكر، وهو يحب الأغاني وكلام العاهرات، هل عاكس مراد الله أم لا؟ كيف يكون ولياً؟ فلهذا من شرط الولاية: الموافقة، وهذه كلمة تزن مليارات الدولارات، ما هي ولاية الله؟ الموافقة، وافقه فأنت وليه وهو وليك، وخالفه فوالله! لأنت عدوه، والموافقة فيما يحب، أي: أحبب ما يحب واكره ما يكره فأنت وليه، فإن كنت لا تعرف ما يحب ولا ما يكره فمستحيل أن تكون وليه.وكيف نعرف ما يحب الله وما يكره؟ اسأل أهل القرآن ليعلموك، اقرع أبواب العلماء كل يوم: علموني مسألة يحبها ربي لأحبها من الآن وأحققها له، علموني ما يكره مولاي وسيدي من الكلام أو الأعمال أو الصفات حتى أتجنبها، فلهذا إياك أن تفهم أن جاهلاً يصبح ولي الله، وليس المقصود من العالم أن يقرأ ويكتب، أكثر الصحابة ما كانوا يقرءون ولا يكتبون، فقط سأل أهل العلم وجالسهم ورحل إليهم فتعلم محاب الله وكيف يفعلها، وتعلم مكاره الله وكيف يتجنبها، فأحب ما أحب الله وكره ما كره الله، وقدم المحبوب لله تقرباً وتزلفاً إليه، وابتعد عن المكروه وأبعده، فهو ولي الله، لو رفع كفيه إلى الله ما ردهما صفراً ولا خائبتين.قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212]، وهل يستطيعون أن يشاهدوهم؟ أنت في علياء السماء وعدوك مشرك في قعر الجحيم، فهل ممكن أن تتصل به؟ قبل اليوم كان المسلمون يقولون: آمنا بالله، ما يقولون: مستحيل، أما اليوم فالذي ينكر هذا أحمق ومجنون لا قيمة له، لم؟ أنت الآن تشاهد أمريكا في الشاشة أم لا؟ فحافظوا على البقية الباقية من الإيمان، وإلا فسيأتي يوم قريب ما يقبل فيه الإيمان، ما بقي غيباً أبداً.اسمع هذه الصورة العجيبة ما قال فيها تعالى فيها: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:50]، لما جلسوا على الأرائك والأسرة الحريرية الذهبية في دار السلام إذ الأكل والشرب والنكاح وذكر الله، لا مسحاة ولا آله ولا عمل ولا شغل ولا عرق، عرقك طيب وأطيب من الطيب، لا خرء ولا بول ولا غائط، كله جشاء أطيب من ريح المسك، هذا عالم الخلد ما هو عالم الفناء، اسمع: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:50-51] أيام كنا في الحزب الشيوعي أو الاشتراكي، في الجامعة البريطانية، كان لي قرين يسخر مني ويستهزئ بي ويقول: أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات:52]، جماعة تقول: إنك لمن المصلين، هذا من المصلين، جماعة العلم المطاوعة.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-15, 06:31 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (133)
الحلقة (140)



تفسير سورة البقرة (98)


كان الناس ما بين آدم ونوح عليهما السلام فترة طويلة أمة واحدة على دين الإسلام، لم يعبد بينهم إلا الله وحده، حتى زين الشيطان لبعضهم عبادة غير الله فكان الشرك والضلال، فبعث الله نوحاً لهدايتهم فاختلفوا إلى مؤمن وكافر، وموحد ومشرك، ثم توالت الرسل تحمل كتب الله، المتضمنة الحكم في كل ما يختلفون فيه، فكانت سنة الله في المختلفين أن هدى عباده المؤمنين إلى الحق، وحققت الضلالة على من حملهم الحسد وحب الرئاسة فردوا الكتاب.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع قول ربنا تبارك وتعالى من سورة البقرة: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213].لا مانع من أن نذكر أنفسنا بالآيتين السابقتين في ليلة مضت، ثم نذكر هداية الآيتين تعليماً وتذكيراً، أما الآيتان فهما قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:211-212].

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيتين:من هداية الآيتين:أولاً: التحذير من كفر النعم ]، حذرنا الله بهذه الآية من أن نكفر نعمه، أي: نجحدها، ولا نعترف بها لله، ولا نشكره عليها، حذرنا ربنا تعالى من كفر النعم، وما يترتب عليه من سلبها والانتقام من الكافرين بها.[ التحذير من كفر النعم؛ لما يترتب على ذلك من أليم العذاب وشديد العقاب، ومن أجلِّ النعم ] وأفضلها وأعظمها [ نعمة الإسلام ]، نعمة الدين الإسلامي، [ فمن كفر به وأعرض عنه فقد تعرض لأشد العقوبات وأقساها، وما حل ببني إسرائيل من ألوان الهون والدون دهراً طويلاً شاهد قوي ] على أن من أعرض عن دين الله استوجب غضب الله ولعنه الله وأذله وأخزاه، [ وما حل بالمسلمين يوم أعرضوا عن الإسلام واستبدلوا به الخرافات ثم القوانين الوضعية شاهد أكبر أيضاً ]، عسى المستمعون يعون هذه المسائل العلمية.[ ثانياً: التحذير من زينة الحياة الدنيا والرغبة فيها والجمع لها ونسيان الدار الآخرة وترك العمل لها، فإن أبناء الدنيا اليوم يسخرون من أبناء الآخرة، ولكن أبناء الآخرة أهل الإيمان والتقوى يكونون يوم القيامة فوقهم درجات، إذ هم في أعالي الجنان والآخرون في أسافل النيران ].تلك هداية الآيتين الكريمتين، فهيا بنا مع هذه الآية، وهي واحدة ولكنها طويلة.

دلالة الآية القرآنية على وحدانية الله تعالى ونبوة رسوله

معشر المستمعين! هل بينكم من لم يفهم أو يعرف معنى الآية؟ ما معنى آية؟الآية في لغتنا: العلامة، القرآن فيه ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، كل آية علامة على وجود الله وربوبيته وإلهيته وصحة شرعه ودينه، وعلى صحة نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.ووجه ذلك: أن من أنزل هذه الآية هل يكون معدوماً؟ هذه الآية التي تحمل الهداية الكاملة للبشرية هل صاحبها يكون جاهلاً؟ مستحيل، والذي نزلت عليه وقرأها وكتبها أصحابه ألا يكون رسول الله؟ مستحيل! كيف لا يكون رسور الله وقد أوحى إليه بالآيات وأنزلها عليه؟فلهذا كل آية في القرآن تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولن يستطيع ذو منطق أو عقل أو فلسفة أن ينقض هذه، والله! لا يقدر، فالآية من أنزلها؟ هل هناك من ادعى نزولها وقال: أبي أو جدي، أو قال: بنو فلان؟ سكتت البشرية وطأطأت رأسها وسلمت أن هذا وحي الله وإنزاله وكتابه، إذاً: فهل يكون منزل الوحي والكتاب غير موجود، أو يكون جاهلاً، أو يكون ضعيفاً؟ مستحيل، ومن نزلت عليه هو رسول الله قطعاً، إذاً: فكل آية تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ...)

زمن أول تحول في البشرية من التوحيد إلى الشرك

يقول تعالى -واسمع العلوم التي ما وصلت إليها فهوم البشر ولا أدركتها عقولهم-: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213]، من هم الناس؟ بنو آدم أبيضهم وأصفرهم على حد سواء، كان الناس في وقت ما في ظرف بعيد، هذا الوقت هو ما بين آدم أبي البشر نبي الله عليه السلام ونبي الله نوح عليه السلام، ولكن في هذا تجوُّز؛ إذ ذلك الوقت من آدم إلى قبل نوح بزمن، كان الناس كلهم على ملة الإسلام، ليس فيهم كافر ولا مشرك ولا يهودي ولا نصراني، كلهم على الإسلام أمة واحدة، لا مذهبية ولا فرقة حوالي ألف سنة، ثم مكر بهم الشيطان ودس لهم دسائس الخبث واستطاع أن يحولهم من موحدين إلى مشركين، فلما أشركوا استلزم ذلك وجود وحي وكتاب وتعليم، ثم انقسموا ما بين مؤمن وكافر، أما الفترة من آدم إلى ما قبل نوح بزمن فكانت البشرية كلها أمة واحدة، لا فرقة بينها ولا خلاف.وعلم الله تعالى بداية الفتنة، وهي أن إبليس عدو آدم وبنيه ما أعجبه أن تستمر البشرية دائماً في انتظام وإسلام وطهر لتدخل الجنة كلها، فزين لمن قبل نوح، أي: قبل البعثة، زين لهم أن يضعوا تماثيل لخمسة رجال من الصالحين، هؤلاء الرجال الصالحون زين لهم وضع تماثيل لهم، حتى إذا نظروا إليهم أحبوهم ورغبوا في صلاحهم وما كانوا عليه، ويأخذون في زيارتهم فترة من الزمن، وبعد فترة من الزمن مات من عرفوا هذه القضية، فزين لهم عبادة تلك الأوثان أو تلك التماثيل الخمسة، فعبدوهم بحجة الاستشفاع والتقرب بهم إلى الله، فلما عبدوهم وأشركوا بربهم أرسل الله تعالى إليهم رسوله نوحاً عليه السلام، هؤلاء الصالحون الخمسة جاءوا في سورة نوح بلفظ بين واضح؛ إذ قال تعالى عنهم: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح:23] التي تعبدونها، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، قالوا: هذا من باب التوصية والتحذير: إياكم أن تغتروا بهذا الرجل وما يقوله لكم فتتخلوا عن آلهتكم وعن الصالحين من أولياء الله، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح:23] أي: لا تتركن آلهتكم، وبخاصة: وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح:23-24].

معنى قوله تعالى: (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)

إذاً: الآن كان الناس أمة واحدة، في أية فترة؟ ما بين آدم ونوح بإجمال، فلما ظهر فيهم الشرك والكفر واختلفوا قال تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ [البقرة:213] نبياً بعد نبي ورسولاً بعد رسول في أوقات مختلفة بحسب حالة الناس وحاجاتهم، مهمتهم: مُبَشِّرِينَ [البقرة:213] المؤمنين المستقيمين برضا الله وجنته، وَمُنذِرِينَ [البقرة:213] الكافرين بغضب الله وعذابه، إذ ليس لهم مهمة إلا هذه، يعلمون الهدى فمن أجاب نجا ومن أعرض خسر وهلك. كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] أي: على ملة التوحيد، فلما اختلفوا ودس العدو بينهم الشرك والضلال، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ [البقرة:213] للمستقيمين، وَمُنذِرِينَ [البقرة:213] للمنحرفين. وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:213] والكتاب هنا اسم جنس، فـ(أل) للجنس، أي: الكتب، فصحف إبراهيم كانت عشر صحف، وصحف موسى، وصحف شيث كانت ستين صحيفة.إذاً: وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [البقرة:213]، تحمل تلك الكتب من أجل ماذا؟ قال: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة:213].من الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من عقائد وشرائع وآداب؟ الله عز وجل منزل الكتاب ومنبئ النبي ومرسل الرسول هو الذي فعل هذا.
معنى قوله تعالى: (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم)
ثم قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213].هنا في الكلام إجمال، وأنزل الكتاب أيضاً على مصطفاه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أنزله بالحق أيضاً؛ إذ قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ.. [النساء:105] الآية.إذاً: أنزل مع الرسل -كموسى عليه السلام- الكتب، لم؟ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه فيبين صاحب الحق من صاحب الباطل، والمؤمن من الكافر، والسعيد من الشقي.ثم قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ [البقرة:213] أي: في الكتاب، وهو صالح لأن يكون الإنجيل والقرآن، إذ اليهود اختلفوا في الإنجيل وأنكروه وكذبوا به، وقالوا في عيسى: ساحر وابن زناً، إذاً: فاختلفوا، فمن الذين اختلفوا؟ أهل الكتاب من اليهود، اختلفوا في شأن عيسى والإنجيل، واختلفوا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ [البقرة:213] أي: الكتاب مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:213] والأدلة والمعجزات القاطعة كالشمس تقرر نبوة عيسى ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم وقف هؤلاء اليهود هذا الموقف؟قال تعالى: بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213] لأنهم رؤساء ومسئولون ومسيطرون وقادة والبشرية دونهم، فإذا تنازلوا عن مراكزهم الدنيوية التي تحمل شعار الدين والمعرفة والعلم أصبحوا كسائر الناس، فعرفوا هذا فأصروا على البغي والعدوان؛ حتى لا ينزلوا من مراكزهم، ومن مظاهر ذلك أنهم صرحوا غير ما مرة في المدينة بصحة الإسلام وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن قالوا: إذا اتبعناه انتهى وجودنا، ما بقي لنا وجود أبداً في العالم، ذبنا في الإسلام، ويشهد لهذا: أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا من الأوس والخزرج، ويقولون لهم: إن نبياً قد أظل زمانه وسنؤمن به ونتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم، فحين يقع شجار أو نزاع بين الأوس والخزرج واليهود يقولون لهم هذا، قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ [البقرة:89-90].إذاً: يقول تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ [البقرة:213] في الكتاب الذي أنزلناه على عيسى وعلى محمد صلى الله عليه وسلم إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:213] من هؤلاء؟ اليهود، وذلك بَغْيًا [البقرة:213] أي: من أجل البغي بينهم.

معنى قوله تعالى: (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)

فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة:213] فهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه أهل الكتاب اليهود مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213]، وهنا هذه الآية تحمل أيضاً معنى آخر واضحاً بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو: أن يوم الجمعة، هذا اليوم الذي خلق الله فيه آدم، وأهبطه إلى الأرض فيه، وهو الذي تقوم فيه الساعة، أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة، هذا اليوم عرض على اليهود فرفضوه وردوه على أنبيائهم واختاروا السبت فكان لهم السبت، فكانوا يعبدون الله فيه بعبادات مشروعة مبينة من قبل الشارع، وجاء النصارى من بعد فرفضوا الجمعة ورفضوا السبت ورضوا بالأحد، فعالم النصارى عالم الصليب يقدس الأحد، والكل يعبدون الله بتلك العبادة الباطلة في كنائسهم يوم الأحد، فهذا اليوم الفاضل العظيم اختلفوا فيه فهدى الله أمة الإسلام إليه، قال تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213]، من الذي هدانا؟ الله عز وجل. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213] والصراط المستقيم هو الذي لا اعوجاج فيه، هو الذي ينتهي بالسالكين إلى دار السلام، إنه الإسلام، والله يهدي من يشاء هدايته إلى أين؟ هل إلى المسيحية أو اليهودية أو المجوسية؟ إلى الإسلام، وسماه الصراط المستقيم، وعلمنا كيف ندعو الله ونقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أي: ثبتنا على سلوكنا ومشيتنا وسيرنا على الإسلام حتى ننتهي إلى دار السلام.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

مرة ثانية تأملوا هذه الآية الكريمة قبل أن نأخذ في شرحها من الكتاب.يقول تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] على الإسلام وعلى التوحيد، في بداية أمر الحياة قرابة الألف سنة، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213] لم؟ لما اختلفوا وتناحروا وظهر الكفر بعث الله تعالى النبيين، كان الناس أمة فاختلفوا فبعث الله النبيين، أو فضلوا فبعثهم لهدايتهم، إذ ذلك من رحمة الله تعالى بعباده، وهو أرحم بهم من أنفسهم لا يريد لهم البلاء ولا الشقاء ولا الأذى، يريدهم أن يذكروه ويشكروه، وهذه علة خلقه لهم، فلو سئلت: لم خلق الله الجنة والنار؟ لم خلق الله السماوات والأرضين؟ لم خلق الله هذه العوالم؟فالجواب : خلقها للإنسان، والإنسان لم خلقه؟ ليذكره ويشكره، أراد الله عز وجل أن يذكر ويشكر فأوجد هذه العوالم لابن آدم، وأوجد الجنة لأوليائه والنار لأعدائه لعلمه أنهم سيعادونه ويحاربونه، وشرع لهم الذكر والشكر، فقال: خلقتكم لهذه المهمة، وفي القرآن: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، والجن تابعون للإنس لا يستقلون، وفي حديث قدسي: (يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي)، وماذا يفعل الله بنا؟يريد منا أن نذكره ونشكره، نذكره في قلوبنا وألسنتنا طول الحياة، ونشكره بطاعتنا له، بفعل الأوامر وترك النواهي، وفعل الأوامر من شأنه تزكية نفوسنا وتطهيرها، وترك النواهي من شأنه أن يبقي لنا طهرنا وصفاءنا، فعل الأوامر به تنتظم حياتنا في المأكل والمشرب والملبس والمركب، وترك النواهي من شأنه أن يبقى صلاحنا في حياتنا في طعامنا في لباسنا، ما خلق الله شيئاً عبثاً، تعالى الله علواً كبيراً عن اللهو والعبث: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:38-39].

نهاية قوم نوح عليه السلام

يقول تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] إذاً فاختلفوا، ظهر الشرك وبدأ بقوم نوح، نوح عاش فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعو إلى الله ويلون الدعوة فمرة يسر ومرة يعلن، مرة يدعوهم مجتمعين ومرة يدعوهم متفرقين، ألف سنة كانت الحصيلة فيها ثلاثة وثمانين امرأة ورجلاً على قدر حمل تلك السفينة، ثلاثة وثمانون رجلاً وامرأة في ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعابوه وقالوا فيه وفعلوا العجب، لولا حماية الله لقتلوه، وأما القول فلا تسأل عن أقوالهم، كان إذا تكلم معهم ماذا يفعلون؟ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ [نوح:7]، ما نريد أن نسمع ولا نرى وجهك، يدخلون أصابعهم حتى ما يسمعون، يغطون وجوههم بثيابهم هكذا حتى لا يشاهدوه، ما نريد أن نرى وجهك اذهب عنا، اتركنا، لتسعمائة وخمسين عاماً.ولما دقت الساعة وأراد الله أن ينتقم، والله يملي ويزيد ويفسح المجال للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].إذاً: فما كان منه تعالى إلا أن أمره بأن يصنع فلكاً، وجبريل يساعده أو ميكائيل، وكانوا يمرون عليه ويسخرون به: يا نوح! تأتي بالبحر هنا أو تنقل هذه إلى البحر! كلما مر سخروا منه واستهزءوا: وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [هود:38].والشاهد عندنا: أنه لما دقت الساعة قال تعالى: احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هود:40] وقضاء الله وقدره فيه كابنه كنعان ؛ فإنه هالك، ورست السفينة على جبل الجودي، وقد عثر عليها في قرون متأخرة.والشاهد عندنا: أنه تعالى أملى لهم ألف سنة تقريباً والدعوة بينهم وهم يسخرون ويضحكون ويستهزئون، والرسل الآخرون ما أعطاهم هذه الفترة.

عاقبة قوم عاد

قوم عاد كانوا جبابرة في الأرض، واقرءوا: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:7-8]، كان طولهم قريباً من ستين ذراع كأبينا آدم عليه السلام؛ لأن آدم لما خلقه الله كان طوله ستين ذراعاً ولا يزال الخلق ينقص إلى اليوم، فنحن بالنسبة إلى آدم أقزام، وفينا من هو مثلي قزم تماماً. فعاد كانوا في القرون الأولى، إذاً: كانوا عجباً، ولكن ما فعل الله بهم؟ عاصفة في سبع ليال وثمانية أيام فقط، والمساحة التي خرجت منها قالوا: كعين الإبرة فقط، فما تركت داراً ولا بناء، تركتهم كالنخيل الخاوية: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:7-8]، حتى إن عجوزاً دخلت في غار في الجبل وظنت أنها نجت، فدخلت الريح كاللولب وأخرجتها وصرعتها على الجبل، وما زال المؤرخون يقولون عن بعض الأيام: هذه قرة العجوز، هذه الأيام معروفة عند العرب، القرة من البرد، وقرة العجوز آخر يوم من السبعة الأيام.

عاقبة قوم ثمود

ثم كانت ثمود، وديارهم شمال المدينة على بعد ستمائة كيلو، لما نجا المؤمنون مع هود عليه السلام نزحوا إلى الشمال واستقروا في تلك الأماكن وطالت الحياة وأصبحت أمة كأمة عاد، وحسبك أن تشاهد آثارهم في تحويل الجبال إلى منازل وقصور، أين الآلات التي كانت عندهم؟ فلما أعرضوا عن ذكر الله وتعالوا وتكبروا وسخروا من صالح أيضاً وقالوا: يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:77]، وقالوا: إن كنت تزعم أنك رسول فاسأل ربك أن يخرج لنا ناقة من هذا الجبل، في تحد واضح، فقام يصلي ويدعو فتصدع الجبل وخرجت منه ناقة عشراء لم تر الدنيا مثلها، هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأعراف:73]، وجعل الماء قسمة بينهم لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155] حتى لا تختلطوا معها، فيوم الخميس للناقة ويوم الجمعة لكم وهكذا، فما كان منهم إلا أن تمالئوا وتآمروا وعقروها، فلما عقروها دقت الساعة، واقرءوا من سورة الشمس: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا [الشمس:11]، المال والقوة، فلهذا الفقر دائماً خير من الغنى، كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا [الشمس:11-12]، هذا قدار بن سالف ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس:13] انتبهوا! ناقة الله احذروها واتركوها واتركوا سقياها معها، فلما أبوا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [الشمس:14]، حولهم إلى خبر كان بصيحة واحدة أيضاً، ولكن على ثلاثة أيام: فيوم الأربعاء اصفرت وجوههم، ويوم الخميس احمرت وجوههم وهم جاثمون ما بقي من يأكل ولا يشرب ولا يتحرك، جاثمون على الأرض، ويوم الجمعة اسودت وجوههم اسوداداً كاملاً، وفي صباح السبت بعد الفجر مباشرة كانت الصيحة فصعقوا عن آخرهم، بقوا جثثاً على الأرض تأكلها الطيور والحيوانات، أمة كاملة؛ لأن آية صالح الناقة هذه عجب عجاب.والشاهد عندنا: أنه بعث الله النبيين لهداية البشر بعدما ضلوا واختلفوا، ومهمتهم أنهم مبشرون من يستجيب لهم ويمشي وراءهم ويتبع خطاهم فيطيعهم ويطيع ربهم، يبشرونه بالسعادة المطلقة في الدنيا والآخرة، ومنذرون لمن يعرضون ويتكبرون أو يعاندون ويحاربون، وأنزل معهم الكتاب أيضاً بالحق يحمله من أجل ماذا؟ ليحكم بين الناس فيعطي كل ذي حق حقه، قال تعالى: وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:213].اليهود اختلفوا مع النصارى في عيسى عليه السلام، واختلفوا مع المؤمنين في محمد صلى الله عليه وسلم، لم؟ لأن البغي أصبح طبعاً لهم، ما يستريحون إذا لم يظلموا ولم يحسدوا. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:213] وهم المسلمون، هداهم للذي اختلف فيه اليهود والنصارى، من جملة ذلك الجمعة، الجمعة اختلفوا فيها، عرضت على اليهود على ألسنة رسلهم فرفضوها، عرضت على النصارى فرفضوها، إذاً: ونحن الآخرون السابقون.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآية

والآن معنى الآية الكريمة في الشرح. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة:يخبر تعالى أن الناس كانوا ما بين آدم ونوح عليهما السلام في فترة طويلة أمة واحدة على دين الإسلام لم يعبد بينهم إلا الله تعالى، حتى زين الشيطان لبعضهم عبادة غير الله تعالى فكان الشرك والضلال ].والشيطان هذه مهمته، أما زين لقوم لوط -كما علمتم- أفحش فاحشة ما عرفتها الدنيا قط؟ ومع هذا علمهم إياها فكانوا يأتونها في أنديتهم أمام بعضهم والعياذ بالله.قال: [ فبعث الله تعالى لهدايتهم نوحاً عليه السلام فاختلفوا إلى مؤمن وكافر وموحد ومشرك، وتوالت الرسل تحمل كتب الله تعالى المتضمنة الحكم الفصل في كل ما يختلفون فيه.ثم أخبر تعالى عن سننه في الناس ] وطريقته فيهم، [ وهي أن الذين يختلفون في الكتاب -أي: فيما يحويه من الشرائع والأحكام- هم الذين سبق أن أوتوه وجاءتهم البينات، فهؤلاء يحملهم الحسد وحب الرئاسة والإبقاء على مصالحهم على عدم قبول ما جاء به الكتاب ].فاليهود لم رفضوا القرآن ونبيه؟ جاء بالهدى، ولكن معناه: أن يسلبهم مناصبهم ومراكزهم، وينتهي ما كان يعبدون الله به، وهذا لا يريدونه، وقد أفصحوا وتجلت هذه الحقيقة، فهم يعملون على إعادة مجد بني إسرائيل وحكمهم ودولتهم، فالدين مجرد تمسح فقط، وإلا فالاتجاه الحقيقي أن يعود لهم ملكهم ودولتهم، هذا السبب الوحيد الذي رفضوا به قبول الإسلام وإن لم يصرحوا به، قالوا: نحن في غنى عن الإسلام، عندنا دين الله وكتاب الله لسنا في حاجة إلى هذا، لكن الواقع أنهم يريدون أن يعيدوا مملكة بني إسرائيل، وظهر هذا الآن واتضح بعد ألف وأربعمائة سنة حيث ظهرت دولة إسرائيل في أعظم مركز من مراكز العالم الإسلامي في القدس؛ فلهذا لا يسلمون ولا يقبلون الإسلام.قال: [ واليهود هم المثل لهذه السنة، فإنهم أوتوا التوراة فيها حكم الله تعالى وجاءتهم البينات على أيدي العابدين ] الكثيرين [ من أنبيائهم ورسلهم، واختلفوا في كثير من الشرائع والأحكام، وكان الحامل لهم على ذلك البغي والحسد، والعياذ بالله ] تعالى، [ وهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما اختلف فيه أهل الكتابين اليهود والنصارى، فقال تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:213] ]، أي: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم المسلمون، هداهم للإيمان بكل الكتب وسائر الرسل ونجاهم مما اختلف فيه من قبلهم والحمد لله.قال: [ فقال تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:213] لما اختلف فيه أولئك المختلفون من الحق، هداهم بإذنه ولطفه وتوفيقه، فله الحمد وله المنة.ومن ذلك الحق الذي اختلف فيه أهل الكتاب من قبلنا وهدانا الله تعالى إليه:أولاً: الإيمان بعيسى ]، فعيسى اختلف فيه اليهود والنصارى، اليهود قالوا: ساحر ودجال وابن زناً، وكفروا به، وعزموا على قتله وقتلوا من شبه لهم به، وجعلوه كما تعرفون، والنصارى قالوا: هو الله وابن الله وثالث ثلاثة مع الله، وتاهوا في متاهات لا حد لها، هذا اختلاف واضح، وهدى الله هذه الأمة فقالوا: عيسى عبد الله ورسوله، والله! إنه لعبد الله ورسوله، ما هو بالله ولا ابن الله ولا بساحر ولا بدجال ولا بكذاب.إذاً: [ الإيمان بعيسى عبد الله ورسوله حيث كفر به اليهود وكذبوه واتهموه بالسحر وحاولوا قتله، وألَّهه النصارى وجعلوه إلهاً مع الله، وقالوا فيه: إنه ابن الله، تعالى الله عن الصاحبة والولد.ثانياً: يوم الجمعة وهو أفضل الأيام، أخذ اليهود السبت والنصارى الأحد، وهدى الله تعالى إليه أمة الإسلام ]، وقد جئنا بعدهم، فالمفروض أنهم الذين يأخذونه.[ ثالثاً: القبلة قبلة أبي الأنبياء إبراهيم ]، ما هي قبلة إبراهيم؟ الكعبة، أليس هو الذي بناها، إذاً: [ استقبل اليهود بيت المقدس، واستقبل النصارى مطلع الشمس ] إلى الآن، [ وهدى الله أمة الإسلام إلى استقبال البيت العتيق قبلة إبراهيم عليه السلام، والله يهدي من شاء إلى صراط مستقيم ].لو شاء الله هدايتهم لهداهم، أي: اليهود والنصارى، لكن لما تمردوا وكفروا واحتالوا ومكروا لم يشأ هدايتهم، ورأى هذه الأمة مقبلة على الله تريد رضاه فهداها إلى القبلة الحق، إذ صلى النبي صلى الله عليه وسلم هنا حوالي سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس، وكان يتطلع إلى قبلة الكعبة، حتى أنزل الله قرآناً واضحاً في هذا: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، حتى إن بني سلمة في مسجدهم صلوا العصر ركعتين إلى بيت المقدس وجاء من قال لهم: إن القبلة تحولت فصلوا الركعتين الأخيرتين إلى الكعبة.إذاً: عرفنا الأمور التي اختلف فيها أهل الكتاب وفزنا بها نحن: الأمر الأول: عيسى عليه السلام، قال اليهود فيه: ساحر وابن زناً، وحاولوا قتله وقتلوا من شبه به، فحكمه حكم من قتل؛ لأن الذي تمثل به قتلوه وصلبوه.الثاني: الجمعة، اختلفوا في أفضل الأيام وأقدسها وأطيبها، فأخذ اليهود السبت والنصارى والأحد، والمسلمون هداهم الله تعالى إلى الجمعة، أتدرون ما يوم الجمعة؟ فيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي ويسأل الله شيئاً إلا أعطاه، وهات أكتب لك بذلك صكاً، ساعة لا يوافيها مؤمن يصلي ويدعو الله وسأل الله شيئاً إلا أعطاه، هذه فقدها الفريقان اليهود والنصارى.الثالث: القبلة، اختلفوا فيها، فالنصارى قبلتهم مطلع الشمس واليهود بيت المقدس، وهدى الله المسلمين إلى قبلة أبيهم إبراهيم، فالحمد لله.

هداية الآية

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات: من هداية الآيات:أولاً: الأصل هو التوحيد والشرك طارئ على البشرية ]، عبد الله آدم وأولاده وأحفادهم ألف سنة ليس هناك شرك، فالأصل هو التوحيد، والشرك طرأ بوسوسة الشيطان وتزيينه.[ ثانياً: الأصل في مهمة الرسل ] أمران: [ البشارة لمن آمن واتقى، والنذارة لمن كفر وفجر ]، مهمة الرسل ما هي؟ تتجلى في أمرين: البشارة والنذارة، البشارة لمن آمن واتقى، والنذارة لمن كفر وفجر، [ وقد يشرع لهم قتال من يقاتلهم فيقاتلونه كما شرع ذلك لرسوله صلى الله عليه وسلم.ثالثاً: من علامات خذلان الأمة وتعرضها للخسار والدمار: أن تختلف في كتابها ودينها، فيحرفون كلام الله ويبدلون شرائعه طلباً للرئاسة وجرياً وراء الأهواء والعصبيات، وهذا الذي تعاني منه أمة الإسلام اليوم وقبل اليوم، وكان سبب دمار بني إسرائيل ].وهذا واقع أم لا؟ مذاهب متعددة هابطة في الأمة.[ رابعاً: أمة الإسلام التي تعيش على الكتاب والسنة عقيدة وعبادة وقضاء هي المعنية بقوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213] ].فأمة الإسلام التي تعيش على الكتاب والسنة، الكتاب القرآن والسنة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته، وذلك عقيدة وعبادة وحكم، هذه هي الأمة المعنية بقوله تعالى في هذه الآية: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213].[ خامساً: الهداية بيد الله، فليطلب العبد دائماً الهداية من الله تعالى بسؤاله المتكرر ] ليل ونهاراً [ أن يهديه دائماً إلى الحق ]، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:213] فمن هو الذي يشاء الله هدايته؟ الطالبون الراغبون الملحون الذين يقرعون باب الله يسألونه الهداية، هم الذي يهديهم، والمعرض والمتكبر لا يهتدي.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-15, 06:48 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (134)
الحلقة (141)



تفسير سورة البقرة (99)

إن دخول الجنة واستحقاقها ليس بالأمر السهل الهيّن، فإن من سنة الله في خلقه أن يتعرض عباده المؤمنون لأيام شدة ولأواء، ويمتحنوا في ذات الله، ويبتلوا في أنفسهم وأموالهم، وقد أنكر الله عز وجل على المؤمنين ظنهم أن يدخلوا الجنة دون امتحان وابتلاء، وقبل أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من البأساء والضراء والزلزال، حتى يستبطئ النبي ومن معه نصر الله من شدة ما يلاقون.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلك الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الموعود، اللهم آمين.الآية التي درسناها في الدرس السابق كنا ما وفيناها حقها مما ينبغي أن نعرفه منها ونفهمه، فلهذا أذكركم بها أولاً تلاوة وتأملوا مضمونها، ثم نذكر مضمونها في الشرح.

بعثة الرسل بعد ظهور الشرك في الناس

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213].فعلمنا أن البشرية أو الإنسانية مرت بها فترة طويلة من عهد آدم عليه السلام إلى أن بعث الله تعالى نوحاً، كانت تعيش على التوحيد، لا شرك ولا كفر، فلما اجتالتها الشياطين، ونفخت فيها روح الإلحاد والشرك والكفر، وأصبحوا يشركون بربهم ويكفرون به؛ بعث الله تعالى رسوله نوحاً، فكان أول الرسل يحمل الرسالة للبشارة والنذارة، يبشر المؤمنين المتقين، وينذر الكافرين الفاجرين، دل على هذا قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] أي: على ملة التوحيد، إذ الأصل التوحيد، إذاً: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213] بعدما ارتبكت الحالة واختلطت، وأصبح فيها الشرك والفسق والباطل والشر، فحكمة الله تقتضي أن يرسل رسلاً يحملون هدايته إلى عباده، فمن أجاب فآمن واستقام بشروه بوعد الله الصادق بالنجاة من النار ودخول الجنة، ومن أصر على الشرك ومشى وراء الشياطين فإنهم ينذرونه بعذاب الله اللازم له.

إنزال الكتب على المرسلين لهداية الخلق

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ [البقرة:213] بعدما اختلفوا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:213]، فإبراهيم كان معه ثلاثون صحيفة، وشيث كان معه ستون صحيفة، وموسى معه عشر صحف، وهكذا التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب، فلفظ الكتاب هنا اسم جنس، يدخل فيه كل ما أنزل الله من الكتب، وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [البقرة:213] لعلة أن يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من شأن التوحيد والشرك، والكفر والإيمان، وطاعة الرحمن عز وجل.

اختلاف أهل الكتاب في الحق

ثم أخبرنا تعالى أن الذين اختلفوا فيه هم الذين أوتوه من قبل، وهذه تنطبق على اليهود انطباقاً كاملاً، هم الذين اختلفوا في رسالة عيسى؛ لأنه كان بين أيديهم التوراة، ويتلونها ويعملون ببعض ما فيها، فالمفروض أن يؤمنوا بالإنجيل، ويدخلوا تحت راية عيسى لينجوا، فاختلفوا، واستمر خلافهم حتى بعث الله النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لسنا في حاجة إلى دين جديد ولا إلى كتاب جديد! وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213] حال كونهم بغاة، من أجل البغي والحسد فقط، وإلا فكتاب الله هو كتاب الله، ورسول الله هو رسول الله، أنزل الله كتاباً ونسخه بآخر، فنأخذ بالناسخ ونترك المنسوخ، لكن البغي النفسي والحسد والبغض هو الذي حملهم على هذا.

هداية المؤمنين لما اختُلِف فيه من الحق

وقوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213] قطعاً هم المؤمنون المحمديون، هداهم الله تعالى لما اختلف فيه اليهود والنصارى، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:213] بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وهم المؤمنون الصادقون في إيمانهم، هداهم الله عز وجل للذي اختلف فيه أهل الكتاب، وقد حصرناه في ثلاث مسائل:أولاً: اختلف اليهود والنصارى في عيسى، اليهود قالوا: ابن زناً والعياذ بالله، وقالوا: ساحر، حين كانوا يشاهدون المعجزات يقولون: سحر، والنصارى قالوا فيه: ابن الله، واختلفوا، وقال المؤمنون المسلمون بحق: هو عبد الله ورسوله، عبد الله من سائر عبيده اصطفاه بالرسالة فأرسله، فهو عبد الله ورسوله، ولهذا نشهد أن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله.ثانياً: اختلفوا في يوم الجمعة مع ما له من فضل، هذا اليوم خلق الله فيه آدم، وأنزله فيه إلى الأرض، وهو يوم تقوم فيه الساعة، وهو أفضل الأيام، وحسبنا أن فيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي ويدعو الله شيئاً إلا أعطاه الله إياه.فاليهود عليهم لعائن الله قالوا: إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهي: الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة واستراح يوم السبت، فقالوا: هذا هو اليوم الذي نستريح فيه نحن، وهذا من تزيين الشيطان، وأبطل الله هذه الفرية في آية من سورة (ق)، إذ قال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، أي: نصب أو تعب، فأبطل فريتهم.وجاء النصارى فاختاروا الأحد، وجاء المسلمون بعدهم أتباع النبي الخاتم فهداهم الله إلى يوم الجمعة، فلنا يوم الجمعة ولليهود السبت، وللنصارى الأحد، هدانا الله لما اختلفوا فيه، فالحمد لله.ومما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فترة الحياة من عهد آدم إلى أن تقوم الساعة هي بمثابة طلوع الشمس إلى غروبها، كيوم واحد، فتلك الأمم توالت وجئنا، فنحن الآخرون الأولون، وقتنا: من صلاة العصر إلى غروب الشمس، هكذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن الآخرون الأولون.

اختصاص الله تعالى بالهداية

إذاً: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213] لا هداية بدون إذن الله، فلهذا من طلب الهداية يطلبها من الله بإلحاح، ولا يفهم أنه في إمكانه أن يهتدي إلى الصراط المستقيم؛ إلى محاب الله فيعملها، وإلى مكاره الله فيتركها، هيهات هيهات إذا لم يكن الله عوناً له وهادياً له، وحسبنا في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد ويصلي يقول هذا الدعاء: ( اللهم رب جبريل وميكائيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )، هذا الرسول حامل راية الهداية، وهو داعيها، ومع هذا كل ليلة يتضرع بين يدي الله ويسأله أن يهديه لما اختلف فيه الأولون من الحق بإذنه.

أهمية ديمومة سؤال الله تعالى الهداية

فمن هنا قول ربنا: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:213] ويحب إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213] يجعلنا نضطر أنفسنا إلى أن نسأل الهداية طول حياتنا، لسنا بأهدى من رسول الله، ومع ذلك يقول: ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ). وكثيراً ما أقول للمستمعين والمستمعات: من هم الذين يشاء الله هدايتهم؟ بنو الأصفر، العرب، بنو كذا؟ من هم؟ الجواب -معشر المستمعين والمستمعات-: هم الذين قرعوا باب الله ولازموه، واستمروا طول حياتهم يدعونه الهداية، هم الذين شاء الله هدايتهم، أما المتنكبون والمعرضون -فضلاً عن الساخرين والكافرين- فهؤلاء لا يشاء الله هدايتهم؛ لأنه عليم حكيم، فالذي أقبل على الله في صدق يتضرع إليه ويسأله الهداية حاشا لله أن يحرمه إياها أو يخيبه في دعائه، والذي يقرع الباب مرة ومرتين ثم يتأخر ما ينتفع، لا بد من ملازمة، وحسبنا هذا الحديث، كلما قام في الليل يتهجد ويبكي يتوسل إلى الله بهذه الوسيلة العظيمة: ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )، فلا بد من سؤال الله الهداية طول الحياة.إذاً: ومما اختلف فيه الأولون وهدى الله إليه المؤمنين: القبلة، كان اليهود يستقبلون بيت المقدس، والنصارى يستقبلون مطلع الشمس ومشرقها، فهدانا الله نحن إلى الكعبة، وهي قبلة إبراهيم وإسماعيل والأنبياء حتى هود وصالح، فاختلفوا في القبلة فاستقبل اليهود بيت المقدس، واستقبل النصارى طلوع الشمس، وهدانا الله نحن إلى كعبته التي بناها لآدم لما هبط إلى الأرض، فاختلفوا وهدانا الله، فالحمد لله.
تابع قراءة في تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ...) من كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

تلك الآية فيها هدايات:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية:من هداية الآية:أولاً: الأصل هو التوحيد والشرك طارئ على البشرية ] كما قدمنا؛ لأن آدم خلقه الله بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وأخرج من ضلعه الأيسر حواء امرأته وأهبطهما إلى الأرض، فآدم نبي الله، يعلم عن الله ويوحي الله تعالى إليه، وأولاده تناسلوا، كلما يولد مولود يعرف الحق ويعرف التوحيد ويعبد الله، وقد قص الله تعالى علينا قصة قابيل وهابيل، وهما ابنا آدم عليه السلام، وقتل قابيل هابيل حسداً، ولهذا فالحسد أخطر ما يصاب به البشر، قل لأخيه: لم يقبل الله صدقتك ولا يقبل صدقي؟ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]، والعلة في قبول الله هذا ورفض هذا أن هابيل قدم خير ماله وأفضل ما يملك لربه، والآخر جمع أشياء فاسدة ما له حاجة إليها، وتقدم بها قربناً لله، وهكذا الصدقة إذا كانت مما فيه رداءة وعدم صلاحية لا قيمة لها، أنت تتقرب إلى الله وتقدم إليه بما لا تريده! كيف يصح هذا؟ كيف تواجه الله عز وجل؟ ( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ).إذاً: واستمر التوحيد في أحفاد آدم وأحفاد أحفاده إلى أن حدث الشرك بدعوة إبليس وفتنته، إذاً: لما انتشر الشرك أرسل الله نوحاً، فدعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً.[ ثانياً: الأصل في مهمة الرسل البشارة لمن آمن واتقى والنذارة لمن كفر وفجر ]، الأصل في مهمة الرسل ما هي؟ أن يبشروا من آمن واتقى، وينذروا من كفر وفجر، ثم المهام الأخر من العبادات إلى الجهاد تابعة، يقوم بها المؤمنون الصادقون.[ ثالثاً: من علامات خذلان الأمة وتعرضها للخسار والدمار أن تختلف في كتابها ودينها، فيحرفون كلام الله ويبدلون شرائعه طلباً للرياسة وجرياً وراء الأهواء والعصبيات، وهذا الذي تعاني منه أمة الإسلام اليوم وقبل اليوم، وكان سبب دمار بني إسرائيل ]. من علامات الخذلان أن يختلف الناس في دين الله، فلهذا على العلماء أن يعملوا ما استطاعوا على أن لا يفتحوا باب الخلاف للمسلمين، ولو قام بهذا الواجب العلماء لما ظهر الخلاف، الخلاف كله شر لا خير فيه، الأمم التي اختلفت تدمرت وخسرت حياتها.إذاً: فالآية تحمل هذا التنبيه: لا تختلفوا في كتابكم، فإن من اختلفوا في كتابهم هلكوا.[ رابعاً: أمة الإسلام التي تعيش على الكتاب والسنة عقيدة وعبادة وقضاء هي المعنية بقوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213] ]، أي: لما اختلف فيه أهل الكتاب: اليهود والنصارى.[ خامساً: الهداية بيد الله، فليطلب العبد دائماً الهداية من الله بسؤاله المتكرر أن يهديه دائماً إلى الحق وإلى الطريق المستقيم ]، وقد قدمنا الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان كل ليلة يسأل الله أن يهديه لما اختلف فيه الناس من الحق، ويهديه إلى صراط مستقيم.

تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ...)

كانت تلك الآية، والآن معنا آية أخرى، هي قول الله عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]. قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة:214] هذا الاستفهام معناه: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة أيها المؤمنون. وهذه كانت أيام الشدة، أيام البأساء واللأواء؛ المدينة محاصرة من جهاتها، حرب الخندق، حرب أحد، الجوع، وحسبنا ما علمنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يشبع من خبز الشعير ثلاثة أيام متوالية، حسبنا أن أبا هريرة كان يصرع في المسجد من شدة الجوع، فيأتي أطفال المدينة يركبون على ظهره ويقولون: جن أبو هريرة ! قال: وما فيَّ من جنون، ولكن الجوع.هذه الآية تحملهم على الصبر والثبات والشجاعة، حتى يفرج الله الهم ويزيل الغم ويرفع البلاء، وفعلت هذه الآية ما فعلت فيهم، صبروا ثبتوا، فهو يقول لهم: أحسبتم أن تدخلوا الجنة دار السلام بدون بلاء؟ ما هو بمعقول أبداً. ‏

دخول التكاليف في الابتلاء الممحص لدخول الجنة

والبلاء والابتلاء منه التكليف، فالغسل من الجنابة في الليلة الباردة من هذا، وإخراج زكاة مالك وإعطائها لغيرك من الابتلاء، شهودك بيت الله خمس مرات في الأربع والعشرين ساعة تسجد وتركع بين يديه مع إخوانك المؤمنين هذا ابتلاء، الإمساك عن الطعام والشراب شهر رمضان من الابتلاء، بر الوالدين، طاعة إمام المسلمين.. هذه كلها من الابتلاء، ويجب أن تصبر، وهي عوامل تزكية النفس وتطهيرها، فهل يدخل المرء الجنة ونفسه خبيثة؟ والله! ما كان أبداً، إذا لم يزكها بأدوات التزكية التي وضعها الله لها، ثم مات ونفسه خبيثة كأرواح الشياطين والكافرين فهيهات هيهات أن يدخل الجنة دار السلام. وحسبنا أن لا ننسى حكم الله الصادر علينا، أبيضنا وأسودنا أولنا وآخرنا؛ ذلكم الحكم العظيم الذي أقسم الجبار عليه لتطمئن النفوس وتسكن إليه، إذ قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، كثيراً ما نقول: هنا تقرير المصير، لا تفهم أن مصيرك تقرره يوم القيامة، لا والله، المصير يتقرر هنا، فمن آمن وحقق إيماناً سليماً صادقاً يقينياً، ثم اتقى الله فلم يفسق عن أمره ويخرج عن طاعته في الفعل والترك فقد زكى نفسه بهذه العبادات وطهرها من تلك الأرجاس والأنجاس، إذ ابتعد عن الشرك والكفر والخبث والفسق والفجور، فإذا جاء ملك الموت وجد نفسه مشرقة، والله! إنه ليحييه ويسلم عليه ويبشره وهو على سرير الموت: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، ما مالوا يميناً ولا شمالاً، أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله، ونهضوا بما أوجب الله من الجهاد والرباط إلى الصيام والصلاة، هؤلاء: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] في ساعة الاحتضار، وفود الملائكة تبشرهم وتهنئهم، اللهم اجعلنا منهم.أما الذين يموتون وأرواحهم خبيثة منتنة بالإلحاد والشرك والكفر والعياذ بالله فقد أعلمنا الله بحكمه فيهم، ما ننسى آية من سورة الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]، إذ المجرمون أجرموا على أنفسهم، لوثوها وأخبثوها بما أفرغوا عليها من أطنان الذنوب والآثام، ولا توبة ولا تراجع، الظالمون هم المشركون، ظلموا أنفسهم، بدل أن يطيبوها ويطهروها أخبثوها وعفنوها، وبين الرسول هذا بياناً شافياً، عندما يحتضر المؤمن التقي ولي الله، وتأتي الملائكة يسفر وجهه ويستبشر ويبتسم وهو يعالج بقبض روحه، ثم يعرجون بها ويستأذنون من أهل السماوات فيؤذن لهم إلى أن يقفوا بها عند العرش، ويكتب اسمها في عليين، ثم تعود إلى الأرض لفتنة القبر، ثم تعود إلى الجنة دار السلام، وأما الروح الخبيثة فوالله! ما يؤذن لها ولا تعرج إلى السماء ولا تصل إلى دار السلام، وتعود إلى الأرض لفتنة القبر، ثم تعود إلى أسفل سافلين في الدركات التي ما يخطر في البال أين هي. إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:40]، التكذيب بالآيات هو التكذيب بالوضوء والغسل، هو التكذيب بالصلاة والزكاة، الذي كذب بالآيات كيف يعبد الله؟ الآيات هي حاملة للشرائع والعقائد والآداب والأخلاق والعبادات، والمستكبر كالمكذب، قال: أنا مؤمن، لكن يمنعه الكبر أن يغتسل من جنابة أو يصلي، فهل ينفعه هذا الإيمان؟وضربنا لهذا مثلاً قديماً: مريضان بأشد المرض، زرناهما فقدمنا للأول أدوية وعقاقير للعلاج، فقال: مع الأسف أنا لا أؤمن بهذه الخرافات والضلال، لا أقبل هذا العلاج الذي تقولونه. فهذا كذب به فمات، انتهى، فمشينا إلى الثاني فقلنا: مرحباً، أهلاً وسهلاً، جئناك بعلاج، فقال: جزاكم الله خيراً، نعم أنا مريض والعلاج نافع وأنا مؤمن بنفعه، ولكن مع الأسف ما عندي رغبة في هذا، تركه استكباراً فمات، فما الفرق بين المكذب والمستكبر؟ كلاهما هلك، فالذي يكذب بآيات الله ولا يقول بها ولا يعترف كالذي يقول: آيات الله ودين الله الإسلام حق ولا يريد أن يطبق شيئاً كبرياء، هل بينهما فرق؟ لا فرق. إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، تعرفون سَم الخياط؟ سَم الخياط: عين الإبرة، التي كنا نخيط بها ثيابنا قبل الآلات، هل تستطيع أن تدخل حبلاً في عين الإبرة؟ فكيف بالجمل؟!إذاً: من أراد أن يدخل الجنة ونفسه خبيثة طلب المستحيل، كالذي يريد أن يدخل حبلاً في عين الإبرة، أو جملاً في عين الإبرة، هذا يقال فيه: التعليق على المستحيل، فهو مستحيل.وهكذا القرآن يخاطب العرب والعجم والعالم والجاهل بألفاظ قريبة جداً، هل من المعقول أن يدخل الجمل في عين الإبرة؟ مستحيل، كذلك النفس الخبيثة بالشرك والجرائم، هذه النفس يستحيل أن تدخل الجنة أو تفتح لها أبواب السماء أبداً، لا تعود إلا إلى الدركات السفلى في الكون في سجين.

معنى قوله تعالى: (ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ...)

يقول تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة:214] أيها المؤمنون المحاصرون الجائعون، وَلَمَّا [البقرة:214]، (لما) بمعنى:لم، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:214]، وفيه إشارة إلى أنه سيأتيهم البلاء والامتحان والشدائد؛ لأن (لما) تفيد الوقوع في المستقبل، ولما يأتكم صفة وحال الذين من قبلكم، مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ [البقرة:214]، شدة البأس والبلاء، وَالضَّرَّاءُ [البقرة:214] الأمراض وما إلى ذلك، وَزُلْزِلُوا [البقرة:214] زلزالاً يهز قلوبهم، والخوف من الأعداء يطوقونهم، ولو شاهدنا غزوة أحد فقط كيف كانت أو غزوة الخندق، خاصة غزوة الخندق هذه، أهل المشرق تجمعوا وزحفوا، أهل الجنوب كذلك، وطوقوا المدينة، ما كان من الرسول إلا أن أمر رجاله أن ينزلوا كلهم في سفح جبل سلَّع، وتركوا الأطفال والنساء في المدينة؛ لأن العدو ما جاء للأطفال والنساء، جاء لقتل الرسول وإنهاء وجوده، ومضت خمسة وعشرون يوماً، والبرد الشديد، ولا تسأل عن الطعام والشراب، فلا شيء، إذاً: مسهم مثل ما مس الذين خلوا من قبلهم من الأمم المؤمنة الصالحة، لا بد أن تتعرض لهذا، والمسلمون اليوم في غنى وفي سعادة، في كمال، ومعرضون عن الله، يريدون أن يدخلوا الجنة بالقوة! أَمْ حَسِبْتُمْ [البقرة:214] أحسبتم أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة:214] هكذا بالاستراحة الدائمة؛ بالأكل والشرب والركوب والأمن ثم يقال: ادخلوا الجنة! فهذا التساؤل معناه: الإنكار عليهم، انزعوا من آذانكم هذا، لا بد إذاً أن تبتلوا -كما قدمنا- بالصلاة بالزكاة بالصيام بالحج بصلة المعروف، بالبر بالإحسان، بكلمة الحق، بالرحمة بالعدل، هذه التي تزكي النفس، فإذا ما عملتم والنفوس خبيثة فكيف تدخلون الجنة؟ وقد تصابون أياماً بحصار عدو وحرب تدخلون فيها معه، وبجوع، وقحط، ولا يتبدل فيكم شيء، قلوبكم مع الله وألسنتكم ذاكرة، وقلوبكم ذاكرة شاكرة، هذا هو الطريق. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:214] أي: حالهم وصفتهم، مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214] زلزالاً، وتزلزلت المدينة في حرب أحد لما انكسر المؤمنون وانهزموا، كل بيت فيه من يصرخ ويبكي، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] هذا مع الرسل السابقين، وحتى مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، يقولون: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214]؟ والله يقول لهم: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] لا تستبطئوه.

التربية بالرد النبوي على شكاية المضطهدين في مكة

ولنذكر حديثه صلى الله عليه وسلم عندما كان متكئاً تحت البيت مستظلاً بجدار الكعبة، فجاءه من يبكي ويقول: ألا تدعو الله لنا، ألا تستنصر لنا يا رسول الله؟ من أولئك المضطهدين المعذبين المنكل بهم، يقول: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ فيقول له: ( لقد كان من كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على رأسه فيقسم نصفين، ويمشط ما دون لحمه وعظمه بأمشاط الحديد لا يرده ذلك عن دينه، ثم قال: والله! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه )، وتم هذا، فلم الاستعجال؟ لو تعرفون حياة الصحابة والذين ما عاشوا حتى الفتوحات فسنستحي أن نقول: نحن مؤمنون أمامهم.إذاً: ها نحن الآن مبتلون فقط بالتكاليف، هيا نتخلى عن الربا، لا يراني الله واقفاً أمام بنك ربوي، وصاحب البنك يغلقه أيضاً ويرمي بالمفتاح، ويطلب رزق الله حتى من الحمالة أو من أي شيء، نطهر قلوبنا من النظر إلى غير الله، من التعلق بغير الله، ونجعل قلوبنا خالصة لله، لا نلتفت إلى نبي ولا ولي، ما لنا إلا الله عز وجل، نطهر أنفسنا من اللغو والكلام الباطل، هذه الغيبة والنميمة والأضاحيك، نطهر بيوتنا، عجلوا قبل أن تنزل المصيبة، بيوت المؤمنين فيها عاهرات يغنين، والمؤمن وامرأته وأولاده يشاهدون، أهذا هو الإيمان؟ أين الحجاب؟ وقد بلغنا اليوم خبر من نقمة الله، أحد الغافلين سقط الدش على رأسه فكسر رأسه، هل من معتبر؟ الأحياء يعتبرون والأموات لا يعتبرون، على الأقل نقلل من هذا الإسراف في الطعام والشراب، وإذا توافر ريال أو عشرة نسد به خلة محتاج أو نساعد به مؤمناً، أو نضعه في خير من الخيرات، لم التكالب على هذه الأوساخ مادمنا في أمن ورخاء، لم ما نتنزه عن هذه القاذورات والأوساخ؟ كأننا نسينا أن الله بالمرصاد، ونحن نريد أن ندخل الجنة، هل نحسب أن ندخل الجنة؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214] إلى حد أن يقول الرسول والمؤمنون معه: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] يستبطئون هذا، والرسول يقول ذلك لأن الأعراض البشرية عامة في الرسل وفي غيرهم، يقولون: متى نصر الله؟ والرسول يقول: اثبتوا واصبروا فستنفرج: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].

صيحة نذير بترك الدخان وإعفاء اللحية

نصرخ بين المؤمنين في التدخين فقط طول أربعين سنة: يا عبد الله يا أمة الله! الذي يذكر الله بفمه وقلبه كيف يخبث فمه برائحة كريهة؟ أسألكم بالله يا علماء: هل الذي يأخذ اسم الله في ورقة ويدسه في عذرة هل تحكمون بكفره أو لا؟ والله! ما بقي له من الإيمان شيء، ارتد وكفر.إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يسلم عليه أحد أصحابه وهو على غير وضوء، فيعمد إلى جدار من جدران المدينة من لبن وتراب، ويتيمم من أجل أن يرد السلام؛ لأن في الرد اسم الله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أي: من أجل أن يذكر الله، ما استطاع أن يذكر الله بدون وضوء، وشرع لنا السواك لم؟ قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )؛ لأنهم يذكرون الله عز وجل، هذه الأفواه مجاري ذكر الله أو لا؟ كيف تذكر الله بدون فمك وحلقومك ولسانك؟ هذا الموضع حرام أن يتلوث، أما الكافر الذي لا يذكر الله فيجعل في فمه حتى الخرء ما يضره ذلك، أرني مؤمناً تمضي عليه ساعة ما يذكر الله، ما هو بمعقول أبداً، فهو يرد السلام: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ويقال له: كيف حالك، فيقول: الحمد لله، ويقف: باسم الله، ويجلس: باسم الله، دائماً يذكر الله، كيف يلوث فمه؟ وما استجبنا، وما عرفنا، كأننا مشدودون بالأرض. وكذلك اللحية، قلنا: يا عباد الله! أنتم عسكر محمد صلى الله عليه وسلم، أنتم جيش الله، لا بد أن تكون لكم سمات خاصة لا تشتبه بسمات الكفار والمشركين والفاسقين أبداً، ما هي الميزة التي تميزكم؟ هي لحاكم، اليهود والنصارى والكفار لا لحى لهم، وجيش محمد له لحية أو لا؟ يحرم أن يكون مثلهم، وقد قلنا لهم: الجندي في اليابان، في الصين، في الأمم الهابطة، في الراقية، العسكري لا يستطيع مدني أن يلبس لباسه، فإنه يسجن أربع سنوات ويؤدب، كيف تلبس لباس جندي وأنت مدني؟ هذا معروف في العالم أو لا؟ ورجال الإسلام كلهم عسكر محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً: فلباسهم يجب أن يتميز عن لباس الكافرين والمشركين، ومن أكبر الميزات الذي وضعها الرسول اللحية، فأعفوا لحاكم، فالمشركون والكافرون يحلقون، وصرخنا في باب الحجاب. المهم أننا -والله- لبالمرصاد، ما ندري متى يغضب الجبار، سئل أحدهم: أين الله؟ فقال: بالمرصاد، أتعرفون المرصاد أو لا؟ ذاك الذي يجلس على جبل ويترقب الغزلان أو الطيور متى تنزل ليضرب. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14]، فإما أن يتوب المسلمون فوراً بعجالة، ويظهروا في مظهر إسلامهم الحق، وإلا فسوف تنزل بهم الويلات والنكبات ويخسرون دنياهم وآخرتهم إلا من رحمه الله، هكذا قيل لأصحاب الرسول أو لا؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:214] ما هو؟ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] من شدة البلاء والكرب، ونحن -والحمد لله- لا كرب ولا بلاء، أحدثنا الكروب والبلاء بأنفسنا، مزقنا صلات الروابط والعلاقات الطيبة علاقات الإيمان، وأخذ الحسد يمزقنا والكبر يشتتنا، وأثارت الشياطين الخلاف بيننا، وتمزقنا بأنفسنا، إلى أين مصيرنا؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآية

والآن مع شرح هذه الآية الكريمة. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة: ينكر تعالى على المؤمنين وهم في أيام شدة ولأواء ] ينكر عليهم [ ظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون امتحان ولا ابتلاء في النفس والمال، بل وأن يصيبهم ما أصاب غيرهم من البأساء والضراء والزلزال، وهو الاضطراب والقلق من الأهوال، حتى يقول الرسول والمؤمنون معه استبطاءً للنصر الذي وُعدوا به: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214]؟ فيجيبهم ربهم تعالى بقوله: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]].

هداية الآية

هذه الآية فيها أربع هدايات:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية الكريمة:من هداية الآية:أولاً: الابتلاء بالتكاليف الشرعية -ومنها الجهاد بالنفس والمال- ضروري لدخول الجنة ]، الابتلاء والله لا بد منه لدخول الجنة، والذي يريد أن لا يبتلى ولا يكلف ويعيش كالحيوان مصيره معروف إلى عالم الشقاء النار والعياذ بالله.[ ثانياً: الترغيب في الائتساء بالصالحين والاقتداء بهم في العمل والصبر ]؛ إذ قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214] إذاً: ائتسوا واقتدوا أيضاً، فاصبروا كما صبروا، وإن كان زلزالكم وبلاؤكم أقل أو أكثر فلقد سبقكم أمم من الصالحين وصبروا على هذا.[ ثالثاً: جواز الأعراض البشرية على الرسل كالقلق ]، فالرسول رسول، ولكن يقلق، يستبطئ النصر، يتألم، لماذا؟ لأنه بشري ما هو بملك، فيه صفات البشر، والإنسان يحزن، يكرب، يخاف، يجوع، ويعطش، لا بد من هذا، وإن كان نبياً ورسولاً، فهذه الآية دلت على هذه.[ جواز الأعراض البشرية على الرسل كالقلق والاستبطاء للوعد الإلهي انتظاراً له.رابعاً: بيان ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من شدة وبلاء أيام الجهاد وحصار المشركين لهم ] في مكة، وفي المدينة أعظم، في مكة ابتلوا من المشركين، فهذا يضربونه، وهذا يقتلونه وهذا يفعلون به كذا، وما ننسى أبداً أن سمية وزوجها ياسر قتلا على مرأى ومسمع بين الناس.معاشر المستمعين! هل من توبة إلى الله، هل من رجعة إلى الله قبل فوات الوقت، والله! إننا لتحت النظارة، والبلاء ينتقل من بقعة إلى بقعة، فالمؤمنون إذا ثبتوا وصبروا كان هذا القلق والاضطراب رفعاً لدرجاتهم، وأما العذاب فيمسهم منه ما يمس غيرهم، والذين تهوكوا وهبطوا وأعرضوا عن الله وذكره فمصيرهم معروف، والله تعالى أسأل أن يحسن عاقبتنا وعاقبة كل مؤمن ومؤمنة.ندعو لإخواننا المصابين بالبلاء في الأفغان والديار الجزائرية، إذ ما نملك إلا الدعاء، فنحن ندعو الله عز وجل والله لا يخيب داعياً يدعوه في صدق وإخلاص.فاللهم يا ولي المؤمنين، ويا متولي الصالحين، ويا رب العالمين، إن عباداً لك مؤمنين في الديار الأفغانية والجزائرية قد أصيبوا بكرب عظيم وخلاف شديد، واشتعلت نار الفتنة بينهم فقتل بعضهم بعضاً، ونكل بعضهم ببعض، اللهم فرج ما بهم، اللهم فرج ما بهم، وأطفئ نار الفتنة بينهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين، ربنا إنه لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء وأنت السميع العليم، كما نصرت نبيك ورسولك محمداً والمؤمنين في غزوة الخندق بعد الحصار الشديد، فانصر عبادك المؤمنين على أنفسهم وعلى شياطينهم وأهوائهم؛ ليعودوا إليك ويتوبوا إلى صراطك لينجوا من هذه الإحن والمحن والفتن يا رب العالمين، وق ديارنا هذه من مثلها وديار المؤمنين يا رب العالمين، وتب على الجميع إنك رب الجميع.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-17, 10:27 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير آل عمران- (1)
الحلقة (142)



تفسير سورة آل عمران (1)


بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام، وأنزل عليه القرآن مصدقاً لما بين يديه، كما أنزل التوراة والإنجيل من قبل على موسى وعيسى، وهذا القرآن الذي أنزل على محمد أنزل عليه بالحق، لا يفارقه ولا ينفصل عنه، فلو اجتمع علماء الأرض ومثقفوها ليثبتوا ورود خطأ واحد في القرآن، لما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

بين يدي سورة آل عمران

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) فالحمد لله أن أهلنا الله لهذا الخير!ووراء ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )، ووراء ذلك: ( لا يزال أحدكم في صلاة ما دام ينتظر التي بعدها، ولا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مسجده: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث ). فهذه غنائم باردة لا تكلفنا شيئاً، ومع هذا أعرضنا عنها وأدبرنا فحرمنا تزكية أنفسنا وطهارة أرواحنا، وحرمنا العلم الذي يرفع تعالى أهله درجات، وساد الجهل وخيم في ديارنا، ولهذا نبكي ونتباكى!لم لا نعود إلى ما كان عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحفادهم وأبناءهم؟أما بلغنا قول الله عز وجل وإبراهيم وإسماعيل يبنيان الكعبة وهما يتقاولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]؟أما استجاب الله لهما وبعث في ذرية إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان يجلس لأصحابه رجالاً ونساء كباراً وصغاراً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم؟!بلى. وقد امتن الله تعالى بهذه النعمة علينا في آيتين من كتابه إذ قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]. زكاهم. أي: طيبهم وطهرهم، حتى أصبحوا لا يماثلهم بشري على سطح هذه الأرض مما عدا أنبياء الله ورسله.فكيف زكوا وطابوا وتعلموا؟ هل تنقلوا من جامعة إلى أخرى؟ لا. بل كانوا يجلسون في بيت ربهم ويتعلمون الكتاب والحكمة، وما زالوا يتعلمون حتى أصبحوا علماء ربانيين؛ فاختفى كل مظهر من مظاهر الشر والخبث والفساد والظلم في حياتهم، فهيا نعود إلى ما كان عليه أسلافنا!أما تستطيعون أن تجتمعوا كل ليلة في جامعكم الذي يجمعكم ساعة ونصف بين المغرب والعشاء؟ يا أهل المدن! إن لكم أحياء تعيشون فيها فاجتمعوا في جامع حيكم بنسائكم وأطفالكم ورجالكم كل ليلة وطول الحياة من المغرب إلى العشاء! أتعجزون عن هذا؟ فكيف إذاً تخترقون السبع الطباق وتنزلون بالملكوت الأعلى وتجتازون مسافة سبعة آلاف وخمسمائة عام؟أين يذهب بعقولكم؟نريد ألا نرى مظهراً من مظاهر الظلم والفسق والفجور والخبث، وألا نرى فقراً ولا مرضاً ولا تعاسة ولا ظلماً ولا جوراً، ولكن هذا لا يتأتى بالكلام فحسب، بل لا بد من العمل. ووالله أنه لا سبيل إلى نجاتنا إلا هذا الطريق، وإلا فإننا سنتمزق ونخسر خسراناً أبدياً، فإن لله تعالى سنناً لا تتبدل ولا تتغير: الطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، تلك سنن لا تتبدل، الكتاب والحكمة يطهران وينظفان ويعلمان ويرفعان إلى الملكوت الأعلى!خذوها من باب التعليم الواضح! ألسنا نقتدي بالأوروبيين حتى في الزي واللباس، فلم لا نقتدي بهم في هذه القضية؟ هم إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا دولاب العمل، فلبسوا أحسن ثيابهم وأخذوا بناتهم ونساءهم وأولادهم إلى الملاهي والمراقص والمقاصف ودور السينما، فلماذا نحن لا نوقف العمل عند أذان المغرب ونذهب إلى بيوت الرب لنتعلم الكتاب والحكمة لتزكو أنفسنا ونأخذ صك الفلاح من ربنا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]؟هذا الكلام يا أهل الدرس مكرر سئمتموه ومللتموه، ولكن هل بلغكم أن أهل قرية قالوا: آمنا واجتمعوا في جامعهم يتعلمون الكتاب والحكمة، النساء وراء ستارة، والأطفال دونهن، والفحول أمامهن، ومعلم الكتاب والحكمة بين أيديهم، ليلة آية، وأخرى حديثاً، طول العام؟تصور إذا دقت الساعة السادسة لم يبق دكاناً مفتوحاً ولا مقهى ولا متجراً ولا فلاحاً بيده مسحاة.. ولا ولا، فجميع أهل القرية في بيت ربهم! الله أكبر! أي شرف هذا؟ فلو يجلسون فقط يبكون بين يديه سبحانه لرحمهم ورفعهم إلى الملكوت الأعلى، فضلاً على أنهم يتعلمون الكتاب والحكمة لتزكية نفوسهم، ثم لتطهير أرواحهم، ثم للتأدب بالآداب التي لا يساويها أدب في هذا العالم.والآن مع سورة آل عمران ثالثة السور القرآنية من الكتاب العظيم القرآن الكريم، فالسورة الأولى الفاتحة وبها افتتح الله كتابه، والثانية البقرة ذات الألف حكم، والثالثة (سورة آل عمران) على الحكاية، و(آل) بمعنى: أهل. (عمران) من أعلام بني إسرائيل.وعدد آيات هذه السورة: مائتا آية بلا خلاف، كل آية كالشمس تضيء الحياة، وكل آية علامة على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن لقاء الله حق ثابت لا ينكره إلا أحمق أو مجنون.

تفسير قوله تعالى: (الم)

يقول الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:1-6].فما معنى: الم [آل عمران:1]؟الجواب: هذا من المتشابه الذي امتحن الله به عباده، واستأثر تعالى بعلمه ومعرفته، فقال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، آمنا به، فكل من المحكم المتشابه من عند ربنا!وقد قرأنا في البقرة وقلنا: لهذه الحروف فوائد عجيبة عظيمة، فعندما تريد أن تفسرها فقل: الله أعلم بمراده بها، فوض الأمر للعليم الحكيم.

فوائد الحروف المقطعة في أوائل سور القرآن

إن سئلت عن فوائد الحروف المقطعة في أوائل سور القرآن الكريم فقل:أولاً: لما أعرض المشركون في مكة عن سماع القرآن، وأصدروا أوامرهم بمعاقبة من ضبط يسمع القرآن، كما بين ذلك الله تعالى في سورة فصلت فقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]. أي: إياكم أن تسمعوا، وإذا أخذ يقرأ صيحوا أنتم وضجوا وصفروا حتى لا يسمع أحد! هذا حفاظاً على الوطنية، فأيام الحزبية والوطنيات كان إذا قام رئيس حزب يخطب قام أعداؤه من الحزب الثاني يفعلون كما فعل حزبه فيصيحون ويصفرون حتى يحجبوا كلامه.إذاً: لما منعت قريش سماع القرآن جاءهم الله عز وجل بهذه الحروف التي ما عهدوها، ولا سمعوا بهذا النغم وهذا الصوت، فما عرفوه أبداً طول حياتهم هم وأجدادهم وآبائهم، فكان أحدهم إذا سمع: طسم [الشعراء:1] يضطر اضطراراً إلى أن يستمع ليعلم ما وراء ذلك. وإذا سمع: المر [الرعد:1] سمع نغماً جديداً فيصغي ويسمع، حتى ولو كان من جنودهم وزبانيتهم فلا يبالي، وإن أخذ أجرة وتعهد ألا يسمع. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسمعهم القرآن حول الكعبة، فلا يستطيعون أن يحضروا، فما إن يعتم الظلام حتى يتسللون إلى مكان بجوار النبي صلى الله عليه وسلم فيسمعون ترنمه بالقرآن وهو يصلي، حتى إذا التقى بعضهم ببعض لاموا أنفسهم وتعاهدوا أن لا يفعلوا ذلك مرة أخرى، وقد جاء هذا في سورة الإسراء إذ قال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الإسراء:47]. وأما نحن فقد صرفنا عن القرآن بالحيلة الأدبية.. بالأغاني، وهذا أسلوب جديد من مكر أعداء الدين، فأصبح أهل البيت المسلم بدل أن يجتمعوا حول كتاب الله قبيل تناول طعام العشاء أو بعد صلاة العشاء فيتلون آية ويبكون وتنشرح صدورهم وتسمو آدابهم، بدل هذا أصبحوا يطربون للأغاني، وهذا أسلوب شيطاني وضعه بنو عمنا اليهود، وانجذبنا ومشينا وراءهم، فما أصبحت تسمع قرآناً في بيت إلا إذا كان فيه ميت فقط، أما أن يجتمعوا على أن يتلوا آياته ويتأدبوا بآدابه ويتعلموا أحكامه فلا يوجد ذلك أبداً، وهذه الحيلة أكثر خطراً من قانون أبي سفيان وزمرته فقد كانوا لا يسمحون للناس بالسماع ومع هذا هم يسترقون السمع ويتسمعون شوقاً ورغبة، أما بيوت المسلمين اليوم فقد تركت للأغاني والمزامير؛ وذلك حتى يعرضوا عن ذكر الله فيهلكوا ويتمزقوا فيتمكن اليهود من أن يسودوا ويحكموا. هذه الفائدة الأولى من الحروف المقطعة في أوائل سور القرآن الكريم.الفائدة الثانية: لما حاج المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا ليس بقرآن إنما هو شعر، هم في حقيقة أمرهم يعلمون أنهم يكذبون، فما هو بالشعر، وقالوا سحر وما هو بسحر، وكل ذلك ليدحضوا الحق بالباطل، فتحداهم الحق عز وجل بهذه الحروف، فهذا القرآن مؤلف من هذه الحروف: كهيعص [مريم:1]، يس [يس:1]، طه [طه:1]، ق [ق:1]، فألفوا مثله أو اعترفوا بأنه كلام الله وتوبوا إليه.إذاً: تحداهم الله بهذه الحروف وطالبهم أن يأتوا بسورة فقط، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة:23] أي: شك مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ [البقرة:23] ممن تعولون عليهم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24]، ما قال: أعدت لكم بل قال: (للكافرين)؛ لأن العبرة بالكفر.قال أهل البصيرة: قوله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24] هذه الكلمة لا يقدر على قولها إلا الله. وقالوا: هيا بنا إلى اليابان أهل الصناعة هل في بإمكان اليابان أن تنتج آلة من الآلات أو مركباً من المراكب أو حتى ملعقة وتقول لك: أتحدى العالم الإنساني سبعين سنة أن يوجدوا مثلها؟ هل يمكن أن تفعل اليابان هذا؟ أمريكا؟ ألمانيا؟ لا، يملكون أن يحتفظوا بهذا النوع من الصناعة إلى بعد سبعين سنة أو مائة سنة ثم يوجد من يصنع مثله، فلا يقولون هذا أبداً. أما الله فقال: (ولن تفعلوا) وقد مضى من السنين ألف وأربعمائة وخمسة عشر سنة فهل استطاع أحد أن يأتي بسورة من مثل هذا القرآن؟ لم يستطيعوا، فدل هذا على أنه كلام الله.

تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)

قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2]. (الله) لفظ الجلالة اسم للرب تبارك وتعالى، يخبر تعالى عن نفسه بأنه: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2] وحده لا شريك له.أيها الملاحدة والمبطلون والسحرة هل تستطيعون أن تجدوا إلهاً مثل الله يخلق ويرزق مخلوقه ويدبر حياته من أولها إلى نهايتها؟والله لو تجتمع الدول الصناعية بأكملها على أن يخلقوا من لا شيء حيواناً ولو ذبابة والله ما قدروا، ووالله ما استطاعوا! قد يقول قائل: يا شيخ! صنعوا الطيارة تحمل خمسمائة نسمة، وهذا المسجد يتسع لهذا العدد، فأقول له: هذه صناعة علمهم الله إياها وأقدرهم عليها وأوجد إمكانياتها، فهم ما خلقوا شيئاً، فالطين لله والحجارة والحديد والنار والعمال كلهم خلق الله وتذليله، فماذا فعلوا؟

معنى قوله تعالى: (لا إله إلا هو)

لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2] فلا تفهم من (لا إله) هذا أنه لا رب إلا هو، ولكن معناه: لا معبود يستحق أن يعبد إلا هو سبحانه، فلا معبود في الكائنات العلوية أو السفلية يستحق أن يعبد فتوضع الجباه له على الأرض وترفع إليه الأكف ويستغاث به وينادى في ظلمات البر والبحر فيغيث ويجيب إلا هو سبحانه وتعالى، لا يوجد والله إلا الله. هل يوجد من ينقض هذه الحقيقة؟ لا أحد.قلنا: هيا بنا إلى مؤتمر الشيوعية في موسكو، البلشفية الحمراء، أهل الإلحاد ومبدأ: (لا إله والحياة مادة)، انعقد المؤتمر وحضره أتباع الشيوعية من الصين إلى البرازيل وكذا أهل الشيوعية من العرب الذين مازالوا على شيوعيتهم بعد أن هبطت الشيوعية وتمزقت، فما زال المغفلون الأغبياء يتكلمون بالشيوعية! اجتمعوا في مؤتمرهم وقالوا: ( لا إله والحياة مادة). فنقول لهم : اسمعوا بما أوتيتم من البصيرة والعلم والمعرفة في الحياة كلها! اعلموا أنه لا إله إلا الله، وأما أنتم فسفهاء حمقى! قف أنت يا مسيو! حضرت المؤتمر ولكن نريد أن نسألك هذا السؤال البسيط: أنت موجود أو غير موجود؟ يا مسيو هل أنت موجود أم لا؟ فإن قال: أنا غير موجود غير مخلوق قلنا: أخرجوه، فهذا أحمق مجنون. وإن قال: نعم. كيف ذلك، أنا موجود. نقول: من أوجدك؟ من هو موجدك؟ عندها يقول: هاه! يفغر بها فاه! أين معنى: (لا إله والحياة مادة) التي تتشدقون بها وتضللون الناس بها؟ أيها المسحورون! قد سحرتكم اليهودية والمسيحية، وإلا فالبشرية منذ أن كانت تفقد النور تفقد الأنبياء تفقد العلم لا تنكر وجود الله أبداً، بل تثبت وجود الله بالفطرة.المشركو العرب قال الله عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] فلا يقولون: الحياة مادة. من خلق السماوات والأرض؟ العزيز العليم. فالحمد لله أن انطفأت شعلة الشيوعية وتمزقت ببركة جهاد المسلمين في الأفغان.إذاً: كلمة (لا إله) نفي، أي: لا إله بحق، فالإله الحق موجود، وهذه العوالم كلها أوجدها الإله الحق سبحانه.فكيف يأتي هذا الإنسان الضعيف وينفيه؟ أنت لو وجدت كأس حليب أو شاي أو لبن أو ماء على طاولة هل تستطيع أن تقنع الناس بأن هذا وجد من نفسه؟ قد تسحر ألفاً أو ألفين وباقي الناس سيقولون: أين هذا المجنون؟ كيف يوجد هذا الكأس هنا بدون موجد؟ من وضع فيه الماء أو اللبن؟ كيف يوجد هنا تلقائياً؟ مستحيل. فكيف إذاً بالشمس؟ من أوجد هذا الكوكب العظيم والنار الملتهبة التي تكبر الأرض بمليون ونصف مليون مرة كما قرر ذلك علماء الإسلام قبل أن يعرفه العالم الغربي؟ لو أخذت البشرية وجعلت في زاوية من زوايا كوكب الشمس والله لا تسدها، فكيف لهؤلاء أن ينكروا النار وعذاب الآخرة؟! هذه الشمس فقط هذا اتساعها وهذا كبرها، أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون وهي كوكب له فلك ويدور، ويوم يأذن الله بهبوطه يتكور ويسقط على الأرض، من خلقه؟ إنه الله خالق كل شيء.أسوأ مخلوق الذي ينفي وجود الله، بل هذا لا يعتبر إنساناً أبداً، والحيوانات لا تنفي وجود الله، وأما الشيوعية ولا إله والحياة مادة فهي من مكر يهود، أرادوا أن يستعجلوا بتحقيق مملكتهم من النيل إلى الفرات ثم العالم أجمع فوضعوا خططاً عجيبة من بينها الشيوعية، حولوا أوروبا الصليبية المسيحية التي كان يوجد فيها الرحمة والعدل.. وو، حولوها إلى بلاشفة، ثلاثة أرباع أوروبا لا يؤمنون بالله، وانتقل ذاك الظلام إلى العالم الإسلامي ففعل ما فعل.إذاً: الله موجود، والصليبيون يقولون بثلاثة آلهة، ولهم مؤتمر في روما يجتمع فيه رؤساء الدين المسيحي فنقول لهم: لا إله إلا الله، هل تستطيعون نقضها؟ إما أن تقولوا: (لا إله) وهو مذهب الشيوعية وقد انهزمت ولله الحمد.أو أنكم تقولون: الآلهة ثلاثة، من هم عيسى. فنقول: كيف يكون عيسى إلهاً وأنتم تزعمون أن اليهود صلبوه وذبحوه وقتلوه؟ هل الإله يقتل؟ من يدير الكون والحياة كلها إذاً ؟ وإن كنا نحن المسلمون قد أعلمنا الله أن عيسى والله ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، لكن أنتم أيها المسيحيون تعلقون الصليب في أعناقكم وفي دبر سيارتكم تعبدونه؛ لأن عيسى صلب، فأنتم مجانين. يقتل إلهكم ويصلب وأنتم تسخطون على اليهود وتبغضونهم ولا يفتح النصراني عينيه في اليهودي لأنه يعتقد أنه قتل ربه، فكيف تعبدون من يصلب ويقتل؟ومن آيات الله: منذ حوالي خمسة عشر سنة أعلن بولس الثامن علناً: أن اليهود برآء من دم السيد المسيح. إيه الآن فقط عرفوا ذلك، أما نحن فقد عرفنا هذا من قبل ألف وأربعمائة سنة، إذ قال تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]! كذبتم الإسلام والمسلمين هذه القرون والآن ظهر لكم أن اليهود برآء؛ لأنهم سحروكم! سمعتم هذه الفضيحة! أجيال عبر قرون عديدة تعتقد هذه القضية وبعد تنقضونها لا لشيء إلا لسحر اليهود!إذاً: بطل أن يكون عيسى إله.وأم عيسى ذات الرحم الذي حملت عيسى ببطنها هل تصلح أن تكون إلهاً؟ ماتت مريم أم لا؟ نعم، ماتت. إذاً: مات الإله، مات عيسى وماتت مريم وماتت الأقانيم، فأين الإله؟ ليس هناك أضحوكة ولا سخرية أعظم من اعتقاد النصارى، اعتقاد هابط إلى أبعد حد.وقد جاء وفدهم المكون من ستين فارساً من نجران يجادلون الرسول صلى الله عليه وسلم ويحاجونه في شأن عيسى، فنزلت هذه السورة، نزل أولها وفيه نيف وثمانون آية كلها في إبطال النصرانية، إبطال تأليه عيسى وأمه عليهما السلام، وانهزموا.إذاً: لا معبود يستحق أن يعبد إلا الله، فلا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح.. ولا ولا ولا يستحق العبادة من دون الله. يا عباد الله! أنتم تذكرون الله بلا إله إلا الله لا إله، ووالله لا ينقضها عاقل؛ لأن نقضها إما أن يكون بدعوى: لا إله وأن الحياة كلها عدم، أو بوجود أكثر من إله، وهذه خرافة باطلة.ولما جهلونا وأبعدونا عن المساجد وكتاب الله وهو الروح وفيه الحياة وهو النور وفيه الهداية أصبح أحدنا المسبحة في يده يذكر: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، فلما ينام وتسقط السبحة من يده يقول: يا سيدي فلان! فهل هذا صادق أم كاذب؟ أنت تصرخ لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، فلما تعثر دابتك تصرخ: يا سيد عبد القادر! فأين الله؟ذات مرة راكب إلى جواري أحد الناس فخرج السائق بالسيارة عن الطريق فقال هذا الراكب: يا رسول الله! يا رسول الله، ولو مات مات مشركاً. معناه: اعترف بإله غير الله؛ لأن الذي تناديه في الغيب وتعتقد أنه يسمع صوتك ويمد يده لإنقاذك لن يكون هذا إلا الله، فمن دعوت وناديت واستغثت به وصفته بصفات الإلهية، وأعطيته صفات الرب الحق وجعلته إلهاً من دون الله وأنت لا تشعر. فكل ما عبد من الأحجار والأصنام والفروج يسمى إلهاً، والفروع والله تعبد في الهند، الذكر والخصيتين من الحديد أو النحاس ، حتى العرب فيهم عبدة الفروج. والشاهد عندنا: كل من عبد يطلق عليه إله، واسمع كلمة كفار قريش مع ما هم عليه من البصيرة، قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، كيف يجعل الآلهة كلها إلهاً واحداً مع أن في كل بيت صنم يعبد؟ تعجبوا! أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6]، هذه مؤامرة خارجية وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:5-7]! أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ [القمر:25-26]، لاقوها في بدر، لاقوها في مكة يوم طأطئوا رءوسهم وخنعوا ودخل البدر الإلهي: ( يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم! قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، الكمال المحمدي أسوتنا، ولو عقلنا وفهمنا نكون مثله.لما كنا نحارب الاستعمار البريطاني والإيطالي والأسباني لبلادنا كانوا يدعون الناس الجهاد الجهاد، فأخذوا أموال النساء والرجال، فلما كان الاستقلال ذبحوا إخوانهم، فتكوا بهم، فعلوا العجب نقمة منهم بحجة أنهم عملاء. فقلنا لهم: أنتم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ؟! محمد صلى الله عليه وسلم حاربته قريش عشر سنوات ولما حكم وساد ودخل مكة قال: ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ). لكن المسلمون العرب أيام الاستعمار كان يقتل بعضهم بعضاً بالمناشير، فلا إله إلا الله! والله العظيم -واشهد يا رب- منذ سنين بلغني عن سجون العرب بالذات والله إن عذاباً يتم في سجونهم لا يتم يوم القيامة، لا يوجد في النار! آه! ما العلة؟إنه الجهل، والله ما عرفوا الله حتى يحبوه، ما عرفوا الله حتى يخافوه، ومن لم يحب الله ولم يخفه فأنى له أن يطيعه فيمتثل أمره ويجتنب نهيه؟ مستحيل! عرف العدو من أين تؤكل الكتف فقال: جهلوهم تسودوا وتحكموا. وجهلونا وسادوا وحكموا وارتفعوا! قد يقول قائل: يا شيخ! عندنا المدارس في كل قرية وفي كل مكان! فأقول له: أين آثار ذلك العلم؟ الكذب موجود، خلف الوعد والخيانة موجود، والزنا موجود، الزنا والله يزني بعض المسلمين بنساء إخوانهم المؤمنين، فما عرفوا الله حق معرفته! وأما إذا نشدوا التغيير فيسلكون طريق الثورة والانقلابات فيحصل الذبح والقتل. فإذا كلموا في ذلك يقولون: ما الحل يا شيخ؟الحل قل: أنا مسلم، وابحث عن محاب ربك، تعلمها وقدمها له، واسأل أهل القرآن والسنة عن مباغض الله ومكارهه فاعرفها واجتنبها، والزم طريقك حتى تلقى ربك، والله لا حل إلا هذا بالنسبة إلى الأفراد، أما بالنسبة إلى الأمة فلا حل لها إلا أن تعود إلى بيوت ربها تبكي بين يديه، وتتعلم الكتاب والحكمة فلا مذهبية ولا عنصرية ولا قبلية ولا وطنية.. ولا ولا، مسلمون طريقنا واحد، صراط الله المستقيم، فلا تقل: حنبلي ولا ولا زيدي ولا أباضي ولا رافضي، بل قال الله، قال رسوله، أسلم قلبك ووجهك لله، واسأل عن محاب ربك فافعلها بإذعان وانقياد وحب فيه، واسأل عن مساخط الله ومكارهه وتجنبها ولو كانت شهوة في نفسك فما هو بصعب، ولا يكلف دماء ولا أموالاً.. ولا ولا! فقط إمام المسجد يوم الجمعة ينادي يا أهل القرية!من الليلة إن شاء الله ما يتخلف منكم واحد، هاتوا نساءكم وأولادكم إلى بيت الله! سيقولون: يا شيخ نساءنا فيهن الحيَّض. فيقول لهم: الحائض تبقى عند جدار الباب ومكبر الصوت يصل إليها. هاتوا أطفالكم فلا يبقى ولد في الشارع، وينظمون جلسة يحضرها الأطفال والرجال ويصلون المغرب في تلك الصفوف الربانية ويسلمون وقلوبهم مع الله، ويجلسون أمام المربي فيتعلمون آية واحدة، ومن الغد حديثاً واحداً، حفظاً وفهماً وإرادة للتطبيق والعمل، ولا يزالون يسمون ويرتفعون، ولو كادهم أهل الأرض كلهم والله ما زحزحوا أقدامهم.فيقول قائل: يا شيخ وأين الصناعات وأين عمل الدنيا ؟ فيقول: وهل هذا مانع؟ عندما يفقهون ويفهمون تصبح نتائجهم الدنيوية والله لا تساويها نتائج أخرى في الشرق والغرب، فقد عمهم الصدق والعزم، فما بقي لهو ولا باطل ولا عبث ولا سخرية، ارتفعت هممهم إلى الله عز وجل يرشدهم ويهديهم إلى ما يكملهم ويعزهم. لم ما نفعل؟ ما ندري! مسحورون! من سحرنا؟ بنو عمنا اليهود، أعظم شعب عرفته الدنيا بالسحر! لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2] أي: لا معبود بحق إلا هو سبحانه.

معنى قوله تعالى: (الحي القيوم)

قال الله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2] الحي بلا بداية وبلا نهاية، حي لا يموت، ولن يسبقه عدم، كان الله ولم يكن شيء قبله هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]، الحي الكامل الحياة، مستلزمة كل القدرات والطاقات: السمع والبصر واليد والقدم، كل ذلك من صفات الأحياء، ولكن تعالى الله أن يشبه مخلوقاته لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فإذا قال الرسول الكريم: ( يبسط الله يده ) فلا تفهم أنها يد كيد المخلوقات! انتبه! أيخلقها وتكون مثل يده؟ هل يد النجار مثل يد الكرسي؟ هل يقاس النجار بالكرسي؟ النجار له سمع وبصر وعقل والكرسي أصم أبكم، فآمنوا بصفات الله كما هي، وهي مستحيلة أن تشبه صفات المخلوقات؛ لأن المخلوق مربوب. الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2] الذي أمر السماء والأرض قائم عليه، والله لولا قيوميته لسقطت الشمس من آلاف السنين، ما تبقى هكذا. من يضبطها في هذا الكون؟ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2].

تفسير قوله تعالى: (نزل عليك الكتاب بالحق ...)

قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:3]. أي: القرآن العظيم. من نزله؟ إنه الله! هل هناك من يقول غير الله؟ مائة وأربعة عشر سورة فائت أيها الملحد بسورة فقط كأصغر سورة، ثلاث آيات: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3].لا يستطيعون! فالقرآن كلام الله، حوى علوم الأولين والآخرين، تعرض للذرة والمجرة، للآداب والأخلاق، للقوانين، فلا إله إلا الله! ينطق به أمي لا يعرف الياء ولا الباء، لم يجلس بين يدي معلم أبداً، فلا إله إلا الله!والعجيب كيف يكفر بهذا الكلام؟ يكفر به للحفاظ على المنصب وعلى الشهوة والهوى، أما عقلاً فمستحيل أن تفهم أن هذا الكتاب العظيم الذي عجزت البشرية عن محاكاته في أقصر سوره يأتي من أمي ما قرأ وما كتب، مستحيل هذا، هذا أنزل عليه، تلقاه آية وآية وسورة في ظرف ثلاثة وعشرين عاماً حتى اكتمل نزوله. (نزل عليك) أي: نزل عليك يا رسول الله. إذاً: محمد رسول الله؟ إي والله. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:3] نزل عليك القرآن لتبلغه للناس لهدايتهم وإصلاحهم وإرشادهم، فالكتاب هنا هو القرآن العظيم، و(أل) هنا للعهد وللتفخيم والتعظيم.بِالْح قِّ نزل القرآن مصحوباً بالحق لا يفارقه في كل كلمة. اقرأ القرآن والله لو يجتمع علماء الدنيا على أن يثبتوا أن آية فيها باطل والله ما كان، وإذا ضلت العقول وفهموا أن فيه آية من الباطل يأتي أرباب العقول فيبينوا فيردوهم إلى الصواب، أين ذهبت عقولكم؟ ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، كل آية تقرر مبدأ لا إله إلا الله محمد رسول الله، كل آية من أنزلها؟ الله، على من نزلت؟ على محمد. إذاً: الله موجود، ومحمد رسول الله، وهذه كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم). نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:3] فالحق مصاحب له لا يفارقه، فلا يستطيع أحد أن يثبت آية فيها باطل، بل ولا كلمة واحدة، نزل بالحق، لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

تصديق القرآن بالكتب السماوية السابقة

قال تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:3]. أي: للكتب الذي تقدمته كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف موسى وإبراهيم، وصحف شيث، فكل الكتب السابقة القرآن مصدق لها. هل كذب القرآن بالتوراة أو بالزبور لأنها عند اليهود؟ هل كذب بالإنجيل لأنه كتاب النصارى؟ والله ما كذب بكتاب من كتب الله، بل صدق وقرر أنها كتب الله عز وجل، بل فضح ما فيها من الزيغ والزيد والنقص والبطلان والتقديم والتأخير واتباع الأهواء والشهوات والأطماع، أما أن ينفيها فيقول: لا. ما نزلت، فهذا لم يرد في القرآن أبداً.وَأَنْزَل التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ [آل عمران:3-4].من الذي أنزل التوراة والإنجيل؟ إنه الله رب العالمين، الله الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم والنبيين من قبله، والتوراة في لسان العبريين معناها الشريعة، والإنجيل بلسان النصارى معناه التعليم، أي: كتاب التعليم، وهذا غير مهم، فهو علم لا ينفع والجهالة به لا تضر، أما الذي ينفع فالعلم بأن التوراة كتاب الله، وأن الإنجيل كتاب الله، ولكن اليهود عمدوا إلى تحريفهما والزيادة والنقص فيهما، فهذا عبد الله بن سلام لما حضر اليهود بالتوراة إلى النبي صلى الله عليه وسلم جعل اليهود يغطي على الكلمة المرادة فيضع يده عليها فقال عبد الله بن سلام : مره يا رسول الله يرفع يده، فالتوراة فيها آيات كالشمس تشهد أن محمداً رسول الله، والإنجيل والله كذلك، ولكن الأحبار والرهبان حرفوا وبدلوا تكبراً وعناداً للحفاظ على رئاستهم ومكانتهم.وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-17, 10:35 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير آل عمران- (2)
الحلقة (143)



تفسير سورة آل عمران (10)



بعث الله رسله ليبلغوا دينه، ويقيموا الحجة على عباده، وأيدهم بالآيات والمعجزات، فكان من الناس من آمن بالله وصدق برسالاته، ومنهم من كفر بآيات الله وكذب رسله وآذاهم، حتى بلغ ببعضهم أن قتلوا رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، وقتلوا أتباعهم ممن يأمرون بالقسط من الناس، فتوعدهم الله عز وجل بالعذاب الأليم والخزي يوم القيامة.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، فالحمد لله الذي أهلنا لهذا الخير، وربنا على كل شيء قدير.أذكركم معشر المستمعين والمستمعات بالآيات الثلاث السابقة، إذ لها نتائج وعبر نريد أن نمر بها إن شاء الله لنجتني عبرها ونعود بنورها في قلوبنا وأبصارنا، اللهم حقق لنا ذلك.الثلاث الآيات التي سبقت دراستها قبل اليوم تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:18-20].

هداية الآيات

هذه الآيات الثلاث نتائجها كما قال المصنف: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: اعتبار الشهادة والأخذ بها إن كانت قائمة على العلم وكان الشاهد أهلاً لذلك بأن كان مسلماً عدلاً ]. الشهادة تعتبر شهادة ويحتفل بها وتقبل إذا كانت قائمة على العلم، وكل شهادة لم تقم على مبدأ العلم وكون الشاهد عدلاً مسلماً فإنها لا تقبل شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، شهادة الله لأنه العليم بكل الكائنات وهو خالقها، فلم ير من هو أهل لأن يعبد معه فأعلن عن شهادته، شهد الله أنه لا معبود إلا هو، والملائكة يشهدون؛ لأنهم يطوفون بالعوالم كلها، فلو كان هناك من يستحق أن يؤله فيعبد مع الله لعرفوا، فشهدوا والله أنه لا إله إلا الله، وأولوا العلم وعلى رأسهم الرسل والأنبياء والعلماء شهدوا أيضاً، ومن فضيلة شهادتهم أن عطفها الله على شهادته وشهادة ملائكته.قال: (أولوا العلم) والذي لا علم لا قيمة لشهادته، تشهد بأن فلان قال أو فعل وأنت لا تعلم شهادتك باطلة، تشهد وأنت غير عدل ولا مستقيم منحرف معوج لا يوثق في شهادتك.هل تذكرون تلك اللطيفة؟ وهي: أن العلماء اختلفوا هل تقبل شهادة المقلد أو لا تقبل؟قال: سمعت الناس يقولون: لا إله إلا الله فقلت: لا إله إلا الله، ما عندي علم، قد يوجد إله آخر، فهل هذه الشهادة شهادة المقلد تنفع؟ ما تنفع، لا بد وأن يكون بنى شهادته على علم يقيني، وأقل ما يكون: أن نظر إلى الخليقة فوجدها كلها كانت في عدم وأصبحت موجودة، كيف يوجد فيها إله مع الله؟ ينظر فقط إلى المخلوقات العلوية والسفلية هل هناك من خلق سوى الله؟ لا أحد، لا خالق إلا الله، فلا بد إذاً من أن نخرج بشهادتنا من دائرة التقليد الأعمى.ثم ماذا أعطانا الله؟ أن تقول يا عبد الله: أنا لا أقرأ ولا أكتب ولا أستطيع أن أفكر أو أستنتج وأعتبر، أنا حسبي أن ربي شهد فأنا أشهد بشهادة الله، وأن الملائكة شهدوا فأنا أشهد بشهادتهم إذ يستحيل أن يكذبوا، وأن أولوا العلم شهدوا فأنا أشهد بشهادتهم، فهذه في صورة تقليد وفي الواقع والله على علم، فأيما مؤمن يقول: ما دام الله قد شهد أنه لا إله إلا هو والملائكة كذلك وأولوا العلم ومنهم الأنبياء والرسل الكل شهدوا فأنا أشهد بشهادة الله وملائكته وأولي العلم. هذه تنهي التقليد.هل تذكرون تلك اللطيفة؟ أن من أخذ يقرأ سورة آل عمران وانتهى إلى هذه الآيات الثلاث، وقال: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودعك اللهم هذه الشهادة فهي لي عندك وديعة ردها إلي يا ربي يوم القيامة، هذا يجاء يوم القيامة به ويقول: إن عبدي كذا وأنا أحق من يفي أدخلوه الجنة.إذاً: إذا كنت تقرأ سورة آل عمران وانتهيت بالتلاوة إلى قول الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] فقل: وأنا أيضاً وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودعك اللهم هذه الشهادة فهي لي عندك يا ربي وديعة؛ يردها الله تعالى إليك يوم القيامة وتدخل الجنة.وقد ذكرت لكم ما روي: أن أحد الطلبة نزل على عالم وسمعه يتلوا هذه الآية ويقول ذلك، فقال: علمني وأطلعني على سرك. فقال: لا أطلعك حتى تمضي عليك سنة وأنت معنا تتعلم، وحبس نفسه عاماً كاملاً، ونحن نعطاها هكذا ولا نبالي؛ لأننا هبطنا، كانوا في علياء السماء ونزلنا إلى الأرض. [ ثانياً: شهادة الله ] تعالى [ أعظم شهادة تثبت بها الشرائع والأحكام وتليها شهادة الملائكة وأولي العلم. ثالثاً: بطلان كل دين بعد الإسلام وكل ملة غير ملته ] وذلك [ لشهادة الله تعالى بذلك في قوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] ] أي: ومن يطلب غير الإسلام ديناً يدين به يجزيه به ويثيبه على عبادته فهو باطل. وإن قلت: كيف كان الأولون يدينون به لله ويكرمهم وينعم عليهم ويدخلهم الجنة؟الجواب: أولاً: تلك الأديان وهي اليهودية والنصرانية.. وما إلى ذلك داخلها الفساد بالزيد والنقصان والتقديم والتأخير فبطل مفعولها فلا تنفع.ثانياً: الذي نسخها بهذه الشريعة وأبطل مفعولها وتأثيرها هو الله عز وجل، أوجد في المادة الفلانية فائدة كذا ثم بعد قرون سلبها فأصبحت لا تنفع.وأوضح من هذا: أن الحكومة تسن قانوناً للمواطنين فيلتزمونه ويعملون به، ومن يخطئ يعاقب عليه، ثم تمضي سنوات وتنسخه، ويبقى من يعمل به سوى مجنون أو أحمق. مادة كانت تعمل بها الدولة وبعد عشرين سنة رأت عدم صلاحيتها فنسختها وأبطلتها، فلا يحتج المواطن ويقول: هذا كان دين، كان شرع في الماضي إلا أن يكون مجنوناً إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]. [ رابعاً: الخلاف بين أهل العلم والدين يتم عندما يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة فيتورطون في المطاعم والمشارب، ويتشوقون إلى الكراسي والمناصب، ويرغبون في الشرف، يومئذ يختلفون بغياً بينهم وحسداً لبعضهم بعضاً ].سنة الله: الخلاف يقع بين أهل العلم وسببه: البغي والحسد، الطمع في الدنيا، التكالب عليها، يختلفون، هذا يحلل وهذا يحرم، هذه سنة الله عز وجل في خلقه وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19]، ففي اليهود من آمن أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومنهم من كفر فاختلفوا، فالذين كفروا كفروا حفاظاً على مناصبهم ومكانتهم بين مواطنيهم وإخوانهم. والنصارى دخل في الإسلام مئات الآلاف من علمائهم واستمر آخرون على النصرانية لأجل المناصب والدنيا.[ خامساً: من أسلم قلبه لله وجوارحه وأصبح وقفاً في حياته على الله فقد اهتدى إلى سبيل النجاة والسلام ].من أسلم وجهه وجوارحه لله، الكل لله، (وأصبح وقفاً في حياته على الله) كلامه لله.. سكوته لله.. أكله لله.. بناءه لله.. هدمه لله، كل حياته لله وقف، من وقف هذا الموقف نجا وسلك سبيل السلام.[ سادساً: من علق قلبه بالحياة الدنيا وأعرض عما يصرفه عنها من العبادات ] لأن العبادات من شأنها أن تصرف عن كثير من أمور الدنيا[ ضل في حياته وسعيه وحسابه على الله وسيلقى جزاءه ] دل على هذا قول الله عز وجل: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20]، تولوا عن دعوة الحق وأعرضوا عنها يريدون الدنيا وما فيها.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين...)

معنا هاتان الآيتان الكريمتان تلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:21-22]. تأملوا هاتين الآيتين: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21] وهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فبشرهم يا رسولنا بعذاب أليم. والتعقيب: أُوْلَئِكَ [آل عمران:22] البعداء في الخسران والضلال حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [آل عمران:22] فلم ينتفعوا بها ولم يستفيدوا منها شيئاً وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:22]، فمن أذله الله من ينصره؟ ومن هزمه الله من ينصره؟تأملوا آيات الله نتدارسها: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21] هؤلاء فَبَشِّرْهُمْ [آل عمران:21] يا رسولنا، فَبَشِّرْهُمْ [آل عمران:21] أيها السامع، بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [آل عمران:21-22] لم ينتفعوا بها وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:22] لا يوجد لهم من ينصرهم إذا كان الله قد هزمهم وخذلهم وأذلهم. ‏

رواية ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين...)

لكي يتضح معنى الآيتين إليكم الرواية الآتية: أخرجها ابن جرير الطبري في تفسيره فتأملوها يتضح لكم هذا المعنى.قال: [ روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي عبيدة رضي الله عنه ] أحد العشرة [ قال أبو عبيدة : قلت: ( يا رسول الله! أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ ) ] أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا رضي الله عنهم يسألونه، بل كان صلى الله عليه وسلم يفتح لهم المجال للسؤال، قال: قلت: ( يا رسول الله! أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ ) لأن العذاب فهم وهو أنه بحسب الجرائم، وهو كذلك، فيعظم ويسهل بحسب الإثم، قال: قلت: ( يا رسول الله! أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ ) نستمع إلى جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلقاه غضاً طرياً وحياً من الملكوت الأعلى، ماذا أجابه [ قال صلى الله عليه وسلم: ( رجل قتل نبياً ) ] رجل قتل نبياً من الأنبياء، والنبي ذكر من بني آدم أوحي إليه من الله عز وجل، فمن قتل نبياً فهو أشد الناس عذاباً يوم القيامة [ ( أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر وقتل ) ] سواء بين من يقتل نبياً وبين من يقتل غير نبي ولكنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر [ ( ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21] ) ] والقسط هو العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الخير، ثم قال: [ ( يا أبا عبيدة ) ] وجه هذا النداء رسول الله إلى أبي عبيدة [ ( يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً أول النهار في ساعة واحدة ) ] بنو إسرائيل في عهد من عهودهم لما هبطوا وآثروا الدنيا عن الآخرة قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً في أول النهار في ساعة واحدة، قطعوا رقابهم [ ( فقام مائة وسبعون رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله تعالى ) ].في هذه الآية، أن المائة والسبعون قاموا وقالوا للذين قتلوا الأنبياء: لم تقتلوهم؟ أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوهم عن آخرهم، فتجاوز القتل في ذلك اليوم مائتي نبي وولي من أولياء الله، فلهذا فالآية منطبقة عليهم تمام الانطباق: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21].

رواية القرطبي في تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين...)

قال: [ وذكر القرطبي في تفسيره الرواية التالية: كل بلدة ] أو إقليم [ يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء ] أيما مدينة أو قرية أو بلد يوجد فيه أربعة رجال فأهله معصومون من البلاء، محفوظون بحفظ الله، لا يصيبهم بلاء في دنياهم فضلاً عن أخراهم، أربعة، فمن هم يا ترى؟قال: [إمام عادل لا يظلم ] أولاً: حاكم.. أمير.. شيخ، المهم في ذلك البلد حاكم عادل لا يظلم أحداً. هذا أول الأربعة: إمام عادل.ثانياً: [ وعالم على سبيل الهدى ] عالم يعلم الناس الخير ويدعوهم إليه ويساعدهم عليه، متى وجد هذا الشخص أيضاً فأهل القرية مع الإمام العادل ناجون من البلاء سالمون من المحن.ثالثاً: [ ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويحرسون على طلب العلم والقرآن ].أولاً: إمام عادل. ثانياً: عالم على سبيل الهدى يوضح الطريق وينصر أعلام الهداية. ثالثاً: مشايخ من أهل العلم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويحرسون على العلم والقرآن الكريم. رابعاً: [ ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى ] متى وجدت هذه الأربع فبشر أهل بلادهم بأنهم آمنون من البلاء.هل في بلاد العالم الإسلامي هؤلاء الأربعة؟ موجودون عندنا، والله موجودون عندنا في المملكة:أولاً: إمام عادل، فهل هناك من يرفع يده ويقول: عبد العزيز أو ابنه فيصل أو خالد أو فهد أخذوا مالي، سلبوني، ظلموني؟ ما بلغنا، وما كان، وهذا هو العدل.ثانياً: عالم على سبيل الهدى، فما خلت هذه البلاد من علماء كـمحمد بن إبراهيم وكـابن حميد وكـالباز يدعون على سبيل الهدى. ثالثاً: مشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وها هي هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل قرية وكل بلد مشايخ بعمائمهم ولحاهم.رابعاً: نساؤهم مستورات لم يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، أنتم ما عرفتم هذا والعدو والله لقد عرف هذا من سنين، وهو يعمل جاهداً على أن ينتهي العدل من هذه البلاد، ويعمل جاهداً والله العظيم على أن لا يبقى علماء من هذا النوع جاهدين على أن ينتهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله يكتبون ويتقززون من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما الحجاب الذي تنعم به هذه الأمة وفقد في العالم إلا من رحم الله فيعملون بكل الوسائل على أن تكشف المرأة السعودية وجهها، ومظاهرات تمت حتى بجدة. هذا القرطبي في القرن الرابع يقول: أربع إذا وجدوا في بلد أمن أهله من الفتن والمحن والبلايا:الأولى: إمام عادل، سواء كان حاكماً أو شيخاً أو أميراً في القرية، إذا كان عادلاً فهذا أول الخير.الثانية: عالم يبين للناس الطريق ويزيل عن أعينهم الغشاوة والعمى؛ ليعرفوا الطريق إلى الله، فبدون علم كيف ننجو ونسلك؟ هذا ضروري.الثالثة: مشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويحرصون على العلم والقرآن العظيم؛ حتى ما يفقد ويضيع.رابعاً: نساء مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى.لعلكم ما اطمأنت نفوسكم إلى ما قلت لكم، والله لكما أقول، انزع من ذهنك معنى الجهل وعدم البصيرة، يعملون ليل نهار أن لا يبقى هذا الحجاب في نسائنا، بالوسائل المتعددة، من الأفلام إلى الأقلام، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يوجد في العالم إلا في هذا البلد، وهم يجرون بالوسائل ولولا الله لكانوا أسقطوا الهيئة، ما يريدونها، فالحمد لله، نقول هذا ليبلغ عنا الخبراء أن على هذه الحكومة أن تحافظ على هؤلاء الأربعة ليستمر أمنها وطهارتها وصفاؤها.أولاً: العدل في كل من يلي أمر البلاد، حتى شيخ القرية يجب أن يكون عادلاً.ثانياً: أن لا يخلو بلد من عالم رباني يعلم الناس الهدى ويرشدهم إلى ما فيه رضا الله عز وجل.ثالثاً: لا بد من رجال يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في كل قرية وفي كل مدينة، مهمتهم إذا رأوا منكراً غيروه، وجدوا معروفاً متروكاً أمروا به حتى يفعل.والأخيرة: الحجاب، يتغنون يكيدون يمكرون فلا نسمع، فالمرأة لا تخرج كاشفة عن وجهها ولا محاسنها، وإن غضب العالم بأسره.وهناك ما رواه غير واحد: [ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قيل: ( يا رسول الله! متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ) ] صاحب سأل كما سأل أبو عبيدة : ( من أشد الناس عذاباً يوم القيامة؟ )، هذا قال: ( متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يا رسول الله؟ )، الجواب [ ( قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم من قبلكم ) ].إذا ظهر فيكم أيها المسلمون ما ظهر في الأمم من قبلكم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصدق رسول الله فمن إندونيسيا إلى بريطانيا انتهى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأننا استغربنا وأصبحنا غربيين، ما نسمح لرجل يقف أمامي يقل لي: صل، أو: يا فلانة غط وجهك، ما نسمح بهذا؛ لأن الغرب ما يفعل هذا، وكأن رسول الله شاشة أمامه يشاهد أحداث العالم فيها، عجب.[ قال: ( يا رسول الله! متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم من قبلكم. قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ ) ] يتابعونه سؤال وجواب [ ( قلنا: يا رسول الله! وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: الملك في صغاركم ) ] الحكم في أيدي صغاركم؛ لأن الحاكم يصدق أن يكون تجاوز الخمسين على الأقل، المفروض ستين وسبعين، أما حدث ما زال يلعب ويسند إليه الأمر لا يفلح [ ( قال: الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم ) ] الكبار يزنون ويفجرون [ ( الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم ) الرذالة: كحثالة ] العلم يوجد في حثالة الناس. إذا حصلت هذه انتهى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووقع هذا فعلاً، وهو غيب يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وتمضي القرون متتالية ولا بد وأن يتحقق، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

معنى قوله تعالى: (يكفرون بآيات الله)

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21] هذا خبر إلهي جاء بالمضارع في (يكفرون، ويقتلون، ويؤمرون)، فلم ما قال: (إن الذين كفروا بآيات الله وقتلوا)؟الجواب: لنتصور الواقع كأنه حاضر بين أيدينا، ولعلم الله تعالى أن هذا سيتكرر على مدى الحياة، (إن الذين يكفرون) اليوم أو غداً أو بعد ألف سنة. فما معنى: (يكفرون بآيات الله)؟ وما هي آيات الله؟علمنا أولاً: أن هذا اللفظ يشمل المعجزات التي يظهرها الله على أيدي نبيه، إذ كل معجزة آية، أي: علامة بارزة على أن من ظهرت على يده فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جحد الآيات اليهود والنصارى بالمدينة وأبوا أن يؤمنوا بالمعجزات المحمدية.ثانياً: الآيات التنزيلية القرآنية سواء في التوراة أو الإنجيل أو القرآن، تلك الآيات علامات على الحق والعدل وعلى وجود الله عز وجل وألوهيته الحاملة لشرائعه وأحكامه. إذاً: الكفران به معناه جحودها والتكذيب بها وبما تحمله من هدى، فالذي يكذب بآية واحدة من كتاب الله كفر ومأواه جهنم وبئس المصير، والذي يكفر بحكم واحد يقول: لا أعترف بالزكاة. والله كفر، أو يقول: لا أعترف بهذا الصيام. كفر، أو يقول: لا أعترف بقطع يد السارق ولا أقره. كفر. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:21] هذه الجريمة الأولى. والثانية: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:21].وهل هناك نبي قتل بحق؟ مستحيل، فهو معصوم فكيف يرتكب ذنباً يقتل به، ولكن من باب تقبيح قتل الأنبياء. الجريمة الثالثة: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21]. من هم الذين يأمرون بالقسط من الناس؟ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، العلماء العارفون بآيات الله وشرائعه، إذا أمروا بالعدل والحق والخير والمعروف قتلوهم كما فعل بنو عمنا اليهود، وفعله المسلمون في شتى العصور.

معنى قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم)

قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ من الذي يبشرهم؟ وهل العذاب بشرى تزف إليهم؟ هذا فيه معنى التهكم وهو أشد لذاعة وآلم في النفس من ضرب الجسد؛ لأن هؤلاء موجودون على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فبشرهم يا رسولنا بخبر من شأنه أن يغير بشرة وجوههم فتسود وتكلح فَبَشِّرْهُمْ [آل عمران:21] بماذا نبشرهم يا رب؟ قال: بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21].أتدرون ما العذاب؟ العذاب: كل شيء يزيل عذوبة حياتك فهو عذاب، موت أبيه عذاب يزيل عذوبة طعامه وشرابه في تلك الأيام، وكل ما يزيل عذوبة الحياة فهو العذاب، الذي يزيل ويبعد عذوبة الماء الحلو هو العذاب أو الطعام الشهي هو العذاب.والأليم الموصوف بشدة الإيلام والإيجاع، أي: شديد الإيلام والإيجاع، هذا صالح أن يكون في الدنيا وفي الآخرة، وقد تم لهم في الدنيا أيضاً، فالذين كفروا بآيات الله وقتلوا النبيين وقتلوا الآمرين بالمعروف نزلت بهم البلايا، أما في اليهود فلا تسأل، وفي النصارى أشد أيضاً.فبشرهم بعذاب موجع أولاً في الدنيا وأخيراً وثانياً في الآخرة، ولو أراد الآخرة لقال: فبشرهم بعذاب أليم يوم القيامة، لكن أطلق؛ لأن هذا يناله الناس في دنياهم وأخراهم.قد تقولون: بين لنا وأعطنا صورة يا شيخ؟فأقول: لما حكمتنا بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وفعلوا بنا الأعاجيب كان ذلك عذاباً بسبب ذنوبنا، فهو عذاب في الدنيا، وينتظرنا آخر غداً إن لم نرجع إلى الطريق السوي ونسلك سبيل الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين)
قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:22]. قوله تعالى: أُوْلَئِكَ [آل عمران:22] أشار إليهم بلام البعد (أولئك) أي: البعداء في الشقاوة والخسران.. في الضلال والكفران أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [آل عمران:22]. ‏

معنى قوله تعالى: (حبطت أعمالهم)

ما معنى: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [آل عمران:22]؟ بطلت، ما نفعتهم أعمالهم في الدنيا من البناء والتعمير والأموال، كل ذلك ما أفادهم شيئاً في الآخرة، كفرهم وشركهم وعباداتهم كلها بطلت ولم تنفعهم شيئاً. حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [آل عمران:22] معاً، ولذا كان العذاب أيضاً في الدنيا والآخرة.

إحباط الشرك للعمل في الدنيا والآخرة

هل تدرون ما الذي يحبط العمل في الآخرة؟ بلا شك هو الشرك بالله عز وجل، فالشرك مبطل للعمل محبط له، لو يعبد صاحبه ربه ألف سنة وهو راكع ساجد صائم قائم ثم يفعل شركاً اعتقده أو قاله أو عمله يبطل ذلك العمل كله ويتبخر ويتلاشى. ما الدليل؟أولاً: قول الله عز وجل على لسان عيسى بن مريم، عيسى ابن البتول عليه السلام يخطب الناس من بني إسرائيل في حفل عظيم كما حكاه الله عنه في سورة المائدة فقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. سبحان الله! كيف بلغنا هذا؟ عيسى خطب في بني إسرائيل واعظاً معلماً فمن نقل إلينا هذا؟ قولوا: الله! فالحمد لله، هذا كتابه المشتمل على كل المعارف في الدنيا والآخرة، كأننا حاضرون مع بني إسرائيل، بيان رسمي ألقاه عيسى، اسمعوا: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، فأي ظلم أعظم من الشرك؟ ما وجه ذلك؟أنت تظلم أخاك فتأخذ دابته، تظلم أخاك فتفسد عليه زوجته لتتزوجها، تظلم أخاك فتسلب ثوبه، هذا ظلم والذي يأخذ حق الله بكامله ويصرفه لمخلوق من مخلوقاته فأي ظلم أبشع من هذا؟ يعلم أن الله ما خلق الخلق إلا ليعبد، فهو سر وجود الحياة بكاملها، علة الوجود بكامله أنه أراد تعالى أن يذكر ويشكر، والعبادة ما خرجت عن الذكر والشكر، فخلق الجنة والنار والعوالم كلها، وخلق الإنس والجن من أجل أن يذكر ويشكر، فإذا ترك العبد ذكر الله وشكره خسر خسراناً أبدياً، لن يخرج من عالم الشقاء أبداً؛ لأن جريمته قومناها، جريمته كأنما نسف الكون كله. تعرفون جريمة من لم يعبد الله؟ القضاة بكم يقدرونها؟ جريمته كأنه نسف السماوات ومزق الأرض والخليقة والجنة والنار كل ذلك أبطله. هذه جريمته. كم يعذب من مليار سنة؟ فلهذا أهل الشرك خالدين فيها أبداً، فما هو قتل نفس ولا جماعة أو إحراق مدينة، هذا الخلق كله دمره؛ لأن الله ما خلق هذا الخلق إلا ليذكر هو ويشكر.إذاً: أعظم الظلم هو الشرك؛ لأنك تسلب حق الله وتعطيه للشيطان، فأعوذ بالله منك يا عبد الله! تأخذ حق الله الملك الحق وتعطيه لعدو الله؟!عرف هذا ذاكم العبد الحبشي النوبي لقمان الحكيم، عرف هذا ولم نعرفه يا أهل القرآن، أجلس طفله بين يديه يعظه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] هذه قالها لقمان من بلاد الحبشة. ولما نزلت آية الأنعام واحتار الصحابة وارتبكوا: ( من منا لم يظلم يا رسول الله؟ ) وهي قوله تعالى: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81] فأي الفريقين نحن أم أنتم أيها المشركون أحق بالأمن من عذاب الله فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81] أجاب الله بنفسه فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا [الأنعام:82] أي: لم يخلطوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]فهم أحق بالنجاة من النار، الذين آمنوا ثم لم يلبسوا إيمانهم بظلم. لما نزلت هذه الآية احتار الصحابة وجاء وفدهم إلى رسول الله وقال: ( أينا لم يظلم نفسه يا رسول الله؟ ) إذا كان لا نجاة إلا لمن لم يظلم نفسه فأينا ما يظلم؟ فقال: ( ليس الأمر كما علمتم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان الحكيم: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] )، فالظلم المانع من دخول الجنة هو ظلم الله، أن تأخذ حق الله الذي أوجبه بخلقك ورزقك وحياتك وتعطيه لغيره.

صور من الشرك

معشر المستمعين! هل تعرفون عن الشرك شيئاً؟ لا تعرفون، إذاً: أعلمكم؟تسأل أحدهم: هذه النخلة لمن؟ فيقول: هذه نخلة سيدي عبد القادر . لم؟ حتى يبارك البستان بما فيه. تسأل: هذا التيس لمن؟ فيقول: هذا التيس لسيدي عبد القادر .عبدوا عبد القادر والبدوي وإدريس .. وكل الأولياء، وفاطمة والحسين أيضاً، فكل من يعطي حق الله لمخلوق فقد عبد ذلك المخلوق وأشرك بعبادة الله هذا المخلوق. الذي يقف ويقول: يا سيدي عبد القادر .. يا رسول الله .. يا فاطمة .. يا رجال البلاد، أنقذوني، أنا أستشفع بكم، فقد جعلهم مثل الله يسمعون كلامه ويعرفون حاله ويقدرون على إلجائه أو إعطاء سؤاله، سواء بسواء. ومن قال: لم؟ نقول: كيف ينادي بقلبه ولسانه ويطلب وتقول: لا لا، هذا تناقض ، فالذي يقول: يا سيدي فلان المدد المدد، والعوام يقولون حتى لرسول الله، لو كان بينهم لأدبهم أو سلط عليهم عمر ، يقولون: يا رسول الله المدد! الغوث أغثنا. انصرفوا عن الله وأقبلوا على غيره، فكيف يرضى الله بهذا وهو ما خلقهم إلا لعبادته، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].اسمعوا! في تلك الحجرة الطاهرة كان النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من الصحابة بجواره في المسجد، وكان منافق يتسلط عليهم في بداية الإسلام في السنة الأولى أو الثانية، فقالوا: هيا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الكافر المنافق، فسمعهم صلى الله عليه وسلم وقال لهم: ( إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله )، واقرأ في القرآن: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9].وهذا رجل يتكلم فقط مع الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ( ما شاء الله وشئت يا رسول الله، قال: لا، ما زدت أن جعلتني لله نداً قل: ما شاء الله وحده )، الرجل بنيته قال: ما شاء الله وشئت يا رسول الله، فغضب الرسول وقال: لا تقل هذا، قل: ما شاء الله وحده، فكيف تسوي مشيئة الله بمشيئة العبد؟ سمعهم يحلفون بالسيد فلان وحقي ورأس كذا، فصعد صلى الله عليه وسلم على المنبر فخطب وقال: ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ). ومرة أخرى قال: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ). ومرة قال: ( فقد كفر ). كيف هذا يا رسول الله؟الجواب: نسيت ربك، نسيت من بيده أمرك، نسيت من رزقك بيده، نسيت العليم الحكيم، نسيت العليم الخبير.. نسيت نسيت، وتقول: على المخلوق، وتقول: أحلف به، أين ذهب بعقلك؟ ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) أي: في تعظيم الله فعظم سواه، كفر لأنه غطى الله وجحده ولم يحلف به وحلف بمخلوق من مخلوقاته.ولما رآهم متورطين لحداثة إيمانهم وإسلامهم بين لهم أنه ما يشرع لأحد أن يقول: (واللات). آخر يقول: (والعزى)، عاش خمسين عاماً يحلف بهما والآن يتوب، ففي يوم واحد لا يستطيع يبقى يجري على لسانه. وآخر يقول: تعال أقامرك، جماعة مكة؛ لأنهم يعيشون على القمار، تعال أقامرك، فيجري على لسانه، فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحادثة كيف يعالجها؟ هم لا يقصدون ذلك ولكن تجري على ألسنتهم؛ لطول ما لازموها، فوضع قاعدة نفعنا الله بها وانتفع بها المؤمنون الذين يحضرون هذه الحلقة كثيراً وهي اسمع: ( من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله تمحها ). أنت تعودت أن تحلف بسيدي عبد القادر ، جرى على لسانك ولا تقصد فقل: لا إله إلا الله تمحها. ( ومن قال لأخيه: تعال أقامرك فليتصدق )، بريال.. بحفنة تمر تمحو ذلك؛ لأنه لا يريد أن يقامر، لكن لطول ما لعب القمار يجري على لسانه: تعال أقامرك، فالعلاج صدقة، وما حددها لتكون نافعة من الكبير والصغير، ( ومن حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله ).إذاً: إخواننا المصريون ونحن معهم اعتادوا على قول: (والنبي)، يجيء الرجل يسألني وأنا على الكرسي فيقول لي: (والنبي) ما قلت كذا؟ يقول: والنبي ما نزيد، والنبي لا أزيد مرة ثانية. فلم ينفعنا شيء أكثر من هذه القاعدة، من قال: (والنبي) يقول: لا إله إلا الله؛ لأن الإنسان إذا اعتاد شيئاً لا يتركه بسهولة، بل يحتاج إلى زمن، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم هذه القاعدة: من حلف بغير الله فليقل: لا إله إلا الله تمحو تلك السيئة، ومن قال لأخيه: تعال نلعب القمار يتصدق بصدقة.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-17, 10:47 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير آل عمران- (3)
الحلقة (144)



تفسير سورة آل عمران (11)

أوجب الله على الناس التحاكم إلى كتابه عند الاختلاف، وقد كان اليهود من شأنهم أنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى كتاب الله تولوا وأعرضوا مستهزئين بأمر الله زاعمين أنهم لن يعذبوا بسبب مخالفتهم لأنهم أبناء الله وأحباؤه، وحتى لو أدخلهم النار فلن يزيد بقاؤهم فيها على أيام معدودة، لكن الله عز وجل هو من سيحكم عليهم في الآخرة وسيدخلهم النار جزاء رفضهم لحكمه في الدنيا.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع، قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم اجعلنا من هؤلاء المؤمنين الذين فازوا بهذا الأجر العظيم.وها نحن مع تلاوة هذه الآيات الثلاث بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:23-25]. وقبل الشروع في تفسير هذه الآيات أذكركم بنتائج الآيات السابقة التي درسناها أمس بإذن الله. ‏

الكفر والظلم من موجبات الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة

عرفنا أن الكفر والظلم من موجبات هلاك الدنيا ولزوم عذاب الآخرة، فالكفر والظلم من موجبات ومقتضيات ومستلزمات هلاك الدنيا وعذاب الآخرة.وتذكرون ذلكم الحديث، حديث أبي عبيدة لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: ( أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ فأجابه الحبيب صلى الله عليه وسلم: رجل قتل نبياً )،فهذا من أشد الناس عذاباً يوم القيامة ( رجل قتل نبياً بغير حق، ورجل أمر بالمعروف أو نهى عن منكر فقتلوه )؛ لأن الله قال: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21]، والقسط هو العدل، والعدل يدور حول ما أمر الله به وما نهى عنه، فمن أمر بما أمر الله به ونهى عما نهى الله عنه ما زاد أبداً على العدل.ثم ذكر محنة بني إسرائيل أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً في الصباح، ولما قام العباد الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ونهوهم وأمروهم قتلوهم، وكان عددهم مائة وسبعة وسبعين. والله عز وجل توعد من يفعل ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21].

خصال أربع تمنع البلاء

هل تذكرون تلك الكلمات الطيبة التي رواها القرطبي في تفسيره وهي تنطبع تماماً على هذه الدولة أو هذه البقية الباقية في العالم الإسلامي. ماذا قال؟ كل بلدة يكون فيها أربع خصال أو أمور فهي آمنة من البلاء، بعيدة من الشقاء. أول هذه الخصال الأربع: إمام عادل. أي: حاكم لا يظلم ولا يجور، لا يعتدي على أعراض الناس ولا أموالهم ولا على أبدانهم، ويحكم بينهم بما حكم الله به ورسوله. هذه واقية من أعظم الواقيات الأربع.الثانية: رجل على سبيل الهدى. أي: عالماً يعلم الناس الخير والهدى ويدعوهم إليه، فإذا وجد في البلدة عالم قائم بواجب البيان والهداية فالأمن حاصل.الثالثة: مشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، مشايخ من أهل العلم يأمرون أهل البلدة بالمعروف إذا تركوه، وينهونهم عن المنكر إذا فعلوه، فهم وقاية عجيبة.الرابعة من الواقيات من البلاء: نساء متسترات غير متبرجات تبرج الجاهلية الأولى. وهذه ما إن ظهرت هذه الدولة على يد عبد العزيز حتى ظهرت فيها هذه الوقايات الأربع، وإن شئتم حلفت لكم بالله، واستمر النور والهداية والأمن والطهر وعرف هذا العدو من اليهود والنصارى والمشركين وما عرفه المسلمون، فأعداء الإسلام إلى هذه الساعة يعملون بجد واجتهاد على إبطال هذه الأربع الواقيات وإبعادها لتهبط هذه البقية الباقية إلى مستوى العالم الإسلامي، فلا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، ولا حجاب ولا تستر، ولا عدل ولا رحمة، ومن الأسف أننا نحن أهل البلاد ما عرفنا هذا، فمن الحين إلى الحين تظهر ظاهرة دعوة إلى السفور، إلى كشف وجوه النساء. وإذا تبرجت النساء وخرجن واختلطن بالرجال كاشفات الوجوه فعلى الطهر السلام، يحل محله الخبث، ولازم الخبث غضب الرب وسخطه وبذلك يحل العذاب.وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه الهيئات تسمع من ينقد، تسمع من يطعن، حاولوا أن يكتبوا أيضاً وكتبوا متقززين: كيف تقام الصلاة ويخرج الناس من دكاكينهم وأعمالهم؟ تألموا لذلك ولا هم لهم إلا إطفاء هذا النور الباقي.

دعائم الدولة الإسلامية

نقول بالعلم الذي تقرر عندنا: إن الدولة الإسلامية -بلغوا المسلمين- لا تقوم على مقام يرضاه الله ويثمر الطهر والأمن والصفاء إلا إذا أقيمت على أربع دعائم وضعها الله العليم الحكيم، وجاء هذا واضحاً بيناً، من سمع الآية فهم، من قرأها علم، فلا لبس ولا غموض، ولا تقديم ولا تأخير، وإليكم هذه الآية الكريمة من سورة الحج المدنية المكية، إذ قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] أي: حكموا وسادوا.

الأولى: إقامة الصلاة

الأولى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] هذه واحدة أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] ما قال صلوا، بل قال: أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] وإقام الصلاة: إذا أذن المؤذن ونادى أن حي على الصلاة وقف دولاب العمل وأقبل المؤمنون على بيوت ربهم كالمظاهرة الغربية التي يتعشقها الغافلون، المظاهرات في أوروبا يزحف النساء والرجال والأطفال فيسدون الشوارع والطرقات يشتكون، ونحن معنا تلك المظاهرة الربانية خمس مرات في أربع وعشرين ساعة، إذا نادى منادي الصلاة لصلاة الظهر وقف العمل نهائياً وأقبل المؤمنون على بيوت ربهم ليناجوا مولاهم ويتملقوه ويتزلفوا إليه بذكره ودعائه ورفع شكاتهم إليه. وإذا انتهت الصلاة عاد العمل كما كان وأحر مما كان، لأنهم أهل إيمان، لأنهم أحياء تمام الحياة، فإذا نادى منادي صلاة العصر وقف العمل وخرجت الأمة إلى ربها، إذ لهذا خلقها، فلا تفهم غير هذا، فوالله ما خلقنا إلا لهذه، فكيف نحاول أن نتملص ونخرج ونشرد ونقول: صل حيثما وجدت،فإذا أذن المغرب وأذن العشاء خمس مظاهرات ربانية يلتقي المؤمنون بعضهم ببعض في بيوت ربهم في مظهر من مظاهر الدين الحق.أما أن يؤذن المؤذن فمن شاء أن يغلق دكانه ومن شاء أن يفتحه، من شاء أن يغني ومن شاء أن يصلي، من شاء ومن شاء.. فأين الربانية إذاً؟ أين مظاهر العبودية لله؟ وقد مكن الله عز وجل العالم الإسلامي في الحكم بعد أن استدل واستعبد واسترق على أيدي أعدائه الكافرين من مستعمري الشرق والغرب فخلصهم ليبتليهم، فتستقل الدولة والإقليم ولا تقام بينهم صلاة، وأنا أعجب، من صرفهم؟ هل اشترطت عليهم بريطانيا : اسمعوا! أعطيكم الاستقلال، نخرج من دياركم على شرط أن لا تصلوا؟ والله ما كان هذا أبداً ولا تفعله بريطانيا أو فرنسا، فلم ما أقمنا الصلاة وقد مكننا الله في الأرض وسودنا وحكمنا؟! من ثَمَّ المسلمون في بلاء وشقاء وتعاسة وآلام إلى اليوم، فأين ثمار الاستقلال ونتائجه الطيبة؟ أين الأمن؟ أين الطهر؟ أين الإخاء؟ أين المودة؟ ما الذي حصل؟ حال لا نشكوها إلا إلى الله.

الثانية: إيتاء الزكاة

الدعامة الثانية: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41] إقام الصلاة هي الدعامة الأولى، والثانية: وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41] الزكاة التي بينها الله في كتابه وبينها رسوله من حيث المقادير، والأنصبة، ومن حيث الحول والشروط. الزكاة هي قاعدة الإسلام الثالثة، ولكننا ما علمنا وما بلغنا أن إقليماً استقل أهله عن بلجيكا أو بريطانيا أو فرنسا فأجبروا المواطنين على إخراج الزكاة، فهل اشترطت عليهم فرنسا وقالت: نخرج من دياركم على شرط أن لا تجبوا الزكاة حتى يتحطم الإسلام؟ لا والله.ومن العجيب ونحن أطفال صغار كانت تأتي ضرائب تسمى غرامة من الدولة الحاكمة فرنسا، والله تسميها الزكاة، وتذكرنا نحن المستعمرين بالزكاة، لا تلوموا ولا تبكوا إذا أخذنا منكم هذا القدر لأنكم أنتم تؤدون الزكاة، والله بعيني أقرأ كلمة زكاة، وكأنما تذكرنا بالإسلام، ولما جاء رجالنا وأبناؤنا مسحوها فليس هناك زكاة بل الضريبة حتى ينسى المؤمنون الزكاة، فأي ظلم أعظم من هذا؟ وما زلنا نرقص لأننا نمشي إلى الهاوية، لم تخطئ سنة الله بشراً إما أن نتوب وإما أن تنزل البلايا والرزايا. سئل أحدهم: أين الله؟ قال: بالمرصاد، يشير إلى قوله تعالى لما دمر عاداً وثمود وفرعون قال: إِنَّ رَبَّكَ [الفجر:14] يا محمد لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14] فلسنا بأفضل من قوم عاد أو قوم صالح وثمود أو فرعون. إذاً: جباية الزكاة فريضة الله، ودعامة الدولة. ولما كون عبد العزيز تغمده الله برحمته هذه الدولة، جعل نوابه في القرى وأخذوا يجمعون الناس على الكتاب والسنة، ويقرأ قائمة في كل صلاة صبح، إبراهيم بن عيسى، عثمان بن خالد، زيد بن إبراهيم، نعم نعم، كلهم حضروا، وإذا غاب واحد يمشون إليه: لم غبت؟ فإذا كان مريضاً يدعون الله أو يداوونه، وإن كان غائباً بلا عذر يعرفونه، فإن أبى أن يحضر يؤدبونه بالعصا، فأقيمت الصلاة بمعنى الكلمة. وقولوا لي: ما الذي تبع إقام الصلاة؟ تبعها أن انتهى الخبث ومظاهر الشر والباطل والفساد، وهذه سنة الله عز وجل.

الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

القاعدة الثالثة: وجود مشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ إذ قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] نحن نكون رجال الأمن وقوى الأمن، ما حاجتنا للبوليس والدرك والجند والشرط، ولكن شيخ بلحيته يأمر بالمعروف في القرية.. في السوق. أسألكم بالله! من صرفهم؟ أنا قلت لكم: ما بلغنا وقد خبرنا الحياة ظاهرها وباطنها ما بلغنا أن دولة مستعمرة اشترطت على ذاك الشعب المستعمر عند استقلاله أن لا يصلي أو أن لا يؤتي الزكاة أو أن لا يأمر بالمعروف.. أبداً، فما الذي صرفنا لتنزل بنا المحنة ويحل بنا البلاء والشقاء والعذاب؟! الله الله في هذه الأيام أيام هذه الاختراعات العجيبة والفتوحات الربانية، لو أسلمنا لدخل البشر كلهم في الإسلام، لكن نحن صرفنا الشرق والغرب عن الإسلام لأنهم ينظرون إلينا ونحن أشد هبوطاً منهم، لا وفاء ولا صدق ولا حرم ولا كرامة ولا ولا. إذاً: يتقززون من حالنا، ينظرون إلينا وإلى الإسلام من خلال سلوكنا، والآن لا نستطيع أن نصلي صلاة الظهر في العالم الإسلامي مع بعضنا البعض، فنؤخر نحن ويقدم الآخرون في وسطها ونصلي الصلاة في ساعة واحدة. أما الصيام أما العيد فلا تسأل! فهل نحن أمة واحدة، إذاعتها واحدة.إذاً: القاعدة الثالثة: هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذه دعائم الدولة الإسلامية، فأيما شخص يفكر في إقامة دولة ولم ير فيها ما رأى الله ولم يقيم على ما أراد الله والله إن سلكها لهاو وإنها لساقطة ولن ينتفع أهلها بها، ولا كرامة ولا طهر ولا صفاء ولا سعادة.لم لا يتكلم بهذا العلماء والكتاب والمربون؟قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] لم يشأ الله أن تقوم دولة على هذه القواعد فتسند هذه الدولة وتشد من عضدها أبداً.إذاً: قال القرطبي في ما يرويه: أربع إذا وجد في بلد أمنت من البلاء والدمار والعذاب.الأولى: إمام عادل، عدل الإسلام لا عدل الاشتراكية الذين سلبوا أموال الأغنياء وأراضيهم ومزارعهم وأعطوها للفقراء والشعب، وقالوا: عدل كبير هذا، أي عدل هذا؟ هذا أبشع أنواع الظلم، هذا تقرير قاعدة بلشفية حمراء روسية وضعها اليهود من أجل تدمير العالم والقضاء على الروح الإنسانية. أيضاً: الضرائب ففي بعض البلاد النافذة عليها ضريبة، كيف تفتح نافذة في الشارع؟ ادفع ضريبة. والضرائب: أكل أموال الناس بالباطل، لم يأذن الشارع فيها إلا في حالة ضرورية قصوى، كأن يكون إمام المسلمين مضطر لظروف دعت إلى ذلك، أما أن تصبح فريضة بدل الزكاة ويحجب معنى الزكاة ولفظها فهذا والله لظلم عظيم، وآثاره واضحة.ثانياً: عالم على سبيل الهدى، وليس عالماً خرافياً صوفياً، وقد جئناكم بمجموعة من الكتب نسمعكم كل يوم إن شاء الله منها، بعث بها إلينا رجل عالم من نيجيريا، جمع كتب المتصوفة كلها وجمع العجائب من كل كتاب عجيبة، وهذا يتفق مع آيتنا الآن. ثالثاً: مشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يا أهل القرى! اجتمعوا في مسجدكم وإن كانت الحاكمة بريطانية وكونوا لجنة من صلحائكم، تجولوا في القرية فإذا رأيتم طفلاً يقول الباطل، أو رجلاً يرتكب حماقة أدبوه وعلموه، فهذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يرضى الله عنا ولا يسخط.

الرابعة: تستر النساء وعدم التبرج

والأخيرة: نساء مستورات غير متبرجات، والدعوة الآن إلى كشف الوجوه عندنا قائمة، ولولا لطف الله عز وجل لانتشر السفور بيننا، ونحن نندد بهذا السلوك والجماعة تغضب، قلنا لهم: بناتكم علموهن ست سنوات في الابتدائية، فإذا كملت السنة السادسة وأصبحت تعرف الله بأسمائه وصفاته، أصبحت تعرف كيف تتملق إلى الله بذكره، عرفت كيف تبر أباها وأمها، عرفت كيف تربي أولادها، تقول لها: حسبكِ يا بنية، الزمي البيت، ساعدي أمكِ على مهامها وغداً تتزوجين وتصبحين ربة بيت، أعانكِ الله، لهذا خلقتِ. إياكم والمتوسطة والثانوية والجامعة وأخيراً: الوظيفة! وحلفت لهم بالله في رسالة قديمة بعنوان (الإعلام بأن العزف والغناء حرام) أنكم إذا فتحتم الابتدائيات كانوا يطالبون بالثانوية.جريدة البلاد: تكتب وتقول: المرأة السعودية في ديجور من ظلمات الجهل.. كذا، وهم مدفوعون بدوافع الشيطان وأوليائه. قلنا: والله! إن فتحتم الابتدائيات لتطالبن بالثانويات يومئذ، ولتفتحن الثانويات ولتطالبن بالجامعات، ووقع هذا، وكان هذا قبل خمس وثلاثين سنة. والآن الوظيفة شريفة أو خبيثة؟ ما دام هذا النور فليس بمسموح أن المرأة تتوظف مع الرجال، وهم يتألمون لماذا؟ آه! أين أولوا البصائر والنهى؟ هيا بنا ندرس الحياة بكاملها؟ أخلقنا لهذه؟ من قال نعم قل له: لا تمت، ولم مات أبوك وماتت أمك؟ أين يذهبون؟ إذاً: ما دمت عاجزاً على أن تفرض بقاءك على الله فاعلم أنك لم تخلق لهذه بل خلقت لغيرها، فتهيأ للملكوت الأعلى حتى تسكن السماوات العلى، والشاهد عندنا: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123] سنة الله، السم يقتل، الطعام يشبع، الماء يروي، النار تحرق، الحديد يقطع، الكفر يوجب غضب الرب وعذابه، الفسق يقود إلى الهاوية وزوال النعم، وهكذا، لن تتبدل سنن الله. فإن قال قائل: علل يا شيخ لهذه المحنة؟ الجواب معروف، الجهل، جهلونا، أبعدونا عن الله ومعرفته فأصبحنا كالبهائم يسوسوننا كما شاءوا ويركبوننا كما أرادوا، فهيا نخرج من هذا المضيق؟فإن قال قائل: يا شيخ! ما نستطيع، نحن مسحورون، نقول: سبحان الله! لماذا لما تسحر امرأتك لا تأتي بمن يقرأ عليها حتى تشفى؟ هل ترضى أن تكون مسحوراً؟ حاول أن تخرج نفسك من هذا السحر.فإن قال: بماذا؟ نقول: أن نتعاهد لربنا بأننا عدنا وله أسلمنا قلوبنا ووجوهنا، وأننا من اليوم إذا دقت الساعة السادسة مساءً أوقفنا العمل، إن كنا في مقهى أغلقنا بابها، دكان كذلك، متجر، مصنع، كل عمل، وأخذنا نساءنا وأطفالنا طاهرين إلى بيت ربنا، إلى المسجد مسجد القرية ونجتمع فيه، ونبكي بين يدي ربنا الساعة والساعة والنصف ونحن بين يديه منطرحين نتعلم الكتاب والحكمة، يوماً بعد يوم حتى تلوح الأنوار وحتى تتصدع الصدور بتلك الأنوار ونصبح لا نرى إلا ما يرى الله، ولا نسمع إلا ما يسمع الله، ولا نعمل إلا بما أذن الله، ويومها لو أراد أهل الأرض أن يزلزلوها من تحت أقدامنا ما استطاعوا. ولا تسألني عن النتائج المادية، ينتهي كل مظهر من مظاهر الجريمة، فلا غش، لا خداع، لا كذب، لا باطل، لا خيانة، لا لا.. بل حل محل ذلك الأمن، الطهر، الولاء، المحبة، الغنى، والله ما يبقى في القرية من يشكو جوعاً وإخوانه شباع، ولا من يتألم للبرد وإخوانه مكسوون، ينتهي هذا نهائياً. ستقولون: آه! ما نستطيع هذا يا شيخ، فأقول لكم: ما يمنعكم؟ لو كانت تحكمنا بريطانيا وأردنا هذا والله ما تمنعنا. أقسم بالله لو كانت تحكمنا إيطاليا والله ما تمنعنا من هذا، فهذا يساعدهم على أن يستقر الوضع وتهدأ الأحوال ويستغني الناس وينتهي التلصص والجريمة والخيانة، فلم يمنعوننا إذاً؟ هذا الكلام يشهد الله أننا قد رددناه مئات المرات، فهل من واعٍ يعي هذا؟ لا أحد. هل من سامع؟ لا أحد. لماذا؟ نرد الأمر إلى الله، بهذا قضى الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ...)

قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23]. ‏

سبب نزول قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب...)

روى ابن جرير الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية: عن ابن عباس قال: ( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله ) دخل عليهم وهم مع علمائهم ليعرض عليهم الإسلام ( فقال له: نعيم بن عمرو والحارث بن زيد ) أي: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ( على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم ودينه ) ، أي:أنا على دين إبراهيم، وهو والله كذلك، فالتوحيد ملة إبراهيم، وتبقى القوانين توجد بحسب أحوال البشر، يحل اليوم شيء ويحرم غداً؛ لأن المربي العليم الحكيم هو الذي يقنن ويشرع، أما الملة فلا إله إلا الله، لا يعبد إلا الله وبما شرع الله. ( فقالا: فإن إبراهيم كان يهودياً ). أي: كيف تقول أنا على ملة إبراهيم وإبراهيم كان يهودياً، إذاً: ادخل أنت في اليهودية حتى تكون كما تقول على ملة إبراهيم، فإبراهيم كان يهودياً، ( فقال صلى الله عليه وسلم: فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم )، أي: بيننا وبينكم التوراة، هاتوا التوراة، ومعلوم أن التوراة نزلت بعد وجود إبراهيم بمئات السنين، التوراة نزلت على موسى وبين موسى وإبراهيم قرون عديدة ( فأبيا عليه ) لما عرفوا أن التوراة ليس فيها يهودية ولا نصرانية، رفضوا إتيان التوراة والنظر فيها والعمل بما فيها ( فأنزل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23] ) . فكانت الآية منطبقة عليهم، واتضح معنى الآية تماماً. هنا قالت العلماء: إذا دعوت مؤمناً إلى التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله ورفض دخل مع هذه الجماعة الملعونة! إذا دعوت مؤمناً حاكماً كان أو مواطناً إلى التقاضي إلى الكتاب والسنة والتحاكم إليهما فرفض لأنه خائف من الحق أن يخرج من جيبه فهو ممن قال الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23] غير ملتفتين إلى التحاكم إلى كتاب الله التوراة.هذه الآية وحدها يقرؤها النساء والرجال من المؤمنين والمؤمنات ولو كانوا يقرءونها ويفهمون معناها لم يتحاكم مؤمن ولا مؤمنة عند بريطانيا ولا الأمم المتحدة، والآن يتحاكمون في مجلس الأمن، نزاع بين دولتين إلى مجلس الأمن.هذه مظاهر الجهل بالله، ما عرفنا الله معرفة تثمر لنا حبه في قلوبنا، ولا الرغبة والخوف منه في نفوسنا، فلهذا لا نبالي أن نتحاكم إلى اليهود والنصارى، ونحن أهل العدل، أهل الكتاب والحكمة.

معنى قوله تعالى: (أوتوا نصيباً من الكتاب)

وقوله: أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران:23] أي: قطعة من الكتاب. لم والتوراة بين أيديهم؟ لأن التوراة لم يبق فيها ما تسمى به التوراة على الحقيقة، همشوا وحشوا وزادوا ونقصوا وبدلوا فأصبحت كلمات الله فيها كالكواكب هناك كوكب وآخر هنا والباقي كله خرافات وأباطيل. إي نعم. من فعل هذا؟ علماؤهم، ساداتهم، أرباب السلطة والجاه عندهم. ونحن أهل الإسلام جرينا وراءهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع إلا أن الله عز وجل حفظ لنا كتابه، فما استطاع شرقي ولا غربي أن ينقص منه حرفاً واحداً أو يزيد كلمة، وذلك لتعهد الله تعالى به؛ إذ قال عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فما أسنده إلى الأشراف ولا إلى العلماء ليحفظونه، بل تولى عز وجل حفظه بنفسه، فلهذا حاول النصارى واليهود محاولات متعددة على إسقاط حرفي (قل) فعجزوا. مؤتمرات انعقدت في السودان وفي روسيا وفي العالم يبحثون: كيف يسقطون كلمة (قل) من القرآن فما استطاعوا؛ لأن كلمة (قل) ترغم أنوفهم أن هذا كلام الله. الرسول نفسه يقول لنفسه: قل؟ هل هناك متحدث يقول لنفسه: (قل)؟ مجنون هذا. إذاً: من الذي قال له: قل يا أيها الكافرون، قل هو الله أحد، قل يا أيها الناس؟ من؟ سلطة عليا، إذاً: هذا الله هو الذي يأمره. فقالوا: لو استطعنا أن نسقط كلمة (قل) لقلنا هذا كلام محمد فقط وليس بكلام الله ولا بتنزيله، فعملوا المستحيل فما استطاعوا، وكيف يستطيعون والله العزيز تولى حفظ كتابه بنفسه؟ لما أسند الله التوراة والإنجيل إلى أهلها ما استطاعوا أن يحفظوها، فالإنجيل حولوه إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً، ولما انكشفت عورتهم اجتمعوا اجتماعات متعددة وصفوا تلك الأناجيل وغربلوها وجمعوها في خمس كتل: إنجيل لوقا، إنجيل برنابا، إنجيل مرقس، إنجيل يوحنا، خمسة أناجيل، والشيطان هو الذي يدعو إلى الكفر والضلال.

معنى قوله تعالى: (يدعون إلى كتاب الله)

قوله: يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ [آل عمران:23] من دعاهم يرحمكم الله؟ رسول الله يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ [آل عمران:23] والمقصود بكتاب الله هنا: التوراة والإنجيل والقرآن، فالكل كتاب الله، ولو جاءوا القرآن لا يجدون إلا التوحيد، والإنجيل كذلك وإن كانت الحادثة هنا في التوراة لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى [آل عمران:23] فكروا وبعد قالوا: لا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23] لماذا ما قال: ثم تولوا فريق؛ لأن منهم من آمن وعرف الحق كـعبد الله بن سلام وأخيه وفلان وفلان، وهم معرضون عازمون أن لا يرجعوا إلى الله ولا إلى دينه ورسوله، و ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [آل عمران:24].

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات... )

قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24]يعني: نفجر، نكفر، نفسق، نفعل ما شئنا، فنحن آمنون من النار، لن تمسنا إلا أربعين يوماً، وهي الأيام التي كفر فيها أسلافهم على عهد موسى وعبدوا العجل أربعين يوماً، قالوا: نؤاخذ بتلك الأيام فقط. وهذا مرض وجنون، كيف تؤاخذون بعمل أسلافكم؟ كيف هذا؟ وإذا كان أسلافنا كفار وأسلمنا ندخل النار لأن أسلافنا كفار؟ هذا هبوط، هذا أسوأ الفهوم، كون أسلافكم عبدوا العجل وضربهم الله وقتل منهم أربعين ألفاً وانتهت أنتم تؤاخذون بذلك؟ نحن لا يعتقد الرجل أنه يؤاخذ بذنب أبيه أو ولده أبداً، لكنهم جهال في ظلام يعيشون، قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ . وفي سورة البقرة قال تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا [البقرة:80] بهذا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:80-81] صفعتهم صفعة واحدة، جهلة ضلال، قل أفاتخذتم عهداً عند الله أنه لا يعذبكم إلا أربعين يوماً؟ هل عندكم عهد من الله بذلك؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80] لا تستحون، تكذبون على الله؟ ثم بين لهم أن الأمر ليس كمزاعمكم وضلالاتكم بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة:81] أبيض أو أسود، يهودي أو نصراني أو مسلم ، كل من كسب سيئة وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81] عجب هذا القرآن! قطع ألسنتهم. وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:80-81] وفي قراءة: (خطاياه).أما نحن فقد عرفنا لو كنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تزك نفسك بهذه العبادات حتى تطهر وتطيب والله لن تدخل الجنة، ولن يشفع لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كنت ابن رسول الله ولو كنت أباً رسول الله خاتم الأنبياء والله ما شفع لك ولا دخلت الجنة إن مت على خبث النفس وتدسيتها. وهذا رجل يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكان أبوه من أهل الفترة فسأله أين أبي؟ فقال: ( أبوك في النار ) متزمت ما فهم، فسأل: أين أبي؟ فقال له: في النار، مات مشركاً، فتململ الرجل فقال له صلى الله عليه وسلم: ( أبي وأبوك في النار )، مات على الكفر، فنفسه خبيثة مدساة مظلمة منتنة، من يدخله دار السلام؟ كيف يرقى ويخترق السبع الطباق؟ إبراهيم عليه السلام هل هناك من هو أكرم من إبراهيم؟ أرحم من إبراهيم في الدنيا؟ سمي بالأب الرحيم، وفي عرصات القيامة يسأل ربه: ( رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم القيامة يوم يبعثون وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي يا رب؟ فيقال له: إبراهيم! انظر تحت قدميك وكان رافع رأسه إلى الله، انظر، فإذا أبيه آزر عليه لعائن الله في صورة ذكر الضباع ملطخ بالدماء والقيوح بين يديه، فما إن يراه حتى يقول: سحقاً سحقاً سحقاً، فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون النار ) . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] هذا حكم من الله، عرفتموه، فلم إخوانكم ما عرفوه في الشرق والغرب؟ لأنهم لا يجتمعون على كتاب الله وسنة رسول الله. صدر حكم الله على البشرية كلها، فيا ويلها من هذا الحكم، إنه صارم، حكم ذي الجلال والإكرام؛ وهو قوله تعالى بعد الإقسام العظيم والحلف الكبير: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: نفسه وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10] أي: نفسه. من يراجع الله وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، سنن لا تتبدل، فهيا نزكي أنفسنا. بم نزكيها يا رب؟ بما شرعنا لكم من صلاة وصيام وذكر وعبادات وقربات. بم تتدسى النفس يا رب وتخبث؟ بما حرمنا عليكم من النظرة إلى اللقمة الحرام، فكل معصية تعود آثارها على النفس بالخبث والظلمة والنتن، فاعرفوا عبادة الله فاعبدوه بها تزكوا نفوسكم وتطيب، أما كوننا أتباع الزعيم الفلاني أو أولاد الأشراف أو أبناء السادة الفلانية فهذه ضلالات عجب. قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ [آل عمران:24] خدعهم فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24] من الأكاذيب والأباطيل التي حرفوا بها الكتاب وحشوا وهمشوا وشرحوا وبينوا، هي التي أوقعتهم في هذا وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24].

تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ... )

قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:25]. فَكَيْفَ [آل عمران:25] الحال إِذَا جَمَعْنَاهُمْ [آل عمران:25] كلهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران:25] ألا وهو يوم القيامة، كيف يكون حالهم؟ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ [آل عمران:25] أي: ما عملت وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:25] لأن القاضي الحاكم الله ذو العدل والرحمة والإحسان.

خرافات وبدع وضلالات التيجانية

الآن نقرأ هذه الأوراق -وهذا من تدبير الله- التي بعث بها هذا الرجل ونحن لا نعرفه، بعث إلي بهذه الأوراق من بلاد نيجيريا، فقال: ( من إبراهيم علي تشاد إلى الشيخ أبو بكر جابر الجزائري). ‏
بعض كتب التيجانية
قال: ( بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وسلم.وبعد: فهذه أسماء كتب أهل الطرق كتبتها نصيحة ليحذر منها المسلمون لما فيها من الضلالات، أعاذنا الله).أولاً: يذكر الكتاب والمؤلف مثلاً: (الفتح الرباني لـمحمد الطفطفاوي بالقاهرة، الياقوتة الفريدة لـمحمد النطيفي ، جيش الكفيل لـمحمد الصغير).أيضاً: يذكر: إيقاظ الهمم، الطبقات الكبرى، الفوز والنجاة، أورد أسماء الكتب وأسماء مؤلفيها والبلاد التي كتبت فيها، والأعجب من هذا: ما يذكره عنهم من أقوالهم وبدعهم.
زعمهم أن الصلاة في زاوية الشيخ مقبولة قطعاً
قال: ( يقولون: الصلاة في زاوية الشيخ مقبولة قطعاً). أي: الصلاة في زاوية الشيخ سيدي فلان مقبولة قطعاً بلا جدال، بمعنى لا تذهبوا إلى لمساجد فيفسدون عليكم سلوككم، بل صلوا في الزاوية. انتبهتم أم لا؟ يقولون: الصلاة في زاوية الشيخ مقبولة قطعاً، ونحن نقول ولو في كانت في الكعبة فهي غير مقبولة قطعاً حتى تستوفي أركانها وشروطها.
زعمهم أن للتيجاني مقام أربعين نبياً في الجنة
ثانياً: ( قال أيضاً: يقولون: للتجاني مقام أربعين نبياً في الجنة). يقولون: للشيخ التجاني مقام أربعين نبي في الجنة، وليس مقام نبي واحد، وآباؤنا وأمهاتنا لما يسمعون هذا يبكون، فانظروا كيف يصنع الجهل؟!
زعمهم أن معرفة الولي أصعب من معرفة الله
ثالثاً: ( يقول: لا يلتفتون إلى ما يقوله الفقهاء، بل ينصرفون عن الكتاب والسنة فيقولون: معرفة الولي أصعب من معرفة الله). وهذا معناه: أن الولي أعظم من الله.

زعمهم أن أحمد البدوي يغمض عينيه كي لا يموت الكفار

رابعاً: قال: (يقولون: أحمد البدوي يغمض عينيه كي لا يموت الكفار). أي: حتى لا يموت الكفار يغمض عينيه، ولو فتحهما لمات كل الكفار. إذا خاطبه كافر أو وقف بين يديه يغمض عينيه ولو لم يفعل فإن الكافر يموت، فلهذا الشيخ يغمض عينيه.

زعمهم أن الولي يخرج من القبر ليقضي الحاجة لمن توسل به

خامساً: يقول: ( يقولون: يخرج الولي من القبر ليقضي الحاجة لمن توسل به). أي: إذا أتيت الولي المدفون تستشفع به وتتوسل يخرج من قبره ويقضي حاجتك ويعود. والعجيب أنه آمن بهذا بلايين المسلمين، ويبكون، والله رأيناهم خاشعين متعجبين يبكيون! وتجد بعضهم والله يأتي من المغرب ليزور عبد القادر في بغداد بالطائرة.كم يكلف ذلك؟ من المغرب الأقصى يأتي يزور قبر عبد القادر الجيلاني ؟ لم؟ لوجه الله؟ ما السبب؟ لتقضى حاجاته.
زعمهم أن الصلاة على النبي ليست مختصة بما علمناه من النبي صلى الله عليه وسلم
سادساً: قال: ( يقولون: الصلاة على النبي ليست مختصة بما علمناه من النبي صلى الله عليه وسلم). ونحن نقول: من لم يعتقد أنها من كلام الله لم يصح له الثواب.

زعمهم أن صلاة الفاتح تعدل ستة آلاف ختمة من القرآن

سابعاً: قال: ( ويقولون: إن صلاة الفاتح تعدل بستة آلاف ختمة من القرآن). أي: صلاة الفاتح التجانية تعدل بست آلاف ختمة من القرآن. أسألكم بالله! الذي يفهم هذا هل سيقرأ القرآن؟عام كامل ولا يختمه، فيقول: أصلي مرة واحدة بستة آلاف ختمة. ووالله لقد فهم هذا آباؤكم وأجدادكم وأمهاتكم وكبرنا وهللنا وقلنا: إيه، هكذا، فهم لا يفهمون كما تفهمون الآن حيث انتشر النور والهداية، ولو قلت: هذا باطل يضربونك بالعصي.

زعمهم أن التيجاني هو خليفة النبي وبه يبقى الوجود

ثامناً: قال: ( ويقولون: التجاني هو خليفة النبي، وبه يبقى الوجود). الله أكبر! التجاني هو خليفة النبي وبه يبقى الوجود؟! من هو التجاني هذا؟ وأين هو؟ هذا في صحراء الجزائر، ارتقى إلى هذا المستوى، وأصبح صيته من إسطنبول إلى نيجيريا؛ لأن الشياطين تريد إطفاء نور الله وتريد إهلاك البشر وإقحامهم في جهنم، والتجاني هذا هو أحمد التجاني .
زعمهم أن من قرأ السيدي يكون ولياً متصرفاً في الغيب
تاسعاً: قال: ( ومن قرأ السيدي كذا يكون ولياً متصرفاً في الغيب). هذا كتاب أو ذكر أو دعاء يسمونه بالسيدي.
زعمهم أن كل كتاب يدعو إلى خدمة التيجاني فاق ملء الأرض ذهباً
عاشراً: قال: ( يقولون: كل كتاب يدعو إلى خدمة الشيخ فاق ملء الأرض ذهباً). كل كتاب يدعو إلى خدمة الشيخ سيدي أحمد التجاني فاق ملء الأرض ذهباً.
زعمهم أن هناك دعاء من قرأه يجد ثواب أربعة من الأنبياء
الحادي عشر: زاد عليها وقال: يقولون: ( وهناك دعاء من قرأه يجد ثواب أربعة من الأنبياء). أي: هذا الكتاب فيه دعاء الذي يقرأ هذا الدعاء يفوز بثواب أربعة من الأنبياء. وهذا كله كفر والعياذ بالله.

زعمهم أن حب التيجاني واجب على كل مسلم

الثاني عشر: قال: ( يقولون: حب التجاني واجب على كل مسلم، فعضوا على التجانية بالنواجذ). مما عرفناه: أن فرنسياً دخل مدينة فاس أو مكناس المغربية ودخل في طريقة أربعين سنة وهو ينشر في تلك الطريقة من هذا النوع والناس يهللون ويكبرون، وبعدها عاد إلى فرنسا ولبس الكرفات والبدلة والبرنطية وقال: أنا شيخ تلك الجماعة. إياك أن تفهم هذا فهو باطل. والبرهنة القاطعة: كيف حكمتنا فرنسا وإيطاليا وأسبانيا وبريطانيا لولا أننا هبطنا وتمزقنا ومتنا؟ وكيف يعلو الكفر على الإيمان والله يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]؟

زعمهم أن النبي وأصحابه يحضرون عند قراءة جوهرة الكمال

الثالث عشر: قال: ( يقولون: يحضر النبي وأصحابه عند جوهرة الكمال، وعلى الذاكر أن يصور شيخه أو مقدمه). اسمع كيف الكفر، يحضر النبي وأصحابه الأربعة عند جوهرة الكمال. يا معشر المستمعين من الزوار! من منكم عنده جوهرة الكمال؟ يجحدونها، موجودة، يقرءونها في الليل وفي النهار، جوهرة الكمال عبارة عن قصائد وترنمات.يقول: جوهرة الكمال على الذاكر أن يصور شيخه أو مقدم الشيخ -الواسطة- خادم التجاني ، ثم يأخذ في الذكر ولا بد أن يتخيل أن الشيخ بين يديه، وإذا ما استطاع أن يتخيل الشيخ فالمقدم يسمونه وهو النائب عن الشيخ.

زعمهم أن خادم التيجاني يشفع لألف ألف عند الله

الرابع عشر: قال: ( ويقول: خادم التجاني يشفع لألف ألف عند الله). أي: الذي يخدم سيدي أحمد التجاني يشفعه الله في ألف ألف، الكل يدخلون الجنة ويخرجون من النار.

زعمهم أن قضاء الوظيفة واجب

الخامس عشر: قال: يقولون: ( قضاء الوظيفة إذا فاته واجب). إذا وظيفتك نسيتها وعجزت عنها وما انتبهت وفاتتك يجب أن تقضيها، فقضاء الوظيفة واجب عنهم، فمن أوجب هذا؟ وما هي الوظيفة؟ نعوذ بالله من الخسران!

زعمهم أن صلاة الفاتح كالحديث القدسي

السادس عشر: قال: ( يقولون: صلاة الفاتح كالحديث القدسي؛ لأن الرسول في اليقظة أعطاها للشيخ). فالحمد لله الذي عافانا! الحمد لله الذي طيبنا وطهرنا! الحمد لله الذي علمنا! الحمد لله الذي ردنا بعد غيبتنا إلى كتابه وهدي رسوله. اللهم احفظ لنا هذا النور ولا تمحه يا رب العالمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-17, 10:56 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير آل عمران- (4)
الحلقة (145)



تفسير سورة آل عمران (12)

الله عز وجل هو خالق الخلق ومصرف أمورهم، وأعلم بما ينفعهم وما يضرهم، ومن تمام حكمته أن جعل الملك فيمن شاء من عباده، وحرم آخرين منه، ويسر الأرزاق لمن شاء من عباده، وقدرها على من شاء منهم، وهذه من مظاهر الربوبية المستلزمة للألوهية؛ فمن عرف قدرة الله عز وجل وحكمته عبده، ومن جهلها آل به الأمر إلى الكفر بربه فخسر خسراناً مبيناً.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ) . اللهم حقق رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.أعيد إلى أذهاننا جميعاً هداية الآيات الثلاث التي تدارسناها بالأمس، وتلاوة الآيات تلك بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:23-25]. ‏

هداية الآيات

قال المصنف غفر الله لنا وله ورحمنا وإياه [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: من الإعراض عن الدين والكفر به: رفض التحاكم إلى كتاب الله عز وجل ] مما يدل على أن فلاناً أو الجماعة الفلانية أو الأمة الفلانية معرضة عن دين الله عدم تحاكمها إلى كتاب الله عز وجل [ إذ قال تعالى وقوله الحق: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] ]. وقال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59] فوفد نجران رفضوا أن يرجعوا إلى كتاب الله والتوراة كالإنجيل تحملان صفات رسول الله ونعوته بصورة تكاد تنطق، ولما دعوا إلى ذلك رفضوا.[ثانياً: أفسد شيء للأديان بعقائدها وشرائعها وعباداتها: الافتراء فيها -على الله- والابتداع عليها والقول فيها بغير علم]. الأديان الإلهية يفسدها الافتراء على الله والكذب وإضافة ذلك إلى كتاب الله والابتداع في دين الله. وعلى سبيل المثال: من أين لليهود أن النار لن تمسهم يوم القيامة إلا أربعين يوماً؟ والله لهو الافتراء والكذب على الله. من وضع لهم هذه؟ علماؤهم ليسهلوا عليهم طرق الفساد والشر ومواصلة الكذب والنفاق، وآية البقرة فضحتهم أيما فضيحة؛ إذ قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ [البقرة:80] هاتوا عهد الله الذي عهد إليكم أنه لن يمسكم العذاب إلا أربعين يوماً أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80] وهذه أسوأ، بل تقولون على الله ما لا تعلمون. ثم قال تعالى: بَلَى [البقرة:81] أي: ليس الأمر كما زعمتم أو كما تعتقدون الباطل مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، وقد وقع المسلمون في هذه الورطة بالذات، فكتب العلماء وهمشوا وحشوا وكتبوا وأضافوا إلى دين الله ما ليس منه، فوقعت أمتنا في ما وقعت فيه الأمم السابقة إلا من رحم الله.[ ثالثاً: مضرة الاغترار بما يقوله بعض المفسرين والمحدثين على الكتب الدينية من الحكايات والأباطيل بحجة الترغيب والترهيب، فيغتر بها الناس فيضلوا ويهلكوا ] وقد قرأنا أمس نبذة من كلام المشايخ رؤساء الطرق كيف يكذبون على هذه الأمة. [ رابعاً: فضيلة ذكر أهوال يوم القيامة وما يلاقي فيها أهل الظلم والشر والفساد ] لأن الله قال: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:25]. هذه هداية الآيات الثلاث السابقة.

تفسير قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء...)

الآن مع الآيتين الكريمتين لهذه الليلة وهما قول الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27].

معنى قوله تعالى: (اللهم)

أولاً: كلمة (اللهم) قل يا رسولنا (اللهم)، وأصلها: الله، ثم إذا نودي الله عز وجل بحرف النداء يقال: يا ألله، فلما كان الله عز وجل أقرب إلينا من أنفسنا فلا ينادى بـ (يا) لقربه، فتنادي بياء النداء البعيد: يا إبراهيم، يا عثمان، أما إذا كان بين يديك فتقول: إبراهيم، عثمان اسمع ما أقول. وعوضت عن ياء النداء مع اسم الجلالة الأعظم الميم المشددة في آخر اسم الجلالة: (اللهم)، هذه الميم المشددة عوض عن ياء النداء، وهذا مما اختص الله به عز وجل، (اللهم) كأنك تقول: يا ألله. ويروى عن السلف: أن هذا الاسم بهذه الميم اشتمل على كل أسماء الله الحسنى، فمن سأل الله بقوله: اللهم هب لي كذا فكأنما دعاه بأسمائه كلها؛ لأن اسم الجلالة الأعظم (الله) يدل على تلك الأسماء: العليم والحكيم واللطيف والخبير والرءوف والرحيم وغيرها.إذاً: فلنكثر من دعاء الله عز وجل ولنفتتحه بكلمة: (اللهم).

فضل قراءة هاتين الآيتين

وذكر أيضاً أبو نعيم في الحلية: أن معاذ بن جبل رضي الله عنه -وهو الصاحب المعروف- تأخر يوماً عن صلاة الجمعة فلم يشهدها، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: لم ما شهدت صلاة الجمعة؟ فقال: إن لفلان اليهودي ديناً علي، وقد رصدني عند باب بيتي، فمنعني هذا الرصد والانتظار من الخروج، فعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله بهذه الآيات كل يوم، فإن الله يقضي عليه دينه ولو كان ملء الأرض ذهباً. كيف يصنع؟ يقول: ( اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي، وترزق من تشاء بغير حساب، رحمان الدنيا والآخرة، يا رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع من تشاء، اقض عني ديني ) . لازمها يا عبد الله إن كنت مديناً، لا تفتر تقولها يومياً، فإن الله سيقضي عنك دينك ولو كان ملء الأرض ذهباً.وكان في الحلقة أحد الصالحين أقسم بالله لقد كان عليه سبعون ألف ريال دين وقضيت في أيام، ونحن لا نمتحن ربنا -معاذ الله- ولكن بلغنا هذا فقلنا به. يا أصحاب الديون! يا من يشتكون ديوناً للغير هذا باب قضائها وسدادها قد انفتح لكم، لا تفتر صباح مساء. نحن نقولها والحمد لله دبر كل صلاة، فادع الله بهذا الدعاء وكلك يقين بأن الله سيقضي عنك دينك، تقرأ هاتين الآيتين ثم بعد ذلك تقول: رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما اقض عني ديني، ترزق من تشاء، اقض عني ديني. وكررها كل يوم، فإن الله عز وجل سيقضي عنك دينك. والحديث هكذا كما ذكره القرطبي . ونص الحديث كما أخرجه أبو نعيم في الحلية: ( أن معاذاً حبس يوماً من صلاة الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عما حبسه، فقال: كان علي دين لـيوحنا اليهودي، فوقف عند بابي يرصدني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحب أن يقضى عنك دينك؟ قال: قلت: نعم. قال: اقرأ كل يوم: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران:26] إلى قوله: بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27]... الآيتين. ثم قل: رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ) أي: يا رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ( تعطي منها من تشاء وتمنع من تشاء، اقض عني ديني، فلو كان عليك ملء الأرض ديناً لأداه عنك ) . كيف ترون هذه الفائدة؟ يا أيها المدينون! هذا باب قضاء دينكم قد انفتح فلا تحرموه، ما يمنعك أن تتملق ربك مرة في الليلة ومرة في النهار: ( اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منها من تشاء وتمنع من تشاء، اقض عني ديني ) . وكرر هذا الالتجاء الصادق وكلك يقين في أن الله سيؤدي عنك هذا الدين فإنك والله لن تحرم. أو نترك هذا ونذهب إلى البنوك وبيع السيارات؟! ستقولون: يا شيخ! ما علمنا هذا، ما عرفناه إلا اليوم وإلا ما وقعنا في ذلك.إذاً: افتح المصحف تجد هاتان الآيتان، وإذا كنت لا تعرف القراءة فاجلس إلى بنتك أو ابنك يقرأ وتعلم عنه الآيتين وتحفظهما، فإذا حفظت الآيتين بقي نص الحديث: ( رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي منهما ما تشاء وتمنع من تشاء، اقض عني ديني ) وكرر هذا اليوم بعد اليوم حتى تنفرج عنك الحال ويقضى دينك.وأهل العلم يرغبون في تلاوة هاتين الآيتين دبر كل صلاة، نقرأ آية الكرسي ونضيف إليها: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18] و: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران:26] فهذا ذكر رباني، كلام الله نتملق به ونتزلف إليه سبحانه.

قرب الله تعالى من عباده

إذاً: عرفتم معنى (اللهم) وأن معناها: (يا ألله)! وعدلنا عن (يا ألله) إلى (اللهم)؛ لأن الله قريب منا ليس ببعيد مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] والقريب لا نناديه بياء النداء. فإذا كان أخوك بين يديك فإنك لا تقول: يا إبراهيم، بل تقول: إبراهيم صب الماء، إبراهيم قم لكذا، وأما إذا كان بعيداً فتحتاج إلى أن تقول: يا إبراهيم. ولما كان الله أقرب إلينا من حبل الوريد منا جاءنا بهذه الكلمة الطيبة منة منه وفضلاً، بلغتنا عن رسوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم).الله يعلم رسوله: (قل اللهم) إلا إذا قلنا: (قلِ اللهم) حسب القراءة حركنا اللام الساكنة قلنا: (قلِ اللهم)؛ لأن اسم الله إذا سبق بحرف جر يلين ويرقق ولا يفخم، كأن تقول: بسم الله، وتقول: وصلى الله. أليس كذلك؟ تقول: هذا من فضل الله، وتقول: هذا فضل الله يؤتيه من يشاء.إذاً: اسم الجلالة إذا سبقه حرف جر يأتي بالترقيق، بسم الله، من فضل الله، وإن سبقه رفع أو نصب يفخم، قال الله جل جلاله. كذلك: قل اللهم، لكن إذا حذفنا قل ستقول: اللهم. أي: يا ألله.

مناسبة هذه الآية

قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران:26] من الآمر بهذا؟ الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا. ما المناسبة؟ المناسبة: أن اليهود رفضوا الدخول في الإسلام على علم، لا يريدون الإسلام؛ طلباً للملك، وطلباً للسيادة، طلباً للعزة والدولة والسلطان. كيف يطمعون في هذا الطمع وهم شراذم ممزقة هنا وهناك؟ ما يئسوا، قالوا: إذا دخلنا في الإسلام وأصبحنا أتباعاً للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم انتهى أملنا في إيجاد مملكة بني إسرائيل نهائياً. والأمر واضح، إذا دخلوا في الإسلام هل سيكونون مملكة في الإسلام لبني إسرائيل؟ هذا ليس بمعقول أبداً، فآثروا الدنيا على الآخرة، انتبهتم، وغرر بهم علماؤهم وقالوا: إن كفرتم بمحمد ودينه رجوتم أن يعود إليكم ملككم ودينكم أما النار إن عذبتم بها فلن تزيد مدة العذاب على أيام معدودات، فاصبروا إذاً على الكفر. هل فهتم هذه الحقيقة؟ وما زال اليهود إلى الآن يعملون بكل الإمكانيات لتحقيقها، يضحون بأعراضهم، بدمائهم، بوجودهم من أجل أن يقيموا مملكة بني إسرائيل كالتي كانت لهم على عهد داود وسليمان، لكن لحمقهم وجهلهم وضلالهم أرادوا أن يكونوها من حيث لا تكون، لأن الذي يعطي الملك هو الله، لا أن تعلن الحرب على الله ليعطيك الملك، أنت أحمق. قل يا رسولنا: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء. والنصارى كذلك، والمجوس كاليهود حاربوا الإسلام من أجل الملك ولبقاء الدولة والسلطان، وإن شئتم حلفت لكم بالله، رفضوا الإسلام لبقاء دولتهم وسلطانهم، إذ الإسلام إذا دخلوا فيه عمتهم رحمة الله وأصبحوا عابدين لله مسلمين، ليس هناك عنتريات وتعال وعزة وسلطان. هكذا يعلم الله تعالى رسوله أن يقول: اللهم مالك الملك، ولفظ الملك يشمل كل مملوك، فلا تفهم منه فقط الدولة، فكل ما نملك يسمى ملكاً، تقول: هذه الدار ملكي، هذه السيارة ملك فلان.

معنى قوله تعالى: (مالك الملك)

قوله: مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران:26] من هو مالك الملك كله؟ إنه الله، ناده باسم الجلالة وبهذه الصفة الخاصة به، يا مالك الملك، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26] تعطي الملك ما يملك من كل الموجودات والمملوكات من تشاء، فإنك المالك الحق للدنيا والآخرة، فمن أراد أن يطلب ملكاً فليطلبه ممن يملكه، أما من صنم وحجر وعيسى ومريم والأباطيل فهذه خطأ لا يعقل. تطلب الملك ممن لا يملك؟! يجوز ذلك؟ هل يصح أن تأتي إلى فقير وتقول له: من فضلك أعطيني سيارة؟ من أين يعطيك سيارة؟ لو كان يملكها فمعقول أن تقول له: أعطيني سيارة، إما إذا كان فقيراً فأنت تضحك على نفسك.

معنى قوله تعالى: (تؤتي الملك من تشاء)

قوله: مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، لنعلم أن مشيئة الله ليست مشيئة أحمق ولا جاهل، ولا غافل، بل مشيئة الله تابعة لحكمه سبحانه.إياك أن تفهم أن الله يشاء أن يعطيك شيئاً وأنت لست بأهل له، لا يفعل هذا؛ لأنه عليم حكيم، يضع كل شيء في موضعه، فلا تفهم أنك تحاربه ليل نهار وتقول له: أعطني ملكاً أسود به وأحكم به فيعطيك، هذا خطأ.إذاً: اطلب ما تطلب يا عبد الله من الله، إذا هو الملك الحق، واعلم أنه يعطيك إذا كنت أهلاً لهذا العطاء، فإن لم تكن متأهلاً له لا يعطيك؛ لأنه الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه، تيقن أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء.إذاً: الجأ إلى الله عز وجل واعمل برضاه، وبالسنن التي وضعها وسنها وقننها للوصول إلى الملك، فإن الله لا يحرمك، أما أن تطلب ذلك من غيره، أو تطلبه من سنن ما وضعها وقوانين ما سنها وتريد أن تصل إلى مطلوبك فلا والله، إلا إذا كنت ما آمنت بالله ولا بسلطانه وملكه. فيا بني إسرائيل! إذا أردتم الملك والسيادة والعز فادخلوا في رحمة الله تصبحون سادة البشر وأئمة.

معنى قوله تعالى: (وتنزع الملك ممن تشاء)

قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، كم من مالك نزع الملك منه؟ كم من مالك نزع ما يملك؟ والتاريخ شاهد والوقع أكثر شهادة، فهيا بنا إذاً نفزع إليه سبحانه، ما بقي عيسى ولا مريم ولا عزير ولا سيدي عبد القادر ولا مولاي إدريس ، فمن أراد أن يملك دابة وامرأة فالمالك الحق هو الله، فليقرع باب الله عز وجل، وليسأله في ضراعة، وليستقم على منهج الله حتى يتحقق له مراده ورضاه، أما أن تطلب ما ليس عندك من غير الله فهيهات هيهات أن تحصل عليه! أو أن تطلب من الله وأنت كافر معرض عن سنن الطلب وطرق الوصول إلى الخير فهيهات هيهات أن تحصل عليه! تأملوا هذه! اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26] أي: من عبادك وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ [آل عمران:26] وتأخذه مِمَّنْ تَشَاءُ [آل عمران:26] لأنه ما أهل لذلك. وهل فعل الله هذا؟ نعم فعله مع بني إسرائيل. أين تلك الإمبراطورية العظمى؟ أين مملكة سليمان من أقصى الشرق إلى الغرب فقد حكم الإنس والجن؟ زالت، لما تبرجت نساؤهم، وكشفن عن وجوههن، ولبسن الكعب العالي.السفور من نشره في العالم؟ رجال الكنيسة؟ لا والله العظيم. فمن؟ إنهم اليهود، بنو عمنا؛ لأنهم يريدون أن نسقط من علياء السماء، وأن ننزل إلى الأرض بنفس الطريق الذي هبطوا به هم. كيف سقطت دولة بني إسرائيل؟ أخبرنا أبو القاسم، بدأت بالكعب العالي والسفور، وهم اليوم يصنعون الكعب العالي لنسائنا ونسائنا يتبخترن به. أما تعرفون الكعب العالي هذا؟ سبحان الله! هو الحذاء يجعلون له كعب رقيق طويل، لما تلبسه المرأة تصبح تتمايل، في الشارع في السوق تتمايل، تجذب قلوب أصحاب الشهوات ليقعوا في الفجور.أيضاً:كشف الوجوه لنساء البشر ما كان معروفاً أبداً حتى سن هذا القانون اليهود؛ لإيقاع الأمة في الفجور والفسق ثم الهبوط، حتى يتمكنوا من أن يعودوا كما كانوا سادة مالكين حاكمين.والعالم الإسلامي، كيف هبط؟ ما سبب هبوطه؟ هو إعراضه عما عن الله عز وجل، وطلب ما ليس لهم بحق، فهبطنا وحكمنا الشرق والغرب.

معنى قوله تعالى: (وتعز من تشاء وتذل من تشاء)

قوله: وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، ما بقي ولي يدعى ولا عيسى ولا مريم ولا البتول ولا الحيل ولا السحر ولا ولا.. يا من يريد العزة اطلبها من الله، يا من يخاف الذل افزع إلى الله، يا طالب الملك اقرع باب الله، فلا إله إلا الله. ماذا فعل الله باليهود والنصارى؟ أذلهم وأزال ملكهم. وأما العرب الذين كانوا يطالبون بالملك علمهم من أين يأتى الملك وكيف يطلب، إلى الآن من أراد أن يعز فليطلب العز من الله.ما هو سبيل العز؟ هل هو المال والقوة والسلطان؟ والله ليذل. أين روسيا؟ أذلها الله وأنتم أحياء تشاهدون، وقد مضت فترة إذا خطب خطيب في موسكو تهتز أوروبا من الفزع والخوف، فأين هي؟ قالوا: لا إله والحياة مادة، فما مضى عليها ثمانون سنة. أين عزها؟ مجموعة من الشيشان أذلتهم وأخزتهم وحطمتهم. أبعد هذا نطلب العزة من غير الله؟!ستقولون: يا شيخ! علمنا كيف نطلب العز من الله؟ هل بالدعاء فقط؟ أو بالأخذ بالأسباب والسنن؟ الجواب: بالدعاء، وبالأخذ بالأسباب، أول شيء أن تعرف أن العز يملكه الله، وأنه لا يطلب إلا من الله، ثم تقبل على الله طالباً سائلاً ضارعاً، آخذاً بالأسباب التي وضعها لأن تعز وتسود، والأمر عندنا سهل، فقط رجعة صادقة إلى الله، وخلال أربع وعشرين ساعة لا أعز من المسلمين في الأرض.

معنى قوله تعالى: (بيدك الخير)

قوله: بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران:26] لا بيد سواك يا رب! بيدك الخير تعطيه من تشاء وتمنعه ممن تشاء، مفاتيح الكون بيدك، وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو. افزعوا إلى الله، ما بقي والله بيننا من يقول: يا سيدي عبد القادر أبداً، ولا يا رسول الله ولا يا فاطمة بعد الليلة، ولا يا حسين ولا إدريس ! عرفنا يا رب أنه لا ملك إلا أنت، أنت الملك الحق، بيدك الملك تهبه من تشاء، وتمنعه ممن تشاء، تعز من تشاء وتذل من تشاء، ولو عرف المؤمنون والمؤمنات هذا والله ما قالوا يا رجال البلاد، أو يا مولى بغداد، يا راعي الحمراء، يا عيدروس ، يا حسين ، لكنهم ما عرفوا!ثم الذين يريدون أن يطلبوا ملكاً كيف يطلبونه؟ مثلاً: بلد من بلاد المسلمين أراد شبانها أن يطلبوا الحكم، أن يصبحوا الحاكمين، ما الطريق؟ الطريق أن يفزعوا إلى الله ويطرحوا بين يديه يبكون الليل والنهار، يزكون أنفسهم ويطهرونها، حتى تصبح كأرواح الملائكة؛ فحينئذٍ إذا رفعوا أكفهم إلى الله أن يزول من شاءوا أن يزول والله لأزاله الله، أما فقط بالعنترية والكلام الفارغ والمتفجرات فهذا هراء تابع لهراء.ستقولون: لا تلمهم يا شيخ! ما عرفوا. إي والله ما عرفوا. من عرفهم؟ ما تربوا في حجور الصالحين، لا أعواماً قليلة ولا كثيرة. بِيَدِكَ [آل عمران:26]، لا بيد غيرك، الخير والشر أيضاً، ولكن لا حاجة إلى ذكر الشر؛ لأننا نريد أن نسأل الخير، لا نريد أن تسقط دولتنا أو نمرض أو نصاب بالفقر.

معنى قوله تعالى: (إنك على كل شيء قدير)

قوله: إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]، ذكر السيوطي في تفسيره عند نهاية سورة المائدة، وهي مختومة بقوله تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، قال: على كل شيء قدير إلا على إيجاد إله مثله. فهل يقال مثل هذا الكلام؟! قال: على كل شيء قدير باستثناء أنه لا يوجد إله مثله. أقول تنبيهاً: هذا الكلام لا يقال؛ لأن الله يخاطبنا بما تعارفنا عليه وما تعايشنا فيه من أمور دنيانا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، أن يملك، وأن يعز، يحيي، يميت، يعطي، يمنع، يدخل الجنة، يدخل النار، على كل شيء قدير، فلم نستثني إلا ذاتاً كذاته، أي داع إلى هذا، فقوله: إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26] هذه الجملة تعليلية.كيف تقول: رب إنك على كل شيء قدير ارزقني أولاداً صالحين وأنت تأبى أن تتزوج؟ عرض عليك والدك الزواج فقلت لا أتزوج وتقول: رب ارزقني أولاداً صالحين، هل يجوز هذا الدعاء؟ أو تقول: يا رب إنك على كل شيء قدير فاجعلني نبي آخر هذه الأمة، هل يجوز الكلام هذا وأنت تعرف عن النبوة ختمها؟ أو تقول: رب أعلم أنك على كل شيء قدير فأخرج مني عنصراً من الذهب نعيش عليه؟ ما جرت سنة الله بهذا، فلابد وأن تطلب الله الذي على كل شيء قدير ما جرت به سنته في خلقه، فلا تناقض سنن الله. اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]، مثلاً: أراد ملك أن يدوم ملكه، ويسأل الله عز وجل بدون ما يأخذ بأسباب البقاء يستجاب له؟ لا. إذاً: يدوم الملك بالعدل، وإقامة الشرع، وعبادة الرحمن عز وجل. أي طاعة الله في كل ما أمر به ونهى عنه ومن ذلك إعداد العدة للجهاد والقتال والتسلح وصناعة ذلك.

تفسير قوله تعالى: (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل...)

قال تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27]. ‏

معنى إيلاج الله لليل في النهار والنهار في الليل

قوله: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [آل عمران:27]، أين الليل يا إخواننا الآن؟ في بطن النهار أدخله الله فيه وبعد ساعات يذهب نهارنا فيدخله الله في بطن الليل.إذاً: إيلاج الليل في النهار هو إدخال الليل في النهار والنهار في الليل ولا تقل الشمس ولا.. كله هراء يصرفك عن تعظم الله والخوف والرهبة منه والحب فيه، والشمس من أدارها في فلكها حتى تكون الليل والنهار؟ انظر أمامك وأنت في رابعة النهار أين الليل؟ أمك وأبوك طرداه؟ أهل البلاد زجروه؟ انظر هذا! الآن يدخل الظلام الحالك ويعم البلاد بكاملها فأين النهار؟ من ذهب به؟ لو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يذهبوا به دقيقة ما استطاعوا، فهذه عظمة الله، حكمة الله، جلال الله، قدرة الله، فقل: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله..الشيطان يعبث بالقلوب ويبعدها عما أراد الله لها من الهداية والخير، يفكرون كيف الليل والنهار، أما سمعت الله يقول: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [آل عمران:27]. هل هناك من قال: نحن بني فلان نولجه؟ لا. وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [آل عمران:27]، فأهل الإقليم ليلهم ليل، ونهارهم نهار، في كل أنحاء العالم، من يفعل هذا سوى الله؟ كيف فعله؟ بحسب قوانينه وسننه وتدبيره في ملكوته وخلقه، فلا ولي من الأولياء ولا نبي من الأنبياء، ولا عبد صالح ولا عيسى ولا مريم يستطيع هذا. وهذه صفعات لوفد نجران الذين يقولون: عيسى هو الله، فقال الله لهم: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [آل عمران:26-27]. هل هناك من يشارك الله في هذا؟الجواب: لا. إذاً:لم يشاركونه في دعائهم والذبح والنذر لهم، والتزلف والتقرب إليهم وهم لا يملكون شيئاً؟وأخرى: والله لو يجتمع أهل الأرض على أن يغيروا نظام الليل والنهار والله ما استطاعوا أبداً، ثم لو أخبرهم الله وأراد إهلاكهم وغيروا لخرب العالم وهلكوا أجمعين.

معنى قوله تعالى: (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي)

قوله: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [آل عمران:27]، ما وجه ذلك؟ البيضة ميتة ميتة، والدجاجة حية لها صياحها.إذاً: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [آل عمران:27]، البيضة ميتة، وتكفش فوقها أمها كذا ليلة وإذا بها تفقسها وإذا بحي خرج منها، وهذا مشاهد في هذه الحيوانات، وإن قال علماء الكون وعلماء الحياة: قالوا: النواة حية، فالبيضة فيها عنصر حي، كالمني، مني الفحول أيضاً فيه مادة الحياة. نقول: هذا لا يتلفت إليه؛ لأنه لا يفقه ولا يفهم ولا تدعى إليه البشرية لتفهمه، حتى ترهب الله وتحبه، فالقرآن يخاطب الصغير والكبير، والبصير والأعمى والأول والآخر، أشياء مشاهدة، فلا نبحث عن خيالات، نحن نشاهد أن البيضة ميتة، تخرج من الحي، وأن الكتكوت أو الفرخ يخرج من البيضة الميتة فهذه آية من آيات الله، لو اجتمع أهل أوروبا بل أهل الأرض على أن يخرجوا من ميت حي لا يستطيعون والله ولا ذبابة، لو تجتمع البشرية على خلق ذبابة ما تستطيع. إذاً: من يستحق التأليه والعبادة والرجوع إليه سوى الله؟وهناك أيضاً معنى مراد في الآية: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام:95]، عكرمة بن أبي جهل قائد، بطل الرباني، خرج من صلب أبي جهل ، وأبو جهل مات أسوء موتة، والكافرون أموات: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80]، فالكافر ميت، وهذه حقيقة.نقول: الإيمان الحق بالله ولقائه وكتابه ورسوله هذا الإيمان بمثابة الروح، بمنزلة الروح للإنسان إذا آمن الآدمي حيي، وأصبح حياً، وإذا لم يؤمن فهو ميت، وأصبح حكمه حكم الميت. والدليل والبرهنة: نحن أهل راية لا إله إلا الله، إن وجد بيننا يهودي أو نصراني أو مجوسي ذمياً تحت رايتنا نؤمن حياته ونحفظه من كل ما يسئ إليه، هذا والله لا نأمره بأن يصوم معنا، والله لا نأمره أن يشهد الصلاة معنا، والله لا نسمح له أن يدخل الجيش ليجاهد معنا. لم؟ لأنه ميت، فهل الميت يفعل شيئاً؟ أهل الذمة في بلاد المسلمين هل نقول لهم: صوموا، رمضان غداً فصوموا معنا؟ والله ما يجوز أن نقول ذلك، ميت فكيف تكلف ميتاً؟ انفخ فيه الروح فإذا حيي فكلفه فإن يقدر على أن ينهض ويفعل، أما وهو ميت فلا.من عرف الله عز وجل وعبده بما شرع فهذا حيي حياة كاملة، يقدر أن يقول الخير ويسكت عن الشر، يقدر على أن ينهض بالواجب ويتخلى عن المكروه؛ لوجود حياة فيه، أما من لا إيمان له فلا يكلف حتى يؤمن؛ لأنه كالميت. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [يونس:31] كم من إنسان صالح مؤمن رباني يخرج من صلبه ابن فاسد، كافر ميت؟! يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [يونس:31]، هذا فعل من؟ فعل الله. هل هناك من يشارك الله في هذا؟ الجواب: لا. إذاً: لا إله إلا الله، هذا مسك الختام، لا إله إلا الله والله العظيم، لا يوجد إله يعبد بحق إلا الله. من رفع لنا معبوداً ننظر إليه: هل خلق شيئاً؟ الجواب: لا. إذاً: من لا يخلق لا يعبد. هل رزق شيئاً؟ لو تتفق البشرية على إيجاد غذاء ما أوجده الله وتعرض عن اللحم، والخضار فهل تستطيع ذلك؟ والله ما تستطيع.إذاً: الخالق الرازق المدبر للحياة بالإحياء والإماتة والإعطاء والمنع والإعجاز والإذلال هو الله جل جلاله، فلا يعبد إلا هو، فلهذا أكبت الله وفد نجران وألقمهم حجراً وانهاروا وانهزموا؛ لأنهم جاءوا يجادلون رسولنا في أن عيسى ابن الله، وأنه إله مع الله، فبكتهم الله في ثلاث وثمانين آية وأسكتتهم وذهبوا مرتعدين خائفين.

معنى قوله تعالى: (وترزق من تشاء بغير حساب)

قوله: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27] يا رب! أنت مالك الملك، أنت ذو الجلال والإكرام ترزق من تشاء من عبادك.. من مخلوقاتك، من تشاء رزقه ترزقه وتوفر رزقه وتعطيه بدون حساب وليس بالعد، قنطار لحم أو صاع شعير، بل ترزق من تشاء رزقاً بغير حساب، فليس هناك من يحسب عليك أو يحاسبك: لماذا أنفقت كذا أو أعطيت كذا؟ وَتَرْزُقُ [آل عمران:27] أيضاً مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27]، فتعطيه العطاء الوافي الذي ما يحتاج إلى عد ولا حساب.هذه مظاهر الربوبية المستلزمة للألوهية، فمن عرف الله عبده، ومن لم يعرفه صرف عن عبادته وهرب منها؛ ليخسر خسراناً أبدياً في الحياتين الأولى العاجلة والآخرة الآجلة.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ هداية الآيات] فهيا إلى ما في الآيتين من هداية [ من هداية الآيات:أولاً: فضل الدعاء بهاتين الآيتين بأن يقرأهما العبد ثم يقول: ( رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء، وتمنع من تشاء اقض عني الدين). فإنه يقضى بإذن الله تعالى ويعطى إن سأل حاجة له من حوائج الدنيا والآخرة ] إن شاء الله هذه حفظناها والذين لم يحفظونها يحفظونها من الآن ويضيفون إليها: ( رحمان الدنيا الآخرة) أي: يا رحمان الدنيا.. ولا نناديه بياء البعيد ( رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي منهما من تشاء، وتمنع من تشاء، اقض عني الدين). تقولها يومياً في الليل والنهار حتى يقضى دينك. وإياك أن تمل، تقول: آه! دعوت وما استجيب لي، إياك! فقد حذرنا رسول الله من هذا، فإياك أن تسأل الله وتقول: آه! سألت فما أعطاني، فتلك والله الحالقة، انتبهوا! اثبت وكلك يقين على أن يقضي الله عنك دينك ويسدده.ثم اسأل بها غير الدين، توسل إلى الله عز وجل بها لما تختمها: اللهم اكشف ما بي من هم وكرب، اللهم اشف مريضي، وتكون قد توسلت إلى الله بأسمائه وصفاته.قال: [ثانياً: استجابة الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وإنجازه ما وعده في أمته ]. تدرون أن الرسول يوم الخندق أيام كان يحمل التراب على كتفه الطاهر وهم يحفرون الخندق كبر: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر فسألوه، قال: ( لاح لي ملك أمتي في بلاد فارس شرقاً وغرباً )، فضحك المنافقون واستهزءوا وقالوا: أحدنا لا يستطيع أن يتغوط خارج بيته وهو يقول: ( ملك أمتي سيبلغ كذا وكذا ). وضحك لها اليهود، وتعاونوا مع المنافقين، وإذا بهذه تتحقق كما أراد الله، والله لقد ملكت هذه الأمة مملكة فارس والروم، وتحقق ما ذكر الله عز وجل وأراه رسوله صلى الله عليه وسلم، سيبلغ ملك أمتي كذا وكذا، انتهى إلى ما وراء نهر السند وإلى ما وراء الأندلس، تحقق هذا: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، فنزع ملك فارس والروم ووضعه في أيدي المسلمين أصحاب رسول الله، وأحفادهم وأولادهم.قال: [ ثالثاً: بطلان ألوهية عيسى عليه السلام، وثبوت عبوديته لله ورسالته وكرامته ]، أما الألوهية فله لا إله إلا الله، وأما كونه عبد الله ورسوله ووليه فنعم.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-17, 11:05 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (5)
الحلقة (146)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة آل عمران (13)

الله عز وجل ولي المؤمنين، والمؤمنون أولياء بعض، ومن تمام هذه الولاية ألا يصرفوا شيئاً منها للكافرين، لا بمحبة ولا بنصرة؛ لأن الله عز وجل يحب المؤمنين وبذلك تكون موالاتهم واجبة، ويبغض الكافرين فتكون معاداتهم واجبة، ومن فعل غير ذلك فقد خرج من ولاية الله وصار عدواً له، وعرض نفسه لسخطه وأليم عقابه حين يصير إليه الخلائق يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم، ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين. وها نحن مع هذه الآيات الثلاث وما زلنا مع سورة آل عمران، تلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:28-30].

النهي عن موالاة الكافرين

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من القائل: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]؟إنه الله ربنا، منزل كتابه علينا، باعث رسوله فينا، الذي خلقنا ورزقنا، الذي أوجدنا بعد العدم، فأحيانا ثم يميتنا ثم يحيينا، الله الذي رفع السماء بغير عمد، وبسط الأرض على الماء فجمد، آياته الدالة على وجوده لا تعد ولا تحصى، فكل ذرة في الكون موجودة الله هو الذي أوجدها.اسمع هذا الخبر العظيم! لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]، هذا نهي واضح صريح من الله لعباده المؤمنين -جعلنا الله تعالى منهم- أن نتخذ الكافرين أولياء لنا نحبهم وننصرهم، ونعرض عن المؤمنين أو نخذلهم ولا ننصرهم.(لا): ناهية، لا يحل أبداً لمؤمن ولا مؤمنة أن يتخذ كافراً أو كافرة، منافقاً أو منافقة، يهودياً أو نصرانياً، أن يتخذه ولياً له، ويترك المؤمنين لا يحبهم ولا ينصرهم. وهذا واضح بين. أيعقل يا عاقلين! أن نتخذ الكافرين أولياء نحبهم ونقف إلى جنبهم وننصرهم ونترك المؤمنين فلا نحبهم ولا ننصرهم؟ أيعقل هذا؟ كيف يتم هذا؟ لما كان الضعف البشري متأصلاً فالله عز وجل علمنا هذا، انتبهوا! لا يحل لمؤمن ولا مؤمن ولا مؤمنة أن يتخذ كافراً أو كافرة ولياً له. أي: يحبه بقلبه وينصره ويترك المؤمنين فلا يتخذ منهم ولياً ولا نصيراً.

معنى الموالاة

وتأملوا! (( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ))[آل عمران:28]، لا يحل، لا يجوز، ممنوع، حرام.يبقى: هل تذكرون أننا فسرنا البراءة والولاء؟ بلى تذكرون، وقد فسرنا ذلك: بالحب والنصرة، بالحب: والحب موطنه القلب، ومظاهره: الابتسامة، واللين والعطف والرحمة والعون والمودة.إذاً: والنصرة تكون بالسكين والرمح، بالكلمة والمال، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يوالي كافراً أو كافرة، حتى ولو كان الكافرة هو أبوه، ولو كانت الكافرة هي أمه، ولو كان الكافر شقيقه أو ابن أبيه أو أمه. لا يحل لك يا عبد الله المؤمن أن تحب بقلبك من كرهه الله وأبغضه الله وسخط عليه وإلا تناقضت مع سيدك ومولاك.. مع ربك وإلهك، فهو يكره أبا جهل وأنت تحبه؟! أليس هذا هو التناقض؟ أعلنت الانفصال عنه وما اعترفت به سيداً لك ولا مولى. الولاء والبراء: يجب أن نوالي المؤمنين وأن نتبرأ من الكافرين، ليس لهذه الآية وحدها، بل لآيات كثيرة متفرقة في هذا الكتاب الإلهي، منها: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ))[النساء:144]. ومنها: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ))[المائدة:51] غيرها آيات كثيرة.إذاً: يجب أن نعلم: أن حب الله وحب ما يحب الله واجب، وأن كره ما يكره الله واجب، فإذا عرفت أن زيداً أو عمراً يبغضه الله ويكرهه؛ لأنه سب الله وكفر بالله، ولأنه حارب أولياءه، فيقيناً أن الله يكرهه، فإياك أن تحب هذا الكافر المبغض لله وإن كان أقرب قريب كالأبوين فلا أقرب منهما. وقوله من سورة المجادلة: (( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ))[المجادلة:22]، فما ترك بياناً بعد هذا. فهل أنتم مستعدون؟ قولوا: نحن عافانا الله ما عندنا يهود ولا نصارى بيننا، ولا مجوس ولا صابئة ولا مشركون.أقول: ومع هذا احذروا أن تحبوا من يكره الله، اعزم في صدق أنك لا تحب إلا من يحبه مولاك، وأنك لا تكره إلا من يكرهه مولاك، وعلى هذا تنتظم حياتك الربانية الصحيحة.

معنى قوله تعالى: (فليس من الله في شيء)

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]، الحب والنصرة، أحبوا المؤمنين وانصروهم على أعدائهم الكافرين، واكرهوا الكافرين ولا تنصروهم على إخوانكم المؤمنين.ثم جاء الاستثناء، فقال تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، لكن قبلها قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [آل عمران:28] منكم أيها المؤمنون فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28]، وولايتهم قطعت صلتها، كان ولياً لله بالإيمان به وتقواه، فلما والى أعداءه انقطعت ولاية الله عنه، وأصبح عدواً لله وليس ولياً له، فليس من الله في شيء، ما بقيت له صلة بالله؛ لأنه أحب ما يكره الله، ونصر من يخذل الله، ووقف موقفاً مضاداً لله. إذاً: ماذا بقي له مع الله؟ لا شيء.وأنتم تعلمون أن ولاية الله لنا تتم بشيئين: الإيمان الصحيح، والتقوى العامة، فمن والى أعداء الله ضد أولياء الله فقد انقطعت صلته بالله، ولم يبق له شيء فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28].اسمعوا الآية! يقول تعالى وهو يخاطبنا في صورة الغيب، لأن المؤمنين لا يحضرون كلهم في يوم واحد لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [آل عمران:28]، أي: يواليهم دون المؤمنين فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28]، ما بقيت له صلة بالله، وولايته التي كانت تربطه بالله انقطعت أسبابها وأصبح عدواً لله.

معنى قوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة)

قوله: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، وقرئ: (إلا أن تتقوا منهم تقي)، التقى: بمعنى التقية، بمعنى: التقوى، إلا أن تتقوا أذاهم أو شرهم أو بلاهم بصورة من الصور الجائزة المسموح بها، هذه الصور الجائزة ليس معناها أنك تترك الصلاة، أو تشرب معهم الحشيش أو الخمر، وتقول: أنا اتقيت بلاءهم بهذا، وأن تساكنهم أو تعاشرهم، ما قال بهذا ذو علم أو بصيرة، بل تتقي منهم بالكلمة اللينة والعطف والعمل المادي، لا بأس أن تقدم إليه ماءً أو طعاماً، لا بأس أن تساعده على إصلاح دابته أو سيارته حتى ما تحمله على ضربك أو قتلك أو منعك من فعل الخير أو عمل صالح.

الفرق بين المداهنة والمدارة

تعرفون أن هناك فرقاً بين المداهنة والمدارة، يوجد فرق كبير بين المداهنة والمداراة، والعامة تقول: دارهم ما دمت في دارهم، ففرق ما بين المداهنة،والمدا راة، فالمداهنة حرام، والله يقول: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، فلا مداهنة بينك وبين الظلمة والكفرة، والفجار والمشركين.أما المداراة فتدخل تحت: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، هيا نعود بهذه الكلمة الليلة إن شاء الله، وهي أننا عرفنا كيف نداري وكيف لا نداهن؛ لأن المداهنة موت. والمدارة جائزة دل على هذا قول ربنا: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، نتقي أذاهم، شرهم، بلاءهم بالمدارة، بالمصانعة والمجاملة المعروفة عند الناس.قال الحكماء: المداهنة: أن تتنازل عن شيء من دينك. انتبه! تتنازل عن شيء من دينك لتحصل به على شيء من دنياك، تتنازل عن شيء من دينك يسقط عنك ويخرج منك؛ من أجل أن تحفظ شيئاً من دنياك، هذه هي المداهنة وهي محرمة.وأما المداراة: أن تتنازل عن شيء من دنياك لتحفظ شيئاً من دينك.مثاله: جلست مع كافر وأنت مضطر إلى أن تجالسه؛ لأنك في بلاده وبين رجاله، وأنت بعيد الدار وغريب، وما تستطيع أن تفعل شيئاً. إذاً: اعمل بقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]. كيف تصنع؟ إذا قال لك: يا فلان! أغلق الباب تقوم فتغلق الباب! يا فلان! أصلح لي السيارة؛ تقوم وتصلحها! يا فلان! أعد لي نعلي؛ فتعد له نعله وتحضره له. فأنت بهذا تداريه، فتتنازل عن شيء من دنياك. يا فلان! أقرضني ألفاً، أعطيني كذا فتعطيه من أجل أن تحفظ دينك، تعطيه من دنياك ما استطعت، وتداريه به من أجل أن تحفظ عليك دينك. هذه هي المدارة. أما أن تشرب معه الخمر المحرم في مجلسه، أو يسب الله والرسول فتضحك وتقول مثل ما يقول، فهذه ليست والله بمداراة، بل هي مداهنة. إذاً: المدارة جائزة، أذن الله فيها، وهي: أن تتنازل عن شيء من بدنك.. من مالك؛ لتدفع به عن دينك وتحفظ به دينك. والمداهنة: أن تتنازل عن شيء من دينك من أجل أن تحفظ شيئاً من بدنك ومالك.إذاً: المداهنة والمدارة غالباً ما تكون في ديار الكفر، أما بين المسلمين فليس هناك كافر تداريه أو تداهنه. نعم! قد يوجد بعض الفساق، بعض الفجرة أغنياء وأنت في حاجة إليهم فيحملك الضعف على أن تداريهم، لكن لا تداهنهم للحفاظ والحصول على ما تريد من المال فتشرب معهم الخمر، وتلعب معهم الكيرم والورق، ويسبون العلماء والحكام فتسب معهم حتى ما يفصلوك عنهم وحتى لا يحرموك، فهذه مداهنة فقد تنازلت عن شيء من دينك لتحفظ شيئاً من دنياك، وظيفتك أو مالك أو كذا.. ولا يحل هذا أبداً.أما أن تتنازل عن شيء من دنياك لتحفظك دينك فنعم، هذا الفاسق الطاغية أصلح له نعله.. أصلح له سيارته، قدم له نعله ليلبسه، لا حرج، فهذا شيء من دنياك وليس من دينك تتنازل به، حتى تحفظ به شيئاً من دينك؛ وهذه هي المداراة. أما أن نتنازل عن شيء من ديننا لنحفظ شيئاً من دنيانا فهذه هي المداهنة الحرام: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، فلا مداهنة عندنا أيها المؤمنون، بل المداراة وهي المجاملة المصانعة، تتنازل عن أكلك وتعطيه يأكله حتى تقوم تصلي ولا حرج، أما أن تتنازل عن الصلاة لتأكل معه فلا نأكل أبداً ولكن نصلي.

جواز التعامل مع الكفار دون مودتهم ونصرتهم

نعود إلى الآية الكريمة نستنير بنورها، قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]. نعود إلى الوضع العام، هل يجوز لنا أن نتعامل مع بريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا أو مع اليهود أو مع الأمريكان؟ أو مع الروس؟ لا. لا يجوز. لم؟ لأن الروس بلاشفة حمر، ملاحدة، يقولون: (لا إله). لا خير فيهم ألبتة، بخلاف أهل الكتاب والمشركين فهم يقرون بالله وبربوبيته.وهنا أذكر أن فضيلة للإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمة الله عليه لم يعترف بروسيا ولم يتبادل معها بسفارة في مملكته حتى تمزقت واحترقت. فلم ما فعل المسلمون هذا؟ جهال ما عرفوا. لم تعرف روسيا هذا البلد بسفارتها وقنصليتها حتى سقطت الآن واحترقت.أما أهل الكتاب كاليهود والنصارى فلا نتخذهم أولياء نحبهم وننصرهم دون المؤمنين لن يكون هذا، لكن نتبادل المنافع معهم، فهذا أمر مأذون فيه ومسموح به ولا جدال فيه ولا خصومة. إذاً: نتعامل معهم بالتجارة، بيعاً وشراء، نتعامل معهم بصناعة، كل هذا واسع وليس بمغلق أبداً، مع المحافظة على بغضهم لله، وعدم حبهم، ثم عدم نصرتهم على مؤمن أو مؤمنة. عندنا معاهدة بيننا وبين الإيطاليين نوفي لهم بمعاهدتنا، لكن لو حاربوا المؤمنين ننقض المعاهدة ونقاتل مع المؤمنين عدوهم الذي بيننا وبينه معاهدة. وانظروا إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم -وقد درسنا هذا في السيرة النبوية- كانت بينه وبين اليهود معاهدة، جليلة -سبق وأن قرأنا بنودها- في هذه المدينة، بنو النظير، بنو قريظة، بنو قينقاع، عاهدهم وصالحهم، لكن ما إن نقضت قبيلة العهد حتى ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أول من نقض العهد هم بنو قينقاع.كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم معاهدة سلم وعدم حرب، وتعاون بالمال على أداء الديات وما إلى ذلك، فلا ظلم، ولا اعتداء، ولا ولا.. فلما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم في بدر في السنة الثانية من هجرته طاشت سهامهم، وامتلأت قلوبهم من الغيظ والحقد، وقالوا: يا محمد! لا تفهم أننا مثل العرب الجهال، تحاربنا وتنتصر علينا. هددوا، سكت صلى الله عليه وسلم. وإذا بمؤمنة جلبت شيئاً إلى السوق فباعت ومرت بصائغ يهودي تريد أن تشتري مصاغ ذهب أو فضة وإذا باليهود يسخرون بها، ويأتي يهودي من ورائها فيرفع خمارها حتى بدأت عورتها فصاحت: يا للمسلمين! فجاء مسلم فقتل اليهودي، وكشف اليهود عن عدائهم وعن تمزيق المعاهدة، وما هي إلا ساعات وقد طوقتهم رجال الله، واستسلموا، ورماهم النبي صلى الله عليه وسلم خارج الجزيرة كلها، لأنهم نقضوا العهد، فلو بقوا على عهدهم إلى اليوم لا يضرهم شيء، ولكنهم نقضوا العهد.أيضاً: بنو النظير، بموجب المعاهدة الرسمية خرج الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منهم مالاً حسب الاتفاقية أنهم يشتركون في الديات، وهم أيضاً لو أصيبوا بديات فالرسول يساهم فيها، وقد قتل مؤمن جهلاً وخطأ، فطلب أهله الدية، فخرج يطالبهم بشيء منها، فأجلسوه في ظل دار من دورهم على البنايات القديمة، وأخذوا يتآمرون عليه، كيف يقتلونه ويستريحون منه، وبالفعل جاءوا برحى مطحن، وصعدوا بها إلى السطح دورهم، وأرادوا أن يلقوها على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأعلم الله من طريق الوحي نبيه بذلك، فأخذ رداءه ومشى هو ورجاله ومن ثم نقضت بنو النظير عهدها ونقضوا عهدهم وأصبحوا حرباً، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن طوقهم، وبالتالي أذعنوا للجلاء عن المدينة، واقرءوا سورة الحشر ففيها هذا البيان: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر:2]، فما إن خرجت خيل الله حتى استسلموا.إذاً: خرجوا وحملوا أموالهم وأولادهم ونساءهم حتى أخشاب المنزل كانوا يأخذونها، الأبواب أخذوها. المهم اذهبوا أيها المخذولون والتحقوا بالشمال من خيبر إلى الشام.أيضاً: بنو قريظة اتفاقيتهم ثابتة حتى جاءت الأحزاب، وفهموا أن الأحزاب سوف ينتصرون على الرسول والمؤمنين، وجاء من راودهم وطمعهم فما هي إلا ليلتان أو ثلاث ونقضوا العهد، وانتهت الحرب مع الأحزاب وأجلاهم الله وأبعدهم بتلك الآية العجيبة: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا [الأحزاب:9]، اقتلعت الخيام وأكفأت القدور، وما كان من المشركين إلا الهرب، فلما هربوا وعاد الرسول مع رجاله، ما زالوا يغتسلون من التراب والغبار والآلام خمسة وعشرين يوم وهم في البرد والجوع والآلام، وإذا بجبريل على فرس يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ( أو ضعت السلاح يا محمد؟ نحن ما وضعنا السلاح فهيا إلى بني قريظة، وأذن مؤذن رسول الله: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ) فلما طوقهم الرسول بجيشه وحاصرهم احترقت قلوبهم من الغيظ، واستسلموا ورضوا بحكم سعد بن معاذ ، قالوا: رضينا بحكمه، ولو رضوا بحكم الله عز وجل ما كانوا يقتلون، قالوا: لا رضينا حكم سعد فينا؛ للصلة التي كانت بينهم في الجاهلية، فحكم سعد رضي الله عنه بقتل رجالهم وسبي نسائهم وأطفالهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لقد حكمت بهم بحكم من في السبع )، فوق سبع سماوات. هنا وأظن في طرف المسجد حفر لهم حفرة كبيرة وكان يضرب الرأس ويلقى في الحفرة سبعمائة رجل، والنساء رحمة الله بهن والأولاد أصبحوا مسلمين.إذاً: المعاهدة، نحن أحق بالوفاء بها من اليهود والنصارى، والكافرين والمشركين؛ لأننا أحياء ربانيون، وهم أموات شياطين مخذولون، لن نكون مثلهم في الخيانة.أقول: المعاهدة إذا احتاج إليها إمام المسلمين بل حتى قائد معركة، إذا احتاج إلى مهادنة.. إلى مصالحة.. إلى مدة محدودة.. معاهدة، فقد أذن الله تعالى فيها وأذن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن مع ذلكم الشرط العظيم، لا حب ولا نصرة أبداً، لا نحب يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً ولو كان هاشمياً قرشياً أبداً؛ لأن قلوبنا لله فيها حب الله، فلا يجتمع مع حب الله حب أعدائه، فلا حب ولا نصرة على المؤمنين. بيننا وبين بريطانيا معاهدة سلم وعدم حرب وبيننا تجارات و.. و.. فلو أعلنت بريطانيا الحرب ضد شعب مسلم تنقطع تلك الصلة، ونقاتلها مع إخوننا المؤمنين.وهكذا يا أبناء الإسلام! اعلموا أنه لا يحل للمؤمنين أن يحبوا الكافرين ولا أن ينصروهم، هذا حرام، أما أن تتعامل مع يهودي أو نصراني فلا شيء في ذلك أبداً. تذكرون الولد اليهودي الذي يخدم نبيكم صلى الله عليه وسلم، فمرض فزاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه الإسلام ( قل: أشهد أن لا إله إلا الله تنجو من النار. فخاف من والده، فقال له والده: أطع أبا القاسم )، لو كان حب الكافر يجوز لأحببت أنا هذا اليهودي، لبصيرته، أطع أبا القاسم، عرف أنه إذا شهد شهادة الحق دخل الجنة، ومع هذا هو مصر على الكفر فقال له: أطع أبا القاسم، فتشهد الغلام وفاضت روحه، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( الحمد لله الذي أنقذه بي من النار ).إذاً: عرفتم المداهنة والمدارة، وعلمتم أن الجائزة هي المدارة، وأن الممنوعة هي المداهنة.الجائز هي المداراة، والمدارة حقيقتها: أن تتنازل عن شيء من دنياك لتحفظ شيئاً من دينك. تخدم الكافر، تقدم له الطعام الشراب، تحمله على ظهرك لتصل به إلى المستشفى، من أجل أن تبقي دينك. أما المداهنة: أن تتنازل عن دينك ليحبك الكافر أو يكرمك أو لا يضر بك أو لا يهينك، وهي محرمة.هكذا نعيد تلاوة الآية الكريمة، ونواصل دراستها، قال تعالى وقوله الحق: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28] خاصة معينة مدارة للإبقاء على جسمك سليماً ودينك معافى.

معنى قوله تعالى: (ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير)

ثم قال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28]، يا عباد الله! الموقف خطير ليس بهين، فالله بعد هذا البيان يحذرنا أن نعصيه ونتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28] إن سلمتم اليوم من بلاء أو شقاء فمرجعكم إلى الله وينزل بكم العذاب، فلا تعتزوا اليوم بقوتكم فإلى الله لا إلى غيره مصيركم ومرجعكم. الأمر عظيم! يحذركم الله نفسه أن تعصوه وتخرجوا عن طاعته وتوالوا الكافرين وتتركوا المؤمنين، فموالاتنا يجب أن تكون للمؤمنين، أولياء الله، نحبهم ونقاتل معهم وننصرهم، لا أن نحب الكافرين ونقاتل معهم ضد المؤمنين والمسلمين.

حكم إعانة الكافر المعاهد في قتاله مع عدو آخر كافر

تنبيه: لو كان بيننا وبين دولة اتفاق أن نقاتل من يقاتلها، وتقاتل من يقاتلنا، وأعلنت الحرب بينها وبين دولة أخرى، ننظر إذا كانت الدولة مؤمنة انتهت العقدة وانحل الرباط ولا نقاتل معها إخواننا، بل نقاتل معهم إياها، لكن لو قاتلت دولة كافرة اعتدت عليها بلجيكا اعتدت على هولندا، ونحن بيننا وبين بلجيكا عهد، فلا مانع أن ننفذ الاتفاقية ونعاونهم على عدوهم؛ لأنه كافر وليس بمسلم، لكن إذا كان بينهم وبين المؤمنين عرباً أو عجماً فلا موافقة ولا متابعة.

تفسير قوله تعالى: (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله...)

قال تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:29] .يزيد تعالى فيقول اسمعوا! قُلْ [آل عمران:29] لهم يا رسولنا قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ [آل عمران:29] من حب الكافرين والمشركين أو تظهروه يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران:29]. أمر عجب! يا عبد الله! طهر قلبك من حب الكفار وإن كانوا من أقاربك، ولا تتظاهر بأنك تكرههم وأنت تحبهم فالله مطلع على قلبك. قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ [آل عمران:29] من حب وبغض أَوْ تُبْدُوهُ [آل عمران:29] وتظهروه، يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:29]، لا يعجز الله شيء. ما رأينا ممنوعاً تتابعت الآيات فيه كهذا؛ لأن حبك الكافر والله يحملك على أن تكفر، أقسم بالله إذا أحببتهم وداهنتهم لابد أن تصبح مثلهم يقيناً، فلهذا الحد الفاصل هو: لا حب ولا ولاء لهم أبداً.

تفسير قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً...)

يقول تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].انتقلوا عن هذه الدار الضيقة إلى الدار الواسعة، لا تفهموا أنكم مضطرون وأنكم وأنكم.. فتداهنون الكفار، وتنسون لقاء الله عز وجل، وتبطنون الحب وتظهرون البغض لهم، فالله مطلع على ما في القلوب ما ظهر وما بطن. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [آل عمران:30] بين يديها، وقد عرفنا أن المرء إذا قتل ظلماً وعدواناً يرى نفسه أمامه وفي يده مسدسه أو رصاصة ليقتل به لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6]، الآن شاشات الفيديو والتلفاز نهت هذه المشكلة العويصة لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6]، فاعل الخير يرى نفسه هكذا يفعله، وفاعل الشر يرى نفسه وهو يباشر الشر ويفعله، فكيف ينكر والله يقول: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ [آل عمران:30] بيضاء أو سوداء، في الأولين أو الآخرين، مؤمنة أو كافرة مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30]،أي: مسافات لا تعد، كل نفس عملت سوء تود عندما تشاهد ذلك السوء أن لو كان بينها وبينه آماد لا حد لها.يقول تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]، ما زال السياق متصلاً، يحذركم الله من نفسه، احذوا الله، خافوا عقابه وعذابه، وقد يكون في الدنيا وقد كان، وقد يكون في الآخرة وسيكون. وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]، نعم هذا المختم الذي ختمت به الآيات، لو ما قال هذه، لكانت القلوب تطير من الخوف والفزع، لكن قوله: رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]، رءوف بالعباد رحيم، ومن آثار رحمته ورأفته بهم: هذه التعاليم، فلو تركنا نوالي الكافرين ونودهم ونتعايش معهم فنصبح مثلهم، ويصبح مصيرنا مصيرهم، إلى جهنم، لكن رحمة الله ورأفته أنه يخاطبنا، يبين، يفسر، يؤكد، كل هذا من مظاهر رحمته، ولو أراد شقاءنا وعذابنا لا ينزل هذه الآيات ولا يبين فيها حكمه.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

الآن نعود إلى الآيات، قال تعالى لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28] انقطعت صلته بالله عز وجل ويا ويله يومئذٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، وهي المداراة، وهذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يدخل عليه المنافق، فيحاول أن يبتسم في وجهه فلما قالت له عائشة لم؟ قال: ( إنا لنكشر في وجوه قوم وقلوبنا تبغضهم ). إنا لنكشر في وجوه أناس وقلوبنا تبغضهم؛ لأنهم منافقون، يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، لكن لابد من هذا، ما أعلنوا عن كفرهم، يبتسم في وجوههم وهو لا يحبهم، وهذا شأن المؤمنين مع الفساق والفجار والظلمة والمعتدين، قد تضطر إلى أن تبتسم وتلين له القول له، ولكن قلبك ليس فيه حبهم ولا ولاؤهم، إذا لا تحب إلا ما يحب الله. قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ [آل عمران:29]، هذا عام في الخير والشر، إياك أن تفهم أنه بإمكانك أن تخفي حبك أو بغضك، انتبه! فإن قلبك يقلبه الله، وهنا فلنذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء )، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم في السجود: ( اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مصرف القلوب اصرف قلبي إلى دينك )، فلا يحفى على الله شيء، تستطيع أن تخفي عن الناس ما تخفيه لكن بالنسبة إلى الله فمن المستحيل هذا، فهو خالق قلبك، بل عرف ما تريد أن تخفيه قبل أن يوجدك قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران:29]، وإذا علمه يجازي به وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:29]، إذا يوجد بعض المرضى يوالون بعض العائلات والأسر الكافرة ويضحكون معهم ويشربون، ويتركون الصلاة، مداهنة لهم، ويظنون أن المسلمين لا يعرفون عنهم، ولا يدرون، ولكن الله يدري والله مطلع؛ إذ يعلم ما في السماوات وما في الأرض.انتبهوا! قد توجد أسر بيننا من أهل الذمة فيأتيهم المؤمن ويضاحكهم ويسب معهم وكذا.. ويقول: من يعلمني؟ فالله عليم، فوق ذلك يقول يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران:30]، تدرون ما السوء هذا؟ كل ذنب هو سوء، كل ما يسيء إلى نفسك فيصبها بالظلمة أو بالعفن والنتن فتكون كأرواح الشياطين، فهو ذلكم السوء يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ [آل عمران:30] تحب لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30]، لا يراه ولا تراه.معاشر المؤمنين! الآن قد عرفنا المداراة والمداهنة فإياك يا عبد الله وإياك يا أمة الله أن تداهني، لكن لا بأس أن نداري؛ لأن المدارة أن نتنازل عن شيء من بدننا من مالنا؛ لنحفظ ديننا، أما أن نتنازل عن شيء من ديننا، أصلي بدون وضوء، أشرب الخمر مع اللاهين، أسب العلماء والصالحين مع السابين من أجل الإبقاء على وظيفتي أو على كرامتي بينهم؛ لا لا.. فالمداهنة هي الموت، والآية كما سمعتم وَدُّوا [القلم:9] منهم؟ المشركون لَوْ تُدْهِنُ [القلم:9] يا رسولنا، أي: تداهن فيداهنوك، فلا تداهنهم، ما كان أبو القاسم يداهن مشركاً أو كافراً، وما يتنازل عن شيء من دين الله من أجل إرضاء فلان أو فلان. إذاً: الحمد لله، عرفنا شيئاً كبيراً.
أحكام زكاة الفطر

وجوب زكاة الفطر

عندنا سؤال: ما حكم صدقة الفطر؟الجواب: الوجوب، للحديث الصحيح في الموطأ، يقول ابن عمر : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر ). هل عرفنا فائدة في القرآن تتعلق بزكاة الفطر وصلاة العيد؟ الجواب: نعم، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، فهذا اللفظ القرآني يشمل والله زكاة الفطر وصلاة العيد، والتكبير من المنزل إلى المصلى، فلا تفوتنا هذه، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15].

مقدار زكاة الفطر

هل عرفتم مقدار زكاة الفطر؟الجواب: صاع. ما هو الصاع هذا؟ الجواب: ما يعادل كيلوين وربع، وأصل الصاع أربع حفنات بحفنة الرجل الفحل، ما هو القزم القصير مثلي.إذاً: الصاع أربع حفنات بحفنة الرجل الفحل أو على الأقل المتوسط، أربع حفنات مملوءة، زنها في الميزان تجدها كيلوين وربع، وقد يختلف الوزن، لأن هناك أشياء خفيفة وأشياء ثقيلة فالتمر ثقيل والشعير خفيف. من أي طعام تخرج زكاة الفطر؟أبو القاسم بين أنها من التمر.. الشعير.. الأقط -وهي الزبدة اليابسة، أو اللبن الجاف وهو من المطعومات- ولم يذكر القمح لأنه ليس عندنا قمح فقال: ( من تمر، أو شعير، أو أقط ) أو أرز القمح في بلاد الشام، لكن لو وجد القمح فهو أولى، لكن لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والرز من باب أولى، الآن موجود وسهل وهين، أغلب القوت الرز. والفقهاء يقولون : تخرج من غالب قوت أهل البلد، تخرج زكاة الفطر من غالب قوت أهل البلد، والرز عندنا هو الغالب.إذاً: عرفتم من أي شيء تخرج الزكاة، من التمر، القمح، الشعير، الأرز، الأقط.

حكم إخراج زكاة الفطر من النقد

وهنا سؤال: الدراهم والدنانير دراهم الفضة، ودنانير الذهب، هل تخرج منها ؟ الجواب: يوم أن أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحكم ونشره بين رجاله يوجد عندهم دينار درهم يوجد قطعاً، والله موجود، لكن -أولاً- ما كان يومئذ بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم مطاعم أبداً، ولا مخابز، فإن أنت أعطيته ربع درهم أو ربع دينار ماذا يصنع بها؟ سيظل جوعان لا مطعم ولا خبز ولا ولا.. كيف يصنع؟ إذاً: أعطه التمرات يتغدى ويتعشى بها، أعطه الخبز والدقيق، الشعير يطحنه، فمن ثم عدل أبو القاسم ورجاله عن الدينار والدرهم إلى التمر والشعير.فمن هنا أفتى العلماء وهو ما نقرره: إذا كان المسلم في بلد لا يقبل فيها رز ولا تمر ولا بر ولا شعير ولا أقط، يتعين عليه أن يخرجها بالدينار والدرهم، ولا يقول: مع الأسف، ما وجب علينا شيء؛ لأن الذي فرض الرسول صلى الله عليه وسلم ما عندنا، سقطت عنا زكاة الفطر. الجواب: ما سقطت، بل وجبت، أخرج قيمتها ديناراً أو درهمين. أما في البلد التي يوجد فيها الطعام فلا نستبدل بها الدينار والدرهم عملاً بتوجيه رسول الله وهدايته. ومن جهة أخرى: زكاة الفطر مطهرة للنفس، وورد أن الصيام معلق قبوله بها، فمن هنا فهي عبادة لا تزكي النفس إلا إذا كانت كما بينها الشارع ووضعها، فهذا هو الذي ينبغي أن نقوله ونعمل به.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-21, 11:12 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (6)
الحلقة (147)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة آل عمران (14)
محبة الله عز وجل ليست أمراً يدعيه كل أحد دون أن يقدم عليه الأدلة والبراهين، وقد بين الله عز وجل أن من أدلة محبته سبحانه وتعالى اتباع ما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى والرشاد، فمن فعل ذلك فهو محب لله سبحانه وتعالى، بل ومستحق لمحبة الله، ومن تولى وأبى فإن الله لا يحب القوم الكافرين.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنين الكافرين أولياء من دون المؤمنين ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن ضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وقد انتهى بنا الدرس إلى هاتين الآيتين الكريمتين ونحن ما زلنا مع آيات سورة آل عمران، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31-32].وقبل الشروع في دراسة هاتين الآيتين المباركتين أعيد إلى أذهانكم ما جاء في الآيات قبل هاتين، وإليكم تلاوة الآيات الثلاث التي درسناها بالأمس ، ونتذاكر ما سبق أن علمناه منها، قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أي: السوء أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:28-30].

هداية الآيات
إليكم هداية هذه الآيات الثلاث:قال المؤلف غفر الله لنا وله:[ من هداية الآيات: أولاً: حرمة موالاة الكافرين مطلقاً] حرمة موالاة الكافرين سواء كانوا من أهل الكتاب أو المشركين، فموالاتهم محرمة تحريماً مطلقاً بلا قيد. هل تعرفون معنى الموالاة المحرمة؟الموالا ة المحرمة: هي حب الكافر ونصرته، فمن أحب الكفار بقلبه كما يحب نفسه وربه وأولياء الله المؤمنين ثم نصرهم على المؤمنين، فهذه موالاة محرمة، بل هي كفر.وهذه هي عقيدة الولاء والبراء التي يتغنى بها كثير من الناس ولا يعرفون معناها، والولاء: الحب والنصرة، فلا يحل لمؤمن أن يحب كافراً ولو كان أباه، ولو كان ابنه، ولو كان أحد أفراد عشيرته، فإن أحبه رحل حب الله من قلبه، وقد قال تعالى في سورة المجادلة: ((لا تَجِدُ)) يا عبد الله لو كنت طالباً (( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ))[المجادلة:22]. وهذا كلام الله، فلو بحثت بما أوتيت من قدرة على العلم ما وجدت ولن تجد عبداً آمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان يواد من يحاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب.إذاً: من هداية الآيات الثلاث التي درسناها بالأمس كما قال المؤلف غفر الله لنا وله:[ أولاً: حرمة موالاة الكافرين مطلقاً] وموالاتهم ليس معناه: أن يجوع أحدهم فتطعمه، أو يعطش فتسقيه، أو يمرض فتداويه، أو يتعب فتحمله، لا، فهذه ليست هي الموالاة، ليس من الموالاة أن تتعاون معه في سفر من الأسفار أو تبني معه جداراً، أو تغرس معه بستاناً.. ليست هذه الموالاة، بل الموالاة: أن تحبه وتنصره على الله والمؤمنين. هذا هو الولاء والبراء.قال: [ ثانياً: موالاة الكافرين على المؤمنين ردة وكفر وبراءة من الله تعالى] الذي يقف إلى جنب اليهود ويقاتل معهم المسلمين كافر، والذي يقف إلى جنب بريطانيا أو روسيا وهم يقاتلون المؤمنين ويقاتل معهم المؤمنين كافر مرتد ليس بمؤمن.وهنا -للعلم- إن كانت بيننا وبين أمة كافرة معاهدة -كما عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خزاعة ضد قريش- إن كانت بيننا وبين دولة كافرة معاهدة سلم وعدم اعتداء وحرب، وكان من بنود المعاهدة: أننا نقف إلى جنبهم إن اعتدى عليهم معتد ويقفون إلى جنبنا إن اعتدى علينا معتد، هنا إذا كان الذي اعتدى عليهم كافر قاتلنا معهم هذا الكافر وفاء بالعهد الذي بيننا وبينهم، وإن قاتلهم مؤمن أو قاتلوا مؤمنين فلا يسمح لنا ربنا بهذا، بل نقف، ومن أراد أن يقف على هذه فليقرأ خاتمة سورة الأنفال، وكذلك ما جاء في سورة التوبة، وفي سورة النساء يقول الله: (( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُم ْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ))[النساء:90].وهذا إذا اضطررنا إلى أن نصالح كافراً كتابياً أو مشركاً، وقد صالح الرسول صلى الله عليه وسلم قريشاً صلحاً لمدة عشر سنوات، وتنازل فيه عن أشياء يغمى علينا لو نذكرها، ليحفظ لهذه الأمة دينها ولتنتشر دعوة ربها بين الناس، وهي معاهدة صلح الحديبية وسماها الله فتحاً، تنازل فيها عن بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن ممثل قريش وسفيرها سهيل بن عمرو رضي الله عنه لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للكاتب: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل : لا، ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب باسمك اللهم، فضج الصحابة ، فقال: اسكتوا أنا رسول الله، وكتب باسمك اللهم.رفض بسم الله الرحمن الرحيم هذا الكافر وتنازل الرسول؛ لأن التنازل لا يضر شيئاً فالله هو الرحمن الرحيم يقولونها أو لا يقولونها؛ وذلك ليتم صلح ترفع به تلك الشدة وذاك الحصار على المؤمنين، فيتجولون في الجزيرة، ويتاجرون، ويبقى الباب مفتوحاً لمن أراد أن يعرف الإسلام فيدخل المدينة ويتعرف لذلك. ولما قال له: اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله. قال سهيل : لو عرفناك رسول الله ما قاتلناك، اكتب محمد بن عبد الله. وتنازل رسول الله، وكتب: محمد بن عبد الله.وهذه الأمور يرجع فيها إلى كتاب الله وسنة رسول الله لا للأفكار والأوهام والتخمينات، فموالاة الكافرين على المؤمنين ردة. كيف تقف إلى جنب الكفار تضرب المؤمنين وتطعن وتقتل وتقول أنك مؤمن؟! من يقبل منك هذا الإيمان؟! قال: [ ثالثاً: جواز التقية في حال ضعف المؤمنين وقوة الكافرين].والتقية والتقية: كلمات تتقي بها ظلم هذا الكافر.. كلمات تقولها تلين بها جانبه وترقق بها عواطفه. قل لهم: يا سيادة فلان ولا حرج، وبالإنجليزي (مستر)، لا بأس، أما أن تناديه: يا كلب فسيصفعك وستصرخ ولن ينجدك أحد، فكل من حولك يهود ونصارى. لم هذا؟ لتتقه، أصلح له نعله.. سيارته وقفت فتدفعها معه.. أو تفتح له حتى باب السيارة، هذه تعاليم رب العالمين، (( إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ))[آل عمران:28] تقون بها أنفسكم بلاء الكفار وعذابهم ونقمهم؛ لأنهم لا قلوب لهم، أموات غير أحياء لا يرحمونكم، فإذا كنت بينهم ضعيفاً فاتقهم بشيء، لكن ليس بأن تسب الله أو رسوله، أو تسخر من كتاب الله، أو تترك الصلاة، أو تشرب الحشيش والخمر، أو.. أو..، وإنما تتقيهم بما هو جائز أن تتقي به، تغضبهم وتسخطهم في قلبك، ولكن لا تسبهم ولا تسب دينهم، لا.. لا، وهكذا حتى لا يؤذوك ويذروك وأنت عاجز. من شرع هذه التقية؟ ربي رحمني وعرف ضعفي، فإذا كنت بين كفار علمني أنه لا بأس أن نتقيهم بالكلمة والحركة المحمودة، أما في حالة التعذيب فذلك شيء آخر، فلو قالوا لك: اكفر بالله نرفع عنك السيف، أو المنشار الذي ننشر به فيجوز أن تقول كلمة الكفر باللسان وقلبك لا يتغير، وقلبك مطمئن بالإيمان.وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بـعمار بن ياسر وهم يعذبونه ويقولون له: اذكر آلهتنا بالخير، واذكر محمداً بسوء نطلقك ونرفع العذاب عنك، فيأبى أن يقول: فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أعطهم يا عمار . ونزل في ذلك قرآن يتلى إلى اليوم إذ قال تعالى: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ ))[النحل:106] الآية.قال: [ رابعاً: وجوب الحذر من عذاب الله تعالى وذلك بطاعته].كيف تحذر عذاب الله؟ بأي شيء؟ بالسور أم بتحت الأرض؟ الجواب: بالطاعة، فمن أطاع الله فيما أمره ونهاه نجا من عذاب الله ومقته وغضبه. أما قال تعالى: (( وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ))[آل عمران:28] كيف نحذر إذاً؟ نطيعه، قال: صم، صمنا، قال: أفطر، أفطرنا، هذه هي الطاعة.[ خامساً: خطورة الموقف يوم القيامة، ووجوب الاستعداد له بالإيمان والتقوى؛ إذا قال تعالى: (( وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ))[آل عمران:30]].إن شاء الله علمنا الآن ووالله لهو خير من خمسين ألف ريال، من عرف هذه الحقائق الشرعية العلمية لأن يعود بها واعياً بصيراً عازماً على العمل والدعوة خير له من خمسين ألف ريال فليس هناك فرق كبير بين قرص العيش وحفنة التمر، وبين المشوي والمطلي والمصلي.. فالمقصود هو امتلاء البطن ليقوم البدن بواجبه، وهو عبادة الله بذكره وشكره.

الفرق بين المداراة والمداهنة وذكر حكمهما
نضيف إلى هذا العلم: الفرق بين المداراة والمداهنة، والمداراة جائزة والمداهنة ممنوعة، ويكفي في منع المداهنة قول الله تعالى من سورة القلم: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9] إذاً: فلا تدهنوا أنتم حتى يداهنوكم هم.والفرق بين المداراة والمداهنة:أن المداراة: أن تتنازل عن شيء من دنياك لتحفظ شيئاً من دينك، وهنيئاً لك.تتنازل وتعطي شيئاً من دنياك من أجل أن تحفظ به دينك، تعطيهم دارهم ما دمت الدارهم موجودة ولا حرج.. تتنازل عن شيء من دنياك فتعطيهم البترول كاملاً من أجل أن تحفظ دين الله عندك، والله جائزة وهي مداراة وليست مداهنة.والمدارا هي المصانعة والمجاملة بلغة العصر، وحقيقتها: أن تتنازل عن شيء من دنياك ذهباً كان أو فضة، طعاماً أو شراباً، مركباً أو كذا من أجل أن تحفظ دينك، فهذه جائزة ؛ لأننا خلقنا للدين فكيف نضيعه؟ والمداهنة الحرام: أن تتنازل عن شيء من دينك لتحفظ شيئاً من دنياك، وقد مثلنا لذلك بالرجل يريد وظيفة، وصاحب العمل سكّير -مثلاً- فيأتيه وبراد الخمر بين يديه ليعمل عنده فتداهنه أو تشرب معه فلا تقول: حرام ولا ولا.. خشية أن يغضب عليك ولا يوظفك! فتشرب معه وأنت تضحك مطمئن النفس، وإذا دقت الساعة حي على الصلاة.. حي على الصلاة المؤذن يؤذن وتقوم تصلي فيغضب عليك فلا تصلي، وتقول: أقضيها..هنا تنازلنا عن شيء من ديننا من أجل دنيانا، وهذه هي المداهنة الحرام.والمداهن ممقوتة فكيف تتنازل عن دينك من أجل أوساخ دنياك؟! أما المداراة فجائزة فلك أن تتنازل عن دنياك بكاملها من أجل دينك، لا بأس، بل فزت لأن الدين هو عماد حياتك وسلم رقيك إلى الجنة دار السلام.معاشر المستمعين والمستمعات! لما سمعت أنا هذه من عالم رحمة الله عليه، لا تستطيعون أن تقدروا ما شعرت بأنني غنمته، والله لن تستطيعوا. إذاً: عرفنا الفرق بين المداهنة والمداراة فنداري للحفاظ على ديننا، ولا نداهن من أجل أن نحفظ دنيانا، لا والله لو خرجت كلها ما نكفر من أجلها.

تفسير قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ...)
قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].وهذا خطاب لوفد نجران من النصارى، وفي بداية السورة علمنا -نحن الذين نحضر هذا النور زادنا الله منه- أن هذه السورة نزل آخرها قبل أولها، سورة آل عمران آخرها نزل قبل أن ينزل أولها، ولا حرج، تنزل السورة ويبقى منها آيات وبعد سنتين أو ثلاث سنين تنزل الآيات وتوضع فيها، وتوافق اللوح المحفوظ بلا تقديم ولا تأخير بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22] كما هو الآن هو هناك.هذه الآيات في هذه السورة وهي نيف وثمانون آية من الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2] إلى آخر آية تتعلق بوفد نجران، هذه الآيات نزلت في وفد نجران، نجران منطقة معروف في المملكة تقع إلى جنوب مكة، كان فيها نصارى مسيحيون متصلبون وعلماء يستمدون قواهم من الروم، على صورة المسيحية.وقد جاء وفدهم المكون من ستين راكباً على الخيول أبهة؛ لأن من ينظرون إلى العرب وهم جهلة كفار تحت أقدامهم وهؤلاء أقوياء، نزلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وما يوجد فندق ولا مطعم فوزعهم على أهله وإخوانه ليستضيفوهم وسمح لهم أن يصلوا في المسجد أيضاً.وهنا نستطرد: كان في السوربون جامعة في باريس عالم من الرهبان يسمى طرطار، وكنا يومها في الدعوة في باريس، فكتب كلمة في جريدة لوموند العالمية الفرنسية يشتكي بالمملكة ويتألم ويقول: لم يمنعون إخواننا من إقامة شعائر دينهم في المملكة ونحن نسمح بالمساجد في كل مكان في ديارنا؟يعني: العمال الموجودين في المملكة من الفرنسيين ما تسمح لهم الحكومة بإيجاد كنائس ونحن سمحنا بالمساجد، وفرنسا فيها ثلاثة آلاف مسجد والحمد لله.فرددت عليه بالعربية وترجمت وقلت له: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83].فقلت له: اسمع! المملكة تعتبر بيضة الإسلام وقبته، تعتبر مسجداً، أما خارج المملكة فتوجد كنائس في الشام.. في العراق.. في مصر.. في الجزائر.. في بلاد العالم، وأهل ذمة لهم كنائسهم، لكن المملكة تعتبر مسجداً.أيعقل يا مستر طرطار أن تبنى كنيسة في مسجد؟! أو يبنى مسجد داخل كنيسة؟من يقول بجواز هذا؟! فأفحمته، وعرف أن هذا غير معقول، فالمملكة عبارة عن مسجد؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ممنوع ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) خارجها توجد أديان. فكتب مرة ثانية -وهو الشاهد- وقال: وفد نجران سمح لهم رسولكم أن يصلوا في المسجد. احتج بهذه.فقلنا له: أذن لهم لأنه يستألفهم وينظر ماذا يبدو منهم، علهم يسلمون. هذا من جهة.ومن جهة أخرى: الشريعة نزلت في ظرف ثلاث وعشرين سنة ويوجد حكم اليوم وينسخ غداً، فنسخ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا بقوله قبل وفاته: ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) فنسخ ذلك الحكم. وقلت له: لا تغضب. فكتب في المرة الثالثة يقول: إخوان لنا في جدة قاموا بقداس في بيت أحدهم فطوقتهم الهيئة وحاصرتهم، وسفروهم، فقلت له: لا. هذا ليس بغريب، فإخواننا المسلمون الموحدون أهل لا إله إلا الله إذا ضبطوا في بدعة طوقتهم الهيئة وسفرتهم، وليسوا الفرنسيين فقط. المهم انقطع مستر طرطار، وسليناكم قليلاً والمناسبة هي ذكرنا وفد نجران فهيا مع وفد نجران.اسألهم: لم أنتم تعبدون عيسى وأمه؟ سيقولون: لا. نحن بجلناهم، عظمناهم، ألهناهم من أجل أن يحبنا الله لا لذاتهم، نحن نعرف أن مريم مخلوقة، وعيسى كذا.. ولكن من أجل أن نظفر ونحصل على حب الله عز وجل العليم الحكيم قدسنا عيسى وأمه.فكان الله مع رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: تعال اسمع: قل يا رسولنا قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] أنتم تقولون أنكم ما قدستم مريم ولا عيسى إلا من أجل أن يحبكم الله ومن أجل الظفر بحب الله فإليكم الطريق الواضح أطيعوا رسولنا يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم أيضاً.

الحكمة من الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]. الآمر: هو الله. والمأمور بأن يقول ذلك: هو رسوله صلى الله عليه وسلم. والقول: إن كنتم -كما تزعمون- ما عبدتم عيسى وأمه إلا من أجل حب الله فإليكم الطريق الموصل إلى حب الله وهو: أن تطيعوا الله ورسوله، وأن تتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم فيحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]. وقد تقول: أراد الله أن يرفع من شأن نبيه ففرض على من يحبه أن يطيعه ويتابعه، فنقول: لا لا يا بني، فاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشي وراءه باعتقاد ما يعتقد وقول ما يقول وفعل ما يفعل، هذا الاتباع من شأنه أن يطهر الروح البشرية ويزكي النفس الإنسانية، فإذا زكت الروح طابت النفس وأحبها الله.ليست القضية أنه أراد أن يذل الناس لرسوله حتى يتابعوه، والله ما هي هذه، بل أراد أنكم إن اتبعتم رسولنا فعبدتم الله بما شرعنا زكت نفوسكم وطابت أرواحكم، والله طيب يحب الطيبين.هذا هو سرها، لم تفرض عليهم متابعة الرسول إلا ليحبهم الله من أجل أن تطهر أرواحهم وتزكو نفوسهم، فإذا طابت وطهرت وزكت أحبها الله؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.فإن كنت تريد أن يحبك الله فوالله لا طريق لك إلا أن تزكي نفسك فيحبك. هل تزكيها بالماء والصابون؟ بماذا تزكيها؟ بالبدع والخرافات، بالرقص والشطح؟ تزكي النفس بماذا؟ بالمواد التي وضعها الحكيم العليم، إن استعملتها بالكمية المعروفة والعدد المحدود والزمان والمكان المخصص أنتجت لك طيبة نفسك وطهارتها، ويستحيل أن تطيب نفسك بغير ما جاء به رسول الله من هذه العقائد الصحيحة والعبادات المشروعة، فتأملوا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فعبدتم المسيح وأمه لأجل ذلك فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31]فأنا رسول الله يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].ما السر في كونهم إن تابعوه أحبهم الله؟ من يبين لنا؟ الذي ما عرف هذه لا يحل له أن يخرج من المسجد الليلة حتى يعرفها فليست صعبة.الجواب: لأن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لازم حتى يحبك الله، والله إن لم تتبعه ما أحبك الله أبداً، وإن أردت أن يحبك الله فاتبع رسوله بأن تسير وراءه لا أمامه ولا عن يمينه ولا شماله، بل وراءه تقول ما يقول، وتفعل ما يفعل، وتترك ما يترك، وتنام كما ينام، وتصلي كما يصلي.. فهذا هو الاتباع وإن شاء الله تكونون قد فهمتم هذه والحمد لله.

ليس الشأن أن تُحِب بل الشأن كل الشأن أن تُحَب
عندنا لطيفة أخرى وهي: ليس الشأن أن تُحِب، إنما الشأن أن تُحَب.. ليس الشأن كل الشأن أن تُحِب أنت، بل الشأن أن تُحَب، فإذا أنت تحب الله بكل قلبك وهو لا يحبك ما استفدت شيئاً، بل في جهنم مع أعدائه، فليس الشأن أن تُحِب أنت وإنما الشأن أن تُحَب.ومن أمثلة العرب: أنت تتغنى بحب ليلى وليلى لا تلتفت إليك، فلا يجديك حبك هذا، بل يحرقك، تتغنى وليلى تكرهك فما استفدت، فليس الشأن أن تُحِب، إنما الشأن أن تُحَب.وهنا الغافلون والجاهلون يتغنون بحب الله ويرقصون ويأتون بالبدع والخرافات، ويقولون: نحب الله! وهذا باطل، فليس هذا هو الذي يحبكم الله من أجله، فأنتم تحبونه وهو لا يحبكم فماذا استفدتم؟! إن أردتم أن يحبكم الله فزكوا أنفسكم وطهروها بما شرع من العقائد والعبادات من أقوال وأعمال ثم يحبكم الله وحينها تظفروا بحب الله.فمن هنا معاشر المستمعين والمستمعات يا عشاق حب الله اعلموا أن حب الله لن ينفعكم ولن تظفروا به وتحصلوا عليه إلا إذا زكيتم أنفسكم، فهذا الوفد حاء مكوناً من ستين راكباً وهو ملعون مبغوض لله، وهو يقوم بالعبادات الليل والنهار لكنها عبادات ما شرعها الله.. عبادات لا تزكي النفس ولا تطهرها فلا تنفعهم. فقال الله لهم: اتبعوا رسولنا يحصل لكم حب ربكم يا طلاب حب الله؛ لأن المتابعة من شأنها تزكية النفس وتطهيرها، فإذا زكت نفسك أفلحت وفزت وانتقلت إلى الملكوت الأعلى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].وهناك جماعات يحبون رسول الله بالقصائد والمدائح والأناشيد والحفلات والبقلاوة والشاي، وهم يعصونه في كل طريق، والشاعر الحكيم يقول:تعصي الإله وأنت تزعم حبههذا لعمري في القياس بديعلو كان حبك صادقاً لأطعتهإن المحب لمن يحب مطيعمن أدبكم؟ تقف أمام رسول الله تبكي وأنت حالق للحيتك، ولو كان الرسول أمامك لقال: أخرجوه عني.تأتي من الهند والسند والشرق تدعي حب الرسول وعلبة السيجارة في جيبك فتجيء تسلم على الرسول، أهذا حب رسول الله؟ماذا حل بنا؟ الجواب: حل بنا أمر عظيم، وعلته والله الجهل، فلا نلوم إخواننا ولا آباءنا وأمهاتنا، فالجهل ما عرفنا الله، ما عرفنا الطريق إليه، ما علمونا، ما عكفنا على طلب الهدى، يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه، فهيهات هيهات أن تجد ربانياً عبداً صالحاً وهو يعص الله ويعيش على معصيته، فهيا بنا نعد إلى طلب العلم. وهنا قد يقول قائل: يا شيخ المدارس عندنا والكليات، والجامعات، فماذا تريد منا؟الجواب: نريد أن ندلل أننا أسلمنا قلوبنا ووجوهنا لله، فإذا دقت الساعة السادسة مساء حملنا أطفالنا ونساءنا وذهبنا إلى بيوت ربنا نصلي المغرب ونشرع في تلقي العلم والحكمة إلى صلاة العشاء، وذلك كل ليلة طول العام، فلا يبقى في القرية ولا في المدينة أحد فمع غروب الشمس الكل في بيوت ربهم يتعلمون الكتاب والحكمة ويزكون أنفسهم. هذا هو العلم، وهذا هو الطريق، والجهل هو الفتنة.

حقيقة الولاية لله
جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) أي: أعلنت الحرب عليه. من هو هذا؟ الذي يعادي أولياء الله. والمشكلة هنا: من هم أولياء الله؟ هل هم: سيدي عبد القادر، البدوي، عيدروس، مولاي إدريس، إبراهيم كذا؟ هل هؤلاء هم الأولياء فقط؟اسمعوا نبكي، لو نمشي معك الآن وندخل القاهرة المعزية ونزلنا من المطار ودخلنا القاهرة وأستثني أن هذه السنين التي قضيناها في المسجد النبوي فقد انتشرت الدعوة وفهم الناس، ولكن لو تجد واحد وتقول له: يا سيد أنا جئت من بعيد أريد أن أزور ولياً من أولياء الله في هذه البلاد، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن في القاهرة أولياء يمشون في السوق. أيضاً: لو تدخل دمشق وتقول لأول من تلقاه في الشارع: أنا غريب وأحب أن أزور ولياً من أولياء الله، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى قبر، فلا يفهم أن ولياً حياً. وقل هذا في مراكش وباكستان واسطنبول والعالم كله لمدة أكثر من خمسمائة سنة لا يفهم أن ولياً حي أبداً.وهنا قد يقول قائل: يا شيخ ما تقول هذا غير صحيح؟فأقول: نسألكم: هل في دياركم مؤمنون يزنون بنسائكم؟ كيف مؤمن ويزني بامرأة مؤمن؟ هل فيكم من يسرق، ويخون، ويغش ويخدع أم لا؟! هل فيكم من يكذب أم لا؟ إذاً: لو كنا علمنا أن الله قال: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، ما نستطيع أن نفجر بامرأة ولي الله، ولا أن نسلبه ماله ولا أن ننتهك عرضه، ولا أن نهينه ولو بنظرة شزراً وهو ولي الله. ولكن العدو -أولاً- مسح هذا من أذهاننا فلا ولي إلا من مات ودفن وبنيت القبة على قبره، ذاك الولي، أما الأحياء فأعداء الله، اسرق، اضرب، كل، العن ليس فيها شيء، فلا تخاف من الله، لأنهم ليسوا أولياء!!أما الله فيقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فكيف تؤذي ولياً من أولياء الله ولو بكلمة نابية يا عبد الله؟! عرف هذا الخصوم من المجوس واليهود والنصارى فصرفوا من قلوبنا وأذهاننا أن المؤمنين أولياء الله، أبداً، وحصروا الولاية لمن مات وإن كان كافراً، وإن كان حماراً، فكم وكم من حمار عبد، وقصة (سيدي أبو حمارة) معروفة عندنا، مات حمار في الطريق فدفنوه وبنوا عليه مزاراً ليزورونه ويأخذ الزيارات، حتى يصبح المسلمون يأكل بعضهم بعضاً لا تقدير، لا حب، لا احترام.. لا ولا؛ لأنهم كلهم ما هم أولياء الله. إذاً: أين أولياء الله؟ سيدي فلان، المبني عليه قبة ويعبد مع الله وتذبح له الذبائح ويحلب عنه ويزار، وينقل إليه مرضى وهو ميت.. وهذا وقع فينا ورب الكعبة، بل في كل ديار العالم الإسلامي.من فعل بنا هذا؟إنه الثالوث الأسود: اليهود، المجوس، النصارى.. وهم متعاونون إلى الآن، ونحن في غفلة وتيهان.

وسائل التقرب إلى الله وكسب محبته

ثم يقول تعالى: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) فتح الباب: يا من يريدون أن يحبهم الله! باسم الله، تقربوا.. تقربوا واتصلوا بأداء الفرائض ( ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) وضح الطريق والحمد لله. ( وما يزال عبدي يتقرب إلي ) أي: يتملقني ويتزلف إلي بالنوافل بعد الفرائض ( حتى أحبه ). فإذا أحبه الله فقد جاء في الحديث أنه سبحانه يقول لجبريل: ( يا جبريل! إني أحب فلان ابن فلان فأحبه، فيحبه جبريل، وينادي في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلان ابن فلان فأحبوه، فيحبونه، ويلقي له القبول في الأرض، فلا يراه عبد مؤمن إلا أحبه، وإن كان أعمش أرمش.. قل ما شئت.وإذا أبغض الله عبداً قال: يا جبريل! إني أبغض فلان ابن فلان فأبغضه، فيبغضه، ثم ينادي في السماء: يا أهل السماء! إن الله يبغض فلان ابن فلان فأبغضوه فيبغضونه، ويلقي له البغضاء في الأرض، فلا يراه عبد رباني مؤمن إلا أبغضه ) .فإذا عرفنا أن نعرف هل نحن محبوبون أم لا فلنسمع هذا البيان: يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، ولئن استنصرني لأنصرنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روحه، يكره الموت وأكره مساءته ).إذا كنت لا تستطيع أن تسمع كلمة فيها سخط الله فاعلم أنك مشيت في الطريق الصحيح! إذا كنت لا تستطيع أن تجلس مجلساً تسمع فيه كلاماً باطلاً فتقوم فاعلم أنك مشيت في الطريق الصحيح! إذا كنت لا تستطيع أن تسمع صوت عاهرة تغني أبداً، يمزق قلبك وما تستطيع فاعلم أنك مشيت في الطريق الصحيح! إذا كنت لا تستطيع أن ترتاح لسماع غيبة أو نميمة أو كذب أو خرافة أبداً ولا تطيقه؛ فذلك لأن سمعك ملكه الله، فلا يستخدمه ضده. وإذا أصبحت لا تقوى على أن تنظر إلى شيء منع الله النظر إليه.. امرأة أجنبية، أمرداً، صورة، تمثالاً.. فاعلم أنك قبلت. ويدك وأنت البطل الذي تبطش بالفارس وتضرب به الأرض إذا أصبحت لا تستطيع أن تمدها لتلطم مؤمناً في خده أو لتتناول شعرة من جلده وكأن يدك ما تقوى على شيء، فلأن الله ملكها فلا يستخدمها في غير رضاه. رجلك.. كنت أيام عداوة الله تمشي أربعين كيلو لتغني وتزمر معاهم، بل تمشي ألف كيلو إلى مكة، ولما هبطت ما تستطيع تمشي ولا شبراً واحداً إلى المسجد إذا قبلت كنت تمشي أربعين كيلو إلى المعصية، والآن تمشي ألف كيلو إلى الطاعة، تصبح رجلك والله ما تستطيع أن تمشي خطوة واحدة في سخط الله، ما تقدر، لو تدعى إلى معصية عشر خطوات لا تستطيع، كأنك مشلول؛ لأن الله ملك هذه الحواس، فقال: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ) إذا شعرت بهذا فتعال أصافحك فأنت محبوب. ويبقى بعد ذلك العطايا الإلهية ما سألته إلا أعطاك، ولا استعذته إلا أعاذك، ولا طلبت نصرته إلا نصرك، فكيف وهو وليك وأنت وليه؟ أنتم أولياء الله حرام أن نسبكم.. أن نشتمكم.. أن نأكل أموالكم.. أن نفجر بأعراضكم.. أن نهينكم.. أن نذلكم؛ لأنكم أولياء الله. والله تعالى أسأل أن يزيدنا نوراً وعلماً وبصيرة، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-21, 11:19 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (7)
الحلقة (148)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة آل عمران (15)

عداوة إبليس لآدم عليه السلام وذريته لا تنتهي إلا بانتهاء الدنيا، ودخول آدم والمؤمنين الجنة، ودخول إبليس ومن تبعه من الخلق النار، وقد ذكر الله قصة هذه العداوة في كتابه العزيز، محذراً عباده من اتباع خطوات الشيطان، ومذكراً إياهم بمكره بآدم وحواء ليخرجهما من الجنة، حسداً منه لهما ولذريتهما من المؤمنين من بعدهما.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وقد تم لنا هذا الموعود، فقف يا عبد الله وانظر إلى هؤلاء المؤمنين في هذه الحلقة فإنك تشاهد السكينة، ولو كان هذا الاجتماع في غير هذا المكان لكنت تسمع اللغط، والقول، والكلام، والضحك، والالتفات، والقيام والقعود، فما لنا ساكنين؟ لأن السكينة نزلت، والرحمة غشيتنا في هذه الساعة، في هذه اللحظة، فلا شر ولا أذى ولا ظلم ولا، فأية رحمة أظهر من هذه؟!وأما الملائكة فيحفوننا، والله إنهم ليحفون بالحلقة ويطوفون بها ويستمعون الذكر وإن كنا لا نراهم لضعف أبصارنا، فلا قدرة لنا على رؤيتهم وإلا فهم يحفون بهذه الحلقة، وأما ذكر الله لنا في الملكوت الأعلى فهو ثابت بإذن الله وإن كنا لا نرى ولا نسمع، والحمد لله.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:34-37] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

الفرق بين المداهنة والمداراة
هنا أضع بعض الأسئلة:الأول: ما الفرق بين المداهنة والمداراة؟ وما الممنوع منهما وما الجائز؟الجواب: المداهنة حرام؛ لأن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، والمداهنة: أن نتنازل عن شيء من ديننا لنحفظ به شيئاً من دنيانا والعياذ بالله. أما المداراة والمصانعة والمجاملة فهي: أن نتنازل عن شيء من دنيانا لنحفظ به شيئاً من ديننا، وهذا محمود.

سبب تآمر المجوس واليهود والنصارى على أمة الإسلام
السؤال الثاني وهو ذو أهمية: لماذا تآمر علينا الثالوث الأسود المكون من المجوس واليهود والنصارى، وقلبوا الأوضاع علينا فجعلوا أحياءنا أعداء لله وأمواتنا أولياء لله، وحصروا الولاية فيمن مات فقط فضربت على قبره القباب ووضعت التوابيت والأخشاب، وسيق إليه قطعان البقر والغنم، وحلف به وعظم وبجل كالله، وأما الأحياء فلا يوجد ولي فينا! حتى قال أحد المحشين على متن خليل بن إسحاق المالكي : من قال: أنا ولي فإنه يخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة!وجواب ذلك: أن هذا أمر عظيم، وقد روى الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، ومعنى هذا: أيما قرية، أيما جماعة، أيما مؤمنون أو مؤمنات بلغهم هذا وعرفوه فقد انتهى الأذى من بينهم، فلا سب، ولا شتم، ولا تعيير، ولا تقبيح، ولا ضرب، ولا سلب.ومن يقدر على أن يؤذي ولي الله؟ لا نقدر؛ لأننا إذا آذينا ولي الله أعلن الله الحرب علينا، وانهزمنا وانكسرنا، بل وخسرنا؛ لأن الله يقول في هذا الحديث القدسي: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فلكي يأكل المؤمنون بعضهم بعضاً ويسخرون من بعضهم ويستهزئون ويأكلون أموالهم ويفجرون بنسائهم، فامرأة مؤمن يفجر بها مؤمن، وبنت مؤمن يفجر بها مؤمن؛ إذاً: نقول: لا ولي لله إلا من مات وبني على قبره ضريح، ووضعت التوابيت والأزر الحريرية عليه وعكف حوله النساء، وسيق إليه المرضى! ذاكم الولي، أما أنتم الأحياء فلا ولي فيكم، هذه هو قصد هؤلاء.

صفات أولياء الله تعالى
معشر المستمعين والمستمعات! من هم أولياء الله؟ الجواب: كل مؤمن تقي هو لله ولي، أبيض أو أسود، عربياً كان أو أعجمياً، غنياً أو فقيراً، شريفاً أو وضيعاً، كل مؤمن ومؤمنة اتقى الله عز وجل -أي: خافه- فلم يترك ما أوجب عليه ولم يرتكب ما حرم عليه؛ فهو ولي الله، ومن آذاه فقد أعلن الله تعالى الحرب عليه، وهل يفلح من أعلن الله الحرب عليه؟لا والله لا يفلح، فمن هنا كان مجتمعنا الإسلامي مجتمع الطهر والصفاء والعدل والمحبة والولاء، فلما عرف الأعداء هذا احتالوا علينا في عصور الظلمة والجهل، وهم الذين جهّلونا ومنعونا من أن نقول: قال الله، تعيش بين علماء لا يقول أحدهم: قال الله ولا قال رسول الله، بل قال الشيخ الفلاني، وقال سيدي فلان! فحرمونا حتى من ذكر الله.والقرآن هو الروح، تلك الروح التي -والله- لا حياة بدونها! القرآن حولوه إلى المقابر والمآتم وليالي البكاء، يقرأ على الموتى فقط، ولا يجتمع اثنان في ظل شجرة أو جدار ويقول أحدهما للثاني: أسمعني شيئاً من كلام الله.. اقرأ علي من كلام ربي شيئاً. لن يكون هذا أبداً! وزادوا المحنة الأخيرة التي ذكرنا، وهي: من قال: أنا ولي فإنه يخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة! إذاً: هل أقول: أنا عدو الله! أعوذ بالله.الآن ما بقي من السامعين والسامعات من يؤذي أحداً منا بنظرة ولا بكلمة نابية، ولا بسلب مال وإن قل، ولا ولا بهتك عرض وإن صغر، لأننا أولياء الله، والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ).عند باب المنزل جاءني شاب يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: أنا حارس هذا المنزل، فإذا جاء الرجل بسيارة قلت له: ضع السيارة هكذا، فأول كلمة يقولها لي: ما هو بحق أبيك، من أنت! ويسبونني، فهل هؤلاء مؤمنون؟ أهذا هو الولاء يتركون المؤمن يبكي؟معاشر المستمعين! أعود فأقول: من هو ولي الله؟ هل سيدي عبد القادر ؟ لقد عايشناه وعاصرناه، عرفنا عنه، مولاي إدريس عرفنا عنه، سيدي العيدروس، البدوي، سيدي أحمد التجاني.. عرفنا أنهم أولياء؟ فكيف عرفنا؟ لقد عرفنا ما لا ينبغي أن يعرف، وجهلنا ما يجب أن يعلم ويعرف.أولياء الله هم المؤمنون والمؤمنات الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون الصلاة، ويحلون ما أحل الله، ويحرمون ما حرم الله، كل مؤمن تقي هو لله ولي، فمن هنا لا غيبة، لا نميمة، لا كذب، لا خيانة في مجتمعنا الإيماني مجتمع أولياء الله، على هذا نحيا وعليه إن شاء الله نموت.

سبيل تحقيق ولاية الله تعالى
كيف نحصل على ولاية الله؟ نحصل على ذلك بإيمان وتقوى؛ إذ قال تعالى في تقرير هذه الحقيقة التي جهلها ملايين من المسلمين، قال تعالى من سورة يونس: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يقول: من هم أولياؤك يا رب الذين لا خوف عليهم ولا حزن؟ فيجيب تعالى بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] أولئك أولياء الله لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، لا يموت أحدهم حتى يبشر بالجنة، برؤيا صالحة يراها أو ترى له.

الاتباع سبيل الفوز بمحبة الله تعالى
نعود إلى نتائج وعبر وهداية الآيتين اللتين شرحناهما بالأمس، وهما قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31-32].تذكرون أن وفد نجران النصراني لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة النبوية وجاء يجادل، وادعوا أنهم ما ألهوا عيسى وأمه إلا من أجل أن يحصلوا على حب الله! يقولون: عظمنا مريم أم عيسى، وعظمنا عيسى إلى حد التقديس والتجليل والإكبار والعبادة، من أجل أن نحصل على حب ربنا عز وجل!قالوا: ما عبدناهما لذاتهما، ولكن من أجل أن يحبنا الله ربنا وربهما، فأنزل الله تعالى هذه الآية يقول فيها لرسوله: يا رسولنا! قل لهم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، ومعنى هذا: إن كنت تحب الله والله لا يحبك فماذا استفدت إلا الحزن والكرب والألم، أنت تحب الله وهو لا يحبك، فماذا استفدت يا محب سوى الكرب والهم والحزن؟ إذ ليس الشأن أن تحب، إنما الشأن أن تُحب.يا عقلاء! أليس الشأن أن تُحَب لا أن تَحِب، فما دمتم تريدون أن يحبكم الله فحبه لا يأتيكم من طريق عبادة غيره وتأليه مخلوقاته، وأنا أرشدكم إلى الطريق الذي يصل بكم إلى أن يحبكم الله، فتسعدوا بحبه وتكملوا، ألا وإنه اتباع رسوله النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، اتبعوه يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم، هذه من اليقينيات، وهل يتم حب للعبد من الله بدون أن يمشي وراء خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم؟ والله ما ظفر به ولا حصل عليه أبداً.معشر المستمعين والمستمعات! من أراد أن يظفر بحب الله تعالى له فليمش وراء رسوله، يرفع رجله كما يرفعها رسول الله ويضعها كما يضعها رسول الله، ويتناول اللقمة كما يتناولها رسول الله، ويركب ويهبط على نهج رسول الله، وينام ويستيقظ على نهج رسول الله، ويقضي ويحكم بما حكم وقضى به رسول الله، هذا الذي يظفر بحب الله، ومن طلب حباً لله من غير هذا المسلك فوالله ما ظفر به ولا حاز عليه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، وقد شرحنا هذا الموضوع.

سر جلب اتباع رسول الله محبة الله تعالى للعبد
كيف كان اتباع رسول الله يجلب حب الله ويحققه للعبد؟ ما السر في هذه القضية؟إن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه العقائد والعبادات والآداب والأخلاق من شأنها أن تزكي نفس العبد وتطهر روحه، فإذا زكت روح العبد وطابت وطهرت أحبه الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيبين، وقد أصدر حكمه على الخليقة كلها بقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: نفسه. وتزكية النفس تتم بماذا؟ هل بالماء والصابون؟! يا عبد الله! بم تزكي نفسك؟ زكها بهذه العبادات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أدها كما بينها فتنتج بحمد الله زكاة نفسك، وتطيب روحك، وتصبح بين الصالحين طاهر النفس، ويدل على ذلك أنه لا خبث ولا تلوث ولا ظلم، ولا شر ولا فساد؛ لأن النفس طابت وطهرت، فكل ظلم وخبث وشر ناتج عن خبث النفس أولاً. وقد رمز إلى هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )، فمحط الطهر والزكاة في القلب والقلب مقر النفس.إذاً: متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في الخراءة، تبول كما كان يبول رسول الله، تتابعه في كل شيء، فهذه المتابعة تنتج للعبد المتابع بصدق زكاة روحه وطهارتها، ويومها يحبه الله عز وجل، ويصبح من أحباء الله، ومن أحبه الله أسعده والله وما أشقاه؛ إذ كيف يشقي أولياءه؟!
قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ هداية الآيات] أي: نتائج هاتين الآيتين [ من هداية الآيات: أولاً: محبة العبد للرب تعالى واجبة وإيمان ]، محبتنا نحن لله واجبة علينا، وإنسان لا يحب سيده ملعون يقطع رأسه، فمولاك وسيدك لا تحبه! كيف ذلك وهو يغدق عليك نعمه الليل والنهار؟! فحب الله فريضة على كل مؤمن ومؤمنة. [ محبة العبد للرب تعالى واجبة وإيمان؛ وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم، وأحبوني بحب الله ) ]، أحبوا الله أيها المؤمنون لما يغدق عليكم من الطعام والشراب والأمن والصحة والعافية، وكيف تنسى هذا الإنعام ولا تحب صاحبه؟وقد قلت لكم غير مرة: إذا خلوت بنفسك فضع رأسك بين ركبتيك وتذكر ما أنعم الله به عليك، فلا تلبث لحظات إلا وعيناك تذرفان الدموع وجسدك يرتعد وأنت في شوق إلى الله وحب له، والذي يعيش السنين العديدة ما يذكر لله نعمة كيف يحبه؟ مع أن طبعك يا ابن آدم أنك تعطى كأس اللبن أو الماء فقط وأنت في حاجة إليه فتحب من أعطاك وتثني عليه وتذكره بخير، والذي يغدق عليك نعمه كل لحظة تنساه ولا تحبه؟!والعلة هي الجهل، ما عرفنا الطريق إلى الله، أبعدونا عنه، وإلا فهذا الحديث الصحيح كافٍ شافٍ، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم، وأحبوني أنا بحب الله )، ألستُ رسوله؟ ألست نبيه؟ ألست المبلغ عنه؟ فكيف لا تحبونني؟ أحبوني بحب الله عز وجل، إذا أحببتم سيدكم ومولاكم فأحبوا من يحبه هو، وهذا هو الحب الصحيح: أن نحب ما يحب ربنا ونكره ما يكره.قال: [ ثانياً: محبة الله تعالى للعبد هي غاية ما يسعى إليه أولو العلم في هذه الحياة ]، حب الله غاية نعمل الليل والنهار من أجل أن نفوز بها، أن نصبح من أحباء الله. وقد ادعى اليهود هذه وادعاها النصارى وما فازوا بها، إذ قال تعالى عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18]، العبرة بما قبل هذه الدعوى؛ إذ محبة الله تنتج طاعة الله الكاملة، ومن ادعى حب الله وهو لا يطيعه فهو كاذب لا تصدقوه في دعواه، وقديماً قال الحكيم:تعصي الإله وأنت تزعم حبههذا لعمري في القياس بديعلو كان حبك صادقاً لأطعتهإن المحب لمن يحب مطيعفهيا نعمل على أن نمسي أحباء لله بالنية، عزمنا على ألا نعصي ربنا، فنحن أولياؤه، ونمتحن بأوليائه، إياك أن يراك الله الليل أو غداً تؤذي مؤمناً أو مؤمنة ولو بكلمة! انتبه! أولياء الله يحميهم الله، وأولياؤه يحمونهم أيضاً. [ ثالثاً: طريق الحصول على محبة الله تعالى للعبد هو اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان بما جاء به، وباتباع شرعه وطاعته في المنشط والمكره، لقول الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، إذ ليس الشأن أن تُحِب وإنما الشأن أن تُحَب ].وقصة مجنون ليلى معروفة، فـمجنون ليلى تائه في الصحاري والأودية والجبال من حب ليلى وهي تكرهه، فماذا استفاد؟ الفائدة: أنك تُحَب لا أن تُحِب فقط، فمن أراد منا أن يحبه الرحمن فليطهر نفسه فقط من أدران الذنوب وأوضارها بالبكاء والتوبة بين يديه فيصبح محبوباً لله.وبقيت زهرة اقتطفناها، وقلنا: هي خير من خمسين ألف ريالاً، حيث قلنا: من منا يعرف أنه محبوب لله؟ لو يجتمع أهل الدنيا والسماء غير الله لا يستطيعون أن يعطوك الجواب، فكيف تعرف أنك محبوب؟ لكن الله عز وجل علمنا، فمن أراد أن يعرف أنه محبوب لله فإنه يعرف، كما في حديث أبي هريرة : ( من عادى لي ولياً )، فقد قال فيه: ( وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل ) بعد الفرائض قطعاً، وما يزال يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام ( حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ). قلت: إذا أصبحت يا أمة الله لا تطيقي أن تسمعي كلمة سوء فاعلمي أنك قبلتِ! وأنت يا عبد الله إذا أصبحت لا تستطيع أن تسمع كلمة من كلمات السوء فكذلك، ابدأ بالأغاني وانته بالغيبة وسب الناس، إذا أصبحت لا تستطيع ولا تقدر على ذلك فاعلم أن سمعك قد ملكه الله فهو لا يستخدمه ضده أبداً، ولا يستخدمه إلا في رضاه.ثانياً: إذا أصبحت لا تستطيع أن تملأ عينيك نظراً إلى ما حرم الله عليك فاعلم أنك قبلت وأنك محبوب، فإن أصحبت تملأ عينيك وتنظر إلى النساء غاديات رائحات مكشوفات ومستورات وتجد لذاذة في ذلك فوالله ما قبلت، وبصرك يستخدمه الشيطان لا الرحمن، فما هو ملك لك الآن! إن أصبحت تشعر كأن اللهب والنار في وجهك لا تقوى على أن تنظر فاعلم أن بصرك مملوك لله، ولا يستخدمه إلا فيما يرضيه ويحبه.أيضاً: يدك التي تبطش بها بطشاً، تختطف الرجل من على صهوة جواده، هذه اليد إذا أصبحت لا تستطيع أن تمدها لتأخذ إبرة من مال مؤمن حرمه الله عليك فاعلم أنها مملوكة لله، ما تقدر أن تلطم بها جسم المؤمن؛ لأنه ولي الله وأنت وليه، فلا تقدر أبداً أن تؤذي بها مؤمناً أو مؤمنة.إذاً: أصبحت اليد ليست لك بل ملكها الله، فهو لا يستخدمها إلا في رضاه، فتستطيع أن تستخدمها وتصفع عدو الله من الكافرين أو الفساق أو الفجار وأنت كالأسد، لكن كونك تنال بها سوءاً من مؤمن أو مؤمنة لا تستطيع، كأنك ألين الناس وأرقهم وأجبنهم.وكذلك رجلك، تستطيع أن تمشي إلى مكة بها حافياً، تمشي بها إلى أبعد المساجد، تمشي بها إلى أبعد المزارات كالأقرباء والمرضى ومن إليهم، وتعجز أن تخطو خطوة واحدة في معصية الله، لا تقدر أبداً، فهنا اعلم أنك ولي الله محبوب له، فزت بحب الله.والمرحلة الثانية: إن سألته أعطاك، والله لا يخيبك، اللهم إلا أن تسأل شيئاً ليس لك فيه خير، فيصرفه عنك ولا يعطيكه ويعطيك عوضه فوق ما تتصور: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته )، آمنا بالله! العبد يكره الموت والله يكره إن يسيء إلى عبده، ولكن لابد منه! هذا هو الحبيب، هذا الرحمن الرحيم، أحبوه بما يغذوكم من النعم يحببكم.قال: [ رابعاً: دعوى محبة الله ورسوله مع مخالفة أمرهما ونهيهما دعوى باطلة، وصاحبها خاسر لا محالة ].

تفسير قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)
الآن مع هذه الآية العجيبة العظيمة، واسمعوا هذا الإعلان وهذا الخبر، وأنتم تعرفون الأخبار وأخبار لندن تهتزون لها، ولكن هذه أخبار الله التي كلها صدق ومحال أن يصاحبها غير الصدق. اسمع هذا الإعلان: قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33]، من أخبر بهذا الخبر؟ إنه الله. وكيف وصلنا هذا؟ من طريق كتابه ورسوله، كتابه الذي أنزله، ورسوله بينه لنا وعلمناه. ‏

بيان ما يسلكه المنحرفون من تحريف الألفاظ القرآنية عن مواضعها
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ [آل عمران:33]، ومن هو آدم؟ يقول بعضهم: هو السيد أحمد التجاني ! كيف تقول هذا؟ يقول: لأي فائدة يذكر آدم، المراد سيدي أحمد التجاني ! يقول بعضهم مثل هذا لما أعلمناكم من أنهم يحرفون كلام الله، وسبقهم إلى هذا اليهود والنصارى، لا يتركون صفة على حقيقتها أبداً إلا ويؤولون ويحرفون ليبقى الظلام وتبقى الأمة في جهالتها ويسودونها.وها هو السيد واقف يجادلني، قال: كيف تقول في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]: إنه أبوه، هذا عمه! قلت: الله يقول: أبوه، وأنت تقول: عمه! قال: نعم. وشاعت عند المفسرين ، فلِم هذا؟ ما حملني على هذا؟ الله يقول: أبوه، وتقول: لا، قل: عمه! كيف هذا؟ قالوا: هذا جار على لسان لغة العرب، يطلقون العم على الأب، والأب على العم!قلنا له: يا بني! هذه القضية درسناها وعرفناها، من أراد أن يظهر في مظهر عال ويسمو في درجة ليكون الناس دونه فإنه يفتري الكذب ليقبل الناس عليه، لقد قال مفسر: الناس غالطون؛ ليس هذا بأبيه، هذا عمه، إذ كيف يدخل أبوه النار! فيفوز هذا العالم بهذه الشطحات يلتقطها، يأتي بغرائب الألفاظ والمعاني ليظهر في المجتمع، وأحدثكم حديث علم: إن رغبة الآدمي في التفوق والعلو تحمله إذا انفصل عن ولاية الله على أن يفتري ويكذب على الله.

تحريف الشيعة ومخالفتهم النصوص الثابتة
والروافض الشيعة تعرفون عنهم، قالوا: أبو طالب في الجنة، فهو عم الرسول، فكيف يدخل النار؟ ويعلمون هذا نساءهم وأطفالهم: أبو طالب في الجنة! أبو الرسول في الجنة، أم الرسول في الجنة، لِم؟ لأن أهل الحق أهل السنة والجماعة المؤمنون بعلم يعرفون أن أبا الرسول في النار، الرسول أخبر بهذا، قال للرجل: ( أبي وأبوك في النار ) ، وأن أبا طالب في النار، أخبر رسول الله عنه، قال: ( إنه في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه )، إذ عرض عليه كلمة التوحيد وهو على سرير الموت فرفض، وقال: هو على ملة عبد المطلب ، فمات على الكفر.إذاً: لكي يفارقون جماعة المسلمين ليعملوا على إعادة مملكة الساسانيين ومجدهم وتاجهم لا بد أن يضعوا في كل مسألة فاصلاً بيننا أهل السنة وبينهم، تتبعناهم فوجدنا كل عبادة فيها فاصل، حتى النكاح، فهم يتناكحون بنكاح المتعة، وأهل السنة والجماعة أعلمهم رسول الله بحرمة هذا النكاح وأعلن هذا في مكة، وأعلنه عمر ، إذاً: لكي ينفصلوا ويتكتلوا وحدهم تزوجوا بنكاح في المتعة حتى في المدينة.فلا توجد عبادة بدون فاصل، يقولون: حتى نخرج من دائرة أهل السنة والجماعة علنا نعود من جديد إلى مملكتنا ودولتنا، هذه هي السياسة، فالوضوء يسمح فيه على رجله، وهل فيكم من يمسح في الوضوء على رجله ويعتبره غسلها، وأنه أطاع الله؟فلا توجد عبادة إلا ووضع أئمتهم فاصلاً لها، هل خوفاً من الله؟ والله ما هو من ذلك، هل رغبة في الجنة؟ العلة: أن توجد تلك الأمة التي هدم عرشها عمر .إذاً: ما عساي أن أقول؟! إن العلماء من النصارى واليهود والمجوس والمسلمين عندما يتورطون في حب الجاه والمنصب يخترعون ويبتدعون ليتفوقوا ويظهروا، ومن جملة هذا اعتقادهم أن آزر هذا عم إبراهيم وليس بأبيه، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث بهذا عشرات المرات في القيامة وفي الدنيا، وقال: أبوه، فقالوا: لا. لا، أنت قل: عمه، ما السر؟ حتى لا نقول: أبوه في النار، نقول: في الجنة.

العمل الصالح طريق الفوز والعمل السيئ سبيل الهلاك
والنسب لا قيمة له بالمرة، كن ابن من شئت أو أباً لمن شئت، أو من قبيل أو عشيرة من شئت، فوالله لا عبرة عند الله بالنسب، أما قال تعالى: فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، نكذب الله لنؤمن بقول فلان؟!وفي القرآن الكريم أن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم:10].فأبو إبراهيم آزر كابن نوح كنعان ، هل نفعتهم الأبوة أو البنوة أو النسب؟ ما نفعت، ونحن عندنا الآن علم وبصيرة، فقد عرفنا أن دخول الجنة بزكاة أنفسنا وطهارة أرواحنا، لقد أقسم الجبار بأعظم إقسام: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8] كم يميناً هذه؟ ثمانية. يقسم تعالى على النفس فيقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ [الشمس:9-10] وخسر مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10]، فهل بقي الآن كلام، هل بقي جدال أو خصومة؟ أيحلف الله ويقسم بأعظم أيمان وإقسامات ويقول: حكمنا بكذا، وتقول: لا! من يقول هذا القول؟ والله ما هي إلا رحمة الله، إن زكيت نفسك يا عبد الله بهذه المواد الطيبة الطاهرة المزكية فزت وإن كنت ابن فرعون، وإن أنت لوثتها وغفلت عنها وشغلتك الدنيا وشهواتها ومت وهي خبيثة فلن تفلح وإن دفنت في البقيع؛ لأن حكم الله صدر: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فمن يراجع؟ هل بلغكم أن الله إذا حكم يعقب على حكمه في هيئة استئناف؟! لقد قال تعالى من سورة الرعد: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، انتهى الأمر.

ذكر ما فضل الله تعالى به آدم عليه السلام وحسد إبليس له
ونعود إلى آدم عليه السلام، فآدم سمي آدم من الأدمة، والأدمة هو لون بين البياض الصقلبي الروسي وبين السواد، هذه الأدمة، هذا آدم، وهو مخلوق خلقه الله عز وجل من الطين، من التربة، وتخمرت فأصبحت حمأة، ثم يبست فأصبحت صلصالاً، ومن كرامات آدم: أن الله عز وجل خلقه بيديه عز وجل، لا صانع ولا ماء، وهل نعرف يدي الله؟ والله ما نعرفهما، ومستحيل أن نعرفهما، ومن نحن حتى نعرف ذات الله؟!نبينا موسى ما إن تجلى الله تعالى للجبل حتى أغمي عليه وصعق، فكيف تستطيع أن تنظر إلى الله وتعرف ذاته؟! فالله تعالى خلق آدم بيديه ونفخ فيه من روحه، أول روح هي روح آدم من الله عز وجل.وتعرفون كيف أكرمه في دار السلام، وأوجد له عروسه، فزوجه ليست من طين، بل من لحمه ودمه، حواء جدتنا من أين خُلقت؟ من ضلع آدم الأيسر، خرجت وأحبها آدم، وسكن إليها وسكنت إليه، وهما في دار السلام ينعمان بالنعيم الدائم، وإذا بالعدو إبليس، والله ما زنى زانٍ ولا فجر فاجر، ولا كذب كاذب ولا سرق سارق، ولا قتل قاتل، ولا قال سوءاً قائل إلا بنزغته، فكل الشر الذي تشاهده هو علامة وجود إبليس، بعد هذا أيبقى عاقل يقول: أين هو؟ هذا الذي يتشحط في دمه من قتله؟ إنه إبليس، هذا العدو الأصيل.اغتم وكرب وحزن عندما قال تعالى للملائكة بعد أن خلق آدم: اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34]، أي: حيوه بتحية السجود، والركوع والسجود بمعنى واحد، فما كان منهم إلا أن قالوا: الله أكبر وسجدوا. وإبليس كنيته هي أبو مرة، فكل مرارة هو والدها! فحينئذ قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]؟ قال الله تعالى له: اسجد، فقال: لا أسجد؛ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، قالت العلماء: أساء إبليس في القياس، فقياسه فاسد، ادعى أن النار خير من الطين وهذا خطأ، الطين ينبت البقلاوة والحلاوة والبر والنار ولا تنبت، تحرق كل شيء، فهذا القياس باطل، فلما أبى أبلسه الله وطرده فأخرج من دار السلام.إبليس هذا هو من عالم الجن، والعوالم الأربعة التي أصبحت معرفتها من الضروريات عندنا: عالم الجن، وعالم الملائكة، وعالم الإنس، وعالم الحيوانات، إذاً: إبليس من عالم الجن، وكان يعبد الله مع الملائكة، إذ الاتصال بين الجن والملائكة ثابت، فالجن مخلوقون من النار والملائكة من النور، وما الفرق بين النار والنور إلا أن هذه تحرق وهذه لا تحرق.

مكر إبليس لإخراج آدم وحواء عليهما السلام من الجنة
إذاً: أخبر تعالى عن هذه الحقيقة بقوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50] أطاع، فأبلسه عز وجل وأيأسه.وازداد الكرب بعد الإبلاس والهم، وأراد الإغواء قبل وجود اللاسلكي، فالمؤمنون المحمديون يقولون: أخبر الله تعالى فقط، فلا بد أنه وقع، والجاهلون والمتخبطون قالوا: إبليس دخل في صورة أفعى، ومن يسمح لها أن تدخل الجنة؟ قالوا: بعدما أبلس وأخرج دخل بحيلة. ما هذه الحيلة، قالوا: دخل في صورة أفعى! ويقبل هذا المفسرون والعلماء!لأنهم أبوا أن يقولوا: آمنا بالله، حيث أخبر تعالى أنه اتصل بآدم وحواء في الجنة اتصالاً أراده الله، ولما عجزوا قالوا: دخل في صورة حية، فهل الجنة فيها حيات!والآن يوسوس باللاسلكي، خلق الله في قلب كل مؤمن محطة صالحة للتلقي والإرسال، واقرءوا: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:4-5]، المحطة الموجودة في صدر آدم وحواء، اتصل بهما إبليس بمحطته وراسلهما، وقال: هل أدلكما على شجرة في الجنة إذا أكلتما منها لن تموتا وستخلدا. فآدم تحرج وتردد، وحواء قالت: ها أنا آكل، فالنساء شجاعات إذا كنّ يدلين إلى الهاوية، قالت: ما بي شيء فكل أنت.ولهذا أنصح لكم ألا تستجيبوا لنسائكم إلا إذا كنّ ربانيات صالحات طاهرات، أول امرأة خانت في الدنيا حواء خانت أبانا آدم، أخبر بهذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.فلما أكلا من الشجرة انكشفت سوأتهما، وقبل كانا مستورين بأنوار الله، ما يخطر ببالهما شيء اسمه فرج ولا شهوة ولا جسم أبداً، سبحان الله! كالطفل الرضيع، طفلك الرضيع هل يعرف شهوة أو لذة أو عورة؟ لا أبداً، غافل تماماً.فكذلك هما كانا في دار الخلد لا يشعران بشيء أبداً، ما إن زلت القدم وسقط الحجاب حتى تاها، أخذا يضعان ورق الشجر على فرجيهما بالفطرة: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122].قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ [آل عمران:33] متى؟ بعد أن تاب عليه وهدى، اجتباه، فنبأه وأضفى عليه من الكمالات، ليحمل رسالة الله ويبلغها إلى أبنائه وأبناء أبنائه وأحفاده، فكان ممن اصطفى الله آدم، مع أنه سبقت له زلة لكن تاب، و( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) ، خذوا هذه القاعدة: من تاب من ذنبه أصبح كمن لا ذنب له، والتوبة: هي الإقلاع الفوري عن الزلة والاستغفار والبكاء والعزم على أن لا عود أبداً، فيمحى ذلك الأثر بإذن الله.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-21, 11:29 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (8)
الحلقة (149)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة آل عمران (16)

إن الله عز وجل يتفضل على من يشاء من عباده، وينعم على من يشاء من خلقه، ويختص بعض خلقه بالكرامات كما اختص آل عمران وفضلهم واصطفاهم على العالمين، وأكرم مريم بنت عمران فجعل لها ولداً من غير زوج، واختص هذا الولد بالرسالة والنبوة، كما أكرم زكريا عليه السلام بأن وهبه على الكبر يحيى، وجعله سيداً وحصوراً ونبياً كأبيه، فضلاً منه ونعمة والله ذو الفضل العظيم.

تابع تفسير قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ...)
الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.وها نحن مع سورة آل عمران ومع هذه الآيات المباركات الكريمات، والتي سبق أن تلوناها ولنتلها الآن ولنتأمل ولنتدبر ولنتفكر، ولنتذكر بما حملته من أنوار الهداية الإلهية عسى الله أن يهدينا إليه صراطاً مستقيماً.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:33-37].

ذكر حادثة نزول آيات خبر عيسى وأمه وبيان عظيم دلالتها
أعيد إلى أذهانكم -معاشر المستمعين والمستمعات- أن وفد نجران المكون من ستين فارساً جاء ليحاج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى.ونبينا لا يعرف عن عيسى شيئاً ولا عن أمه ولا عن جدته، عربي في هذه الديار ما تنصر ولا تمجس ولا تهود، ولا قرأ ولا كتب، عاش في مكة.إذاً: هنا أنتم تجادلونني في شأن عيسى، اسمعوا أحدثكم عن جدة عيسى، لا عن عيسى بالذات وأمه، أحدثكم عن جدة عيسى، وبذلك أنا أعلم منكم، وما تحملونه من علوم علوم باطلة مزيفة كلها افتراءات وكذب، استحوا خيراً لكم واخجلوا. وبالفعل ذابوا، من أين لمحمد العربي الأمي أن يحدثهم عن جدة عيسى لا عن عيسى، وعن ولادتها وكفالة ابنتها؟ ومن ثم يقول الله تعالى له: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44]. ما يسعنا يا عقلاء إلا أن نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

مكانة آدم عليه السلام في اصطفاء الله تعالى له
اسمعوا هذا الخبر الإلهي العظيم، يقول تعالى مخبراً معلماً: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ [آل عمران:33]. وقد عرفنا الاصطفاء: الاختيار، الاجتباء، الانتقاء، أخذ الصفوة، آدم أبو البشر اصطفاه الله بإفضالات وإنعامات لا يقادر قدرها، وكيف وقد خلقه تعالى بيديه من طين لازب، من حمأ مسنون، ونفخ فيه من روحه عز وجل، ثم أسجد له ملائكته، الملائكة النورانيون، يصدر أمر الله خالقهم إليهم بأن يسجدوا لآدم فيسجدون، ومن تمرد ورفض لم يكن إلا فردا واحدا، ألا وهو إبليس، فقد أبلسه الله من رحمته وأيأسه من الخير، ومسحه مسحاً من كل كمال من كمال الإنس أو الجن. اصطفى آدم، وقد عرفتم كيف فتنه إبليس، وكيف اتصل به، وكان سبب إخراجه من دار السلام وهبوطه إلى الأرض دار البلاء والشقاء: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [الأعراف:20]، وقد أخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: أن حواء هي التي غررت بزوجها، هي التي بادرت بالأكل من الشجرة، وقالت: انظر آدم ما أصابني شيء. ولنترك هذا، وحسبنا أننا من ذريتهما نعاني الآلام والأتعاب والمحن في دار البلاء والشقاء، آه لو بقينا هناك.وتذكرون حجاج موسى مع آدم، قال موسى الكليم: ( يا آدم! أنت أخرجتنا من الجنة -يلومه- فقال له آدم: أتلومني على شيء كتب عليّ قبل أن أخلق بخمسين ألف سنة؟! فحج آدم موسى ) شاء الله هذا، وقد درسنا وعرفنا يا أهل العلم: أن سر الحياة وعلة الوجود كله أن يذكر الله ويشكر، علة الوجود، سر الحياة بكاملها، بعبارة أوضح: ما علة وجود النار والجنة والسماوات والأرضين، وما أوجد الله فيهما، ما السر؟ أراد الله أن يذكر ويشكر، فخلق هذا الكون وأوجدنا ليسمع ذكرنا ويرى شكرنا، وإلا فإنه يغضب علينا ويسخط ويردينا ويخسرنا في عالم لا نرى فيه طعم الحياة أبداً.

إفضال الله تعالى على نوح عليه السلام وآل إبراهيم وآل عمران باصطفائهم
إذاً: تدبير الله عز وجل، اصطفى آدم واصطفى نوحاً، ونوح من آيات الاصطفاء له: أنه بعثه وأرسله في أمة لا تعرف الله، يعيشون على عبادة الأوثان والأصنام، ومن آلهتهم التي عرفناها ما جاء في سورته عليه السلام، إذ قالوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، اثبتوا على عبادة آلهتكم، ولا تسمعوا لهذا الرجل ما يقول.ومن آيات إفضال الله عليه: أن استجاب دعوته في الكافرين فأغرقهم أجمعين: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:26-27]، فأغرق الله البشرية كلها إلا نوحاً ونيفاً وثمانين رجلاً وامرأة، وهم المؤمنون، حملهم في سفينة كان جبريل يعلمه صنعها، فلما نزلت السماء وفاضت الأرض فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12]؛ حمل نوح أهله في السفينة، وابنه وامرأته هلكا معاً.نوح عاش ألف سنة، هذا اجتباء الله واختياره أم لا؟ عمر تسعمائة وخمسين وهو يدعو إلى الله، ونبئ في الأربعين، وحسبه أن من جاء من الأنبياء والرسل من بعده من ذريته، هذا اجتباء واصطفاء الله لنوح، واصطفى آل إبراهيم. من أين لأمي لا يقرأ ولا يكتب أن يحدث علماء النصارى بهذه العلوم والمعارف؟ وآل إبراهيم: ذريته وأتباعه على التوحيد إلى اليوم، أول ذريته إسماعيل، ثم إسحاق ثم أولاده إلى خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم.محمد من آل إبراهيم أم لا؟ من آل إبراهيم، فمنهم الأنبياء والرسل بالألوف، اجتباء الله واختياره لهم، واجتبى آل عمران، وعمران هذا رجل صالح من صلحاء بني إسرائيل، وذريته أهله، حنة امرأته، مريم ابنته، عيسى حفيده، وكل مؤمن صالح من آل عمران في ذلك الزمن.

معنى قوله تعالى: (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم )
ثم قال تعالى بعدما أخبر عمن اصطفاهم واجتباهم واختارهم، وأهلهم للكمالات الروحية، قال: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34]، يطلق لفظ (الذرية) على الآباء والأولاد، نحن ذرية آدم أم لا؟ وهكذا.هؤلاء الذين اجتباهم ذرية بعضهم من بعض على سمت واحد، على نمط واحد في الإيمان وسلامة القلوب وزكاة الأرواح والعمل الصالح كأنهم جسم واحد: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34]. وَاللَّهُ سَمِيعٌ [آل عمران:34] لأقوال من يقولون، بل لحركات ما تحرك في الكون، الله عز وجل يسمع كل شيء حتى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.(سميع) وإن أردت أن تعرف سمع الله؛ فهذه الأسماع من خلقها؟ من وهبها؟ من أعطاها؟ أيهبها ويخلقها ويكون أقل منها أو دونها؟ يجب أن يكون لا شبيه لسمعه أبداً، أسماع الخلائق محدودة، سواء أسماع الملائكة أو الجن أو البشر، أما الله عز وجل فسميع لكل حركة في العالمين. عَلِيمٌ [آل عمران:34] لا يجهل شيئاً، لا يخفى عنه شيء من الذرة إلى المجرة، من حملة العرش إلى ملك الموت إلى هذه الخليقة والبشرية: سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:34] سميع بـحنة ، وعليم بحالها.

تفسير قوله تعالى: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني ...)
ولنبدأ القصة: قال تعالى: قال تعالى: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35].

ذكر قصة امرأة عمران ورغبتها في الولد ودلالتها على عظيم قدرة الله تعالى
قوله: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ [آل عمران:35] وهي حنة بنت رجل من بني إسرائيل تزوجها عمران ، وكانت لا تلد، والآن يوجد بيننا من يقول: يا شيخ ادع الله لنا أن يرزقنا ولداً. امرأته عقيم وعاقر ما تلد.وحنت إلى الولد وتاقت نفسها واشتاقت والتهب ذاك الشوق لما رأت عصفوراً يزق أفراخه في حديقتها، عصفور يأتي بالطعام أو الماء إلى عش ووكر أولاده أفراخه، ويفتح الفرخ فاه، ويصب فيه العصفور الطعام والشراب، من علم الطير هذا؟ إنه الله تعالى.فليتكلم البلاشفة الحمر والملاحدة الشيوعيون، أهي الطبيعة؟! يا عميان ما هي الطبيعة؟ الطبيعة ذات عقل، ذات إرادة، ذات قدرات، ذات معارف؟! لا.. لا، ما هي؟ تفاعلات كيماوية، هذه هي الطبيعة! وفضحهم الله، انعقد مؤتمر للبلاشفة وحضره علماء الحق، وناقشوهم، وهذه ما بلغت العرب الذين ما زالوا يحبون الشيوعية.ناقشوه ، وأخيراً لما هزموهم قالوا: اسمعوا: إذا لم نقل الطبيعة نقول: الله؟ إذا قلنا: الله قلتم: صلوا، فلن نقولها إذاً، وانكشفت عوراتهم، وتمزقت أوصالهم، والله ما جحدوا وجود الله إلا هروباً من أن يستقيموا على منهج الله، على أن يحلوا ما أحل الله ويحرموا ما حرم الله، أعرفتم هذه الحقيقة أو تشكون فيها؟إن الشمس أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فهل الطبيعة تكوكب هذا الكوكب النهاري، وتحشوه بالنار الملتهبة، ويعيش القرون العديدة؟ هل الطبيعة تفعل هذا؟ أية طبيعة هذه؟ عمياء، صماء، بكماء، لا عقل لها كيف تبدع وتتفنن؟! وعباد الهوى والشهوات والفروج يجرون وراء هذا حتى لا يعبدوا الله فقط.وإلا فنقول له وهو في بهو جامعة موسكو منبت الإلحاد: قف. يقف، نقول: أنت موجود أو غير موجود؟ فإن قال: غير موجود وأنكر وجوده قلنا: أخرجوه، هذا مجنون، وإن قال: موجود - اسم مفعول - قلنا: من أوجدك؟ هاه لا أدري، إذاً: أوجدك الله يا هذا، أنت ما تعرف؟ تعلم، أوجدك موجد الكون كله، الله جل جلاله، أنت تعرف هذا ولكن تنكر لا تريد أن تعبد الله.

منشأ رغبة امرأة عمران والسبب الداعي لتمني حصول الولد
إذاً: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ [آل عمران:35] هذه المرأة الصالحة كانت لا تلد وتاقت نفسها وجاش صدرها، لما شاهدت العصفور يغذي أفراخه، رفعت يديها إلى ربها، وقالت: ربّ هب لي من لدنك ذرية، هب لي من لدنك ولداً وأجعله لك، حتى أشعر بالغبطة والسرور والفرح وأنا لا أنتفع به أبداً، نذرته لك يعبدك ولا أستأنس به ولا يخدمني أبداً، المهم أن تطيب نفسي، وأن أحمل ولداً وألد. واستجاب الله لها، وحملت، وقبل أن تلد مات بعلها رحمة الله عليه، وتركها حبلى، مات زوجها، وتمت أيام الحمل وجاء الطلق ووضعت، وإذا بها تضع أنثى، فتتألم لذلك وتتحسر، الأنثى كيف تخدم ربها؟ تريد أن هذا الولد يخدم بيت المقدس، يحرس، يدعو، يربي، ينظف.. كذا، ويعبد الله عز وجل، الأنثى ما تستطيع، محجوبة، هي قالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران:35] خالصاً لك، لا يعمل معي شيئاً، من ساعة ولادته أعطيه غيري، حتى لا أستأنس حتى الأنس به.إذاً: وضعتها أنثى فقالت متحسرة متألمة: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [آل عمران:36]، لا أنها تخبره وإنما تتحسر، تتأسف أنها فقدت تلك الأمنية، كانت تريد ذكراً يقوم بالعبادة في المسجد الأقصى، يعلم، يربي، يقوم، يحرس، أما الأنثى فما تستطيع. إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ [آل عمران:35] أي: يا ربّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران:35] أي: خالصاً فَتَقَبَّلْ مِنِّي [آل عمران:35] هذا النذر إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35]، السميع لقولي العليم بحالي، إذاً: فتقبل مني.

تفسير قوله تعالى: (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى...)
قال تعالى: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]. ‏

ذكر ما ورد على امرأة عمران بظهور المولود أنثى مع قصدها كونه ذكراً لخدمة بيت المقدس
قوله: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا [آل عمران:36] ولدت، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ [آل عمران:36] أي: يا ربّ، إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى [آل عمران:36] فات الغرض، ما وصلت إلى الهدف، كنت أريده ولداً ذكراً يقوم بما يقوم به الرجال، أما المرأة ففي بيتها مقصورة على شغل المنزل، كيف تخدم الله في بيته؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، وهذا من قولها، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]؛ لأن الأنثى -كما عرفتم- يغمرها الحياء ويسترها، وتعيش في بيتها تنجب البنين والبنات وتربي الأولاد وتعبد الله عز وجل، ما هي بأهل لأن تجاهد ولا لأن تغرس ولا تحصد ولا تزرع ولا تبني، هكذا أوجدها الله لمهمة يعجز الرجال عنها، أم لا يعجزون؟ لو يجتمع الرجال كلهم والله ما أنجبوا ولداً ولا بنتاً، أو يستطيعون؟إذاً: فهذه الكثرة الكاثرة من أين تأتي؟ من بطون الأمهات أم لا؟ أي وظيفة أعظم من هذه؟ وأخرجوها للمصانع والمقاهي والملاعب، يستخدمونها ويقولون: هذا تشريف للمرأة! هم أذلوها وخانوها وأفقدوها كمالها، قالوا: هذه مساواة، ووالله إنها لمكرة اليهود وخديعتهم، وهم يعرفون هذا.إذاً: وليس الذكر كالأنثى فيما تقوم به هي وما يقوم به هو؟ وحنة تريد ولداً يخدم الله في بيت المقدس بيت الله: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران:36]، ومعنى مريم باللغة العربية الفصيحة: خادمة الله.مريم معناها: خادمة الله، كعبد الله، عبد الله ما هو خادم الله، ويقولون: ماري، يقولون ما شاءوا من لغات مضطربة وداخلها الزيادة والنقص، وحسبنا أن ينطق الله بهذا، لو جاءوا بألف كلمة ما نقبلها، عيسى جاءوا له بأسماء يتخبطون فيها، والله خالق عيسى وأمه قال: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [الصف:6]، أقول: هذا يوجد في الأناجيل وعند اليهود، هذه الأسماء محرفة وفيها التقديم والتأخير والسين شين.. وما إلى ذلك، ولا قيمة لهذا، أم له قيمة؟ أيقول الله ونقبل قول فلان وفلانة، أين يُذهب بعقولنا.

تسمية امرأة عمران ابنتها وتعويذها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم
قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]، تذكرون الحكاية هذه؟ درسناها أربعين سنة، نساؤنا، أمهاتنا، جداتنا، عرفنا هذا وتعرفونه وتجحدون، بمجرد ما يخرج الولد من بطن المرأة: هات الحديدة وضعيها عند رأسه حتى تعوذه من الجن! ما إن يوضع الولد حتى يقال: هات السكينة. ضعوها عند رأسه. هذه المحمدية المسلمة، وهذه اليهودية المؤمنة! انظر الفرق بين هؤلاء وهؤلاء، هذه قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]، والمسلمة الجاهلة: هات الحديدة.. هات السكين ضعيه عند رأسه.إنه الجهل، فلِم نبقى جهالاً؟ أما عندنا نور الله، أما عندنا هداية رسول الله؟ نحن الذين رضينا بهذا الجهل. ويعلقون في عنق الولد خيطاً وفي رأسه حرزاً، وكأن الله لا يعرفونه، ما يسألون الله ولا يتوسلون إليه، لا إله إلا الله، صحيح هذا أو كذب؟ومن قال: ما ندري؛ نقول: هل حكمنا الشرق والغرب واستعمرونا أم لا؟ تنكرون هذا، كيف يستعمروننا ويستغلوننا ويستذلوننا؟ لو كنا كما أراد الله لنا فمستحيل ذلك، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] ، لكن هبطنا وأشركنا بالله، عبدنا كل شيء سوى الله عز وجل، عرفنا الكثير ولم نعرف الله، هذا وضع العالم الإسلامي في قرون الظلام من الثامن إلى أمس، ما ننكر هذه الحقائق. هذه الإسرائيلية امرأة رجل صالح، عالمة هذه، هذه نذرت ما في بطنها بعد الشوق والاحتراق إلى الحمل، لما حصل جعلته لله: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35]، لما حان الحين ووضعتها ووجدتها أنثى تأسفت وتحسرت؛ لأن الأمل فقد في كونها بنتا وليست بولد، ومع هذا لجأت إلى الله وقالت: ربّ إني أحصنها بك وأحصن ذريتها من الشيطان الرجيم، حتى لا يعبث بها الشيطان أو بولدها فيعبد سواك يا رب العالمين، عرفتم هذه التعويذة؟ واستجاب الله لـحنة فتقبلها ربها، استجاب الله لـحنة فحفظ ابنتها مريم ، وحفظ ابنها عيسى، إذ قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا [آل عمران:36] هي ما تدري، قالت: ممكن أن تلد بنتي هذه. وولدت عيسى.

أثر تعويذ امرأة عمران ابنتها وذريتها على عيسى عليه السلام
هذا أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع، يقول صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود ) بصيغة العموم: ( ما من مولود يولد إلا نخس الشيطان في خاصرته فيشهق، إلا ما كان من ابن مريم ) ، عيسى عليه السلام، ما من مولود بمجرد ما يسقط من فرج أمه قبل أن يقع على الأرض، يعلمه ليكون من أتباعه أو من تلامذته، كأنه طابع، ينخسه نخسة، فيشهق الولد، سمعتم هذا أو لا تعرفونه؟ اذهبوا إلى مستشفى الولادة ليعلموكم، ما إن يخرج حتى فيشهق ، لماذا ما زهق أيام كان في بطن أمه؟استجاب الله لهذه المؤمنة الربانية المرأة الصالحة حنة امرأة عمران : ( ما من مولود يولد إلا ينخس الشيطان في خاصرته فيشهق إلا عيسى بن مريم ).

خبر طلب الخليقة من الأنبياء الشفاعة إلى الله تعالى لفصل القضاء ودلالته على امتناع ذرية مريم على الشيطان
وإليكم برهنة أخرى ودليل قاطع من أبي القاسم، ما يقال هذا بالرأي ولا بالهوى:ساعة ما تكون البشرية كلها على صعيد واحد، تنتظر حكم الله فيها إما بالإنعام أو الإشقاء في عرصات القيامة وساحتها، ويطول الموقف، ويطول الزمان، واليوم طويل: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] والله العظيم خمسون ألف سنة! اليوم عند الله في أيامنا هذه بألف سنة، ألف سنة من أيامنا بيوم واحد فقط.الآن نحن أمة محمد لنا يوم ونصف عند الله، من يوم ما وجد نبينا ووجدنا معه إلى الآن يوم ونصف تقريباً فقط، ما كمل يوم ونصف: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، نحن نعد بحساب هذا الكوكب الموجود في هذه القريبة منا.إذاً: فتأتي البشرية إلى آدم: يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا عند الله، يفصل بيننا وينهي هذا الموقوف، طال الوقوف. فيعتذر آدم، ويبعثهم إلى نوح فيعتذر نوح، يبعثهم نوح إلى إبراهيم فيعتذر، يبعثهم إلى موسى فيعتذر، يبعثهم إلى عيسى.محل الشاهد: أن آدم يقول: كيف أكلم ربي وقد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، وأنا نهاني عن أكل شجرة فأكلت، ما عندي وجه أقابل به ربي.نوح يعتذر بهذه الدعوة العامة: أنا دعوت على البشرية كلها بالهلاك، وهذا عيب ما ينبغي، ما أستطيع أن أكلم ربي، أما قال: لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]؟اذهبوا إلى إبراهيم، إبراهيم قال: أنا كذبت ثلاث كذبات، كيف أكلم ربي؟ كم كذب إبراهيم؟ ثلاثا، نفضح أنفسنا أم لا؟ كم كذب شيخكم؟ والله ما أذكر أني كذبت كذبة، لكن لا شك أنني كذبت، هذه دهور، لكن على علم ما عندي، إذاً: ثلاث كذبات، استحى أن يخاطب الله عز وجل، وكذبات إبراهيم خير من صدقنا نحن، عرفتم أم لا؟ كذباته الثلاث خير من صدقنا؛ لأنه كذب لله لا لهواه ولا لدنياه، ولا لشهوة، كذب من أجل الله. قال لـسارة لما أمر الملك الظالم بإدخالها عليه: إن سألك فقولي أخي. حقاً هو أخوها، وقال: لا يوجد على الأرض إلا أنا وأنت، ولكن اعتبرها كذبة لأنها زوجته.الثانية: لما كاد لجماعة الأصنام وجلس، هيا لتخرج معنا عيد الفصح، نظر نظرة في النجوم وقال: إني سقيم، أنا مريض، تركوه، لما ذهبوا مال إلى أصنامهم وحطمها، هذه الكذبة لمن؟ لله أم لا؟الكذبة الثالثة: لما حاكموه وجاءوا به: قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:62-63]، يشير إلى أصبعه الكبيرة.إذاً: كسر بهواً كاملاً من الأصنام: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ [الأنبياء:58]، ترك هذا الكبير الإله الأكبر عندهم! فلما جاء التحقيق قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63]، قالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ [الأنبياء:65]، إذاً: كيف تعبدونهم وهم لا ينطقون؟والشاهد عندنا: أن إبراهيم قال: ما أستطيع أن أكلم ربي وقد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله ولا بعده مثله، وقد كذبت، عليكم بموسى.يأتون موسى، وما ندري أيأتون في ساعة، في عام، في ألف سنة، يا موسى! أنت كليم الله، أنت رسول الله، اشفع لنا عند الله يقضي بيننا ويحكم فينا، ما أطاقوا الموقف حفاة عراة تغلي أدمغتهم، العرق إلى أفواههم، فيقول: وكيف أخاطب ربي وقد غضب، وأنا قتلت نفساً؟ هل قتله عمدا؟ لا أبداً، لا يؤاخذ عليه، مر باثنين يتقاتلان قبطي وإسرائيلي، فاستغاثه الإسرائيلي: تعال يا موسى. فجاء فضرب بجمع كفه فمات، وأعلن عن توبته: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16]، ولكن يقول: عليكم بعيسى روح الله وكلمته، فيأتون عيسى فلا يذكر سيئة، ما يذكر خطيئة، ما عمل خطيئة، كيف؟ ما عاش ثلاثا وثلاثين سنة، بل عاش ستين سنة، سوف يكمل أيضاً ثلاثين أخرى هذه الأيام، تعرفون أم لا؟ والله ليأتين عيسى ويتمم عمره، يعيش كنبينا ثلاثا وستين سنة؟من أخبرنا بهذا الكلام يا أبناء الإسلام؟ رسول الله، ما هي بأحاديث حسان ولا ضعاف، أحاديث كالمتواترة من أنكرها يكفر، من أخبر رسولنا بهذا؟ لقد تلقاه من علم الله ووحيه، عيسى ما يذكر ذنباً قط، استجابة الله لجدته، انظر إلى هذه البركة، هذه المرأة الصالحة دعت دعوة استجابها الله في بنتها وفي ذريتها، عيسى عليه السلام ما أذنب ذنباً قط، محفوظ بحفظ الله؛ لأن الشيطان لا مجال له أبداً عنده؟ ما يقربه، وكيف حالنا نحن مع الشيطان، كل كذبة، كل سرقة، كل عمل سيء هو منه، لا يمكن أن يوجد عمل باطل على الأرض إلا بدعوة إبليس ودفعه، فمن قاومه ولجأ إلى الله في صدق واستعاذ به ولم يترك ذكر الله أبداً لا يقوى الشيطان عليه، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً غير فجه، تعرفون الفج أم لا؟ الشارع الواسع، أما الضيق فلا يمكن، الواسع لا يمشي معه فيه، يحترق، كيف حصل عمر على هذا؟ بطهارة روحه، ما أصبح الشيطان يجد مكاناً لأن يدخل فيه، تحرقه أنوار قلبه.إذاً: قالت عليها السلام: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]، استجاب الله لها أم لا؟عيسى ما ذكر ذنباً، قال: ( عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنا لها، أنا لها ) عندي موعد سابق، ما ذكر ذنباً ولا غيره، قال: أنا لها؛ لأن الله أعطاه هذا وعلمه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، هذا هو، يحمده عليه أهل الموقف أجمعون، (أنا لها)، قال: ( وآتي فأخر ساجداً تحت العرش فيلهمني ربي محامد أحمد الله بها، وأثني عليه بها، ولا أزال كذلك حتى يقول لي: يامحمد! ارفع رأسك، وسل تعط واشفع تشفع )، فصلوا عليه وسلموا تسليماً.اسمع الصديقة ، تقول لك: في ليلة شاتية من ليالي البرد في المدينة، أيام كان البرد له معناه، ما هناك مكيفات ومدفآت، قالت: ( التمست رسول الله في فراشه فلم أجده -في تلك الليلة الباردة المظلمة- فبحثت عنه فوجدته قد اغتسل بالماء البارد، وهو يصلي ويبكي ودموعه تسيل على الحصير، فقلت: أي رسول الله! وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة ! أفلا أكون عبداً شكوراً )، اسمع: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114-115] الآية، حتى قال له: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79]، التهجد إزالة الهجود وهو النوم والسكون، نافلة، عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، بعثه أم لا؟ هو هذا المقام يحمده عليه أهل الموقف كلهم، ثم يأخذ الله عز وجل في فصل القضاء فيكون الميزان والصحف تتطاير وأهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.

ذكر بعض ما يعاذ به الأطفال من التعويذات النبوية
قالت: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36].عرفتم بم نعوذ أطفالنا أم لا؟ بالصالحين؟ بتراب مولاي فلان؟ اسمعوا هذه التعويذة، عوَّذ بها إبراهيم إسماعيل وهو صغير، ووصلت إلى أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فعوَّذ بها الحسن والحسين ، ووصلتنا الآن فنعوذ بها أولاد المؤمنين، لكن لا أفتح الباب لكل واحد يأتي بابنه يقول: يا شيخ عوُّذه لي، نعم الآن كل واحد يأتي بالماء والشيخ يرقي، احفظوها وعوذوا بها أولادكم وأولاد المؤمنين: ( أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة )، ضع يدك على رأس الغلام أو الفتاة: ( أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة ) ثلاث مرات، يحفظ بإذن الله، (أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة) الهامة الحيوانات القاتلة، (ومن كل عين لامة)، أي عين هذه؟ عين الحسود التي تدخل الجمل القدر والرجل القبر.( أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة ) قال: هذه عوذ بها إبراهيم إسماعيل، وهو يعوذ بها الحسن والحسين ، وعوذوا بها أنتم أولادكم وأولاد المؤمنين.هكذا ضع يدك اليمنى على رأس الغلام وقل: ( أعيذكَ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة )، وإن كانت بنتاً: ( أعيذكِ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة )؛ لأنك تخاطب أنثى: (أعيذكِ)، والولد: (أعيذكَ).وأما جمع مجموعة ليرقيهم مرة واحدة فلا، بل كل واحد تضع يدك وترقيه، هذه فكرة جديدة، بعض الطلبة يأتي بكذا إناء ويقرأ عليها مرة واحدة وينفث، أنا ما تطيب نفسي لهذه، كل واحد ترقيه على حدة.

تفسير قوله تعالى: (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا...)
قال تعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37].قوله: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آل عمران:37] تقبل مريم بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آل عمران:37].أولاً: لما ولدتها لفتها في القماطة، والقماطة خرقة بيضاء نظيفة يلف فيها الولد قبلما يكون له ثوب ولا سروال، لفتها في قماطتها وبعثت بها إلى مجتمع صلحاء بني إسرائيل، قالت: هذه نذيرة الله ليس لي فيها شيء، وتنافس الصلحاء من يكفلها لا لأنها تدر عليه الرزق ويحصل على المال بل لإنها يتيمة أبوها مات ما ترك لها شيئاً، فمن يكفلها، تنازعوا كل يقول: أنا، يريد أن يظفر بهذه النذيرة؛ لأنها نذيرة الله لتتربى في بيته، فلما أخذها زكريا استأجر لها ظئراً سنتين على حسابه، استأجر لها مرضعاً عامين كاملين، هكذا يقول ابن عباس ، فلما أراد كل أن يأخذها قالوا: الحل الوحيد القرعة، والقرعة العوام يعرفونها في البدو والحضر وطلبة العلم يعرفونها، وهي: الاستهام، هاتوا أقلامكم، هات يا زكريا قلمك الذي تكتب به. هات يا فلان قلمك، هذه الأقلام ما هي أقلام أدبائنا اليوم ولا أقلام رجالات الصحافة.وقد عثرت اليوم على ورقة على قدر كفي في البيت، ووجدت فيها كاتباً صحافياً جزائرياً يقول: الشيخ الجزائري أثبتوا له التابعية وطرد.وذلك لأنهم لما قال الهابطون الروافض: يا سعودي يا يهودي، ركبنا السيارة، فطلع في السيارة مداح بالدف ومنشد يجمعون الفلوس بالأغاني، وهذه عادة قديمة ما زالت في بلاد العرب.. من مظاهر الهبوط عرفناها يتغنون بسب الملك سعود رحمة الله عليه بنسبته لليهود. أهذه أقلام الإيمان والإسلام؟ أهذه الأقلام لها قيمة؟ لا والله بل أقلام تكتب الباطل والكذب، ونحن أتباع محمد كما تعرفون لا نقول الكلمة حتى نزنها ونقدرها ونعرف أتنفع أم تضر، فإن كانت حقاً تنفع قلناها، وإن كانت تضر والله ما نقولها: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، حدثت بهذه الكلمة ففهموها على العكس وقالوا: الشيخ الجزائري طرد من المملكة وسحبت منه التابعية.. وجدتها في صحيفة. فأين يذهب بنا؟ صلحاء بني إسرائيل علماء ربانيون يتنازعون أيهم يكفل مريم؟ من يفوز بها؟ فلما تنازعوا فيها وكل رغب في أن تكون في بيته ألجأتهم الحال إلى الاقتراع، هاتوا أقلامكم.. وهل أقلامهم كانت تكتب الباطل.. تكتب الشر.. تدعو إلى الفجور إلى الكذب إلى الفتن؟ لا والله، صلحاء، ومن هنا جمعوها وقالوا: نطلقها قلماً بعد قلم، والقلم الذي يقف في الماء ولا يغرقه الماء ذاك الذي يفوز بها صاحبه. أخذوا الأقلام: ارم القلم يدحرجه الماء، ارم القلم يعبث به الماء في النهر، رموا بقلم زكريا فوقف، الله أكبر! خذها يا زكريا. من الذي كفله إياها؟ الله: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، قراءة سبعية: (وكفَلَها زكريا) أيضاً؛ لأن زكريا تحته خالتها أخت أمها، زكريا امرأته أخت حنة ، وهذا تدبير الله.

معنى قوله تعالى: (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً...)
قال تعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا [آل عمران:37].كبرت وارتفعت وأصبحت تأكل وتشرب وأصبحت تستطيع أن تعبد الله، بعد أربع أو خمس سنين ماذا يصنع زكريا وهي نذيرة لله، فما كان منه إلا أن وضعها في المحراب، المحراب عبارة عن مقصورة لاصقة بالمسجد وبابها مفتوح إلى المسجد ويصعدون إليها بدرجتين أو ثلاث، يتعدد فيها العباد، وضعها هناك تعبد الله عز وجل إذ هي لله لا يحل لها أن تكنس ولا أن تطبخ ولا أن تعطي، مهمتها أن تعبد الله عز وجل.فكان عليه السلام يأتيها بالطعام والشراب من بيته، يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الصيف والشتاء، عجب، الآن اختلط الأمر وأصبحت الفواكه في كل وقت، هيأ الله أسبابها، قبل سبعين سنة لا يمكن أن تجد طعام الشتاء في الصيف.المهم: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا [آل عمران:37] تجيبه قائلة: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37]، كيف لك هذا؟ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37]، وتعلل فتقول: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37].رأيت اليوم أحد المفسرين يحاول أن ينكر هذه الحقيقة، قلنا: هذا خبيب مسجون في مكة في بيت امرأة ينتظرون إعدامه خارج الحرم، فكانت المرأة تحلف بالله أنها كانت تجد عنده العنب في الشتاء يأكله، من أين هذا؟ ما هو بنبي، هذا خبيب .ويدل لهذا أن زكريا لما شاهد العجب قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران:38].كان يظن أن سنة الله ما تنخرق، ما دام شيخًا كبيرًا وامرأته عقيم وهو عاقر فما هناك ولد، ولما شاهد العجب: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].لما شاهد قال: إذاً لله تعالى أن يعطي ما يشاء، لا قيمة للسنن أبداً عند الله، يخرقها ويبطلها.ونترك هذا للدرس القادم إذا عشنا إن شاء الله.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-21, 11:36 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (9)
الحلقة (150)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة آل عمران (17)



كان زكريا نبياً من أنبياء الله امتد به العمر ولم يرزقه الله الذرية، وقد كان كفل مريم بنت عمران عليهما السلام ورباها في كنفه، ولما كان يرى الكرامات التي يحف بها الله مريم علم أنه ما من شيء يمنعه من سؤال الله أن يهبه ذرية صالحة، فقام في المحراب متوسلاً إلى الله رافعاً أكف الضراعة، فما برح أن بشرته الملائكة بأن الله وهبه يحيى وجعله سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سابق عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.أولاً: نسمعكم الآيات التي درسناها ثم نذكر هدايتها، وبعد ذلك ننتقل إلى درس اليوم.لنصغ ونستمع وسوف تلوح لكم أنوار تلك الهداية وتعرفون مصادرها من هذه الآيات التي هي كالكواكب النورانية، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:33-37].درسنا هذا، وعرفنا كيف اصطفى الله آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، وعرفنا عن حنة أم مريم وكيف تاقت نفسها للولد وكانت لا تلد، فنذرت لربها أن يرزقها ولداً وتجعله له لا تأنس به ولا يخدمها، فتهبه لله يعبد الله، كل ما في الأمر أن تلد ولداً، واستجاب الله، وحملت بـمريم، ومات بعلها عليه السلام وولدت مريم، وسمتها مريم أي: خادمة الله، ما إن وضعتها لفتها في قماطها، ثم بعثت بها إلى صلحاء بني إسرائيل، فأيهم يظفر بأن تتربى هذه النذيرة في بيته، فاختلفوا وتنازعوا كل يريدها، ثم ألهمهم الله رشداً وهو القرعة، ففاز بها زكريا بالقرعة، تدبير الله؛ لأن زكريا تحته خالتها أخت حنة، ففاز بها زكريا، قال تعالى: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، زكريا عليه السلام سيأتي ما منَّ الله به عليه.

هداية الآيات
قال المصنف غفر الله لنا وله: [هداية الآيات: من هداية الآيات] أي: التي سمعنا تلاوتها.

إفضال الله تعالى على من يشاء من عباده
قال: [ أولاً: بيان إفضال الله تعالى وإنعامه على من يشاء ] من عباده، فالله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين إفضال وإنعام وإحسان منه، وقد أنعم علينا وأحسن إلينا وآتانا ما لم يؤت غيرنا، إلا أننا ناسون أو غافلون. اذكر ما أفضل الله عليك من الآلاء والنعم لتشكره وتحمده وتقول: الحمد لله.

إثبات عبودية عيسى لله تعالى وحده
قال: [ ثانياً: بيان أن عيسى عليه السلام ليس بابن لله، ولا هو الله، ولا هو ثالث ثلاثة ] كما يعتقد النصارى [ بل هو عبد الله ورسوله، أمه مريم ] عليها السلام [وجدته حنة وجده عمران من بيت شرف وصلاح في بني إسرائيل ].أين فهوم النصارى وعقولهم؟ يسخر منهم اليهود ويستهزئون بهم ويصورون لهم هذا التصوير الباطل؟! عيسى عرفنا أمه، مريم أمه عرفنا أباها وأمها، فكيف يكون ابن الله؟ الذي يقول للشيء: كن فيكون يحتاج إلى ولد؟! أين زوجة الله؟! والتزوج يكون بالتجانس بالجنس، والله ليس كمثله شيء، فكيف تكون له زوجة من البشر؟ أين عقول البشر؟ أين يهبطون؟ الحيوانات تفوقهم وتعلو فوقهم، يسخر منهم اليهود، انتقموا منهم فحولوهم إلى وثنيين مشركين يعيشون على عقيدة يسخر منها الإنس والجن.

استجابة الله تعالى لدعاء أوليائه
قال: [ ثالثاً: استجابة الله تعالى لدعاء أوليائه ] أولياء الله إذا رفعوا أكفهم إليه والله لا يردها صفرًا خائبة أبداً[ استجابة الله تعالى لدعاء أوليائه كما استجاب لـحنة ورزقها الولد، وأعاذ بنتها وولدها من الشيطان الرجيم ].أما قالت: أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]؟! فحفظ الله مريم حفظاً لا نظير له.واذكروا لما جاء جبريل يريد أن ينفخ في كمها: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:18-20]، هذه العذراء البتول، هذه مريم خادمة الله حفظها الله من أن تذنب ذنباً بدعوة حنة أمها، وولدها عيسى كما علمتم لم يقارف ذنباً قط، حفظ من؟ حفظ الله، وفي هذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود يلد أو يولد إلا ينخس الشيطان في خاصرته إلا ما كان من ابن مريم )، استجابة الله لها.

مشروعية النذر واختصاصه بالله تعالى
قال: [رابعاً: مشروعية النذر لله تعالى، وهو التزام المؤمن الطاعة تقرباً إلى الله تعالى ].النذر مشروع لكن لمن؟ ليس لسيدي عبد القادر .. مولاي إدريس.. رجال البلاد.. سيدي إبراهيم، لمن النذر؟ لله، إخوانكم وآباؤكم وأجدادكم طيلة خمسة قرون أو ستة ما يعرفون النذر لله، ينذرون للأولياء والصالحين، يا سيدي فلان إذا ولدت امرأتي ولداً أفعل لك كذا وكذا، كأنهم لا يعرفون الله، إيه ما يعرفون، من عرفهم بالله؟ سلوهم، هل جلسوا جلسة كهذه؟ والله ما كان، من أين يتعلمون؟ أيوحى إليهم؟ أهملهم الحكام والمسئولون وأضاعهم العلماء فتاهوا في أودية الضلال، فهم ينذرون لغير الله، لمن نذرت حنة لله وإلا لسيدها إبراهيم أو جدها إسحاق أو يعقوب؟ لمن نذرت؟ لله، إني نذرت لله، النذر أصله تملق وتزلف إلى الله عز وجل، لله علي أن أصوم هذا الشهر بكامله، لم؟ ليحبني ليرضى عني ليقضي حاجتي، لله علي ألا أنام بعد هذه الليلة أسبوعاً كاملاً أعبد الله في الليل، لم أتيت بهذا النذر يا عبد الله؟ أتزلف إلى الله، أتقرب إليه ليحبني ويرضى عني ويحقق ولايتي، أما أن ينذروا لسيدي فلان وفلان يشركون بالله غيره في عبادته وتتعلق قلوبهم بغير ربهم؛ فما السبب؟الجهل، ما درسنا كتاب الله، نقرؤه على الموتى فقط، ما درسنا سنة رسول الله، نقرؤها للتبرك بها لا للعلم ولا للعمل، طيلة ثمانمائة سنة تقريباً، كيف نعلم؟ وإلى الآن هل أفقنا؟ هل صحونا؟ مررنا الآن بقرب المسجد والأولاد يلعبون والأطفال والصياح بالألاعيب كأننا في لندن أو في تشيكوسلوفاكيا؛ لأن أولئك أولادهم ونساؤهم وأطفالهم لا يعرفون الله، آيسون قانطون، إذا فرغوا من العمل أو جاء يوم الراحة ماذا يصنعون؟ يذكرون الله؟ ما عرفوه، ماذا يصنعون؟ يلعبون على البغال والحمير والصياح والضجيج، هذه حالهم، فهل نكون نحن مثلهم؟نحن ننادي بأعلى أصواتنا: أيها المسلمون إذا دقت الساعة السادسة ائتوا بنسائكم وأطفالكم إلى بيوت ربكم، وتعلموا الكتاب والحكمة؛ لأنكم أمة ممتازة تتأهلون إلى السماء واختراقها للنزول بدار السلام، لستم كاليهود ولا النصارى ولا المشركين، ولكن كما قال الشاعر:لقد أسمعت لو ناديت حياًولكن لا حياة لمن تنادينحن ربانيون أولياء الله، إذا فرغنا من العمل الدنيوي الضروري للإبقاء على حياتنا نفزع إلى بيوت ربنا نناجيه نتملقه نتعلم الهدى والسير إليه، فيقل الشر والشره والطمع والتكالب على الدنيا والأوساخ والقاذورات والجرائم والموبقات، قالوا بلسان الحال: لا لا. دعنا نلعب ونفرفش.أنا أبكي من هذه البربرية، والله الذي لا إله غيره لن يستقيم أمر هذه الأمة إلا أن تعود إلى هذا المنهج المحمدي، يوم ملكت كل شيء، لن تطيب ولن تطهر ولن تصفو ولن تكمل ولن تسود ولن تسعد إلا أن تعود إلى منهج الله عز وجل، تملك ما تملك وتزداد بعداً عن الله وهبوطاً إلى الحضيض، هل سنة الله تتبدل؟ هل أصبح الطعام لا يشبع، تغيرت السنة؟ لا والله، أصبحت النار ما تحرق؟ تبدلت سنة الله؟ أصبح الحديد لا يقطع؟ مستحيل، إذاً: فلن تصفو النفوس ولن تزكو الأرواح إلا على الكتاب والحكمة، كيف نتلقى هذا؟ نتلقاه في بيوت الله من أولياء الله، إعراض هكذا هيهات هيهات أن تكمل هذه الأمة أو تسعد وهي كل يوم تهبط إلى الحضيض، والفتن تغشاها وتحل ديارها في الشرق والغرب، متى نفيق؟

فضل الذكر على الأنثى في النهوض بالأعمال والواجبات
قال: [ خامساً: بيان فضل الذكر على الأنثى في باب النهوض بالأعمال والواجبات ]. تأسفت وتحسرت حنة : رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ [آل عمران:36] هي لا تخبر الله، والله أعلم بما وضعت، ولكن متحسرة: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36] ماذا تشغل هذه البنت؟ أرادت رجلاً يجاهد يؤم الناس يهدي البشرية، على الأقل يصلح المسجد المقدس، لكن البنت ماذا تصنع؟ تتكلم مع الرجال حرام، كيف تعمل؟ عرفت الحقيقة أم لا؟ ليس الذكر كالأنثى في باب التكاليف والنهوض بالواجبات والقيام بالدعوة إلى الله، هذا وجه تحسرها؛ فلهذا في هذه الآية بيان فضل الذكر على الأنثى في باب النهوض بالأعمال والتكاليف والواجبات.

جواز التأسف على فوات الخير
قال: [ سادساً: جواز التحسر والتأسف ] كما تشاهدون نتأسف ونتحسر ونبكي، جائز [ جواز التحسر والتأسف لما يفوت العبد من الخير الذي كان يأمله ].ويرجوه ويريد أن يحققه، تأسفت حنة وتحسرت أم لا؟ كانت ترجو أن يكون في بطنها ذكر فإذا به أنثى.

إثبات كرامات الأولياء
قال: [ سابعاً: ثبوت كرامات الأولياء كما تم لـمريم في محرابها ].كرامات الأولياء من يكرمهم بها؟ الله وليهم ومولاهم يعطيهم العجائب، مريم في المقصورة في المحراب في المسجد يدخل زكريا بطعامها يجد الملائكة سبقته فبين يديها الطعام والشراب، أَنَّى لَكِ هَذَا [آل عمران:37] يا مريم، هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37].جيش محمد صلى الله عليه وسلم في سرية سيف البحر خرجوا بمائة من التمر فأصبح قائدهم يوزع عليهم تمرة تمرة في كل يوم، يلوكونها ساعة يمتصونها وتبقى النواة في أفواههم، ورفعوا أيديهم فرمى الله تعالى إليهم بحوت لم تر الدنيا مثله على ساحل البحر، أخذوا يأكلون اللحم ويستظلون تحت عظامه، آية الله وكرامته.و خبيب مسجون في بيت بمكة أيامًا، المشركون حكموا عليه بالموت، قالوا لامرأة: اتركيه عندك حتى نأخذه يوم يجتمع الناس، تدخل على خبيب فتجده يأكل العنب في الشتاء، عجب هذا، خبيب استشهد أم لا؟ صلبوه، قتلوه على الأعواد خارج الحرم، لما وضعوه على الأعواد جاءه رئيس مكة أبو سفيان رضي الله عنه في ذلك الوقت فقال: اذكر محمدًا فقط هنا بسوء، سبه الآن نطلقك، اذكر آلهتنا فقط والناس يتفرجون ويسمعون، اذكرها بخير الآن نطلقك لتعود إلى أهلك، قال: لا أحب أن يشاك محمد بشوكة وتطلقونني، قال: إذاً اسمحوا لي أن أصلي ركعتين أودع الحياة، فقالوا صل، لو كان جماعتكم اليوم أيها العرب والله ما يسمحون له، إلا من رحم الله، نعم في ديارنا هذه، بل يطلبون منه أن يصلي أولاً والحمد لله. صلى ركعتين وما أطال، خفف، لم؟ قال: خشيت أن تقولوا: خوفاً من الموت يطول في الصلاة، ولولا هذا القول لكنت مددتها؛ لأني أناجي ربي.إذاً: [ثبوت كرامات الأولياء كما تم ] ذلك [ لمريم عليها السلام في محرابها].

تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
قال: [ ثامناً: تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ] إثباتها وتقريرها [ إذ مثل هذه القصص لا يتأتى لأمي أن يقصه إلا أن يكون رسولاً يوحى إليه ].مستحيل أن يتكلم عربي في مكة أو في يثرب أو في أي مكان عن تاريخ بني إسرائيل قبل سبعمائة سنة، ثم لا يستطيع يهودي ولا نصراني أن يرد كلمة، كيف يتم هذا؟ ممكن؟ مستحيل، إلا أن يكون وحي الله ينزل عليه، أو ما فهمتم هذا؟كيف عرفت أن محمداً رسول الله؟ كيف شهدت على أنه رسول الله؟ بماذا؟ كيف يتحدث بهذه الأنباء، بهذه الأخبار الصادقة؟ من أين تأتيه؟ لولا أنه وحي الله يوحى إليه، أكبر آية على نبوته صلى الله عليه وسلم، والله قال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف:3]، وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120]؛ فلهذا قلنا: تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ مثل هذا القصص لا يتأتى لأمي لا يقرأ ولا يكتب أن يقصه إلا أن يكون رسولاً يوحى إليه. [ ولهذا ختمه بقوله: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ [آل عمران: 44]. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ [آل عمران:44] أخبار الغيب العظيمة، نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمران:44]، قولوا: آمنا بالله.

تفسير قوله تعالى: (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة...)
الآن مع هذه الآيات الأربع التي نريد دراستها إن شاء الله، إليكم تلاوتها وتأملوا؛ لأنكم تدرسون كتاب الله والرحمة قد غشيتكم، يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:38-41].قوله: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38]، بعض طلبة العلم يقولون: الشيخ لا يأتي بالتجويد، والتجويد لا يدع العوام يفهمون وهو ليس بفريضة. ومقولة: (من لم يجود القرآن آثم) ما قالها رسول الله ولا مالك بن أنس، ولكن معناها: اللحن في كلام الله حرام، (سبحانه) يقول: سبحان، حرام عليه، لكن إذا نطق بالآيات كما هي على لغة العرب واضحة بينة فلا حرج أبداً؛ لأن بعض الطلاب قد يقولون: الشيخ لا يجود القرآن، فقطعنا عليهم الطريق فنحن نريد البيان والإفهام والتعليم.

ذكر سبب دعوة زكريا وطلبه من الله الولد
هُنَالِكَ [آل عمران:38] أين هذا؟ الله أكبر! لما وجد زكريا مريم تأكل فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء: أين الفواكه في هذا الصيف؟ قالت: من عند الله، قال: إذاً: ما هناك مستحيل على الله، أنا كبير السن وامرأتي عاقر يعطيني إذاً، أليس قادرًا على أن يوقف السنن أم لا؟أما أوقف النار على إبراهيم، نار أججت أكثر من أربعين يوماً حتى علت السماء، ومع هذا لما صدر أمر الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، لولا قوله: وَسَلامًا [الأنبياء:69] لمات بالثلج، لتحولت إلى ثلج كامل، أبطل هذه السنة أم لا؟ الحديد يقطع، وضع على عنق إسماعيل فهل قطع؟ ما قطع، أوقفه الله عز وجل.إذاً: هنالك تنبه زكريا وهو رسول الله ونبيه، عرف أنه كبر سنه وامرأته عقيم وهو عاقر، لكن لما شاهد أن السنن أوقفها الذي وضعها هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38] سأله: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].

توسل زكريا عليه السلام بأسماء الله تعالى وصفاته
توسل إلى الله بماذا؟ بسيدي يعقوب.. بنبي الله إسحاق؟ توسل بماذا؟ توسل بأسماء الله وصفاته إذ قال: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، تملقه بذكر هذه الصفة له، ما قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة بجاه نبيك وخليلك إبراهيم وهو جده.ونحن من أين جاءنا بجاه السيد فلان؟ من الثالوث؛ ليصرفونا عن التوسل النافع ويحملونا على توسلات باطلة، لو تبقى طول حياتك: اللهم إني أسألك بجاه فلان، أعطني بحق فلان، الملائكة تسخر منك، بهلول أنت؟! تطالب بماذا؟ ما تعطى بهذه التوسلات، تعلم كيف تتوسل إلى الله، قم في آخر الليل واغتسل والجو بارد وابك بين يدي الله وصل واطلب تعط، أما أن تقول: أعطني بحق فلان فبمن تستهزئ؟يروى عن أبي حنيفة النعمان رحمه الله: أن هذا من الكفر، والذي يتأمل وكل واع يفهم، بدل أن تقول: اللهم إني أسألك من فضلك.. من جودك.. من كرمك، يا أكرم الأكرمين يا أرحم الراحمين يا رب العالمين أعطني كذا؛ تقول: أعطني بحق فلان عليك! أعوذ بالله، من هذا الذي له حق على الله؟ في الملكوت الأعلى وفي الأرض هل هناك من له حق على الله، وما تستحي أن تقول له: إذا لم تعطني أنت أعطني من حق فلان؟ أعوذ بالله، فهمتم هذا أم لا؟ علماء في هذه الأمة لما هبطت يعتقدون هذا الاعتقاد، أعطني بحق فلان، أوما فهمتم؟أليس من الأدب أن تقول: أعطني من فضلك أم لا؟ من إحسانك يا رب.. من جودك.. من كرمك، أما أن تقول: أسألك بحق فلان؛ فالمعنى باللغة العامية: إذا لم تعطني من عندك أعطني من حق فلان عليك، هذا يواجه به الله؟! يمسخ العبد ويكفر، ومع هذا يفعل ذلك الناس، إلى الآن ما زالوا غافلين ونائمين.بم توسل زكريا؟ بقوله: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38] وقد دعوتك وأنت السميع فأعطني.

تفسير قوله تعالى: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ...)
قال تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39] نادته الملائكة بصوتها وسمعه وفهمه؛ لأنهم نادوه بلغته التي يعيش عليها بين أمه وأبيه، الملائكة نادته وهو أين؟ في المقهى.. على سرير النوم؟ وهو قائم يفعل ماذا؟ يصلي، أين؟ أمام الناس؟ لا، في المقصورة؛ لأن المحراب في لغة بني إسرائيل البيت الملتصق بالمسجد، انتبهتم؟ غرفة يصعد إليها بدرجتين عند المسجد تابعة له، يتعبد فيها المتعبدون. فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39]، ماذا قالت له؟ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39].أول اسم وضع في الدنيا، لم تسمع البشرية باسم يحيى هذا الأول وسموا أنتم بعده، يحيا لا يموت، فيه معنى الحياة، أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39] والبشارة الكلمة السارة المفرحة التي يتهلل لها البشر بالوجه والطلاقة. ‏

معنى قوله تعالى: (مصدقاً بكلمة من الله)
يبشر بماذا؟ بيحيى، ما وصفه؟ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:39]مصدقاً، هو يصدق بكلمة من الله قد أنكرها غيره وهي عيسى عليه السلام، عيسى من أسمائه: كلمة الله، لم سمي: كلمة الله؟ لأنه وجد على غير سنن الولادة في البشر، وجد بكلمة الله: (كن) فكان، فسمي عيسى بكلمة الله، يحيى يكبر إن شاء الله ويولد عيسى من مريم وينكر اليهود كلهم ويكذبون ويقولون: زانية، وهو يصدق به، بشارة قبل أن تقع الأسباب كلها.

معنى قوله تعالى: (وسيداً)
قوله: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا [آل عمران:39] ويكون سيد الناس. هل سيد يملك الناس؟ ما معنى سيد؟ (سيداً) معناها: أنه يدعو إلى الله، يهدي البشرية، يزكي أرواحها، يهذب أخلاقها، يساعد على طيبة الحياة وسعادتها بدعوته وكماله، إذ علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بأن من خدمك فقد ساد عليك فقال: ( خادم القوم سيدهم )، من سيدنا؟ خادمنا، لم؟ لأننا احتجنا إليه وافتقرناه وعجزنا وهو يسقينا ويطعمنا، ويوقف السيارة لنا عند بابنا، أصبح سيدنا أم لا؟ أحببنا أم كرهنا.ومن هنا قيل لأحد الأعراب في قبيلة من القبائل: بم ساد فيكم فلان يا بني عوف.. يا بني خالد.. بم ساد فيكم فلان وأصبح سيدكم؟ قال: احتجنا إليه واستغنى عنا. وهذا هو السيد، أليس الله هو السيد؟ ( إنما السيد الله )، ما وجه ذلك؟ الخليقة كلها مفتقرة إليه وهو مستغن عنها غنى مطلقاً، ساد أم لا؟ سيد القوم خادمهم، من وضع هذه القاعدة؟ رسول الله، سيد الحكماء وأستاذهم، أوما فهمتم هذه؟الذي يخدمك هو سيدك، فلهذا تطلق على العبد: سيدي خادمي، الله أكبر! إذاً: كيف ساد بني إسرائيل؟ بالدعوة والإصلاح والخدمة لوجه الله تعالى، ما هو كسول ولا جهول ولا ظالم ولا طماع يأكل أموال الناس، عرفتم؟ بشره بأنه سيد.

معنى قوله تعالى: (وحصوراً)
قوله: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا [آل عمران:39] عازفاً عن شهوات النساء والقاذورات وأوساخها، وليس معناه أنه لا يأتي النساء، بل معصوماً ما يتلقاه ويقع فيه عامة الناس. ولهذا قال المفسرون في الحصور أقوالاً كثيرة: منها: أنه كان معصوماً من الفواحش والقاذورات، وهو كذلك، وليس معنى ذلك أنه ممنوع من تزوج النساء للإنجاب والزواج الحلال. وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39]نبياً ينبئه الله وهو نبي ورسول أيضاً.وهل تسمعون عن عجائب بني عمكم اليهود؟ قتلوا زكريا وقتلوا يحيى، شهيدان، والعرب والحمد لله ما قتلوا نبياً، والله ما قتلوا نبياً، وأما اليهود فورد أن زكريا ويحيى قتلوهما وعيسى ادعوا أنهم صلبوه. لما حاصرته الشرطة ليخرجوه ما خرج، دخل قائد الشرطة فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى كأنه هو، فاقتحموا وأخذوه وقيدوه باليدين وخرجوا به، وعيسى رفعه الله من الروزنة، وصلبوا رئيس شرطتهم، والذي يشك يسأل النصارى: الصليب في أعناقهم لماذا؟ وهذه من المهازل! إله رب يصلب ويقتل ويعلق صليبه في عنقه، مجانين هؤلاء، عميان هؤلاء، ماذا أصابهم؟ الناس يعبدون حجرة لينتفعوا بها مثلاً، أما هذا فمصلوب مقتول ويعطيك ويمنعك من الشر؟ أين يذهب بعقلك؟ من فعل هذا بالنصارى؟ بنو عمنا اليهود، حولوهم إلى وثنيين، ما إن انتشرت دعوة عيسى في الحواريين وخرجت من فلسطين إلى ضفاف شرق أوروبا ودخلت في بلاد الروم، سبعين سنة فقط عبد النصارى الله عبادة شرعية ربانية، ما إن انتهت السبعين حتى جاء أكبر قس شيطاني يهودي وادعى النصرانية ودخل معهم وأفسد عليهم دينهم، وفعلوا هذا بنا، بدل ما كنا على مذهب رسول الله وأصحابه أصبحنا مذاهب، كنا جماعة واحدة فأصبحنا جماعات، كنا دولة واحدة فأصبحنا دويلات، من فعل هذا؟ اليهود، لم تعملون هذا يا بني عمنا؟ لأنكم سلبتمونا السيادة والقيادة وفزتم بها، لن نسمح بها، هذا لنا ليس لكم، نجحوا أم لا؟ أما أوجدوا دولة بني إسرائيل وها نحن نعترف بها أم لا؟ نجحوا أم لا؟ نجحوا، ولولا حماية الله لكنا الآن تحت أرجلهم، وهم قادرون على هذا لأننا نحن مرضنا وهبطنا، نسينا الله وما عرفناه، أما ننزل إلى الأولياء والقبور؟ يكفي، لا إله إلا الله، من حول القرآن عن هذه المجالس الربانية إلى الموتى؟ أصابعهم وتخطيطاتهم.

معنى قوله تعالى: (ونبياً من الصالحين)
قال: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39].نبي ومن الصالحين أيضاً، هذه بشرى لكم، من هم الصالحون؟ موكب من أربعة مواكب هو الأخير في آية من سورة النساء، يقول تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، كم موكبًا؟ أربعة، هناك موكب خامس؟ لا، نبي صديق شهيد صالح، قال أهل العلم: أتدرون من الصالح؟ الصالح من أدى حقوق الله كاملة لم يبخس منها حقا ولم ينقصه، وأدى حقوق العباد كذلك كاملة لم يبخس ولم ينقص، ذلكم العبد الصالح، والذي ينقص حقوق الله ويسرقها ويعبث بها لن يكون صالحاً، والذي يأخذ حقوق الناس ولا يعترف بها لن يكون صالحاً، الصالح: من أدى حقوق الله وحقوق عباده، ما نقص منها ولا بخس، ذلكم العبد الصالح، اللهم اجعلنا منهم.

تفسير قوله تعالى: (قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر...)
قال تعالى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ [آل عمران:40] تجاوز الثمانين أو المائة. وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران:40] والعقر هو القطع، عقر الناقة، كأن التي ما تلد قطعت رحمها، أصبحت عاقرًا، عقرته فهي عاقر، عقر الناقة: قطع عنقها.إذاً: كيف قال زكريا هذا؟تقول الأخبار السليمة الصحيحة: لما بشرته الملائكة وهو يصلي جاءه أبو مرة، تعرفونه؟ إبليس: إيه يا زكريا! هذا الشيطان يضحك عليك، ويبشرك بغلام كذا وكذا وأنت شيخ كبير وامرأتك عاقر، أين يذهب بعقلك يا زكريا؟ يفعل إبليس هذا أم لا؟ أو ما يستطيع؟ أما فعله مع الخليل أبي الأنبياء إبراهيم؟ لم ترمون الجمرات الثلاث؟ تلك مواقفه، لما رأى إبراهيم الرؤيا بأن يذبح إسماعيل تقرباً إلى الله وتزلفاً، وخرج به استقبله في جمرة العقبة: أين تذهب يا إبراهيم؟ تذهب بهذا الطفل تذبحه! حاشا لله أن يأمرك بهذا، ما حاجة الله بذبح هذا الطفل أو الغلام، أمه تتحسر في بيتها، كيف هذا؟ وعرف إبراهيم فرجم الشيطان، ثم مشى كيلو متر: يا إبراهيم! أين يذهب بعقلك؟ تذبح ولدك؟ الله بحاجة إليه؟ راجع نفسك، هذه رؤيا منامية من الشيطان. فرجمه، حتى الجمرة الثالثة تعرفونها أم لا؟ ثم آيس إبليس قنط، وعرف أن إبراهيم صَلْب، وبالفعل تله للجبين ليذبحه، وإذا بنداء الله: يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:105]، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، كبش لم تر الدنيا نظيره، اترك هذا وخذ هذا.فلا عجب أن الشيطان جاء لزكريا يفتنه: هذا الذي ناداك شيطان فقط، أو جان من الجن، أبداً ما هو بملك، من أين الملك؟ كيف هذا؟إذاً: هنا قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]، هو راجع ربه في ندائه ومناجاته.

تفسير قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً...)
قال تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران:41] أعطني آية وعلامة كالشمس حتى أحرج العدو الذي يكذبني اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [آل عمران:41]، لن تستطيع أن تتكلم، ثلاثة أيام وهو يرمز، وذكر الله على لسانه أعلى من صوته، لا إله إلا الله! يذكر الله: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، رب اغفر لي، رب ارحمني، ويعجز أن يقول: يا أم فلان أعطيني الماء، والله ما يقدر، سبحان الله! ليس هناك علامة وآية أكثر من هذه آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [آل عمران:41] سوياً، في آية مريم: ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10]، انتبهتم؟ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41] يرمز بيده وبرأسه كذا كذا فيفهمون عنه، وذكر الله ما ينساه؛ ولهذا قال العلماء: ذكر الله غذاء الأرواح، ما يستغني عنه ذو إيمان أبداً، ولو كان الله يرخص في شيء لرخص فيه لزكريا، وأعظم من هذا عندما تلتقي الصفوف وتقتحم خيل الله جيوش العدو في نفس الوقت الذكر لا يجوز السكوت عنه؛ فلهذا لا يجوز السكوت عن ذكر الله إلا في حالة واحدة والعبد على كرسي المرحاض يتغوط فقط، أما حين يمشي في السوق.. في الطيارة.. يسوق السيارة.. يأكل دائماً يذكر الله، إلا في حال التبرز والتغوط يسكت، وانظر كيف أذن له أن يذكر الله ليكون علامة على أنه قد وهبه الله هذا الولد. قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ [آل عمران:41] هي: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41].بالصباح والمساء، (بالعشي والإبكار) عندكم أنتم في هذا شيء؟ اسمعوا الجائزة المحمدية: ( من صلى البردين دخل الجنة )، ( من صلى البردين ) أي: صلاة الصبح وصلاة العصر، ( دخل الجنة ) جائزة محمدية.(وسبح بالعشي) العصر، (والإبكار) الصبح.معاشر المستمعين! نترك هذا إلى غد إن شاء الله، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-24, 02:43 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (10)
الحلقة (151)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة آل عمران (18)






اختار الله عز وجل مريم بنت عمران واصطفاها من بين نساء العالمين لتكون آية للناس، وتحمل في جوفها آية أخرى ألا وهي عيسى عليه السلام الذي أوجده الله دون أب، وقد بعث الله ملائكته إلى مريم ليبشروها بهذا الاصطفاء، ويرشدونها إلى ما يؤهلها لاستحقاق هذا الاصطفاء، من الاطراح بين يدي الله، وتعفير الوجه على عتبات فضله ورحمته، والانكسار بين يديه سبحانه وتعالى.

أهمية الارتباط بالمسجد والجلوس فيه للذكر وسماع العلم
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سابق عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ فداه أبي وأمي والعالم أجمع قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الخير واجعلنا من أهله يا رب العالمين.وأزيدك : يقول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).كيف نعتزل بيوت الله؟ كيف نشرد إلى المقاهي والملاهي والأباطيل؟( وما من مؤمن يصلي الفريضة ويجلس في مسجده ينتظر الفريضة الثانية إلا والملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث )، فإن انتقض وضوؤه خرج إلى خارج المسجد فتقف الملائكة عن الصلاة عليه.هل أنتم معي في هذا الفهم أو تظنونه شبه خرافات؟ والله لو يرزق أحدنا اليقين لما استطاع أن يفارق بيت الله بين المغرب والعشاء حتى الموت؛ لأن الوقت ما هو وقت تجارة، ما هو وقت سياحة، ما هو وقت وظيفة، إذا كان الكفار أهل النار يذهبون إلى المقاهي والملاهي والمراقص والمقاصف ودور الباطل والسينما أين يذهب أولياء الله، دلوني؟ يذهبون إلى بيوت ربهم، يجلسون بين يديه، يستمطرون رحماته، يطلبون رضاه.وشيء آخر: يتعلمون الكتاب والحكمة ويزكون أنفسهم؛ لأنهم يريدون أن ينزلوا منازل الأبرار، والمسافة بعيدة حتى تصل إلى دار السلام. كيف تخترق هذه المسافة؟ بأن تربط نفسك في بيت الله ساعة ونصفًا، ولكنك يا عبد الله تأبى ذلك.

عاقبة الإعراض عن القرآن الكريم والانسلاخ من آياته
لا يجدينا البكاء ولا ينفعنا، هذه آثار الجهل الذي أصابنا، والذي جر إلينا هذه الظلمة وساقنا إليها، وصبها علينا أعداء الله ورسوله والمؤمنين: المجوس واليهود والنصارى، حولونا من طلب السماء إلى طلب الأرض، وأصبحت حالنا كذلكم المثل الذي ذكر ربنا من سورة الأعراف، اسمعوا تأملوا، يقول تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175]، ما أعطانا الله آياته، ها هي هذه بين أيدينا في سطورنا وصدورنا، آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175]، كيف ينسلخ منها؟ يتركها في الرفوف.. في المساجد، ويخرج يعيش بدون نورها وهدايتها، فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175]؛ لأن المناعة والحصانة والحفظ في ولاية الله التي يحصل عليها العبد بالإيمان والتقوى، ولا بد للإيمان والتقوى من معرفة ما يتقي الله فيه وكيف يتقيه؟ ومصدر هذا الكتاب والحكمة، فلما انسلخ من الآيات أتبعه الشيطان وأدركه، فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175] الفاسدين. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176] إذا كانت لديكم روافع ترفع الحجارة والصخور وأطنان الإسمنت إلى شاهق العمارات، ترفع الأطنان من ظهر السفينة إلى البر والشاطئ، فما هي الرافعة التي ترفع هذا الإنسان إلى الملكوت الأعلى؟قولوا: القرآن، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176] لا وحي الله ولا هدي رسول الله، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] وها هم المسلمون عرباً وعجماً يلهثون ولن ينتهي لهثهم أبداً، هذا قرآن أم ماذا؟ هذا القرآن الذي يقرأ على الموتى يا عباد الله، أسألكم بالله يوبخ به الميت هذا أم يقرأ على الحي؟ والله يقول وقوله الحق: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] ماذا؟ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:69-70] وقراءة سبعية: (لتنذر من كان حياً)، أين الميت؟ من ثمانمائة سنة والقرآن لا يقرأ إلا على الموتى، لا يجتمع اثنان في ظل شجر أو حائط أو في بيته يقول له: أسمعني شيئاً من كلام ربي، اقرأ علي شيئاً من القرآن ،أبداً، ومن قال: كيف؟ يرفع يده، هل مر بكم أحد وقال: تعالوا أسمعوني كلام الله؟ حصل هذا؟ يقرأ على الموتى، أي نعم، أليس هذا الواقع؟ما هي الرافعة التي ترفع البشرية إلى مستويات الكمال البشري؟ القرآن والحكمة المحمدية، الحكمة تبين القرآن وتظهر مراد الله منه، لا بد من رسول الله، والقرآن هو مصدر الهداية الإلهية.إذاً: واحر قلباه ممن قلبه شبم. بعد هذا البكاء نعود إلى درسنا وتلاوة كتاب ربنا.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الآيات التي درسناها بالأمس ما استخرجنا منها هداياتها، فهيا نعيد تلاوة الآيات الثلاث واسمعوا، وإذا أخذنا في استنتاج الهداية تذكرون من أين أخذت فكونوا بصراء. ‏

التوسل بين اتباع الشرع ومخالفة المتوسلين
يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]. هذه هي الوسيلة، ما قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة بجاه خليلك إبراهيم، قال: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، توسل إلى الله بأسمائه وصفاته، وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، وقضت أمتنا قرابة ألف سنة وهم لا يعرفون من الوسيلة إلا ما يغضب المتوسل إليه: أعطني بحق فلان، وأعطني بجاه فلان، عرفتم هذا؟ وما زلنا نائمين، أعطني بحق فلان، أسألك بحق فلان، أصبح الله بهذه المثابة: إن لم تعطني أنت أعطني بحق فلان عليك، أليس هذا هو الكفر؟! إي والله، قاله الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان ، بدل أن تتملق الله وتتزلف إليه تناديه بأسمائه: يا رب، يا رحيم، يا ولي المؤمنين، يا سميع، تقول: أعطني بحق فلان عليك، سمعتم أوما سمعتم؟ أعطني بجاه فلان، بدل أن يقوم وهو صاحب حاجة والآلام في نفسه والدموع على خديه ولا يقضيها إلا الله فيقوم فيصلي ويبكي ويسأل الله؛ يقول: أعطني بحق فلان، أسألك بحق فاطمة ، من علمنا هذه الوسيلة؟المجوس واليهود والنصارى الثالوث الأسود، أبعدونا عن روح الحياة، يا أيها الزائرون هل بلغكم أن القرآن بمثابة الروح أم لا؟ قالوا: ما بلغنا ما سمعنا، إيه ما بلغهم، أما قال تعالى في سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]؟ سماه روحاً أم لا؟ وهل يحيا مخلوق كائن بدون روح؟ ولا بعوضة، القرآن روح لا حياة بدونه أبداً.نظر العدو إلى حياة تلك الأمة الطاهرة النقية في قرونها الذهبية الثلاثة فعرف أنها والله ما حييت إلا بالقرآن، ولا اهتدت إلى كمالها إلا بالقرآن؛ لأن القرآن روح ونور، نحلف لكم بالله العظيم إنه لنور، خالق النور وواهبه يقول: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، وفي هذه الآية: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].قالوا: أبعدوهم عن القرآن فيموتون ويعيشون في الظلام، وفعلوا ونجحوا، كيف تقول يا شيخ: نجحوا؟ أنا أسألكم: استعمرونا أم لا؟ أين ممالك الهند الإسلامية؟ أصبحت مستعمرات بريطانية أم لا؟ أين جزر جاوى الإسلامية؟ أصبحت مستعمرات بلجيكية أم لا؟ أين الشرق الأنور الأوسط؟ أصبح مستعمرة بريطانيا أم لا؟ أين شمال العروبة والأفريقية والإسلام؟ أصبح مستعمرات إيطالية وفرنسية وأسبانية، هل هناك من يرد علي؟ لو كانوا أحياء مهتدين أيستعمرهم كافرون ميتون؟ والله ما كان ولن يكون.وما زلنا على حالنا ما أفقنا أبداً، القرآن نجتمع عليه في الموت فقط، والآن حتى العرس لا بأس أيضاً؛ لأنهم يفرفشون، لا ليتدبروا فتلوح الأنوار ويمشون وراءها لهدايتهم وكمالهم.هيا نتلو هذه الآيات لنقف على ثمارها الناضجة، وهدايتها القرآنية؛ لأن القرآن كل آية منه تحمل هداية إلهية، ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، كل آية علامة كالشمس تدل على وجود الرب وعلمه وحكمته وقدرته ورحمته.

ذكر ما كان من زكريا عليه السلام في طلب الولد وما كان منه بعد بشارة الملائكة له بيحيى
قال: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38] ماذا قال؟ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران:38] طيبة أم خبيثة؟ تسرق وتسلب وتنهب؟ طيبة، ما نريد غير الطيبين: ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38] . فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ [آل عمران:39] أين؟ يصلي أم يرقص؟ أين نادته الملائكة؟ أين كان؟ في المحراب: وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران:39-40] كيف يقول زكريا؟ لأن العدو ما إن سمع البشرى حتى قال: إيه يا زكريا! هذا الشيطان يضحك عليك. كيف هذا؟ أنت رجل كبير وامرأتك عاقر ويقول لك ويبشرك؟ ما هو من الملائكة، هذا الشيطان. فاضطرب نبي الله زكريا، وطلب من ربه أن يعطيه آية. قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41] لا تقل: كيف جاء الشيطان ليفتن نبي الله؟ هل عرفت أنه جاء لإبراهيم أم لا؟ من أجَلُّ: زكريا أو إبراهيم؟ إبراهيم. لما رأى في منامه أن يذبح إسماعيل تقرباً إلى ربه وطيبته هاجر وغسلته ونظفته وخرج به إلى منى؛ ما إن وصل إلى العقبة الفاصلة بين منى ومكة حتى وقف العدو: أي إبراهيم! ماذا يفعل ربك بهذا الغلام؟ أين يذهب بعقلك يا إبراهيم؟ إن الله في غنى عن أن تذبح هذا الطفل، ارجع، رجمه بالحصا، عرف أنه عدو الله، وتقدم فاعترضه في المرة الثانية، تعرفون هذا أم لا؟ ماذا ترمون في الحج؟ الأماكن التي وقف فيها العدو أم لا؟ ذكرى خالدة إلى يوم القيامة، فلعنه ورماه وتقدم إبراهيم حتى الجمرة الأخيرة، أيس العدو، فلا عجب أن يقف الآن هذا العدو على زكريا ويقول: كيف تفهم هذا الفهم وتقول: الملائكة بشرتني؟ هذا الشيطان يضحك عليك. هنا: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران:41] علامة. قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [آل عمران:41]هل المعنى: حرمت عليك الكلام؟ لا، لن تستطيع أن تنطق، مع كمال فصاحته ورجولته وبشريته، ثلاثة أيام والله ما يقدر على أن يقول: قف أو اجلس، ولا يطلب حاجات إلا بالرمز، وفي نفس الوقت لسانه من الذاكرين إلى عنان السماء، يذكر الله، يمجده، يسبحه، يهلل كأفصح ما يكون، ولا يقدر أن يقول: أعطني يا فلان الماء .. أين ذهب فلان؟ من يقوى على إعطائه هذه الآية؟ والله لو تجتمع البشرية كلها ما استطاعت أن تعطيها لرجل، نعم. يقطعون لسانه وما يتكلم، هذا يذكر الله بأعلى صوته، أما أن يقول: فلان ذهب، والمرأة عند الباب، والماء موجود فلا.قال: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41] واضح هذا القرآن أم لا؟ هذا يقرأ على الموتى، أيقومون يتوضئون ويصلون، أو يتوبون من ذنوبهم ويستغفرون؟ انتهى أمرهم. هذا يقرأ على الأحياء فقط.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
هذه الآية درسناها واستنارت قلوبنا بها، فهيا نذكر ما فيها من أنواع الهداية كالامتحان للدارسين والسامعين، قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ هداية الآيات: من هداية الآيات:]
الاعتبار بالغير وما يحصل له من الخير والشر
قال: [ أولاً: الاعتبار بالغير ] مشروع أم لا؟ أن تعتبر بغيرك، غيرك رمى بنفسه، رمى في بنك بأمواله فاحترق، ما تعتبر أنت؟ غيرك قال كلمة سوء فسجن ما تعتبر أنت فتسكت عن هذه الكلمة؟ العقلاء يعتبرون، تعرفون العَبَّارات أم لا؟ يعبرون بها الأنهار والبحار، كلمة وحدها تعبر بها أخطأت فيها، ونحن مأمورون بالاعتبار إن كان لنا قلوب.قال: [ الاعتبار بالغير؛ إذ زكريا دعا بالولد لما رأى كرامة الله تعالى لـمريم ] زكريا في عمر ثمانين سنة أو تسعين ما يلد، امرأته عاقر، قطعت رحمها ما هناك شيء، ولما سمع مريم، من مريم هذه؟ خادمة الله. بنت من؟ عمران، أمها ما اسمها؟ حنة. مريم نذيرة الله، خادمة الله، أمها نذرتها لله. رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران:35] لا أستأنس به ولا يخدمني ولا يبيت ولا يظل معي، هو لك يا رب، فقط أكرمني بوجود ولد، واستجاب الله وأعطاها الولد، أعطاها مريم، ومعنى مريم: خادمة الله، فلما ولدتها لفتها في القماطة في لفافة من قطن أو كتان وخرجت بها إلى المسجد تعرضها على صلحاء بني إسرائيل، من يأخذ هذه النذيرة؟ واشرأبت النفوس وتطاولت الأعناق وكل يريد أن تكون في بيته لأنها نذيرة الله، مستواهم كان عالياً رفيعاً، فاضطروا إلى القرعة، من يظفر بهذه النذيرة وتعيش في بيته وهي لله، فاقترعوا ففاز بها زكريا، وتدبير الله أن امرأة زكريا خالة مريم لتعيش في بيت خالتها، والخالة بمنزلة الأم، يقول هذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( الخالة بمنزلة الأم ) فهي أولى القريبات بالحضانة بعد الجدة والأم، الخالة بمنزلة الأم. واستأجر لها زكريا ضئراً مرضعاً سنتين كاملتين، لما أصبحت تعقل وضعها في المسجد؛ لأنها منذورة لله، أين في المسجد؟ غرفة ملتصقة به وبابها مفتوح إلى المسجد وهي فيها تعبد الله.إذاً: فكان عليه السلام وهو نبي الله ورسوله إذا أتاها بالغداء أو العشاء أو تأخر يجد عندها فاكهة الجنة، فاكهة في الصيف لا توجد في الصيف وأخرى في الشتاء لا توجد في الشتاء، فسألها قال: أنى لك هذا يا مريم؟ كيف؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37] هنالك دعا زكريا ربه، ما دامت السنن يتجاوز الله عنها ويتركها إذاً سيعطيني ولداً وإن كنت كبير السن وامرأتي عاقراً. هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38] ماذا قال؟ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران:38] هنا اعتبر زكريا بمريم أم لا؟ هذا الاعتبار، ما دام رأى أن الله قادر على أن يبطل السنن بكاملها، أتاها بفواكه الشتاء في الصيف والصيف في الشتاء؛ فكذلك يعطيه الولد وإن كان كبير السن وكانت امرأته عاقراً. هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38] هذا هو الاعتبار أم لا؟

مشروعية الدعاء والتزام آدابه
قال: [ ثانياً: مشروعية الدعاء ] الدعاء مشروع أم لا؟ مأمور به، مدعو إليه، مرغب فيه؛ لأن الدعاء هو العبادة، ومن دعا غير الله أشرك وكفر ومات وانتهى وجوده، قطع عنقه؛ لأنه جعل مثل الله مخلوقاً من مخلوقاته يسمع نداءه ويعرف حاله ويقدر على إعطائه ما طلب، سلب صفات الله ووضعها إلى مخلوق فهو كافر مشرك، أحب أم كره. ( الدعاء هو العبادة ) ومضت على أمتنا قرون لا يدعون الله إلا مع الصالحين، الله وحده، يا الله، يا رجال البلاد، يا رب، يا رسول الله، ما هناك دعاء لله وحده. وربما يقول البعض: لعل الشيخ واهم، خرّف! اسألوا أهليكم عن: يا رسول الله يا رسول الله، يا مولاي فلان، أين الله؟ حتى في السيارات: يا فاطمة، يا حسين ، أما الله فلا.الدعاء مخ العبادة، وقد مثلنا غير ما مرة للعبرة، حيث نقول لشخص: ارفع يديك على هيئة الدعاء وتمسكن، فسنرى أن هذا العبد -والله- لفقير، والله يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [فاطر:15] هذا والله فقير، ما الدليل؟ ها هو يشحت، هل رفع أكفه أم لا؟ أعلن عن فقره؟ ثانياً: ربه فوق أم عن يمينه أو شماله؟ فوق، ذلك أنه رفع يديه هكذا إلى السماء.ثالثاً: هذا مؤمن بأن الله تعالى يسمع كلامه وهو على عرشه بائن من خلقه، والمسافة لا تقادر والله يسمعه، مؤمن بسماع دعائه. رابعاً: شعور كامل بأن الله غني وقدير على أن يعطيه حاجته، لو لم يعرف هذا والله ما رفع كفيه إليه ولا سأله. عرفتم هذا؟ إذاً: الدعاء هو العبادة، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة ) ( من لم يسأل الله يغضب عليه )، ألحوا في الدعاء.إذاً: [ مشروعية الدعاء وكونه سراً أقرب إلى الإجابة ] وزكريا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3] ما معنى خفي؟ سر لا يطلع عليه أحد حتى في بيته، فالدعاء كونه سراً أقرب إلى الإجابة من كونه علناً. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم:3-4]، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم:5].فيستحب أن يكون الدعاء سراً كالذكر، نحن لا نعرف نذكر الله سراً، بل نرفع أصواتنا: الله، الله، الله، هو هو هو. لا إله إلا الله. هكذا كان آباؤنا وأمهاتنا، قروناً ما نعرف كيف نعبد الله. من فعل بنا هذا؟ الثالوث الأسود، صرفنا عن كل سلم يرقى بنا إلى الكمال، أبعدنا عن كل طريق تصل بنا إلى الفوز والفلاح؛ لأنه عدو ونحن له عدو، ولكن ما أفقنا ولا عرفنا.قال: [ مشروعية الدعاء، وكونه سراً أقرب إلى الإجابة، وكونه في الصلاة كذلك ]، الدعاء في الصلاة أقرب إلى الإجابة منه خارج الصلاة، كونك تصلي وتدعو أفضل، والدليل: لما قنت أبو القاسم شهرين كان يقنت في الصلاة أو خارجها؟ لم ما طلع المنبر ودعا بالناس؟ يدعو وهو في الصلاة، وقال: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) والله يقول: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]. من أين أخذنا هذا؟ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39].

إمكان حصول تلبيس إبليس على المؤمن
قال: [ ثالثاً: جواز تلبيس إبليس على المؤمن، ولكن الله تعالى يذهب كيده ووسوسته ]، لا بد أن يمكر بنا، لكن الله يحمي أولياءه. من أين عرفنا هذا؟ لأن الملائكة بشرت زكريا أم لا؟ ومع هذا يقول: أعطني دليلاً. اجعل لي آية، علامة تدل على ما أعلمت به.

ثبوت كرامة الأولياء باستجابة دعوتهم
قال: [ خامساً: كرامات الله تعالى لأوليائه باستجابة دعائهم ] كرامة هذه أم لا؟ أكرمه الله فأعطاه يحيى كما طلب.

فضل الإكثار من الذكر
قال: [ سادساً: فضل الإكثار من الذكر ] من أين أخذناه؟ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، فلو لم يكن الإكثار محمودًا مطلوبًا لله محبوبًا أيقول له: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]؟
فضل صلاتي الصبح والعصر
قال: [ سابعاً: فيه فضيلة صلاتي الصبح والعصر ] الإبكار أليس هو الصبح؟ والعشي أليس هو بعد العصر؟ إذاً: فضيلة صلاة الصبح والعصر، ويبين هذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فيقول: ( من صلى البردين دخل الجنة ) أي: لازم هذه الصلاة حتى مات، صلاة البرد الأولى: الصبح، والبرد الثاني: العصر.ما نحفظ هذا الحديث: ( من صلى البردين دخل الجنة ) قلها يا بني: ( من صلى البردين دخل الجنة ) لم لا نحفظه حتى ندعو الناس إلى صلاة الصبح وصلاة العصر؟ لأن الصبح وقت نوم والعصر وقت راحة.( من صلى البردين دخل الجنة ) والله يقول: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [غافر:55].إذاً: في هذه الآيات هدايات عظيمة أم لا؟ أنوار تلوح لأولي الأبصار، للذين يقرءون القرآن للهداية، لطلب المعرفة والسير في طريق الله الموصل إلى رضاه.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك ...)
بعد هذا معنا الآن هذه الآيات الكريمة، والسورة هي سورة آل عمران، والسورة أولها نزل بعد آخرها، آخرها نزل قبل أولها. الأول نزل فيم؟ في غزوة أحد ومعركتها، والثاني في وفد نجران، هذه الآيات أوحاها الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليبين لنصارى نجران الذين وفدوا عليهم من نجران إلى المدينة في ستين فارساً من أغنياء وأعيان تلك البلاد، وكانوا يأخذون أموالهم من بلاد الروم؛ لأنهم ينشرون الصليبية في ديار العرب.ستون فارساً جاءوا للجدال، للمحاجة، تريدون خبرًا عن عيسى؟ أنا أعلمكم بجدته إن كنتم لا تعرفون، كيف حملت جدته بأمه وأنتم لا علم لكم، ما سبق: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران:33-36] إيه! تحاجون محمدًا؟ أنتم جهال ما تعرفون عن عيسى شيئاً، محمد الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب اسألوه يقص عليكم تاريخ عيسى من عهد جدته، أفحمهم، قطعهم، ورضوا بدفع الجزية وانهزموا.وما زال السياق الكريم، قال تعالى: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ [آل عمران:42] اذكر يا رسولنا لهذا الوفد الطائش. وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران:42] يا خادمة الله. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ [آل عمران:42] اختاركِ من بين نساء العالم عالم زمانها. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ [آل عمران:42] لا ذنب تقارفه أبداً، لا إثم ولا ذنب، من أين يأتيها؟ أليست هي محبوسة في المحراب ملازمة للمسجد تذكر الله طول الليل والنهار، طهرها أم لا؟ بهذه الأسباب العجيبة. وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42] اختارها اختيارًا على علم لأن تظهر آيات الله فيها، فينفخ جبريل في كم درعها فتسير النفخة إلى بطنها، فإذا عيسى عبد الله ورسوله يهتز في بطنها، فألجأها الطلق إلى جذع النخلة في ساعة، هل لنساء العالم أن يفزن بهذا؟ مستحيل. مختارة هذه: وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42].

طريق تحصيل الاصطفاء
ما تقولون إذاً في خديجة وفاطمة وعائشة وآسية بنت مزاحم ؟ أخبرنا أبو القاسم قال: ( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ، وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) خمس الآن زد عليهن أمك وزوجتك وأختك وبنتك إذا والت الله بعد أن عرفته فلم يتقلب قلبها إلا في طلب حبه ورضاه، وزكت نفسها بالعبادات وطهرتها بالبعد من الذنوب والآثام هي في هذا الكمال، واقرأ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ وَالْمُؤْمِنِين َ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّق ِينَ وَالْمُتَصَدِّق َاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ... [الأحزاب:35] إلى آخر الآية. فقط قلبك تعطيه لله، لا لـسلمى يا رجل، ولا لـفريد الأطرش يا امرأة، قلبك لله لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، ووجهك لا تقبل به إلا على الله، والجوارح تابعة تؤدي الواجب وتبتعد عن الحرام، وتعيش على ذكر الله حتى يوافيك الأجل فتحتفل بموتك الملائكة في حفل عظيم، واقرءوا قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31].آه! ما للمسلمين ما عرفوا هذا؟ لأنهم هجروا كتاب الله وبيوت الله، سحروهم فأبعدوهم، وملئوا قلوبهم بحب أوساخ الدنيا وقاذوراتها فنسوا هذا كله وهجروه.
تفسير قوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين)
قال تعالى: يَا مَرْيَمُ [آل عمران:43] يا خادمة الله اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] هذا هو الشكر، هذا هو طريقه، ما دمتِ قد أهلتِ لهذا الخير وهذا الكمال اشكري الله عز وجل، ماذا أصنع يا رب؟ قال: اقْنُتِي لِرَبِّكِ [آل عمران:43] والقنوت الخضوع والخشوع والعبادة. اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] فكانت تصلي مع الرجال في بيت المقدس. وأبو القاسم أذن للنساء منا كذلك فقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )، وكان عمر يمنع عروسه وهو فحل، يا عمر ! نصلي العشاء؟ فيغضب، يا عمر ! نصلي الصبح في الظلام؟ فلا يجيب، قالت: أما والله قد أمر رسوله أن يقول: (لا تمنعوا) فلأصلين حتى تقول: لا تخرجي، وما استطاع أن يقول لها: لا تخرجي. قالت: إذاً سوف أصلي الصبح والعشاء في المسجد. وقد كانت نساء الصحابة يحضرن الصبح في الظلام والعشاء في الظلام، وأما في النهار فلا، لماذا؟ حتى لا يفتن الفحول من الرجال، وحتى لا يفتتن هن بالرجال. وهنا قد يسأل سائل: يا شيخ! كيف تقع هذه الفتنة؟والجواب: إذا نظر إليها فتن، وإذا نظرت إليه فتنت، وإذا مسها بأي شيء .. يصافحها أو يقدمها بعلها هذه مدام فلان. لا تعجبن بني فإن القوم جهال، ما عرفوا أن النظرة هكذا تلقيها عمداً ينعكس دخانها ونتنها على روحك وأنت لا تشعر؛ لأننا نحافظ أشد المحافظة على طهارة أرواحنا وزكاتها، فكل ما يلوث تلك الطهارة أو يصيبها بدخن حرام نبتعد عنه؛ لأن سعادتنا موقوفة على زكاة نفوسنا، ما سمعتم حكم الله الصادر علينا؟ أما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]؟ فالنظرة الأولى معفو عنها، ما ينعكس دخانها؛ لأنك غير قاصد، التفت فوجدت امرأة فنظرت، والثانية سهم من سهام إبليس مسموم أيضاً. فلهذا إما أن نحجب الرجال عن الشوارع والأسواق وإما أن نحجب النساء، لا محالة، خيروا. ماذا ترون؟ نحجب الرجال؟ يا رجال! غطوا وجوهكم ودعوا النساء يكشفن وجوههن، هذا مخالف للفطرة أم لا؟ لأننا نحن الفحول لنا مجالات: المزرعة والمتجر والبناء والشوارع، والمؤمنات لهن البيوتات لتربية البنين والبنات، مصادر البشرية، ما هن في حاجة إلى أن يخرجن إلى الشوارع، هذه هي الفطرة البشرية أم لا؟ هذا دين الله، والماسونية الخبيثة قلبت أوضاع الحياة من أجل أن يكونوا دولة بني إسرائيل وكونوها.وبعض الناس يشبك يديه مع امرأته في الشارع ، فهذا يحملها على ظهره أحسن! المرأة ظل الرجل تمشي وراءه في ظله، لا إلى جنبه ولا أمامه، فإن قدمها أمامه أصبح ديوثاً، تقوده إلى حيث تشاء، وإلى جنبه أصبحت مساوية له، أين تمشي المرأة؟ وراء الرجل، هو حاميها، هو الأسد وهي كاللبؤة وراءه، هو الذي يدفع عنها، أما إذا كانت هي أمامه وهو وراءها فلا يستقيم ذلك، فآه مما فعل بنا اليهود! يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] هذه هي الصلاة أم لا؟ ما قال: صل، بل ذكر ما هو أعظم، وهو الاطراح بين يدي الله، تعفير الوجه على التربة في الأرض، والانكسار بين يدي الله، وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43].

تفسير قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ...)
قال تعالى بعد نهاية القصة: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمران:44] القائل هو الله تعالى والمخاطب هو رسول الله: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمران:44] هل كان العرب يعرفونها؟ والله ما يعرفون شيئاً لا عبد المطلب ولا عدنان، إذاً: من أين جاء هذا العلم؟ من الله. كيف ينكر الله إذاً؟ كيف يكفر أهل القرآن بالله؟ عرف هذا العدو عن القرآن حتى نكفر، وإلا فعندنا مناعة نحلف بالله أن صاحبها لن يكفر ولو مات جوعاً، ولو قتل وصلب ما يكفر، مناعة وهي فقط أن نعيش على كتاب الله وسنة رسول الله، لا نفارقهما ليلاً ولا نهاراً. ما الدليل يا شيخ؟ أهل الحلقة يعرفون هذا حتى المؤمنات، لكن زوارنا ما جلسوا هذا المجلس قط. يقول تعالى في هذه السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100] لبيك اللهم لبيك. اسمعوا: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]. إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] من هم أهل الكتاب؟ اليهود والنصارى، أساتذتنا ومعلمونا. أكثر من درسوا عليهم وتخرجوا على أيديهم وأصبحوا وزراء وفنيين في العالم الإسلامي من هذا النوع، هبطوا. ويقول تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] مستحيل.وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-24, 02:50 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (11)
الحلقة (152)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة آل عمران (19)


فضّل الله عز وجل مريم على نساء العالمين، وجعلها صديقة وكلمتها الملائكة، إلا أنها لم تكن نبية كما يدعيه البعض، وإنما جعل الله من ذريتها نبياً وهو عيسى عليه السلام، فهي كانت من أهل القرب من الله لطاعتها له وقنوتها بين يديه وتضرعها إليه، واتصالها بربها بالوسيلة المتاحة لكل عباد الله الصالحين وهي الصلاة.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات، وقد درسنا بعضها في الليلة الماضية.تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:42-46].

مجادلة نصارى نجران في شأن عيسى عليه السلام
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن هذه الآيات النورانية القرآنية نزلت في وفد نجران، ذلكم الوفد المكون من ستين فارساً، قدموا من مدينة نجران جنوب مكة المكرمة ليحاوروا الرسول ويجادلوه في شأن عيسى بن مريم عليه السلام، إذ النصارى من ذلك العهد وإلى اليوم يؤلهون عيسى ويعبدونه مع الله، واختلفت عقيدتهم فيه، فمنهم من يقول: عيسى ابن الله، ومنهم من يقول: إنه ثالث ثلاثة مع الله، ومنهم من يقول: هو في حد ذاته إله، وهذا شأن من ضلوا الطريق، وهم والله ضالون، وشهادة الله كافية، إذ قال تعالى لنا: سلوني، قولوا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، فالمغضوب عليهم هم اليهود والله العظيم، والضالون منهم: النصارى، ضلوا الطريق وتاهوا في متاهات عرفنا منها: أن عيسى عبد الله ورسول الله فألهوه وجعلوه إلهاً، ومن عجيب فهمهم: أنهم يعتقدون أن اليهود صلبوا عيسى عليه السلام، وهل الرب الخالق المدبر يصلب ويقتل؟ ويكرهون اليهود كرهاً عجباً لأنهم قتلوا وصلبوا عيسى، والله يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].على كل حال جاء الوفد يجادل وإذا بالحق جل جلاله وعظم سلطانه ينزل نيفاً وثمانين آية على رسوله الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، فتقوم الحجة لله ورسوله على هؤلاء المشركين الكافرين الضالين.

بشارة الملائكة لمريم عليها السلام بالاصطفاء وحثها على العبادة والقنوت لله تعالى
يقول الله: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ [آل عمران:42] اذكر يا رسولنا لهذا الوفد. وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42] من أين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا العلم؟ وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، وعاش في مكة أربعين سنة لم يعرف ما الكتاب ولا الإيمان، من علمه هذا؟ الملائكة تقول لـمريم البتول العذراء أم عيسى، مريم بنت من؟ عمران، أمها من هي؟ حنة. مريم تخاطبها الملائكة، مَن مِن الملائكة؟ هذا جبريل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ [آل عمران:42] واختاركِ واجتباكِ لأمر عظيم، وهو أن يخرج منكِ عيسى عليه السلام، وطهركِ من سائر الذنوب، فلن تقارف ذنباً أبداً كولدها استجابة لدعوة أمها، أمها لما نذرت لله ما في بطنها ما كانت تدري أنه مريم، لكن قالت لما وضعتها متحسرة متأسفة: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران:36] أي: خادمة الله. وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36] فـمريم لم تقارف ذنباً، طهرها الله، وولدها عيسى أيضاً لم يقارف ذنباً، طهره الله؛ لأن جدته قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا [آل عمران:36] وعيسى أحد ذريتها. وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42] أي: عالمي زمانها، فلم توجد امرأة أفضل من مريم في ذلك الزمان أبداً، اختيار الله واصطفاؤه لها.وقالت الملائكة لها: اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] لأن والدتها نذرتها لله، لا ترى منها شيئاً ولا تنتفع منها بشيء، فلهذا أخذها زكريا الكفيل بحق عليه السلام وتركها في المحراب في مقصورة في المسجد تعبد الله فقط، لا هم لها إلا ذاك، والملائكة تشجعها وتقول: يا مريم! اقنتي، اعبدي ربكِ واسجدي واركعي مع الراكعين، فكانت تصلي مع المؤمنين في بيت المقدس وهي في محرابها.
تفسير قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك...)
قال تعالى هنا: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ [آل عمران:44] ذلك الذي سمعتم من أمر حنة ونذرها وولادتها مريم وكفالة مريم ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ [آل عمران:44] الذي لا يعلمه إلا الله. نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمران:44] فأنت رسول الله، أنت نبي الله، كيف يوحي إليه بهذا الغيب من العلوم والمعارف ولا يكون رسوله؟ مستحيل، هذا تقرير للنبوة المحمدية، ولا ينكرها إلا كافر أحمق ضال أشبه بالمجانين؛ إذ نبوته أكثر من الشمس سطوعاً وظهوراً، فكيف تنكر؟ والله ما ينكرها إلا ذو غرض هابط مادي يريد البقاء على سلطانه أو مادته، آيات النبوة أكثر من ألف آية، كيف؟ يكفي هذا: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ [آل عمران:44] أي: بين يديهم حاضرًا في مجلسهم وهم يقترعون أيهم يكفل مريم، والزمن أكثر من حوالي سبعمائة سنة أو ستمائة سنة بين هذه الأحداث وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. ‏

معنى قوله تعالى: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم...)
يقول تعالى له: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:44]، سبق أن عرفتم أن حنة عليها السلام لما وضعت مريم لفتها في القماطة وبعثت بها إلى علماء وصلحاء بني إسرائيل في المسجد ليكفلوا هذه النذيرة؛ لأنه لا حق لأمها فيها، نذرتها لله، ما إن رآها أولياء الله صلحاء بني إسرائيل وعلماؤهم حتى تاقت نفس كل واحد منهم وهشت روحه لأن تكون في بيته، فهذه نذيرة الله، إذاً: فاختلفوا أيهم يظفر بها ويفوز. هل كنت يا محمد بن عبد الله - صلى الله عليك وسلم - حاضراً معهم؟ من علمك إذاً؟ كيف عرفت هذا؟ إذاً: أنت رسول الله يوحي إليك بهذه الأنباء والأخبار. وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [آل عمران:44] كيف يلقونها؟ قالوا: نستهم ونقترع، الذي تخرج قرعته يأخذ هذه الفتاة، هذه النذيرة، فجمعوا أقلامهم التي يكتبون بها التوراة، هذه الأقلام ليست كأقلامكم أيها الصحفيون والدجالون، هذه أقلام ما تكتب إلا الحق ولا تكتب إلا ما هو رضا الله عز وجل، فهي صالحة إذاً لأن تتحقق بها المعجزة، جمعوا أقلامهم ولا أدري كم هي بحسب عددهم، أقلام كانوا يكتبون بها الحق، يكتبون أحكام الله، يأخذون من التوراة.إذاً: جمعوها وألقوها قلماً بعد قلم في نهر الأردن والماء يسير، من وقف قلمه هو الذي يأخذ مريم، باسم الله يلقي القلم، يدحرجه الماء ويمشي، ثم قلم ثان، وثالث .. حتى رموا قلم زكريا فوقف في الماء، خذها يا زكريا، هل كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حاضراً في هذه الحادثة؟ لم يكن حاضرًا هو ولا أبوه ولا جده ولا عمه، فكيف عرف هذا؟ بالوحي الإلهي، إذاً: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه آيات النبوة: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44].

مشروعية القرعة
ومن هنا كانت القرعة في شرع من قبلنا ونقلها الله إلينا، فإذا اختلف اثنان في قسمة شيء قابل للقسمة يقترعونها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الخروج إلى الغزو والجهاد يقرع بين نسائه، فمن خرجت قرعتها أخذها معه، والتي ما لها قرعة تبقى في بيتها مطمئنة. وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44].
تفسير قوله تعالى: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح ...)
ثم قال تعالى وقوله الحق: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران:45] أي: اذكر لهذا الوفد الغافل الجاهل الضائع الضال، اذكر لهم: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران:45] جبريل عليه السلام هو الذي خاطبها، وجاء هذا من سورة مريم، مريم لها سورة كاملة؟ إي والله، ما بين الكهف وطه سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:16-33] قال تعالى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم:34] أو يشكون. هذه من سورتها عليها السلام، ونحن الآن في سورة آل عمران.قال تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران:45] يا خادمة الله إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45] بكلمة؟! ما هذه الكلمة؟ الجواب: هي قوله تعالى: (كن) فكان. كان بكلمة التكوين أم لا؟ يسمى كلمة إذاً، هو كلمة. بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45] المسيح كـالصديق، ومن معاني المسيح: الصديق أيضاً، عيسى هكذا سمته أمه، بل سماه الله لها.

ذكر ما حبا الله تعالى به عيسى من فضل الوجاهة والقرب
قال تعالى: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا [آل عمران:45] أي: ذو جاه في الدنيا حقاً في العرب والعجم، وفي الآخرة أيضاً ذو جاه. وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45] إلى الله تعالى، والمقربون هم الطبقة العالية الممتازة، ومن أراد أن يقف على ذلك فليستعرض سورة الواقعة؛ إذ قال تعالى: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:1-3] متى؟ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:4-11] عيسى من المقربين، الطبقة الممتازة، أما أصحاب اليمين فعليهم السلام، ولكن المقربين فوق أصحاب اليمين، عيسى من أي طبقة؟ من المقربين، بشرى لمريم بالولد وبجاهه العظيم العريض الطويل في الدنيا والآخرة، وبمنزلته في دار السلام أنه من المقربين.

بيان ما أكرم الله تعالى به عيسى عليه السلام من تكليم الناس في المهد
ثانياً: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ [آل عمران:46]، كيف يكلم الناس في المهد؟ ما المهد؟ المهد: سرير الطفل، سلوا النساء يعلمنكم المهد ما هو، فراش يمهد للطفل، قد يكون من خشب، قد يكون من حديد، قد يكون فقط من كتان وقماش، تمهده المرأة لطفلها وتهيئه قبل أن تولد، أليس كذلك؟ تهيئه وتمهده قبل أن يكون مهداً. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ [آل عمران:46]، هل جرت سنة الله أن الأطفال يتكلمون؟ الطفل يزعق كما هو معروف، أما أن يتكلم فهذا يحتاج إلى سنتين أو ثلاث، وهذا يكلم الناس في المهد كلامًا ما هو بخاص بالأولياء، بالعلماء، بالأنبياء، بل يكلم عامة الناس.

المعنى البلاغي في الاحتراس بذكر تكليم عيسى للناس في الكهولة
وَكَهْلًا [آل عمران:46] أي: ويكلمهم وهو كهل. لم هذا الاحتراس؟ لو لم يقل: وَكَهْلًا [آل عمران:46] لفهموا أن عيسى يموت وهو صغير، لولا قوله تعالى: وَكَهْلًا [آل عمران:46] أيضاً لفهم أن عيسى يموت وهو صغير، فقط يكلم الناس وهو في المهد وبعد ذلك يموت.إذاً: فلكي يطيب خاطرها وتطمئن نفسها على أنه لا يموت وهو صبي، بل يكبر حتى يكتمل ويكلم، وهنا اعلموا أن عيسى عليه السلام عاش ثلاثًا وثلاثين سنة، لما أكملها ودخل في سن الكهولة رفع إلى الملكوت الأعلى، وهو والله هناك؛ لأن الصبا ينتهي بالخامسة عشرة بالبلوغ ويدخل سن الشبيبة، يستمر سن الشبيبة إلى الثالثة والثلاثين، فيدخل في الكهولة حتى يتجاوز الأربعين ويدخل في سن الشيخوخة، أو تستمر الكهولة إلى الستين ويدخل سن الشيخوخة والكبر ثم الهرم ثم الوداع، انتهت الحياة. فعيسى عليه السلام والله لينزلن من السماء، ويعيش فترة الكهولة كاملة، ولما يصل إلى الشيخوخة ويكون صاحب ثلاث وستين سنة يموت كما كان عمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأين يدفن؟ غالب الظن أنه في الحجرة الشريفة، الرسول ما أخبر بذلك، ولكن قال: ( كأني بابن مريم في فجاج الروحاء يلبي: لبيك اللهم لبيك حجاً أو عمرة )، فإن مات فأي مكان يكون أفضل مكان؟ هنا، ودليل آخر: الحجرة الآن بقي فيها قبر فقط، فيها القبور الثلاثة الطاهرة: قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وقبر عمر ، وبقي مكان قدر قبر فقط، لن يتأهل له غير عيسى، لا يتأهل له الملوك، ولا الأولياء.. العلماء.. الأشراف، محفوظ بحفظ الله مدخر لعيسى عليه السلام. هذا الكلام ما هو سياسة، هذا قاله أهل العلم من السلف، ونحن ما نجزم ولكن نقول: ما دام أنه يحج ويعتمر ويأتي المدينة ويزور مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو مات فأين يدفن؟ في البقيع؟ لا، لا ندفنه إلا في الحجرة، فهذا المكان أليق به.إذاً: فهمتم سبب الاحتراس: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران:46]؟ يكلمهم وهو طفل، ويكبر ويشب ويكلمهم وهو كهل.

فضيلة عيسى عليه السلام بدخوله في عباد الله الصالحين
قوله: وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:46] عرفنا نحن الصالحين، ولكن ملايين من المسلمين ما عرفوا، لا يعرفون الصالح إلا الولي الذي يدعى ويستغاث به ويذبح له ويعكف حول قبره وينقل إليه المريض، هؤلاء هم الصالحون. تذكرون هذا أم لا تذكرون؟ من هم الصالحون؟ موكب من أربعة مواكب في دار السلام، جاء بيان ذلك في القرآن العظيم، وبين تعالى الطريق الموصلة إلى أن تكون مع مواكب الصالحين وهو في كلمة واحدة، اسمع عبد الله! اسمعي أمة الله! يا من يرغب أن يكون مع الصالحين أطع الله والرسول فقط، إذ قال تعالى في سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] أما أن تكون نبياً فهذا لا يطمع فيه أحد، أغلق الباب وختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، مهما بلغت من الكمال لا تطمعن في النبوة، لكن تريد أن تكون في المواكب الثلاثة؟ نعم. ما هو الموكب الثاني؟ الصديقون، مريم والله منهم، أما قال تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75]؟ شهادة الله هذه أم لا؟ وأبو بكر الصديق من الصديقين أم لا؟

طريق تحقيق الصلاح ورتبة الصديقية
من منكم يرغب أن يكون منهم؟ إن باب الله مفتوح فتحه الرسول على مصراعيه؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بالصدق ) الزموه، لا تفرطوا فيه، لا تتخلوا عنه، عليكم بالصدق في القول والعمل والتفكير والحياة كلها، ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة )، أما قال تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]؟أعيد الكلام: يقول النبي صلى الله عليه وسلم معلماً مربياً مزكياً للنفوس: ( عليكم بالصدق ) يا عباد الله! الزموه، لا تفارقوا الصدق أبداً، إذا قلت أو عملت أو اعتقدت أو فكرت - حتى التفكير - فالزم الصدق.( فإن الصدق يهدي إلى البر ) والله العظيم. ( والبر يهدي ) إلى أين؟ ( إلى الجنة، ولا يزال الرجل -والمرأة كذلك- يصدق ويتحرى الصدق -بعناية يطلبه- حتى يكتب عند الله صديقاً ) .الآن تفضلوا، باب الله مفتوح، من الليلة اصدق إذا قلت، اصدق إذا عملت، لا كذب ولا غش ولا تضليل ولا خداع، واطلب الصدق بعناية، وتحراه طول كلامك وطول أعمالك، ولا تزال تصدق وتتحرى الصدق حتى يكتبك الله مع الصديقين، فلان صديق من الصديقين، أما مريم فقد شهد الله لها بذلك.وقول الله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ [الزمر:32] من سورة الزمر حتى قال: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33] قال العلماء: هذه الآية تشير إلى أبي بكر الصديق . فالذي جاء بالصدق من هو؟ رسول الله، والذي صدق به أول واحد؟ أبو بكر الصديق ، إذ ثبت باليقينيات أن أول من أسلم من الفحول من الرجال هو أبو بكر الصديق ، وأول من أسلم من نساء العالم هي خديجة بنت خويلد ، وأول من أسلم من العبيد الأرقاء بلال بن رباح ، وأول من أسلم من الأطفال الصغار علي بن أبي طالب ، ففازوا بالأولية والأسبقية.إذاً: أنتم الآن مخيرون، قولوا: إن شاء الله نكون كلنا من الصديقين، فقط لا تكذب أبداً لا في قولك ولا عملك، ليكن الصدق طبعك، لا تزال تطلب الصدق وتتحراه في حياتك حتى يسجل اسمك في ديوان الصديقين، إذ هذا الحديث من أصح الأحاديث. ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل ) وكلمة (الرجل) ليس معناها أن النساء لا يدخلن، فهذه مريم صديقة، وإنما لعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بآداب الفحول وأخلاقهم لا يذكر النساء بينهم، عرفتم؟ والدليل: هل بيننا امرأة جالسة؟ أبداً، النساء وراء الستار، تلك منازلهن، والفحول هذا هو منزلهم، فمن هنا يراعي الله عز وجل ورسوله آداب وأخلاق المؤمنين، ما يقحم النساء في كل ميدان من الميادين؛ لأن الرجال لا يرضون بهذا، لم؟ لشرفهن.إذاً: قال: ( ولا يزال الرجل ) والمرأة كذلك.( يصدق ) في قوله وعمله ( ويتحرى الصدق -ويطلبه- حتى يكتب عند الله صديقاً ) حتى يفوز بالجائزة المسماة بالصديقية ويصبح فلان صديقاً. إذاً: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:46] هل عرفتم من هم الصالحون؟ بينا هذا وعرفه السامعون والسامعات، لكن إخوان لنا زائرون ما عرفوا، من يرغب أن يكون من الصالحين؟ كلنا، يا راغبًا في أن تكون من الصالحين! أد حقوق الله كاملة، لا تبخس ولا تنقص منها حقاً وأنت قادر على أدائه، وأد حقوق الناس أبيضهم وأسودهم، كافرهم ومؤمنهم، أد حقوقهم وافية، لا تنقص حقاً من حقوقهم يسجل اسمك في ديوان الصالحين، كـعبد القادر الجيلاني ومولاي إدريس وسيدي العيدروس . عرفتم؟ أد حقوق الله التي أوجبها عليك وأنت قادر على أدائها، وإذا عجزت فقل: رب عجزت سامحني، ما استطعت، والله يسامحك ويعفو عنك. أد حقوق الناس، امرأتك، أولادك، جيرانك، إخوانك، أي إنسان له حق عليك أعطه حقه، لا تستهن به ولا تحتقره ولا تحتل عليه، أد حقوقه، وبذلك لا تزال هكذا حتى يأتيك القبول وتصبح في عداد الصالحين، فالأولياء والأنبياء صالحون والله العظيم، والشهداء صالحون، والصديقون صالحون، إذ كل المواكب تعود إلى أنهم من الصالحين، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ هداية الآيات: من هداية الآيات:]

أولاً: فضل مريم عليها السلام وكونها ولية صديقة
قال: [أولاً: فضل مريم عليها السلام وأنها ولية صديقة ]، ولكن هل هناك من يقول: مريم نبية؟ أي نعم. منهم من يقول: نبية؛ لأن جبريل أرسل إليها والله يوحي إليها ويكلمها، فكيف لا تكون نبية؟ والجمهور من أئمة الإسلام أن المرأة لا تنبأ؛ لأن النبي مأمور بإبلاغ الرسالة والنبوة، والمرأة ليست متأهلة لأن تخاطب الرجال وتدخل في صفوفهم حتى تعلم وتبلغ.إذاً: فهي ولية صديقة ولكن ليست نبية، وإن كلمها ملك وهتف بها الملائكة كأم موسى، أما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي [القصص:7]؟لتبقى النبوة والرسالة محصورة في الذين يستطيعون البلاغ والبيان والتعليم، فيكفيها أن تكون صديقة ولية، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع ) من هن؟ آسية بنت مزاحم امرأة فرعون. سبحان الله! امرأة فرعون ولية؟ أي نعم. وحسبها أنه قتلها في المشنقة، آسية بنت مزاحم ، مريم بنت عمران ، خديجة بنت خويلد ، رابعاً: فاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم. ( وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام )، سمت لأن رسول الله يحبها، هذه بنت الصديق ، هذه أعلم نساء العالمين، أخذت معارف رسول الله وكانت تفتي وراء الستار، ويأتي كبار الصحابة يسألونها وتعلمهم، من لم يحب عائشة ما أحب رسول الله، ومن لم يحب رسول الله كافر عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. تعرفون من عائشة هذه؟ هذه بنت أبي بكر الصديق .إذاً: من هداية الآيات كما سمعتم: [ فضل مريم عليها السلام وأنها ولية صديقة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من كمل النساء، ففي الصحيح: ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) ].وفي رواية أخرى: ( وخير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أما أمي وأمك فإن شاء الله صديقة ولية، أمهاتنا وليات أم لا؟ كل مؤمن تقي هو لله ولي، وإذا لم يكن وليًا الله ماذا يكون؟ يكون عدوًا لله؟ إذاً: هل يوجد من المؤمنين عدو لله؟ لا أبداً، كل مؤمن تقي فهو لله ولي، ولو لم تظهر الكرامات على يديه، المهم أن يكون مؤمناً صادق الإيمان تقياً لم يفجر ولم يفسق ولم يخرج عن طاعة الله ورسوله، وإن زلت قدمه وفجر يوماً أو فسق عاد وغسل وطاب وطهر بتوبته.

ثانياً: أهل القرب هم المطيعون القانتون
قال: [ ثانياً: أهل القرب من الله هم أهل طاعته القانتون له ] من هم أهل القرب من الله القريبون من الله؟ أهل الطاعة القانتون له؛ لأن هذا مأخوذ من قوله تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، فمن أراد أن يقرب من الله فالله يقول: ( من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ) أليس كذلك؟ تقرب إلى الله ولو بخفض صوتك، لا ترفع صوتك على المؤمنين، تقرب إلى الله ولو بشوكة تجدها في طريق المؤمنين، أبعدها عنهم، تقرب إلى الله ولو بلقمة تضعها في في جائع من المؤمنين، القرب إلى الله سهل جداً، قم صل ركعتين وابك، تقرب إلى الله عز وجل، واقرءوا لذلك أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ولا يزال المرء يتقرب إلى الله حتى يحبه ) فإذا أحبك نم فالمخاوف أمان.

علامات معرفة حصول الولاية ومحبة الله تعالى للعبد
أهل الحلقة يعرفون من هم أولياء الله؟ من هم؟ هم المؤمنون المتقون، كل مؤمن تقي هو لله ولي.وأخرى أيضاً: من منكم يعرف أن الله يحبه أو لا يحبه؟ من يرغب في أن يعرف أن الله يحبه؟ كلنا يرغب. وهل يوجد بينكم من يحبه الله؟ أي نعم. وكيف لا؟ إذاً لماذا نصوم ونصلي؟ لماذا نحن عاكفون هنا؟ نريد أن يحبنا أم لا؟ من لم يحبه الله خسر خسراناً أبدياً.إذاً: العلامة هي أن تنظر: فإذا ما كنت تستطيع أن تسمع السوء والباطل والمنكر والكذب والحرام فهذه خطوة إلى حب الله.ثانياً: إذا أصبحت لا تستطيع أن تنظر إلى ما حرم الله عليك فهذه علامة أن الله قد أحبك، إذا أصبحت لا تستطيع أن تنطق بكلمة مما يغضب الله؛ فهذه علامة أنك محبوب، إذا أصبحت لا تستطيع أن تتناول بيدك أو تعمل بها أي شيء يغضب الله؛ فهذه علامة أنك محبوب، إذا أصبحت لا تستطيع أن تمشي خطوة ولا خطوتين ولا عشرًا في طريق غضب الله اعلم أنك محبوب، واسمعوا الخبر الصادق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية البخاري عن أبي هريرة -والحديث قدسي شريف-: ( يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) الذي يعادي ولياً من أولياء الله أعلن الله الحرب عليه، فليحمل سلاحه.( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) التقرب إلى الله أي: طلب القرب من الله بفعل الفرائض أعظم شيء، بنص كلامه تعالى، ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلي ) أي: يطلب القرب مني بالعبادات والصالحات( حتى أحبه ).إذا كنت عسكريًا فهل تكون عقيداً أو عميداً في يوم واحد؟لا بد من التأخر، تعمل وتعمل في مراحل حتى تصبح عميداً أو جنرالاً، فبعض الرجال يصل إلى هذا في أربع سنوات، وبعضهم في سبع سنين، وبعضهم يمكث عشرين عامًا وهو عُسكري ما تقدم، عشرين سنة ما تقدم، فكذلك الولاية، فبعض الناس من سنة واحدة وهو ولي لله، أقرب الناس إلى الله منا؛ لأن الله قال: ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )، فما ندري: في عام أو عامين أو عشرة أو خمسين سنة؟ المهم أن تتقرب إلى أن يحبك الله، فإذا أحبك فما علامة حبه لك؟ هو هذا: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنّه، ولئن استنصرني لأنصرنّه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي؛ يكره الموت وأكره مساءته ) .الآن عرفنا المحبوبين لله، إذا صدقك صديقك وقال: والله ما نستطيع أن نسمع الباطل، إذا تحدث الناس أقوم أنا، ما نستطيع أن ننظر إلى ما حرم الله، كأنما لهب النار في وجهي، ما نقوى على أن ننظر إلى امرأة لا تحل لنا، ما نقدر على أن نلطم مؤمنًا بكف، يدي ملكها الله، ما نستطيع أن نمشي خطوة واحدة إلى منكر أو إلى باطل، ما نقوى، ما نستطيع سماع الحرام، لم؟ لأن الله ملك هذه الآذان: ( كنت سمعه الذين يسمع به ) ، وهل الله يستخدم سمعه في ضده؟! حاشا لله، يستعمل الله هذا البصر الذي ملكه ليشيع الباطل والزنا؟! لا، وهكذا أيما واحد منا - معشر المستمعين والمستمعات - أصبح لا يقدر على أن يسمع باطلاً ولا أن ينظر إلى حرام ولا أن يتناول منكراً أو حراما، ولا يمشي إلى باطل؛ فليعلم أن الله قد أحبه، هل هناك أوضح من هذا الطريق؟

ثالثاً: الصلاة سلم العروج إلى الملكوت الأعلى
قال: [ثالثاً: الصلاة سلم العروج إلى الملكوت الأعلى]، كيف هذا؟سبحان الله! توضأ وتطيب وقف بين يدي الله، الله أكبر! أنت مع الله، اخترقت الملكوت كاملاً وأنت تتكلم مع الله.والله تعالى أسأل أن يحقق لنا ذلك؛ إنه وليه والقادر عليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-24, 02:57 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (12)
الحلقة (153)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة آل عمران (2)

الله عز وجل هو خالق الخلق، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى عليه شيء في كونه الفسيح، فهو يصور عباده في أرحام أمهاتهم كيف يشاء، ويعلم ما سيكسبه كل واحد من عباده طيلة حياته، وما ستئول إليه نهايته، ومصيره في الآخرة، فهو العليم بعباده، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا! ها نحن في فاتحة سورة آل عمران، وهي السورة الثالثة من كتاب الله، سبقتها البقرة والفاتحة، وهذه السورة مدنية، والسور المكية ما نزلت في مكة والمدنية ما نزلت بالمدينة. وهناك ضابط آخر: ما نزل بعد الهجرة فهو مدني، وما نزل قبل الهجرة فهو مكي.والذي أرى هنا: أن السورة المكية تعالج العقيدة وتضع لها قواعدها وأسسها، وأما السورة المدنية فإنها بالإضافة إلى العقيدة تقرر الأحكام الشرعية، وتبين الحلال والحرام، وتبين الواجبات والمتطلبات لهذه الحياة. من عجيب هذه السورة المدنية: أن آخرها نزل قبل أولها. كيف ذلك؟ القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ في الإمام المبين وينزل بحسب الأحداث والمتطلبات، فينزل آيات.. أحياناً تنزل آية واحدة ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لكتبة الوحي: ضعوها عند كذا في مكان كذا فيكتبونها، حتى إذا انتهت السورة ختمت، وقد يبدو لهم أن السورة قد كملت وتأتي آيات فيؤمرون بكتابتها بين كذا وكذا. ومن هذا: أن حوالي ثمانين آية من سورة آل عمران نزلت في وفد نجران كما علمنا، ووفد نجران وفد في سنة الوفود في السنة التاسعة للهجرة، وآخر آل عمران نزل في أحد، وأحد كانت في السنة الرابعة أو الثالثة. إذاً: أول هذه السورة متأخر النزول وأولها متقدم. ولا تحفلوا بهذا كثيراً فإنما هو مزيد علم فقط.

معنى قوله تعالى: (الم)
هذه السورة مفتتحة بقول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: الم [آل عمران:1]. فماذا عرفنا وعلمنا عن فواتح السور؟ الجواب: علمنا أن هذا من المتشابه، فيفوض أمر فهمه إلى الله، فقل: الله أعلم بمراده به، الله أعلم بمراده من هذا اللفظ، وستأتي الآية التي انتهينا إليها في الدرس الماضي وهي: أن القرآن الكريم منه المحكم ومنه المتشابه، والمتشابه لا يعلمه إلا الله، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)، يبتغون تأويله من أجل الفتنة فاحذروه.

فوائد الحروف المقطعة في فواتح السور
هناك لطيفة ثانية وهي أن لهذه الحروف حكمتين ذكرناهما ولكن لا بأس أن نذكرهما مرة ثانية:الأولى: أن هذه الحروف بهذه الصيغة وهذا واللحن هذا الجرس ما كان معروفاً عند العرب، وهم أهل اللسان، أهل اللغة، أهل البيان، والقرآن نزل بلسانهم لكنهم لم يكونوا يسمعون: كهيعص [مريم:1] أبداً، هذا الصوت ما سمعوه أبداً، المر [الرعد:1]، طسم [الشعراء:1].إذاً: لما كانوا معرضين عن سماع القرآن وكانوا يسدون آذانهم حتى لا يسمعون، بل صدر أمر حكومي في مكة من رئيس مكة أبي سفيان : ممنوع على المواطن أن يسمع قراءة القرآن. لم؟ حفاظاً على معتقد الشعب، حفاظاً على وحدته، هذه الدعوة تريد أن تزلزله وتزعزعه. إذاً: ممنوع سماع القرآن، وإذا قدر لك وقرأ رسول الله أو فلان فاصرخ بأعلى صوتك حتى لا يتسرب صوته إلى سمعك.ذكر الله عنهم هذا في سورة فصلت إذ قال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:26] باللغو والكلام الباطل، عندما يقرأ أبو بكر أو فلان أو فلان الغوا فيه؛ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26] فتبقى لكم عقيدة الشرك والباطل. من زين هذا لهم؟ إنه أبو مرة عدو الإنسانية إبليس، هو الذي يخترع هذه الاختراعات ويوسوس بهذه الوساوس!فلما كانوا معرضين عن سماعه شاء الله أن ينزل فواتح بعض سور القرآن بهذه الحروف، فإذا سمع الذي لا يريد أن يسمع: حم * عسق [الشورى:1-2]، اضطر إلى أن يصبر، فلا بد يسمع ليعلم ما بعد هذا، فهذا شيء جديد، ونغم لم يسمعه، فلما يسمع يتسرب النور إلى قلبه. هذه فائدة جليلة وعظيمة من فواتح السور عرفها المؤمنون.ثاني فائدة:: لقد عقد أهل مؤتمراتهم في دار ندوتهم وقالوا وقالوا، قالوا: هذا سحر، وقالوا في صاحبه: مجنون، وقالوا: هذا كلام الكهنة، وغير ذلك مما قالوه ظلماً وعدواناً؛ حتى لا يقتنع مواطن بأن هذا وحي الله وكلامه، فيؤمن ويدخل في رحمة الله، فرد الله عليهم بقوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:221-224]، فأبطل دعوى: أن محمد شاعر. أين الشعر؟ وأبطل أنه كاهن تتنزل عليه الشياطين، فأبطل الله هذه بالمرة، فقال لهم: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ [الشعراء:221] الجواب: تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:222]، ذاك الكذاب الذي يقلب الحقائق ويبطل الحق ويحق الباطل. (الأثيم): المغموس في الإثم من الخمر.. القمار.. الباطل.. الكذب، هذا الذي تهيأ لأن تنزل عليه الشياطين؛ لأنه أصبح مثيلاً لهم، أخاً من إخوانهم، أما صاحب القلب الطيب والروح الزكية فلا تستطيع الشياطين أن تستقر فيها، فهم ينزلون في المراحيض والمزابل والقمائم والحشش، فإذا كان القلب خبيثاً يستقر إبليس وينزل فيه وكأنه قصر، وأما إذا كان القلب طيب ورائحته زكية فلا يستطيع. افتتح الله نيفاً وعشرين سورة بهذه الحروف وكأنما يقول لهم: إن هذا القرآن المعجز الذي تحداكم منزله على الإتيان بمثله.. بعشر سور.. بسورة واحدة، فحزنتم وبكيتم وما استطعتم، هذا الكلام الإلهي مؤلف من هذه الحروف: حم [الشورى:1]، ق [ق:1]، يس [يس:1]، طه [طه:1]، ص [ص:1]، ن [القلم:1]، فألفوا مثله أنتم! إن كنتم تدعون أن هذا ليس كلام الله فأتوا بمثله، فهذه ليست بحروف أعجمية، وإنما هي حروف لغتكم: الم [البقرة:1]، ص [ص:1]، فألفوا من هذه الحروف كلاماً آخر وحادوا الله به إن استطعتم! ويشهد لهذه اللطيفة في الغالب: أنه ما ذكرت الحروف إلا ذكر القرآن بعدها : ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1]، ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [الرعد:1]، الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1-2]، من هذه الحروف يتألف هذا القرآن، فألفوا مثله، أو اسكتوا وطأطئوا رءوسكم وقولوا: آمنا بالله!والآن أتباع هؤلاء يحاربون الدعوات الإسلامية ويقفون في وجهها، وما حوربت دعوة أكثر من دعوة محمد بن عبد الوهاب ، فقد حوربت في الشرق والغرب بالأباطيل والتراهات، مع أنه رحمه الله ما زاد على أن قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له). ولكم كل من كان يرأس جماعة أو يأكل على حسابهم لا يسمح لهذا الدين الصحيح أن يتغلغل في جماعته، ورجال الكنيسة من النصارى أكثرهم يعرف أن هذا هو دين الله وأنهم كفار، ولكن المنصب الذي نصب عليه يجعله لا يتخلى عن هذا الدين الباطل ولا يتنازل عنه أبداً.

معنى قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو)
يقول الله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2]. (الله) لفظ الجلالة مبتدأ أخبر عنه: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2]. (الله) هذا الاسم العلم على ذات الرب تبارك وتعالى، هذا الاسم اسم الله إذا ذكر الله عرفت ذات الله التي أوجدت كل موجود ودبرت كل أمر في السماء والأرض منذ أن أوجد الله الكائنات! الله الذي خلقك في رحم أمك! الله الذي جاءك بالشمس لتكتسب الحرارة والدفء منها! الله الذي به نطقنا وبه نظرنا وبه قمنا وقعدنا، ولولاه ما كنا فلا إله إلا هو!ما معنى: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2] في لغة العرب؟أولاً: الإله هو المعبود، فكل ما عبد يطلق عليه اسم إله في لسان العرب، سواء كان في لغة الحجاز أو تميم، فكلمة (إله) معناها: معبود، سواء كان كوكباً أو كان حجراً أو كان إنساناً أو حيواناً، فلفظة (إله) معناها: معبود، فلما تقول: (لا إله) أي: لا معبود (إلا الله).أين جاء ذكر (إله) بمعنى معبود في لسان العرب من القرآن الكريم؟ جاء من سورة (ص) إذ قالوا في اعتراضهم: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، هذه قولة رجالات قريش وصناديدها قبل أن يهلكوا في بدر، قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:5-6]! إي والله عجب! دفاع قوي وحماس! علام يدافعون؟ على باطل ألفوه، عاشوا عليه ورضعوه من ثدي الأم، فلا يستطيعون أن يتخلوا عنه أبداً! هذا هو العجب! أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5]، كلها صبغها بصبغة واحدة؟ جعل الإله واحداً! فهنا أسمع الله وفد نجران الصليبي النصراني قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2]، لا عيسى ولا مريم ولا روح القدس.. ولا أحد غيره سبحانه، فزلزلت أقدامهم، إذا جاءوا يجادلون رسول الله ويحاورونه يريدون أن يقنعوه أن عيسى إله مع الله. هذا الوفد كان يتألف من ستين فارساً نزلوا بالمدينة، ولم يمن بالمدينة فنادق ولا شقق، ولكن وزعهم الحبيب صلى الله عليه وسلم على أصحابه واحداً واحداً، وهم من كبار علماء النصارى ورجالهم، جاءوا يجادلون الرسول ليقنعوه أن عيسى ابن الله! من أعظم الخرافات أن يكون الإله خلق في بطن امرأة اسمها مريم ويصبح هو الله أو ابن الله! فهذا المعتقد انتهى، ولكنهم الآن يتغنون ويبذلون المليارات في سبيل نشر هذا الباطل! كيف يعقل أن يكون الرب مخلوقاً أمه مريم، وخرج من بطنها ومات أو يموت وكان عدماً ويصبح هو الرب؟ ولكن النصارى يزعمون ذلك، ويقولون: الأقانيم ثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس، ويسمعون ذلك ويقبلونه؛ لأنهم مسحورون بالمادة، مع عرفوا معنى لا إله إلا الله ولم يخالط التوحيد قلوبهم!

معنى قوله تعالى: (الحي القيوم)
قال الله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ [آل عمران:2] الحياة الأبدية الأزلية، كان ولم يكن شيئاً! يقول الإمام البخاري في كتاب الأنبياء: (باب: كان الله ولم يكن شيء غيره) فهو سبحانه الحي الحياة الأزلية التي لم تسبق بعدم، والأبدية التي لا يلحقها عدم. هذا هو الحي.والحياة تستلزم السمع والبصر والقدرة.. وغير ذلك من الصفات، ويدلك على ذلك: قوله: الْقَيُّومُ [آل عمران:2]، فالقيوم أعظم من القائم، فالقائم على الأسرة فلان، والقائم على البلاد فلان، ولكن الله هو القيوم على كل ذرات الكون وموجوداته، الله هو القائم عليها، ولولا قيوميته لتصادمت الكواكب واحترقت وانتهى الكون، فلو تقترب الشمس من الأرض درجة واحدة أو تهبط لاحترق الكون كله! فمن هو القائم عليها؟ إنه القيوم سبحانه! وقد جاء في سورة الكرسي: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]! وقد قيل لموسى أو أحد الأنبياء: كيف لا ينام الله؟ فقال: خذ هذا الكوب وضعه بين يديك ولا تنم طول الليل. فسهر حتى أخذ النوم يراوده والكوب في يديه فسقط الكوب وتحطم. فقال له: لو كان الله ينام لخرب العالم منذ الآلاف السنين!

التحدي العظيم بإنزال القرآن الكريم
يقول الله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:3]. نزل عليك يا رسولنا يا محمد صلى الله عليه وسلم، نزل عليك الكتاب الفخم العظيم الجليل. القرآن عظيم جليل؟ إي والله، يدلك على جلالته وعظمته أن الله تحدى البشرية من الجن والإنس على الإتيان بكتاب مثله فطأطئوا رءوسهم وفشلوا: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] أي: ناصراً ومعيناً. وأما العرب فتحداهم بسورة فقط، والله ما استطاعوا! وإلى اليوم أيضاً باب التحدي مفتوح! ‏

الفرق بين (نزّل) و (أنزل)
لم قال الله (نزّل) ولم يقل: (أنزل) عليك الكتاب؟ هل هناك فرق بين (نزَّل) و(أنزل)؟ نعم، هناك فرق. (أنزله)، أي: جملة واحدة. و(نزله). أي: تدريجاً آية بعد آية وسورة بعد سورة وحكماً بعد حكم في ظرف ثلاثة وعشرين سنة، أما (أنزله) فجملة واحدة كما أنزل التوراة والإنجيل، أما القرآن فقد نزله تنزيلاً.قال: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:3]. فقرر التوحيد، وقرر نبوة محمد ورسالته، وكأنما الآية تقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، يا معشر النصارى اكفروا بصليبكم وآمنوا بالإسلام، فهذا نبيه ورسوله، فأبطل دعواهم. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:3] فلا يفارقه أبداً، وكله حق، ليحق به الحق ويبطل الباطل.

تصديق القرآن بالكتب السماوية من قبله
يقول الله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:3]. معنى: (مصدقاً)؟ أي: القرآن مصدق. (لما بين يديه) أي: لما أمامه من الكتب التي تقدم نزولها على رسل الله. وهذا التصديق له دلالته، فلو كان القرآن كلام إنسان كما قالوا: محمد عاش في صحراء حارة صهرت ذهنه وفاضت روحه بهذا الكلام، فلو كان ليس كتاب الله لأخذ يطعن في الكتب السابقة ولا يوافقها، ويعلن عن بطلانها، ولا يرضاها! فلو كان القرآن ليس بكلام الله ما كان ليشيد بالكتب السابقة ويثني عليها ويعترف بها. فهذا دليل عقلي منطقي، فما دام يصدق بالكتب السابقة ولا ينفيها ولا يبطلها فهذا كلام الله.

معنى قوله تعالى: (وأنزل التوراة والإنجيل)
يقول الله: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ [آل عمران:3]، ما قال: (ونزل التوراة والإنجيل) بل قال: (وأنزل التوراة والإنجيل)، أي: الذي نزل عليك الكتاب بالحق أنزل أيضاً التوراة على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام، فالتوراة نزلت جملة واحدة وكذلك الإنجيل، فالتوراة قيل عربيها: الشريعة، والإنجيل قيل معناه العربي: التعليم، ولا حرج، فهما كتابان منزلان من عند الله عز وجل، إلا أن اليهود كالنصارى أفسدوا كتاب الله بما أضافوا فيه من حواش وتفسيرات وتأويلات كما شاءوا، وغطوا الأصل موجود، وأخذوا يفسرون كلام الله بحسب أهوائهم وشهواتهم ومصالحهم، ويؤولون كلام الله الصحيح، وخاصة في صفات محمد صلى الله عليه وسلم ونعوته؛ حتى لا يؤمنوا به. اسمعوا عيسى مع بني إسرائيل: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي [المائدة:72]، (يا بني إسرائيل) يا أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم! اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. هذه كلمة قالها عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، قال في ملأ من بني إسرائيل وهو يدعوهم إلى الله: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:72] أنا عبد وأنتم عبيد، والرب واحد، إلهي وإلهكم واحد إِنَّهُ [المائدة:72] والله مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ [المائدة:72] غيره في عبادته فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72]، فالجنة دار السلام ممنوعة عن المشركين ومحرمة عليهم؛ لأن المشرك بخس حق الله وأعطاه لمن لا يستحقه متحدياً ربه معرضاً عنه، يلعب بشرائعه وأحكامه؛ لأن الحياة كلها علتها وسر وجودها هي أن يعبد الله وحده، أراد الله أن يعبد فأوجد هذا الكون وهذه المخلوقات، فالله عز وجل خلق الجنة وخلق النار وراء هذا الكون وخلق هذه الأكوان وخلق الإنس والجان لشيء واحد وهو أن يذكر ويشكر، والعبادة كلها ذكر وشكر، ما خرجت عنهما، فكان صرف تلك العبادة التي خلق الله الخلق وخلق الحياة كلها من أجلها مسخ وشرك بالله العظيم.

أعظم الذنوب الشرك بالله
إن المتأمل المتفكر يعرف أن الشرك من أعظم الذنوب، وهذا لقمان الحكيم من بلاد النوبة، أسود أوتي الحكمة، وضع بين يديه طفله الصغير يربيه، يؤدبه، يعلمه، فقال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:17-18].وقبل هذا قال: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، لا يُقادر قدره أبداً! كيف يخلقك الجبار ويرزقك ويهبك بصرك وسمعك وعقلك ويوجد التراب حولك وكل الفواكه والخضر، ثم تقف أمام حجر وتصرف له العبادة من دون الله.مررت مرة بالهند برجل متحضر كأنه بريطاني، الكرافتة في عنقه، وهو ماثل أمام قرد ميت، فقلت: يا ليتنا نقف أمام الله هكذا بهذا الخشوع والخضوع! وتمر بالمحلات ودور السلع فتجد الإحليل وخصيتين من نحاس ويشتريها من رجل عاقل فيعبد هذا الفرج في بيته! الخضوع والخنوع والخشوع والانطراح يجب أن لا يكون بين يدي كائن من كان إلا الله عز وجل، ولكن لما جهل المسلمون القرآن صارت آلهتهم بالمئات، لكنهم لا يسمونهم آلهة؛ لأن هذا لا يقبل، ولكن يقولون: سيدي فلان، أما العبادة بالذات فتقدم له، خوفاً منه، ورغبة وطمعاً فيه، وتذبح له الذبائح التي تعرفونها، وإخواننا المصريون عندهم عجل البدوي ، فيذبح للسيد البدوي ، المواسم، المواليد أو الموالد، وأهل المغرب الإسلامي يسمونه: الموسم، موسم سيدي فلان، والمشارقة يسمونه: مولد، مولد سيدي فلان، ويذبحون الأبقار والأغنام والدجاج أيضاً إذا ما عنده دجاجة، ولا يفهمون أن هذا عبادة لغير الله أبداً، أبداً.

الحلف بغير الله شرك
يحلفون: (وحق سيدي فلان، ورأس سيدي فلان)، ولا يفهمون أنهم عظموا غير الله، وعبدوا غير الله! هل تدرون أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قال: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )؟ والحديث صحيح في سنن الترمذي وجامعه، ونحن لو حللنا هذا، ولو ما صح الحديث عرفنا هذا، فالحلف بالشيء تعظيم له أو لا؟ أسألكم بالله! الإنسان عندما يحلف ببقرة، يحلف بامرأة، يحلف بشيء يعظمه أو لا؟إذاً: من هو الأكبر؟ الله أكبر! فإذا حلف بكائن عظمته وجعلته مثل الله، وأشركت هذا المخلوق في عظمة الله؛ حيث عظمت هذا المخلوق وحلفت به، وهو أمر واضح كالشمس، لولا أن الرسول نهانا وحرم علينا وقال على المنبر: ( ألا من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، فقد نرتاب أو نشك، وقال على المنبر: ( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت ).ومن باب التذكير أقول: لما هبطت الأمة إلى هذا الحضيض بعد أن كانت في علياء السماء، إذا اشتكى اثنان في المحكمة يقول سيادة القاضي: احلف بالله. فيقول الخصم: لا لا، سيحلف بالله خمسين مرة، حلفه بسيده فلان؛ فيأبى الحلف، فأصبح القاضي إذا حلف اثنين في خصومة يحلفهم بالسيد عبد القادر أو سيده موسى أو سيده عبد الرحمن أو مولاه إدريس أو السيد البدوي ، ولما بدأت دعوة الإصلاح تنتشر قالوا: لم هذا؟ قال: هذه حقوق الناس، أموال الناس. إذا قلنا: احلف بالله سيحلف سبعين مرة؛ ويأخذ حق أخيه الإنسان، لكن إذا قلنا: احلف بسيدي فلان؛ فإنه يخاف ويعترف بالبقرة!ووقعت حادثة عندنا، لا بأس أن أقصها عليكم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يرفه على أصحابه، وهي حكمة:تحاكم اثنان في المحكمة، فصدر الحكم بأن يحلفه بسيده فلان، ويعطيه شاته أو دراهمه، فأحدهما عفريت من بني آدم، جعل هراوة تحت برنوسه أو جناحه، وقال: امش تحلف، وكان الضريح مغلقاً، ولكن يوجد به نافذة يدخل منها رأسه ويحلف فالقبر في قبة، فلما وصلا أدخل الرجل رأسه يحلف؛ فانهال الآخر عليه بالهراوة، فتركه يتشحط في دمه وهرب. فجاء الناس ما هذا؟ فقال: سيدي فلان هو الذي ضربه؛ لأنه حلف به كذباً! سبحان الله! هذا شأن الذي يحلف بالباطل! فالحمد لله عدنا إلى معرفة لا إله إلا الله، فلا نركع ولا نسجد ولا ننحني ولا نخضع ولا نذل إلا لله عز وجل، فكيف أحلف باسم إنسان وأعظمه؟! الله أكبر، لا أكبر منه أبداً.

تفسير قوله تعالى: (من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان...)
قال الله: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ [آل عمران:3-4]، أي: من قبل القرآن، الذي نزله عليك يا رسولنا وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:3-4]. ‏

معنى قوله تعالى: (هدى للناس)
ما معنى: هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:4]؟ أي: لهداية الإنس. الناس بنو آدم، بنو إسرائيل، اليونان.. تلك الأمم لولا أن الله أنزل كتابه كيف تهتدي؟ أنزل من قبل القرآن التوراة والإنجيل لهداية الناس إلى طريق سعادتهم وكمالهم، وليطهروا ويصفوا، وليعدلوا ويتراحموا، وليعزوا ويسودوا، وليدخلوا الجنة دار السلام بعد موتهم، ما أنزلها للباطل ولا للهو ولا للعب.

معنى (الفرقان)
قال: الله مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4]، لفظة (الْفُرْقَانَ) تطلق على القرآن، واقرءوا: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]. ما (الْفُرْقَانَ)؟ القرآن. لم تكرر هنا؟ هنا القرآن يراد به: ما يفرق الله به بين الحق والباطل من الحجج، والدلائل والبراهين والبينات، كلها أنزلها الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم ببيانها وإظهارها للناس ليهتدوا بذلك إلى ربهم فيعبدوه ويسلموا من العذاب والشقاء.

التهديد بالعذاب الشديد لمن كفر بآيات الله
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [آل عمران:4]، يا ويحكم يا وفد نجران! سجل الله كفركم؛ لأنكم أصررتم على تأليه عيسى فأنتم كافرون، أبيتم أن تؤمنوا بمحمد ورسالته وكتابه! إذاً: إن لكم العذاب الشديد، لكن ما قال: إن لوفد نجران الذين كفروا، قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:4]؛ ليشمل كل من كفر، إلى أن تقوم الساعة. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:4]، بأي شيء؟ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:4]، ما هي آيات الله؟ القرآنية، الإنجيلية، الزبورية، التوراتية، التي نزل بها كتابه، وآيات أيضاً أخرى معجزات يعطيها الله لرسله وأنبيائه، فهي علامات دالة على صدق ذلك الرسول، وعلى وجود الله الحي القيوم، وعلى أن دين الله هو الإسلام. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:4]، لعل بعض السامعين يقول: كيف كفر بالآيات؟ ما اعترف بها، قال: لا نؤمن بها، هذا هو، جحد أن يكون هذا كلام الله، وأبى أن يأخذ بما فيه ويعمل بما فيه، الكفران: هو الجحود والإنكار وعدم الاعتراف، وهو لغة من لغة العرب، كفر وجحد بمعنى أنكر، بمعنى واحد. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [آل عمران:4]، والتنكير في (عَذَابٌ) للتفخيم. ما بالكم بالرجل يوضع في تابوت من حديد ويغلق عليه ويرمى في أتون النار ملايين السنيين، والله لا يأكل ولا يشرب ولا يتكلم ولا يسمع ولا يرى، وهو حي يتألم جوعاً وعطشاً في النار؟ أي عذاب هذا؟ يقف الرجل ويصب الحميم على رأسه فيصهر ما في بطنه.

معنى قوله تعالى: (والله عزيز ذو انتقام)
قال الله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4]، صفتان جليلتان لله، الله رب العالمين الإله الحق عزيز، فما معنى: (عَزِيزٌ)؟ ليس بذليل سبحانه، لا يمانع في شيء أراده، فالعزيز بحق الذي إذا أراد شيئاً لا يمكن أن يحال بينه وبين ما يريد، هذه هي العزة، الغلبة والقهر، عزيز. (ذو انتقام). ينتقم من أعدائه لأوليائه، والله العظيم.سيقول البعض: أرنا الانتقامات يا هذا في الدنيا! فأقول: أتعرفون عن قوم عاد أم لا؟ أين كانت عاد هذه؟ جنوبنا، أمامنا، كانت مدناً حضارية، ناطحات السحاب عندهم قبل أن تعرفها أوروبا؛ لأنهم كانوا طوال الأجسام، منهم من طوله عشرون ذراعاً ثلاثون إلى ستين كآدم عليه السلام، ويكفيك قولهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، فرد الله عليهم بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15]، تحدى القوة بالقوة. وقال: أَلَمْ تَرَ [الفجر:6] يا رسولنا كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]، ما هي إلا جولة فقط، سبع ليالي وثمانية أيام، عواصف لم تر الدنيا نظيرها سبع ليالي وثمانية أيام، بدأت باليوم وانتهت بالليل، ثمانية أيام وسبع ليال، فتحولت ديارهم إلى دمار كامل، واقرءوا قول الله: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:6-8]. والفلاحون يعرفون هذه الأيام بالضبط، في آخر الشتاء، وتسمى عندهم بقرة العجوز، والقر هو البرد ضد الحر! في آخر يوم دخلت عجوز في عمق جبل في غار، وظنت أنها تنجوا وتسلم، وإذا بالريح في آخر اليوم تتلولب فوصلت إليها وجرتها! فلا إله إلا الله!ومن أراد أن يرى أطلال ثمود يمشي إلى مدائن صالح، وينظر بعينه كيف صنعوا من الجبال منازلاً وقصوراً، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [الشعراء:149]، الآن أمريكا لا تستطيع أن تفعل هذا، ولكن تلك الأمة ماذا أصابها؟ قال الله: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود:65]، فلما كان اليوم الأول أصيبوا باصفرار في وجوههم، وفي اليوم الثاني اسودت وجوههم، واليوم الثالث بركوا على ركبهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يتزوجون ولا يعملون، أمة كاملة جاثمة على ركبها، فودعها صالح وقال: فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [الأعراف:93]، صباح السبت أخذتهم الصيحة فإذا أرواحهم كلها في عالم الشقاء، صيحة واحدة ثلاثة أيام!أين فرعون وملئه؟ أمسوا في قعر البحر وعمقه، إلا ما كان من فرعون رمته أمواج النيل أو البحر ليكون آية من آيات الله فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:92]. قالت العلماء: لما تربع بني إسرائيل في ساحة الخوف والهلع والفزع، لو أنهم لم يروا فرعون حقاً ميتاً ما كانوا يصدقون أبداً، فمن تدبير الله ورحمته أن قذفته أمواج البحر.أعطيكم مثالاً حياً: كان عندنا حاكم جبار طالت مدة حكمه وهو في الحقيقة عامل للحكومة لفرنسية والياً في منطقة، فلما مات لم يصدق الناس أبداً، من طول ما حكم وأدب وضرب ما خطر ببالهم أنه سيموت. إذاً: من تدبير الله عز وجل أن ألقى بجثة فرعون ليشاهدها الشعب الحقير الضعيف الخائف؛ حتى يطمئن إلى أن فرعون قد مات.إذاً: كل هذا دل عليه قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4]. لما أعرض المسلمون عنه وعبدوا الأولياء والقبور والصالحين ومزقوا دعوة الإسلام وشتتوها فأصبحوا مذاهب وطرقاً قدداً هنا وهناك انتقم منهم فسلط عليهم أذل الخلق من اليهود، حفنة من اليهود لا يتجاوزون خمسة ملايين عبثوا بألف مليون مسلم، أذلهم الله على أيدي أذل الخلق. ووالله إن لم يرجع المسلمون إلى الطريق من جديد لنزل بهم بلاء ما عرفوه من قبل؛ لأن الله عزيز ذو انتقام، والله لهم بالمرصاد فيمهل ولا يهمل! إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14]، ما المرصاد؟ المرصاد يعرفه الصياد الذي يصطاد النعام وبقر الوحش والغزلان، ينزل في مكان معين ويراقب، فالله عز وجل ينظر إلينا. يقول صلى الله عليه وسلم وهو واقف يخطب الناس على منبره: ( إن الله ليملي للظالم ). ما معنى: (يملي) يزيد الليالي والأيام ( ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ قول الله تعالى من سورة هود: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] ). وقد رأينا.

تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)
يقول الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]. فلا تقل: ممكن ليس بمطلع علينا، فدعنا نفرفش ونغني فهو ما يدري، إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، ولو كان هناك إله مع الله لأبانه الله وكشف عنه النقاب وأعلنه للناس، فكيف يكون عيسى إلهاً مع الله؟! ويأتي الإعلان الرباني: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].فلا يخفى على الله شيء، مطلق شيء، لا في الأرض ولا في السماء، فكيف إذاً توجدون آلهة معه وتقولون: هذا إله مع الله؟! أبطل النظرية الصليبية ومزقها فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]. وهذه من أدلة وبراهين علمه وحكمته وقدرته.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء)
قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ [آل عمران:6]. هُوَ [آل عمران:6] لا غيره سبحانه الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ [آل عمران:6]. والرحم مستودع الجنين، ثم يصور الله الإنسان، هذا أحمر، وهذا أبيض، هذا طويل، وهذا قصير، هذا جميل، وهذا دميم، هذا شقي وهذا سعيد في الأرحام. فكيف يصورنا في الأرحام ويدعي بعض الخلق أن عيسى إله، والله هو الذي صوره في رحم مريم ؟! وكيف إذاً يصوره هو ولا يدري أنه إله معه؟ والله إنها لخرافة النصارى! ويا ليتهم يحضرون عندنا، والله تمنيت طيلة ما كنت أتردد على أوروبا عشرين سنة أن يجادلني نصراني فما وجدت، خرافات عمياء! كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران:6] كيف يشاء سبحانه، فلا أحد يفرض على الله أن يكون ولده ككذا أو كذا كما يريد! قولوا: آمنا بالله، آمنا بالله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا إله إلا الله العزيز الحكيم.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-27, 05:27 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (13)
الحلقة (154)

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg

تفسير سورة آل عمران (20)


الله عز وجل كما يخلق بأسباب وسنن فهو أيضاً يخلق بدون أسباب، فقال ليعسى كن فكان في بطن أمه دون زوج لها من قبل، فكان هذا المخلوق آية في حمله، وكان آية في ولادته، وكان آية في نبوته ورسالته، وسيكون آية بنزوله آخر الزمان من السماء ليحكم الناس بشرع الله ودين الإسلام، فسبحان الذي إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون، وسبحان الذي بيده كل شيء وهو العزيز الحكيم.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك ...) من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن في سورة آل عمران، وقد درسنا في الدرس السابق هذه الآيات الثلاث، أسمعكم تلاوتها، وتذكروا ما علمتم منها، وسوف نستعرض نتائجها وعبرها؛ لنتأكد من صحة ما علمنا، ثم ننتقل إلى ثلاث آيات أخرى ندرسها إن شاء الله.الآيات السابقات تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:42-44]. ‏

هداية الآيات
هذه الآيات سبقت دراستها ونتائجها كالتالي:
أولاً: فضل مريم عليها السلام
قال: [أولاً: فضل مريم عليها السلام وأنها وليّة صدّيقة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من كمل النساء]، فكيف لا تكون صدّيقة ولية والملائكة تخاطبها بإذن الله: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42]، فهذه دالة على كمال هذه المؤمنة، وهل هي نبية؟ النبوة في الرجال، وليست في النساء؛ لأن النبي مأمور بالإبلاغ، والإبلاغ يلزمه الاتصال بالرجال والخلوة بهم وتعليمهم، والمرأة ليس لها ذلك، إذ بيتها هو مقر عملها، لا بأس أن تشهد الصلاة في مساجد الله إن أمنت الفتنة، إذ كان نساء المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن لهن بشهود الصلاة في الليل إذ لم تكن هناك أضواء وأنوار كهذه، فتشهد المرأة صلاة الصبح وصلاة المغرب والعشاء، ويعدن إلى بيوتهن ما يعرفن من الغلس كما قالت عائشة رضي الله عنها.وهذه الصدّيقة مريم أمرت بذلك في قوله تعالى لها: اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، إذ كانت تعيش في مقصورة، والمقصورة لاصقة بالمسجد، ومن هنا تشهد الصلاة مع المؤمنين، أمرها بالقنوت وهو الطاعة الكاملة لله والخشوع والخضوع، وأمرها أن تسجد وتركع مع الراكعين.

فضل مريم وآسية بنت مزاحم وخديجة وفاطمة وعائشة
وقد ذكرنا الحديث وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ) ، وهي آسية بنت مزاحم ، آسية امرأة فرعون الشهيدة التي ربت موسى ونمت في أخلاقه وآدابه، قال: ( ومريم بنت عمران ).قال: ( وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) ، فأضاف إلى أولئك الفضليات عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بنت أبي بكر الصديق .وورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ( خير نساء العالمين أربع: مريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، ولا منافاة بين ذاك وذا؛ إذ الكمال يتفاوت فيه الكمل، الكمال يتفاوت فيه الكمل من الناس ومن الرجال والنساء سواء.فهؤلاء الأربع: آسية بنت مزاحم جاء ذكرها في القرآن الكريم، إذ هي التي قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11]، واستجاب الله تعالى لها ففاضت روحها وأخذها ملك الموت قبل أن ينزل السيف فيقسمها، وشاهدت مقامها في الجنة، هذه امرأة فرعون وما ضرها أن كانت تحت كافر طاغية جبار؛ لأنها مؤمنة.و مريم بنت عمران عرفتم عنها أنها نذيره لله، نذرتها أمها لله تعالى بحيث لا تنتفع منها بشيء، وبمجرد ما وضعتها وقمّطتها خرجت بها إلى بني إسرائيل ودفعتها إليهم؛ ليكلفوها، ومن ثم لم تنتفع بشيء منها، فتربت في حجر زكريا عليها السلام وهو أحد أنبياء الله ورسله، والله الحكيم العليم كفّلها زكريا؛ لتعيش فترة من الزمن مع خالتها؛ لأن امرأة زكريا أخت حنة . ثم لما كانت لله ما كان من زكريا عليه السلام إلا أن وضعها في المحراب الذي هو عبارة عن بنية صغيرة لاصقة بالمسجد بدرج يصعد عليه إلى ذلك المكان، وكانت تعبد الله فيها ليل نهار.

ثانياً: أهل القرب من الله تعالى هم أهل طاعته القانتون له
قال: [ثانياً: أهل القرب من الله هم أهل طاعته القانتون له]، لو سئلنا: من هم أهل القرب إلى الله بم نجيب؟ هم أهل الطاعة، أهل طاعة الله أهل القنوت والخضوع والخشوع هم أهل القرب من الله، وأهل التكبر والترفع أبعد الناس عن الله، ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، حديث مسلم .فمن أراد أن يقرب من الله فليتواضع، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، اسجد واطلب القرب وتقرب، وفي الحديث القدسي: ( من تقرّب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ).إذاً: يا طالب القرب من الله! إن الطريق إليه الطاعة والقنوت له عز وجل.

ثالثاً: مكانة الصلاة وما يبلغه العبد بها
قال: [ثالثاً: الصلاة سلم العروج إلى الملكوت الأعلى]، من أراد أن يخترق السبع الطباق -أي: السموات السبع- ويرتفع فوقها ليقرب من الله عز وجل؛ فليتطهر وليقف في مكان طاهر وعليه ثياب طاهرة ويستقبل بيت الله ويكبر: الله أكبر، نافلة أو فريضة، وفي هذه الحالة أصبح مع الله؛ إذ صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( إن الله ينصب وجهه للعبد في الصلاة )، فما دام في صلاته ومع الله يتكلم معه سراً والله يسمعه، فثق بأنك بين يدي الله، وهذا سر حرمة المرور بين يدي المصلي، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يمر بين يدي المصلي وسترته؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لأن يقف أحدكم أربعين خريفاً -أي: سنة- خير له من أن يمر بين يدي المصلي )، يقف أربعين سنة وهو واقف ينتظر هذا المؤمن حتى يفرغ من صلاته ثم يمر خير له من أن يمر بين يدي المصلي، ما سر هذا؟ المصلي كما علمنا هو مع الله وبين يدي الله وقلبه مع الله، ووجهه إلى الله، وجه الله إليه، فهذا الذي يمر ينتقل المصلي من الله إليه ينظر إليه، وينتقل التفكير والذكر لله إلى ذلك المار بين يديه.إليكم مثالاً محسوساً يعقله العالمون: لو كنت أنت تتصل بملك في أعظم أمر تتوقف عليه سعادتك أو شقاوتك، وشرعت في الحديث معه، وجاء من قطعك، كيف تعامله؟يكرب يحزن يضطرب، لو أمكنه أن يضرب به الأرض لضرب به الأرض؛ لما فوّت عليه من تلك السعادة، أنا أقول: الأمثلة معقولة: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ليعرف لماذا يحرم علينا أن نمر بين يدي المصلي، كيف نرضى أن نقف أربعين سنة ولا نمر بين يديه؛ لأن الأمر عظيم، وهو أن العبد مع الله يناجيه ويساره ويكلمه ويطلب حاجته، فإذا مر بين يديه رجل قطعه، فقطع هذه الصلة التي بينه وبين الله، ووالله لن تتم لك - ولو أنفقت ما في الأرض ذهباً - إلا في هذه الحال، كيف إذاً ترضى عن هذا الذي قطعك عن الله؟ فمن هنا يجب علينا أن نقف ولا نمر بين يدي المصلي وسترته إن كانت له سترة، فإن لم تكن له سترة نبتعد عنه مسافة مكان وضع رأسه، نترك قدر ممر الشاة، والتنبيهات من أهل العلم يقولون: أحياناً المصلي هو الآثم، المصلي الذي يصلي في ممرات الناس وطرقهم هو الآثم، حرمهم من العمل ووقف بهم عن أعمالهم، فلم يظلمهم؟ هو العاصي هو الآثم، والذي يصلي بدون سترة وفي إمكانه أن يضع سترة لم لا يتخذ سترة يصلي إليها؟ كانوا يتسابقون إلى أعمدة المسجد يصلون؛ إذ هذه الصلاة هي النوافل، أما الفريضة فإذا دخلوا فيها ومر من مر بين الصفوف؛ لإتمامها أو لوجود مكان يصلي فيه فمأذون في هذا، أقر هذا النبي صلى الله عليه وسلم في منى لـعبد الله بن عباس .إذاً: عرفنا من هم أهل القرب من الله؟ أهل الطاعة والقنوت؛ لأن الملائكة ماذا قالت لـمريم؟ قالت: اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43].قلنا: الصلاة سلم العروج إلى الملكوت الأعلى، يا من يرغب في أن يصل إلى ما فوق السموات السبع! الطريق موجود، فيه سلم آلي: توضأ تطهر قف في مكان طاهر، أقبل على الله وقل: الله أكبر، فإذا أنت قد اجتزت هذا الملكوت وأنت مع الله عز وجل.

رابعاً: ثبوت الوحي المحمدي وتقرير رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: [رابعاً: ثبوت الوحي المحمدي وتقريره]. من أين استنبطنا أو استنتجنا نتيجة ثبوت الوحي المحمدي وأنه نبي الله ورسوله؟من قوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:44]، هل تذكرون أن حنة عليها السلام لما ألقت بطفلتها في صلحاء بني إسرائيل أنهم تنازعوها كل أراد أن يكفلها، لا يوجد عالم من علمائهم ولا صالح إلا رغب أن تعيش هذه في بيته، لم؟ لأنها نذيرة الله؛ لأنها بنت عبدين صالحين حنة وعمران عليهما السلام، فرغبة كل واحد فيها ألجأتهم إلى الاقتراع، فاستهموا عليها فكفّلها الله زكريا، ماذا صنعوا؟ جمعوا أقلامهم التي يكبتون بها التوراة كتاب الله، وأخذوا يرمونها في النهر -نهر الأردن-، ومن وقف قلمه هو الذي يأخذها، ومن دحرج الماء قلمه ورمى به بعيداً فما له حق في ذلك، فأخذوا يطلقون الأقلام قلمًا بعد قلم والماء يذهب بها، لما ألقوا قلم زكريا وقف كأنما هو خشبة في الأرض، هل كان نبينا صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، هل كان في ذلك الزمن؟هذه حاثة قبل سبعمائة سنة تقريباً، فكيف عرف هذا؟ وإذا كان أبوه لا يعرف وأمه وجده والعرب كلهم سواه فكيف هذا؟ هذا دليل نبوته وبرهان رسالته، ويكفي أن يقول الله تعالى له: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [آل عمران:44]، أنباء الغيب: قصة حنة وعمران ومريم كل هذا ما كان يعرفه الرسول من غيب أوحاه الله إليه، وما كنت حاضرًا يوم استهموا واقترعوا على من يكفل مريم ، ما كنت معهم، فكيف عرفت؟ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44]، إذاً: صلوا على نبينا الرسول صلى الله عليه وسلم.هذه كافية في إثبات نبوته، ومع هذا ملايين البشر لا يؤمنون بها؛ لأنهم عميان ومحجوبون ومسحورون، كيف تُنكر نبوة محمد عليه الصلاة والسلام مع هذه الحجج والبراهين القطعية؟

خامساً: مشروعية القرعة حال الاختلاف
قال: [خامساً: مشروعية الاقتراع عند الاختلاف، وهذه وإن كانت في شرع من قبلنا إلا أنها مقررة في شرعنا والحمد لله]. القرعة معروفة، إذا قسمنا داراً أو بستاناً قابلا للقسمة كل يريد أن يأخذ هذا أو هذا؛ فالقرعة تفصل بيننا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى جهاد أو نحوه يقرع بين نسائه، فمن خرجت قرعتها خرجت معه، إذ ما هو بقادر أن يأخذ تسع نسوة.إذاً: واحدة فقط تخدمه في سفره، وتعبد الله معه، وعلى الذين تحتهم زوجات أيضاً أن يأخذوا بهذه السنة، عندك امرأتان كلتاهما تريد العمرة معك فالقرعة، والتي خرجت قرعتها اعتمرت أو حجت، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.فالقرعة مشروعة وقد ذكرت القرعة في سورة الصافات، تمت قرعة قبل زكريا، وهي قسمة يونس بن متّى عليه السلام، إذ قال تعالى: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:141-142]، اقترعوا؛ لأن السفينة حملها كبير، فربانها وملاحوها قالوا للركاب: أنتم بين خيارين: بين أن تضحوا بواحد منكم وينجو الباقون، وبين أن تشحوا بنفوسكم وتغرقوا كلكم، فماذا يصنعون؟ قالوا: القرعة، الذي تخرج القرعة عليه هو الذي يلقى في البحر، وهذا تدبير العزيز العليم، فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس الهارب من الدعوة إلى الله عز وجل الذي ملّها.وهذا قول الله عز وجل: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:139-144].فسبحوا ربكم، نزهوه وقدسوه بتلك الكلمة الطيبة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، اشغل بها - يا عبد الله - وقتك، إذا فرغت من أكلك من شربك من وضوئك اشتغل بالتسبيح.والمسح ة في يدك تضرب بها: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، بدراجتك تدفعها برجليك، بطائرتك تقودها بمقودها وأنت تسبح الله، إذا أردت النجاة فهذا إحدى سبلها، أما قال تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144]؟ والله لن يخرج إلى يوم القيامة، لكن لما كان يسبح وهو في الظلمات الثلاث وسمعته الملائكة تحت العرش؛ حينئذٍ صدر أمر الله إلى الحوت أن يرميه خارج البحر.فإذا كنت مشغولاً مع أعمالك مع إخوانك فكلما تسكت قل: سبحان الله، لكن إذا كنت فارغًا فهل تفكر في الشهوات والمطاعم والملاذ أم تسبح الرحمن؟اشغل هذا الوقت بكلمة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن )، محبوبتان إلى الله عز وجل، فمن أراد أن يقرب من الله يتملقه، ما دمت تعرف أن ربك يحب هذه فأعطه هذه وتقرب إليه وتملق.من يوم أن بلغنا، ويوم كنا أطفالاً ونحن نقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ونضيف إليها (أستغفر الله) مائة مرة، ما بين أذان الصبح وصلاتها، فإن كنت مشغولاً فقل وأنت على السيارة" سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، أستغفر الله.وأذكر ليلة كنا ننتظر فيها الإعلان عن هلال العيد في نادي الترقي، والشيخ الطيب العقبي خرّيج المسجد النبوي الذي رأيته منذ يومين كالبدر في رؤيا، والله كالبدر، وكنت أقول لإخواني: هذا هو الشيخ الطيب ، هذا مؤسس جريدة القبلة واستبدلها بأم القرى وتركها للطيب التونسي بعده، فكنا ننتظر متى يعلن، وأهل النادي مكتظون، وجاءت المناسبة وأخذ الشيخ يسبح: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، وسبح النادي بكامله، ضجت المدينة ووقف الناس والبوليس: ما هذا؟ لقد وجد لذة ما استطاع أن يتركها.إذاً: سبحوا الله عز وجل: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ما دامتا حبيبتين إلى الرحمن فكيف لا نتقرب بهما إلى الله؟! أو لسنا في حاجة إلى الله؟ أنفاسنا التي نرددها هي لله، حياتنا كلها لله، لولا الله ما كنا ولا ولدنا، كيف نستغني عن الله وحبه؟!

تفسير قوله تعالى: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح ...)
والآن مع هذه الآيات الثلاث ندرس منها ما شاء الله أن ندرس، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:45-47].اذكر يا رسولنا! لوفد نجران، لنصارى نجران الستين فارساً الذين جاءوا يتعنترون ويريدون أن يعلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عليه عيسى، فحدثهم عن جدته لا عن مولده هو، هم يجهلون موت جدته، فقص عليهم قصص عيسى قبل أن يوجد بكذا سنة، وحدثهم عن مريم بأحاديث ما سمعوها أو سمعوها مخلوطة مخبوطة رأسها مع رجليها أكاذيب وأباطيل.هذا وحي الله: إذ قالت [آل عمران:45]، أي: اذكر يا رسولنا لهذا الوفد التائه الحيران إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران:45]، الملائكة هنا اسم جنس واحدهم ملأك، وخفف فكان ملك، والمراد به هنا جبريل عليه السلام، هذا رسول الله إلى الأنبياء والرسل، هذا السفير الأعظم جبريل، خاطبها وقال: يا مريم ! إذ هذا اسمها: مريم ، ما قال: يا سيدة، أو: يا مدام! قال: يا مريم . يا خادمة الله! هل عرفتم معنى مريم ؟خادمة الله، يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ [آل عمران:45]، والبشارة ضد النذارة، والبشارة: الكلمة السارة المفرحة التي تثلج الصدر، ويتجلى ذلك في بشرة الوجه حيث تكون صفراء مشرقة. يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ [آل عمران:45]، ما هي هذه الكلمة؟ هي عيسى عليه السلام، وهل عيسى كلمة؟ نعم. كان بكلمة كن فكان، من القائل كن؟ الله جل جلاله.

قدرة الله تعالى الباهرة في خلق بعض البشر من غير اجتماع أب وأم
الله عز وجل يخلق بالأسباب ويخلق بدون أسباب، فالتكوين القدري يكون بدون سبب، قال لعيسى: كن فكان في بطن أمه كأنه ابن تسعة أشهر، وهنا أذكر الناسين أن هناك إنسانًا لا أب له ولا أم، إنسان أفضل منا، أكمل منا، أجمل منا، والله لا أم له ولا أب، من هذا يرحمكم الله؟هذا آدم أبو البشر، خلقه الله ونفخ فيه من روحه، صنعه الله من طين لازب من حمإٍ مسنون، وتركه حيناً من الدهر أربعين سنة، ممكن أنها بأيام العالم الأعلى، ثم نفخ فيه من روحه فإذا هو آدم، يعطس فَيُلْهم: الحمد لله، فتقول له الملائكة: يرحمك الله يا آدم! وكانت سنة باقية إلى يوم الدين، باقية مع من؟ مع الصعاليك ومع المجرمين والجاهلين! مع الربانيين أمثالكم، إذا عطس المؤمن يقول: الحمد لله، ومن سمعه يشمته ويقول: يرحمكم الله، كيف يشمته؟يشمته أي: يزيل الشماتة عنه، كما يقال: يقشر التفاح، أي: يزيل القشرة عنها؛ لأنه لما عطس تغير وجهه وتغير صوته وخرج منه لعاب أم لا؟ أمنظر محمود هذا؟ لا، إذاً: ليزيل أخوه الشماتة عنه فيقول له: يرحمك الله، فهل يوجد هذا الكمال في غير أمة الإسلام؟فهذه وحدها تساوي الدنيا وما فيها، ولكننا غافلون وجاهلون، تشميت العاطس سنة مؤكدة، إذا عطس أحدنا ماذا يقول؟يقول: الحمد لله، واملأ بها فاك يا عبد الله، والذي سمعك عطست وحمدت ينبغي أن يقول لك: يرحمك الله، هذه الجملة خبرية ومعناها إنشاء الدعاء: اللهم ارحمه لأنه حمدك، ويرد عليه أخوه المؤمن قائلاً: يغفر الله لي ولك، فهذه تساوي خمسين ألف ريال، كيف تحصل على هذه الدعوة، يغفر الله لي ولك مكافأة له، أما قال له: يرحمك الله؟ إذاً: يكافئه بقوله: يغفر الله لي ولك، وإن كان الحاضرون جميعاً: يغفر الله لي ولكم، وهناك أيضاً دعوة مستواها أقل من هذه، ولكن تصلح لدنيانا، فيقول له: يهديكم الله ويصلح بالكم، أو: يهديك الله ويصلح بالك إذا كان واحدًا، يهديكم الله لما فيه سعادتكم وكمالكم، ويصلح بالكم، ما هو البال؟ هذا سر باطني، الآلة التي توجهك إلى أن تخدم أو تترك، إلى أن تنام أو تستيقظ.أعود إلى من خلق بلا أب ولا أم وهو آدم عليه السلام، وهناك من خلق من أب ولا أم، وهي حواء، خلقها الله من ضلع آدم الأيسر، قال لها: اخرجي فخرجت، فإذا العروس إلى جنبه، من هذه؟ هذه حواء . يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].يقول أهل العلم: الضلع الأيسر أقل من الأيمن؛ لأنه فقد بعضه، أخذته حواء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( خلقن من ضلع أعوج )، فهذه حالها ( إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج )، والحمد لله، تبقى معك على عوج أحسن من أن تكسرها وترميها.ولقد عشت مع هذه المؤمنة التي تغمدها الله برحمته قرابة الستين سنة ما سمعت مني كلمة سوء ولا سمعت منها أخرى.الربانيات الصالحات كلهن يسألن الله أن يمتن قبل أزواجهن ليمتن طاهرات عفيفات، والشاهد من هذا أن الجهل هو الظلمة التي ما فوقها ظلمة، تعلموا يا عباد الله الكتاب والحكمة، اجتمعوا في بيوت ربكم بنسائكم وأطفالكم تستمطرون رحماته فلا تلبثون أن تصبحوا كالحواريين، أما ونحن مبعدون بالحيلة والسحر عن الكتاب والحكمة وبيوت الرب فأنى لنا أن نفيق من هذه الغفوة أو نصحو من هذه السكرة أو نعود بعد هذه الجفوة؟ هيهات هيهات! ما هو إلا باب الله يقرع، وقد بين الرسول ذلك وعلمنا.أهل الحي في مجلسهم الجامع يجتمعون فيه بنسائهم وأطفالهم كل ليلة طول الحياة يتعلمون الكتاب والحكمة، أهل المساجد في الأحياء كذلك.أعود فأقول: بقي من له أم ولا أب له، ألا وهو ابن مريم، ألا وهو عيسى عليه السلام؛ إذ كان بكلمة الله: كن، فكان، فإذا بالطلق والمخاض يهزها، عيسى بكلمة التكوين، وهذا هو شاهد الآية الكريمة: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45]، وأمه هي خادمة الله مريم .

ذكر فضل عيسى عليه السلام بالقرب من ربه
ووصفه بأنه وجيه في الدنيا أي: ذا جاه عظيم، من قابله من نظر إليه من اجتمع معه تجلت له هذه الوجاهة، وكيف لا وهو لم يكن كبني آدم، كان بنفخة الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه، يبهر من ينظر إليه أو يسمع منه، وجيهاً في الدنيا وفي الآخرة معاً.قوله: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45]، من هم المقربون؟ اللهم اجعلنا منهم.قال تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، من أراد أن يقرب يقرب، لا مسافات بيننا وبين الله، تملق لله عز وجل في ذكره ودعائه والركوع والسجود له، والبعد عن مساخطه ومكارهه، فلا تزال تقرب حتى يقربك ويدنيك وتكون من المقربين.

ذكر فضله عليه السلام بتكليم الناس في المهد
وقوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:46]، هذه تمام البشرى، علّمها جبريل أن عيسى يكلم الناس في المهد، والمهد مكان يوضع فيه الطفل يوم يولد، يمهّد له ويوضع فيه، وقد جرت سنة الله ألا يتكلم طفل، سواء كان ابن نبي أو ابن ملك، فهذه آية من آيات الله أنه يتكلم في المهد، وبالفعل ذكر تعالى كلماته لما جاءت به إلى بني إسرائيل: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:27-28]، إذاً: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:29]، قالت: كلموه؛ لأنها هي أمرت أن لا تتكلم، أشارت إليه: كلموه. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [مريم:30-34]، كلموه فأخذ يفصح عما يكون في المستقبل، ولهذا هنا قال بإيجاز: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران:46]، الكهولة سن ما بين الشيخوخة وبين الشبيبة، إذا بلغ الشاب ثلاثًا وثلاثين سنة انتهت الشبيبة وأصبح رجلاً يأخذ في الكهولة إلى الستين، وبعدها يأخذ في النقصان، شاب كهل شيخ وبعد الشيخوخة الهرم والقبر.قال العلماء: قال: وَكَهْلًا ؛ لأنه لما قال: (يكلم الناس في المهد) قد تفهم منه أنه يموت أو يصاب بالبكم، فقال: وَكَهْلًا ، وهذا سيتم إن شاء الله بعد أعوام أو أيام، سوف ينزل فينا ابن مريم والله العظيم، سوف ينزل فينا ابن مريم من الملكوت الأعلى ويعيش إلى أن يبلغ ثلاثًا وستين سنة، كأن عمره محاذ لعمر النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف يزور المدينة ويحج ويلبي من الروحاء: لبيك اللهم لبيك حجاً أو عمرة، بهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كأني بابن مريم بالروحاء يلبي: لبيك اللهم لبيك حجاً وعمرة ) .وقد ذكرت لكم ما قال بعض أهل العلم القدامى لا المعاصرين: أن في الحجرة الشريفة مكانًا يتسع لدفن إنسان، إذ فيها الآن ثلاثة قبور: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر أبي بكر ، وقبر عمر ، وبقي فيها قدر قبر إنسان، وما استطاع ملك ولا سلطان لمدة ألف وأربعمائة سنة أن يقول: ادفنوني معهم، من صرفهم؟ الله، إذاً: فمن الجائز: أن يدفن عيسى معهم، ويصبح من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

ذكر فضله عليه السلام بكونه من الصالحين
قال: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ، لو لم يقل: وَمِنَ الصَّالِحِينَ ، فيمكن أن يقال: هذا ساحر أو دجال. ومن هم الصالحون؟ الصالح منا: من أدى حقوق الله وافية، ما نقصها ولا بخسها ولا جحد منها شيئاً، وأدى حقوق الناس كذلك، ما سرق ولا بخس ولا نقص، ذلكم هو العبد الصالح وهو في زمرة الصالحين، وهو الموكب الرابع الذي يشمل: الأنبياء والصديقين والشهداء، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69]، (مَنْ) من ألفاظ العموم أم لا؟ من العرب من العجم في الأولين في الآخرين، من يطع الله والرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، كل نبي من الصالحين، كل صديق من الصالحين، كل شهيد من الصالحين، أليس كذلك؟ وليس كل صالح بنبي ولا صديق ولا شهيد، بدليل أنكم أنتم من الصالحين وما أنتم أنبياء ولا شهداء. وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-27, 05:36 AM
https://upload.3dlat.com/uploads/3dlat.net_09_16_5883_49caa8815 fda4.gif

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (14)
الحلقة (155)

تفسير سورة آل عمران (21)

لقد تفضل الله عز وجل على عيسى عليه السلام وبعثه بالنبوة والرسالة، وأيده بمعجزات شتى ليثبت الأمر على بني إسرائيل ويقيم الحجة عليهم، ومما جاء به عيسى بني إسرائيل أنه كان يخلق لهم من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وأنه كان ينبئهم بما يأكلون من الأطعمة وما يدخرون منها، وغيرها من الآيات لعلهم يتقون وإلى ربهم يرجعون.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة كسابقتها واللاحقة بها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) ، حقق اللهم لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.وأعيد إلى أذهانكم - فتح الله علي وعليكم - تلاوة الآيات التي درسناها بالأمس، ولنستحضر ما علمناه منها وما فتح الله به علينا فيها، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:45-47].تذكرون أن مريم استبشرت لما بشرت فقالت: رب كيف يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ تريد أن تعرف السر أو السبب أو العلة، ومن هنا يجوز الاستفسار عن الأمر المجهول، قالت رب أي: يا رب، أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ، أي: بالمجامعة ولا بغيرها، ومن آية سورتها عليها السلام: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20]، وجمع البغي: بغايا، وهن الزواني والعياذ بالله.والشاهد عندنا في استفسارها أنها ليست منكرة لما أمر الله وقال، ولكن تريد أن تعرف السر؛ لأنه خارج عن سنن الله، سنة الله في الولادة أن يجامع الفحل امرأته، وهذه ما مسها بشر، فكيف؟ لها الحق أن تسأل هذا السؤال، وكان جواب الله: الله يخلق ما يشاء.وقد ذكرنا بالأمس تلك اللطيفة، فعرفنا أن الله خلق مخلوقاً من غير أب ولا أم، من هو هذا؟هو آدم عليه الصلاة والسلام، ما له أم ولا أب، وهناك من خلق من أب وبدون أم، وهي حواء أم البشر خلقها الله من الذكر من آدم من ضلعه الأعوج، وهناك من خلق من أم بدون أب، وهو عيسى المسيح عليه السلام، وخلق من أب وأم سائر البشر.هذه سنته في خلقه يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً وحكم به يقول له: كن فيكون، ما يحتاج إلى وسائط أو أسباب أو وسائل أبداً، وما كان من الأشياء التي توجد بالأسباب والسنن فلها ذلك، أما وإذا أراد شيئاً فبكلمة (كن) يكون، كما قال لعيسى: كن فكان، ساعة واحدة وأخذها الطلق ولجأت إلى النخلة.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ هداية الآيات] هذه الآيات الثلاث فيها أربع نتائج وعبر [من هداية الآيات:]
شرف مريم عليها السلام وكرامتها
قال: [أولاً: بيان شرف مريم وكرامتها على ربها؛ إذ كلمها جبريل وبشرها]، هل أمهاتكم أو نساؤكم وبناتكم يظفرن بهذا؟ من هي التي يكلمها جبريل؟ إذاً: فتكليم جبريل عليه السلام رسول الوحي إياها وتبشيرها بولد كيف لا يكون هذا شرفًا لـمريم؟ وفي الحديث: ( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع ) وذكر منهن مريم بنت عمران .

شرف عيسى عليه السلام ووجاهته وكونه من المقربين
ثانياً: [بيان شرف عيسى عليه السلام ووجاهته في الدنيا والآخرة]، أما قال تعالى: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [آل عمران:45]؟ الوجيه بالوجاهة في الدنيا والآخرة.وثانياً: [وأنه من المقربين] بشهادة الله، أخبر الله تعالى: أن عيسى من المقربين، لو يصل إلينا خبر نحن بهذا فسنسجد ونبكي ساعات ولو برؤيا منامية من الصالحين، أما عيسى فالله تعالى أخبر أنه من المقربين.

دلالة تكلم عيسى عليه السلام في المهد على عظيم قدرة الله تعالى وعجيب آياته
ثالثاً: [تكلم عيسى في المهد آية من آيات الله تعالى؛ حيث لم تجر العادة أن الرضيع يتكلم في زمان رضاعه]، وهل هناك من تكلم؟أربعة فقط: شاهد يوسف لما حصل النزاع بين امرأة العزيز وبين يوسف وهرب وجذبته من ثوبه ومزقته وما أراد أن يصفعها، وحضر السيد، وكان رضيع في يد إحدى النساء فنطق وقال: يوسف مظلوم ظلمته زليخا ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27].هذا الغلام شهد بهذه الشهادة وفصل في هذه القضية وهو يرضع.الثاني: صاحب جريج الذي اتهمته المومس وأبوه راع فجر بها، فلما قال له جريج: من أبوك؟ نطق الغلام وقال: أبي فلان، وبرأ الله وليه جريجاً .الرابع: مرة من المرات مؤمنة تحمل طفلها في يدها وترضعه، فمر بين يديها رجل فارس على أجمل ما يكون من الخيول والهيئة، فقالت: أي رب! اجعل ولدي مثل هذا، فنطق الولد وقال: اللهم لا تجعلني مثله. من أنطقه؟ الله عز وجل، الذي أنطقنا ونحن كالأخشاب، أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.

مشروعية الاستفسار عما يخالف العادة لمعرفة سره وحكمته
رابعاً: [جواز طلب الاستفسار عما يكون مخالفاً للعادة؛ لمعرفة سر ذلك أو علته أو حكمته]. أخذنا هذا من قولها: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ [آل عمران:47]، كيف يكون لي ولد؟

تفسير قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)
الآن مع بعض الآيات التي بين أيدينا، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران:48-51].

تقرير عبودية عيسى عليه السلام لله تعالى
هذه والله كلمة عيسى أنزلها الله تعالى إلينا كأننا حاضرون مجلسه، هذه الآيات كلها تقرر أن عيسى لم يكن بابن لله، ولم يكن أبداً هو الله، وما زال على أنه عبد الله ورسوله، احلف بالله الذي لا إله غيره ولا تحنث: ما كان عيسى بإله أبداً، وما هو بإله وما هو إلا عبد الله ورسوله، فتقول: أشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكفر النصارى نساءً ورجالاً بالجهل والتقليد الأعمى والتضليل المتعمد، وإلا فهذه فرية باطلة بكل عقل، كيف وقد عرفناه وعرفنا أمه وعرفنا أسرته وتاريخه وبلده والإنجيل الذي نزل عليه، وأنه عبد الله ورسوله، ثم نقول: إله ونعبده!الجهل أولاً، والتقليد من بعضهم لبعض ثانياً، والتغرير والتضليل من العلماء الذين يعيشون على حساب هذه العقيدة الباطلة.

معنى قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة)
إذاً: وَيُعَلِّمُهُ ، من الذي يعلمه الكتاب والحكمة؟ الله، هذا كلام تابع للأول، إذ قال الملائكة ما قالت، ومن جملة ما قالته لـمريم : وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وقد فعل هذه البشرى، فهذا الكلام بشرى فقط، إذ لم يوجد عيسى بعد. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ ، المراد من الكتاب هنا: الكتابة، يعرف الكتابة، كان يكتب على القرطاس بالقلم، ولهذا فضل الكتابة معروف، إذا كنت كاتباً تكتب حقاً والخير فأنت من خيرة الناس، وإن كنت تكتب الباطل والشر والظلم فأنت من أسوأ الناس.قال: وَالْحِكْمَةَ ، يعلمه الحكمة، يصبح حكيماً فيما يقول ويقضي ويفكر ويعمل، دائماً مصيب في كل ما يريده، ويعلمه التوراة أيضاً التي نزلت على موسى عليه السلام وهي في أيدي بني إسرائيل، وكذلك يعلمه إياها ويفهمه معناها ويصبح أهلاً لها، ويعلمه الإنجيل بعد ذلك.هذه الأخبار هل يستطيع أن يقولها آدمي، ماذا في قماطته، ويخبر الله تعالى أنه سوف يكون منه كذا وكذا، وفعل الله ذلك كله، علمه الكتاب والحكمة والتوراة وأنزل عليه الإنجيل.

تحريف النصارى الإنجيل
والإنجيل الآن في يد النصارى، لكنه محرف مبدل مغيّر، زادوا فيه ثلاثة أرباع، أو أربعة أخماس، الأناجيل خمسة الآن، إذاً: والله إن الأربعة كلها كذب، من فعل بهم هذا؟ رؤساؤهم، والعوام يمدون أعناقهم، والجهال ما يبالون، ورجال الكنيسة يعبثون كما شاءوا، وقد ثبت أنهم حولوا الإنجيل إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً بالزيادة، ثم لامهم من لامهم وفضحوا، فعقدوا مؤتمراً عالمياً للنصارى وجمعوها في خمسة أناجيل: لوقا، ومتى، ويوحنا، ومرقس.وأما إنجيل برنابا فقالوا: هذا مغشوش. هذا مذهب وهّابي أيضاً كما يقول العرب الهابطون، فروا منه لأن فيه التوحيد، ما يقبلونه، وأنتم تذكرون أن وفد نجران هو الذي بسببه نزلت هذه الآيات، ستون راكباً جاءوا ليجادلوا رسول الله في الباطل في شأن عيسى، تعالوا نسمعكم تاريخه، من جدته حنة إلى أمه مريم بهذا التفصيل.

تفسير قوله تعالى: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم ...)
قال تعالى: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:49] أيضاً، وأرسله رسولاً إلى بني إسرائيل فوق النبوة، وبالفعل أرسله إلى بني إسرائيل، وإليكم بعض آياته أو كلماته: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:73-75]، الذي يأكل الطعام يبول ويتغوط،فكيف يكون إلهًا؟! إلهك تجده في الحمام يبول، أهذا إله؟! كيف يعقل هذا الكلام؟ما قال مثلما قلت أنا البول والتغوط، نحن شرحنا، وإلا فالمقصود أن هذا الذي يأكل الطعام ويفرز البول أيصلح للإلهية؟ أين يذهب بعقلك.وفي هذا يذكر أن أحد الأعراب - والأعراب كانوا ممتازين في الذكاء - كان له صنم يعبده بين جبلين في مكان، فجاءه يوماً ليتقرب إليه ويتمسح وإذا بثعلب رفع رجله اليسرى أو اليمنى على كتف الصنم يبول عليه، فهذا العربي دهش: أنا جئت من مكان بعيد؛ لأستفيد من هذا الإله والثعلب يبول عليه فكيف يفيدني؟ فقال بيتاً من الشعر:أرب يبول الثعلبان برأسهلقد ذل من بالت عليه الثعالبوتركه فلم يرجع إليه أبداً.

معجزة عيسى عليه السلام في خلق الطير من الطين وإحياء الموتى بإذن الله تعالى
قوله تعالى: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:49]يقول لهم: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:49] علامة أظهر وضوحاً من الشمس إن شئتم تدل على أني رسول الله إليكم يا معشر يهود، قالوا: هات الآية، قال: اطلبوا، قالوا: أحي لنا سام بن نوح . فصلى ورفع يديه إلى ربه فقام سام بن نوح من قبره وقال: أنا سام بن نوح ! فما آمنوا.وذات مرة توفي ابن لمؤمنة وليس لها سواه، وبينما هم يمشون به إلى المقبرة وهو على النعش فقالت: يا روح الله! ادع الله لي ليحيي لي ولدي، فدعا له وقال: يا فلان! قال: نعم، فوضعوه فلف الكفن وعاد مع أمه.وقالوا: اخلق لنا من الطين كهيئة الطير وانفخ فيها حتى تطير وبذلك نؤمن لك، واشترطوا أن يكون هذا المخلوق من الخفاش، والخفاش من أعجب المخلوقات؛ أولاً: لا يرى في الظلام ولا في الضياء، هناك حيوانات ترى في الظلام ولا ترى في الضياء، هو بالعكس، لا يرى في الظلام ولا في الضياء، يرى قبل طلوع الشمس بساعة وبعد غروبها بساعة، وبعدها ما يرى شيئاً.ثانياً: هذا المخلوق مخلوق من لحم وعظم ودم وليس فيه ريش أبداً ويطير، يطير بدون ريش، وأغرب منه أن أنثاه تحيض كما يحيض النساء، وفيها لبن فترضع أولادها بلبنها، عجب هذا المخلوق، وبالفعل جيء بالطين وصنع منه خفاشاً ونفخ فيه فطار، فقالوا: ساحر.العامة عندنا يقولون: من لم يرد أن يتصدق يقول: مال اليتامى، هو يحمل الرطب على ظهره، فيقول له المسكين: أعطيني حفنة رطب، فيقول: لا؛ هذا مال اليتامى، ما يريدون أن يؤمنوا فقالوا: سحر ساحر، كيف يطير هذا! وهذا يدلنا على وضعية البشر وما فطروا عليه إذا لم ينقوا ويهذبوا ويطهروا ويزكوا، هذه كل أحوالهم، يكذبون ويردون الحق ويتجاهلون، هذه غرائزهم وفطرهم، فإن هم هذبوا وطهروا وسلموا أصبحوا كالملائكة، أما مع الجهل فهذه هي أحوالهم، بنو إسرائيل كانوا أرقى من العرب اليوم؛ لأن الدنيا كلما يجيء عام أسوأ من الأول، ومع هذا كذبوا عيسى عليه السلام بعد تلك الآيات. ‏

معجزته عليه السلام في إبراء الأكمه والأبرص
قال تعالى: وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:49].ثانياً: وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ [آل عمران:49]، الأكمه: الذي ولد أعمى لا عين له مطموس العين، لو كان مرض بعينيه وعالجه فممكن أن يشفى، لو كانت العينان فيهما بياض فهذا أسهل، لكن ولد لا يبصر، وبالفعل يدعو الله تعالى فيعود إليه بصره.والبرص: مرض معروف أعيا الأطباء إلى اليوم، منذ أن بدأ البرص إلى الآن ما عرف الطب ماذا يصنع، البرص: أن يتحول جلد الإنسان إلى لون أبيض، هو أسود ويصبح جلده أبيض كالثوب، هذا البرص، فيمسح عليه بيده فيذهب البرص، فأية آية أعظم من هذه؟ هل آمنوا به؟ قتلوه، تآمروا على قتله وصلبوا من تمثل به.

معجزته عليه السلام في إخبار بني إسرائيل بما يأكلون وما يدخرون
قال: وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:49]، يقول: اسألوني، أكلتم كذا وكذا، وادخرتم للعشاء في القدر الفلاني في الزاوية الفلانية كذا وكذا. ما يستطيعون أن ينكروا، فعقولهم صغيرة وهابطة، لو أخبرهم عن ملكوت السماء وعن الغيب لم يفهموا، لكن قال لهم: أنا أخبركم عما تأكلون وما تدخرون، وأنا لست في بيوتكم، وأنا لا أخبر عن بيت فلان فقط، أنتم يا أهل الدار الفلانية طعامكم اليوم كذا، عشاؤكم كذا، ادخرتم لأولادكم كذا، كيف يعرف هذا؟ والمفروض أنهم يؤمنون كلهم نساؤهم ورجالهم؛ لأن هذه الآية بين أيديهم ما هي وهمية: وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:49]، حتى لو كانت بيضة ادخرتها لابنها يقول: ادخرت البيضة الفلانية لولدك، ولكن من لم يشأ الله هدايته فوالله لا يهتدي، ما آمنوا، بل طردوا أتباعه الحواريين وأبعدوهم من البلاد فلجئوا إلى الجبال، هؤلاء من هم؟ ما زالوا على أشد ما يكونوا مكراً وخديعة، إلا أن لهم بعض الأساليب أحسن من أساليب العروبة الهابطة وأذكى.قال: وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ [آل عمران:49] إن كنتم مؤمنين بالله ولقائه، بالله ورسله، بالله وكتبه، بالله ووعده ووعيده، بالله وقدرته ورحمته وحكمته، لما لا تؤمنون بهذه؟ أية آية أوضح من هذه الآية؟ يخبر أهل القرية بما يأكلونه وما يدخرون، ما كان معهم ولا أكل معهم ولا يخطئ ولا يكذب أبداً، لو لم يكن رسول الله فكيف يخبر بهذا، الساحر والله ما يستطيع ولا يقدر على هذا، لكن ضعف إيمانهم هو الذي أدى بهم إلى التكذيب، فلهذا قال: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ، فوالله لو كانوا مؤمنين بحق لكانت تنشرح صدورهم وتطيب نفوسهم لهذه الآيات الإلهية، لكن المرض متأصل، ما هم بالمؤمنين الصادقين في إيمانهم.

تفسير قوله تعالى: (ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ...)
وما زالت البراهين: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ [آل عمران:50]، وهذا الكلام الذي تسمعونه قاله عيسى وهو في القماطة، تكلم في المهد بهذا الكلام وبغيره، وما أخبر به كله وقع بالحرف الواحد. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]، أي: من أحكامها في الحلال والحرام والشرائع والقوانين؛ لأنه كتاب إلهي، وإن دخله النقص والزيادة، لكن الأصل هو التوراة أنزلها الله تعالى على موسى، وبين موسى وعيسى أكثر من ثلاثة آلاف سنة. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]، ما السر في هذه؟ لو كان دجالاً أو ساحراً أو يريد دولة أو يريد منصبًا فلن يوافق ما في التوراة أبداً، يأتي بما يخالقها ويناقضها، لكن كون ما أدعو إليه وأقوم به وتلبست به كله كما في التوراة؛ إذاً أنا من أنبياء الله ورسله، أوما تفطنتم لقوله: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]؟ لو كان ما جاء به يتنافى معها لسهل أن يقال: كذاب ودجال، لو يأتي الآن واحد منا يدعي الولاية أو النبوة ويناقض ما في القرآن فهل هناك من يقبله؟ لا أحد، لكن لو دعا بدعوى وجدناها في القرآن نقبله، ولهذا قبلنا الدعاة الصالحين، لأنهم لا يناقضون ما في كتاب الله، بل يؤيدونه ويعبرون عنه ويدعون إليه، فلو تناقض داعي بدعوة ما مع القرآن فقوله مرفوض، أليس كذلك؟

معنى قوله تعالى: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم)
قوله تعالى: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]، ولأحل لكم بإذن الله عز وجل بعض الطعام، بعض الشراب، بعض اللباس، بعض المركوب الذي كان حلالاً وحرم عليهم، هذا الذي يحله لهم هو ذاك الذي حرم لأنهم ظلموا واعتدوا على عهد أنبياء الله، فحرمهم الله منه، فجاءت رحمة الله مع عيسى عليه السلام، فلو آمنوا لأحل لهم بعض الذي كان محرماً عليهم من أجل بغيهم وعدوانهم، أما الذي حرم عليهم لأجل ما فيه من الضرر فهو يبقى على أصله، القتل حرام دائماً، الزنا حرام، الربا حرام، الكذب حرام، لكن اللحوم التي حرمها أو بعض الشحوم أحلها لهم، هذه آية نبوته؛ أنه يحل لهم بعض الذي حرم الله عليهم عقوبة لهم: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]، فلما جاء عيسى جاء برحمة الله عز وجل، ولو آمنوا به لأحل لهم ما كان قد حرم عليهم.

معنى قوله تعالى: (وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون)
قوله تعالى: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:50]، لم قال: (آية) وهي آيات؟ لأن لفظ آية اسم جنس كنعمة: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18]، نعمة واحدة كيف نعدها ولا نحصيها؟ الذي لا يحصى العدد أو الواحد؟إذاً: فنعمة معناها: نِعم، كذلك: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ [آل عمران:50]، عشرات ومئات الآيات، فـ(آية) اسم جنس، كـ(نعمة) كما قلت لكم، هل نعمة الله واحدة؟ نعمة السمع، البصر، العلم.. نِعَم، قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18]، هل يفهم العربي أن الواحد لا يحصى؟ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [آل عمران:50]، أي: بناء على هذا ما بقي لكم إلا أن تتقوا الله عز وجل، ولا تخرجوا عن أمره، وأطيعوني فيما أدعوكم إليه؛ لأني رسول الله إليكم؛ أقودكم إلى شواطئ السلامة والسعادة، وطاعة الرسول واجبة أم لا؟ إذا لم يطع فكيف يعلم، كيف يهتدي الناس؟ إذاً: أمرهم بتقوى الله عز وجل، أي: خافوا ربكم أن ينتقم منكم، أن ينزل بكم بلاء أو شقاء، أو يعذبكم.إذاً: فآمنوا بأني رسول الله إليكم وأطيعوني لأني أقول لكم: افعلوا كذا فافعلوا، ولا تفعلوا كذا فلا تفعلوا، فإذا لم تطيعوني فلن ينفعكم إيمانكم وتقواكم: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [آل عمران:50].
تفسير قوله تعالى: (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)
وجاء الختم الأخير: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [آل عمران:51]، عيسى مربوب له رب، إذاً: ما هو برب، كيف يجعلونه رباً وهو يعترف فيقول: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [آل عمران:51]؟ ‏

حقيقة العبادة
ما هي عبادة الله أيها المسلمون؟ هل نحن الآن نعبد الله؟العبادة: هي الطاعة، وعندنا: فلان عبد لفلان، أي: يخدمه ويطيعه، إذا قال: الزم الباب يلزم الباب، إذا قال: امش نم ينام، أطاع، فالطاعة: هي فعل الأمر واجتناب النهي، إذا أمرك سيدك بأن تقول قل، فإن قلت: لا أقول عصيته، وأصبحت تساويه، قال سيدك: افعل قلت: ما نفعل؛ ما أنت بعبد، ما عبدته ما أطعته، لكن ليس مجرد الطاعة يتحقق فيها معنى العبادة.هل تعرفون الطريق المعبد؟ هو طريق الصحراء ذو الأشواك والحفر والتراب والرمل يأتي المسئول يعبده بالآلاف ليذل ويسكن، إذاً: فالعبادة الطاعة التي صاحبها يذل غاية الذل لمعبوده ولمن أطاعه، ويعظمه غاية التعظيم له، انظر إلى المعنيين: ينكسر ويذل تماماً كالأرض المعبدة، ما يرفع جنبه ولا رأسه، ثم يعظم معبوده فوق كل تعظيم وإجلال وإكبار. وثالث أيضاً: أن يحبه أكثر من نفسه، هو الذي ذلل هذا العبد واستعبده فعبده، ويجب أن يحبه أكثر من نفسه.فالعبد الحق الذي يعبد الله إنسان يطيع الله عز وجل في أمره ونهيه، ولكن لا في عنترية وتعال وترفع، مع ذل وصغار وتطامن وقنوت وخضوع، أما أن تعبد وأنت تتعنتر فلا، بل وأنت تذل وتسكن، ثم تحبه أكثر من حبك لنفسك وأهلك ومالك، ثم تعظمه وتجله وتكبره حتى يكون أكبر من كل شيء عندك. هذا قول عيسى إذاً: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [آل عمران:51]، ثم قال لهم: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران:51]، هذا الذي بينت لكم صراط مستقيم، والله لا ينتهي بأهله إلا إلى الجنة، ألا وهو عبادة الله وتقواه، وطاعة رسوله، هذا هو الطريق الموصل أصحابه إلى الجنة، إلى الفوز في الدنيا والآخرة.

إجمال الخبر عما تكلم به عيسى عليه السلام في آيات سورة آل عمران
هذه كلمات عيسى وهو طفل مازال يرضع، تحققت -والله- كلها، وإليكموها مرة أخرى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:48]، هذا إخبار عنه قبل أن يوجد: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [آل عمران:45-48]، ويرسله رسولاً إلى بني إسرائيل، ويقول: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ [آل عمران:49]، هذا فيه آية إن كنتم مؤمنين، وإذا كنتم كفارًا فلن تشاهدوا شيئاً، الشمس ينكرونها، قالوا: ما نعرفها. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]، وفي هذا ما علمتم، لو أن داعية يأتي بلادنا ويدعو بغير القرآن فقوله مرفوض، من يقبله؟ لكن إذا كان يقول: قال الله وقال رسوله نقبله، ما يتناقض. وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] بلطف الله وإحسانه، ببركة عيسى، لو آمنوا به لأحل لهم كثيرًا من المحرمات عليهم عقوبة. وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [آل عمران:50-51]، ما قال: إن الله أبي وأبوكم؟ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ، كيف يقولون: عيسى ابن الله؟! يا ليته يأتينا مسيحي ويقبل منا البيان، علقوا في أعناقهم الصلبان، حتى الساعة يتبركون بالصليب، كيف تعتقدون أن اليهود قتلوه وتبعدونه؟! لا بأس أن تغضبوا على اليهود، نعم نحن لا ننكر، غضبهم على اليهود حق، وما صلبوا عيسى، لكن الذي تمثل بعيسى، أما أنكم تعبدونه وقد قتله اليهود أعداؤكم فأين عقولكم، كيف يعقل هذا الكلام؟ إنه الجهل والتقليد والتضليل، أولاً: الجهل هذه ثماره. ثانياً: التقليد، جاهل ويقلد، ما يفكر فيما يقول فلان. ثالثاً: التضليل من الرؤساء والذين يريدون أن يسودوا على حساب غيرهم، يعرفون الحق وينكرونه، وقد جربنا هذا في المسلمين، هناك مشايخ من الطرق كانوا يفجرون بنسائنا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [هداية الآيات] نأخذ هداية هذه الآيات، وتفطنوا من أين أخذنا هذه الثمار الطيبة[ من هداية الآيات:أولاً: شرف الكتابة وفضلها] الكتابة لها شرف وفضل، قال تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:48]، إذاً: الكاتب عندنا خير من الذي لا يكتب، لا توظف إلا إذا كان عندك شهادة، وقد قال تعالى: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ [البقرة:282] شكراً لله عز وجل. وإن قال مريض: النبي لا يعرف الكتابة! قلنا: ذلك آية أنه نبي الله ورسوله، لو كان يكتب لقال الكفرة: هذا الكتاب كتبه، رأيناه في الجبل الفلاني أربعين سنة يخطه، وقال: هذا كتاب الله، ولكن لتقوم الحجة على الإنس والجن أنه لا يكتب ولا يقرأ وكيف يأتي بهذه العلوم والمعارف؟ مستحيل لولا أنها وحي الله وتنزيله وكتابه، ائتوني ببدوي أو عربي أو أعجمي لا يقرأ ولا يكتب، ثم يأتي بعلوم ومعارف، مستحيل، فكونه أمياً آية نبوته ومصداق رسالته: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]. [ثانياً: فضل الحكمة، وهي الفقه في أسرار الشرع والإصابة في الأمور]، ما بينا هذا البيان الكافي، ها هي ذي جاءت بين أيديكم، أخبر تعالى أنه سيعلم عيسى الكتاب أولاً والحكمة، وبعد ذلك التوراة والإنجيل.ما الحكمة؟ قال: [هي الفقه في أسرار الشرع]، والله يقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]، ويفهم أسرار الشرع، لم الوضوء؟ لم يغسل ثلاث مرات؟ لم صلاة الصبح في هذا الوقت، لم حرم الله كذا، وهكذا، الفقيه الحكيم الذي يفهم أسرار الشريعة، هذا أولاً.والثاني: الإصابة، الحكيم لا يخطئ، يضع كل شيء في موضعه، لما يجلس يعرف أين يجلس، والذي لا حكمة له يجلس في مجلس الشيخ. وأنا بهلول بعثتني أمي لأدرس، وطلبوا لي كتاب كذا ، ولما دخلت المسجد كان الطلاب جلوس والشيخ ما جاء، لكن مكانه فارغاً، والبدو مجتمعون من شتى الآفاق ما هم كأهل الحضر اليوم، فأنا جئت فجلست في مكان الشيخ، فصاحوا في وجهي: قم.. قم! لا إله إلا الله! ما هناك لطف ولا رحمة، ما قالوا: هذا صغير وما يفهم وكذا، فيجيء أحدهم إليك فيقول لك: من فضلك هذا المكان ما هو لك، هذا للشيخ. لكن أين الآداب؟والشاهد عندنا: الإصابة في الأمور كلها، حتى الملعقة يعرف من أين يمسكها، اللقمة يعرف كيف يتناولها، نعله كيف يمشي به.. وهكذا الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها قلما يخطئ. اللهم اجعلنا من أهل الحكمة.قال: [فضل الحكمة، وهي الفقه في أسرار الشرع] أولاً [والإصابة في الأمور]، يعني: قلما يخطئ الحكيم، لم؟ لأنه يستعين بالله عز وجل وبالنور الباطني، وهذه الطاقة أكبر من هذه الطاقة المادية، وهي نتيجة لمولد عجيب، وهو تقوى الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، الفرقان أعظم ما تفرق به بين الحق والباطل والخطأ والصواب والخير والشر والنافع والضار: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ، فالذين يعيشون على تقوى الله ظاهراً وباطناً يوجد في قلوبهم نور يميزون به بين الحق والباطل والخير والشر والنافع والضار، كأنما هو نور بين أيديهم، هذا وعد الله. هل عرفتم من هو الذي فاز بهذه الشهادة أولاً؟ هل هو نابليون ؟ إنه ابن الخطاب عمر ، يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لو كان من أمتي محدثون -أي: تحدثهم الملائكة- لكان عمر ، ولكن لا نبي بعدي )، ولده عبد الله الذكي التلميذ لرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ما قال أبي في شيء أظنه كذا إلا كان كما ظن. هؤلاء هم الذين يجب أن يكونوا في المباحث، هذا النوع ينظر إلى الشخص فيقول: ارمها من جيبك، أنت سارق، فلهذا ندعو المسئولين في العالم الإسلامي أن يخرجوا ربانيين ويجعلوهم في الاستخبارات والمباحث، أما إذا كانوا جهالاً يتخبطون فوالله إنهم يؤذون الحكومة، لكن يقولون: وأين أنتم يا أصحاب الفرقان، نقول: نحن وإياكم سواء، هيا نعود إلى المدرسة المحمدية، ونتخرج كلنا بنسائنا وأطفالنا، وهي المسجد، في القرية أو الحي، لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا ولد، كل ليلة من المغرب إلى العشاء، نتعلم الكتاب والحكمة، ونزكي أنفسنا ونهذب آدابنا وأرواحنا، ثم بعدها كلنا علماء ربانيون.وصلى الله على نبينا محمد..
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-27, 05:48 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (15)
الحلقة (156)

تفسير سورة آل عمران (22)

من الصفات التي لا تنفك عن اليهود تكذيبهم لرسل الله، وإعراضهم عما جاءوهم به مهما كانت المعجزات التي يأتونهم بها، بل ولا يتوقفون عند ذلك وإنما يؤذون أنبياء الله ويقتلون فريقاً منهم، وحالهم مع عيسى لم يختلف عن حالهم مع من سبقه، فلما أحس منهم الكفر نصره الله بالحواريين من قومه، فآمنوا به وآزروه، ومع ذلك فقد حاول الكفار المكر بعيسى وقتله إلا أن الله عز وجل نجاه منهم ورفعه إليه.

تفسير قوله تعالى: (فلما أحس عيسى منهم الكفر ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا وولي المؤمنين.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات المباركات، سبع آيات:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:52-58].معاشر المستمعين والمستمعات! أعيد إلى أذهانكم أن هذه الآيات نزلت في إبطال تأليه عيسى عليه السلام، وهي تحمل الرد المفحم لوفد نصارى نجران، إذ جاءوا يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحاجونه في شأن عيسى ووالدته، إذ يؤلهون عيسى وأمه، وهم مرتبكون في الأقانيم الثلاثة، هل هي الله وعيسى وروح القدس؟! أو هي مريم وعيسى وروح القدس؟! فكل طائفة تقول بما أملى عليها الشيطان، والحقيقة هي أن عيسى عبد الله ورسوله.ومن عظيم بيان الله عز وجل أنه قص عليهم قصة عيسى من عهد جدته، والسياق في تقرير هذه الحقيقة هي: أن عيسى لم يكن بإله أبداً، ولا بابن الله أبداً، وتعالى الله أن يكون له ولد ولم تكن له صاحبة -أي: زوجة-.

طلب عيسى من الحواريين النصرة لما أحس من قومه الكفر
قال الله عز وجل: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ [آل عمران:52]، الإحساس لا يكون إلا بالحواس الخمس: السمع والبصر واللسان والشم واليدان والرجلان. أَحَسَّ أي: علم بواسطة النظر أو السمع، عرف منهم الكفر. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ وعرف أنهم يريدون أذاه وقتله، وشعر بالإحساس الكامل قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران:52] طلب النصرة من المؤمنين؛ لأن القوم يمكرون ويدبرون له الأذى والقتل.فأجابه الحواريون، والحواريون جمع حواري، وهو الأبيض القلب، الزكي النفس، ذو الأخلاق العالية.والحوار ون كانوا اثني عشر رجلاً، آمنوا بعيسى وصدقوه وشاهدوا آياته ومعجزاته، وكان يبعثهم للدعوة نيابة عنه. قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52]، أي: استنجدهم عيسى عليه السلام لنصرته فما تأخروا عن نصرته بل رفعوا أصواتهم قائلين: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52].قوله: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ، وإلى هنا بمعنى مع، بمعنى من أنصاري مع الله؛ لأن حروف الجر تتناوب. من أنصاري مع الله، ويصح أن تبقى (إلى) على بابها، وهناك محذوف، من أنصاري في الطريق إلى الله؟ في دعوتي إلى الله؟قَالَ الْحَوَارِيُّون َ وهم اثنا عشر من الصالحين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي إلا وله حواريون، وأنا حواريي الزبير بن العوام )، وهو ابن عمته، فرضي الله عن الزبير كان من حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم.ماذا قالوا؟ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ [آل عمران:52] يا روح الله: بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52]، واشهد يا عيسى يا رسول الله بأنا مسلمون.

دين الله هو الإسلام منذ آدم إلى محمد عليه الصلاة والسلام
وهنا يرجع بنا الحديث إلى أن الديانات الإلهية من عهد آدم عليه السلام إلى عهد نبينا صلى الله عليه وسلم لم تخرج عن الإسلام، فاليهودية والنصرانية والديانات الأخرى والملل كلها مبتدعة، أصل الأديان هو الإسلام؛ لأن الإسلام: هو أن يسلم الإنسان قلبه ووجهه لله، فقلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، ووجهه لا يقبل به إلا على الله؛ يدعوه ويسأله ويتضرع إليه، ويطيعه فيما يأمره به وينهاه عنه، وقد تختلف الملل في الأمر والنهي؛ لأن الشارع حكيم، فقد يحل لأناس ما يحرم على آخرين، وقد يكلف أناساً ما لم يكلف به آخرين، بحسب استعدادهم وما تهيئوا له للكمال والسعادة، أما أصل الدين فواحد وهو الإسلام. فنوح قال: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:72]، وهكذا يوسف: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101].فاليهودية والنصرانية والبوذية.. هذه الملل كلها بدع ما أنزل الله بها من سلطان، فبعث الله الرسل وأنزل معهم الكتب التي تدعو إلى الإسلام، فهؤلاء الحواريون لما استنجدهم عيسى قالوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ [آل عمران:52] يا روح الله: بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52] أي: منقادون خاضعون ذليلون لربنا عز وجل، ننصر من ينصره، ونوالي من يواليه، ونعادي من يعاديه، فكان يجب على النصارى الدخول في الإسلام والتخلي عن هذه البدعة المنتنة، ولكن هذا حكم الله: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].

تفسير قوله تعالى: (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول ...)
وقالوا: رَبَّنَا [آل عمران:53]، أي: يا ربنا. آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ [آل عمران:53] من الآيات البينات من التوراة والإنجيل والزبور وما أنزل من الآيات القرآنية أو الآيات المعجزات. وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ [آل عمران:53]، الرسول هنا بالألف واللام، (أل) للعهد، فمن هو الرسول؟ عيسى عليه السلام، فهو رسول الله أي: مرسوله الذي أرسله إلى بني إسرائيل. وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ما قالوا: آمنا بما أنزلت واتبعنا عيسى، بل قالوا: (اتبعنا الرسول) ففيه تقرير رسالة عيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله، الرسول الكريم العظيم المبجل الصادق.إذاً: توسلنا إليك يا ربنا بالإيمان بك.. توسلنا إليك يا ربنا بالإيمان برسولك فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53]، توسلوا إلى الله بقولهم: رَبَّنَا أي: يا ربنا: آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ أي: صدقنا بالذي أنزلته علينا من بركات السماء؛ من الرسالات والمعجزات والخيرات والبركات. وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي: مشينا وراءه، فلم نتقدمه ولم نمش عن يمينه ولا عن يساره، ولكن وراءه، فالإتباع أن تكون وراء المتبوع، وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ إذاً: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ؛ توسلوا إلى الله بإيمانهم وعملهم الصالح، إذ قالوا: آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أعطنا شيئاً، وهو اكتبنا مع الشاهدين، والشاهدون غير الشهداء، هم ما ماتوا في سبيل الله، فلم يقول واكتبنا مع الشهداء، قال: مَعَ الشَّاهِدِينَ فهل نحن منهم؟! كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فهو من الشاهدين، فالحمد لله أننا من الشاهدين؛ اللهم اكتبنا مع الشاهدين في ديوانهم.أرأيتم إخوانكم الحواريين كيف يتوسلون إلى الله عز وجل؟! أهل بصيرة، ونحن -والحمد لله- لا نتوسل إلا إلى بالله وبما يحب أن نتوسل به إليه، وإخواننا في الشرق والغرب إلى الآن يتوسلون بجاه فلان وحق فلان! ويجادلون أيضاً.قالوا: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ قال: فعلت.

تفسير قوله تعالى: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين)
قال تعالى: وَمَكَرُوا [آل عمران:54]، عاد السياق إلى الذين تخوفهم عيسى عليه السلام، قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران:52]، من هؤلاء الذين قال الله فيهم: وَمَكَرُوا [آل عمران:54]؟ هم اليهود. والمعنى: ونفذ اليهود مكرهم في محاصرتهم منزل عيسى عليه السلام، نفذوا ما بيتوه ودبروه، وجاءوا بشرطتهم ورجال حكومتهم وطوقوا منزل عيسى في ذاك الوقت؛ ليقتلوه أو يسجنوه، ودام الحصار ساعات ولم يخرج، وبعد ذلك دخل رئيس الشرطة ولكن الله سبحانه وتعالى رفع عيسى عليه السلام إليه من فتحة روزنة، من كوة في السطح كانت موجودة في الزمن القديم، وكان كل بيت لابد فيه من روزنة، وألقى الشبه على هذا الرئيس الشرطي، فلما تأخر دخلوا فوجدوا الشرطي وظنوا أنه عيسى، فألقوا الحبال والسلاسل على يديه وسحبوه، ونسوا رئيس الشرطة، ووضعوه على الأعواد وصلبوه وشنقوه، وأما عيسى عليه السلام فهو عند الله عز وجل.قال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54]. انتبه يا عبد الله! ويا أمة الله! بأن أفعال الله لا تشابه أفعال المخلوقين؛ وذات الله لا تشبه ذات المخلوقين، فإذا نسب تعالى إليه المكر فلا تفهم أنه كمكر الآدميين؛ لضعفهم وعجزهم وقلة قدرتهم، وإن كان المكر التبييت في الخفاء، فهم دبروا والله عز وجل دبر، ولكن تدبير الله فوق تدبيرهم، هو العليم الحكيم، القوي القدير، وهم الجهلة الضعفة العجزة المساكين، ومكروا كما علمتم ومكر الله عز وجل إذ رفع عيسى وتركهم يتيهون.قال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54]، فمكر الإنسان بأخيه الإنسان بالأذى والضرر به، ومكر الله لأوليائه لإنقاذهم ورفعهم وإعزازهم وإكرامهم، وكان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم امكر لي ولا تمكر علي )، فمن أراده أهل الشر بسوء ومكروا به وبيتوا كيف يضرونه فإن الله يمكر بهم ويضيع جهودهم وخيب آمالهم وينزل بهم نقمه وعذابه، وهذا بيان مكر الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (إذا قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ...)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55].. الآيات، هذا النداء الإلهي لا مانع أن يكون بواسطة جبريل، لا مانع أن يناديه ويكلمه ويسمع كلامه، هذا روح الله، هذه كلمة الله، ناداه ربه يَا عِيسَى بالاسم العلم، وعيسى قيل: معرب يوشع أو يشوع في اليهودية، لكن حسبنا أن يسميه الله في كتابه، ما نقبل يوشع ولا يشوع. يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي: متمم لك الأيام والليالي التي كتبتها لك تقضيها في هذه الدنيا، ثم بعد ذلك أنزلك لتتم بقية عمرك، وهنا الذي نوقن به ونُشهد عليه ونَشهد به أن عيسى لم يمت؛ لأن الله لا يجمع له بين موتتين، والموت صعب وسوف نذوقه يقول تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، فمرارته يأبى الله أن يصيب بها عبده مرتين.فعيسى لا يميته الله مرتين، بل ينزله تعالى في آخر أيام الدنيا ويقضي فيها ثلاثة وثلاثين سنة؛ داعياً وعابداً وذاكراً وشاكراً لله تعالى، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيحج البيت، قال: ( كأني بابن مريم بالروحاء يلبي بحج وعمرة أو بعمرة وحج )، ثم يتوفاه الله كما توفى أنبياءه ورسوله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، هل يدفن في الحجرة النبوية؟ إذا أراد الله أن يكرمه ويكرم أهل الحجرة دفنه معهم. يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ هنا اختلف بعض أهل العلم وقالوا: متوفيك بمعنى مميتك. ولم يقل: مميتك بل قال: مُتَوَفِّيكَ أنا وفيتك يا عدنان المبلغ، فليس هنا معنى وفيتك بمعنى أمته بل أعطيته كاملاً وأتممته وكملته. فليس متوفيك هنا بمعنى مميتك. مُتَوَفِّيكَ بمعنى متمم لك عدد الأيام التي كتبناها لك في كتاب المقادير، تتمها في هذه الحياة وتقضيها، ثم أرفعك إلي، وعيسى الآن في الملكوت الأعلى. السنن التي علمنا الله إياها إن شاء أبطلها وأوقفها وأجد بدون سبب، فقد أوجد عيسى عليه السلام بدون أب ولا أسباب.إذاً: فعيسى في الملكوت الأعلى، ورسولنا صلى الله عليه وسلم لو شاء الله أن يبقيه في الجنة ليلة الإسراء والمعراج لا يعجزه عن ذلك شيء، فعيسى يأكل ويشرب، والطعام والشراب يتحول إلى عرق وجشاء كأهل الجنة، انتهت سنة الأرض حياة أخرى، لا يشيب فيها أحداً.عاش نوح ألف سنة ولا أدري شاب أم لم يشب، ثم كونه في ذلك العالم غير قابل للفناء، إذاً: لا يشيب ولا يهرم، أهل الجنة كلهم في سن ثلاثة وثلاثين سنة، لا ينقصون ولا يزيدون بلا حد ولا نهاية، طبيعة ذلك العالم ما تقبل هذا الذي نعيشه نحن بالشمس والحرارة والشرف والمرض والقوة والعجز، وما يدرينا عما قريب نسمع عيسى نزل، ينزل على المنارة البيضاء في مسجد دمشق الجامع بين ملكين. إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55] أي: بجواري في ذلك القدس والطهر في الملكوت الأعلى، والمسافة كما علمتم سبع آلاف وخمسمائة سنة بالطائرة. هذه الجنة.وقوله: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، هذا اللفظ يدل على أن المجتمع اليهودي تلك الأيام أخبث مجتمع متعفن أنجاس يتعاملون بالربا، والعهر، والزنا، والخيانة، وسفك الدماء.. فأراد الله أن يطهره من تلك الأخلاق والأوضاع الهابطة الساقطة برفعه إليه وتركهم في فتنتهم. إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، كفروا بك يا عيسى وبما جئت به من الإنجيل وما أنزلنا فيه من الآيات البينات؛ لأنه نزل بما يتنافى مع شهواتهم وأطماعهم وأغراضهم وآدابهم الهابطة وأخلاقهم الفاسدة، فلم يطيقوا ذلك فلما شاهدوا المعجزات الخارقة للعادات قالوا: ساحر وابن زنا، وقالوا.. وقالوا.. تنفيراً وإبعاداً للناس عن عيسى عليه السلام. وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55] أي: من الذين يعيشون في مجتمعات هابطة وساقطة وييسر الله له أن ينقذه منه وينزله في بلاد طاهرة. وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55] وعد الصدق، اسمعوا هذا الوعد لعله يتحقق لكم في المستقبل، لقد تحقق لأسلافنا كما أعلم الله عز وجل: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، وهذا يشمل كل من يكون على منهج عيسى في التوحيد والعبودية لله رب العالمين، وقد حقق الله هذا لرسولنا وأصحابه وأحفادهم بعد أبنائهم ثلاث قرون وهم سائدون، والكفار أذلة مهانون من اليهود والنصارى وغيرهم. وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، فاليهود لا يسودون علينا أبداً. فإذا تمسك المسلمون بالكتاب والسنة ينتهي وجود اليهود ولا عزة ولا كرامة لهم، ولكن نحن الذين أعززناهم فابتلانا الله باليهود فأذاقونا مر الذل والهون، وهم حفنة وشواذ جاءوا من الشرق والغرب، ليعلمنا الله بأننا مذنبون؛ بأننا سلكنا مسلكاً لا يريده الله عز وجل، فأرانا آية من آياته لعلنا نفيق ونفهم، فهم أذل الخلق، وكم من معركة انتصروا فيها وتمزقنا وهربنا.ولكن إذا اجتمع المسلمون في روضة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم وقالوا: بايعناك يا إمام المسلمين، وكلمتنا واحدة ودستورنا واحد وأمة الإسلام أمة واحدة، لرحل اليهود وانتهت عزتهم وكرامتهم، ولكنا رضينا بالانقسام والفرقة والخلاف والمشاحنة، وتركنا الصلاة ومنعنا الزكاة وأبحنا ما حرم الله، كيف نريد أن ينصرنا الله عليهم؟!والشاهد عندنا في هذا الوعد الإلهي الكريم: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ [آل عمران:55] كافركم ومؤمنكم، عزيزكم وذليلكم: فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران:55]، أي بيان أعظم من هذا البيان الإلهي؟! ثُمَّ إِلَيَّ لا إلى سواي ولا إلى غيري: مَرْجِعُكُمْ [آل عمران:55] أبيضكم وأسودكم، عربكم وعجمكم، مؤمنكم وكافركم، راجعون إلى الله، يجمعنا ثم يبعثنا ليقضي بيننا ويحكم وهو أحكم الحاكمين، هذه عقيدة البعث والجزاء: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أولاً، في يوم القيامة الذي يقوم الناس فيه من قبورهم، يوم قيام وقيامة البشرية، فينفخ إسرافيل في بوقه فيخرجون من الأجداث والقبور في خلقهم وتركيبهم على أكمل صورة: فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، وهذا رد على النصارى الذين يقولون: لا أجسام يوم القيامة ولا سعادة إلا للأرواح فقط. وهذا كذب وخرافة وضلالة يعيشها النصارى الآن، لا يعجز الله أن يعيد الخلق من جديد من قال ذلك فقد كفر وكذب الله ورسوله.كان مسلم لبناني يركب مع مسيحي في سيارة، فتحادثا وتجاذبا أطراف الحديث، وأخذ المسيحي يسخر ويقول: أنتم المسلمون تقولون إننا في الجنة بأبداننا وأرواحنا نأكل ونشرب؟ قال المسلم: إي نعم، فقال المسيحي: إذاً كيف تكون بطوننا وأنتم تقولون في الجنة لا بول ولا غائط؟! ثم ضحك.. فألهم الله عز وجل المسلم العامي وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83]، قال له: يا هذا! أنت سخرت من أننا نأكل ونشرب ونتمتع بالجنة بأبداننا وأرواحنا، وأنتم تؤمنون بمجرد أرواح في الجنة، فالطفل الصغير في بطن أمه من الشهر السادس يأكل ويتغذى وينمو على الغذاء وهو لا يبول ولا يتغوط، وبمجرد أن يخرج من بطن أمه يبول!فكانت صفعة رادعة لذاك الصليبي وانتبه.نعم أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشرب يكون كله عرق أطيب من ريح المسك، وأما الشبع يكون جشاء، فلا بول ولا غائط ولا مرض ولا هرم ولا كبر ولا ولا.. وعالم الجنة غير قابل للفناء.عرفتم يوم القيامة ما ننسى هذه الكلمة الإلهي: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، قد يقول القائل: هيا نتبع عيسى الآن، نقول: نعم، ولكن ما نسخه الله من الشرائع والأحكام يجب أن نتركها لأن الحكيم نسخها، وما أقره ولم ينسخه وما هو عليه نحن الآن نعمل به وقائمون عليه، فما خرجنا عن شريعة عيسى أبداً إلا فيما أذن الله فيه بالفعل أو الترك حسب علمه وتشريعه للخلق، عقيدتنا عقيدة عيسى والحواريين، عبوديتنا هي عبودية عيسى والحواريين، فكون أحل لهم طعام حرمه علينا، أو أذن لهم في فعل ما لم يأذن لهم فهذا يعود إلى حكمة المشرع بحسب أحوال الناس وأوقاتهم، فنحن متبعون لعيسى عليه السلام، لكن لما خالفناه وخرجنا عن هدي الله ورسوله أحل الله بنا ما أحل بنا؛ استعمرنا الشرق والغرب وأذلونا وأهانونا وما زلنا نستعطفهم ونسترحمهم، أما وعد الله فنافذ: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، والنصارى ما اتبعوا عيسى بل كفروا به، فجعلوه إلهاً فعبدوه وجعلوه إلهاً مع الله، ما ننسى بيان عيسى أبداً: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، أما كون اليهود أذلاء تحت النصارى لقلتهم فقط، ومع هذا فقد انتصروا على النصارى، وهم يسوسونهم في الداخل والخارج بحيلهم ومكرهم، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران:55]، فالشرائع والأحكام الذي اختلفتم فيها الله يحكم بينكم فيه، فيحق الحق ويبطل الباطل.

تفسير قوله تعالى: (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً ...)
قال: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:56] بي وبرسولي وبشرائعي وبلقائي والوقوف بين يدي، هؤلاء فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:56]، هذا الحكم في الدنيا وهو أنني أعذبهم عذاباً شديداً، والشديد بالنسبة إلى الله ما هو شديد بالنسبة إلينا: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا [آل عمران:56] بالذل والهون والدون، وفي الآخرة بالخلد في عذاب النار: وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:56]، لا يوجد لهم ناصر ينصرهم أبداً. إذا قيل: ادخلوا النار فلا شافع لهم أبداً يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:13-16]، فالخلاف كان بين الموحدين والمشركين، بين المؤمنين والكافرين، بين الصالحين وبين المفسدين، فبدأ بالقسم الأول لأنه الأكثر ( يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك قال يقول أخرج بعث النار قال وما بعث النار ؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين )، كلها إلى جنهم وواحد إلى الجنة، فلهذا قدم هذا الصنف. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:56]، ولأن الكفر مفزع في الحقيقة، ففطرة الإنسان لا تتلاءم مع الكفر، الآن لو تقول لمسيحي: كافر! يغضب، لو تقول ليهودي: كافر! يغضب، لو تقول: لعاصي من العصاة الذين لا يصلون ولا يصومون يا عاصي! يغضب. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا [آل عمران:56] بالهون والذل والدون والإهانة والفقر والبلاء. وَالآخِرَةِ [آل عمران:56] لا تسأل عن عذاب النار فطعامهم الزقوم وشرابهم الحميم، والسلاسل يدخلونها في فمه ويخرجونها من دبره، طولها سبعون ذراعاً.

تفسير قوله تعالى: (وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ...)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:57]، أولاً وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [آل عمران:57]، فقدم الإيمان لأن المؤمن حي يعمل، والكافر ميت، آمن عبد الله، فإذا آمنت أمِنت وصدقت فيما تقول وتفعل وأنت على ذلك قادر، فبالإيمان يعبد الإنسان الله عبادة حقيقة: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:57]، آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسوله وبكل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من شأن الغيب والشهادة: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [آل عمران:57]، الصالحات هي العبادات التي تعبدنا الله بها، من الوضوء إلى الرباط في سبيل الله، فكل عبادة كانت قولية أو عملية هي من الصالحات؛ لأنها صالحة بالفعل وتصلح ويصلح الله بها القلوب والنفوس، فكل العبادات التي تعبدنا الله بها سمها الصالحات. فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ [آل عمران:57]، أجور: جمع أجرة، أجر وأجور، ما يتقاضاه العامل مقابل عمله، هم آمنوا وعملوا الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ [آل عمران:57] كاملة.ثم قال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57]، أي: لا يحب الظالمين. إذاً: فاطمئنوا أيها المؤمنون بأن أجوركم تستوفونها كاملة غير منقوصة؛ وعلة ذلك؛ لأن القاضي لا يظلم؛ لأن المجازي لا يظلم، الظلم حرام عليه، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: ( إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ). وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57] أبشروا إذاً لن ينقصكم من أجوركم شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم)
وجاء التوقيع الأخير والصفعة على خد نصارى نجران اسمع ماذا قال تعالى بم ختم هذا السياق ذَلِكَ [آل عمران:58] الذي سمعتم وتلونا وقرأتم: نَتْلُوهُ [آل عمران:58] عليك يا رسولنا محمد: مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:58]، ثبتت رسالته محمد رسول الله، أين دعاوى النصارى الباطلة: محمد عربي صهرته الحرارة فأصاب بهذه المعاني والمعارف!! فهذا الكلام لا يقوله عاقل، والله يقول: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ [آل عمران:58] نقرأه عليك مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:58].قولوا: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.اللهم اجعلنا من أتباعهم الصادقين والمؤمنين الصالحين، واجمعنا بهم يا رب العالمين.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-27, 05:54 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (16)
الحلقة (157)

تفسير سورة آل عمران (23)

خلق الله عز وجل آدم من تراب، وجعل ذريته من نطفة من ماء مهين، فكل مولود له أب وأم إلا عيسى بن مريم عليه السلام فقد خلقه من غير أب كما خلق آدم من قبل، فكان هذا مما فتن به النصارى فقالوا: إن عيسى هو ابن الله! وقالوا: إن عيسى هو الله!! وما علموا أن من خلق آدم بلا أب ولا أم قادر على أن يخلق عيسى من أم بلا أب، ولكن إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (فلما أحس عيسى منهم الكفر ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلك الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا فيك يا ولينا وولي المؤمنين.الآيات التي درسناها بالأمس أسمعكموها تلاوة، وتذكروا ما علمتم منها في الدرس السابق، وما لها من نتائج وعبر تدلنا على ما كنا قد علمناه.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:52-58].

هداية الآيات
هذه الآيات تذكروا منها ما يلي: [ أولاً: قيام الحجة على نصارى نجران؛ إذ أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي، فقرر به بطلان ألوهية عيسى عليه السلام بذكر أوصافه وأحواله مع قومه، وكرامة الله تعالى له ولأتباعه معه ومن بعده في الدنيا والآخرة]. هذا من قوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52]؛ علمهم أن عيسى عليه السلام حاصره اليهود وأرادوا قتله، ولما شعر بذلك - بل أيقن بالأذى - رفع كفيه إلى ربه، و قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ؟ فأيقظ الله أولئك المؤمنين فرفعوا أصواتهم قائلين: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52]. وَمَكَرُوا [آل عمران:54] أي: اليهود بعيسى عليه السلام حيث ائتمروا على قتله، ولكن الله مكر؛ فرفعه إليه وألقى الشبه على رئيس شرطتهم فصلبوه وقتلوه، وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54] ، دبروا شيئاً ودبر الله آخر، بيتوا شراً وبيت الله خيراً، وكان الله هو الظاهر.[ثانياً: الإسلام دين الأنبياء وسائر الأمم البشرية، ولا دين حق غيره، فكل دين غيره باطل]، من أين أخذنا هذا؟ من قولهم: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52].إذاً: فالإسلام: هو الانقياد والإذعان الكامل لله تعالى فيما يأمر به وينهى عنه، وهذا دين الأنبياء عامة، ودين المؤمنين الصادقين في كل زمان ومكان، فدعوى أن المسلمين لهم دين خاص أو دين جديد دعوى باطلة، دين المسلمين هو دين الأنبياء: نوح فإبراهيم فمن دونهما فعيسى.. إلى نبينا صلى الله عليه وسلم.[ثالثاً: تقرير حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في أن لكل نبي حواريين وأنصاراً]، ذكرت لكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لكل نبي من الأنبياء حواريون، وأنا حواريي الزبير بن العوام )، وهذا دل عليه قول عيسى: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران:52]، من أجاب؟ الحواريون، وهم أصحاب القلوب البيضاء والنفوس الزكية الطاهرة.[رابعاً: فضل أهل لا إله إلا الله، إذ هم الشاهدون بالحق والناطقون به]، وبالأمس قلنا: نحن من الشاهدين، إي والله، كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله؛ هو من الشاهدين، والشاهدون غير الشهداء؟ الشهداء من ماتوا في الجهاد، والشاهد من شهد شهادة الحق، أما قال الحواريون: اكتبنا مع الشاهدين؟ أي: معكم، ومع كل من يشهد أن لا إله إلا الله ولمن أرسله الله؛ موسى وعيسى أو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحمد لله أننا من الشاهدين.[خامساً: تقرير قبض الله تعالى لعيسى ورفعه إليه حياً]، في هذه الآية تقرر أن الله عز وجل رفع إليه عيسى بن مريم حياً، وهو عنده في جواره، وسوف ينزله في آخر الأيام، أخبر بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كذبه فقد كفر، من كذب رسول الله كفر، في حين أن هناك آية من سورة الزخرف تكاد تصرح بنزول عيسى، إذ قال تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف:61]، عيسى علم لها يعرف بنزوله قرب الساعة، إذا نزل عيسى عرفت الساعة وعرفها الأبيض والأسود، علامتها نزول عيسى.إذاً: [تقرير قبض الله تعالى لعيسى ورفعه إليه حياً]، ولا عجب، وقد تقول: كيف يرفعه حياً؟ أما رفع رسول الله حياً وعاد؟ أيعجز الله أن يرفع شخصاً إلى الملكوت الأعلى، قادر على أن يرفع البشرية كلها، وإنما لو أنه أماته ورفعه ثم يحييه وينزله ويميته، فقد جمع له بين موتتين، وحاشا لله عز وجل، لم يجمع الله لعبد من عباده بين موتتين يعذب مرتين؛ لأن الموت عذاب، إذاً: رفعه حياً وهو عنده في الملكوت الأعلى، يأكل ويشرب ولا يبول ولا يتغوط، هذا شأن أهل الجنة دار الخلد؛ يأكلون ويشربون، ووالله لا يبولون ولا يتغوطون، الشراب يستحيل إلى عرق أطيب من ريح المسك، والطعام إلى جشاء، ما هي دار خراءة وبول، هذه دار الطهر والقدس.على كل حال هذا التنبيه لأنه يوجد في بعض التفاسير تخبطات، وخاصة المعاصرين.قال: [ونزوله في آخر الدنيا] أي: أيامها، ينزل [ليحكم زمناً ثم يموت الموتة التي كتب الله على كل إنسان، فلم يجمع الله تعالى له بين موتتين، هذا دليل أنه رفع إلى السماء حياً لا ميتاً].[سادساً: صادق وعد الله تعالى بعزة أهل الإسلام، وذلة اليهود على مدى الحياة]، من أين أخذنا هذا؟ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، من هم الذين اتبعوا عيسى: المسلمون أم اليهود؟ المسلمون، وهل النصارى اتبعوه؟ لقد كفروا به، ألهوه، فهم شر الخلق، شر من اليهود.فمن اتبعوا عيسى بحق؟ المسلمون، في عقيدته وفيما جاء به، هم المسلمون بحق.

تفسير قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ...)
إذاً: بعد هذه الذكرى ننتقل إلى الآيات التي ندرسها إن شاء الله في ساعتنا هذه بإذن الله، هيا نسمع مثل عيسى عند الله.قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين َ [آل عمران:59-63].هذه الآيات المدنية صفعت النصارى صفعة لن يفيقوا بعدها إلا في جهنم أو يسلموا. ‏
ذكر ما تضمنته الآية من دحض شبهة النصارى في تأليه عيسى عليه السلام
قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران:59] هذا الوفد المحاج المجادل بالباطل وفد نصارى نجران قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ إذ هذه من الفتن التي فتنتهم فعبدوا عيسى، قالوا: إذاً: هذا ابن الله! ما دام ليس له أب وأمه موجودة؛ إذاً هذا ابن الله، هذه هي الشبهة التي تورطوا فيها.قالوا: كل آدمي له أب، وعيسى لا أب له، ولما طرحوا هذا السؤال نزل الجواب من الرحمن جل وعز: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ [آل عمران:59] أي: آدم ِمنْ تُرَابٍ ثم قال له: كن فكان، آدم ليس له أب ولا أم، وعيسى أيضاً لا أب له، إذاً: شأن عيسى كان كشأن آدم، لو لم يسبق الوجود إنسان لا أب له فممكن أن تقع الشبهة والفتنة، لكن وجد من لا أب له، ألا وهو آدم، من أبو آدم؟ كيف إذاً؟ خلقه الله وقال له: كن فكان، وكذلك عيسى.وقد تقدم لنا أن أصناف المخلوقات أربعة: من لا أب له ولا أم وهو آدم، ومن له أب ولا أم وهو حواء، ومن له أم ولا أب وهو عيسى، ومن له أب وأم وهو نحن، والله يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير.المهم لما طرحوا هذا السؤال، وهو في الحقيقة سؤال هم مصابون بفتنته، لم قالوا: عيسى ابن الله؟ قالوا: لأنه لا أب له، إذاً: هذا ابن الله! الشيطان زين لهم ذلك وحسنه، وانخدعوا وقلدوا وضلوا؛ فكان الجواب شافياً كافياً: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ [آل عمران:59] أي: آدم مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59].

تفسير قوله تعالى: (الحق من ربك فلا تكن من الممترين)
وهنا قال تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [آل عمران:60] مصدر الحق من هو؟ الله، هذا الحق الذي بين تعالى فيه أن عيسى كمثل آدم من أين جاء؟ من الله، الحق من ربك فلا تكن يا رسولنا من الممترين، أي: الشاكين. وهنا اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشك، ولا يكون من الشاكين؛ إذ الشك كفر، ولكن هذا من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة! أما رسول الله وهو المعصوم وهو المطهر الذي انتزع منه حظ الشيطان فلا يداخله؛ أنى له أن يمتار أو يشك، ولكن هذا بالنسبة إلى غيره، فلا تكن - أيها السامع - من الممترين. أي: الشاكين، إذ الحق ورد من الله عز وجل، وبين لنا كيف خلق عيسى، ما هي إلا نفخة نفخها جبريل في كم درع مريم فسرت النفخة، وكان عيسى عليه السلام في ساعة واحدة.فهزها الطلق إلى جذع النخلة وألجأها إليه وولدته، وتكلم معها وبين لها ما ينبغي أن تقوله وتفعله: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:22-29] كلموه! قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [مريم:29-34].هذه الكلمات قالها ساعة ولادته، إذاً: الحق الثابت جاء من الله في شأن عيسى، وأنه عبد الله ورسوله، ما هو بإله مع الله ولا بابن لله كما يقول الضُّلاَّل، إنما هو عبد الله ورسوله، ومن قال غير هذا كفر وانسلخ من الإيمان، هذا هو الحق مصدره الله عز وجل.إذاً: فلا تكن - يا سامع - من الممترين، أي: الشاكين في أن عيسى عبد الله ورسوله.

تفسير قوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ...)
ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أجمعين: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ [آل عمران:61] أي: جادلك، يعني: جماعة نجران مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران:61] وعلم أن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه كان بكلمة التكوين: كن، ولم يكن له أب فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران:61] فإليك الحد الفاصل والنهاية، هذا ما يسمى بالمباهلة، إذا اختلف اثنان وكان أحدهما من الصالحين، والحق معه، وكان الآخر من الطالحين، والحق بعيد عنه؛ باهله، فيقال: اجتمعوا واجمعوا من تريدون من إخوانكم وقولوا: اللهم العن من كان كاذباً منا، فإنهم ما إن يفرغوا حتى يهلك الكاذب! هذه المباهلة، إذا اختلف اثنان أو أكثر - جماعتان - وادعت كل واحدة الحق فالمباهلة هي الحد الفاصل، يجتمعون فيأتون بنسائهم وأطفالهم ورجالهم ليهلكوا كلهم، ويقولون: اللهم العن من كان منا كاذباً. وبالفعل خرج أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وفاطمة الزهراء وراءه، وعن يمينه الحسن وعن يساره الحسين ، وعلي وراء ذلك، وما إن شاهدوا تلك الكتلة من النور حتى كادوا يذوبون، فروا هاربين، قالوا: والله لو باهلناه ما بقيت عين تطرف فينا، وانهزموا نهائياً، من حل هذا المشكلة؟ الله بهذه الآية الكريمة: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران:61] الصحيح في شأنه فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61].قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي وفاطمة والحسن والحسين : ( إن أنا دعوت فأمنوا ) أي: فقولوا بعدي: آمين! لم جاء الرسول بابنته وولديها وبصهره وبنفسه؟ من أجل إذا دعا وقال: اللهم العن من كان كاذباً ليقولوا هم: آمين! فهذه لطيفة أن دعاء الصالحين فيه قرب الإجابة، الذي يدعو وحده ليس كالذي يدعو ومعه غيره، فإذا دعا الداعي وقال من معه: آمين؛ فإنه إن لم يستجب للداعي يستجاب لمن قال: آمين! ثم إن أبناء البنت أبناء، وهذا الشيء هو جائز، فـالحسن والحسين أبناء فاطمة ، وليس أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبناؤها إذاً أبناؤه صلى الله عليه وسلم، ولا حرج. قال تعالى: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ [آل عمران:61] حين نجتمع في الساحة نقوم بالدعاء، نقول: اللهم العن من كان كاذباً، ومن وراءنا يؤمنون، ويهلك الله تعالى الكاذبين.

تفسير قوله تعالى: (إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله ...)
ثم قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62] الذي قصصنا عليك يا رسول الله في شأن عيسى وحنة امرأة عمران ، من يستطيع أن يخبر بهذه الأخبار؟ من كان حاضراً لما كان زكريا يرفع صوته داعيا سائلاً؟ من كان مع مريم وهي في محرابها تأكل فاكهة الشتاء في الصيف؟ لما اختلفوا أيهم يكفل مريم من كان حاضراً؟ كيف عرفنا القرعة التي اقترعوها؟ سلسلة من القصص تتبع آثار هذه الأحداث كأنك حاضر فيها، إن لم يكن هذا وحي الله فماذا يكون؟ إذاً: فوالله إن محمدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أنكر هذا لا عقل له ولا مروءة، كيف لأمي يقص هذا القصص؟ في أي كتاب وجده؟ من حدثه به؟ ولكن الله هو الذي قال: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62]، وسمي القصص من: قص الأثر إذا تتبعه، أحداث حدث بعد حدث.قال تعالى: هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:62] وليس من إله إلا الله، فحطم الصليبية وقضى عليها نهائياً، ما من إله إلا الله، كل مألوه معبود دون الله فهو باطل، وليس من حقه أن يسميه الناس إلهاً، أرأيتم هذا الختم أم لا؟ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:62].العزيز: الغالب الذي لا يمانع في شيء قط، العزة: الغلبة، العزيز: الغالب الذي لا يمانع في شيء يريده، ولله العزة.الحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه، لا يخلط ويخبط ولا يقدم ولا يؤخر، بل كل شيء في موضعه.إذاً: فأخباره تعالى أخبار الحق والصدق، الذين يعرضون عنها ويدبرون هلكوا وليسوا بذوي مروءات ولا ديانات، بل كالبهائم والحيوانات!

تفسير قوله تعالى: (فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين)
وأخيراً يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ تَوَلَّوْا [آل عمران:63] وفد نجران وأعرضوا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين َ [آل عمران:63]، ما قال: فإنهم مفسدون، وإنهم والله لمفسدون، ينصرون الصليبية في جزيرة العرب؛ لأنهم يأكلون لقيمات من الروم في الشام وينشرون الصليبية، يفسدون فطر أهل اليمن، ويقلبونها إلى هذا الباطل. وقوله تعالى: (عليم) أي: بهم، فليتهيئوا إذاً لنقمة الله، فالله عزيز حكيم لا يمانع في شيء يريده، يضع الشيء في موضعه، وهم مفسدون يفسدون قلوب الناس، إذاً: فنقمة الله نازلة بهم، لن ينجوا: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين َ [آل عمران:63]، وإن لم يتولوا بل رجعوا وقبلوا الحق وأذعنوا وقالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ونشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم نجوا، لكن تولوا وأبوا أن يعودوا، فإن جزاءهم محتوم معلوم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
الآن نسمعكم شرح هذه الآيات من الكتاب؛ ليتقرر ما سمعتموه ويزيد.
معنى الآيات
قال: [ معنى الآيات: ما زال السياق الكريم في تقرير عبودية عيسى ورسالته دون ربوبيته وألوهيته]، ما زال التقرير متواصلاً يقرر عبودية عيسى، هو عبد الله ما هو بابن الله، ولا بثالث ثلاثة مع الله، ورسالته يقررها دون ربوبيته وألوهيته، [فقد روي أن وفد نجران قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم فيما قالوا: كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله تعالى على رسوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] فإذا هو كائن، فأي داع لاتخاذ عيسى إلهاً، ألكونه خلقه الله من غير أب؟ فآدم كذلك خلق بدون أب ولا أم!] لم ما ألهنا آدم ولا عبدناه؟ [وإنما كان بكلمة الله، فكذلك عيسى خلق بكلمة الله التي هي (كن) فكان، هذا هو الحق الثابت من الله في شأن عيسى عليه السلام، فلا تكونن من الشاكين فيه، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يشك]، وقد قال: ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) وما شك إبراهيم.قال: [ولما أكثروا عليه من التردد والمجادلة أرشده ربه تعالى إلى طريق التخلص منهم، وهو المباهلة، بأن يجتمعوا ويقول كل فريق: اللهم العن الكاذب منا، ومن كان كاذباً منهم يهلك على الفور، فقال له ربه تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا [آل عمران:61] هلموا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61]] فهل فشلوا أم لا؟ قلت لكم: قالوا: والله إن باهلتم هذا الرجل لم تبق فيكم عين تطرف! كلكم تهلكون، فاهربوا خير لكم.قال: [وخرج في الغد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين، إلا أن النصارى عرفوا الحق وخافوا إن لاعنوا هلكوا؛ فهربوا من الملاعنة، ودعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأبوا]، أسلموا تسلموا. قالوا: لا، نحن حاملو راية دعوة، كيف نتركها ونتخلى عنها؟ ما هو بغريب هذا ولا عجيب، في المسلمين يوجد ناس يعيشون على الباطل بمعنى الكلمة، ويعلمون أنه الباطل؛ لكن للحفاظ على المادة إما جاه ومنصب أو مال أو كذا، يعرفون الحق وما يقبلونه، تعرفون هذا أم لا؟ لأن البشر هم البشر، ما هناك أصناف مختلفة، والشيطان هو الشيطان، والهوى والشهوة والدنيا هي هي، إذاً: فالناجي من نجاه الله، والسليم من سلمه الله.قال: [ودعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأبوا، ورضوا بالكفر إبقاء على زعامتهم ودنياهم، ورضوا بالمصالحة، فالتزموا بأداء الجزية للمسلمين والبقاء على دينهم الباطل]، لما رفضوا الدخول في الإسلام أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يبقي على حياتهم وعلى دينهم إذا دفعوا مقداراً معيناً من المال سنوياً للمسلمين، فرضوا بالجزية وبقوا على كفرهم حتى أسلموا.قال: [ثم قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62] أي: الذي قصصناه عليك في شأن عيسى عليه السلام، وهو أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا هو تعالى، وأن الله لهو العزيز الغالب الذي لا يمانع في شيء أراده، الحكيم في خلقه وتدبيره. ثم توعد نصارى نجران وغيرهم من أهل الفساد في الأرض بأنه عليم بهم وسوف يحل نقمته بهم، وينزل لعنته عليهم، وهو على كل شيء قدير.إن شاء الله نكون قد فهمنا هذه الآيات؟ اسمعوها مرة ثانية: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين َ [آل عمران:59-63].

هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات: من هداية الآيات:أولاً: ولاية الله تعالى لرسوله بإرشاده إلى الطريق التي أنهى بها جدال النصارى]، لو لم يكن الله ولياً لرسوله ما كان يرشده إلى هذا السلاح الذي حطم به الصليبيين، إذا والاك الله لا يتخلى عنك، ينصرك ويكون دائماً معك.إذاً: فكيف يتخلص الرسول من هذا الوفد المتعالي المتغطرس؟ حكم الولاية اقتضى أن يعلمه هذه المباهلة، ما كان يعرفها، فقل: تعالوا نخرج بنسائنا ونسائكم وأبنائنا وأبنائكم وندعو فنجعل لعنة الله على الكاذبين. وهنا يقال: لو وجد الآن جماعة ثانية، جماعة حق وجماعة باطل، وتأكدت جماعة الحق من أنها على الحق، وأن الأخرى على الباطل، ثم دعوهم إلى المباهلة، فهل تصح المباهلة أو لا تصح؟ تصح، ويهلك الله المفسدين، وإذا كانت الجماعة ما هي بمطمئنة إلى أنها على حق فما تستطيع إذاً أن تباهل، وإن كانت تعلم أن الأخرى على باطل، لكن موقف الرسول صلى الله عليه وسلم يقيني.الآن لو يأتي النصارى فوالله لنباهلنهم، لأننا على حق، وهم يقيناً على باطل، هيا تعالوا نباهلكم ونجعل لعنة الله على الكاذبين. [ثانياً: مشروعية المباهلة غير أنها تكون في الصالحين الذين يستجاب لهم]، تكون في الصالحين من عباد الله الذين إذا سألوا الله أعطاهم، إذا دعوه أجابهم، أما إذا لم يكن حالهم هكذا فما ينتفعون، ما يقع شيء، لا يهلك العدو ولا يهلكون هم.[ثالثاً: تقرير ألوهية الله تعالى دون سواه، وبطلان دعوى النصارى في تأليه عيسى عليه السلام]، عدنا من حيث بدأنا، لا إله إلا الله! وما عيسى إلا عبد الله ورسول الله، وإذا كان عيسى عبد الله ورسوله؛ فأولياؤنا الذين نذبح لهم الذبائح ونقرب لهم القرابين - كعجل مولد سيدي البدوي - كيف حالهم؟ أية عبادة أعظم من أن يقول: هذا مولاي فلان! بل يغرسون النخل: هذه نخلة سيدي فلان، يشتري قطيعاً من الغنم: هذه نعجة سيدي فلان، لم تفعل هذا؟ حتى يباركها الله وتنمو، وأنت أعطيتها لله أم لعبد الله؟ لو قلت: هذه لله نعم تطمع أن يبارك لك، أما أن تقول: هذه لسيدي فلان وتقول: يباركها الله! إنه والله لا أعظم من الدعاء عبادة، لا صلاة ولا جهاد ولا رباط؛ لما علمتم أن الداعي إذا دعا تمثلت فيه كل أنواع العبادة، وإليكموها:لما أرفع كفي: يا رب! تقول: هذا الشيخ فقير؛ بدليل رفع كفيه إلى السماء. ثانياً: أناجيه: يا رب! يا رب! يا رب! تقول: لولا علم هذا الشيخ بأن ربه موجود ويسمع ويرى ويقدر على أن يعطيه فهل سيناديه ويسأله؟! إذاً: فهو الفقير؛ لوجود الله وعلمه وقدرته ورحمته.ثالثاً: لما يطرح عليه حاجاته: أعطني كذا، احفظني من كذا؛ فهذا دال على أنه لا يقضي هذه الحوائج إلا الله، وإلا لما التفت إلى هنا أو هنا يسأل ويطلب، فلهذا الدعاء هو العبادة، ( من لم يسأل الله يغضب عليه )، ألح في الدعاء فإن الله يحب الملحين في الدعاء، والشرك فيه -والعياذ بالله- أن يقول: يا رسول الله! ويا سيدي فلان! وعاشت أمتنا قروناً تشرك به هذا الشرك.تجد المرء يوحد الله، والمسبحة في يده: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله ألف مرة، يأخذه النعاس وتسقط المسبحة من يده وإذ به يقول: يا رسول الله! يا أهل البلاد! أين الله الذي كان يؤلهه؟ لعلي واهم؟ أما قلت لكم: إن قائد السيارة خرج بنا عن خط السير فإذ به يقول: يا رسول الله! يا رسول الله! قلت: كيف هذا يا فلان؟! لو متنا لهلكنا؟ هل الرسول يجيئك الآن يمر ينقذك؟ كيف هذا؟! فيقول لي: لساني هكذا![رابعاً: تهديد الله تعالى لأهل الفساد في الأرض، وهم الذين يعملون بالشرك والمعاصي]، هددهم الله في هذه الآيات فقال: فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين َ [آل عمران:63]، معناه: يا مفسدون انتبهوا، إنكم تحت الرقابة، وهو كذلك.والله أسأل أن يصلحنا، وأن يبعدنا من ساحة المفسدين، اللهم آمين!
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-02-27, 06:00 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (17)
الحلقة (158)

تفسير سورة آل عمران (24)

إن إفراد الله عز وجل بالعبادة هو الغاية من كل رسالة، وهدف كل نبي من الأنبياء، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم واليهود قد حرفوا دينهم، واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله، ومثل ذلك فعل النصارى حيث عبدوا رهبانهم، وزادوا على ذلك أن كل فريق منهم ادعى نسبة إبراهيم عليه السلام إلى ديانته، وقد أخبرهم الله أن إبراهيم ما كان يهودياً ولا نصرانياً، وإنما كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين.
تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب ربنا عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وبالمشاهدة نشاهد السكينة، لا ضوضاء ولا فوضى ولا لغط ولا سخط ولا كلام، هذه السكينة، أما الرحمة فقد غشيتنا، فهل تشاهد بيننا الآن عذاباً؟ أبداً، رحمة كاملة، وأما كون الملائكة تحفنا فكما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أننا لا نشاهدهم؛ لأن أبصارنا ضعيفة لا تقوى على رؤية الملائكة النورانيين وهم يحفون بالحلقة.وأما ذكر الله تعالى لنا عنده في الملكوت الأعلى فهو كما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، الحمد لله على هذا الإفضال والإنعام، الحمد لله على أن رزقنا الله إيماناً به وبلقائه، به وبكتابه ورسوله، ويسر لنا أن نصلي المغرب والعشاء في أقدس بيت من بيوت الله، ونتلو كتاب الله ونتدارسه، اللهم لك الحمد! اللهم لك الحمد! اللهم لك الحمد على ما أوليت وأنعمت وأفضلت.وقد انتهى بنا الدرس ونحن في سورة آل عمران عليهم السلام إلى هذه الآيات الخمس، فهيا أنا أتلو وأنتم استمعوا، ونصبح كلنا دارسين وتالين، قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:64-68].الحمد لله! الحمد لله! الحمد لله! عجب هذا القرآن العظيم. هيا بنا نتدارس هذه الآيات.

المراد بأهل الكتاب وحكمة مناداتهم بهذه الصفة
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:64] من الآمر بكلمة: (قل)؟ الله رب العالمين، منزل القرآن العظيم على خاتم أنبيائه وإمام رسله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:64] نادهم: يا أهل الكتاب! ومن هم أهل الكتاب؟ إنهم والله لليهود والنصارى؛ لأن اليهود بين أيديهم التوراة وإن حرفوها، وإن زادوا وإن نقصوا، وإن قدموا وإن أخروا، لكن أصلها موجود، التوراة النور الإلهي.والنصارى بين أيديهم الإنجيل، الإنجيل الذي أنزله الله على عبده ورسوله عيسى عليه السلام، إذاً: فهم حقاً أهل كتاب أم لا؟ ويكفي أن الله عز وجل يقول لرسوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:64]، ناداهم بهذه الصفة التي يفرحون بها، ولا ينكرونها، ولهذا يبتدئ النداء بهذا: (يا أهل الكتاب) يريد أن يقول لهم: تعالوا، ما قال: هلم، تعالوا؛ لأن مقام الرسول عال، كأنه يقول: ارتفعوا أيها الهابطون إلى المقام السامي العالي، وهو مقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ارتفعوا أيها الهابطون إلى مقام النبوة المحمدية لتتعلموا الهدى وتعرفوا الحق.

المراد بالكلمة السواء
قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] كلمة العدل والحق والإنصاف، (كلمة سواء) أي: كلمة عدل بيننا وبينكم، ما هذه الكلمة؟ هي أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] هذه هي كلمة العدل، وهي ألا نعبد نحن وأنتم إلا الله، لا نعبد الله نحن وأنتم تعبدون الأصنام والأوثان، أو تعبدون الأولياء والرهبان، ألا نعبد نحن ولا أنتم إلا الله، هذا هو الإنصاف والعدل.ولا نشرك به تعالى شيئاً، لا عيسى ولا أمه ولا روح القدس جبريل ولا غير جبريل، لا موسى ولا العزير، فقط نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئاً من الشركاء قلوا أو كثروا، ولا شيئاً من الشرك ولو كلمة، ولو انحناء برءوسنا.ثانياً: ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً وآلهة من دون الله، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] أي: آلهة يعبدون من دون الله عز وجل.إذاً: فاليهود كالنصارى، قدسوا علماءهم ورهبانهم، ورفعوهم إلى مستوى الألوهية والربوبية، فقد أحلوا لهم ما حرم الله فأطاعوهم، فأحلوا ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله وأباح وأذن، فحرموه على أنفسهم اتباعاً لعلمائهم، فكانوا بذلك قد اتخذوهم أرباباً؛ لأن الرب هو الذي يحل ويحرم، هو الذي يمنع ويجيز، لأن الرب هو المربي العليم الحكيم، فهو يحل ما فيه خير للعباد، ويحرم ما فيه ضرر على العباد وشر.فإذا جاء العالم يحرم ما أحل الله ويحل ما حرم الله أصبح هو الإله، واتصف بصفات الرب؛ لأن لفظ الرب فيه معنى التربية.وهنا جاء من سورة التوبة قول الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31]، هذه الآية لما سمعها ذاك الصاحب عدي بن حاتم الطائي ابن حاتم الطائي مضرب المثل في الكرم والجود، وولده تنصر وأصبح نصرانياً، فلما أسلم في أخريات من أسلم سمع الرسول يقرأ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] فأنكر ذلك وقال: لا يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( أليسوا يحلون لكم الحرام فتحلونه؟ قال: بلى، أليسوا يحرمون عليكم الحلال فتحرمونه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم ) ما هي العبادة إذاً؟ أليست العبادة طاعة في ذل وانكسار وتعظيم لذلك المطاع؟ بلى، إذاً: تلك هي العبادة.(اتخذوا أحبارهم) أي: علماءهم، (ورهبانهم): عُبَّادهم، اتخذوهم أرباباً، كيف جعلوهم أرباباً؟ أطاعوهم في معصية الله.إذاً: هذه هي الدعوة دعوة الإنصاف والعدل، يا أهل الكتاب من يهود ونصارى! تعالوا ارتفعوا إلى مقامنا السامي، ارتفعوا من هذا الهبوط الذي هبطتموه، وأصبحتم لاصقين بالأرض من أجل المادة والأهواء والشهوات والأطماع، ارتفعوا.

ذكر ما تضمنته كلمة السواء من جماع معاني التوحيد
قوله تعالى: تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ [آل عمران:64] أي: عدل بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64]. ما هذه الكلمة؟ هي أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ [آل عمران:64] لا العزير ولا عيسى ولا فلان وفلان وفلان. وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64]، فكوننا نعبده ونعبد معه غيره ما استفدنا، ما حققنا الهدف، ما زلنا ضلالاً، ولنذكر هذا دائماً ونقول: من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وجب عليه أن يعبد الله أولاً، كيف يشهد له بأنه لا إله إلا هو ولا يعبده؟ فهو إذاً يسخر ويستهزئ.ثانياً: ألا يعبد معه غيره، وإلا تناقض، كيف يقول: أنا أعلم علم يقين أنه لا يوجد إله يعبد بحق إلا الله، وها أنا قد عبدته، ثم يعبد معه غيره؟ أي تناقض أعظم من هذا؟ فضيحة! من أول مرة يقول: لا إله إلا الله وفلان! حتى يعبده مع الله، أما أن تنفي وجود إله مع الله وتعبد الله ثم تعبد معه غيره فهذه خيانة وسوء أدب.ثالثاً: ألا تعترف بعبادة غير الله، ولا تقرها أبداً، فإن أنت عبدت الله وعبدت وحده، ثم رضيت بأن يعبد غيره معه؛ إذاً تناقضت، فإذا كنت من أول مرة تستثني، فتقول: لا إله إلا الله والمسيح. لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلا ما كان من عبادتنا لـمريم مثلاً، فهذا تناقض.إذاً: كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] هي ألا نعبد أولاً إلا الله، ولا نشرك به شيئاً أبداً، لا من الشرك ولا من الشركاء، فقد يعبد الله عز وجل وحده ولكن يقول كلمة شرك، أو يعتقد عقيدة شرك تتنافى مع التوحيد، فهو كافر ومشرك، ولا يقبل منه ذلك التوحيد.ثالثاً: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] لا يتخذ جهالنا علماءنا آلهة يعبدونهم، وهل العلماء يعبدون؟ إذا أحلوا لنا ما حرم الله فاتبعناهم عبدناهم، إذا حرموا علينا ما أحل الله فحرمنا ما أحل الله عبدناهم، ضاددنا الله تعالى وناددناه بهم، وجعلناهم آلهة، إذ لا يشرع إلا الله، لا يقنن إلا الله، وقولوا: لم؟ الجواب: الذي يشرع ويقنن يجب أن يكون عليماً حكيماً قادراً: قدرة لا يعجزها شيء، علم أحاط بكل شيء، حكمة لا يخلو منها شيء، والإنسان الضعيف يستطيع؟ لا يعرف المستقبل ما فيه، لا يعرف مضار الناس ولا منافعهم، الذي يستحق أن يشرع ويقنن فيحلل ويحرم ويأمر وينهى ذاك الذي هو الله ذو القدرة التي لا يعجزها شيء، ذو العلم الذي أحاط بكل شيء، ذو الحكمة التي لا يفارقها شيء! إن الذي يشرع العبادات ليعبد البشر بها الله يجب أن يكون عالماً بكل شيء، والذي لا يعلم ما وراء هذه الجبال، أو لا يعلم ما بعد أسبوع أو عام أو خمسين سنة ولا يعلم ما بعد قرن وقرون؛ كيف يطاع فيما يشرع؟!هذه هي الحقيقة، ووضحها لنا آية سورة التوبة، إذ نزل فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28].هذا إعلان أعلنه علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق ومن أرسلهم الرسول في حجة سنة تسع من الهجرة، أعلنوا ألا يحج بعد هذا العام مشرك أبداً، في تلك السنة حج المشركون؛ لأنهم ما منعوا، ولم يبق إلا حجة واحدة في السنة العاشرة، حجة الوداع، فبعث الرسول أبا بكر رضي الله عنه نائباً عنه، فكان أول أمير في الحج، ثم زاد فبعث علياً وبعض الصحابة أن ينادوا في عرفات وفي مزدلفة وفي منى وفي مكة ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، هذا ما يحمله النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [التوبة:28] وفقراً، وقلتم: الآن نجوع، الآن تتعطل التجارة، كان المشركون يأتون بالبضائع والسلع ويشترون ما شاء الله، والآن نصاب بالجوع والفقر، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28]، لم قال: إن شاء؟ لو لم يقل: (إن شاء) لتركوا العمل وكل شيء ولقالوا: أبشروا فقد وعدكم الله بالغنى، لا تحرثوا ولا تزرعوا! لا إله إلا الله الحكيم العليم! كلمة (إن شاء) هذه تعدل الدنيا وما فيها، والله لو ما قالها لترك الناسجون النسج، والحارثون الحرث، والمجاهدون قالوا: انتهينا، وعدنا الله بالغنى! لا إله إلا الله، أو ما انتبهتم لهذا القيد؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] هنا تضطرب القلوب أم لا؟ أين البضائع والسلع والتجارات والذين يشترون؟ تعطلت الحياة! قال: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [التوبة:28] وفقراً من منعكم المشركين من دخول الحرم من الحج بعد هذا العام فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28] ثم ماذا قال بعد (إن شاء)؟ قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28] عرفتم هاتين الصفتين؟ عليم بكل شيء، حكيم في تشريعه في كل شيء، فاستجيبوا، أطيعوا، امنعوا المشركين بعد هذا العام، لا تقبل مشركاً يحج بعد هذا العام.
ضلال اليهود والنصارى باعتقادهم في عيسى وعزير واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً
ثم قال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] أذلاء، هنا بين لنا شركهم وكفرهم، لا تقل: اليهود والنصارى ما هم بكفار ولا مشركين! اسمع الله يقرر شركهم وكفرهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ [التوبة:30] أما الواقع فوالله ما المسيح ابن الله ولا العزير ابن الله. ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [التوبة:30] قالوا كما قال المشركون من العرب وغيرهم. يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30] اسمع علة هذا اللعن:قال: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] اليهود اتخذوا العلماء أرباباً، والنصارى اتخذوا العباد والرهبان أرباباً من دون الله، من أخبر بهذا الواقع؟ الله عز وجل، هل يقول الله غير الصدق والواقع؟ حاشاه تعالى أن يقوله.قال: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، هنا لما سمع عدي بن حاتم الطائي النصراني العربي حيث كان في الشام وكان متنصراً؛ قال: يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً من دون الله. كيف تقول هذا؟ لو كان متزناً ثابت العقل لما قال هذا والله هو الذي قال، هذا ما هو بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا قول الله، يا حاتم ! أأنت أعلم أم الله؟! لكن لما كان يواجه الرسول قال: يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً من دون الله! فأجابه أستاذ الحكمة صلى الله عليه وسلم ومعلمها بما شفى صدره، وهدأ من قلقه وروعه، قال: ( أليسوا يحلون لكم الحرام فتحلونه؟ قال: بلى. أليسوا يحرمون عليكم الحلال فتحرمونه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم ) تلك هي العبادة إذاً. أليست هي الطاعة مع الإذعان والذل والاحترام والتعظيم؟ إذاً: عبدتموهم، واتخذتموهم أرباباً.وهذه الآية نزلت في وفد نجران فاسمعوها: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] لا ظلم ولا جور، نحن وأنتم سواء، ما هذه الكلمة؟ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64] من الشرك أو الشركاء، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64].

منع النبي الصحابة من القيام له صورة من صور حمايته لجناب التوحيد
من هنا كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد الناس في المسجد أن يقوموا يقول: لا تقوموا، ما سمح لأحد أن يقوم له، يدخل على أصحابه في الروضة من بيته، فهموا أن يقوموا فقال: لا تقوموا، حتى لا يقال: الرسول يحب أن يعظم ويعبد. فهذا من عمل اليهود والنصارى، يقومون لأحبارهم ورهبانهم؛ لأن القيام عبادة سببها الطاعة والتعظيم والحب والذل والانكسار، والانحناء الذي هو امتداد الظهر أو ما نسميه بالركوع أليس هذا من باب التعظيم والإجلال لمن عبدناه أم لا؟ والسجود من باب أولى، ولهذا قال: ( من سره أن يمتثل له الناس قيامًا ) بحب صادق ( فليتبوأ - والعياذ بالله- مقعده من النار ).فلهذا ما من حق المؤمن صادق الإيمان أن يرغب في أن يقوم الناس له، وإن قاموا له وبدون حب منه ولا رغبة؛ فلا بأس، أما أن يحب لنفسه أن يقوم الناس له تعظيماً وإجلالاً وإكباراً فقد تبوأ مقعده في النار.فعبادنا وزهادنا وعلماؤنا نحبهم نبجلهم نعظمهم نقدرهم، لكن ليس إكباراً وإجلالاً كالعبادة، وهم أنفسهم عليهم الرضوان لا يرغبون أن يذلوا الناس ويهينوهم؛ حتى يركعوا لهم أو يقوموا لهم، وليس ذلك في نفوسهم، فإن فعله من فعله من إخوانهم فهو من باب احترام أو تعظيم العالم أو الحاكم، ليس عبادة له وذلاً وصغاراً أو إعظاماً وإجلالاً؛ لأننا كلنا عبيد الله، ولكن فضل الله بعضنا على بعض، فمن هنا الذين يركعون وينحنون خوفاً وتبجيلاً وتعظيماً عبدوا غير الله عز وجل. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] الأرباب: جمع رب، ما الرب؟ الرب يطلق ويراد به: المعبود، لم عبد؟ لأنه يربي، يطعم ويسقي ويحيي ويميت، ويعز ويذل؛ فتذل له النفوس تعظيماً له وخوفاً منه ورغبة فيما عنده.

ذكر ما يعتبر عبادة مما ليس بعبادة من طاعة البشر فيما أمروا به ودعوا إليه
أقول: خلاصة القول: أن اليهود والنصارى عبدوا علماءهم وعبادهم، وبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فشفى صدورنا مع عدي بن حاتم رضي الله عنه، إذ قال: ( يحلون لكم الحرام فتحلونه، ويحرمون عليكم الحلال فتحرمونه )، فالآن أيما حاكم من حكام المسلمين عرباً أو عجماً ينصب نفسه هذا المنصب، ويبيح للناس الخمر يقول: اشربوها، هل نطيعه؟ والله إن أطعناه عبدناه، يبيح لهم الزنا يقول: أيش فيه؟ فإن أطاعوه عبدوه وألهوه، يبيح لهم الربا، يقول: الربا حلال! فإن أطاعوه فقد ألهوه وجعلوه إلهاً مع الله، يبيح لهم عقوق الأبوين، يقول: ما هناك حاجة إلى هذه الطاعة العمياء لأب أو أم، أنت حر، فلو أطاعوه في ذلك فقد ألهوه، وهكذا لو قال: لا معنى لهذا الصيام أبداً، فأطعناه فتركنا الصيام الذي فرض الله فقد عبدناه وألهناه! أقول: أما ما كان من غير ما أحل الله ولا حرم من أمور الدنيا كالحرث والزراعة والصناعة والتجارة وما إلى ذلك؛ فهذه إذا نظر الحاكم إلى مصالح الأمة أو المسلمين وقال: اتركوا هذا لما يترتب عليه؛ فهذا أمر واسع وجائز، ما هو بعبادة.الحكيم صلى الله عليه وسلم قال: يحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه، أو يبيحون لكم ما حرم الله فتبيحونه وتحلونه، هذه مضادة لله أم لا؟ هذا هو الشرك بعينه.فالدعوة الإسلامية الربانية تدعو إلى أن المحلل والمحرم هو الله عز وجل، والمطاع في ذلك هو الله، إذ هو المربي وهو العليم الحكيم.فإن قال لك والدك يا بني: لا تجلس مجالس الباطل والمنكر، فطاعته هنا من طاعة الله عز وجل؛ لأن الله حرم هذا، أبوك ما يرضى لك هذا الفساد، لا تقل: إذاً عبدت أبي! أبداً، إذا قال لك مربيك أو شيخك: يا فلان! لا تستعمل هذا الدخان لأن فيه مضرة ومفسدة، فلا تقل: إن أطعته عبدته وجعلته إلهاً مع الله؛ لأن معلمك أو مربيك رأى أن هذا ضار بك ومفسد لعقلك أو مالك فنهاك عنه! مثلاً: هؤلاء رجال المرور كونهم فعلوا هذه الإشارة الحمراء، وهذه خضراء؛ من أجل مصالح الناس حتى لا يقتل بعضهم بعضاً، وحتى لا يؤذي بعضهم بعضاً، فهل تقول: أنا لا أطيعهم، إذا أطعتهم عبدتهم وأصبحت مشركاً! يأتي هذا الوسواس، يقول: إذاً أنا أتحداهم، أنا لا أعبد إلا الله، لا نطيع رجل المرور! فرجل المرور ما حرم ما أحل الله، ولا أباح ما حرم الله، نعم مأذون لك أن تمشي في هذا الشارع، ولكن إذا وجد شوك يقول لك: لا تمش فيضرك هذا الشوك، أتقول: أنت ألهت نفسك وأصبحت إلهاً؟ لا؛ لأنني منعتك من هذا الضرر الذي يحصل لك.أقول: فلا بد من وعي وبصيرة، والقاعدة التي وضعها الحبيب صلى الله عليه وسلم واضحة كالشمس: ( يا عدي ! أليسوا قد حرموا عليكم ما أحل الله فأطعتموهم؟ أليسوا أباحوا لكم ما حرم الله فأطعتموهم؟ فتلك عبادتهم يا عدي ! )، قال عدي : آمنت بالله. وصلى الله وسلم على رسول الله.

مجمل القول فيما تضمنته الآية الكريمة من النهي عن صور الشرك
ولنسمع الآية مرة ثانية: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] ما هناك تفوق: نحن أشراف وأنتم وضعاء، أو نحن سادة وأنتم كذا، كلمة سواء، وهي أولاً: ألا نعبد نحن ولا أنتم إلا الله، العبادة التي تعبدنا الله بها لا ننصبها لغيره، لا لعيسى ولا لجبريل ولا لموسى ولا لعزير، لأن الله تعبدنا بهذه الكلمة، أو بهذه الركعة، أو بهذا الأمر والنهي، لا نعبد إلا الله.ثانياً: ولا نشرك به غيره، لأنهم قد يعبدون الله ويشركون، فما هي حال عوام المسلمين وجهالهم؟ يكفرون، يعبدون الله ويشركون معه غيره، والشرك مأخوذ من الشركة، هذا المنزل بيني وبين فلان شركة، كذا أم لا؟ هذه عبادة خاصة بالله، هذا المنزل خاص لفلان، لا شرك له فيه، فما تعبدنا الله به وجعله من عبادته كالذبح والنذر والحلف والركوع والسجود فهذه عبادات شرعها الله، فمن ذبح لغير الله عز وجل تقرباً إليه وتزلفاً أو رجاء أن يحصل له خير أو يحصل له معروف فقد عبد الذي ذبح له كما يذبح لله عز وجل.والذي ينذر كذلك، والعرب كانوا ينذرون للآلهة، ونحن ننذر لله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7] وهو أن يقول: يا رب! علي أن أصوم كذا، أو أتصدق بكذا، أو أبيت الليلة راكعاً ساجداً لك يا رب العالمين! هذا النذر، وهل يجوز أم لا يجوز؟ يجوز، تملق إذاً إلى الله وتزلف، ليقضي حوائجك أيضاً إن شئت من أجل أن يفعل بك خيراً، وإن شئت أن يحبك فإنك تتقرب تقول: لك يا رب أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، من يمنعك؟ تقرب إلى الله وتزلف إليه.أما أن تنذر لغير الله فقد جعلته إلهاً، لك يا سيدي فلان أن أفعل كذا وكذا. أصبح شريكاً مع الله أم لا؟ تعبدنا الله بالإقسام به والحلف؛ لأنه تعظيم وإجلال وإكبار، فأنت لا تحلف بالله وتحلف بفلان، أشركت هذا المخلوق في عظمة الله وفي عبادته.فلهذا العامة يقولون: والنبي، نقول: حرام، قل: لا إله إلا الله، أشركت بالله، كيف تقول: والنبي؟ هل النبي إله؟ أعوذ بالله! هو عبد الله ورسوله، فكيف تحلف به إذاً وتجعله إلهاً؟ولهذا من تعاليم الحبيب صلى الله عليه وسلم لما شاهد بعض المؤمنين أسلموا من عهد قريب، فيحلفون بالعزى وباللات بدون قصد، فقال: ( من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله ) أي: يكفر ذلك الذنب بكلمة التوحيد، تربية له، فلهذا من جرى على لسانه الحلف بسيده فلان أو برأس فلان أو بكذا مباشرة يقول: لا إله إلا الله فتمحوها، على شرط: ألا يكون متعمداً. إذاً: وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64] لا نقول: مستعدون لأن نصلي ونصوم ونحج لله وحده، ولكن لا بأس أن ننذر لغيره، أو نتوسل إلى غيره، فهذا لا يصح بهذه اللفظة من كلام الله: وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64].ثالثاً: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] كلنا عبد الله، الحاكم والمحكوم، العالم والعابد والجاهل، كلهم عبيد الله عز وجل، أما الاحترام والتبجيل والإكبار فلا بأس، لكن ليس تبجيل ولا إكبار عبادة، يقبل بعضنا بعضاً، ولكن لا إلى مستوى العبادة التي هي الذل والانكسار والخشية والرهبة والخوف.

معنى قوله تعالى: (فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)
ثم قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا [آل عمران:64] عن هذا وأعرضوا فقالوا: ما نسمع هذا، فقل لهم ونادهم: (تعالوا إلى كلمة). (فإن تولوا) أصلها: فإن تتولوا، فإن تولوا عما دعوتهم إليه وأعرضوا عنه فقل إذاً: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] وأنتم إذاً كافرون، ما قالها لكنها معروفة، فإن تولوا عن هذه الدعوة وعن هذه المناظرة وعن هذا اللقاء ورفضوا الحضور فقولوا لهم: اشهدوا بأنا مسلمون وأنتم معروف أنكم كافرون، لكن من آداب القرآن وكمالات كلام الله وهو علاج القلوب والأرواح أنه ما قال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] وأنتم كافرون، فهذه تنفرهم، ما تجعلهم يسمعون، لكن سبحان الله العظيم! هو لازم هذا، يقول أو لا يقول، إن كنا نحن مسلمين إذاً أنتم غير مسلمين؛ لأننا أقبلنا وأنتم رفضتم وأبيتم، رضينا وأبيتم، أقبلنا وأعرضتم. سبحان الله العظيم! أعيد هذا النداء الكريم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] هي أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ [آل عمران:64] أولاً وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64] ثانياً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] وأنتم كافرون. ما معنى مسلمون؟ أسلمنا قلوبنا ووجوهنا لله فعبدناه وحده، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ المسلم المسلم إلهاً مع الله، لا يطيعه في معصية الله ورسوله، إنما الطاعة في المعروف، أطع أمك، أطع أباك، أطع شيخك، أطع جارك صديقك، أطع إمامك وحاكمك، لكن فيما هو معروف مأذون فيه، لا فيما حرم الله وأوجب الله، فتترك ما أوجب الله أو تفعل ما حرم الله طاعة لأمك أو أبيك أو شيخك أو حاكمك؛ إذ القاعدة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنما الطاعة في المعروف ).وأزيدكم: مع هذا الهياج الموجود في العالم العربي من أجل هذه الصحوة ما بلغنا يقيناً أن حاكماً أمر مواطنيه بأن يفجروا، أو يسرقوا، أو يسبوا الله ورسوله، أو يتركوا الصلاة، أو يؤذوا الجيران إلا ما كان من محنة عدن لما ظهر فيها الشيوعية، نعم حاولوا أن يكفروهم، ولكن الله عز وجل أزالهم وأبادهم. نعم وجد في بعض البلاد بعض الحكام انتقدوا الصيام وقالوا: إنه أعاقنا وعطلنا، لكن ما سمعوا لهم ولا أطاعوهم، ولا أكلوا في رمضان، ففشلوا.أما أننا بلغنا أن حاكماً في بلاد العرب قال للمواطنين: أيها المواطنون! دعونا من هذا الصيام، أو دعونا من هذا التزمت، كيف لا يتزوج إلا كذا وكذا، فليتزوج ما شاء، أو قال لهم: كيف هذا الربا؟ افعلوا ما شئتم، يجب أن ترابوا؛ ما كان أبداً فيما علمنا، والله أعلم، ولكن هم الذين تهوروا وسقطوا في المحنة، ما سألوا أهل العلم ولا انقادوا لعلمائهم، ولا استجابوا لهم، ففعلوا ما حرم الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ...)
جاء النداء الثاني: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:65] وتقولون: كان إبراهيم يهودياً، والنصارى قالوا: إبراهيم كان نصرانياً، مجانين هؤلاء! قال: روي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك، فإنه كان يهودياً، وما بك إلا الحسد فقط، فأنزل الله تعالى هذه الآية: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، والعبرة بالعموم. يقول تعالى: قل لهم: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [آل عمران:65]، فما سميت اليهود يهودية إلا بعدما نزلت التوراة، وما قيل: النصارى إلا بعدما نزل الإنجيل، وإبراهيم كان قبل موسى وكان قبل عيسى، فكيف تجادلون في هذا؟ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ والحجاج: الجدال في قول اليهود: إبراهيم كان يهودياً، والنصارى قالوا: كان إبراهيم نصرانيًا، في الحقيقة النصرانية كاليهودية بدعتان وجدتا بعد إبراهيم بألف سنة، أو أكثر من ألف سنة، كيف يكون هذا؟ هذا كله نتيجة الجهل من عوامهم، قالوا: إبراهيم كان يهودياً على ديننا، والنصارى عوامهم قالوا كذلك، أما الرؤساء فهم يدجلون ويكذبون فقط للفتنة، ولصرف الناس عن الإسلام؛ فأبطل الله هذه الدعوة بهذه الآية الكريمة: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65]، والله ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً، إذ على عهده لا يهودية ولا نصرانية، اليهودية بدأت متى؟ لما قالوا: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156] أو من يهوذا، أبدلت الذال دالاً، فاليهودية بدعة ابتدعها اليهود وقالوا: نحن على ملة اليهودية، والنصرانية ما كانت معروفة على عهد إبراهيم أبداً، ما وجدت إلا على عهد عيسى لما قال: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران:52]، أو من ولادته في الناصرة قرية من قرى فلسطين، بدعة فقط ابتدعها اليهود والنصارى، فقال اليهود: لا، نحن على دين إبراهيم، وإبراهيم كان يهودياً، والنصارى قالوا: نحن على دين إبراهيم؛ لأن النصرانية كانت دين إبراهيم؛ فأبطل الله هذه الدعوة بشيء عجيب: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65] فهل بقي لهم كلام؟ ما أنزلت التوراة التي فيها ذكر اليهود، ولا الإنجيل الذي فيه ذكر النصارى إلا بعد إبراهيم بقرون، فكيف إذاً يكون إبراهيم يهودياً أو نصرانياً؟ فلهذا قال: أَفَلا تَعْقِلُونَ [آل عمران:65] أين عقولكم؟ ألا تعقلون؟ وهكذا أسكتهم أيضاً بهذه الحجة: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:65] ما معنى أنهم حاجوا في إبراهيم؟ قال اليهود: إبراهيم كان يهودياً، وقالت النصارى: إبراهيم كان نصرانياً، ونحن من أتباع إبراهيم وعلى ملته ودينه، فقال تعالى: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65] أي: من بعد إبراهيم بقرون، أَفَلا تَعْقِلُونَ [آل عمران:65]، أين يذهب بعقولكم؟!

تفسير قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ...)
ثم قال لهم: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ [آل عمران:66] الهابطون الساقطون هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران:66] في قضايا التوراة الموجودة فيها وفي الإنجيل، إذاً: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران:66] حاججتم فيما لكم به علم، التوراة بين أيديكم، قلتم: فيها كذا وكذا، الإنجيل بين أيدي النصارى، قالوا: فيه كذا وكذا، والذي ما هو في التوراة ولا في الإنجيل كيف تحاجون فيه؟ أفلا تعقلون؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [آل عمران:66].

تفسير قوله تعالى: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ...)
وختم تعالى هذا بقوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا [آل عمران:67] والله العظيم! ما كان على ملة اليهود؛ لأنها بدعة أساساً، ما أنزل الله اليهودية ولا النصرانية، ابتدعوها كما ابتدعنا التجانية والقادرية والرحمانية والعيساوية، لما يقول: أنا قادري، هل أنزل الله القادرية في كتابه؟ لما يقول: أنا تجاني، هل التجانية شرعها الله على لسان رسوله؟ بدعة، كذلك اليهودية والنصرانية بدعتان. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67] فقولوا: أسلمنا، قالوا: لا. فلتأكلهم جهنم، إبراهيم كان حنيفاً، أي: موحداً مائلاً عن ملل الشرك كلها والكفر، وكان وحده يقول: لا إله إلا الله، وغيره مشركون هابطون.إذاً: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67]، ما معنى الحنف؟ الميل، كان مائلاً عن كل الشرك والكفر إلى الله عز وجل، ومسلماً القلب والوجه لله.وأخيراً هذه البشرى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:68]، والحمد لله على أننا من أهلها.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-03, 12:51 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (18)
الحلقة (159)

تفسير سورة آل عمران (25)


كثير من اليهود والنصارى يودون إضلال المسلمين وإهلاكهم، وسنة الله التي لا تتخلف أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وأن عاقبة الشر والفساد تعود على صاحبها في نهاية الأمر، وقد عاب الله على هؤلاء اليهود والنصارى كتمانهم للحق مع معرفتهم له، وإنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهم موقنون أنه النبي الخاتم، وبين سبحانه أن هذا الأمر من طبيعتهم، سواء فيما يتعلق بالرسالة والنبوة أو في غير ذلك.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليالي ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.الآيات المباركات التي تدارسناها بالأمس نسمع تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]، أي: قولوا -أيها المؤمنون- لأهل الكتاب: اشهدوا بأنا مسلمون. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:65-68]، فالحمد لله على أننا أولى الناس بإبراهيم من اليهود والنصارى والمشركين، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68].درسنا هذه الآيات وتذكرناها، ونعود إلى نتائجها ونراجعها إن شاء الله؛ لنزداد بصيرة في هذه الآيات.

هداية الآيات
قال المصنف غفر الله لنا وله: [ من هداية الآيات:أولاً: لا يصلح حال البشرية ولا يستقيم أمرها إلا إذا أخذت بمبدأ (الكلمة السواء) وهي: أن تعبد ربها وحده لا تشرك به سواه، وألا يعلو بعضها على بعض تحت أي قانون أو شعار].نعلم يقيناً أنه لا يصلح حالنا ولا يستقيم أمرنا إلا إذا أخذنا بمبدأ (الكلمة السواء) والكلمة السواء هي أن نعبد الله وحده ولا نشرك به سواه، وألا يعلو بعضنا على بعض تحت أي قانون أو شعار، وهذا ما دل عليه قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64]، وهي: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64]، فهناك من الناس من يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، كالذي يسجد له، ويركع، ويعظم، ويطاع ويعصى الله فهذه هي عبادته، وهذا ظاهر في أحبار اليهود ورهبان النصارى، ومشى على ظلهم وطريقهم علماء من هذه الأمة، وعلى سبيل التوضيح: علماء الروافض والشيعة، فهم أكثر تقديساً من علماء النصارى واليهود، حسبك أن تفهم أنهم يأخذون خمس أموال أمتهم، والخمس هو ما يساوي (20%)، وإذا أمروهم أو نهوهم، أو علموهم انقادوا وذلوا، واتبعوهم على الباطل.بل ومن أهل السنة والجماعة كرجال التصوف وعلماء التصوف عبدهم الناس عبادة كما يعبد الله، يركعون ويسجدون لهم، وهذا شأن من يخرج عن دائرة الحق، فإنه يسقط، ويخسر ويتمزق، قال صلى الله عليه وسلم: ( المسلمون سواسية كأسنان المشط، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد واحدة على من سواهم )، لا يعبد بعضنا بعضاً، فالعالم الذي يحل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله؛ لفوائده وسلطانه ومركزه عُبد من دون الله أصبح رباً يعبد.فهذا عدي بن حاتم الطائي كان قد تنصر في بلاد الشام، ثم دخل في الإسلام: ( فسمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، فقال عدي : لا يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً، فقال: يا عدي ! أليسوا يحلون لكم الحرام فتحلوه؟ قال: بلى، أليسوا يحرمون عليكم الحلال فتحرموه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم ).والقاعدة عندنا: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف )، فلو قال لك أبوك: أي بني! احلق لحيتك، فقل له: لا يا أبتاه. ملعون من فعل هذا على لسان رسول الله؛ لأنه تشبه بالنساء. أو قال لك: يا بني! لا تشهد الصلوات صل في بيتك، فقل له: لا يا أبتاه، لا نفارق جماعة المسلمين في بيوت الله. وهكذا لو قال الأمير أو الشيخ أو غيرهم، إلا إذا أحداً منهم أمرك بمعروف فقد وجبت الطاعة، وإن أمرك بمعصية فلا طاعة له، ( إنما الطاعة في المعروف )، لا في المعصية.[ثانياً: حجية التاريخ وبيان الحاجة إليه]، فحجية التاريخ قوية وفاصلة وقاطعة، ونحن بحاجة إلى أن نعرف التاريخ -وإن كنا قد فرطنا في هذا- ودليل ذلك، قال: [إذ رد الله تعالى على أهل الكتاب في دعواهم أن إبراهيم كان على دينهم]، إذ قال تعالى: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65]، فكيف يكون إبراهيم يهودياً واليهودية ما وجدت إلا مع نزول التوراة؟! وكيف يكون إبراهيم نصرانياً والنصرانية ما وجدت إلا مع الإنجيل والزمان بينهم قرون عديدة؟!فأسكتهم الله عز وجل بحجية التاريخ إذ قال: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [آل عمران:65]، وقال أيضاً: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67].قال: [ثالثاً: ذم من يجادل فيما لا علم له به، ولا شأن له فيه]، والذم واللوم والعتاب معروف.ذم من يجادل في شيء لا علم له به، وليس له حق في أن يجادل فيما لا يعلم ولا شأن له به، ولا في شيء ينفعه أو يضره، فلماذا إذاً يقضي الوقت في الجدال؟!لكن إذا كان الجدال لإحقاق حق، أو لإبطال باطل، أو لإظهار خفي، أو لإخفاء ظاهر لمصلحة الدعوة أو لمصلحة المؤمنين، فلا حرج؛ لأن الآية الكريمة حملت هذا المعنى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران:66]، فمعناه: إذا كنت على علم وبصيرة في شيء حاجج وجادل وبين، وإذا كنت لا تعلم لا تدخل في جدال قد تتأثر به وتهلك، فجدال لا ينتج لك خيراً ولا يدفع عنك شراً، فلماذا تقضي الوقت في جدال باطل لا معنى له؟فقد ورد في الحديث: ( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود وأنا أبيض وهي بيضاء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وهل لك من إبل؟ فقال الرجل: نعم، قال: ما لونها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أروق؟ قال: نعم، قال: فمن أين ذلك؟ -ما دامت حمر كيف جاء هذا الجمل أروق؟- قال: لعل عرقاً نزعه -من أصل آبائه وأجداه-، فقال صلى الله عليه وسلم: لعل عرقاً نزع )، وما أمره صلى الله عليه وسلم لا بطلاقها ولا بتهمتها، فهذا الجدال حسن وجائز، فإذا كان على علم، ولفائدة ومصلحة وخير محمود الجدال والحجاج، لكن إذا كان بدون علم، أو كان لغير فائدة فلا ينبغي إضاعة الوقت.قال: [رابعاً: اليهودية كالنصرانية لم تكن دين الله تعالى، وإنما هما بدعتان لا غير]، فكما قلنا: أن التجانية، والقادرية، والرحمانية، والعيسوية، والعمارية، والعيدروسية هي طرائق وبدع، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفها، ولم ينزل بها القرآن، ولم تبينها السنة، فهذه بدع ابتدعوها؛ ليفرقوا كلمة المسلمين. فالقرية الواحدة مفرقة إلى أربع فرق، ففيها التجانية، والقادرية، والرحمانية، والعمارية، آلله أذن بهذا؟!مسلمون نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابهم القرآن، إن كان عندك قال الله قال الرسول علمنا، وإن لم يكن عندك فلا تكذب علينا، ولا تقل: كذا وكذا، لا تفرق كلمتنا.[خامساً: المؤمنون بعضهم أولياء بعض -المؤمنون بحق وصدق بعضهم أولياء بعض-، وإن تناءت ديارهم وتباعدت أقطارهم، والله ولي المؤمنين].وتظهر هذه الولاية بالنصرة والحب، فيجب على المؤمن أن ينصر أخاه المؤمن ولا يخذله ولا يهزمه، ويجب عليه أن يحبه ولا يبغضه ولا يكرهه، وهذا هو الولاء والبراء، ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )، أما أن يبغض المؤمن أخاه، ويهزمه ويخذله، فهذا قطّع هذه الصلة التي قررها الله عز وجل في قوله: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وقال تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68].وهنا فاتحة هذه الآيات: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64]، الرسول صلى الله عليه وسلم تمثلها وقام بها وأدى واجبه فيها، إذ كان يراسل ملوك الروم والفرس، من جملة ذلك كتابه إلى هرقل ، وهذا نصه: قال: [ وقد راسل النبي صلى الله عليه وسلم ملوك الروم بمضمون هذه الآية، إذ كتب إلى هرقل قائلاً: ( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ) أي: الفلاحين.و يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] ]، أدى واجبه صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى هرقل وإلى غيره.

تفسير قوله تعالى: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ...)
إذاً: بعد هذه الآيات.. إليكم الآيات الثلاث الآتية: نتلوها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69]، فهذا حق وإخبار الله عز وجل، (وَدَّتْ): أي: أحبت حباً كاملاً، (طَائِفَةٌ): لا كل أهل الكتاب. وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:69-71]، فهذا توبيخ إلهي.والمعنيون بتبليغ هذه الآيات ونقلها إلى المشركين هم المسلمون المؤمنون، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أدى واجبه، وأما أصحابه صلى الله عليه وسلم وأبناؤهم فقد أدوا واجبهم، وأما أحفادهم فقد بلغوا.ونحن الآن وقفنا عن التبليغ منذ قرون؛ فالكفار هم الذين كبلونا وقيدونا، وهم الذين جهلونا وأفقرونا، وهم الذين فرقونا ومزقونا، فحرموا -زادهم الله حرماناً- أنفسهم بإفسادنا وإضلالنا وتمزيقنا، ولو ما خدعونا وتركونا ننير الحياة والدنيا؛ لدخلوا كلهم في رحمة الله، لكن مكروا فعاد مكرهم عليهم، وإن حرمنا نحن أيضاً، لكن هم السبب وهم الهالكون أولاً.(وَدَّتْ)، أي: أحبت بصدق.(طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي: من اليهود والنصارى، وسموا بـ(أهل الكتاب)؛ لأنهم أصحاب التوراة والإنجيل، فاليهود بين أيدهم وفي رفوفهم ومكاتبهم وعند رءوسهم التوراة، والنصارى أيضاً في مكاتبهم وبيوتهم الإنجيل، فهم أهل كتاب.

رغبة قادة اليهود والنصارى في إضلال المسلمين وإهلاكهم
قال تعالى: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69]، أي: أحبوا لو تمكنوا من إضلالكم؛ لعلمهم أنهم هالكون يريدون أن نهلك معهم، فهم عرفوا أنهم خاسرون، فودوا أن نخسر مثلهم، الحسد حملهم على هذا، فهذا إخبار الحق عز وجل، فلم يقل الله عز وجل: (ود أهل الكتاب)، وإنما قال: (طَائِفَةٌ)، فالآن يوجد في النصارى الملايين لا يعرفون الإسلام ولا يكرهونه ولا يحاربونه، وتوجد طائفة وهي التي تعمل على إضلال المسلمين، وإيقاف نورهم وهدايتهم، وهم رؤساء الكنائس، ومن والاهم من الأغنياء وصافحهم من أهل الأمجاد والحكم، وإلا ملايين من النصارى لا يعرفون شيئاً عن الإسلام.كذلك من اليهود توجد أيضاً أعداد كبيرة لا يعرفون شيئاً إلا التقليد والمشي وراء أئمتهم وهداتهم، ورؤساؤهم هم الذين يمكرون بالمسلمين ويودون لو خرجوا من دينهم.وهناك لفتة كثيراً ما قلناها: اليهود -عليهم لعائن الله- عرفوا حديث أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وبلغهم ودرسوه، وأكثر المسلمين ما سمعوا به، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره: ( لتقاتلن اليهود )، هنا اللام لام التوكيد وموطئة للقسم، بمعنى: (والله لتقاتلن اليهود)، كيف نقاتلهم وقد شردوا، وقد بددوا وهلكوا؟! فقد قاتلناهم وهزمونا بعد ألف ثلاثمائة سنة، فهذا نبي الله يخبر بهذا الغيب: ( لتقاتلن اليهود ثم لتسلطن عليهم )، هذا البناء للمفعول (لتسلطن)، أي: يسلطنا الله عليهم، لا أمريكا ولا بريطانيا ولا روسيا، وتسليط الله معلوم، لكن معنى آخر: ( لتسلطن عليهم، فتقتلوهم حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله )، واليهودي مختبئ تحت الشجرة أو الحجر، ينطق الله عز وجل ما لا ينطق، فينطق الله الحجر، ( فقد أنطق الله عز وجل الشجر التي مع ركانة فقد قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعالي فجاءت تزحف، وقال لها: اشهدي، فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله ).( يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله إلا شجر الغرقد )، اللهم إلا شجر الغرقد؛ فإنه لا يكشف عن اليهود ولا يخبر عنهم؛ لأنه شجر اليهود، فلماذا سمي بقيع الغرقد بهذا الاسم؟ لأن شجر الغرقد كان ينبت فيه بكثرة، والآن لعدم نزول الأمطار فيه وقف هذا الإنبات، الذين جاءوا من فلسطين التي هي تحت اليهود أخبرونا في مجالسنا من ثلاثين سنة أن اليهود يحتفلون بشجر الغرقد ويبجلونه ويجلونه ويعنون به؛ في سقايته وتربيته، كما يعنون بالبرتقال والعنب والتين.إذاً: هذا هو تبيين قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لتسلطن).أقول: لو أن المسلمين أسلموا قلوبهم ووجوههم لله في يوم ما من الأيام، من الأسباب الظاهرة أن تتخلى أوروبا وأمريكا عن اليهود اقتلوهم، فيحصل لهم ما حصل لهم على يد النازية تحت إمارة هتلر ، الأحداث لا يعرفون عن هتلر ، ولا النازية ولا ألمانيا، لكن الشيوخ عرفوا هذا، فقد اكتشفت ألمانيا حينذاك مؤامرة يهودية في بلادها، فأمرت بقتل اليهود، فقتلوهم وذبحوهم وأحرقوهم، حتى اليهود الذين في شمال أفريقيا وخارج ألمانيا أصبحوا أذلاء يرتعدون، قتلوا منهم عشرات الآلاف، وألمانيا في وسط أوروبا، سحر اليهود لبريطانيا وفرنسا وأمريكا ما نفع؛ لأن الله أراد.فمن هنا قلت مئات المرات: لو أن المسلمين صدقوا الله، ودخلوا في الإسلام بحق سيوجد الله عز وجل مؤامرة يهودية في أمريكا لنسفها وتمزيقها، أو مؤامرة ضد بريطانيا، يكتشفونها يريدون إحراق بريطانيا، والله ليقولون للمسلمين: اقتلوهم وعجلوا، ونكون قد سلطنا عليهم.لكن ما دمنا غير المسلمين بحق ولم يحن الوقت.. الحجر والشجر ما يكذبان وهما آية من آيات الله، فكثير من جيوش العرب والمسلمين ما يصدق عليهم يا مسلم، وهو ما أسلم لله لا قلبه ولا وجهه.إذاً: اليهود عرفوا أن الطريق للإبقاء عليهم أن يفسق المسلمون ويفجروا؛ حتى لا تتحقق لهم ولاية الله، فأخذوا ينشرون ضروب الفسق والفجور في العالم الإسلامي، من الربا، إلى الزنا، إلى الحشيش، إلى الباطل، إلى ترك الصلاة، إلى الكفر بالله، إلى السب، إلى التمزيق؛ حتى لا توجد لهم ولاية ربانية ليصبح الشجر يناديهم: ( يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله )، فالمسلمون ما عرفوا هذا، ولا واحد في المليون، واليهود عرفوا هذا، فهم الذين بوسائط الإعلام، والعجائب، و.. و.. ينشرون الدعارة والفسق والفجور والباطل في العالم بأسره؛ لأنهم أعداء البشرية كلها، وليسوا أعداءً للعرب والمسلمين فقط، والمفروض أن العرب هم الذين يفيقون؛ لأنهم أمناء على هذه الدعوة والرسالة، لكن سحروهم، خبطوا فيه.فمقاتلتنا لليهود وتسليطنا عليهم تكون عندما تتحقق ولاية الله لنا، ويصبح الله يحبنا ونحبه.. يأمر فنمتثل، وينهى فنمتثل، يومها يتحقق هذا بإذن الله -إذ لابد وأن يقع- فوالله ليقعن! ( ليقاتلن المسلمون اليهود في يوم ما حتى يقول: الشجر والحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله )، فلو أن إخواننا الفلسطينيين تجمعوا في غزة أو في أريحا أو في القدس، وتربوا زمناً وتحققت ولاية الله لهم لتحقق لهم النصر على اليهود في داخل في فلسطين.أما ونحن كما تعرفون لا ولاية بيننا وبين الله.. حاربنا الله.. خرجنا عن طاعته، فسقنا عن أمره، ما التزمنا بشرعه ولا مبادئه ولا دينه، فكيف يتحقق لنا هذا؟! من باب المستحيل، إن لله سنناً لا تتبدل، فالطعام يشبع والماء يروي، والحديد يقطع والنار تحرق، فلن تتبدل سنن الله عز وجل. إذاً: سنة الله في العباد من والاه نصره وأيده، من عاداه أذله وخذله، فكيف تغير أنت سنة الله؟! فيجب الإبلاغ حتى تنتشر دعوة الله، ويعم الوعي والبصيرة.

عاقبة الشر والفساد
يقول تعالى: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69]، (يُضِلُّونَكُمْ) ؟ أي: يبعدونكم عن الحق، وعن التوحيد وعن عبادة الله، وعن الإسلام وأنواره؛ لتصبحوا مشركين خرافيين ضلال مثلهم.والله يقول: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:69]، يا يهود! يا نصارى! يا من يعملون الليل والنهار على إضلالنا! اعلموا أنكم لا تضلون إلا أنفسكم، أنتم الذين تخسرون، فقد خسروا الإسلام وأنواره.. خسروا عدله ورحمته، فلو أنهم ما أضلوا المسلمين لعمهم نور الله عز وجل، ولدخلوا جنة الله، ولكن وجزاء السيئة سيئة مثلها، في الظاهر يضلون المسلمين والواقع يضلون أنفسهم، ليخسروا ويتمزقوا، وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69]، أي: ليس عندهم إحساس ولا فهم ولا وعي ولا شعور، فلو شعروا لعرفوا أنهم بإضلال المسلمين أضلوا أنفسهم؛ لكفوا عن إضلال المسلمين، ولانتصر الإسلام ودخلوا في أنواره ورحمته، ولكن ما يشعرون، غمرتهم شهوة الدنيا، وطلب ملاذها وفتنتها والتكبر فيها والتعالي على الناس. فصدق الله العظيم.

تفسير قوله تعالى: (لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون)
وناداهم وهو الرحمن الرحيم، يا أهل الكتاب! يا أهل التوراة والإنجيل! لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70] أنها حق. وهنا المراد من آيات الله التي يكفرونها هي آيات التوراة والإنجيل التي فيها صفات النبي الأمي ونعوته بنعت الله، يقرءونها ويعرفون أن هذه صفات النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، ويغطوها ويجحدوها ويؤولونها، ويقولون: ما زال هذا هو الشخص ما خرج بعد، إذا جادلهم من إخوانهم، يقولون: لا لا لا.. هذه لا تنطبق عليه، هذه سيأتي صاحبها، ومن قرأ الإنجيل والتوراة وقف على هذه الصفات. لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:70]، أي: الآيات الدالة على نبوة محمد ورسالته، وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70]، فأي توبيخ أعظم من هذا؟ وأي تقريع أشد من هذا التقريع؟ ولا نقول: أنهم أعرضوا عنه، فقد وجد ربانيون علماء من اليهود والنصارى ملئوا الدنيا أنواراً وطهراً وصفاءً.

تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ...)
ثم قال الله عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ [آل عمران:71]، فإلباس الحق ثوب الباطل يكون باطل، والباطل يلبسونه ثوب الحق وظهر كأنه حق، وهذا هو إعلام اليوم الذي يديره اليهود في صحفهم ومجلاتهم وإذاعاتهم وقنواتهم وهذا هو الواقع.فلماذا تشتري خمس مجلات وخمس جرائد وتقضي أربع ساعات وأنت تقرأ في الهراء؟!اقرأ سورة البقرة، نور بها بيتك، وحلِّ بها قلبك، وبناتك وأهلك، بدل أن تقضي ساعتين في الجرائد، ساعة واحدة في البقرة أو ساعتين، فإن قيل: لم؟ قل: نعم، أنا مسلم، أنا أريد أن أنزل دار السلام، تتطلب مني جهداً كبيراً، وبذلك نخيب مسعاهم.أبشركم: أن ذاك صاحب الدش الذي نددنا به قد أزاله.فالحمد لله، بعد ما صرخنا وبكينا وقلنا: والله الكتاب الذي كتبته له لو كتبته إلى يهودي يشفع، وأبطل هذا الدش من سطحه؛ لأنه مقابل المسجد النبوي يتحدى رسول الله والمؤمنين، وبعد كذا شهر الآن أزاله.اسمع يا جامد! يا رجعي! يا متخلف! ما الذي يضر هذا الدش وأنت تندد به؟أنا أقول: يا عم! يا ولدي! هيا ندرس القضية، دلني على النتائج المباركة والطيبة التي تحصل عليها من دشك؟نبدأ بالمال فهو كل شيء، كم ريال ينتجه لك في الليلة؟ أو في الشهر؟الجواب: ولا قرش واحد.ثانياً: ما هي معارفك وعلومك الإلهية التي تسمو بها وترتفع وتتنزه عن النقائص والحفلات والأوساخ والعثرات؟والله ولا شيء، والله ولا فائدة.والجانب الثاني:أولاً: أنت كأنك تنشر الخبث بين أولادك أو أهلك، أحببت أم كرهت، لقد قلت لكم: إن مؤمنة تتصل بي بالهاتف، وتقول: ماذا نصنع؛ ابني يفعل الفاحشة بأخته. فمن أين تعلم هذا؟ فلم يكن يعرف هذا بين البشر لا في اليهود ولا في النصارى، لكن هذه المناظر التي تعرض عليهم ويشاهدونها، يجربونها ويعملونها.يقول: يا شيخ! ما نصنع ابني يفعل الفاحشة مع أخيه؟ كيف تم هذا؟! أليس له سبب؟المشاهدة لتلك الأوضاع الهابطة التي تعرض في الشرق والغرب، ونتلقاها في بيوت الإيمان، والإسلام.أنا أقول واسمحوا لي: والله! لو أن مؤمناً حاضراً معنا وعنده دش ما تركه إلى غدٍ، اللهم إلا إذا كان مكره بالرشاش ومهدد بالسجن، وهذا والله لا وجود له، لا في الشرق ولا في الغرب، أو كان راتبه موقف، أنا أسرتي تعيش على هذا، كيف نصنع؟ نقول: اللهم فرج عنه، مسكين، مضطر، لكن هل هذا حاصل في دش في العالم؟ لا في بلاد الإسلام، ولا في بلاد الكفر.إذاً: لم يبقى هذا؟ لأن القلوب تعلقت بالباطل وانقطعت صلتها عن الحق، فأصابها الذي أصابها، وليبكِ التجار، الشيخ عطل علينا تجارتنا، ما أصبح من يشتري دش؛ الحمد لله وإن متم جوعاً خير لكم ألف مرة من أن تفسدوا جيرانكم وبلادكم ودولتكم.

حرمة كتمان الحق في الشهادة
قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:71]، أنه حق، الجواب يا مسلم: لأننا نحافظ على مركزنا، وعلى وجودنا وعلى آمالنا في إيجاد دولتنا؛ لأننا نحافظ على أن يبقى الشعب يقدسنا ويكبرنا ويجلنا، فإذا قلنا: هذا باطل، أصبحنا كالفقراء والمساكين. إذاً: بعتم دنياكم بآخرتكم، لأن تموتوا فقراء خير من أن تحيوا أغنياء والله ساخط عليكم وغاضب لا يريدكم ولا يرضاكم، الدنيا كلها ساعة والآخرة لا حد لها ولا نهاية، لئن يعيش العبد خمسين أو ستين سنة مريضاً على الأرض، فقيراً لا يجد طعام، لا بأس إذا مات وهو من أهل الإيمان وولاية الرحمن، ينتقل إلى سعادة أبدية لا تنهي، أما سعادة مؤقتة وما هي كاملة، فيها المرض، فيها الهرم، فيها الخوف، فيها كذا.. ما قيمتها؟ وتنتهي بعذاب أبدي لا ينتهي، فأين العقول؟ فهذا الرحمن جل وعز يخاطبهم علهم يرجعون: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:70-71].

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات] هذه الآيات الثلاث[ من هداية الآيات: أولاً: بيان رغبة كثير من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين وإهلاكهم.ثانياً: عاقبة الشر والفساد تعود على صاحبها في نهاية الأمر ]. قاعدة مسلَّم بها: عاقبة الشر والفساد ترجع على صاحبها في نهاية الأمر، كل من أراد بالمؤمنين ولو بمؤمن سوءً يعود عليه في النهاية، كل من أراد بالمؤمنين أو مؤمن شراً، والله ليعود عليه؛ لأن الله ولي ذلك المؤمن، وهذا الخبيث لا ولاية له بينه وبين الله، فيرد البلاء عليه في النهاية هو الخاسر؛ دل على هذا قوله تعالى: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69].[ثالثاً: قبح من يكتم الحق وهو يعرفه ]، علماء اليهود، علماء النصارى، علماء الروافض، علماء أهل الباطل يعرفون ويكتمون؛ لمصلحة الإبقاء على مركزهم؛ لأنه ما ترقى وأصبح شيخاً إلا بعد العلم، فالذي يعلم الباطل يعرف الحق، ولكن المحافظة على الوجود الهاوي الباطل.[ رابعاً: حرمة التدليس والتلبيس في كل شيء ]، حتى في البضاعة، فقد مر الرسول صلى الله عليه وسلم بأحد البائعين فوجد كيس الشعير، فشعر عليه الصلاة والسلام أن باطن الكيس فيه البلل، فأدخل الرسول صلى الله عليه وسلم يده في الكيس، فاستخرج الشعير المبتلة، فقال: ( يا صاحب الطعام! لم ما جعلت هذا أعلاه وهذا أسفله؟ من غشنا فليس منا )، فنحن لا ندلس ولا نلبس، نظهر الحق كما هو حق.فمثلاً: إذا خطبوا ابنتك وهي مصابة بمرض، فقل: إنها مريضة. أو مثلاً: ساومك في سيارتك، قل: بها علة اعرضها على المهندس. خطب ابنك ابنة فلان، فقل لوالد البنت: يا سيد! ابني لا يصلي فلا تزوجه. فلا تلبيس ولا تدليس بين المسلمين أبداً وحرام هذا وليس من شأنهم.[خامساً: حرمة كتمان الحق في الشهادة وغيرها]، لا يحل لمؤمن أن يشهد بالباطل وأن يجحد حق ويكتمه، فهذا شأن أولياء الله، حقق اللهم لنا هذا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-03, 12:55 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (19)
الحلقة (160)

تفسير سورة آل عمران (26)


لما أن نزل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين المدينة، ثقل ذلك على اليهود، فقاموا يروجون لقضايا وشبهات بين المسلمين، كقولهم: إن النبي خالف دينهم وهو يصلي إلى قبلتهم، فلما تحولت القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، أنكروا ذلك وقالوا: إن محمداً لا يستقر على قبلة، ثم تواطئوا بينهم على الإيمان أول النهار والكفر آخره لعل ذلك يحمل المسلمين على ترك دينهم والعودة إلى الوثنية.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليالي ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين!وها نحن في سورة آل عمران، وما زلنا مع الآيات التي نزلت بسبب وفد نجران، وهم نصارى جاءوا من نجران، من جنوب البلاد يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى.والآيات التي درسناها بالأمس، وهي ثلاث آيات نعيد تلاوتها؛ لنتذكر النور الذي أضفاه علينا بها، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69]، وهذه الطائفة هي: رؤساء اليهود والنصارى.. علماؤهم وأحبارهم، يحافظون على العوام؛ للإبقاء على سلطتهم، وعلى منزلتهم بينهم، وعلى ما يكتسبونه من أموال منهم، عرفوا الحق وجحدوه؛ للحفاظ على متاع الدنيا وحطامها، فلنحذر نحن المسلمين أن يوجد بيننا هذا النوع. وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:69]، (أهل الكتاب) أي: اليهود والنصارى، ودوا وأحبوا: لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69]، فأنتم الآن على هداية الطريق الموصل إلى السعادة والكمال، وهم منحرفون ضالون يريدون أن يخرجوا بنا عن الصراط المستقيم إلى هاوية الضلال والكفر والشر والفساد، ولا يستطيع ابن امرأة أن ينكر هذا، إلا أن يكون أحمق أو جاهلاً؛ لأن هذا إخبار غارز الغرائز وطابع الطبائع وعلام الغيوب، العليم بذات الصدور، إلا أن الواقع معروف، لا ينكره ذو عقل، فإلى الآن اليهود والنصارى طوائف منهم يعملون على إضلالنا بشتى الوسائل والحيل، وحسبنا ما ينشره اليهود من الدعارة والخلاعة والسفور والفجور وأندية اللواط، وأندية القمار والربا، وما إلى ذلك في العالم فواضح كالشمس. وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69]، يضلون أنفسهم، إذ أبعدوها عن طريق الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة، ولوثوا أنفسهم وخبثوها وعرضوها لغضب الله وسخطه، ثم بالتالي إلى عذابه الدائم الذي لا ينتهي. قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:70]، أي: لم تكذبون بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70]، فهذا تقريع وتوبيخ وتأديب من الله عز وجل لليهود والنصارى. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70]؛ أي: تشهدون أن هذه الآيات هي الحق من الله، كفروا وكذبوا بالقرآن، وبكل ما فيه من الشرائع والأحكام، وكذبوا وأنكروا ما في التوراة والإنجيل من نعوت نبي الأمة، وخاتم أنبياء الله ورسله.فنعوت الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته في التوراة والإنجيل واضحة كالشمس، ودالة على خاتم الأنبياء أحمد صلى الله عليه وسلم، وهاهي كلمة عيسى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، فلم تكذبون يا يهود ويا نصارى بهذه الصفات وهذه النعوت؟! حتى تحرموا أتباعكم من رحمة الله، حتى تمنعوا أتباعكم من الدخول في الإسلام؛ لينجوا من سخط الله وعذابه، ليكملوا ويسعدوا في الدارين، فهؤلاء يستحقون كل هذا التوبيخ.والاستف ام هنا بـ(لِمَ) للتوبيخ، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70] أنها الحق والصدق.وهذا خاصة ما قدمنا بطوائف الأحبار والرهبان، كما فعل رجالات التصوف عندنا، يحرمون العوام من العقيدة السلفية، والدخول في رحمة الله، ويلزمونهم بالبقاء معهم.فمثلاً: إذا سألت أحداً: من شيخك يا بني؟ يقول: سيدي عبد القادر . عبد القادر هو شيخك؟! أين تسكن؟ في نيجيريا.. في المغرب. كم كيلو متر، كم ميلاً من المغرب إلى بغداد؟ عشرة آلاف كيلو. أنت في أي قرن تعيش؟ في ألف وأربعمائة. وعبد القادر متى كان؟ يقول: كان في القرن السادس.فتقول له: كيف أصبح شيخك وأنت لا جلست بين يديه، ولا تعلمت عنه، ولا وجهك، ولا رباك، ولا هداك؟ سيقول: شيخي عبد القادر ، حتى لا يجلس أحدهم عند شيخ آخر.من شيخك؟ قال: سيدي أحمد التجاني. هل عرفته أو عاشرته، أو جلست بين يديه؟ كيف أصبح شيخك؟!يربطونه بأن شيخه فلان؛ حتى لا يجلس في حلقة علم، ولا يجلس مع طلبة علم ولا.. أنا شيخي فلان وكفى!وهكذا ربطوهم بمشايخ لا وجود لهم، مضوا قبلهم بقرون؛ ليبقوا مسخرين لأولئك الذين يسمون بالشاوش وبالقائد.قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70] والجملة حالية. أي: لم تلبسون الحق ثوب الباطل حتى تستروا الحق وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:71]. وهذا توبيخ أيضاً، فلم يحملهم على كتمان الحق الجهل بل هم عارفون وما حملهم على كتمان الحق إلا الحفاظ على مراكزهم ومناصبهم وعلى السمعة، وعلى وجود من يخدمهم.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات]: هذه الآيات الثلاث كانت موضوع درسنا بالأمس ولها هدايات نستعرضها [ من هداية الآيات:أولاً: بيان رغبة كثير من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين وإهلاكهم ]. فهذه الآية بينت لنا رغبة كثير من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين، وإخراجهم عن جادة الحق والصراط السوي؛ ليهلكوا معهم، ولئلا ينشروا الإسلام بينهم وتسقط مكانتهم ويهبط مستواهم، دل على هذه الهداية قوله تعالى: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69] .[ ثانياً: عاقبة الشر والفساد تعود على صاحبها في نهاية الأمر ]. يا فاعل الشر! يا فاعل الفساد! أنت تفعل، نهاية الأمر يعود فسادك عليك وشرك عليك في النهاية؛ دل على هذا قوله تعالى: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69]، ما يشعرون؛ لأن إحساسهم تبلد، الرغبة في المنصب والطعام والشراب والنكاح و.. و.. أشغلتهم وأنستهم حتى وجودهم.[ ثالثاً: قبح من يكتم الحق وهو يعرفه ]. يا ويح! يا ويل! من يكتم الحق وهو يعرفه.مثلاً: يا سيد! أنا أريد قباء من أين الطريق؟ فيقول: لا أعرف وهو يعرف، فهذا يكون قد كتم الحق.تسأله: يا فلان! أين المسجد؟ فيقول: لا أدري وهو يعرف أين هو فهذا أيضاً كتم للحق.تسأله: يا سيد! هل يجوز لي أن أكذب بعض الكذبات لجاجتي؟ فيقول: لا أدري. كذلك كتم الحق. لم لا يقول: لا يجوز لك أن تكذب؟!يا سيد! عندنا فيديو في البيت نستأنس به، ونروح على أنفسنا، هل يجوز؟يقول: لا أدري. فهذا كذلك كتم الحق، فلو قال: لا يجوز، يفتنكم، يفسد قلوبكم، يدفعكم إلى الشر والباطل ما كتم.فهذه أمثلة.. ومن عرف الحق يجب ألا يكتمه، إلا إذا خاف، تفصل هذه.[ رابعاً: حرمة التدليس والتلبيس في كل شيء ]، فالذي يخلط سمن الغنم بسمن الشجر ويبيع يكون قد دلس، والذي يخلط الحليب بالماء يكون قد دلس أيضاً.مثلاً: عندنا خياط في شارع العينية، يقول: هذه خياطة سوق، وهذه خياطة ذمة. كيف يكون هذا؟ بل يجب عليك أن تخيط كل الثياب بإتقان بحسب قدرتك، ولا تقل: هذه خياطة سوق، وهذه خياطة ذمة، فلا يجوز هذا، فمن التدليس أن تكون الخياطة للسوق غير ما تكون للزبون. وقد ذكرنا البارحة قصة بائع الطعام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شك الرسول صلى الله عليه وسلم بكيس الطعام، فأدخل يده فأخرج الشعير مبتلاً، فقال لصاحب الطعام: ( لم ما تجعل هذا فوق حتى يعرف؟ من عش فليس منا ).الآن يقولون: يوجد غش في السيارات.. يعرف أن قلبها مريض، وأن عينها عمياء، فيقول: هذه هي، اشتر كما هي. لا. بل قل لي ما فيها من عيب أو ننقلها إلى الطبيب كاشف العيوب فنقول له: افحصها، فإن قال بها العيب الفلاني الفلاني فأنت حر اشتريها أو خفضت لك من القيمة، أما إذا أشتريها وهي مموهة مطلية ويكتشف أن فيها عيوب فيبدأ يلعن صاحبها، فهذا لا يجوز حتى مع اليهود أعداء الدنيا ( من غش ليس منا )، فلا نرضى به محمدياً مؤمناً.فالذين يغشون ما عرفوا وما عملوا، فكل شر وكل خبث، وكل فساد، وكل ظلم يحدث بين المسلمين علته الجهل، ما ربيناهم، ما هذبناهم، ما علمناهم، فنشئوا على الضلال والجهل والعمى فهم يفتكون بالحياة ويدمرونها ونحن نلومهم.. وإلى الآن ما تفطنا أبداً، وما ربينا أولادنا، ولا بناتنا ولا أنفسنا.هذه الحلقة في المسجد النبوي، فالمدينة سكانها أكثر من مائتي ألف، والذين يتعلمون الهدى واحد في الألف.فكيف يتعلمون هؤلاء الجهلة وهم الآن مع الفيديو مع التلفاز، ومع المجلة، ومع الأغنية، ومع الصاحب، ومع الأضاحيك، وإن كان يأتي يصلي ويخرج ما ينتفع، ما يكمل، واقرءوا إن شئتم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2]، هو، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2].حتى إن بعض الصحابة كانوا يتبادلون الوقت.. عمر كان يفعل هذا، وإلا كيف زكت أنفسهم وطابت أرواحهم، وتفقهوا في دين الله، وأصبحوا أئمة البشر؟ فهم درسوا وتخرجوا من حلق الذكر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأبنائهم.فالآن -مع الأسف- طلبة المدارس فيهم شياطين -اسمحوا لي ما قلت أنا- آباؤهم يقولون هذا، فأين التربية؟ احضره إلى المسجد ليجلس في بيت الله أربعين يوماً ويمسح ذاك الظلام من نفسه.قال وأخيراً: [ حرمة كتمان الحق في الشهادة وغيرها ]، سواء كان: اشهد على كذا.. فلا تكتم الحق وصرح به، أو في غير الشهادة؛ دل على هذا قوله عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:71] أنه حق، فهذا الذي هذب المؤمنين والمؤمنات من تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجاله، فوالله! ما عرفت الدنيا منذ أن كانت أمة أطهر ولا أصفى ولا أكمل ولا أعز ولا أكرم من تلك الجماعة التي عاشت على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيته، لم تكتحل عين الوجود بمثلها، ما سبب ذلك؟ لم يكن الغنى، بل عاشوا فقراء.. فقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يحمل الكيس على ظهره، وقد كان عمر رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين يحمل اللحم في طرف ثوبه من السوق.

تفسير قوله تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره ...)
إذاً: وإلى الآيات الثلاث الآتية، وهي فوق مستوانا، لكن نحاول أن ينير الله قلوبنا بها.يقول تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، (وجه النهار) أي: من وقت صلاة الصبح حتى الساعة التاسعة أو العاشرة من النهار. وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران:72]، أي: وقت صلاة المغرب أو العصر. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73]، هذا كلامهم لبعضهم البعض لا علاقة لنا به. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:72]، أي: قالوا لبعضهم البعض وهم رؤساء اليهود في خيبر والمدينة، آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، أي: يرجعون إلى دينكم.. إلى الوثنية والشرك؛ لعلهم يخرجون من الإسلام لماذا؟ أولاً: هذه الآية أدت غرضين صحيحين:الأول: لما تحولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، إذ صلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون والمؤمنات في المدينة إلى بيت المقدس غرب المدينة سبعة عشر شهراً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يصلي بين الركنين اليمانيين، يجعل القبلة غرب، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لو يستقبل الكعبة لكان خيراً له، من أجل أن يفارق اليهود؛ لأن اليهود أصبحوا يتبجحون يكذبنا ويكفرنا ويصلي إلى قبلتنا، سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142].الشاهد: أنها وقعت ضجت في المدينة ليست بالهينة، وهي: كيف يصلي إلى قبلتنا ولا يؤمن بديننا؟ ما إن حول الله تعالى القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حتى ازدادت الفتنة، وأصبح اللغط والكلام حتى قالوا: وغداً يستقبل قبلة أخرى ما يثبت على شيء، وجاءت الآيات القرآنية: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ [البقرة:150]؛ لأنهم ما يسكتون، فهم كالكلاب لابد وأن يقولوا، فلا تلتفتوا إليهم.فاستغلها بعض اليهود كـابن الصيف وفلان وفلان، وقالوا لبعضهم البعض: صلوا معهم إلى قبلتهم، وفي المساء صلوا إلى بيت المقدس، فإذا تسأل: لم؟ قالوا: ظننا أنه الحق وبعد تبين لنا أنه خطأ فعدنا إلى الحق، وهذه تفعل وتؤثر في قلوب العوام والجهال، هذا تؤديها هذه الآية الكريمة، وأعظم من هذا وهو المقصود، وهو أنهم اتصلوا بعلماء اليهود في خيبر، وعلماء اليهود بالمدينة، وعقدوا مؤتمراً لضرب الإسلام، فقالوا: يا فلان، ويا فلان ويا فلان، أعلنوا عن إسلامكم في المسجد النبوي، وقولوا: دخلنا في دين الله أول النهار، وآخر النار، لا تدخلوا المسجد، ولا تصلوا معهم ولا تقولوا مسلمون، فيتساءل الناس: لم؟ قالوا: دخلنا في الإسلام، ظننا أنه هو الحق، وأنه الدين الذي جاء به موسى وعيسى، وتبين لنا بإرشاد وبينان علماءنا أن هذا خطأ لا دين إلا اليهودية، فمثل هذا يحدث زعزة في قلوب المؤمنين واضطراباً في نفوسهم.والآن هناك تخطيط يقوم به اليهود، في إذاعة لندن، وإذاعة كذا، ويعملون بهذا عملاً في الصحف والمجلات و..قال تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:72]، أي: اليهود هنا، قالوا لبعضهم: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران:72].(وَجْهَ النَّهَارِ): أي: أول النهار، وأول النهار وقت شروق الشمس. وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، أي: يرجعون عن الإسلام إلى الشرك، يريدونهم أن يتركوا الإسلام، ولو عادوا إلى الشرك؛ لأن العرب كانوا مشركين، فضلاً عن اليهود الذين دخلوا في الإسلام، كما سمعتم. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:72]، أي: قالوا لبعضهم البعض، مؤامرة.. رؤساؤهم خططوا، واتفقوا مع أهل خيبر وأهل المدينة، آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:72]، الذي أنزل عليهم، أي: القرآن، وما حواه من العقائد والشرائع والآداب والأحكام. وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران:72]، أي: اكفروا آخر ذلك اليوم، فإذا تساءل الناس: لم العالم الفلاني صلى الصبح مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: ظن أنه الحق، ولكن تبين لنا أنه ما هو بحق.فلهذا سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة قتل المرتد، فالذي يدخل في الإسلام، ثم يخرج منه يقتل، لا يصح بقاؤه؛ لأن هذا يفتح الباب.. لم خرج فلان بعدما أسلم وهو دكتور في علم النفس أو الطب أو كذا؟ قالوا: تبين له أنه ما هو بدين حق، فلا ينفع، ولهذا خرج منه، فهذا يقتل: ( من بدل دينه فاقتلوه )؛ لأنه يثير الهواجس والخواطر، ويبعث النفوس على التفكير من جديد، وجعجعة المجتمع، وهبوط هذا المجتمع، ( من بدل دينه فاقتلوه )، إلا أنه قد يكون مغرراً به مخدوعاً ما عرف يمهل ثلاثة أيام، فإن أصر على ردته يقطع رأسه؛ وهذا هو السبب: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72].ثم شيء آخر: اعلموا أن من عرف معرفة حقيقة، وآمن إيماناً صادقاً، وأيقن مثل هذا لا يمكن أن يرجع لا بالإغراء بالنساء، ولا بالمال، ولا بالمنصب، ولا.. ولا.. لو يقطع أو يصلب أو يحرق ما يرجع؛ لأنه عرف، والذين خرجوا من الإسلام في الشرق والغرب وبالمئات بالآلاف، بعض الجاهلين يقول: علتهم الفقر؛ لأن جمعيات التنصير في إندونيسيا وماليزيا وإفريقيا، وموجودة حتى في مصر وسوريا، فهذه الجمعيات تستغل فقر المؤمنين، فتداويهم وتطعمهم وتلبسهم وكذا.. فيتنصرون.وأنا قلتها: والله، ما تنصروا إلا من أجل جهلهم، وعدم معرفتهم، أيؤمن ويعرف الحق وينشرح له صدره ويبيعه بأسبرين أو إبرة أو ثوب في الشتاء يلبسه؟!مستحيل، فبدل أن نقول: هيا نجمع لهم الأموال والكساء والأدوية، نقول: هذه بعدين وليس الآن، بل علموهم وعرفوهم بربهم، ودلوهم على الطريق السوي الموصل إلى كمالهم، فإذا عرفوا الله، ولو أعطوهم ملء الأرض ذهباً ما رجعوا عن الإسلام.لقد أسمعت لو ناديت حياًولكن لا حياة لمن تناديأقول واشهد اللهم على ما أقول وأنا في بيتك في مسجد رسولك يا رب: لو أن المسلمين في هذه الظروف وفي هذه الأيام تكونت لهم لجنة تضم عالماً ربانياً صالحاً من كل قطر إسلامي، كل إقليم من إندونيسيا إلى موريتانيا يمثلوا عالماً ربانياً، وهذه اللجنة العليا للدعوة الإسلامية، لما تتكون وتتعاهد في روضة النبي الكريم تخطو الخطوة الأولى وتجوب بلاد العالم الإسلامي، ولكن في غير إشهار وإعلان؛ حتى لا تحسد وتوضع العراقيل في طريقها، لسنا في حاجة إلى التبجح: نفعل ونفعل.. ودخلوا كل بلد إسلامي، وقالوا لنسائه ورجاله في مساجدهم: أيها المسلمون! إن فريضة الجهاد قد تركت وأهملناها، فهيا بنا نعود: باسم الله.. وتعرفون كلمة جهاد يقفز لها كل واحد. إذاً: هي أن على كل ذكر وأنثى سنوياً أن يدفع عشر ريالات، يصوم يومين أو ثلاثة؛ ليوفر عشر ريالات، فهذا هو الجهاد فقط، وهم صادقون في كل مسجد صندوق في سرية كاملة، فألف مليون مسلم سيجمعون عشرة آلاف مليون، وتصبح أكبر ميزانية لا تملكها أمريكا. جولة واحدة أربعين يوم يتم هذا.. فالآن توجد الطيارات وليس هناك مشقة سفر.ثم بعد ذلك اللجنة العليا تتفرع منها لجنة أخرى تسند إليها مهمة التجول في العالم الغربي والشرقي، من البرازيل إلى اليابان يتتبعون الجمعيات الإسلامية أو المراكز الإسلامية، فيعرفون في فرنسا كذا، في المكان الفلاني، بلجيكا، ألمانيا، كندا، البرازيل.. كذا، يعرفون مواقعها وعدد أفرادها، فتوضع لها خارطة وهذه الخارطة حينئذٍ عرفت اللجنة العليا للجهاد الإسلامي.. وللدعوة إلى الله، تكون قد وضعت العالم بين يديها. عرفت القدر الذي تحتاج إليه من هذا المال، فتأخذ أولاً في إرسال المربين والمعلمين والهداة الصالحين، وتفتح لهم مركز أو دورة لمدة ستة أشهر فقط؛ حتى توحد المذاهب، ولم يبق بين الجماعات الإسلامية في الشرق والغرب مذهبي، فقط مسلم ويوحدون الكتاب الذي يدرس، من الضرورة كتاب لا ينتسب إلى زيدية ولا إباضية ولا شيعية ولا حنفية ولا.. ولكن مسلم قال الله وقال رسوله؛ لأن تلك الجاليات خليط مختلفون وطنياً ودينياً أيضاً، لابد من محو هذا الخلاف، بل مسلم فقط نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، ونور هدايتي قال الله وقال رسوله. فيوحدون الكتاب الذي يدرس على نهج كتاب المسجد وبيت المسلم، وعلى نهج منهاج المسلم نعلم كيف نتوضأ ونغتسل ونصوم ولا نقول: أنا مذهبي كذا ولا كذا، وتأخذ تلك الدعوة في نشر ظلها، ويصبح أولئك المؤمنون المسلمون كلمتهم واحدة، وعقيدتهم واحدة: آدابهم وأخلاقهم، يأخذ النور ينتشر في تلك البلاد. والله أعلم أن خلال خمسة وعشرين سنة، أي ربع قرن تظهر دول إسلامية، ونحن ما ضججنا ولا صرخنا ولا بكينا ولا قمنا جاهدنا أبداً، دعوة الله ماضية. فهذه هي الدعوة التي نؤدي بها واجب الجهاد؛ لننقذ إخواننا في الإنسانية من الخلد في عذاب النار؛ لننقذهم من الخبث والظلم والشر والفساد الذي يعانونه، إنهم في بلاء ما يعرفه إلا من لامسه، لا تظن أنهم أكلوا وشربوا وفازوا، بل إنهم في كروب وهموم، كالبهائم فمن يمد يده إليهم؟ أناس أكمل منهم آداباً وأخلاقاً ومعارفاً، وطهراً وصفاء، وبذلك أدى المسلمون فريضة الجهاد، بدل ما ترسو سفننا على شواطئهم لنغزو لا. لا، مفتوحة الأبواب، أراحنا الله لا نفاثة ولا صاروخ أبداً. فوالله! لو كنا على هذا المستوى لكانت أوروبا دخلت في الإسلام منذ أن استعمرونا، لكن لما استعمرونا كانوا أفضل منا، أسمى وأرقى، ما تسمعون بوعد بريطانيا، فأهل المشرق يقولون: وعد إنجليزي، وأهل المغرب يقولون: وعد فرنسي.الله الله! كفار أشرف! لا خيانة، ولا كذب، ولا باطل، ولا ظلم، ولا اعتداء، والمسلمون: الخيانة .. الكذب، لا إله إلا الله! فكيف يدخلون في الإسلام؟! أسلم فرنسي، فقال: الحمد لله أسلمت قبل أن أعرف المسلمين، فلو عرفتهم ما أسلمت، فأين رابطة العالم الإسلامي لتقوم بهذا الواجب من جديد؟ والشاهد من هذا: ليست قضية فقراء عندنا في العالم الإسلامي حملتهم على الكفر، بل حملهم على الردة والانتقاض على الإسلام جهلهم، فما عرفوا وما ذاقوا طعم الإسلام ولا تلذذوا به؛ لأنهم ما علمناهم وما عرفناهم به.

تفسير قوله تعالى: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ...)
قال تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:72-73] أي: يوصي بعضهم بعضاً، وَلا تُؤْمِنُوا [آل عمران:73] أي: ولا تتابعوا وتصدقوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73]، يحذرون بعضهم بعضاً، قوموا بهذه الدعوة، وفي نفس الوقت لا تؤمنوا ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم، ما دام ما يتبع دينكم لا تلتفتوا إليه. وهذا الكلام إلى الآن يوصي بعضهم بعضاً وخاصة اليهود. قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ [آل عمران:73] يا معشر اليهود! ليس هداكم ولا ضلالكم، قل يا رسولنا لهؤلاء المتآمرين الذين يتعلمون الباطل، ويريدون نشره، علمهم: إن الهدى هدى الله، وليس اليهودية ولا النصرانية. قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ [آل عمران:73] لا هدى غير هدى الله، فمن يهدي سوى الله، ومن ينير الطريق سواه، ومن يأخذ بالقلوب فيقلبها سواه، من للمؤامرات التي تحاك ضد الإسلام بدعوى أننا ندعو إلى الإسلام وننشره سواه.أي: علمهم حتى ييئسوا أن لا يهودية ولا نصرانية ولا خرافة ولا ضلالة، الهدى هدى الله الذي لاحت أنواره على لسان رسوله وفي كتابه.ثم قال تعالى: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [آل عمران:73] هذا عائد إلى كلام المتآمرين من أهل الكتاب، جملة: قُلْ إِنَّ الْهُدَى [آل عمران:73] معترضة، وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73] خشية: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [آل عمران:73] يوم القيامة.يا معشر يهود: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73] أي: انتبهوا هذا الذي تجرون وراءه وتصدقوه؛ خشية أو كراهة أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [آل عمران:73]، أي: أنتم أوتيتم الديانة الحقة والطريق السوي والصراط المستقيم، وأنتم.. أنتم.. أنتم..، فإذا أنتم اتبعتموهم إذاً معناه جاءوا بدين خير من دينكم، واعترفتم به إذاً فلا تعترفوا أبداً. أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [آل عمران:73] حتى لا يصبح العرب أصحاب دين كأنتم، أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [آل عمران:73] يوم القيامة، وهذه من خزعبلاتهم وضلالهم. يوم القيامة يحتجون عليكم يقولون: يا رب قد عرفوا الإسلام، وأنه حق ورفضوا أن يدخلوا فيه، فلا تجعلوا لهم فرصة يوم القيامة يحتجون عليكم؛ لأنكم إذا قلتم: أيها المسلمون إنكم على الحق، ودينكم هو الحق وهو الصواب، معنى هذا وأنتم ما دخلتم يحتجون عليكم يوم القيامة، إذاً فلا تعترفوا وتقولون: الإسلام دين حق، بل باطل واثبتوا، فلا دين إلا اليهودية. هذا يعقدونه في ليال وأيام، مخططات أقل ما يقال: للإبقاء على اليهودية حتى لا تفنى وتضيع ويغمرها الإسلام؛ لأنهم يريدون تجديد عهد سليمان وداود، فهم عازمون على إيجاد مملكة بني إسرائيل، وليس من النيل إلى الفرات كما في بعض كتبهم، فالآن العالم بأسره، إذ البشرية عند اليهود وسخ، وسيأتي بيان ذلك في كلام الله. البشرية كلها نجس ما فيها إلا اليهود، فلهذا يستبيحون دماء الناس.. فروجهم.. أموالهم؛ لأنهم ليسوا ببشر حتى يؤمنوا باليهودية، فهذه معتقداتهم في بواطنهم ولا يعلنونها لكنها تظهر.فمن عجيب ما بلغنا أيام موشي ديان -عليه لعائن الله- أنهم عقدوا مؤتمراً وخطب موشي ديان ونفخ فيهم، فهاجوا.. فقالوا: لو أنت الملك.. أنت الملك. قال: اسكتوا لا تفضحوا أنفسكم لم يحن الوقت، وكان هذا أيام وضع خطة عالمية لذبح الملوك والقضاء عليهم. فالأحداث لا يعرفون هذا، هذا عرفناه نحن والله. قالوا: اذبحوا العالم ومصارينه اخنقوا بها الملك؛ حتى يتسع لكم الوقت، وتصلوا إلى أهدافكم في العرب والعجم وفي اليهود والنصارى، المهم القضاء على هذه الأديان هو من طريق العلماء والملوك.وانتصر المبطلون فملك فرنسا ذبحوه، والعرب أخذوا يصفقون، فقد عرفنا والله! علماء لما يذكر الملك يتقززون، واحتج عليَّ عالم فقال: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا [النمل:34] . ولما يسقط ملك في بلاد العرب يتغنون في هيجان عجب، وهي مكرة يهودية وقد تبين للعيان أن وجود ملك خير ألف مرة من رئيس جمهورية؛ للإبقاء على الإسلام والمسلمين.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-03, 01:00 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (20)
الحلقة (161)

تفسير سورة آل عمران (27)


من الأمور الشائعة والعقائد الثابتة عند يهود أن من عداهم من البشر نجس، يحل أكل ماله، وسفك دمه، والنيل من شرفه، وهذه كذبة بيّن الله زيفها ودحضها في كتابه الكريم، وبيّن سبحانه وتعالى أن من أوفى بعهده، ولم يخرج عن طاعة ربه، ولم يظلم عباده، فهو التقي المحبوب إلى ربه سبحانه وتعالى، المستحق لثوابه وجنته.

تفسير قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك...)
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلى نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) حقق اللهم لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين. وما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:75-77].سبق ما أخبر به تعالى عن أهل الكتاب، إذ قال: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:72] وقد عرفنا ما قالوا وهذه أيضاً أخرى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:75] أي: من اليهود والنصارى مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75] يوجد فضلاء كُمل، عقلاء من أهل الكتاب ومن اليهود بالذات من إن تأمنه بقنطار من الذهب، وتجعله في ذمته وتودعه عنده يحفظه، وإذا قلت: رد علي أمانتي ردها بكل ارتياح. وهكذا القرآن وهو كلام العليم الخبير ما يعمم المدح ولا الذم، إذ يوجد من اليهود من أهل الكتاب من لو ائتمنته على قنطار من الذهب ثم طالبته برده إليك رده إليك كاملاً غير منقوص، ومنهم وهي الأكثرية الساحقة من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً. لولا أنك تلازمه صباح مساء حيثما يوجد وأنت على رأسه وتقول له: أعطني ما يعطيك، ومنهم الربانيون الصلحاء العلماء العارفون كـعبد الله بن سلام ، لو ائتمنته على قنطار والله ما خانك، ولوفى إليك وأعطاك ما ائتمنته عليه، فهذا إخبار الله تعالى، وليس بإخبار البشر قد يزيدون أو ينقصون، هذا إخبار العليم بخلقه الحكيم في تدبيره. وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:75] وإن كان اللفظ يشمل اليهود والنصارى لكن هنا المراد بهم اليهود، مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75] والقنطار ألف أوقية.ومنهم صنف آخر: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ [آل عمران:75] والدينار معروف لا يؤده إليك وأنت تلح وتطالب به إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75] بمعنى أنك تلازمه حيثما وجد أنت وراءه أعطني رد إلي ما أسلفتك، أعطني ما أقرضتك. هنا لطيفة فقهية من أهل الفقه من يقول: يجوز ملازمة المدين، ولا تفارقه حتى يؤدي إليك دينك، وأغلب المسلمين والفقهاء على أنه لا حاجة إلى هذا، لا تتعب أخاك وترهقه حتى يصبح يختفي بين الناس حتى لا تراه أو يراك، ولا بأس أن يحاكم ويرفع أمره إلى القضاء ويحكم القاضي بما يراه، لكن كونك لا تفارقه، ملازمة ليل نهار فيه عدم احترام لإمام المؤمنين، وعدم تقديرهم. إذ من الجائز أن يكون هذا المدين لا يملك شيئاً، لا يملك ما يؤدي إليك، فأنت تلازمه فتذله وتهينه وتضيق عليه الحياة من أجل دينار أو ألف كرامة المؤمن أعظم من هذا، فالجمهور على أن لا ملازمة، لكن يوجد من أهل العلم من قال: يلازمه حتى يسدد دينه. ونعود إلى حديثنا عن أهل الكتاب، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75] الأمر الشائع والعقيدة الثابتة عندهم، والسائدة فيهم أن البشرية نجس إلا اليهود وخاصة المشركين، وهم المعنيون بالأميين الذين لا يقرءون ولا يكتبون، فالمتعارف عليه عندهم والمتداول بينهم والمقرر في نفوسهم أن الإنسان نجس إلا أن يتهود. فإذا كان يهودي العقيدة كان نقياً طاهراً لا يحل أكل ماله، ولا إراقة دمه، ولا النيل من شرفه؛ لأنه كامل، فغير اليهود كل أموالهم، اذبح أبناءهم افعل ما تشاء لا إثم عليك، فهذا المعتقد عند اليهود، سنه فيهم وأقره بينهم ودعاهم إلى اعتقاده علماؤهم وأحبارهم، يكذبون على الله عز وجل. وحاشا لله أن يأذن في سفك دماء البشر، وانتهاك أعراضهم وتحطيم كراماتهم، وأكل أموالهم، وهم كلهم عباد الله، فهذه كذبة يهودية شاعت بينهم وتناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل على أن الأميين من العرب وهم المشركون وعامة البشر نجس يصح أكل أموالهم وإراقة دمائهم.واسمع الله تعالى يقول: ذَلِكَ [آل عمران:75] أي: من أنك لو تأمنه على دينار لا يؤده إليك إلا بالملازمة الدائمة، وسبب ذلك قالوا: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75] أي: لا يؤاخذنا الله ولا يعذبنا الله، إذا نحن أذينا المشركين، وأكلنا أموالهم أو فعلنا ما فعلنا في دمائهم وأعراضهم، وقرر هذا المعتقد عند اليهود هم علماؤهم وأحبارهم.قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا [آل عمران:75] متبجحين لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75] في هذه الآية خصوا العرب؛ لأنهم هم الأميون، ولكن ورد أن البشرية بأكملها نجس باستثناء الطائفة اليهودية، يستباح دماؤها وأموالها والعياذ بالله. قال تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75] أي: يعلمون أنهم كاذبون، لا يكذبون على الله باعتقادهم أن الله قال: لا، وهم يعلمون أن الله ما أذن في هذا ولا أباحه، ولكن لمصالحهم الخاصة ومنافعهم التي يعيشون لها يكذبون على الله، فيوهمون أتباعهم وأبناءهم وإخوانهم على أن هذا كلام الله، وأن الله أذن لكم في أن تأكلوا أموال من شئتم من البشر إن تمكنتم منه؛ لأن هؤلاء نجس وأنتم الأطهار فقط. هذا خبر الله عز وجل عنهم: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75] أي: يعلمون أنه كذب، ويوجد من غيرهم حتى ممن انتسبوا إلى الإسلام من يعتقدون اعتقادات باطلة كهذه، فيوجد من أهل السنة من يستبيح أموال ودماء وأعراض غير السنيين كالإباضيين والزيديين والطوائف الأخرى، في حين أن هذا لا يقوله ذو علم وبصيرة، ولا يحل مال امرئ إلا بحقه سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو كان خارج عن مذاهب أهل السنة والجماعة، فأموال الناس ودماؤهم حرام وكلهم عبيد الله. فلا يأذن الله إلا فيما أذن فيه، فإن سرق قطعت يده، وإن قتل يقتل، وإن فجر يرجم، أما أنك تبيح دماء الناس وأعراضهم؛ لأنهم غير مؤمنين أو مسلمين هذا لا يوجد في دين الله، وإن وجد من يقول أو يرى فهو يكذب على الله عز وجل، ويقول على الله الكذب، وقد يكون يعلم، وقد يكون لا يعلم.

تفسير قوله تعالى: (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين...)
ثم قال تعالى: بَلَى [آل عمران:76] أي: ليس الأمر كما يزعمون، وكما يدعون ويقولون، مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76]، أي: ليس الأمر كهذه الترهات والأباطيل والأكاذيب، يكذبون على الله ويقولون: أذن لنا في أكل أموال الناس، وإراقة دمائهم؛ لأنهم أنجاس أو أخباث أو ليسوا بمؤمنين حاشا لله. مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ [آل عمران:76] مع اليهودي والنصراني، والمشرك والكافر والبار والفاجر، من أوفى بعهده أولاً واتقى ربه، فلم يفسق عن أمره ولم يخرج عن طاعته ولم يضيع ما أوجب، ولم يفرط فيما ألزم الله، وابتعد كل البعد عما حرم الله من قول أو اعتقاد أو عمل، إذ تقوى الله عز وجل لا تتم إلا بفعل ما أمر الله في حدود طاقة الإنسان، واجتناب ما حرم الله. من أوفى بعهده ولم يخن ولم يكذب واتقى الله فليبشر بأنه محبوب لله، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76]، اللهم اجعلنا منهم! فلا يحب كتابياً يهودياً ولا نصرانياً ولا منتسباً إلى الإسلام بغير تقوى، فالقضية قضية وفاء، وعدم غدر وخيانة، ثم تقوى لله عز وجل في السر والعلن، في العسر واليسر، في الشدة والرخاء على حد سواء أولئك أهل محبة الله، وهؤلاء الذين يحبهم الله عز وجل. معاشر المستمعين! كررنا القول في أنك لا تستطيع أن تكون تقياً يحبك الله عز وجل إلا إذا عرفت ما يحب الله وما يكره، لا يمكنك يا بني أن تصبح تقياً من أولياء الله ومحبيه، وأنت لا تعرف ما يحبه الله ولا ما يكره، يتعذر هذا تعذراً كالمستحيل.أقول: ولاية الله تتحقق بمعرفة ما يحب وما يكره، وفعل المحبوب وترك المكروه، فلابد من هذا، فالذي لا يعرف ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأفعال، ولا ما يكره من ذلك كيف يفعل المحبوب وهو لا يعرفه، كيف يترك المكروه، وهولا يعرفه، ومن هنا عدنا من حيث بدأنا طلب العلم فريضة. طلب العلم الشرعي الحاوي لمحاب الله ومكارهه فريضة كل مؤمن ومؤمنة، وما سقط من سقط، وتورث من تورث، وهوى من هوى إلا للجهل لا علة سوى الجهل.فلابد من العلم أي المعرفة لمحاب الله وما أكثرها، ومعرفة كيف يقدمها تملقاً إليه وتزلفاً وتقرباً، أو عبودية لله عز وجل وذلة ومسكنة، والذي لا يعرف ما يكره الله، وما يسخطه تعالى ويغضبه على عباده مما حرم الله في كتابه أو على لسان رسوله فكيف ستتم له التقوى؟!ولهذا قال بعض أهل العلم تلك الكلمة التي لن ننساها: ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علمه، هيهات هيهات أن يرضى الله بك ويحبك وأنت جاهل، فإذا أراد ذلك علمك، ويوجد في نفسك رغبة في طلب العلم، تترك شاتك ترعى وحدها، وتأتي تقرع الباب لتتعلم، ثم إذا علمت الشيء فرحت به وسرك، وانشرح له صدرك وعملت به، ولا تزال تعلم وتعمل، تعلم وتترك حتى تصل مستوى الولاية وتصبح ولي الله. أما جاهل.. فلا يوجد ولي من أولياء الله وهو جاهل، فالجاهل يسرق، والجاهل يكذب، والجاهل يخون، والجاهل لا يفي بوعد، والجاهل يسب، والجاهل يشتم، والجاهل.. الجاهل..؛ لأن ظلمة قلبه هي التي توقعه في هذا لا نور له. ولو عرف المسلمون هذا لما فارقوا طلب العلم حتى الموت، ولكن هذا الذي حصل.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً...)
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77]، وهذا يشمل أهل الكتاب، ويشمل المسلمين، فهذا اللفظ عام.. فالله تعالى يقول متوعداً: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ [آل عمران:77]، أي: لا حظ ولا نصيب أبداً في دار السلام، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77] فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يبين هذا، قال: أخرج أهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حلف على يمين هو فيها فاجر -أي: كاذب خارج عن الآداب واللياقة- ليقتطع بها حق امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان )، وفي رواية أحمد أيضاً وله شواهد في الصحاح، وروى الأئمة عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه -ليس بيده اليمنى، بل بحلفه الكاذب- فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله! قال: وإن كان قضيباً من أراك ).إذاً: فهذه الآية معاشر المؤمنين والمؤمنات! ليست خاصة بأهل الكتاب، فهذا إعلام رباني، فالله الذي يحب العدل وأمر به وفرضه، والله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم يحب الرحمة وأهلها، وهو الذي توعد الخارجين عن نظام شرعه ودينه: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77]، فلا ثمن كثير في هذه الدنيا، ولو كانت القناطير كلها، ما عندنا ينفد وما عند الله باق. فلا نفهم من هذا الثمن القليل ريال أو عشرة، فكل الأموال هي قليلة لقضاء الله وحكمه، فالذي يبيع عهده ويمينه بثمن قليل لا خلاق له في الآخرة. فعهد الله هو مع كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله قد عاهد الله عز وجل ودخل في عهد بينه وبين الله، ويجب عليه الوفاء بما عاهد الله عليه: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [النحل:91]. فكل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، قد أعطى الله تعالى عهداً وميثاقاً أن يعبد الله وحده ولا يعبد معه سواه، وأن لا يضيع تلك العبادة ولا ينقصها، وهو قادر على إكمالها، وأن تكون من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، أي من حيث تعليمه وسنته وبيانه وهدايته، فكل مؤمن قد قطع لله عهداً على نفسه أن يعبد الله بما شرع من طريق رسوله، وأن لا يعبد معه سواه، وأن لا يعترف أيضاً بعبادة غير الله. إذاً: هذا العهد عهد كل مؤمن ومؤمنة: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ [آل عمران:77] أي: الذين عاهدوا الله عليه، فيترك واجباً أو يغشى حراماً، أو يفعل منكراً؛ من أجل الدينار والدرهم يكون قد خان الله في عهده. الأيمان جمع يمين، وهي الحلف، وسميت اليمين يميناً؛ لأن الرجل إذا عاهد يضع يمينه على يمين غيره، فهذا هو العهد وهذه هي اليمين، فسميت اليمين يميناً؛ لأنها كانت باليد اليمنى.

معنى قوله تعالى: (ثمناً قليلاً)
(ثمناً قليلاً) أي: لو كانت قناطير الذهب، ولو كانت مملكة بكاملها فهي في حكم الله ثمناً قليلاً. فالمؤمن لا ينقض عهده، ويخرج من دين الله بعد أن استنار به ودخل فيه، ولو أعطي الدنيا بما فيها، فكل الأموال لا تساوي كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فالذين يرتدون ويخرجون عن الإسلام من أجل دنيا يؤثرونها، وكلها تعتبر ثمناً قليلاً، وجزاؤهم عند الله كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ [آل عمران:77].

معنى قوله تعالى: (لا خلاق لهم ...)
قال تعالى: لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ [آل عمران:77]، أي: يوم القيامة.والخلاق: معناه النصيب والقسط والحظ. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [آل عمران:77]، وهذا لا يطاق، فالذي لا يكلمه الله ولا ينظر إليه هو أشقى الخلق وأتعسهم. فالله هو مولاك وسيدك وهو راحمك ومعطيك وواهبك، إذا غضب عليك ولا ينظر إليك ولا يكلمك، فكيف تسعد بعد هذا؟! والله! ما سعد امرؤ غضب الله عليه، فلم ينظر إليه ولم يكلمه. وعند البصراء والعقلاء يرضى أن يقطع ويحرق ولا يرضى أن يغضب عليه سيده ويحرمه من النظر إلى وجهه، فإذا عرف العبد أن هذا العهد إذا نقضه حرم الله عليه النظر إليه والكلام معه، ولا يقدر على أن يفعل هذا الحرام، ولا يتقحم هذه المحنة أو النقمة.هذه الآية معاشر المستمعين والمستمعات! وإن كانت في سياق الحديث عن أهل الكتاب، فهي عامة لما سمعتم من تفاسير الرسول صلى الله عليه وسلم وبياناته. إذاً: فقوله تعالى: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ [آل عمران:77]، فإذا لم يزكهم الله ولم يطهرهم فكيف سيدخلون دار السلام وهم أنجاس؟! فمن لم يزكه الله ولم يطهره فلا حق له في أن يدخل دار السلام؛ إنها دار الأبرار، دار الأطهار، ( يدخل العبد النار ويحترق، ويخرجه الله عز وجل منها، ويغسله في نهر الحيوان عند باب الجنة، فينبت كما ينبت البقل، ثم يدخل الجنة طائراً )، فالذي لا يزكيه الله ولا يطهره لو يحترق في النار ملايين السنين، وقد أخبر تعالى أنه لن يطهره، فلن يدخل الجنة. ومعنى هذا كقوله: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء:57]، وخاصة الذين دخلوا في الإسلام وغرتهم الدنيا فخرجوا منه وارتدوا وانتكسوا والعياذ بالله، فهؤلاء: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال: [معنى الآيات: ما زال السياق الكريم في هتك وتمزيق أستار أهل الكتاب، وبيان نفسياتهم المريضة، وصفاتهم الذميمة، ففي هذه الآية الكريمة يخبر تعالى أن في اليهود وبينهم من إن ائتمنته على أكبر مال أداه إليك وافياً كاملاً، ومنهم من إذا ائتمنته على دينار فأقل، خانك فيه وأنكره عليك، فلا يؤده إليك إلا بمقاضاتك له، وملازمتك له الليل والنهار. فقال تعالى في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ [آل عمران:75] -يا رسولنا- بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75]، ويعلل الرب تبارك وتعالى سلوكهم هذا، بأنهم يقولون: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]، وأنت أمي من الأميين، فلهذا لو ائتمنته على دينار ما أداه إليك]، سبحان الله! قال: [ويعلل الرب تعالى سلوكهم هذا]، بأنهم يقولون فيما بينهم، بل يدرسون هذا ويتعلمونه ويتوارثه الصغير عن الكبير، والأنثى عن الذكر، يقولون: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ [آل عمران:75]، أي: ليس علينا طريق لأذانا وتعذيبنا وخلودنا في النار، فأموالهم ونساؤهم حلال. يوجد بعض المسلمين -كما نقول- يستبيحون أموال آخرين؛ لأنهم كذا وكذا، لكن خفتت هذه الثورة، فلا يحل لمؤمن أن يأخذ مال إنسان وإن كان أنجس الخلق، ولا يحل مال الغير إلا بحقه، اللهم إلا في حال إعلان الحرب بيننا وبين الكفرة، فحينئذ أذن الله في دمائهم فضلاً عن أموالهم. ومع هذا لا يحل لمؤمن مجاهد أن يسرق خاتماً من يد كافر ميت، أو يأخذ ساعته أو يخفي ديناراً أو درهماً وجده في جيبه واقرءوا: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، فيا أيها المجاهد! إذا دارت المعركة بيننا وبين الكفار إياك أن تختلس شيئاً من دراهم أو دنانير، أو ما إلى ذلك وتخفيه؛ لتأخذه وتقول: هذا مال المشركين والكافرين، بل تأخذ ذلك المال وتؤديه إلى قيادة الجيش، وهي تجمع الأموال وتقسمها بما قسمها الله تعالى. قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41] والأربعة أخماس يوزعها قائد المعركة على المجاهدين، فمن كان له تأثير في الحرب كأصحاب الخيول فله حظان، ومن كان يقاتل على قدميه له حظ واحد.أما كون اليهودي في بلادنا أو نحن في بلاده، فلا يجوز لنا أن نأخذ ماله في السرقة والتلصص، فقد نعاقب من الله عز وجل، ونحرم حتى من النظر إلى الله. قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغُلَّ [آل عمران:161]، (يُغُلَّ) بضم الياء، وهي قراءة نافع وأهل المدينة، ومعناه: يحملون معه عليه الصلاة والسلام الغنيمة ويسرقون منها، أما هو صلى الله عليه وسلم فحاشاه أن يغل. فلهذا تركنا قراءة حفص : وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161].فالرجل الذي أخذ شملة احترق بها في نار جهنم، وهذا كان في معسكر النبي صلى الله عليه وسلم، رجل سرق شملة وهي حزام كحزام أهل اليمن على ظهورهم -كما تعرفون-، أعجبته إذاً سرقها فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في النار، فلما تألم من الجراحات في المعركة طعن نفسه حتى مات، فدخل النار. قال: [ويعلل الرب تعالى سلوكهم هذا بأنهم يقولون: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]].فبعض الناس يقول: الإباضي هذا كافر.. اكذب عليه، مع أن الإباضية عندنا أصدق الناس وأوفاهم، فلا يمكن أن يغشك أو يخدعك، وأكثرهم تجار، والعوام يقولون: هذا إباضي، وآخر يقول: هذا شيعي.. هذا نخولي ما يهم، كل هذه أباطيل وإملاءات الشياطين، وإلا سلكنا مسلك بني عمنا اليهود، فاليهود على الأقل قال لهم علماؤهم: هذا كتاب الله عندنا، أباح الله لنا أكل أموال غير اليهود؛ لأنهم نجس، لكن هل في المسلمين عالم يقول هذا؟! فهذا من إملاءات الشياطين على العوام.فلو قال قائل: الإباضية يأكلون أموال أهل السنة، فمنهم إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك، أما قنطار لا تسأل. وعلة هذا هو الجهل.. عدم المعرفة.. ما عرفوا الله حتى يحبوه.. ما عرفوا الله حتى يخافوه.. ما عرفوا ما عند الله يقيناً؛ حتى يطلبوه، ولا ما لديه من العذاب والنكال؛ حتى يخافوه ويرهبوه، علموهم.. فهذا هو الطريق. قال: [أي لا حرج علينا ولا إثم في أكل أموال العرب؛ لأنهم مشركون، فلا نؤاخذ بأكل أموالهم، وكذبهم الله تعالى في هذه الدعوى الباطلة، فقال تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75] أي: أنه كذب على الله، ولكن يكذبون؛ ليسوغوا كذبهم وخيانتهم ويجوزونها]. قال: [وفي الآية الثانية يقول تعالى: بَلَى [آل عمران:76] أي: ليس الأمر كما يدعون، بل عليهم الإثم والحرج والمؤاخذة، وإنما لا إثم ولا حرج ولا مؤاخذة على من أوفى بعهد الله، فآمن برسوله وبما جاء به، واتقى الشرك والمعاصي، فهذا الذي يحبه الله فلا يعذبه؛ لأنه عز وجل يحب المتقين]، اللهم اجعلنا منهم. فمن يرغب أن يكون من المتقين يجب أن يعرف محاب الله، ويسأل عنها ويتصفح الكتاب والسنة، ومن عرف أن الله يحب هذه الكلمة يقولها تملقاً لله، فالله يحب هذه الجلسة، فليجلسها كما يحبها الله، وهكذا.. وكذلك من يرغب أن يكون من المتقين يجب أن يعرف ما يكره الله حتى من النظرة المحرمة، ويجب عليه أن يتجنب مكاره الله، فلا يصبح إلا وهو ولي الله، يحبه ومن أحبه الله فلا يهينه ولا يذله. قال: [وأما الآية الأخيرة -الثالثة- فيتوعد الرب تعالى بأشد أنواع العقوبات، أولئك الذين يعاهدون ويخونون ويحلفون ويكذبون؛ من أجل حطام الدنيا ومتاعها القليل، فيقول: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ [آل عمران:77]] أي: لا حظ ولا نصيب لهم في نعيم الدار الآخرة، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [آل عمران:77]، أي: حتى لا يكون لهم الكلام تشريفاً وإكراماً.[أما تكليم الإهانة فجائز، قال تعالى: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، أما كلام التشريف والتبجيل والإكرام فلا يكلمهم، ولا يزكيهم بالثناء عليهم ولا بتطهيرهم من ذنوبهم، ولهم عذاب مؤلم في دار الشقاء، وهو عذاب دائم مقيم لا يفارق أبداً أهله؛ لأن الحياة استقرت]، أهل النعيم في نعيم أبداً، وأهل العذاب في عذاب أبداً، فلا يوجد إلا علو وسفل، جنة ونار، نعيم وشقاء، تبقى هكذا. قولوا: آمنا بالله، ومن أراد أن تتجلى له الحقيقة، هذه التي ما فارقتنا فليقم الآن فقط، ويجلس مجلسي وينظر إلينا فلن يجد اثنين كأنهما رجل واحد، ما هذا العلم؟ أنا والله! إني أعجب من هذا! لو يجتمع البشر كلهم يفرق الله بينهم في سماتهم وصفاتهم؛ حتى لا يختلط اثنان فلان يكون هذا أبداً، من فعل هذا؟ وما هذه القدرة؟ وما هذه العظمة؟ وما هذا العلم؟! فهذا هو الله رب العالمين.. يطلب إلينا أن نحبه ويحبنا، فكيف لا نعرفه؟ لا إله إلا الله!!

هداية الآيات
معاشر المستمعين! أعيد تلاوة الآيات، ثم نضع أيدينا على نتائجها وعبرها، وننظر هل فهمنا أم لا، يقول تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75] أي: والعصا في يدك، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا [آل عمران:75] اسمع الجهل والكذب: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75] . عياذاً بالله من الكذب على الله، فنحل ما حرم، ونحرم ما أحل، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى [آل عمران:75-76] أي: ليس الأمر كما زعموا وحلموا، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:76-77] موجع.قال: [من هداية الآيات: أولاً: يجب أن لا يغتر باليهود ولا يوثق فيهم؛ لما عرفوا به من الخيانة]. يجب علينا معشر المؤمنين والمؤمنات أن لا نثق في يهودي ولا نغتر بصلاحه ولا بأمانته؛ لأننا ما نميز بين هذا وذاك، ما دام من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا إذا حاصرته وعذبته، إذاً الآية تقول: لا تغتروا باليهود -وقد اغتررنا بهم-، فهم الذين حلقوا وجوهنا، وهم الذين نفخوا السوء والباطل في بيوتنا وامتلأت بالكذب والخيانة، وهم الذين نشروا الربا بيننا، وأخذناه وعملنا به، وهم الذين علمونا المراقص، ودور اللهو، والسينما والتمثيليات.فكل خبث في بلاد المسلمين هم اليهود الذين نشروه، وتلك مهمتهم، وهم عازمون على أن لا يبقى صلاح ولا صالحون في بلادنا؛ لأنهم يعرفون أن حلمهم لن يتحقق إلا إذا هبطت البشرية إلى مستوى الحيوان، وانتشر العهر، والزنا، واللواط، والربا، والخيانة، والكذب، والتكالب على الدنيا حينئذ يمكنهم أن يحكموا العالم ويسودوا البشرية، فكل أنواع الفساد في العالم.. في أوروبا، وفي أمريكا، وفي اليابان.. وفي الأرض كلها التي تهبط بالإنسان من آدميته إلى الحيوانية أصابع اليهود الماسونية هي التي تغرس وتحصد؛ لأنهم كيف سيحكمون العالم؟ وكيف سيوجدون مملكة بني إسرائيل من النيل إلى الفرات، إذا كانت البشرية واعية، بصيرة تفرق بين الحق والباطل، بين الطهر والخبث، بين الصدق والكذب. إذاً اعملوا على هبوط هذه البشرية. وأنتم تعرفون.. من المجلات إلى الأفلام إلى الدعارة ...إلخ، فكل ذلك من أجل أن تهبط البشرية إلى حضيض الحيوانات، وحينئذ يسوسونها ويركبون ظهورها.فمعنى الآية: إياكم أن تغتروا باليهود أو تثقوا بهم أبداً، وإن بدا لك نصحهم وإرشادهم فلا تثق بهم. [ثانياً: من كذب على الله أحرى به أن يكذب على الناس]، فالذي يكذب على الله يكذب على الناس، فكل من يكذب على الله، ويحل ويحرم ويشرع، فهو على الناس أكثر كذباً، لم يخف من الله، فكيف يخاف من الناس؟![من كذب على الله أحرى به أن يكذب على الناس فاجتنبوا الذين يكذبون على ربكم]. [ثالثاً: بيان اعتقاد اليهود في أن البشرية غير اليهود نجس، وأن أموالهم وأعراضهم مباحة لليهود حلال لهم؛ لأنهم المؤمنون في نظرهم وغيرهم الكفار]، هذه قد ما يصرحون بها، لكن لو تطلع على دروسهم وخلواتهم تجد هذا، فالبشر غيرهم كلهم نجس في اعتقادهم يجوز استباحة دماءهم وأموالهم. [رابعاً: إن عظم ذنب من يخون عهده من أجل المال وكذا من يحلف كاذباً؛ لأجل المال قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من حلف على يمين يستحق بها مالاً وهو فيها فاجر، لقي الله تعالى وهو عليه غضبان )، والأحاديث النبوية: ( لا إيمان لمن لا أمانة له )، (لا إيمان) يصدق صاحبه فيه وهو مؤمن وهو لا أمانة له]، فالذي يخون الأمانات لا إيمان له. لو آمن كيف يخون العهود والمواثيق والرسول يقول: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق: إذا واعد أخلف -والعياذ بالله-، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث كذب )؟! وكم وكم من المصابين بهذه الفتنة يعدون ولا يفون، ويعاهدون ولا يوفون، ويكذبون ويتحدثون به.فعلى كل حال العلة هي الجهل، إن أردتم أن تستقيم أمتكم الإسلامية، فعلموها وعرفوها بربها حتى تعرف، فإذا عرفت أمكنكم تقويمها وإصلاحها، أما والجهل مخيم على قلوب النساء والرجال فهيهات هيهات أن يوجد بيننا ربانيون ونحن على هذه الوضعية. وصلى الله على نبينا محمد وآله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-03, 01:06 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (21)
الحلقة (162)

تفسير سورة آل عمران (28)

من طبائع يهود أنهم إذا قرءوا آيات الله من التوراة يلوون ألسنتهم بها ليحسب السامع لها أنها من كتاب الله، وهم بذلك يريدون إضلال العامة، ويتعمدون الكذب على الله عز وجل، وقد بين الله عز وجل أنه إنما يريد من عباده أن يكونوا ربانيين بما عندهم من الكتاب الذي يتعلمونه ويعلمونه للناس.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة كسابقتها واللاحقة بها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) حقق اللهم! رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. نستذكر أولاً الآيات التي درسناها في الدرس الماضي.. هل بقي في أذهاننا شيء؟ وهل في قلوبنا من نورها نور؟نتلوها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75]، فمنا نحن -أيضاً- المسلمين من إن تأمنه بقنطار وليس بألف قنطار لرده إليك، فنحن أولى بهذا. ولكن يوجد من أهل الكتاب ممن عرفوا الله والطريق إليه هم كما أخبر تعالى عنهم: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75]، أي: والعصا في يدك، فلماذا هذا؟فالأول عرف، والثاني لم يعرف.. الأول آمن واستقام على منهج الحق، والثاني إيمانه دعوى باطلة ومعرفته كاذبة هذه حاله. ولا ننسى قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له )، والمؤمن بحق هو من إذا ائتمنته لم يخنك، وإذا عاهدته لم ينكث عهده، فكل هذا يعود إلى الإيمان الصحيح والمعرفة السليمة، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]، فهذه فرية ودعوى نشرت فيهم وبينهم من قبل رؤسائهم المبطلين، فأصبحوا يفهمون أن أموال، وأعراض، ودماء غير اليهود مباح؛ لأن غير اليهود كفار أنجاس، وهم فقط المؤمنون الربانيون، فلهذا إذا استطاعوا أن يسلبوا مال أي إنسان أو يسفكوا دمه فلا حرج ولا يخافون من الله؛ لأن الله أذن لهم.قال تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75]، فهذه النزعة ما زالت إلى الآن يعيش عليها اليهود، ويتناقلونها ويعلمها الكبير الصغير. ثم قال تعالى: بَلَى [آل عمران:76] أي: ليس الأمر كما يزعمون ويدعون، مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76]، فأبطل ذلك الزعم نهائياً. ثم قال تعالى متوعداً: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77]، سواء كانوا من أهل الكتاب، أو من أهل القرآن، ( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ) ، فهذه هي التي رفعت مستوى المسلمين إلى أعلى مستوى عرفته البشرية، فلو تودع عند المسلم صناديق الذهب فلن يسلب منها ديناراً واحداً، فلو تأتمنه على أعز شيء فلو أن أحداً وضع -مثلاً- امرأته أمانة في بيته -أي: المسلم-، والله! ما نظر إليها ولا نالها بسوء. فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ [آل عمران:77] أي: يشترون ماذا؟ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77]، فكل أموال الدنيا قليلة بالنسبة إلى ما عند الله والدار الآخرة، أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ [آل عمران:77] أي: لا حظ ولا نصيب في الجنة، وما فيها من نعيم.وقوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [آل عمران:77]، أي: أن الله لا يكلمهم كلام التشريف والعزة والكمال، ولكن يكلمهم بالإهانة؛ قال تعالى: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108].وقوله تعالى: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:77] أي: لا يرون وجهه سبحانه، فهو محجوب عنهم، وَلا يُزَكِّيهِمْ [آل عمران:77]، أي: لا يثني عليهم في عرصات القيامة، ولا يطهرهم حتى في الإحراق في النار، وإدخالهم الجنة، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77] أي: موجع، وهو عذاب النار والعياذ بالله! ومن فوائد هذه الآيات:أولاً: يجب علينا معاشر المسلمين أن لا نغتر باليهود ولا نثق فيهم؛ لأنهم لا يفون بعهد وحسبهم أنهم يستبيحون أموالنا وأعراضنا. فالحذر الحذر، فإن تعاملنا معهم نكون يقظين وإلا أخذوا أموالنا. ثانياً: من كذب على الله أحرى أن يكذب على الناس. فالشخص الذي يكذب على الله، ويقول: قال الله وأحل الله، وحرم الله وهو كاذب، فهذا يكون كذب على الناس من باب أولى، وليس في أهل الكتاب أيما إنسان يكذب على الله لا تأمنه فإنه يكذب عليك من باب أولى، فالذي ما خاف الله ولا هابه وكذب عليه، فكيف لا يكذب على الناس؟! ثالثاً: بيان اعتقاد اليهود في أن البشرية غير اليهود نجس. والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، واليهود مشركون، والنصارى مشركون فهم نجس، لكن هم عكسوا القضية، وجعلوا البشرية أبيضها وأصفرها نجس، إلا ما كان من بني إسرائيل فإنهم أطهار أصفياء، مع أنهم أنجس الخلق في سلوكهم، فالشرك والاحتيال والمكر والخديعة والتكبر، وكل الأمراض مصبوبة عليهم وقالوا: لا. فالحمد لله أن فضحهم الله. رابعاً: عظم ذنب من يخون عهده من أجل المال.عظم وكبر ذنب عبد يخون عهده من أجل الدينار والدرهم، فالذي يحلف ويعاهد ثم يخون ذنبه عظيم، وكذلك من يحلف كاذباً لأجل أن يحقق مالاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة )، وقال له الرجل: ( يا رسول الله! وإن كان يسيراً؟ قال: ولو كان قضيباً من أراك ).فيا عباد الله! انتبهوا وارفعوا رءوسكم، فإياكم والحلف كذباً من أجل أن الحصول على مال قل أو كثر، فلا نبيع آخرتنا، ونمزق صلتنا بربنا؛ من أجل مال أغنانا الله عنه بالصبر، فلنجوع الليالي والأيام ولا نحلف بالباطل؛ لنأخذ مال الناس. فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد كان يضع الحجر على بطنه، ويعصبها بعصابة حتى يتمكن من المشي والصلاة من شدة الجوع، فهل حلف بالباطل أو كذب؟! وهذه الصديقة بنت الصديق امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبر في صدق، قالت: [ إن كانت إحدانا لتتحيض الحيضتين والثلاث في ثوب واحد ]، فلا مبرر؛ لأن نكذب ونخون ونحلف بالباطل من أجل أوساخ الدنيا، فأين الصبر؟ ولكننا ما عرفنا هذا ولا اجتمعنا عليه، فلو كشف عن حالنا لبانت عوراتنا. رابعاً: عظم من يخون عهده من أجل المال، وكذا من يحلف كاذباً؛ لأجل المال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ومن حلف على يمين يستحق بها مالاً وهو فيها فاجر ) أي: كاذب خارج عن نظام الحق ( لقي الله تعالى وهو عليه غضبان ) . فهذا استذكار لدرس يوم أمس نفعنا الله به.
تفسير قوله تعالى: (وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب ...)
قال تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78]، فهذه طائفة أخرى من طوائف أهل الكتاب التي سبق بيانها، وهذه الطائفة كانوا يعيشون في المدينة ويضللون المسلمين، وإخوانهم من اليهود، فيوجد فريق منهم يلوون ألسنتهم وكأنه يقرأ التوراة، وليس من التوراة في شيء، فيحسبه السامع أن هذا من الكتاب، وما هو من الكتاب.فهذه طائفة من اليهود تقل أو تكثر فهذا وضعها، يضللون العوام ويدعون أنهم يقرءون من الكتاب، وألسنتهم تلو الكلمات وما هي من التوراة، بل من كذبهم.قال تعالى: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78]، فقد فضحهم الله وأزاح الستار عنهم، وقد ورث هذا الضلال من قومنا من المسلمين، ويذكرون أن الله قال: كذا وكذا للعوام، والله ما قال، وما هو في كتابه، ويذكرون أقوال علمائهم، وكأنها قرآن وما هي بقرآن. فيجب أن نتحاشى أن نقول على الله ما لم يقل، وألا نكذب على إخواننا، ونقول لهم: هذا كلام الله، أو هذا حديث رسول الله، أو هذه سنة نبي الله، وليست من السنة ولا من الكتاب، ولكن فقط؛ من أجل تضليل إخواننا ليبقوا راسخين تحت أقدامنا نسودهم ونتحكم بهم؛ لأنهم جهّال ما عرفوا الطريق.وما يفعله اليهود يفعله غيرهم؛ لأننا بشر والشيطان عدونا جميعاً، فلا عجب أن يقع فينا هذا الباطل الذي ندد الله به على اليهود، وقد وقع، فمروج البدع وخاصة الشركيات منها يأتون بالأباطيل والأكاذيب، وينسبونها إلى الكتاب والسنة، وهذا في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا [آل عمران:78] يقل أو يكثر يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [آل عمران:78] أي: كأنه يقرأ في التوراة، وكأن هذا كلام الله يجوده، لِتَحْسَبُوهُ [آل عمران:78] أنتم أيها المستمعون مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران:78]، أي: من التوراة أو الإنجيل أو القرآن، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:78]، فكذبهم الله العليم الخبير، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78] أي: يعلمون أنه كذب، لكن المصلحة.. المنفعة.. الحاجة.. المنصب.. المركز.. هو الذي يحملهم على هذا الكذب.فهذه طباع البشر إلا من طهره الله، والذين يطهرهم هم الذين رزقهم إيماناً ويقيناً، وزادهم بعد ذلك علماً ومعرفة، وزادهم توفيقاً، فهؤلاء هم المعصومون.قال تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] أي: أنعم عليهم:أولاً: نعمة الإيمان، وهي تطلب من الله عز وجل، وهبة الله وعطيته.ثانياً: نعمة معرفة الله معرفة يقينية، فتثمر لصاحبها حب الله والخوف منه.ثالثاً: معرفة محاب الله ومساخطه، أي: وما يكره من الاعتقادات والأقوال والأعمال.والنعم الرابعة: التوفيق، وفقهم لأن يقدموا له المحبوب ويبعدوا عنه المكروه، فقال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [مريم:58]، وقال أيضاً: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] فنعم الرفيق.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآية
قال: [ هداية الآية] لهذه الآية الكريمة هداية في ثلاثة أمور[ من هداية الآيات:أولاً: بيان مكر اليهود وتضليلهم للناس، وخداعهم لهم باسم الدين والعلم]. تجلت هذه الحقائق في هذه الآية، فهذا فريق منهم بينت الآية مكرهم وتضليلهم للناس، وخداعهم لهم باسم الدين والعلم.[ثانياً: جرأة اليهود على الكذب على الناس، وعلى الله تعالى مع علمهم بأنهم يكذبون، وهو قبح أشد وظلم أعظم]، ولكن كتب الله شقاوتهم، ولا نشك بأن علمهم مزيف، ومعرفتهم سطحية، وإيمانهم كلا إيمان؛ إذ لو عرفوا وآمنوا ما وقعوا في هذا البلاء؛ بدليل أن الذين عرفوا كـعبد الله بن سلام وغيره نجوا، وسموا وارتفعوا.فمعرفة سطحية تقليدية كقولنا: علمنا فلان، وعلمنا فلان، وقال فلان وفلان لا تنفع، ودليل ذلك قول الله تعالى فيهم: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ [النساء:162]، استثنى الله سبحانه وتعالى أهل الرسوخ في المعرفة، أما المعرفة السطحية التي لا تباشر القلب فلا تنفع، لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُون َ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُون َ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:162].إذاً: ما زلنا نقول: العلم إن لم يخالط بشاشة القلب، وينير النفس ويزكيها لا ينفع.[ثالثاً: التحذير للمسلم من سلوك اليهود؛ كالتضليل والقول على الله والرسول؛ لأجل الأغراض الدنيوية الفاسدة].

تفسير قوله تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ...)
وما زلنا مع طائفة من أهل الكتاب؛ لنحذر سلوكهم وننجو من هلكتهم التي وقعوا فيها؛ لأن هذه تعاليم ربنا لنا؛ لهدايتنا وإكمالنا وإسعادنا.يقول تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80] عجب هذا القرآن! ‏

معنى قوله تعالى: (ما كان لبشرٍ أن يؤتيه الله الكتاب ...)
قوله: مَا كَانَ هذا النفي أبلغ من كلمة (لم يفعل)، (ما كان) أي: ليس من الممكن أو ما يتوقع أن يقع مثل هذا.لِبَشَرٍ أي: إنسان، فكلمة (بشر) اسم جنس كإنسان تحته أفراد بالبلايين، لكن نفي مطلق لا يتأتى هذا ولا ينبغي ولا يوجد، لِبَشَرٍ من البشر. أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ أي: ينزله عليه.ويؤتيه (الحكم) أي: الحكمة بمعنى الفقه في معرفة أسرار ذلك الكتاب، وهي هنا السنة؛ إذ السنة هي التي بها نفهم أسرار القرآن ومراد الله منه.والنبوة فوق ذلك، ينبئه، يكلمه تعالى بما شاء من وسائط، ويعلمه بالغيوب من عنده، فمثل هذا الشخص والله! ما يقول للناس: كونوا عباداً لي من دون الله.وهذا لا شك أن له سبب: فقد سمع يهودي من الرسول صلى الله عليه وسلم أمره ونهيه ودعوته، فقال: تريد أن نعبدك يا محمد؟ أتريد أن نتخذك رباً نطيعك في كل شيء؟ فأبطل الله هذه الفرية وأبعد هذه التهمة بعيداً، ووضعها في باب المستحيل، ولم يقع هذا، وفيها صفعة كبيرة للنصارى الذين ألهوا عيسى، وهو نبي الله أوحى إليه كتابه، وعلمه الكتاب والحكمة، واتخذوه رباً وإلهاً، فحاشى عيسى أن يرضى لأتباعه أن يعبدوه ويؤلهوه.وقد أراد مرة من أراد أن يسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب، ولم يرض أن يُسجد له كتحية كما يحيي بها الناس عظماءهم، وقال: ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) ولكن لا يسجد إلا لله؛ لأن السجود مظهر من مظاهر الخنوع والخضوع، والذلة للمسجود له، والتعظيم له، فوضع الجبهة والأنف على التراب لم يقع هذا إلا لمن يُعظّم ويُبجل ويكبر، وهذا لا يكون إلا للخالق عز وجل.فهذه الآية نفت تلك الدعوة الباطلة، وضربت النصارى على وجوههم، وحاشا عيسى عليه السلام أن يقول لهم: اسجدوا لي، أو علقوني في أعناقكم وألهوني، وهو من هو، فقد أوحى الله إليه بالإنجيل، وعلمه التوراة وعلمه الحكمة، فكيف يرضى بأن يعبد مع الله؟! مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79]، فقد يصدر هذا الكلام من الذي لم يؤت العلم والحكمة، والسنة والمعرفة.. نعم عبدوهم، فيوجد حتى بين المسلمين من يسجد له ويفرح بذلك.

معنى قوله تعالى: (كونوا ربانيين ...)
هذه الشخصية الفريدة الممتازة بهذه العطايا الإلهية وهي: الكتاب، والحكم بمعنى الحكمة، والنبوة.. مثل هذا والله! لا يقول للناس: اعبدوني، أو كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن يقول لهم: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].فالذي أعطي هذا العطاء يقول لأتباعه وأوليائه وتلامذته: كونوا ربانيين. والرباني: المنسوب إلى الرب، أي كونوا عباد الله، ونسبهم إلى الرب عز وجل؛ وذلك لصلاحهم، وطهارتهم، وصفاء أرواحهم، ولعلمهم ومعرفتهم أصبحوا ربانيين، تتجلى فيهم حقيقة ربانية وهي نسبة إلى الرب عز وجل؛ إذ صفت نفوسهم وزكت أرواحهم، وعلموا وعرفوا وعلّموا.. فنعم هؤلاء ربانيون ويقال فيهم: ربيون أيضاً نسبة إلى الرب.يقال: فلان رباني. تتجلى فيه حقائق الربوبية، من ذلته لله ومسكنته ودعائه، والحب فيه والبغض فيه، والعمل له، بل والحياة كلها تدل على أنه مع الله ومن الله. كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بما كنتم تعلمون الكتاب.. التوراة، الإنجيل، الزبور، الفرقان، الكتاب. فالذين يعلمون الكتاب ويدرسونه ويعلمون أسراره وشرائعه وما فيه يقول لهم: من أوتي الكتاب والحكم والنبوة كونوا كذا وكذا، وهذا الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الناس، وهكذا كان عيسى مع الحواريين يعلمهم، وكان موسى، وكان كل الأنبياء، فحاشى نبياً من الأنبياء أن يقول لأتباعه: اعبدوني.. اتخذوني رباً.. اسجدوا لي.. سبحوا وقدسوا باسمي!فالعبادة حق الله عز وجل لا تعطى لسواه أبداً مهما كان هذا العبد.إذاً: قضى على تأليه اليهود لرهبانهم، وقضى على النصرانية التي حولوها إلى تكليف وشرك محض، فقال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ [آل عمران:79] يقول: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].ولا ننسى ما علمناه من: ( أن من علم وعمل بما علم، وعلّمه غيره دعي في السماء عظيماً )، فهؤلاء هم الربانيون الذين يتعلمون العلم لله؛ ليعرفوا الله ومحابه ومكارهه، وليعرفوا كيف يؤدون ذلك المحبوب، وكيف يبتعدون عن ذلك المكروه، ويتعلمون ثم يعملون بما علموا، فيحلون ما أحل الله، ويحرمون ما حرم الله، وينهضون بالتكاليف والواجبات، ويبتعدون عن المنهيات والمحرمات، ثم لا يكتفون بذلك حتى ينقلوا ذلك النور إلى غيرهم، فيعلمون سواهم؛ حتى يشاهدوهم يعبدون الله عز وجل بما شرع، فهؤلاء سمت درجاتهم وارتفعت حتى إنهم يدعون في الملكوت الأعلى بعظماء الرجال، وهذه هي الجائزة التي من فاز بها هنئه، فليس عظيم بين الناس فقط، بل في الملكوت الأعلى.. هؤلاء هم الربانيون المنسوبون إلى الرب؛ لأنهم آمنوا واستقاموا على طاعة الله بالعلم والمعرفة ونشروا الهدى، ونشروا المعروف بين الناس، فحق لهم أن يسودوا بهذا اللقب (عظماء الناس).

تفسير قوله تعالى: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ...)
ثم قال تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ [آل عمران:80] أي: الرباني.. الإنسان الذي نزل عليه الكتاب، وأوتي الحكمة وأوتي النبوة، لا يقول لهم: اتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً. ‏

معنى قوله تعالى: (ولا يأمركم...)
وَلا يَأْمُرَكُمْ [آل عمران:80] أي: هذا الإنسان من البشر الذي آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة: أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا [آل عمران:80] أي: آلهة من دون الله تعبدونهم.ومن هنا إشارة إلى أن من العرب وهم بنو لحيان كانوا يعبدون الملائكة، أي: قبيلة من قبائل العرب يقال لهم: بنو لحيان، كانوا يعبدون الملائكة؛ لأن الشيطان قال لهم: إن الملائكة بنات الله، فتوسلوا بهم إليه ليقضي حوائجكم، فيعطيكم سؤلكم، وزين لهم كيف الملائكة بنات الله؟ وتأصلت هذه العقيدة ورسخت في أذهان العرب فانتزعها القرآن بعشرات الآيات، فقالوا: إن الله تعالى أصهر إلى الجن. أي: تزوج جنية، فأنجبت له الملائكة، فهم يعبدونهم من أجل التقرب إلى الله بعبادتهم، كما فعل جهال المسلمين بعبادة الأولياء والصالحين؛ تقرباً إلى الله ليقضي حوائجهم.قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النحل:62]، فالعربي لشرفه وعلو قدره لو قيل له: اسمع، امرأتك ولدت الليلة بنتاً، يغضب ويكره، ويصبح ما يمشي بين الناس من الخجل؛ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:58-59]، فـعمر في الجاهلية ولدت له بنتاً فدفنها ودسها في التراب وهي حية.إذاً: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النحل:62] أي: الذي يكرهونه وهو البنت يجعلوها لله، وهم ما يقبلونها! فهذا هو الأدب مع الله؟! فالذي ما تقبله أنت تجعله لله؟!فأين يذهب بعقلك يا عبد الله؟!قال تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، البنت هذه كيف يجعلونها لله؟!الشاهد عندنا: في أن بنو لحيان كانوا يعبدون الملائكة، ولهذا قال تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ [آل عمران:80] أي: كعيسى وغيره من الأنبياء اتخذهم النصارى آلهة. أَرْبَابًا [آل عمران:80] الأرباب: جمع رب، وأصل الرب هو السيد المالك، والله هو السيد المالك، ولكن لما تاب وملك عبد ذُل له وأطيع، فلفظ (الرب) أولاً: لا يطلق إلا على الله بدون قيد، فيجوز أن تقول: رب البيت، ربة البيت، رب المنزل.. لكن لا تقول: الرب. فهذا اللفظ لا يصلح إلا لله، ولا رب إلا الله، لكن مع القيد لا بأس؛ لأنه السيد المالك، وفوق ذلك الخالق المدبر الرازق، وبذلك أصبح الإله الحق والمعبود الذي لا معبود بحق سواه.فالألوهية تأتي بعد الربوبية، من لم يكن رباً لا يصلح أن يكون إلهاً، فإذا كان خالقاً رازقاً مدبراً يملك كل شيء.. نعم يذل له كل مخلوق ويعبده ويطيعه، أما إذا لم يكن رباً فكيف سيكون إلهاً؟!فلهذا عاب عليهم عبادة الأصنام والأحجار والملائكة والبشر.. الملائكة مخلوقون والأنبياء مخلوقون، فكيف يعبدون مع الله ويؤلهون؟! وَلا يَأْمُرَكُمْ [آل عمران:80] أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، النبي الذي أنزل عليه الكتاب، أوتي الحكمة وأسرار الشرع، ومعرفة مراد الله عز وجل، ونبئ وكلمه الله في اليقظة والمنام: لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا [آل عمران:80].

معنى قوله تعالى: (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)
ثم قال تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ [آل عمران:80]، فالذي يقول لك: اسجد لي، وأطعني فيما آمرك به، كأن معناه قال لك: اعبدني.(أيأمركم بالكفر) فمن عبد الله كفر بالله، وإليكم صور:الذي يقول: يا رجال البلاد! يا سيدي عبد القادر ! يا فاطمة ! يا حسين ! يا رسول الله! المدد.. المدد.. الغوث.فهذا يكون إثم، فقد جحد الله، وإياك أن تجهل، فلو ما جحده لقال: يا الله! يا رب العالمين! يا رب فاطمة والحسين ! يا ولي المؤمنين! لكن غطاه وجحده، ثم قال: يا فلان.. يا فلان.قال تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80]، الكفر: أي جحود حق الله عز وجل، فمن جحد حق الله وأعطاه غيره وتركه إلى سواه، فهذا هو الكفر الحقيقي. صدق الله العظيم.أيأمركم يا عباد الله! هذا الذي نزل عليه الكتاب، وأوتي الحكمة والمعرفة وأسرار الشرع ونبئ، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون؟! فهذا لا يقع، وهذا الاستفهام للإنكار والتأديب والتوبيخ.فنعم. هذا (يأمركم) أي: يقول لكم: يا عباد الله! كونوا ربانيين.. تعلموا الكتاب والحكمة، واعملوا وعلموا؛ لتصبحوا منسوبين إلى الرب عز وجل، ويا لها من نسبة شرف!مصلح مربي.. ربان السفينة أصلها وقائدها.إذاً: هكذا يقول تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79] لا والله! وَلَكِنْ [آل عمران:79] يقول: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] نكون ربانيين: بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] وتدرّسون، فكن ربانياً، وعلم الكتاب ودرسه وادرسه. وَلا يَأْمُرَكُمْ [آل عمران:80] أي: حاشى هذا النبي وهذا الولي أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً تعبدونهم بعبادة الله.وهذا الاستفهام للإنكار والتوبيخ: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80]، أي: بعد ما أسلمتم قلوبكم ووجوهكم لله، وأصبحتم عباده يأمركم بالكفر؟! معاذ الله.إذاً: كل من أمرنا بأن نعبد غير الله بالدعاء، أو بالاستغاثة، أو بالذبح، أو بالحلف، أو بالنذر، أو بالطاعة في المعصية، معناه أنه أمرنا بالكفر ونحن مسلمون.وهذه الآية تتناولنا معشر المؤمنين! تناولاً حقيقياً، وهذا رسول الله بين أيدينا.ما كان لرسول الله ولا لغيره من أنبيائه أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول للناس: اعبدوني؟! كونوا عباداً لي من دون الله؟! اسجدوا لي واركعوا؟! احلفوا بي وعظموني؟! لا. حاشاه.ولكن ماذا يقول لنا: كونوا ربانيين، فهيا نكن ربانيين بعلمنا للكتاب وتدريسه، فاجتماعنا على كتاب الله، وحفظه، وتعليمه، والعمل به هو الربانية الحقة.ولا يأمرنا أن نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً، أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيتين
قال: [معنى الآيتين:ما زال السياق في الرد على أهل الكتاب، وفي هذه الآية الرد على وفد نصارى نجران خاصة، وهم الذين يؤلهون المسيح عليه السلام. قال تعالى: ليس من شأن أي إنسان يعطيه الله الكتاب، أي: أن ينزل عليه كتاباً ويعطيه الحكم فيه وهو الفهم والفقه في أسراره، ويشرفه بالنبوة فيوحي إليه، ويجعله في زمرة أنبيائه، ثم هو يدعو الناس إلى عبادة نفسه فيقول للناس: كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79]؟ إن هذا ما كان، ولن يكون أبداً]. إي والله.[ولا مما هو متصور الوقوع أيضاً، فما لكم أنتم يا معشر النصارى تعتقدون هذا في المسيح عليه السلام؟ إن من أوتي مثل هذا الكمال لا يقول للناس: كونوا عباداً لي، ولكن يقول لهم: كونوا ربانيين تصلحون الناس، وتهدونهم إلى ربهم ليكملوا بطاعته ويسعدوا عليها، وذلك بتعليمهم الكتاب وتدريسه ودراسته].الحمد لله فنحن الآن ندرس الكتاب -أربع ليالي على الأقل- ونعلمه، ونالنا هذا الفضل، وأنتم ربانيون، فمعكم قال الله وقال رسوله، ما قال سيدي فلان. فالحمد لله.قال: [هذا معنى الآية. أما الآية الأخيرة فإن الله تعالى يخبر عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إنه لا يأمر الناس بعبادة غير ربه تعالى، سواء كان ذلك الغير ملكاً مكرماً أو نبياً مرسلاً، وينكر على من نسبوا ذلك إليه صلى الله عليه وسلم فيقول لهم: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80]، فهذا لا يصح منه ولا يصدر عنه بحال صلى الله عليه وسلم].وقد قلت: أرادوا أن يحيوه بالسجود، فقال: لا، بل قاموا له، قال: اقعدوا لا تقوموا لي، يخرج كالبدر ليلة القمر، فقد حاولوا أن يقوموا، فقال: لا تقوموا لي، فهذا الكمال المحمدي.

هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات:أولاً: لم يكن من الممكن لمن آتاه الله الكتاب والحكمة وشرفه بالنبوة أن يدعو الناس لعبادة نفسه، فضلاً عن عبادة غير الله.ثانياً: سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم، والحكمة فيصلحونهم ويهدونهم] هؤلاء هم سادات الناس، ما هو سيد وهو يشرب الحشيش ويعلم السحر، فسادات الناس الربانيون الذين يربون البشر على حب الله وطاعته، والخوف منه والرهبة، ليكملوا بتلك الآداب ويسعدوا في الدنيا والآخرة، حقاً هؤلاء هم السادة.قال: [سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم ] الإلهي [ والحكمة ] الربانية [ فيصلحونهم ويهدونهم ] إلى سبل الكمال والسعادة في الحياة أيضاً.[ ثالثاً: عظماء الناس من يعلمون الناس الخير ويهدونهم إليه ] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من علم وعمل بما علم وعلمه غيره، دعي في السماء عظيماً )، وهذا مروي عن عيسى عليه السلام.[ رابعاً: السجود لغير الله تعالى كفر ] والله العظيم! السجود لغير الله تعالى كفر، وما زال من المسلمين من يسجد للشيخ، يطيح أمامه ويسجد [ السجود لغير الله تعالى كفر؛ لما ورد أن الآية نزلت رداً على من أرادوا أن يسجدوا للرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون [آل عمران:80]؟! ].فلا سجود إلا لله، ولا ركوع إلا لله، وبعض الإخوان ينحنون عن القوم. نقول: اعتدل وصافح، لماذا تنحني؟! تعلموا هذا في ديارهم، يأتي يصافحك ينحني! لا. صافحني وأنت مستقيم.نحن هذه وأولناها وقلنا: يا عسكري! قل: السلام عليكم؛ خشية أن تكون عبادة لغير الله، فكيف نركع ونسجد؟اللهم ثبتنا على منهج الحق وتوفنا عليه، إنك ولينا وولي المؤمنين.واغفر لنا ولإخواننا المسلمين، وارحمنا وإياهم أجمعين، وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-03, 01:13 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (22)
الحلقة (163)

تفسير سورة آل عمران (29)

إن الأنبياء هم أفضل خلق الله سبحانه وتعالى وأصدقهم، وما يكون لمن هذا شأنه بعد أن شرفه الله عز وجل بالنبوة والرسالة أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه، فضلاً عن عبادة غيره، ومثل هذا الأمر من المحال، وما تصوره ولا ادعاه على أنبياء الله إلا اليهود والنصارى، وقد بين الله براءة أنبيائه من ذلك في كتابه العزيز.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الأربع تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:81-83].معاشر المستمعين والمستمعات! لا بأس أن نذكر أنفسنا بالآيتين اللتين درسناهما البارحة، والآيات صلتها قوية ببعضها البعض. قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79] لا، فحاشى وكلا، وَلَكِنْ [آل عمران:79] يقول لهم: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] أي: اعلموا واعملوا وعلّموا، تصبحون ربانيين، كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].فهذه بشرى لنا -والحمد لله- أننا ربانيون، فالذين يعلمون كلام الله لعباده ويدّرسونه ويدرسونه هم الربانيون، لكن لا ننسى أنهم يعلمون ويعملون ويعلّمون، ( من علم وعمل بما علم، وعلّمه غيره دعي في السماء عظيماً )، فمن يرغب في أن يكون من الربانيين؛ فليتعلم كتاب الله، وليعمل بما علمه فيه، ولينقله إلى غيره فيعلمه سواه، فهذا هو الرباني، فمثل هذا لا يرضى أن يسجد له الناس أو يركعوا وينحنوا له، أو يحلفون برأسه، أو يستغيثون به. فقوله تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ [آل عمران:79] أي: الفقه في الدين، وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79] فهيهات هيهات أن يقع هذا.فرد الله بهذا على اليهود والنصارى وعلى بدعهم، فقال لهم: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80] فحاشى وكلا.هذه فزنا بها، هي مع الآتيات من الآيات البينات.

تفسير قوله تعالى: (وإذا أخذ الله ميثاق النبيين...)
يقول تعالى مخاطباً رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران:81] أي: اذكر لطائفة اليهود والنصارى الوقت الذي أخذ الله فيه ميثاق النبيين، ما من نبي ينبئه الله ولا رسول يرسله الله إلا يأخذ عليه، وعلى أمته هذا العهد الموثق المضبوط بالالتزامات.وهو: إذا بعث الله نبياً أو أرسل رسولاً على ذلك النبي أو الرسول وعلى أمته أن يؤمنوا به ويصدقوه، وتورط اليهود والنصارى، أخذ الله هذا الميثاق على عيسى كما أخذه على موسى، وهم يدعون اتباع موسى وعيسى، وبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فكان الواجب الحتمي أن يؤمنوا به ويصدقوه، فعكسوا فكفروا به وكذبوه، فيا ويلهم من الخلود في العذاب الدائم. ‏

معنى قوله تعالى: (وإذا أخذ الله ميثاق النبيين ...)
قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران:81] والميثاق هو: العهد الموثق بالأيمان لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمران:81] أي: مهما آتيتكم، وبلغ ذلك ما بلغ في العلم والمعرفة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ [آل عمران:81]؛ لأن الرسول إذا كان يكذب ما عند الأنبياء من قبله ما هو برسول، ساحر أو دجال؛ لأن دعوة الله واحدة، فهيهات هيهات أن يأتي رسول ويكذب بما جاء به موسى أو عيسى أو إبراهيم، فهذا كاذب؛ فكل رسول يبعث ويرسل يصدق من كان قبله، ومن عاصرهم ووجدهم آمن بما عندهم ولا يرد شيئاً أو يكذبه.إذاً: اذكر يا رسولنا لهؤلاء اليهود والنصارى من نجران وغيرهم إذ أخذ الله ميثاق النبيين، وهم مائة وأربع وعشرين ألف نبي، مهما آتيتكم من كتاب أيها الرسل والأنبياء، وآتيتكم من حكمة وفقه ومعرفة.

معنى قوله تعالى: (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم...)
قال تعالى: ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ [آل عمران:81] أي: وتقفون إلى جنبه يبلغ دعوته، فهذا الميثاق أخذه الله على الأنبياء والرسل.ثم قوله: قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ [آل عمران:81] أي: الاستفهام تقريري، وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران:81] أي: عهدي وميثاقي قَالُوا أَقْرَرْنَا [آل عمران:81] أي: أقررنا بهذه القضية وسلمنا.قال إذاً: اشهدوا أيها الرسل والأنبياء على هذه القضية التي تعلقت بكم، والله معكم من الشاهدين، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]كيف يصح إذاً ليهودي أو نصراني يعرف هذا ويكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويكذب بما جاء به؟ كيف تبقى له صلة بالدين أو الإسلام أو العبادة؟!وهذا الله عز وجل يخبر عن نفسه ويقول لرسوله: اذكر هذا لليهود والنصارى المتبجحين بأنهم على الحق، وأنهم على الدين الصحيح، واذكر لهم هذا الميثاق، وهو قوله تعالى للنبي والرسول: إذا جاء رسول من رسلي أو نبي من أنبيائي، مهما كنت يا نبي، ويا رسول من العلم والمعرفة والكتاب والوحي، يجب أن تصدق بهذا الرسول وتنصره، ولا تقف ضده ولا تخذله؛ لأن دعوة الله واحدة هي: أن يعبد الله وحده عبادة تسعد أهلها في الدنيا والآخرة، وتنجيهم من الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة.فهل يصح لليهود أو النصارى أن يردوا على هذا؟!قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ [آل عمران:81] أي: مهما آتيتكم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمران:81] ما تعتزوا بذلك وتقولوا: لسنا في حاجة إلى موسى إن بعث أو محمد، فقال: ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ [آل عمران:81]، فإن جاء الرسول يكذب فليس برسول الله، هذا رسول الشيطان؛ لأن الله واحد ودعوته واحدة، والمبلغون عنه أمرهم واحد.

معنى قوله تعالى: (لتؤمنن به ولتنصرنه...)
ثم قال تعالى: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ [آل عمران:81] واللام لام التوكيد للقسم، لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ [آل عمران:81] أي: ليس مجرد إيمان ويتركونه للأعداء، أو يقوم بالدعوة وحده وهم يضحكون، لا بد من الإيمان والنصرة، وأن تقفوا إلى جنبه حتى يبلغ رسالة ربه.

معنى قوله تعالى: (قال: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ...)
وقوله: قَالَ [آل عمران:81] أي: الله عز وجل لأولئك النبيين والرسل: أَأَقْرَرْتُمْ [آل عمران:81]؟ أي: بهذا الذي اعترفتم؟ قالوا: أقررنا وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران:81] وعهدي وميثاقي؟ قَالُوا أَقْرَرْنَا [آل عمران:81].إذاً: قَالَ فَاشْهَدُوا [آل عمران:81] قالوا: شهدنا، قال: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].

تفسير قوله تعالى: (فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)
فالآن لو يأتينا رسول أو نبي ويصدق ما عندنا، فلا نقف إلى جنبه ولا ننصره؛ لأن الله أغلق هذا الباب، وأعلمنا أنه ختمها بخاتم لا ينفض ولا ينقض، فمهما جاءنا رجل يدعي هذا نرد عليه أنه كذاب ودجال وليس برسول الله، لكن قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت الرسل والأنبياء تتوارد في البلد الواحد عشرات، يجب على كل نبي أن يؤمن بالنبي الذي قبله، أو الذي جاء بعده، وأن ينصره ولا يخذله في دعوته، لكن بعد أن ختم الله الرسالات بخاتم الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فكل من جاء يدعي النبوة وقال: أنا نبي أو رسول فهو ساحر ودجال يستتاب ثلاثة أيام أو يقتل.قال تعالى: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ [آل عمران:82] أي: أعرض عن هذا العهد ونقضه ونكثه، ولم يؤمن بمن جاء يحمل هداية الله ولم يقف إلى جنبه ناصراً له، هذا هو الفاسق الخارج عن أمر الله وطاعته، فمن تولى بعد ذلك العهد والميثاق الذي أُخذ عليه، والمراد بهم: الرسل وأتباعهم وأممهم فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:82] وإن كان الرسول -والنبي حاشاه أن يفسق-، ولكن من باب هذا الخطاب لأمته، ومن باب الفرض أيضاً ليفهموا لو كان نبياً وفسق عذابه معروف.

تفسير قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض...)
ثم قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]. ‏

سبب نزول الآية
هنا ذكر في سبب هذه الآية: أن كعب بن الأشرف اليهودي -عليه لعائن الله- تجادل مع النصارى من نجران أو من غيرهم، وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم، في أي الفريقين على ملة إبراهيم النصارى أو اليهود؟ فحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن كلا الفريقين ليس على ملة إبراهيم، لا اليهود ولا النصارى، أي: كلا الفريقين بريء من ملة إبراهيم؛ لأن ملة إبراهيم هي التوحيد وهي أن يعبد الله بما شرع وحده، فكل من عبد بغير ما شرع الله فهو من المبطلين، وكل من عبد الله وأضاف إلى عبادة الله عبادة غيره فهو مشرك وليس على ملة إبراهيم، (( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))[النحل:120].إذاً فلما أعلمهم بالحق والواقع تبرءوا منه وقالوا: لن نؤمن بك. فقال تعالى: (( فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ))[آل عمران:82].

معنى قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون)
ثم قال تعالى موبخاً مؤدباً أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران:83] أي: كيف يطلبون ديناً غير دين الله، ويطلبون عبادة ما شرعها الله يعبدونه بها؟! فأين يذهب بعقولهم؟مع أنه أسلم لله من في السماوات ومن في الأرض، فلا يوجد كائن في الملكوت الأعلى أو الأسفل من الإنس والجان، والملائكة، والحيوان، والنباتات، والمخلوقات.. فكلها ذلت وخضعت لأمر الله يحكم بها ما يريد.والكافر ما أسلم وما خضع، يحييه الله متى شاء ويميته متى شاء، ويفقره متى شاء ويغنيه متى شاء، ويصححه ويمرضه، فهل يستطيع الكافر أن يخرج عن تدبير الله فيه؟!فكل الكائنات خاضعة مسلمة منقادة لله عز وجل، يحكم فيها بما يريد، ويدبرها كما يشاء، كيف يرغبون عن الإيمان بالله وعبادته وحده، وله أسلم من في السماوات والأرض؟وإذا قلنا: من في السماوات نذكر ذلك العالم الأقدس الأطهر وهم الملائكة الذين لا يحصي عددهم إلا الله، -وحسبنا- لما في الروضة سمعوا هزة ودوي، وقالوا: ما هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، ما عليها موضع شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد )، ذلك العالم الذي لا يعصي الله عز وجل، ولا يترك ذكره ولا لحظة، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، وعالم الجن خاضع لأمر الله، ينفذه فيك ما شاء، عالم الإنس كذلك، عالم الحيوان.. الكل أسلم، أي: انقاد وخضع لأحكام الله فيه وقضائه عليها.فالكافر أوجده الله، ويميته الله، ويعطيه ويمنعه الله ويعزه ويذله الله عز وجل، فما خرج عن تدبير الله وحكمه ولا لحظة.

معنى قوله تعالى: (وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً)
قال تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [آل عمران:83] أي: الملائكة والمؤمنون والمؤمنات أسلموا طوعاً، وأذعنوا لله وخضعوا لأمره، والكفار مكرهون على أن ينفذ الله أمره فيهم، هذا يعميه وهذا يبصره، وهذا يعطيه وهذا يمنعه، وهذا يميته وهذا يحييه.

معنى قوله تعالى: (وإليه يرجعون)
ثم قال تعالى: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83] أي: إلى الله المصير، ومن ثم يتم الجزاء، جزاء العدل الإلهي عز وجل، فلو كانوا يرجعون إلى غيره لهان الأمر، يمكنهم أن يعربدوا كما يشاءون ما هم راجعين إليه، اخرجوا عن طاعتي وافسقوا عن أمري؛ لأنكم لا تعودون إلي، ولكن المصير إلى الله عز وجل: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].قال تعالى: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83] أي: ليس باختيارهم، يرجعون رغم أنوفهم وحسب مراد الله منهم.أين يوجد الله الذين يرجعون إليه؟قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:67-69] جاء الرب عز وجل. وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:69-70].وانظر: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر:71] أي: يساقون كما تساق الإبل والبهائم وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر:71] أي: زمرة بعد زمرة، وطائفة بعد أخرى حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:71] أي: كانت الأبواب مغلقة؛ حتى لا يخرج لهبها ولا تتلطف ولا تصاب ببرودة. حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُ مْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِي نَ [الزمر:71-72]. فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِي نَ [الزمر:72] أي: الذين رفضوا أن يسجدوا لله، ورفضوا أن يخضعوا لله، ورفضوا أن يسلموا لله أمره في عباده، فامتنعوا عن طاعته وعبادته.وغير الكافرين أين هم؟ قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:73] أي: أبواب الجنة الثمانية وهي مفتوحة من قبل، وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]. سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزمر:73] وطهرتم فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ [الزمر:73-74] أي: أرض الجنة فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:74-75].فاستقر أهل النعيم في نعيمهم وأهل العذاب في عذابهم، وانتهت الحياة بكاملها، وتمت حياة قائمة دائمة باقية ببقاء الله عز وجل إلى الأبد.موكبان أو مواكب صدر حكم الله: أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى [غافر:50]، وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71].إذاً: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِي نَ [الزمر:72].أهل الجنة: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الزمر:73] كيف يتقون ربهم؟! فهل: كما نتقيه، نجعل بيننا وبين غضبه وقاية ما يغضب علينا، إذا قال: صوموا صمنا، وإذا قال: أفطروا أفطرنا، إذا قال: خذوا أخذنا، وإذا قال: هاتوا أعطينا، بهذا يتقى الله عز وجل.ولكن معاشر المستمعين والمستمعات! لا ننسى أنه لا بد من معرفة كيف نتقي الله وبم نتقيه؟فهيهات هيهات أن يتقي الله عبد وهو ما عرف ما يحب الله ولا ما يكره، وهيهات هيهات أن تتقي الله امرأة وهي لا تعرف ما يحب الله ولا ما يكره، ولا تعرف كيف تؤدي ذلك المحبوب له، وكيف تقدمه على الصورة التي يحبها وهي التي شرعها، وبينها في كتابه وعلى لسان رسوله.فاليهود والنصارى أعرضوا عن دعوة الله، وحملهم على ذلك الكبر -والعياذ بالله- والطمع وأوساخ الدنيا، فضلوا وأضلوا أمماً وأجيالاً تعيش إلى جهنم. فالحمد لله الذي نجانا من هذه الفتنة.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال: [معنى الآيات: ما زال السياق] أي سياق الآيات [ في الرد] على من؟ [ على نصارى نجران، فيقول تعالى لرسوله: اذكر لهم -يا نبينا- ما أخذ الله على النبيين وأممهم من ميثاق ] وهذا الميثاق هو [ أنه مهما آتاهم من كتاب وحكمة ثم جاءهم رسول مصدق لما معهم من النور والهدى ليؤمنن به ولينصرنه على أعداءه ومناؤيه من أهل الكفر، وأنه تعالى قررهم فأقروا واعترفوا ثم استشدهم على ذلك فشهدوا وشهد تعالى أيضاً ] سبحان الله! كيف اليهودي أو النصراني يسمع بهذا ويفهم كما فهمنا ويبيت كافراً؟ أمراً عجب [ فقال: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81] ثم أكد تعالى ذلك مرة أخرى بأن من يعرض عن هذا الميثاق ولم يف به يعتبر فاسقاً ويلقى جزاء الفاسقين ]. فجزاء الفاسقين الهون والدون، والشقاء والبلاء في دار الخلد التي لا تطلب الفناء، أي: عذاب أبدي.[ قال تعالى: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ [آل عمران:82] -أي: لا غيرهم- الْفَاسِقُونَ [آل عمران:82] ].قال: [ وقد نقض هذا الميثاق ] وحلوا ما أبرم فيه [ كل من اليهود والنصارى ]، فاليوم وقبل اليوم نقضوا، [ إذ لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وقد أُخذ عليهم الميثاق بالإيمان به، وبنصره، فكفروا به، وخذلوه ] بل وحاربوه [ فكانوا بذلك الفاسقين المستوجبين لعذاب الله تعالى ] في الدنيا والآخرة.قال: [ ثم وبخ تعالى أهل الكتاب قائلاً: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران:83] ] فالهمز هنا للتوبيخ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران:83] يبغون: أي الإسلام.[ أي يطلبون، ولله أسلم، أي: انقاد وخضع من في السموات من الملائكة والأرض من سائر المخلوقات الأرضية طوعاً أو كرهاً، أي: طائعين أو مكرهين وفوق هذا أنكم ترجعون إليه فيحاسبكم، ويجزيكم بأعمالكم.هذا ما تضمنته الآية الأخيرة، إذ قال تعالى : أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران:83]] هذا الاستفهام توبيخ وإنكار عليهم غير دين الله يطلبون. وَلَهُ [آل عمران:83] أي: لله أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:83] وأنتم لا تسلمون؟ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].

هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات:أولاً: بيان سنة الله تعالى في الأنبياء السابقين، وهي أن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً].مثلاً: ما كان من هارون مع موسى؟ وهل خذل موسى هارون أو هارون خذل موسى؟ لا والله.وما كان من إسماعيل وإسحاق ويعقوب مع بعضهم البعض في عصر واحد، هل كذّب أحدهم الآخر أو خذله أو وقف ضده، أو قال: لا تصدقوا فلان؟ الجواب: لا.وداود وسليمان نبيان رسولان فهل خذل أحدهما الآخر أو كذب أحدهما بالآخر؟ الجواب: لا. والله أبداً، بل كانا مسلمين مصدقين لبعضهم البعض.وزكريا ويحيى وعيسى مع بعضهم البعض هل كذب أحدهم الآخر؟ لا. شأنهم شأن العلماء في أمة الإسلام، فهل كذب أبو حنيفة مالكاً وقال: لا تأخذوا برأيه؟ لا والله.وهل كذب مالكاً الشافعي ؟ وهل كذب أحمد الشافعي أو مالك ؟ الجواب: لا؛ لأن أمرهم واحد: الإسلام لله عز وجل، وإلى الآن العلماء بحق، العارفين لا يكذب بعضهم بعضاً ولا يخذل بعضهم بعضاً، والله! ما كان، بل ينصر بعضهم بعضاً ويصدق بعضهم بعضاً، ومن جاء بالتدجيل والباطل والكذب فهو مرفوض ومرمي به بعيداً ولا يقبل، فإذا جاء الآن -كما قلت- من يدعي النبوة يقتل، وقد ادعاه ثلاثون رجلاً فلم تقبل منهم قتلوا.. يستتابوا ثلاثة أيام إما أن يتوب ويرجع ويقول: لست برسول ولا نبي وإلا يقتل.آخر واحد منهم جاءنا في البيت في القرن الخامس عشر كنا مع طالب في البيت فقال: أنا نبي الله! فقلت: أنت نبي الله؟! قال: نعم، آمنوا بي. قلنا له: كيف؟ اتق الله، قد ختم الله النبوة. فقال: ليس الأمر لكم، أنا على علم، أنا نبأني الله، أنا نبي.. اتبعوني.جاء: السلام عليكم. يا عبد الله! وعصاه في يده، هذا الشاب جاء من القصيم.. أو من الجنوب، يدعي أنه نبي، قال: وأنت نبي؟ قال: نعم، وانهال عليه بالعصا، اضرب.. اضرب حتى صرخ، أنا كاذب لست بنبي، هذا في في حارة السحمان.وهذا كان قبل ثلاث أو أربع سنين.وهكذا ادعى النبوة بعد نبينا ثلاثون رجلاً، الآن واحد وثلاثين، لكن يفضحون منهم من يقتل ومنهم من الضرب فقط يؤدبوه ويسكت.لكن قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ما ظهر نبي نبأه الله إلا وآمن به من كان قبله، ورحب به وأهل وسهل ووقف إلى جنبه؛ لأنه المبلغ عن الله عز وجل الرسالة، وهي أن يعبد الله بالأمر والنهي؛ من أجل أن يكمل الناس ويسعدوا في الدنيا والآخرة.فالعباد ت من الوضوء، ومن الطهارة، إلى الجهاد والرباط ما خرجت عن كونه نظاماً إلهياً لإسعاد البشرية وإنجائها، فما من شريعة شرعها الله إلا وهي تؤدي هذا الغرض السامي، أن يسعد الناس ويطهروا ويكملوا في الدنيا ويكملون ويسعدون في الدار الآخرة في جنات النعيم، فهي دعوة واحدة، وملة واحدة، فمن جاء بنبوة قال الأنبياء: مرحباً، إن خالفهم أو عارضهم كذاب، دجال، ساحر.. يضربونه.فالآن نحن في المدينة لو يجيء عالم يدعي العلم أو كذا ننظر، إذا خرج عن منهج كتاب الله ورسوله فهو ساحر أو دجال، إن وافق ما في كتاب الله وسنة الرسول قدرناه وأجللناه وكبرناه، ووقفنا إلى جنبه، فهذه هي دعوة الله.وصل الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-08, 12:31 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (23)
الحلقة (164)

تفسير سورة آل عمران (3)


أنزل الله عز وجل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثله أو بسورة أو آية، وهم إلى اليوم عاجزون عن ذلك، وسيستمر عجزهم إلى قيام الساعة، فالقرآن كلام الله منه المحكم ومنه المتشابه، والمؤمنون القانتون يتبعون المحكم منه ويتركون أمر المتشابة لله، وأما الذين زاغت قلوبهم فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة لعباد الله المؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات .... )
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )، فهنيئاً لكم معشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث من سورة آل عمران عليهم السلام، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:7-9].وقبل أن نشرع في تدارس هذه الآيات أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات أن نيفاً وثمانين آية من هذه السورة نزل في وفد نجران، نجران تقع في جنوب المملكة، وكان فيها نصارى، وجاءت النصرانية من الشام وتوغلت هناك وظهرت، فلما رغبوا في محاجتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوا وفداً منهم مكوناًمن ستين فارساً، وجادلوا وهزموا شر هزيمة!لقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة فرغبوا، فما إن شاهدوا رسول الله وقد خرج كأنه البدر وإلى جنبه الحسن والحسين ووراءه علي وفاطمة -وهؤلاء أهل البيت- حتى انهاروا وقال رئيسهم: لو باهلتم هذا لم تبق فيكم عين تطرف، ورضوا بالجزية يدفعونها وعادوا إلى ديارهم. إذاً: قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:7] تقرير لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقرير لألوهية الله العليم الحكيم الحي القيوم.

عظمة القرآن الكريم وتحدي الله للإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله
قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:7] هو لا غيره ( الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) الفخم، العظيم، الجليل. إي والله، الله لا أفخم من القرآن ولا أجل ولا أعظم منه، ومن أراد أن يقول: كيف؟ فقد تحدى الله به الإنس والجن إلى اليوم على أن يأتوا بمثله فلم يأتوا بمثله، وتحدى العرب، وهم أرباب الفصاحة والبيان؛ على أن يأتوا بعشر سور من مثله فوالله ما استطاعوا، ثم تحداهم بعد فترة بسورة واحدة فما استطاعوا، وأعلمهم أنهم لن يستطيعوا، فأيأسهم، ولنقرأ لذلك قوله تعالى في أوائل سورة البقرة: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24]. هل فهمتم: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، هذه اللام الزمخشرية. ومن باب البيان والشرح والتفسير للأبناء والإخوان على عادتنا نقول: لن يستطيع أحد أن يقول: وَلَنْ تَفْعَلُوا إلا الله، فهو الذي يملك القلوب والوجوه، وبيده زمام كل الحياة.ونقول: في اليابان الصناعة تفوقت، فهل تستطيع أن تنتج آلة من الآلات الصناعية وتقول: أتحدى البشرية لمدة خمسين سنة أن يوجدوا مثلها؟ هل يمكن أن يقول أهل اليابان هذا ؟ لا يمكن. لما ما قالوا وتبجحوا فهل تستطيع أمريكا أو ألمانيا أو البلاشفة الحمر من الشيوعية أن يتحدوا العالم في إحداث صناعة من الصناعات؟ لا يستطيعون؛ لأنهم لا يدرون متى ينتج غيرهم ذلك ويتحداهم، أما الله جل جلاله وعظم سلطانه وهو الحي القيوم فقال لهم: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]. وهل فعلوا؟ مرت ألف وأربعمائة سنة وخمسة عشر عاماً واستطاع العرب أن يأتوا بسورة كسور القرآن؟ كتبوا وألفوا عشرات بل مئات المصنفات، فأين هي من كلام الله رب العالمين؟! لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].

معنى الآيات المحكمات
قال تعالى: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [آل عمران:7]. أي: من هذا الكتاب العظيم الجليل آيات محكمات، لا خلل فيها أبداً، ولا يتطرق إليها الضعف ولا النقص ولا الخلل بحال، فهي محكمة متقنة، ظاهرة المعنى، بينة الدلالة، ليس فيها أبداً من الشبه ما يصرف الناس عنها، محكمة، متقنة. ومعنى محكمة بالمعنى الذي يراد هنا: أنها ظاهرة المعنى بينة الدلالة لا تلتبس على ذي عقل أو ذي فهم من البشر.إذاً: هُنَّ [آل عمران:7]، أي: تلك الآيات المحكمات، أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، تعرفون الأم أم لا؟ أم الأولاد من بنين وبنات منها انحدروا ووجدوا، فهذه الآيات المحكمات كل الأحكام الشرعية في بيان العقيدة، وفي بيان الحلال، الحرم، والآداب، والأخلاق، والسياسية، والمال، والاقتصاد، والحرب والسلم، كلها متولدة عنها، كما أن الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] هي أيضاً أم الكتاب، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، والسبع المثاني: هي الآيات السبع، سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم القرآن، وأم الكتاب، ومعلوم عندنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فلا صلاة له )، وقوله: ( من لم يقرأ بأم الكتاب فصلاته خداج خداج خداج ). لم؟ لأن الفاتحة اشتملت على العقائد، أسماء الله وصفاته، وربوبيته وألوهيته، اشتملت على البعث والدار الآخرة في كلمة يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، واشتملت على أنواع العبادات والقرب على تنوعها واختلافها، كما اشتملت على قصص وأحداث العالم إذا قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فهي حقاً أم الكتاب وفاتحة الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني.

معنى الآيات المتشابهات
قال الله: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]: ( هُنَّ ). أي: تلك الآيات المحكمة، (أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ) أي: وآيات أخر مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]. ومعنى التشابه فيها: أنه لا يظهر للسامع أو للقارئ معناها؛ لوجود التشابه؛ من باب الامتحان والاختبار والابتلاء، ومن باب أن نعرف أننا عجزة ضعفاء، فلو لا أن الله أقوانا على فهم الكتاب والله ما فهمناه! ولولا أنه علمنا والله ما علمنا، فمن نحن؟ آيات متشابهة يعجز العقل البشري عن إدراك معناها، وفهم مراد الله تعالى منها، ولو كان العرب مثلنا لهان الأمر، ولكنهم كانوا أرباب البيان واللسان، ويقفون عند هذه الآيات المتشابهة فيطأطئون رءوسهم.ومن الآيات المتشابهات: الحروف المقطعة في فواتح السور: الم [آل عمران:1]؟ الله أعلم بمراده، طسم [الشعراء:1]، الله أعلم بمراده، كهيعص [مريم:1]، الله أعلم بمراده به، فهذا من المتشابه، وأهل العلم والبصيرة وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، فالمحكم والمتشابه أنزلهما الله في كتابه على رسوله، والكل من عند الله، فكون عقولنا قصرت وما استطاعت أن تدرك فهذا ليس عيباً في الكلام الإلهي، بل هذا آية عجزنا وضعفنا عن فهم كلام ربنا عز وجل.يأجوج ومأجوج كيف تتصور أولئك القوم؟ كيف تدرك ماهيتهم؟ الله يخبرنا فيقول: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ [الأنبياء:96-97].. الآيات.من يأجوج ومأجوج؟ كيف؟ سلم الأمر لله، فهذه الآية ليست كآية: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].نزول عيسى عليه السلام: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف:61]، هذا عيسى بن مريم، علامة على قرب الساعة. كيف ينزل؟ كيف أخذ؟ كيف رفع؟ قل: آمنت بالله وسلمت.ما معنى قوله تعالى في عيسى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171] ؟ قل: آمنت بالله. وهذا شأن أهل العلم، قال تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وقال تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، اللهم اجعلنا منهم.

التحذير من الزيغ واتباع المتشابه من الآيات
قال الله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، أتدرون ما الزيغ هذا؟! يقال: زاغ يزيغ الثعلب؛ إذا مال، وزاغ البصر؛ إذا مال، فالزيغ: هو الميل، والقلب إذا زاغ مال عن الحق.إذاً: الزيغ: هو الميل، ميل إلى الشهوات والأهواء، وميل إلى الدنيا وما تحويه من هذه الملذات الفانية، فأصحاب القلوب المائلة الزائغة عن الحق يبحثون عن الآيات المتشابهة، ويأخذون في تأويلها؛ لإبطال الحق، ولتشتيت وتفريق جماعة المؤمنين، وقد حذر منهم أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فقال: ( إذا رأيتم الذين يبتغون المتشابه فأولئك الذين سماهم الله؛ فحذروهم! ).وهنا أذكر صورة توضح لكم أكثر: النصارى لما قيل لهم: كيف تؤلهون الله وهو الإله الواحد الأحد؟ قالوا: في كتابكم في القرآن يقول عز وجل: فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم:12]، وهذا الضمير يعود إلى متعدد ولا يعود إلى واحد.وقالوا: أيضاً قوله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ [النحل:40]، قالوا: هذه النون نون الجماعة. هذا المتمسك عندهم، وهو والله لأوهى من خيط العنكبوت.فقلنا لهم: هذه لغة القرآن، لغة العرب، إذا كان المتكلم ذا جناب عظيم وسلطان قاهر وقدرة باهرة يتكلم بصيغة الجمع، وأنتم رؤساءكم إذا تكلموا يتكلمون كذلك: نحن فعلنا، نحن نفعل، نحن الذي قررنا هذا، هذا نظام دولتنا، فهذه شبهة لا تزن جناح بعوضة، فالذي قرره وحدانيته وقال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، هو الذي تكلم بهذا الكلام؛ ليعلمنا بعظمته وجلاله، وأن الملكوت كله بيده، يحيي ويميت، يعطي ويمنع، يرفع ويضع، يبسط ويقبض، فهو يتكلم بصفة التعظيم، فالذين يريدون أن يتمسكوا بالباطل؛ ليستمروا على باطلهم وعلى أوساخهم وفهومهم السقيمة هم الذين يبحثون عن كذا آية من المتشابهات ويتشبثون بها، مع أن المتشابهات آيات جزئية ولا تمثل واحد إلى مائة من الكتاب الكريم، فأكثر الآيات من المحكم.إذاً: إذا رأيتم الذين يتتبعون هذا المتشابه فاحذروهم، فإنهم الذين سماهم الله، فقال عنهم: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]، أي: من القرآن ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7]، وطلباً لها.يفتنون من؟ يفتنون المسلمين عن دينهم، ويبعدونهم عن رحمة ربهم؛ ليصبحوا أمثالهم هابطين لاصقين بالأرض وأوساخ البشرية، ويؤلهون الأصنام والأحجار ويعلقون الصلبان. الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، القرآن كله دار على هذه المحكمات؛ إذ فيها بيان الحلال والحرام، بيان ما ينجي ويسعد، بيان ما يشقي ويؤذي، بيان ما يعز ويذل وَأُخَرُ [آل عمران:7]، آيات أخرى متشابهات، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7] والزيغ: الميل من الحق إلى الباطل، ومن المعروف إلى المنكر، ومن الخير إلى الشر؛ اتباعاً للشهوات والأهواء، نسأل الله أن يطهر قلوبنا.ويروى: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أيام الردة التي أعلنها العرب على عهده كان يصلي المغرب بقصار المفصل، وفي الركعة الأخيرة يقرأ بهذه الآية: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

معنى قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله)
قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، أي: لا يعلم ما يئول إليه الأمر إلا الله عز وجل، ومن عقيدة أهل الإيمان: أن الشقي منا كالسعيد قد مضى حكم الله فيه، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فهل يستطيع أحدنا أن يقول: فلان من أهل الجنة، أو فلان من أهل النار؟الجواب: لا. من يستطيع؟! مؤمنون تمام الإيمان بأن السعيد من كتبت سعادته، والشقي من كتبت شقاوته في كتاب المقادير، ومع هذا لا نستطيع أن نقول: فلان من أهل النار أو فلان من أهل الجنة، إذ هذا متشابه علينا لا يعلمه إلا الله، وكل ما في الأمر: إذا بشر الله على لسان رسوله بأن فلاناً من أهل الجنة يجب أن نرددها وأن نقول وراءه وهي الحق، ثم إلى جانب ذلك علمنا وهو من علم الله، أن من كتب الله سعادته وإن زلت قدمه، وإن زاغ قلبه فإن أمره سيئول ويرجع إلى أن يستقيم قلبه ويوحد ربه ويعبده بعبادة تدخله الجنة، وأن من كتب الله شقاوته فسوف يعمل ولابد وأن يأتي يوم يزيغ قلبه، ويكفر بربه، ويخرج عن طاعته، ليدخل النار بموجب عمله؛ لأن الله حكم وهو العدل، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. يا معشر المستمعين والمستمعات! هذا حكم الله الصادر علينا، هل بلغكم؟ هذا حكم الله قد صدر، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، أن من زكى نفسه بالإيمان وصالح الأعمال أفلح، فاز، نجا من النار ودخل الجنة، وأن من دسى نفسه وخبثها ولوثها ووضع عليها أطنان الذنوب والآثام فتدست فهو من أهل الخسران، أهل الخيبة والعياذ بالله، خاب من دخول الجنة واستقر في عالم الشقاء النار، ونحن نعرف هذا ولكن لا نجزم أبداً بأن فلان من أهل الجنة أو فلان من أهل النار؛ لقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، جل جلاله، وعظم سلطانه، أي: ما يئول إليه الأمر، أو ما هو المراد لله منه، هو وحده، لا ننسى ما قال أهل العلم عند الآيات المتشابهة كفواتح السور: الله أعلم بمراده به. تسلم، لأنك لا تستطيع أن تفهم، عاجز، ولولا أن الله علمنا والله ما علمنا، فاستأثر تعالى بهذه الآيات المتشابهة امتحاناً لنا: أنسلم له أو لا؟ فمن سلم سلم، ومن آمن أمن، ومن حاول أن يتعالى ويقول ما ليس له علم تعرض لغضب الله وسخطه.

أوصاف الراسخين في العلم
أهل العلم بالقراءات والتفسير قالوا: إن الوقف هنا وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] لابد منه، ويضعون عليها حرف الميم، وهو يعني الوقف اللازم.قالوا: ثم نستأنف كلاماً آخر ونقول: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، فلا تعطف والراسخون فتقول: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)، إياك! بل قف عند قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، واستأنف كلاماً جديداً، فقل: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7]. من هم الراسخون في العلم؟ رسخ الشيء يرسخ رسوخاً إذا ثبت، إذا تقرر، ما بقي له أن يتزحزح أو يتبدل أو يتغير أبداً، هذا هو الرسوخ.وورد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الراسخ بالعلم فقال: ( الراسخ في العلم من برت يمينه ). ما معنى: (برت يمينه)؟ أي: لا يحلف بالكذب، فيمينه دائماً صادقة، ( وصدق لسانه )، فلا يقول غير الصدق والحق أبداً ( واستقام قلبه )، فلا يميل يميناً ولا شمالاً. هذا هو الراسخ في العلم، ولن نكون راسخين في العلم، إذا توفرت لنا هذه:أولاً: أن تكون أيماننا بارة، صادقة، ولا يقوى على هذا إلا من علم.ثانياً: أن تكون ألسنتا صادقة لا تقول الكذب أبداً؛ وذلك للعلم الراسخ في نفوسنا.ثالثاً: أن تكون قلوبنا مستقيمة، تنهج صراط الله المستقيم، لا تميل إلى يهودية ولا نصرانية، ولا شرك ولا باطل. هؤلاء هم الراسخون في العلم، أصحاب الأيمان البارة، والألسن الصادقة، والقلوب المستقيمة. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أنا من الراسخين في العلم. إي والله! إنه لمن الراسخين في العلم، حبر هذه الأمة من الراسخين في العلم، ولكن لا يعلم المتشابه ولا يقول فيه كذا وكذا، فالراسخون في العلم موقفهم دائماً وأبداً: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]. (كُلٌّ)، أي: من المتشابه والمحكم، (مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا): هو الذي أنزله على رسولنا في كتابه القرآن العظيم المحفوظ في صدورنا والمكتوب في سطورنا، وهذا هو المنهج الرباني السليم.

تفسير قوله تعالى: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا... )
قال تعالى: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]. هذا تعليم الله، الله عز وجل أرشدنا إلى ما نقول إذا اضطربت النفس وتحير القلب، وهذا هو السؤال، اسأل الله، افزع إلى الله: رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني! يستجيب لك. ‏

استحباب طلب الهداية والاستعاذة من الفتن
روى مسلم عن الصديقة عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا استيقظ من الليل قال: لا إله إلا أنت سبحانك، أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة؛ إنك أنت الوهاب )، فيا ليتنا نحفظ هذا ونقوم به، هيا عبد الله! اكتبها سجلها جربها الليلة، لما أنت تستيقظ قل: ( لا إله إلا أنت سبحانك، أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك، اللهم لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب )، فصاحب هذه الدعوة لا يخيب! فتوسل إلى الله بهذه الجملة: ( وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) لا غيرك!وقد بلغنا هذا العلم، وحاولت، وكنت إذا استيقظت يرتبك لساني فحاولت مرتين وثلاث مرات حتى رسخ، وأنبه لهذا قد تستيقظ وتحاول فتنساها، فلا تقل: نتركها، بل راجعها من اليوم الثاني، حتى تستقر ويكون هذا وردك إذا قمت من الليل، وهو في راية مسلم عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب )، والله لجمعت خير الدنيا والآخرة ما تركت شيئاً تحتاج إليه، أبداً، لما تقول: ( لا إله إلا أنت )، هذه كلمة التوحيد بها تدخل الجنة، لا إله إلا الله ( من مات وآخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة )، وإن زنا وإن سرق، فهذا الختم، قد يعاقب فيعذب بالنار، ولكن مصيره الأخير هو الجنة دار السلام.

حكم الحج والعمرة عن تارك الصلاة
هنا أعطيكم هذه اللطيفة: يأتيك الرجل ويقول لك: يا شيخ! أبي مات وهو لا يصلي فأحج عنه أو لا؟ أعتمر عنه أو لا ؟ ويأتي آخر ويقول: آه! أمي ماتت وهي تعبد عبد القادر الجيلاني أنحج عنها ونعتمر أو لا؟ كيف المخرج؟ الذي فتح الله به علي أن أقول: إذا كان على سرير الموت ولقنتموه الشهادة فكان آخر ما قال: لا إله إلا الله ومات عليها، نقول: نعم! حج عن أبيك واعتمر، وإذا مات على السرير وهو يغني وا ليلاه، ويتكلم عن البقلاوة والحلاوة فهذا لا ينفع، ولا تحج ولا تعتمر عنه، فهذا هو المرمى الأخير، من وفق إلى قول: أشهد أن لا إله إلا الله ثم فاضت روحه فهو من أهل الجنة، وذلك لما أخبر به الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من مات وآخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة )، فهل عرف المسلمون هذا؟ بعضهم عرف ولا يبالي؛ لأنه من الهابطين، نزل من علياء السماء على الأرض، وبعضهم ما عرفوا.

مشروعية تلقين المحتضر لا إله إلا الله
لو عرفنا هذا لوظفنا في المستشفيات علماء وظيفتهم لما يشاهدون المريض يعاني من سكرات الموت يجلس أحدهم إلى جنبه ويقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله؛ فإن قال المريض: لا إله إلا الله، سكت عنه، ثم إذا أعاد المريض وتكلم بكلام آخر انقطعت تلك الصلة، فيعيد الملقن قول لا إله إلا الله، فإن قالها المريض سكت، فإن تكلم بكلام آخر وانقطع يعيدها عليه، وإن كانت آخر ما قال يبشره بالجنة. وينبغي أيضاً أن يوجد هذا في مستشفيات النساء، توظف عالمات وظيفتهن تلقين من شارف على الموت لا إله إلا الله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ). فمن عاد مريضاً ووجده يعاني من سكرات الموت فليلقنه: (لا إله إلا الله)، فإن قالها وأنت تسمعه ومات عنها، فبشر بنعمة الله التي أنعمها عليه، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة الطاهرة زار يهودياً كان يخدمه -يخدم بيت الرسول وأبوه يهودي- لما بلغه صلى الله عليه وسلم أنه مريض، فذهب إليه ودخل وإذا بالغلام مريض وقد بلغ سن التكليف وما زال على اليهودية، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( يا فلان! قل لا إله إلا الله! فنظر إلى أبيه فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى أبيه فقال أبوه : أطع أبا القاسم. فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذي أخرجه بي من النار ). بنو عمنا فتنوهم فقط بفتنة الوطنية والمملكة وإعادة المجد، هذا الذي باعدهم عنا وإلا فهم عالمون عارفون أنه الحق فهم أبناء الأنبياء وأبناء الرسل، ولكنهم يقولون: إذا أسلمنا ودخلنا في الإسلام متى يعود مجد بني إسرائيل؟ متى تظهر مملكتهم وتسود العالم؟ فلهذا قالوا: لا ندخل في الإسلام؛ لأننا سنذوب فيه، فلا يبقى لنا وجود. هذه هي الحقيقة والله. إذاً: فلما قالها الغلام: لا إله إلا الله، قال: ( أبشر يا غلام بالجنة ).إذاً: عرفتم تلقين الميت أو لا؟ الرسول لقن. وإليكم صورة أخرى لمن كتب الله شقاوته أزلاً في كتاب المقادير وهو أبو طالب بن عبد المطلب ، هذا عم الحبيب صلى الله عليه وسلم، هذا ساعده الأيمن، هذا درعه الواقي أبو طالب ، أبو طالب الذي دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستطع أحد من أهل الشرك أن ينال من رسول الله بكلمة وأبو طالب موجود، وهو على ملة الكفر، فلما توفي نال المشركون من رسول الله ما نالوا، فهذا عقبة بن أبي معيط عليه لعائن الله يأتي والرسول يصلي خلف الكعبة فيضع سلا الجزور بين كتفي رسول الله وهو يصلي، والجماعة الطائشة يضحكون ويتمرغون على الأرض، فهل فعل هذا وأبو طالب حي؟ لا. لا يقدر.إذاً: مرض أبو طالب فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم يعوده في مرضه الذي توفي فيه، فوجد رجالات قريش ومشايخها من أبي جهل إلى عقبة إلى فلان وفلان، فقال: ( أي عم! -يا عمي- قل كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة، قل: لا إله إلا الله، فينظر أبو طالب إلى رجالات قريش، فيقولون له: أترغب عن ملة أجدادك يا أبا طالب ؟! )، أترغب عن ملة أبيك وجدك يا أبا طالب ؟ وكرر عليه الحبيب صلى الله عليه وسلم فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب . لأن قرناء السوء كانوا يقولون له: أترغب عن ملة عبد المطلب وتدخل في ملة جديدة ودين جديد؟! لما كتب الله شقاوته في كتاب المقادير فلن يقول إلا هذا، وعن إرادة واختيار قال هو على ملة عبد المطلب ، فقال الرسول: ( لأستغفرن لك إلا أن أنهى عن ذلك )، وأخذ يستغفر له ويطلب المغفرة حتى نزلت آية التوبة: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113].

حكم الاستغفار للمشركين
عجب هذا القرآن! مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ [التوبة:113]أي: لا ينبغي له هذا، مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، كالآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأعمام والعمات مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]؛ لأن من مات على الكفر فهو من أصحاب الجحيم، قال تعالى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]، إبراهيم واعد أباه أيضاً أن يستغفر له، قال: لأستغفرن لك، وأخذ يستغفر، فلما تجلت حقيقة شركه وكفره تركه. ومع هذا أخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم عن هذه الحادثة فقال: ( إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة فقال له: قد نهيتك عن هذا فعصيتني. قال: لكنني اليوم لا أعصيك واحدة. قال: أي رب! وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون فإن أخزيت أباه فقد أخزيت الأبعد. قال: يا إبراهيم! إني حرمتها على الكافرين فأخذ منه. فقال: يا إبراهيم! أين أبوك؟ قال: أنت أخذته مني. قال: انظر أسفل منه فنظر فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه فأخذ بقوائمه فألقي في النار )، لأن إبراهيم عليه السلام أعلى درجة في باب الرحمة، لم تعرف الدنيا أرحم منك يا إبراهيم! ما الدليل؟ اذبح ولدك. لا إله إلا الله! هو الذي ملأ قلبه بالرحمة فأصبح أرحم أهل الأرض، هو الأب الرحيم، ومن ثم ليرفع منزلته قال: اذبح ولدك يا إبراهيم. كيف يذبح ولده؟ إن كنت تطيع وتعبدنا بحق فقد أمرناك أن تذبح ولدك، فساقه عليه السلام إلى منى وتله للجبين والمدية في يمينه، وقبل أن يذبحه التفت وإذا بجبريل يقول له: خذ هذا واترك هذا، قال تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات:107-109]. إذاً: الرسول نهي رسمياً والمؤمنون أن يستغفروا لمن مات كافراً أو مشركاً.وها هو صلى الله عليه وسلم فداه أبي وأمي والعالم أجمع يعود من مكة فيمر بالجحفة شرق رابغ وبها قبر أمه آمنة بنت وهب الزهرية ، مدفونة هناك، فقد كانت في زيارة لأخوله في المدنية، فماتت في الطريق، مرضت وماتت، فدفنت بالجحفة، فلما كان صلى الله عليه وسلم عائداً من مكة استأذن ربه أن يسمح له بأن يزور أمه، إذا قال: ( استأذنت ربي في أن أزور أمي فأذن لي )، ووراءه رجاله وتلامذته البررة، وهو واقف يبكي يبكي يبكي.. على قبرها، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله! قال: ( استأذنت ربي في أن أزور أمي فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي فلذا أنا أبكي ). عرفتم! هذا حكم الله الصادر على البشرية والجن معها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، إما أن تزكي نفسك بالإيمان وصالح الأعمال وتبعدها عن مدسياتها من الشرك والأعمال الباطلة وإلا فالمصير معروف. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] سواءً كان أباً لإبراهيم أو ابناً له، أو أباً لرسول الله أو ابناً له، والقرآن وضح هذا وبينه. هل استطاع نوح أن يشفع لابنه؟ لا. قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود:45] قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46]. لماذا يا رب؟ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46].

حكم التوسل إلى الله بحق مخلوق
قال تعالى: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [آل عمران:8]، رحمة عظيمة تغمرنا في حياتنا، وفي برزخنا ويوم نلقى ربنا إِنَّكَ أَنْتَ [آل عمران:8] لا غيرك الْوَهَّابُ [آل عمران:8]. هذه الجملة عندنا نحن، عرفنا أنها من باب التوسل إلى الله، أما إخواننا فيتوسلون: اللهم بحق نبيك أعطنا كذا، بجاه سيدي فلان! حرموهم أعداء الدين من أن يتوسلوا إلى الله بوسيلة مشروعة، ولكن اللهم إنا نسألك بجاه فلان، وأعطنا بحق فلان. وهذا لا يجوز، بل قدم شيئاً يحبه الله، قل: اللهم اغفر لفلان وارحمه واغفر لي أيضاً وارحمني، تكون قد توسلت؛ لأنك دعوت لمؤمن بالمغفرة والرحمة، وهذه وسيلة، رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا [آل عمران:16]، توسلوا أو لا؟و نحن نتوسل إلى الله بابتسامة في وجه مؤمن، بلقمة في فم جائع، بشوكة نزيلها من الطريق، بصلاة ركعتين في جوف الليل، بذكر الله مائة مرة أو عشر مرات، ونسأل الله. وهذا الباب المفتوح أغلقه أعداء الإسلام في وجوه أمة الإسلام أكثر من سبعمائة سنة، ليس عندهم وسيلة إلا بحق فلان أو بجاه فلا، فلا يعرفون وسيلة إلا هذه، فسبحان الله العظيم!يروى عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رحمه الله أنه قال: من سأل الله بحق فلان فقد كفر. فما وجه كفره؟ لأن معنى كلامك حقيقة: إن لم تعطنني أنت فأعطني بحق فلان عليك! أعوذ بالله! هل يوجد إنسان مخلوق مربوب له حق على الله؟ أما نستحي أن نقول هذه الكلمة؟! هل يقولها عاقل؟الجواب لا. هل كفر من قال هذا أو لا؟ كفره كالشمس واضح. إخواننا وآباؤنا وأمهاتنا عاشوا قروناً لا يعرفون من الوسيلة إلا بحق فلان وجاه فلان. من حرمهم الوسيلة المشروعة؟ إنه الثالوث الأسود: اليهود، والمجوس، والنصارى، تعانقوا، تحابوا، تلاقوا وقالوا: نطفئ هذا النور؛ لتبقى لنا يهوديتنا ونصرانيتا ومجوسيتنا، وتعاونوا قروناً على تضليل الأمة، وإلى الآن ما زالوا متعاونين في الخفاء.

تفسير قوله تعالى: (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه.... )
يقول تعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران:9]. رَبَّنَا [آل عمران:9]، أي: يا ربنا. وحذفت الياء؛ لأن الله قريب ليس ببعيد حتى نقول يا ربنا. ‏

جمع الله الناس ليوم القيامة
إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران:9]، أي يوم هذا؟ هذا يوم لا شك فيه، يجمع الله الناس فيه ليقضي بينهم، ليحاسب ويسأل ويستنطق ويجزي الخير بالخير والشر بالشر. رَبَّنَا [آل عمران:9]: يا ربنا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ [آل عمران:9]، أي: لا شك فيه. أفي هذا شك؟ الشك يأتي من شخص يقول: نحن غير موجودين أبدا،ً ولا نموت. فهذا نقول له: إذا كانت موجود فمن أوجدك؟ وإذا كنت ستموت فمن يميتك؟ وإذا كنت تموت من يحييك؟ إذاً: كيف تقول: لا؟ قل: آمنت بالله.

إنجاز الله وعده لرسوله والمؤمنين
قال الله: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، الميعاد: الوعد المعين بالمكان. قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]. والله لقد تم هذا الوعد بالحرف الواحد! نزلت هذه الآية والمؤمن لا يستطيع أن يبول خارج بيته يخاف في الليل من اليهود والمشركين ومع هذا أنجز الله وعده لرسوله، والله يسير الراكب من هذا المدينة إلى السند لا يخاف إلا الله! إلى عدن لا يخاف إلا الله، في تلك الأيام الزاهرة! فلا يخلف الميعاد، وعدهم بأن يجمعهم مرة أخرى ويحاسبهم ويجزيهم إما في دار السلام في العلو، وإما في دار البوار في السفل ألا وهي النار، والعياذ بالله.وصل اللهم على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-08, 12:37 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (24)
الحلقة (165)

تفسير سورة آل عمران (30)

سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة، فيصلحونهم ويهذبونهم، وعظماء الناس من يعلمونهم الخير ويهدونهم إليه، أما الذين يجتهدون في إضلال الناس، ويأتون الضلال قبلهم، ويدلون الناس على الشر ويسوقونهم إليه فأولئك هم أراذل الناس وأسافلهم، وليس لهم عند الله في الآخرة من خلاق.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي... ) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم! رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.قد انتهى بنا الدرس إلى هاتين الآيتين المباركتين من سورة آل عمران، نتلوهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:84-85]، هاتان الآيتان الكريمتان سبقهما آيتان درسناهما في درس سابق. فهيا نراجع ونستذكر ما استفدناه من الآيتين السابقتين. يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80]، هاتان الآيتان نستمع إلى ثمرتهما ونتائجهما؛ فيتجلى لنا -أكثر- معرفة ما فيهما.

هداية الآيات
قال: [من هداية الآيات: أولاً: لم يكن من الممكن -مما يتأتى وقوعه- لمن آتاه الله الكتاب والحكمة -أي: الكتاب والسنة- وشرفه بالنبوة أن يدعو الناس لعبادة نفسه، فضلاً عن عبادة غيره]. فهذا والله! ليس من الممكن، بل ومن المستحيل أن يعطي الله عبداً الكتاب والحكمة، ويشرفه بالنبوة، ثم يقول للناس: اعبدوني من دون الله!فهكذا ينفي الله تعالى هذا الزعم الذي ادعاه اليهود والنصارى، فيقول: مَا كَانَ لِبَشَرٍ [آل عمران:79] أي إنسان من البشر أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79]؛ لأن السفهاء من اليهود قالوا: تريد منا أن نعبدك يا محمد؟! فإذا أمرهم بطاعته، أمرهم بطاعة الله عز وجل، بأن يعبدوا الله لا أن يعبدوه، فلما تفوه بعض السفهاء ألقمهم الله بهذا الحجر، ونفى أن يتم هذا لمخلوق، وإذا وجدنا من دعا الناس إلى عبادته؛ فإنه ما دعاهم إلا لجهله وضلاله وعماه، وبعده كل البعد عن الوحي الإلهي والحكمة الإلهية، أما وقد آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة ثم يدعو الناس لأن يعبدوه، فهذا والله! لن يكون. [ ثانياً: سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة فيصلحونهم ويهذبونهم ] سادات الناس هم أولئك الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة فيصلحونهم ويهذبونهم؛ إذ قال تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].أما رِبِّي اليهود ورهبان النصارى فليسوا أهلاً لهذا أبداً؛ لأنهم لا يعلمونهم الكتاب ولا يعلمونهم الحكمة، ولكن يحشون عقولهم بالأباطيل والضلالات والخرافات؛ ليبقوا مسخرين لهم يعبدونهم من دون الله. فرد عجيب! قوله تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]. [ثالثاً: عظماء الناس من يعلمون الناس الخير ويهدونهم إليه] روى ابن عبد البر في كتابه العلم قال: ( من علم وعمل بما علم، وعلّمه غيره دُعي في السماء عظيماً )، قد كنا نقول من عظماء الرجال: نابليون وأفلاطون وسقراط ، وأخيراً عظماء الشيوعية ستالين ، ثم عبد الناصر ، ثم الزعيم الأوحد صدام .. لماذا؟ لأننا ما عرفنا وما علمنا.والآن علمنا وعرفنا أن عظماء الرجال هم الذين يتعلمون الهدى ويعملون به، ويعلمونه غيرهم، فأولئك هم عظماء الرجال في السماء والملكوت الأعلى، أما الذين يجاهدون الناس، ويعلمونهم الضلال ويأتونه قبلهم، فهؤلاء أسافل وأساقط الرجال.من علِم الكتاب والحكمة، وعمل بهما وعلَّم بهما أسرته وجيرانه، وأهل بلده، والناس عامة، فأولئك يدعون في السماء: عظماء الرجال. فالآية شاهدة، إذ يقول تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]. [رابعاً: السجود لغير الله كفر؛ لما ورد أن الآية نزلت رداً على من أرادوا أن يسجدوا للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80]]. (أيأمركم): استفهام إنكاري. ( هم من هم ممن جاءوا من الشام -وكانوا نصارى- أن يسجدوا للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: لا. السجود لله )، وهكذا تحيتنا تحية أهل الجنة: السلام عليكم، أما الانحناء والركوع والسجود فهذا لله لا لسواه، وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].هناك غلطة شامية نلفت النظر إليها: أبناء الشام تربوا على هذه الخطيئة، يقبل يد أبيه.. يد الشيخ.. يد عمه، ثم يسجد عليها، فأصبح حتى الشباب الكبار إذا سلموا على المشايخ يفعلون هذا، يقبل يد الشيخ ثم يسجد، فمن لاحظها من أخيه يلفت نظره إليه، ويقول: هذا لا ينبغي، ويكفيك التقبيل، فلماذا تسجد؟!إذ السجود لغير الله كفر، فلا نعفر وجوهنا في التراب إلا لله رب الأرباب، فلا يستحق المخلوق ما هو حق لله دون سواه.وحتى التحية العسكرية لطفناها وقلنا للعسكري: إذا حييت الرئيس رد بـ: السلام عليكم؛ لأن هذه التحية مأخوذة عن المسيحيين، فنحن ندعو ربنا ونحييه برفع أيدينا الثنتين ونقول: الله أكبر، أما من كان له يد واحدة فالله غالب، لكن لو كان له يدان ويتوجه إلى الله فلا يجوز له أن يمد يد واحدة ويقول: الله أكبر، ألست تقول في آخر صلاتك: التحيات لله؟فقلنا لإخواننا لما فتح الله علينا: إذا حييت الرئيس، وإلا قل: السلام عليكم تخرج من الفتنة.قال أخونا: بعضهم يقبل المصحف ويسجد عليه. وهذا التقبيل أخف من أن يقبل يد الشيخ، وإن كان لا ينبغي، فهذا فعل الجهال، والذين سمعوا هذا وعرفوه وفعلوه، فإنه يخشى عليهم أن يهلكوا، فإن كنت جاهلاً معفي عنك، أما وقد علمت وتقول: إيش في هذا؟ فهل رأيت رسول الله فعل هذا؟ وهل ورد حديث وقال: اسجدوا للقرآن وعليه، فكيف تصر على هذا؟!وهكذا يرفع الله أقواماً ويضع آخرين بهذا القرآن، قبَّله وليس له حاجة، فكيف يقبله بفمه، ولا يحبه بقلبه ولا يقرأه طول عمره؟!لكن لا بأس بتقبيل المصحف، لكن لا تسجد عليه، فلا تؤلهه.فلو قال قائل: لا تلمنا يا شيخ! ما تعلمنا. نقول: نلومكم، فلم لا تتعلمون؟ تعرفون صنع السيارات وقيادتها، والمزارع وإنتاج البصل والفول.. وو...، إلا كيف تعبدون الله ما تعرفون؟!الوقت يا شيخ! لا يتسع.. ما عندنا وقت. لا، بل عندكم وقت، فإذا دقت الساعة السادسة مساءً فكل الدنيا يجب أن تتخلى عن الأعمال الدنيوية.فالنصا ى واليهود إذا دقت الساعة السادسة أغلق الدكان.. ارم المسحاة.. ارم المطرقة.. هيا نروح على أنفسنا، فيأخذون نساءهم وأطفالهم إلى دور السينما والمراقص والمقاصف، أربع ساعات.. خمس ساعات من الليل.ونحن المسلمون لا نستطيع أن نغلق الدكان مع غروب الشمس، لم؟ لا ندري، ما فقهنا. فيكفي من صلاة الصبح وأنت تعمل إلى غروب الشمس، فهيا بابنتك وامرأتك وأولادك إلى بيت الرب، تطهروا وتنظفوا وائتوا إلى بيت مولاكم تستمطرون رحمته، وتبكون بين يديه، وتذكرونه بأسمائه، تتعلمون الهدى الموصلة إليه، ثم تصلون العشاء وتعودون في خير وبركة إلى بيوتكم، وهكذا كل ليلة طول العمر. فكيف لا نستطيع؟والله! لو أن أهل قرية أو حي من أحياء المدن أقبلوا على الله في صدق كل ليلة من المغرب إلى العشاء؛ يتعلمون الهدى ويعملون به لم يمض عليهم سنة أو أقل وهم كلهم عالمون عارفون أولياء الله، لو رفعوا أكفهم إلى الله على أن يزيل الجبال لأزالها؛ فتكون تحققت لهم ولاية الله.فاليهود والنصارى صرفونا عن هذا صرفاً عجباً، ونحن نائمون ما صحونا بعد!فطلب العلم واجب؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، والله تعالى يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فيجب على كل مؤمن ومؤمنة إن لم يعلم بما يعبد الله أن يسأل العلماء ليعرف، وعلى العالم أن يبين، وانتهى الجهل نهائياً، فالخنا، والزنا والدعارة، والتلصص، والإجرام، والخيانة، وسوء السلوك، وسوء الآداب، وفساد الأخلاق وقد خمت ديار المسلمين بها نتيجة للجهل فقط.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
يقول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ [آل عمران:81]، فهذا أمر الله، وهذا عهد الله وميثاقه أخذه على النبيين وأممهم، أنه ما بعث نبياً ولا رسولاً إلا وجب إيمانهم به ونصرته، وقد بعث الله محمداً خاتم الأنبياء، فكفروا به وخذلوه ولم يقفوا إلى جنبه ويدعون أنهم مؤمنون.أي: اذكر يا رسولنا لهم، اذكر يا عبد الله! لليهودي والنصراني: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران:81] والميثاق العهد المؤكد بالأيمان، لَمَا آتَيْتُكُمْ [آل عمران:81] مهما آتيتكم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ [آل عمران:81]، أما إذا جاء يكرر ما عندكم، فهو دجال وكذاب وليس بنبي، لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ [آل عمران:81].ثم قال لهم: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]، الله أكبر! فما من نبي نبأه الله، ولا رسول أرسله إلا أخذ عليه العهد والميثاق، إذا بعث الله بعده الرسول وهو موجود أن يؤمن به وأن ينصره، إلا إذا جاء بما يخالف ما عند النبي فمعناه أنه دجال وكذاب، وليس بنبي ولا برسول.ثم استقررهم: (أَأَقْرَرْتُمْ) ؟ قالوا: أقررنا، (قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا -الله- مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)، بعد هذا هل بقي ليهودي أو لنصراني أو لصليبي أن يدخل الجنة بعد اليوم؟! ثم قال تعالى: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:82] لا غيرهم. ثم قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، عجباً كيف يكفر بالله هؤلاء الهابطون من اليهود والنصارى؟!

هداية الآيات
قال: [من هداية الآيات: أولاً: بيان سنة الله تعالى في الأنبياء السابقين، وهي أن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً].الآن في المدينة أمير عينه إمام المسلمين، فلو بعث أميراً آخر هل سينكره، ويقال له: ما نصدقك، ما أنت هو.. جاءك ببيان بما عندك؟ أم المفروض أن يقول: مرحباً وأهلاً، ونحن معك وإلى جنبك. هذا واضح.فكيف يرسل الله الرسول، أو ينبئ نبي ويأتي إلى أهل البلاد وبينهم نبيهم يقول: لا. لا. يكفي ما عندنا.. ما نؤمن بهذا.. ما نصدق.. يبقون مسلمين؟!مستحيل. فهؤلاء مجانين معتوهين، يستحقون الضرب والنقمة الإلهية.قال: (بيان سنة الله تعالى في الأنبياء السابقين) أي: لنبينا صلى الله عليه وسلم، (وهي أن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً).ألم يكن عيسى مع يحيى يشد ساعده؟ ألم يكن إسماعيل مع إسحاق؟ وهكذا دعوة الله، ما من نبي إلا ويجب عليه أن يؤمن بالنبي الجديد، وأن يقف إلى جنبه ينصره؛ لأن الرسالة واحدة، اللهم إلا إذا جاء ساحر دجال وقال: أنا نبي. فننظر هل يختلف ما جاء به مع ما عندنا أو يتفق؟ فإذا كان يتفق فهذا من عند الله، وإذا كان ما يتفق يجب أن يضرب على رأسه.أعيد القصة: أولاً: وجد في العالم الإسلامي ثلاثون نبياً دجالاً وكلهم أهلكوا ودمروا، آخر واحد جاءنا في البيت منذ أربع سنوات ونحن في المكتبة، قال: أنا نبي الله.ليس معقول هذا ولدي.قال: أنا نبي الله، نبأني الله، اسمعوا لي واستجيبوا. فبهتنا، ماذا نصنع؟فجاء فحل من فحول الحي أبو عبد العزيز بعصاه، فقلنا له: يا شيخ عبد الله ! هذا الشاب يقول: أنا نبي. فقال له: أنت تقول أنك نبي؟ قال: نعم، نبي. قال له: من نبأك؟ قال: الله. فينهال عليه بالعصا حتى صرخ وقال: أكذب ما أنا بنبي.إذاً: بالنسبة إلى عهد النبوة المحمدية قد ختمها الله بخاتم النبيين، فكل من جاء بما جاء به محمد، وقال: أنا نبي يجب أن يقطع رأسه فهو دجال كذاب؛ لأن الله قال: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] ما بقي، لعلم الله بأن الأرض أوشكت على النهاية، وأن العالم سيكون في منزلة بلد واحد، والآن يقرأ القرآن فيسمعه العالم بأسره، وهذا سر ختم الله النبوات بمحمد صلى الله عليه وسلم، لو يبقى العالم كما كان أهل إقليم ما يعرفون عن الآخر لكان على الله أن يبعث في كل إقليم رسول.[ثانياً: كفر أهل الكتاب وفسقهم بنقضهم الميثاق، وتوليهم عن الإسلام، وإعراضهم عنه بعد كفرهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ عليهم الميثاق بأن يؤمنوا به ويتبعوه]، فهم كفار فساق ملعونون من أهل الخلود في النار، مهما نزلوا الصوامع أو عبدوا الشيطان. فمن يبلغهم هذا؟! سبق وأن قلت: إن اليهود والنصارى لما مكروا بالمسلمين وغشوهم وخدعوهم وضللوهم وهبطوهم نتيجة ذلك أن حرموا من الإسلام، فلما انتشر الإسلام في العالم وأضاءت أنواره في الكون من قام وأطفأها أليس اليهود والنصارى؟ بلى. إذاً: جزاؤهم أن أجيالهم بالملايين حرمت من الإسلام، ولو كان الإسلام كما كان والله ما بقي على الأرض من لا يسلم؛ ليشاهد أنواره ورفعته وعزته وطهره وصفاءه كما في أول القرون، لكن لما أطفئوا النور وأصبح المسلمون حيارى تائهين ضلالاً جهالاً، وغلبوهم وسادوهم وحكموهم فكيف سيسلمون؟! فهم عوقبوا بنفس ذنبهم، فلو أن الإسلام ترك ما حورب وامتد نوره وظله في العالم ما بقي بيت إلا وأسلم أهله؛ لأنه نور الله، القلوب تطهر.. النفوس تزكو.. العدل يسود.. الرحمة تنتشر.. الخير يعم، فلماذا لا يسلم الناس؟فلما مكروا اليهود والنصارى بالمسلمين والإسلام حرموا هداية الله، فالآن ملايين بل بلايين اليهود والنصارى إلى جهنم، فهم الذين حرموا أنفسهم: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123].[ثالثاً: بيان عظم شأن العهود والمواثيق].إذا عاهدت يا عبد الله! إياك أن تخلف عهدك أو تنقضه، شأن العهود والمواثيق عظيم؛ فلهذا كان العربي إذا عاهد لو يموت ما يخلف.فإسماعيل عليه السلام أثنى عليه تعالى بقوله: كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، أثنى عليه بكونه إذا واعد ما يخلف؛ لأنه أقام سنة ينتظر صاحبه، واعد وعداً فبقي في ذلك المكان عاماً كاملاً، وخاف أن يرجع فينقض العهد.وهذا حفيده الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام وهو قائم في مكانه ينتظر وعداً، ومن ثم يقول: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق -من بينها-: إذا واعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ).وعندنا لطيفة أخرى أيضاً حدثنا بها شيخنا الطيب العقبي خريج المسجد النبوي، صاحب جريدة القبلة وأم القرى، محا اسمه الجزائريين محواً.بنى أحد الصالحين مسجداً وسماه: مسجد العقبي، فجاء وزير الأوقاف برجاله ومحاه هذا الاسم؛ لأنه ناشر دعوة التوحيد، وهدانا الله على يديه وعرفنا الله، إذاً فالضلال والخرافة والباطل والزعامات محوا اسم العقبي .قال العقبي : حججت أيام ما كان أهل البلد يحجون على الإبل، وأصحاب البادية ينزلون هنا في المدينة، ويطلبون الحجاج يخدمونهم حتى يحجوا ويعودون إلى المدينة، ويسمون: الركب، فالشيخ حج مع رجل من هؤلاء ومعه شاب يخدم الحجاج بأجرة، وتلك الأيام كان السلب والنهب مغطي البلاد، حتى إن الرجل يؤخذ بابه من بيته، فتجد بابك يباع في السوق فلا تتكلم وإلا تقتل، الفوضى بلغت نهايتها.والشاهد عندنا: هذا الشاب الذي يخدم الشيخ الطيب رحمة الله عليه عشرة أيام في الطريق، وأربعة أيام في مكة، ولما وصلوا عرفة قال الشيخ للشاب: آه. لو تسلم يا بني وتترك هذا الإجرام وتستقيم؟قال الشاب: أستأذن عمي، إذا أذن لي أتوب، معناه: لو قال: تبت ما يرجع، قال: أستأذن عمي، أي: ليس عمه أخو أبيه، بل عمه الذي يستخدمه، فلما جاء العم، قال: يا عم! إن هذا الشيخ يطلب مني أن أستقيم وأن أتوب، قال: لا. ومن لأسرتنا ومن لحالنا؟ كيف تتوب؟ محتاجين إلى السلب والنهب وكذا كيف نعيش؟!والشاهد عندنا في كلمة الصدق فلو قال: أتوب فلن يرجع أبداً.قال تعالى: كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، وهكذا المسلمون في الجملة، أما في العصور الذهبية فكل مسلم يرضى أن يموت ولا يخون عهده ولا ميثاقه.فلما عم الظلام وغطى البلاد، وعادت الجاهلية والجهل؛ اختلط أمر الناس، وإلى الآن المسلم البصير الواعي ذو العلم لا يخون عهداً ولا ينقضه ولو يخرج من ماله وأهله.[رابعاً: الإنكار على من يعرض عن دين الله الإسلام، مع أن الكون كله خاضع منقاد لأمر الله].قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، فلو أن اليهودي أسلم أو النصراني أسلم، فهل سيكون هناك من يخرج عن أوامر الله وتدبيره؟!فإذا أراد الله أن يخلقه ذكراً كان ذكراً، فهل تستطيع أمه أن تحوله؟ أراد الله أن يخلق هذه البنت أنثى، فهل تستطيع أن تحولها إلى ذكر؟أراد الله أن يخلق هذا الولد أسوداً، فهل تستطيع أن تجعله أبيضاً؟أراد الله أن يجعل هذا الولد قصير القامة، فهل تستطيع أن تجعله يطول؟مستحيل، خاضعون لأمر الله يفعل فينا ما يريد ويحكم ما يشاء، فقط كون أوامر تكليفية من أجل الجنة أو النار، هذه عرض علينا البشرى، وعرض علينا النذارة، فمن استجاب رفعه ومن أعرض هبطه، وإلا أمرنا بيد الله يحيي متى شاء، ويميت متى شاء، يعز.. يذل.. يغني.. يفقر.. يصح .. يمرض، هل يوجد من يرد على الله؟ هانحن مسلمون رغم أنوفنا، كيف يعرضون؟ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:83]، كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116].

تفسير قوله تعالى: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم ...)
قال تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84].علَّم الله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن معه أتباعه أن نقول هذا القول، وليكفروا كلهم.. أمريكا والصين، فنحن آمنا بالله رباً وإلهاً، لا رب غيره ولا إله سواه، بيده كل شيء وإليه يرجع كل شيء، فهو المحيي والمميت، والمعطي والمانع، والضار، والنافع، رب الأولين والآخرين، منزل الكتاب، وباعث الرسل، أرحم الرحمين ورب العالمين، لا رب لنا غيره ولا إله لنا سواه.وآمنا بما أنزل علينا من القرآن الكريم، وما حواه من أحكام وهداية وتعاليم وشرائع وأخبار، الأمر الذي فوق طاقة البشر أن ينزلوا مثله، وآمنا بما أنزل على إبراهيم الخليل من التوحيد؛ قال الله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [النحل:120-123] أي: يا محمد أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123] أي: إبراهيم هذا الأب الرحيم، هذا الذي ابتلي فصبر ففاز وظفر، ولم يبتل ابتلاؤه غيره، وإليكم نظائر ذلك:فقد ابتلي بأن يواجه الطغاة والجبابرة ويجادلهم في الله ليؤمنوا بالله، وحكموا بإعدامه، وأججوا له النيران، وألقوه مكتوف اليدين والرجلين في جحيم لا تطاق -فمن أراد أن يعرف فلينظر إلى الأفران الكبيرة-، وخرج منها، وترك البلاد والعباد: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، خرج مع ابن أخيه لوط وامرأته سارة لا يحملون ديناراً ولا درهماً، ولا طعاماً ولا شراباً، خرجوا من أرض بابل اتجهوا غرباً إلى أرض الشام، فأي ابتلاء هذا؟فقد كانت أول هجرة عرفتها البشرية هي هجرة إبراهيم، أول من هاجر في ذات الله، ترك الكفر وأهله، وننزل ببلاد الشام وامتحن امتحاناً آخر، ما وجد آذاناً صاغية ولا قلوباً واعية، ولا..، فاتجه غرباً انتهى إلى بلاد مصر من طريق فلسطين، ما إن وصل إلى مصر ومعه امرأته سارة الربانية وهي بنت عمه، فشاهدها من نسميهم بالمغربية: القوادون، وفي المدينة الجرارون.فالمغر الإفريقي يسمون من يقود إلى الفاحشة: القواد، وسيلة، وعندنا هنا في المدينة نسميه الجرار، ولا فرق، فالقواد يقود بالزمام، والجرار يسحبه على الأرض حتى يوصله إلى الفاحشة، والعياذ بالله!ما إن شاهد الجرارون والقوادون حتى أتوا سلطانهم وقالوا: توجد امرأة كالقمر لا تصلح إلا لك، يتملقون ليأخذوا الدراهم، فعرف إبراهيم عليه السلام، فمن ينصره؟ وماذا يصنع؟قال: يا سارة ! إنه لا يوجد على الأرض مؤمن إلا أنا وأنت، فأنا أخوك وأنت أختي، إذا سألك هذا الطاغية لا تقولي: زوجي، بل قولي أخي، ولست بكاذبة، وهذا هو الخروج من الكذب ويسمى بـ: (التورية)؛ لأنها لو قالت: زوجي، قال: اذبحوه، كيف يتزوجها وزوجها موجود؟ إذاً: ووصلت إلى سرير الملك، وجلست إلى جنبه وطيبوها وطهروها، وأراد أن يطايبها ويلاطفها فيضع يده على كتفها أو رأسها، فيصاب بالشلل الفوري، قبل أن تعرف البشرية الشلل هذا ما هو، تيبس يده، يصرخ: ادع ربك، تدعو تعود يده كما كانت، يأكلون ويتطايبون آكام، ثم يهم بيده ما إن تصل إلى جسمها يشل على الفور، ثلاث مرات، ثم قال: أخرجوا عني هذه الشيطانة فليست هذه بشرية، وهذا من تدبير الله عز وجل رب إبراهيم عليه السلام، قال: سنعوها، بلغة نجد أو الحجاز، بمعنى: أكرموها، أعطوها المال.. أعطوها بغلة تركبها.. أعطوها خادمة تخدمها، فأعطوها هاجر أم إسماعيل، فهي أمكم يا أولاد إسماعيل، وعادت منتصرة مستبشرة، قالت: أخزاه الله وأذله وأكرمنا، وتبرعت لإبراهيم عليه السلام ولتشاركه في المحنة بـهاجر خذ هذه، وتسرى بها يا إبراهيم -جزاها الله خيراً- فهذه سارة ابنة عم إبراهيم، خذ هذه الخادمة تسراها، أي: يحسن لباسها وفراشها ويجامعها مملوكة، فتسراها إبراهيم عليه السلام، فحملت وولدت إسماعيل ، وسارة اشتطات غيظاً وغضباً، وأصابها كرب، أنا مع ابن عمي عشرات السنين ما ولدت، وهذه بنت أمس تلد اليوم وتصبح بإسماعيل، ما أطاقت العيش معها، فأمر إبراهيم عليه السلام أن يذهب بها إلى صحراء الحجاز، وأبعدها عن أرض فلسطين، فما كان منه إلا أن خرج بها ليلاً، وهي تعفي أثرها أي: أرخت رداءها أو إزارها من أسفل حتى يغطي آثار الأقدام، ووصل بها إلى جبال فاران في الوادي الأمين في مكة، وتركها مع طفلها إسماعيل تحت شجرة، والبيت عبارة عن كوم من تراب أخذتها السيول من قرون، وقفل راجعاً، فقالت: لمن تتركنا يا إبراهيم؟ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فاذهب فإنه لن يضيعنا.يا عبد الله! ما تبيع الدخان في دكانك، وأنت في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا تقل: لا الزبائن لن يحضروا. فأنت توكلت أنت على الدخان، فأين توكلك على الله؟ هذا مثال.يتركها مع طفلها الرضيع تحت شجرة، دوحة عند ماء زمزم قبل أن يخرج، وتقول: آلله أمرك؟ فيقول: نعم، فتقول: إذاً فاذهب فإنه لن يضيعنا.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-08, 12:42 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (25)
الحلقة (166)

تفسير سورة آل عمران (31)

من مقتضيات الإيمان أن يؤمن المرء بكل الرسل الذين أرسلهم الله على مر التاريخ، فلا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض الرسل دون بعض، كما لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض ما أنزل الله ويكفر بالبعض الآخر، وقد ختم الله عز وجل الرسالات برسالة الإسلام، وختم الأنبياء والرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعل دينه مهيمناً على الدين كله، فلا دين في الأرض إلا الإسلام.

تابع تفسير قوله تعالى: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سابق عهدنا في مثل هذا اليوم والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فحقق اللهم رجاءنا إنك ولينا، ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران، ومع هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:84-85].

معنى قوله تعالى: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا)
معاشر المستمعين والمستمعات! قول ربنا: قُلْ آمَنَّا [آل عمران:84] فالله يأمر نبيه ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [آل عمران:84]، والرسول هنا معه أمته، ونحن من أفرادها، فلنقل جميعاً: آمنا بالله، أي: صدقنا بوجوده، وبكونه رباً لا رب غيره، وبكونه إلهاً لا إله سواه. وقولنا: آمنا بوجود الله إذ كل هذه الموجودات دالة على وجوده.نعم كل موجود من هذه الكائنات دال دلالة قطعية يقينية على وجود موجدها، فهل عرفت البشرية خالقاً سوى الله؟ وهل وُجِد خالق غير الله؟ وهل يعقل أن يوجد موجود بدون موجد؟ مستحيل.لو كان الموجود مقلمة أظافر فإنك لا تستطيع أن تقنعني أنها وجدت بدون موجد، ولو كان الموجود نعلاً على باب المسجد فإنك لا تستطيع أن تقنع ذا عقل بأن هذا النعل وجد هكذا من نفسه؟ وكذلك لا تستطيع أن تقنع ذا عقل أن كأساً من الماء وجد هكذا من نفسه على طاولة؟ فإذا كان كل ما سبق وغيره مستحيل الوجود بدون موجد، فكيف إذاً بهذه العوالم العلوية والسفلية؟وانظر إلى السماء وفكر فيمن بناها، أو هل وجدت من نفسها؟ هذا غير ممكن.وانظر إلى الشمس ومن علقها كالمنار في السماء.ولا تذهب بعيداً فانظر إلى نفسك تتجلى لك عظمة الخالق عز وجل: كيف أنك تنطق؟ كيف أنك تنظر؟ كيف أنك تحس وتشعر؟ كيف أنك تأكل وتشرب؟ كيف أنك تنام وتستيقظ؟!فقولوا: آمنا بالله رباً لا رب غيره وإلهاً، لا إله يستحق أن يؤله ويعبد سواه.إذاً قوله: (قولوا) أي: قل يا رسولنا وأمتك معك: ( آمنا بالله).وقال تعالى: ( وما أنزل علينا ) أي: من هذا القرآن العظيم، فآمنا بما أنزل علينا من هذا الكتاب الكريم، وهذه الشرائع والأحكام والتعاليم الإلهية الذي أنعم بها علينا.

الإيمان بما أنزل على إبراهيم
قال تعالى: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وإبراهيم باللغة العبرية: الأب الرحيم، وقد ذكرنا أن مما امتاز به الخليل أنه ممن هاجر في سبيل الله، فأول هجرة تمت على الأرض لله تعالى هجرة إبراهيم، وقيل في إبراهيم: خليل الرحمن؛ لأن محبة الله تخللت في قلبه ففاز بهذه فقيل فيه: الخليل، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ( لو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً )، ولكن تكفيه خلة الإسلام.وقد ابتلي إبراهيم فنجح وفاز في ابتلاء الله تعالى له، إذ قال عز وجل من سورة البقرة: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، فأصبح إمام الموحدين؛ لأنه ابتلي بالتكاليف فنهض بها ونجح فيها، ومن هذه التكاليف أنه أمر أن يبني له بيتاً في مكة في ذلك الوادي الأمين، ونهض بذلك إبراهيم وساعده ولده إسماعيل، وبنى لله داراً بيتاً في جبال فاران، فكانت واحدة من التكاليف.ودون ذلك بل وأعظم: أنه امتحن وهو الأب الرحيم بأن يقرب ولده إسماعيل قرباناً لله رب العالمين، واقرءوا ذلك في سورة اليقطين إذ قال تعالى عنه وقوله الحق وهو يخاطب إسماعيل: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، فقال الغلام الحليم إسماعيل ابن هاجر ، الذي كان سبب هجرة أمه إلى مكة: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، وأمر هاجر وطيبته وطهرته وأخذ بيده إلى منى حيث تراق الدماء، وثم صرعه على الأرض وتله للجبين وفاداه الله عز وجل بذبح عظيم، وفاز بها إبراهيم.وحسبنا في إبراهيم أننا نصلي عليه في صلواتنا الخمس فنقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد.فإن سأل سائل: فهل إبراهيم أفضل من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟نقول: لا.فإن قال: كيف نقول: صل على نبينا كما صليت على إبراهيم، فالصلاة على إبراهيم إذاً أفضل من صلاتنا؟نقول له: يا بني! لا، وإنما إبراهيم وجد قبل نبينا، وصلى الله عليه قبل نبينا، فنحن نقول لمولانا: صل على نبينا كما صليت على نبيك إبراهيم، مع العلم أن نبينا أفضل الأنبياء، ومع هذا لم يسمح لنا أن نفضله على غيره من الأنبياء والرسل، فقال: ( لا تفضلوني على يونس بن متى )، لما علم المسلمون أن يونس ضعف في الدعوة وهرب منها خاف النبي صلى الله عليه وسلم أن نفضل نبينا عليه فقال: ( لا تفضلوني على ابن متى ).والشاهد عندنا في إبراهيم.

الإيمان بما أنزل على إسماعيل
قال تعالى: وَإِسْمَاعِيلَ إسماعيل هو ابن هاجر المصرية، وقد أخذت قسراً إلى ملك مصر الذي أراه الله تعالى بعض آيات عظمته، وتلك الآيات هي التي جعلته يرسل إلى سارة ويتفضل عليها بأن يهديها جارية هي هاجر ، فقد أعطاها ما شاء الله أن يعطيها وأكرمها وأعطاها هاجر ، وهاجر هذه هي التي ولدت إسماعيل، وقد تسراها إبراهيم فولدت إسماعيل، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه الهداة الدعاة المجاهدين: ( إنكم ستفتحون أرضاً يكثر فيها ذكر القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً )، وهذا أيام كانوا محصورين في المدينة فيعدهم بأنهم سيفتحون الديار المصرية، فهو يقول: ( ستفتحون أرضاً يكثر فيها ذكر القيراط )، والقيراط هو جزء من أربعة وعشرين جزءاً، ( فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً )، والذمة والرحم سببهما أن هاجر أم إسماعيل قبطية مصرية، وأن المقوقس ملك مصر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما راسله ليدخل في الإسلام مع أمته أبى أن يدخل، ولكنه أهدى رسول رسول الله جارية وبغلة بيضاء تسمى الدلدل، وهذه الجارية هي مارية القبطية فتسراها رسول الله وأنجبت إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنه مات وهو رضيع قبل أن يفطم، فهذا الرحم وهذه هي الذمة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ( فاستوصوا بإخوانكم المصريين خيراً فإن لهم ذمة ورحماً ).

الإيمان بما أنزل على إسحاق ويعقوب
قال تعالى: وَإِسْحَاقَ إسحاق هذا هو ابن إبراهيم، وأمه سارة بنت عم إبراهيم، وسارة هي التي هاجرت مع إبراهيم من أرض بابل إلى أرض الشام إلى فلسطين، وهي التي دفعتها الغيرة لما رأت الجارية تلد وهي لا تلد زمناً مع إبراهيم، فلما دفعتها الغيرة دبر الله ولي المؤمنين لإبراهيم أن يهاجر بإسماعيل ويلقيها بين جبال فاران، وقد قالت له: آلله أمرك بهذا يا إبراهيم؟ فيقول: نعم. فتقول: اذهب فإنه لن يضيعنا، فما الذي تم لها وقد تركها ومعها جراب فيه شيء من الطعام وسقاء فيه قليل من الماء، وتركها والرضيع في ذلك الوادي، وما هي إلا ساعات ولا أقول: أيام وقد نفد الماء الذي كان في ذلك السقاء، فالتفتت يميناً وشمالاً فلم تر شيئاً، والطفل والله يتلوى على الأرض من شدة العطش، والبلاد كما تعرفونها حارة.وجاشت النفس واضطربت هاجر ، وإذا بها تنظر إلى أقرب جبل تعلو عليه فوجدت الصفا، فأسرعت إلى الصفا فعلته وارتفعت عليه ونظرت يميناً وشمالاً فلم تر شيئاً، ثم رأت جبلاً أمامها وهو المروة فهبطت، وكان بين الجبلين واد منخفض الأرض فأسرعت لما وصلت إلى الوادي وهبطت أسرعت أكثر واجتازته وانتهت إلى المروة فعلت عليه وارتفعت، فنظرت يميناً وشمالاً ولا شيء، وفعلت ذلك سبع مرات، ثم وإذا بهاتف يهتف فتقول: أسمعت أسمعت، هل من غياث؟ولما هبطت من السعي إذا بجبريل عليه السلام واقف في صورة آدمي كريم، وبين يديه أو تحت رجليه إسماعيل يتلوى من العطش، فدنت، ولما دنت منه وقربت قال جبريل هكذا بقدمه الأرض ففار زمزم وذهب جبريل واختفى، وإذا بالماء يطير على الأرض وهاجر تزمه؛ حتى لا يسيخ في كل الأرض، فيقول حفيدها الطاهر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أم إسماعيل لو تركته لكان عيناً معيناً تجري إلى يوم القيامة )، فما نحتاج إلى دلو أيام الدلاء ولا إلى مكينة أيام المكينات، فتسيل دائماً، وهذه كلمة أحلى عندنا من العسل وأدب من محمد صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أم إسماعيل لو تركتها لكانت عيناً معيناً )، لكنها حشرتها بالتراب وأصبحت كالحوض فقط، فهذا هو زمزم.والله العظيم لو اجتمع علماء الطبيعة والكون والهبوط والصعود وقالوا: هذا ليس الماء الذي كان على عهد هاجر لكذبناهم ولعناهم، وهذا الآن أكثر من ستة آلاف سنة.وقد أطلق العليم الحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة فقال: ( زمزم لما شرب له )، وقال: ( زمزم طعام طعم وشفاء سقم )، وكم وكم من مريض شفي، وكم من عقيم ولدت، وكم من غائب عاد، فأنت بقوة إيمانك وصدقك مع ربك وإقبالك على الله في صدق تشرب زمزم لغرض ما فيحققه الله تعالى إن كان فيه خير لك.ومن السنة: أن من طاف بالبيت سبعة أشواط وهو حاج وصلى ركعتين خلف المقام يأتي زمزم فيشرب ويتضلع، ومعنى التضلع: أن يشرب الحاج حتى يمتلئ ضلوعك بالماء.وأحد الإخوة الصالحين كان يشرب دلواً كاملاً من زمزم ويوسع بطنه بيديه، ليحقق معنى التضلع بيديه.وإسماعيل كان مع والدته وإذا بقافلة من قوافل العرب مارة وهي من جرهم، يطلبون الماء فلم يجدوه، وظمئوا، فأرسلوا من يطلب لهم الماء، فشاهد طائراً يحوم حول جبال مكة، فقال: لن يكون هنا إلا ماء، والطير لا يطير إلا حول الماء، فجاء فوجد الماء فسر وفرح وعاد إلى قبيلة جرهم وقال لهم: تعالوا فإن الماء موجود في جبال فاران، فجاءت القافلة فنزلوا. وقالوا: أتأذنين لنا يا أم إسماعيل في أن ننزل بهذه الديار حولك من أجل الماء؟وهذه امرأة غريبة الدار، لا ولي لها إلا الله، وما معها إلا طفلها إسماعيل، فيستأذنونها في البقاء في النزول هنا، وهل يفعل هذا غير المسلمين؟ أما المسلمين بحق فنعم أما نحن فلا.إذاً هي امرأة غريبة وحيدة يطلب إذنها في أن ينزلوا عندها، فتقول: نعم على ألا حق لكم في الماء، ويوافقون ويطأطئون رءوسهم: الماء ماؤك.أو ما فهمتم هذه اللغة السياسية: الآن لو أن يهودياً .. نصرانياً .. عربياً .. كافراً .. شيوعياً وجد امرأة على ماء فإنه لا يستأذنها بل يلوي رأسها وعنقها، ويأخذ البلاد والعباد بالقوة، والشيوعية مثلاً صادرت أموال الناس: مزارعهم .. مصانعهم .. أموالهم بالقوة.أما قبيلة جرهم فتستأذن امرأة غريبة: هل تسمحين لنا؟ولو قالت: لا نسمح لعادوا من حيث أتوا، ولو اشترطت ألا حق لهم في الماء، لقبلوا الشرط ونزلوا.وقد ذكرت لكم أن إسماعيل واعد شخصاً فأقام سنة كاملة، وأثنى الله تعالى عليه بقوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:54-55]، اللهم اجعلنا من محبيهم، أما أن نكون مثلهم فهذا لا يتحقق، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ [مريم:55]، وهم في مكة، فقد تزوج الجرهمية، وأنجب من أنجب، وكان من ولده عدنان، ونحن من ذرية عدنان.وقوله: وَإِسْحَاقَ [آل عمران:84]، فإسحاق هو ابن إبراهيم عليه السلام، وأمه هي سارة بالسين لا بالصاد.واليوم تعلمنا علماً جديداً، ونحن نفرح بالعلم وفهمنا أن الماسون بالفرنسية الماصون وهو الذي يبني، وفي اللغة الإنجليزية ليس عندهم الصاد فقالوا: ماسون، فالماصو باللغة الفرنسية البناء، فالماصونيون البناءون لأمجاد اليهود، ومعنى الماسونيين البناءون لأمجاد بني إسرائيل الهدامون لأمجاد الخلق كلهم إلا لمجدهم يبنون.وأم إسحاق كانت عاقراً لا تلد، وإبراهيم كبرت سنه، وقد انخدع بعض المفسرين وحكوا حكاية اليهود وقالوا: إن إسحاق ولد قبل إسماعيل، وإن إسحاق هو الذي أخذه إبراهيم ليذبحه قرباناً لله تعالى، وهذا خطأ فاحش، فقد هاجر إبراهيم مع سارة وكانت زوجته من قديم فتزوجها في بيته مع أمه وأبيه وما ولدت لعقمها، وشاخ إبراهيم وكبر واختتن لما بلغ الثمانين من عمره، والقصة في القرآن واضحة من سورة هود عليه السلام في ذلك القصص.المهم لما دخل الوفد أصحاب المهمة لنسف مدن سدوم وعمورة نزلوا على إبراهيم في طريقهم إلى مهمتهم: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:25-29]، كيف ألد؟ وضربت وجهها على عادة النساء قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الذاريات:30].والشاهد في (عجوز عقيم): قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:72-73]، فهذه هي سارة وقد بشرت الآن بأن تلد ولداً هو إسحاق، قال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، ولا يقوى على هذه البشرى من الخلق إلا الله، فهو يبشرك بولد ويولد ويعيش ويولد له ولد اسمه يعقوب؛ ولهذا قال: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً [الأنبياء:72]، فالبشرى الأولى بإسحاق وزادوها نافلة أخرى يعقوب، فتكون أم إسحاق وجدة ليعقوب، ومن يفعل هذا سوى الله.

الإيمان بما أنزل على الأسباط
قال تعالى: وَالأَسْبَاطِ [آل عمران:84] الأسباط جمع سبط، والسبط هو الحفيد ابن بنتك أو ابن ابنك، والأسباط هنا هم أولاد يعقوب، وهم اثنا عشر ولداً على رأسهم الصديق يوسف وأخوه بنيامين، وهؤلاء الأسباط كل منهم أصبح شيخ قبيلة، والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، فهذا جرهمي .. وهذا غفاري .. وهذا جهني، فكل واحد من أولاد يعقوب أصبح أباً لقبيلة، وإخوة يوسف نبأهم الله وكانوا أنبياء؛ ولهذا نؤمن بالأسباط.

الإيمان بما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم
قال تعالى: وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ نحن معاشر المسلمين منهجنا أننا نؤمن بكل نبي وكل رسول، ونؤمن بكل كتاب وصحيفة أنزلها الله عز وجل، فلا نؤمن ببعض الكتب ونكفر ببعض، ولا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، فإن الذين يفعلون هذا قد خرجوا من دائرة الإسلام والإيمان، وهم كفار ملعونون، وهذه صفعة على وجه وفد نجران وقبائل اليهود الذين يتبجحون بأنهم مؤمنون ومسلمون، فأبطل الله دعواهم، وقرر هذه الحقيقة.

الإسلام دين الأنبياء كلهم
ختم الله تعالى الآيات بقوله: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84]، وهذا هو منهجنا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، فهؤلاء هم المسلمون، وهم مناقدون خاضعون فنمتثل الأمر ونجتنب النهي، أما اليهود فقد آمنوا بموسى وكفروا بعيسى، ولا قيمة لإيمانهم، أما النصارى فقد آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا قيمة إيمانهم.واعلموا أن الإجماع قد انقعد على أن من كذب رسولاً كأنما كذب كل الرسل، وأن من كذب بصحيفة واحدة فكأنما كذب بكل الصحف والكتب؛ لأنه تعالى على الله وأصبح يختار، فيؤمن بهذا الكتاب ولا يؤمن بهذا، ويؤمن بهذا الرسول ولا يؤمن بهذا، والله أمر بالإيمان بالكتب كلها وحينئذ يكون قد كفر وخرج من ملة الإسلام.وقوله: مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [آل عمران:84]، أي: ما أعطوا وما أوحي إليهم، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84].

تفسير قوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ...)
أخيراً يقول تعالى: وَمَنْ (مَن) مِن ألفاظ العموم، الذكر والأنثى والكل وَمَنْ يَبْتَغِ أي: يطلب غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا [آل عمران:85]. يدين به لله، فوالله لن يقبل منه.وأيما أبيض .. أسود .. أصفر .. أحمر، نصراني .. مسيحي .. بوذي .. عربي .. عجمي، يطلب غير الإسلام ديناً له يتدين به لا يقبل منه، وهذه الآية قطعية الدلالة، ففي أول السورة أخبر تعالى بأن الدين عند الله هو الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وتلك الآية عامة يقول: أنا مسلم قلبي ووجهي لله، وأنا أعبد الله بما جاء عن عيسى أو موسى مثلاً، لكن هنا: ومن يطلب غير الإسلام، أي: الإسلام المعروف الذي قواعده الخمس والذي بعثت به الرسل وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم .. أي: الإسلام ذو الإيمان والإحسان، فمن يبتغ ديناً يدين به لله غير الإسلام فلن يقبله الله منه، وفي الأخير هو من الخاسرين، فبطل كل دين على وجه الأرض بعد أن بعث الله محمداً وأرسله وأنزل عليه وحيه وكتابه، وبين له شرائع الله وما يعبد به، فمن يطلب ديناً غير الإسلام فهو كافر ولن يقبل منه وهو في الدار الآخرة من الخاسرين، الخاسرين لكل شيء حتى أنفسهم، إذ قال تعالى لرسوله: قُل ْ يا رسولنا إِنَّ الْخَاسِرِينَ أي: بحق الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، وأي خسران لإنسان يوضع في تابوت وصندوق من حديد، ويغلق عليه الصندوق، ويرمى في عالم الشقاء فلا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر ولا يأكل ولا يشرب ولا يصاحب أحداً ولا يلازمه آخر ولا يتصل بأحد بليارات السنين، وهذا نوع من العذاب، فأي خسران أعظم من هذا؟ وأهل النار لا يجدون أباً ولا أماً ولا أختاً ولا صديقاً ولا زميلاً ولا غربة نهائياً، والغربة من أشد الآلام، وهذا يتحقق في عالم النار.

خلاصة تفسير الآيتين السابقتين
إذاً: هاتين الآيتين نعيد تلاوتهما وتأملوا: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ [آل عمران:84] أي: لله، مُسْلِمُونَ [آل عمران:84]، ومعنى مسلمون: منقادون خاضعون، فإن قال: لا تأكلوا؛ لا نأكل، وإن قال: صلوا صلينا، وإن قال: أعطوا أعطينا، وإن قال: امنعوا منعنا، فهذا هو الإسلام؛ انقياد كامل لله عز وجل مع حب الله وتعظيمه والخوف منه والرغبة فيه.ورسول الله يعلمكم يقول: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )، فالمسلم الحق هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، أما الذي يأكل أموال المسلمين أو يضرب أجسامهم أو يقتلهم ويسفك دماءهم فهذا المسلم! هل المسلم هو الذي يلغ في أعراض المسلمين فينهشها ويأكلها، ويسب ويشتم ويعير ويسخر ويستهزئ بالمسلمين أولياء الله؟! لا.وقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]؛ لأن هذا الدين الذي دان به لله بدعة ابتدعها رجاله كالنصرانية واليهودية والهندوكية والبوذية والمجوسية، فما أنزل الله نصرانية ولا يهودية ولا بوذية، وهذه بدعة ابتدعوها، ولا يقبل الله إلا ما شرعه، وسر ذلك عند الدارسين معروف كالشمس في رابعة النهار.والعبادة إذا لم يشرعها الله ويقننها فإن هذه العبادة لن تزكي النفس ولن تطهر الروح، ولن يفلح صاحبها؛ لأن الفلاح متوقف على زكاة النفس وطهارتها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فكونك تعبد الله بعبادات طول الليل ولا تزكي نفسك فماذا استفدت؟ ولهذا نددنا بالبدع وقلنا: كل بدعة ضلالة، حتى الذكر إذا لم يشرعه الله فلن ينفعك، فإن كنت تقول: أنا مع الله وأنت تذكر: هو هو هو هو، حي حي حي، طول الليل فلن ينفعك هذا؛ لأن الله ما شرع هذه العبادة، ولن تنتج لك الطاقة النورانية التي تزكو بها النفس البشرية.وقد جاءني كتاب فيه قصيدة فيها مائة بيت كذا لـعبد القادر الجيلاني قد جعلوه مثل الله، وأخذوا يمجدونه: يا قطب الأقطاب! لا قطب إلا أنت، يا كذا! يا كذا! يا كذا! والعامي يقرأ هذا طول الليل يتقرب به إلى الله، وهو والله إنما يتقرب إلى الشيطان: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال المؤلف: [ من هداية الآيات: أولاً: لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض ]. فلو قلت: أنا لا أؤمن بيوشع بن نون تلميذ موسى وخادمه خرجت من الإسلام، فإذا ثبتت نبوة نبي أو رسالة رسول ما بقي لنا خيار أبداً، آمنا بالله ورسله.وقوله: (لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض) كما هي حال اليهود والنصارى والمجوس ومن إليهم.قال: [ كما لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض ما أنزل الله تعالى على رسله ويكفر ببعض ] فلو يقول قائل: أنا أؤمن بالقرآن بكامله إلا آية واحدة مثل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3] فقائل هذا يبقى مسلماً؟ لا يصح إيمانه وإسلامه.قال: [ ثانياً: الإسلام هو الانقياد ] ما هو الانقياد؟أعطني حبلاً أجعله في رقبة أحدنا ونجره، فإذا مشى معي يقال: هذا انقاد، وإذا لوى رأسه وقال: لا أمشي، فهذا غير منقاد، فالإسلام في عنقك فإن مشيت وطبقت شرائعه وأحكامه انقدت، وإن قلت: أنا ما أطبق الصوم مثلاً، فهذا غير منقاد.قال: [ الإسلام هو الانقياد والخضوع لله تعالى، وهو يتنافى مع التخيير بين رسل الله ووحيه إليهم ]. فالمنقاد لا يخير يقول: أنا أؤمن بهذا ولا أؤمن بهذا.[ ثالثاً: بطلان سائر الأديان والملل سوى الدين الإسلامي وملة محمد صلى الله عليه وسلم ].فيجب أن يعلم هذا الأبيض والأصفر وفي دنيا البشر، فالإسلام دين البشرية كلها أبيضها وأصفرها، وليس دين المسلمين خاصة، فالإسلام: هو الانقياد لله والخضوع بفعل ما أمر وترك ما نهى، ويثبت ذلك الأمر والنهي في كتابه القرآن الذي نسخ به الكتب وعلى لسان رسوله الخاتم المبين المفسر الشارح لعبادات الله. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-08, 12:47 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (26)
الحلقة (167)

تفسير سورة آل عمران (32)


لقد توعد الله عز وجل من يكفر بعد إيمانه بالوعيد الشديد، وبين أن جزاءهم اللعن والطرد من رحمة الله، ولعنة الملائكة والناس أجمعين، ومن عطل شريعة الله سبحانه وتعالى بكاملها وأعرض عنها، واستورد عوضاً عنها القوانين الوضعية والأحكام البشرية، داخل في هذا الوعيد، إلا أن يتوب إلى الله من بعد ذلك ويعمل صالحاً.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الثلاثاء من يوم الإثنين ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ) .اللهم حقق رجاءنا يا ولينا؛ إنه لا ولي لنا سواك.وها نحن مع هذه الآيات الأربع من سورة آل عمران.وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:86-89].هذا كلام الله عز وجل. وقبل الشروع فيها نذكر أنفسنا بالآيتين السابقتين اللتين درسناهما الليلة الماضية.

الدعوة إلى الإيمان بالله والإسلام له
قال تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84] وهذه عقيدتنا مهما تغيرت الأزمان والأحوال، فأمرنا الله أن نقول، قلنا: يا ربنا، قال: قل يا رسولنا وأمتك معك: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [آل عمران:84] من هذا القرآن وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84] أي: مسلمون لله، لا للدنيا ولا للهوى ولا للشهوة ولا للباطل، وإنما مسلمون لله.ولو قال لنا قائل: ماذا أسلمتم لله؟ تعلنون أنكم مسلمون فأي شيء أسلمتموه؟جوابنا : أسلمنا له قلوبنا فلا تتقلب أبداً إلا في طلب رضاه، وأسلمنا له وجوهنا وتبعتها أعضاؤنا، فو الله لا نبني ولا نهدم ولا نتزوج ولا نطلق ولا نأكل ولا نشرب ولا ننام ولا نستيقظ إلا من أجل الله؛ لأننا وقف على الله، وكل ريع الوقف يعود إلى من أوقف عليه، وآية الوقفية من سورة الأنعام المباركة وهي قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].إذاً: أنتم وقف على الله، فإياكم أن يضيع شيء منكم لغير الله. فلما تجلس يا شيخ عبد الله أمام شاشة الفيديو أو التلفاز، وتبدأ أنواع العروض تظهر من دقيقة إلى أخرى، وأنت وسيدتك وبناتك وأولادك، وهذه تضحك وهذا يقول: انظر يا بابا، وهذا كذا، ساعتين أو ثلاث ساعات، فهذا الوقت من سمح لكم ووهبكم أن تضيعوه في ما يغضب الله .. في ما يسخط الملائكة ويخرجهم من بيوتكم؟ وإذا فرغ المنزل يعمره العدو المتربص ألا وهم الشياطين.فإذا دخلت الشياطين ماذا تصنع معكم؟تطبخ لكم الطعام! تحرس لكم بيتكم من اللصوص! تزيد في طاقة إيمانكم!مهمة الشياطين إفساد قلوبكم؛ لتخبث نفوسكم، فتتحدون معهم في أنكم من أهل النار، وهذه مهمة إبليس، إذ قال لربه: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ يا رب لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ [ص:82].فالذي يضيع الساعتين في هذا الباطل يكون الشيطان قد أخذ منه ربع وقفه؛ لأنه يستيقظ عشر ساعات ويقضي اثنا عشر ساعة في النوم.وكذلك لما تجلس تقول: هات يا ولد جريدة البلاد .. الجزيرة .. الرياض .. كذا، وتبدأ تتصفح وتقرأ ثم ترمي، ولمدة ساعتين. فما الذي استفدته وقدمته لله في الساعتين؟ أسألك بالله أن تخبرني.الجواب: لا شيء. هل نفعت هذه الصحف في زيادة المعارف والعلوم؟ وهل رقتهم وسمت بهم في آدابهم وأخلاقهم فتأتسي أنت وتجري وراءهم؟ كلا.أين الفائدة المرجوة؟!لو كنت مسئولاً على البلاد والعباد وأردت أن تتبع أحداث العالم فهل أنت وليهم لنعذرك، وهل يكون عملك هذا في قراءة الصحف بالساعة والساعتين هذا لله؛ لأنك تريد أن تحمي من تحتك وأنت أميرهم ووليهم، لكن ما دمت لا صلة لك بالسياسة ولا علاقة لك بالحكم فتضييعك لهذا الوقت في سبيل من؟!والله لأن تصلي ركعتين خير لك ألف مرة من تلك الساعتين التي تقرأ فيهما المجلات والصحف الهابطة، لا تتعلم فيهما آية ولا سنة.أين الوقفية على الله؟ اتصلت بي مؤمنة تقول: يا شيخ! زوجي يفجر بالخادمة وفي رمضان، فماذا أصنع؟قلت لها: انصحيه وقولي له: اسمع يا فحل! إما أن تتوب وإما أن نفارقك، فإن الله لا يجمع الطيبين مع الأخباث ولا الخبثاء مع الطيبين، فالطيبون للطيبات والخبيثون للخبيثات.ثم سألتها: هل عندكم في البيت تلفاز؟ قالت: نعم عندنا نلفاز نجلس عليه.قلت لها: لم؟ قالت: من أجل الأولاد.فوضعت السماعة وتركتها، وعرفت أن العلة في الشياطين فهي التي زينت وحسنت وحملت هذا الرجل على أن يفجر بخادمته وأم أولاده بين يديه.فمن مسخ قلبه وأزال ذلك النور وأبطله؟ كيف اكتسب هذا؟ والله إنه لمن السماع والنظر. إذاً: نقول: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ نعم يا رب! لك لا لسواك مسلمون، أسلمنا قلوبنا ووجوهنا، فلا هم لنا إلا أن يرضى الله ولا يسخط علينا، وليس هذا بمانع أن تتناول مسحاتك يا فلاح وتسقي زرعك أو أن تعمل في حديقتك لتكتسب قوتك، أو أن تحمل كيسك أو زنبيلك وتجول في الشوارع تلتقط الأوساخ كناس في البلدية، لنعم ذلك العمل إن كنت تريد به وجه الله عز وجل.

لا دين إلا الإسلام
الإسلام لا نبغي ديناً سواه للآية الأخيرة: وَمَنْ يَبْتَغِ أي: يطلب غَيْرَ الإِسْلامِ ديناً يتدين به فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ أولاً وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85] فالخاسرون ليسوا الذين خسروا شياههم وأغنامهم وأولادهم بل كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الشورى:15].فالواجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يفهم هذه الكلمة، فيعرف من هم الخاسرون، فالخاسرون عباد الله هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وهذا حكم الله عز وجل.والإسلام هو: الانقياد والخضوع، وتسليم القلب والوجه لله.ومبنى هذا الدين يقوم على: الإيمان والإسلام والإحسان، وحديث جبريل عليه السلام شاهد في هذا. فقد بعث الله جبريل وتزيا بزي المؤمنين ودخل كأنه بدوي يشق الصفوف والناس ينظرون إليه، حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه ليعلمنا كيف نتلقى العلم والمعرفة، ثم أخذ في السؤال: ( أخبرني يا محمد عن الإيمان، فيقول: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، فيقول: صدقت. أخبرني عن الإسلام يا محمد. فيقول: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام إن استطعت إليه سبيلاً، فيقول: صدقت. فقالوا: عجبنا له يسأله ويصدقه ) إذاً هو أعلم منه. ( أخبرني عن الإحسان يا محمد! قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ) فإن عجزت وهبطت وما استطعت أن تصل إلى هذا المستوى فعلى الأقل أن تعبد الله وأنت موقن أنه يراك، فإن لم تكن تراه أنت لعجزك وضعفك فهو يراك.فأيما مؤمن صادق الإيمان يدخل في عبادة ويؤديها كأنه ينظر إلى الله أو موقن أن الله ينظر إليه من المستحيل أن يعبث بها أو يخرج بها عن دائرتها، أو يؤديها على غير الوجه المطلوب منها لتثمر الزكاة والطهر لنفسه، لكن الذي يصلي ولا يشعر أنه مع الله ولا أن الله ينظر إليه ولا هو يتصور أنه بين يدي الله وأنه يناجيه كيف يعبد الله؟ إنها عبادة فارغة لا تنتج زكاة ولا طهراً.فإن قال قائل: ما الدليل على ما تقول يا شيخ؟الجواب: الدليل يقول تعالى في بيان سبيل الهداية والطرق الموصلة إلى الكمال، يقول لرسوله وأمته تابعة له: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ أي: اقرأ ما أوحي إليك من الكتاب وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، فابتدأ بقوله: إِنَّ الصَّلاةَ التي أمرت أن تقيمها تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فيقول العليم الحكيم: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له. فهو كالذي لا يأكل فلا يشبع، والذي لا يشرب فلا يرتوي، والذي لا يستريح فلا يستريح، فإنها سنن لا تتبدل، فلو كانت تلك الصلاة قد أثمرت له زكاة روحه وطهارة نفسه لما خرج من المسجد يكذب، ولما صلى ثم خرج من المسجد يغش .. يخدع .. ينظر إلى نساء الناس .. يشتم ويلعن .. يعير ويضحك ويسخر.أين آثار الصلاة؟!والصحيح أنه ما صلى؛ إذ (لو صلى ما غنى) وهذه كلمة قيلت أيام كانت المدينة محط الأنوار على عهد التابعين، فقد مر رجلان في أزقة المدينة الضيقة أيام ما كانت سيارات ولا دبابات، وأثناء الليل وإذا بصوت مغني يسمع من الكوة أو النافذة، وليس بصوت عاهر أو فريد الأطرش ، قال: آه! يا ترى، هل صلى هذا العشاء؟ قال له صاحبه: لو صلى ما غنى. إي والله! لو صلى ما غنى.الآن مضت عليكم فترة، وقبل ثلاثين سنة .. سبع وعشرين سنة، كان الذي يستنكر الأغاني يعتبر معتوه لا قيمة له: كيف يستنكر الأغاني؟ والناس يهيئون الأفراد لهذا، فيتعلم الأغاني النساء والبنات والفتيات والرجال، وكانت هناك مدارس خاصة للتمثيل، وكان هناك فلان مغني، وفلانة مغنية، لكن الحمد لله! زالت تلك السحب ولاحت أنوار الشمس من جديد، وأصبح الحاضرون لا يتألم وممكن واحد في المائة إذا نددنا بالأغاني وأهلها، وقبل اليوم يا ويحك.على كل حال! عرفتم الإسلام الذي نحن من أهله: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي: آمنا بالله رباً وإلهاً، لا رب غيره ولا إله سواه، فلا نصرف طاعة من طاعته لغيره أبداً كيفما كانت الأحوال إلا إذا هددنا بالقتل أو التعذيب فقد رفع الله عنا ذلك: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].ثانياً: الإسلام قائم على الإيمان، ومن لم يؤمن لا يستطيع أن يسلم شيئاً، فهو شحيح، حتى بساعة من يومه أو ليلته، لكن إذا آمن وأيقن وأصبح على نور من ربه فهو مستعد أن يجاهد.لقد كان الأوائل يرقصون فرحاً إذا دخلوا الميدان ومعركة الجهاد فرحاً بلقاء الله عز وجل؛ لأنهم عرفوا الله عز وجل. وكان أحدهم يخرج بماله، وقد خرج أبو بكر من ماله كله، وخرج عمر من نصف ماله، وخرج شيخكم في جهاد الجزائر من نصف ماله، كان عندي قدر من المال قسمته قسمين وقدمناه للمجاهدين أيام كان الجهاد لله.أما الحكومة السعودية التي نسأل الله تعالى أن يميتنا قبل أن يسقطها، وألا يرينا الله تعالى فيها مكروهاً، فإنها آية الله وحجته على البشرية كلها، أين الذين يفقهون ويفهمون؟لما هبطت أمة الإسلام ولصقت بالأرض وسادها الكفر وقادها إلى العهر والفجور والسحر والباطل وعزم العالم كله ألا عودة للإسلام، وألا قيمة لهذا القرآن، يقرأ على الموتى، ولا يتحقق به أمن ولا طهارة ولا صفاء؛ فجاء الله بـعبد العزيز قدس الله روحه، ولعن الله من يلعنه، جاء به في ظروف قاسية وشديدة، واسألوا الذين كانوا في جيشه فقد كان راتبهم صاعاً من شعير أو تمر، ولا طائرة ولا سيارة ولا هاتف، فحكَّم كتاب الله، وأقام تلك الدولة البدوية الصحراوية على دعائم إلهية ربانية؛ أربع دعائم فقط جاءت في قول الله تعالى من سورة الحج يا أهل القرآن: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] وبالله الذي لا إله غيره لن تكمل أمة ولن يسعد شعب ولن تطهر بلاد ولن تعز ما لم تقم الدولة على هذه الأركان الأربعة.وساد البلاد أمن ما حلمت به هذه البلاد من عهد القرون الذهبية الأولى، بعدما كان الرجل في المدينة يجد باب بيته يباع في السوق فلا يتكلم. وكان الحاج يأكل ذهبه يدخرها في بطنه حتى إذا خرأها استخرجها وإلا تسلب منه.فساد هذه البلاد أمن، ويمشي الرجل من طرف المملكة إلى طرفها شرقاً وغرباً لا يخاف إلا الله، وقد سكنا من كذا وأربعين سنة في منزل والله بلا باب، وهذه السويقة الصغيرة باب السلام تمر بالذهب والدراهم والدنانير مكومة وعليها غشاء غطاء من خرقة بالية والمؤمنون بين يدي الله يصلون، لا يخافون أن يسلب دينار ولا درهم، فكيف تحقق هذا الأمن؟ بالسحر! تحقق بالبوليس! بالآلات!فرنسا رسمياً تعلن عن عشرة آلاف جريمة في كل يوم، ومن منا يملك طاقات الأمن كفرنسا؟ وهل نفعت؟!لقد تحقق طهر ما كانت تعرفه هذه البلاد إلا في عهد القرون الذهبية بقوة ماذا؟ لا شيء.لقد أراد الله أن يقيم حجته على الخلق ليعلموا أن الإسلام إذا طبق وعمل به لابد وأن يتحقق به مراد الله من الأمن والطهر والصفاء.وسحر اليهود العرب والمسلمون فاستقل لنا نيف وأربعون إقليماً، وعايشنا تلك الاستقلالات، فلما كان الإقليم يستقل كان نقول: الله أكبر! الله أكبر! فاستقلت باكستان .. استقلت إندونيسيا .. ولم يعرف إقليم واحد هذه القواعد الأربعة وبنى عليها دولته، وهو كذلك حال الدويلات الهابطة والتي فيها حفنات من البشر.أنا أعجب! حاربنا فرنسا وطردناها وأجليناها فلم لا نطبق شريعة الله؟طردنا بريطانيا وأبعدنا هولندا العجوز وقد كانت تحكمنا في إندونيسيا، كيف أن ثلاثة عشر مليوناً يسوسون مائة مليون، فأين المسلمون؟ الجواب: ماتوا. فلا أقيمت الصلاة في بلد ولا جبيت الزكاة في بلد ولا وجد من يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر في بلد.وكان المفروض بنا لو كنا متأهلين للخير أنه ما إن يستقل إقليم - ونحن ما استقللنا في يوم واحد ولا في عام واحد بل أكثر من خمسين سنة- في الشرق أو الغرب، في بلاد العجم أو العرب يأتي رجاله على الفور، وتأتي لجنة سباعية .. عشارية، ويقولون: أي عبد العزيز ! أنت إمام المسلمين، وهذه مفاتيح البلاد بين يديك، فابعث لنا قضاة يقضون بيننا بالكتاب والسنة كما عندكم، ويكونون هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيدخلون البلاد أولاً: إقام الصلاة إجبارية. ثانياً: جباية الزكاة رسمية، فلا ضريبة ولا مضروبة، وثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم تابعون للدولة الإسلامية وجزء منها حتى تعود الخلافة من جديد. والله ما فعل هذا قطر ولا إقليم لا من العرب ولا من المسلمين. وهذا الواقع. وبعد ماذا أصابهم من بلاء؟ هل عزوا؟ هل كملوا؟ هل سعدوا؟ هل طابوا وطهروا؟أسألكم بالله! لا شيء، هذا جزاؤنا، لو تم هذا لكانت الخلافة قائمة، لكن على العكس هناك من يقول: السعودية اليهودية، السعودية الوهابية، فالسب والشتم. ومحدثكم هذا الذي تغضبون له وعليه سمع هذا من الشرق والغرب، كأنه لا عدو إلا هذا، والله بأذني هاتين ركبت حافلة في بلد ما، وطلع أعمى ومعه دف وزميله مساعده معه، يدفدفون هكذا ويطلبون الفلوس يقولون: يا سعودية يا يهودية؛ ليجمعوا الفلوس ويعطيهم إخوانكم. آه! فماذا عسانا أن نقول؟وجاءت الفاضحة، وليست الحاقة ولا الواقعة، وهي حرب الخليج، وإخواننا المسلمون يرقصون ويصفقون فرحون بالجهاد مع صدام . والله لولا الله لتبقى هذه الحجة له قائمة لكانوا في أربعة أيام يطبقون علينا نهائياً، وقد طوقونا من الشمال والجنوب والغرب والشرق، ولكن الله قال: قفوا، فما زالت حجة الله عز وجل. فوقفوا.هل من واع؟ كلا، فلا بصيرة ولا وعي.وفي داخل البلاد يعملون على إسقاطها وإحباطها، فيهزءون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسخرون من العلماء، ويستهزئون بالحكام وهم لا يشعرون.ونحن نقول: يا جماعة! يا مسلمون في الشرق والغرب! هذه آية ربكم لا تطفئوا نورها، فاعملوا على بقائها وتقويتها.إن الذي يزني في هذه البلاد يهدم في هذه الحكومة، والذي يكذب في هذه البلاد كالذي يسرق ويهدم، والذي يترك ذكر الله ويقبل على ذكر الشيطان هو يعمل على هدم هذه البقية الباقية، تقول: استقيموا، ولكن:أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تناديوليمض حكم الله وهو العزيز الحكيم.إلا أننا نتوقع أن محنة وفتنة وبلاء ستنزل بالعرب والمسلمين، لا ندري كيف، وظواهرها وبوادرها لائحة في الآفاق، لأننا ما عرفنا الطريق إلى الله. والعلة ما من مصيبة إلا بذنب، وصدق الله العظيم: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].

تفسير قوله تعالى: (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ...)
قال تعالى: كَيْفَ بمعنى الاستبعاد: كيف هذا؟ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ [آل عمران:86] أي: كيف ترجع هذه الأمة إلى ربها وتعود إلى منهج إلهها لتسموا وتكمل وقد هبطت؟قال: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:86] أي: كالشمس وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران:86] أي: لا يهديهم إلى ما فيه سعادتهم وكمالهم .. لا يهديهم إلى طرق النجاة والسلامة من عذاب الدنيا وخزيها وعذاب الآخرة وخزيها.وهذه الآية وإن نزلت في أحداث فهي عامة.كم واحد دخل في الإسلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ذهبوا إلى مكة وارتدوا؟هناك مجموعة من اليهود حصل منهم هذا، لكن الآية ليست بسبب شخص أو أشخاص.قوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا قلوا أو كثروا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ أي: بعد أن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله انتكسوا وارتدوا وعبدوا غير الله، وكذبوا رسول الله وحاربوا دينه ورسالته.فيستبعد الله تعالى إيمان هؤلاء، فما يعودون.وبنو أبيرق كانوا قد سرقوا درعاً، والدروع كانت ذات قيمة في الحروب، فلما طلبوه وشعروا أخذوا الدرع ورموه في بيت يهودي وقالوا: تعالوا، فالدرع في سقيفة اليهودي. فجاء الأصحاب ووجدوا الدرع في بيت اليهودي، فقال اليهودي: أبداً، أنا ما فعلت، والنبي صلى الله عليه وسلم بشر، فدافع عن بني أبيرق، ثم فضحهم الله، وشرد زعيمهم وذهب إلى مكة مرتداً، وجاء يخون في منزل فحفر الجدار وأدخل رأسه فسقط عليه الجدار، فألقي كالفأر ميتاً كافراً في الجدار، وفيه نزل: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ... [النساء:105-106] الآيات.فهذه الأحداث وجدت، لكن الآية أعم من جماعة أو فرد.ثم لما نبحث في قوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ [آل عمران:86] نجد ينطبق على الذين عطلوا الشريعة بكاملها وأعرضوا عنها، ويستوردون القوانين الهابطة من ديار الشيوعية والصليبية والكفر ويعرضون عن الإسلام.وشيء آخر: هل سادوا أو عزوا وكملوا؟ هل ذاقوا نسيم الأمن والطهر في ديارهم؟ والله ما ذاقوه.هي نتوب إلى الله، فإن الله قال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:89]. من يبلغهم هذا؟ لا أحد، فهناك إعراض كامل.

تفسير قوله تعالى: (أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)
يقول تعالى في بيان الجزاء للمرتدين والمنتكسين والمعرضين بعدما لاحت أنوار القرآن وهدايته في الأرض، يقول: أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ ماذا؟ مائة ريال .. سجن .. أولئك البعداء الخاسرون: جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [آل عمران:87] واللعن هو: الطرد والبعد، تقول: العنه أي: اطرده وأبعده من ساحتك. فلعنة الله تعني إبعادهم عن كل خير، ولعنة الملائكة تعني الدعاء عليهم بالبلاء والشقاء، ولعنة الناس أجمعين تكون يوم القيامة، فالظالمون يلعن بعضهم بعضاً وهم في جهنم.إذاً أولئك البعداء جزاؤهم مقابل ردتهم وانتكاستهم وإعراضهم ونسيانهم لذكر الله بعدما جاءهم الحق وعرفوه، الكتاب بين أيديهم والرسول يعرفون حتى قبره وبلاده؛ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [آل عمران:87] .

تفسير قوله تعالى: (خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون)
قال: خَالِدِينَ فِيهَا [آل عمران:88] فلا يخرجون من هذه اللعنة، من أين يخرجون وقد أغلقوا الباب على أنفسهم، فارتدوا وانتكسوا، ولو عرفوا الطريق وعادوا ممكن كما سيأتي، لكن الواقع هو هذا: خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [آل عمران:88] لا يفتر ولا يخفف العذاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ [آل عمران:88]، فالله غاضب ساخط عليهم، لا يرحمهم ولا يلتفت إليهم.

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)
اللهم: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا [آل عمران:89] فرجعوا إلى الإيمان والعمل الصالح وما أفسدوه، وأما القلوب التي أفسدوها والنفوس التي دسوها بالباطل والشر يعملون على إصلاحها.إذاً: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:89] فيغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم، إذ من صفاته صفات الجلال والكمال أنه غفور، فلو لم يكن من ذنب كيف يعرف أن الله غفور؟وهو رحيم بعباده .. بالحيوانات .. بكل المخلوقات، فكيف بمن رجعوا إليه واطرحوا بين يديه معلنين عن توبتهم وإسلامهم؟!هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-08, 12:52 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (27)
الحلقة (168)

تفسير سورة آل عمران (33)


إن أعظم نعمة ينعم بها الله على عباده أن يهيئهم للإيمان والتوبة من العصيان، ومن أعظم الخذلان أن يكفر المرء بعد إيمان، وأن يعود إلى الظلمات بعد أن أخرجه الله منها، ومن كان هذا حاله فلن ينفعه شيء في الآخرة، ولن ينجيه من عذاب الله شيء، حتى لوى افتدى نفسه بملء الأرض ذهباً، وحتى لو افتدى نفسه بالقريب والبعيد.

تفسير قوله تعالى: (كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الثلاثاء من يوم الأربعاء، ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).اللهم حقق لنا رجاءنا فيك يا رب العالمين.وبشرى أخرى نزفها لكم يا أيها المؤمنون! يقول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ) فهنيئاً لكم.وثالثة: إذا صلى العبد الفريضة وجلس في مصلاه يذكر الله حتى صلى الفريضة الثانية غفر له ما تقدم من ذنبه، فالحمد لله الذي أعطانا ما حرمه غيرنا، والآن عشرات الآلاف من أبنائنا وإخواننا يتواجدون هنا وهناك وهم محرومون من هذه الجلسة، لا لشيء، فقط ما أقبلوا على الله لا أقل ولا أكثر، فالحمد لله! وهذه هبته وعطيته، فلا يحمد على الحقيقة إلا هو.وها نحن مع هذه الآيات الثلاث.تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:90-92].

أهمية الإسراع في التوبة وعدم الاستمرار على المعاصي
معشر المستمعين والمستمعات! انتبهوا لهذا الخبر، يقول الله العليم الحكيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] بالنسبة إلى أهل الإيمان من أمثالكم -أكثر الله منكم- أن عبد الله أو أمته إذا تاب قبلت توبته ما لم يغرغر، فإذا حشرجت النفس في الصدر وأصبح غر لا يفصح عما يقول ثَمَّ أغلق باب التوبة عنه فلا يفتح، أما قبل أن يغرغر فإن توبته مقبولة ولو عصى الله في اليوم سبعين مرة وتاب عند كل معصية باب الله مفتوح.ولكن مع هذا تنبيه .. تحذير .. إعلام: احذر يا عبد الله واحذر يا أمة الله! من الاستمرار على المعصية، فإنه يأتي وقت يحال بينك وبين التوبة، فلا تستطيعها، ولا تقدر عليها، أما الله تعالى فهو مستعد لأن يقبلها إن جاءت، وإذا حال بينك وبينها حوائل فماذا تصنع؟!فليحذر عبد الله أو أمته من الاستمرار على المعصية.يا عبد الله! يا أمة الله! إذا زلت القدم وأصر عبد الله أو أمته على المعصية فليعجل التوبة وليسرع بها؛ خشية أن يحال بينه وبينها، واسمعوا قول الله عز وجل في هذا الشأن، فقد جاء من سورة النساء المدنية: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:17-18].ومن هنا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته سبيل نجاتها، فقال وقوله مستقى من كلام ربه، قال: ( عجلوا بالتوبة ولا تؤخروها )، فمن أذنب ذنباً فليسارع بالتوبة ولا يتماطل أو يتسوف، فأسرع يا عبد الله خشية أن يصبح العبد على حال لا يستطيع معها أن يتوب؛ لأنها سنة الله في الناس. فالذي تعود أكل الحلال .. تعود أن يتناول تمرة عند يقظته من نومه يصبح في حال لا يستطيع أن يصبر على ذلك، فقد تعود أن يأكل نوعاً من الطعام يصبح لا يرغب إلا فيه، وهذه أمور مشاهدة، كالذي يعتاد الكذب ويستمر عليه يصعب عليه أن يتوب منه، والذي يعتاد أية معصية ويستمر معها ولا يسارع إلى التوبة ولا يتوب منها ففي أغلب الأحوال أنه يموت عليها، ولهذا أجمع أهل هذه الملة على وجوب التوبة وعدم تأخيرها.قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي: واجبة على الله واجب تفضل به وامتن به علينا، وإلا الله من يوجب عليه؟ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ وهو كل سيئة من شأنها أن تسوء إلى النفس البشرية فتلوثها وتدسيها يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17] أما عمداً وتحدياً وعدم مبالاة بالله فمثل هذا لا يتوب الله عليه. ومن هذه الجهالات أن يقول: سأتوب إن شاء الله، أو إذا زال كذا، أو إذا حصل كذا، أو يقول: لو كان هذا حرام فلم فعله الشيخ الفلاني؟ أو لو كان هذا مما يكرهه الله فلم يفعله فلان وفلان؟ هذه أنواع الجهالات.بخلاف من يتحدى الله فيقول: أعرف ربي أنه حرم وأنا سآتيه، فمثل هذا لا يتاب عليه.ومن يقول: هذا ليس بحرام، ولا يفهم أنه حرام، فهذا نوع من الجهالة، وبمجرد أن يقبل على الله فإن الله يقبله ويتوب عليه، وله التوبة.ولاحظ هذا القيد فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ أولاً: بِجَهَالَةٍ وثانياً: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] والقرب هنا نسبي، فليس مسافة كيلو أو ميل أو عشرة، ولا مسافة يوم ولا عام ولا عشرين عاماً، فمن هنا كانت الحيطة تتطلب أنك بمجرد ما تفعل المعصية أن تقول: أستغفر الله وأتوب إليه.وإليكم صورة أمام أعينكم: في سوق التمَّارين كانت هناك امرأة مؤمنة زوجها في غزوة من غزوات المؤمنين، فاضطرت إلى أن تأتي إلى السوق لتشتري تمراً لأولادها إذ هذا غذاؤهم، فوقفت على بائع التمر، وأخرجت يدها بيضاء كفلقة القمر؛ لأنها مستورة، فأخرجت النقود، فما إن رآها الفحل التمار حتى أعماه الشيطان فأكب على ذلك الكبش يقبله، ثم قالت: أما تتقي الله؟ فأفاق والله من ذلك السوق وهو يجري ينتف شعر لحيته، ويحثو التراب على رأسه، وعاد يصرخ ويبكي إلى هذا المسجد .. إلى الروضة وهو في حالة لا تتصورها، فسأل أحد الصحابة فرده، وانتظر حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب بالمسلمين وشكا إليه وهو يبكي، فقال: ( صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم. قال: إن الله يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فمسح دموعه ). والله يقول: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ). هذه هي التوبة.أما أن يستمر الليالي الطوال والأيام والأعوام على معصية من كبائر الذنوب فأنى له أن يتوب، ولكن باب الله واسع؛ فكم من إنسان لازم معصية عشر سنين وأقدره الله على التوبة وأعانه عليها فتاب، وكم من إنسان هلك في أسبوعه الأول، ومن هنا الحيطة تقتضي بمجرد ما أشعر أنني أخطأت تقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله وأتوب إليه.

عدم قبول توبة من ازداد كفراً بعد إيمان
قال تعالى في الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ [آل عمران:90] فكانوا مؤمنين، فلما بعث فيهم عيسى عليه السلام كفروا بعيسى وادعوا أنه ساحر وأنه ابن زنا وأنه.. وأنه..؛ محافظة على أموالهم ومناصبهم وعلى رئاستهم بين إخوانهم، والعوام يتبعون العلماء.ثم قال: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [آل عمران:90] أي: فزادوا كفرهم الأول كفرهم بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وهؤلاء أخبر تعالى أنه لن يقبل توبتهم، لأنهم ليسوا بأهل لأن يتوبوا، ولو تابوا فلن تقبل توبتهم ولن يتوبوا، فإنهم كفروا على علم في المرة الأولى، ثم كفروا في المرة الثانية، وكفرهم ليس مجرد تكذيب، بل يضاف إليه الكيد والمكر والقتل وسفك الدماء وإثارة النفوس و.. و.. وجرائم أخرى فعلوها.وقد حاولوا قتل النبي ثلاث مرات، ومات والله متأثراً بالسم الذي سقته الخيبرية.وهذا النوع يقول فيه تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] والضلال بعيد.وهذه مسألة أخرى نضرب لها مثلاً: فهناك فرق بين الضلال القريب والضلال البعيد، والآية فيها ضلال بعيد، فلو أراد أخونا أن يمشي إلى مكة الليلة، فاتجه شمالاً، ومشى طول الليل فتبين له أن مكة في الجنوب وليس في الشمال، فرجع وأمكنه؛ لأن الزاد ما زال عنده والإعياء ما أخذه والراحلة معه، لكن إذا ما كان قد مشى وواصل المشي شهراً أو شهرين فوصل إلى تركيا مثلاً فكيف يرجع؟ فما بقيت له قدرة على الرجوع؛ لأن ضلاله بعيد.ففرق بين الضلال القريب والبعيد، فمن هنا قوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] لأنهم توغلوا في الكفر والشر والفساد والظلم والخبث، وما أصبحوا أهلاً لرضا الله أبداً، فلا يقبلهم الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ...)
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [آل عمران:91] أي: كفروا بالله ولقائه .. بالله ورسوله .. بالله وكتابه .. بالله وشرائعه، وماتوا على الكفر، فما أسلموا بعد ذلك ولا رجعوا، فهؤلاء يقول تعالى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [آل عمران:91] كل هذا يوم القيامة في عرصاتها .. في ساحة فصل القضاء. وهل هناك مال يومئذ؟ لا، وهذا من باب التقريب للأذهان، فتوبتهم لا تقبل، والفداء لا يقبل، ولو أراد أحدهم أن يفتدي وكان يملك ملء الأرض ذهباً وقدمه والله ما قبل منه، إذ العمل قد انتهى، والدار دار جزاء إما نعيم مقيم أو عذاب أليم.قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: من العرب والعجم .. من اليهود والنصارى .. من أي جنس وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ماتوا على الكفر، هؤلاء: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ لو قال: رب! هذه الأموال كلها وأنقذني بها من دخول النار؛ إذ يوم القيامة لا دينار ولا درهم، بل ولا نسب ولا حسب، قال تعالى: فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، وكل ما في الأمر: هل النفس زكية طاهرة أو خبيثة منتنة؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] وزكاتها يومئذ، وطهارتها مبنية على تزكيتها اليوم وتطهيرها بالإيمان وصالح الأعمال وبإبعاده عن الشرك والعصيان.ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:91] أي: موجع.ما هذا العذاب الأليم؟قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:13-14]، اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16] أي: تدري؟ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:43-44] والأثيم هو المتوغل في الآثام من الشرك والكفر إلى الظلم والشر والفساد، فقد خبثت نفسه، وهذا هو طعامهم، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:45-46] فهذا الزقوم لما يأكلوه يغلي في بطنه كما تسمع الغليان في القدر، كغلي الحميم، لا، كالماء الحار لما يغلو خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إلى أين؟ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:47-48] فهذا عذاب جسماني قد يطاق ويتحمل، ووراءه عذاب نفسي لا يطاق وهو قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49] أي: ذق إنك أنت العزيز في الدنيا الغالب المعتز بوجودك وبلادك وكرمك، فهذا عذاب الروح أشد من عذاب البدن، وإلى الآن الأحرار كلمة في أعراضهم تقتلهم أكثر من ضربة بالسيف.وهل تريدون ألواناً من هذا العذاب؟قال تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ موحد ومشرك فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج:19] ثياب من نار من يفصلها ويقطعها الزبانية يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:19-21] أي: مرزبة على رأسه مقامع من حديد.ماذا تقولون؟ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [يس:63-64]. والله تعالى نسأل أن يقينا عذاب النار، فلهذا لا يصلين أحدكم صلاة حتى يستعيذ بالله من أربع، وهي آخر ما يصلي على النبي يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال ). وما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات. وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:91] فلا يوجد من ينصرهم بتأخير العذاب أو بتفتيره عن أوقات معينة، فقد انطوت الحياة كلها وما بقي إلا عالمان أعلى وأسفل .. عليون وسجين، ليس هناك حياة أخرى، وأهل النار في سجين، وإن كانوا من أهل التوحيد فإنهم يصهرون فيها ويلبثون فيها أحقاباً ويحترقون حتى يصبحوا كالحمم أي: كالفحم، ثم يخرجهم الله بتلك الحسنة وهي قولهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله! ويقدمون أو يساقون إلى نهر يسمى: نهر الحيوان، مبالغة في الحياة، فيغسلون فيه فينبتون كما ينبت البقل، ثم يدخلون دار السلام. هذا إن كانوا موحدين لم يشركوا بالله شيئاً، لكن من ذنوبهم أنهم سفكوا الدماء .. أكلوا أموال الناس .. فجروا، كذا .. وماتوا بدون ما توبة، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] فهذه حسنة التوحيد.يا من قلوبهم مع الله! أبشروا حتى لو عذبتم ما شاء الله في عالم الشقاء تعودون إن شاء الله إلى دار السلام.نسأل الله ألا ندخل النار وألا نعذب لا ساعة فيها ولا يوم، بل نريد أن ندخل مع السابقين: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:10-14] اللهم اجعلنا من هذا القليل.

تفسير قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ...)
قال تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ [آل عمران:92] يا معشر المؤمنين والمؤمنات حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92] وسيجزيكم عليه قل الجزاء أو كثر بحسب عمله. وهذه الآية معشر المؤمنين والمؤمنات نزلت فينا لا في اليهود ولا في النصارى؛ لأننا تواقون إلى البر، وسباقون، وكل يرغب أن يكون من الأبرار، والأبرار جمع بار وهو المطيع الصادق في طاعته لله ورسوله، قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا [الانفطار:13-15] متى؟ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [الانفطار:15-16].يا من صاموا وصلوا! يا من قاموا الليل! يا من بذلوا أنفسهم! يا من يسارعون في الخيرات ويسابقون! يا عمر! يا فلان! تعالوا إلى هذا الإرشاد الإلهي وهو: اعلموا أنكم لن تنالوا البر وجزاءه وهي الجنة دار النعيم، ولن تنالوا وصف الأبرار على الحقيقة حتى تنفقوا في سبيل الله مما تحبون، أما الذي لا ينفق أو ينفق مما يكره لا مما يحب فلن يصل إلى هذا المستوى؛ لأن لفظ البر كلمة جامعة للخير كله، والمراد به هنا: الجنة، إذ هي جزاء الأبرار، فلن تنالوها حتى تنفقوا مما تحبون.والحمد لله! ما قال: حتى تنفقوا ما تحبون وإلا خرجنا الليلة من بيوتنا: حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].واشرأبت أعناق المؤمنين لهذا النداء القرآني، فهذا عمر قال: يا رب! أنا ما عندي إلا الجارية الفلانية هي أحب ما أحب من الجواري، فهي لك يا رب، فعتقها.أما ولده عبد الله فقال: أنا عندي نافع مولاي فهو لك يا رب، فأعتق نافعاً .ومِن الصحابة من كان عنده فرس هي أحب ما يكون إليه فقال: هذه فرسي لك يا رب! فهي الذي أحب.وجاء ذاكم الصحابي الجليل طلحة صاحب حديقة بيرحاء، وبئرها كان موجوداً، والآن زال، وقد رأينا بئرها وشربنا منه، فقال : ( يا رسول الله! لقد نزل عليك قول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ) أي: حائط بيرحاء، وعنده بساتين أخرى لكن هذه ذات أشجار وظلال ونخيل وماء عذب، وهذا الماء شربنا منه بعد ألف وأربعمائة سنة.قال الصحابي: ( ضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال له الرسول: بخ بخ، ربح البيع. اجعلها في أقاربك، فوزعها بين أقاربه ).ولو يقوم إمام المسلمين الآن ويقول: نريد أن نغزو فأنفقوا مما تحبون، فالذي يقدم سيارة ممتازة يكون حاله كحال هذا الصحابي، والذي يقدم سيارة مهللهة فلا ينفع.أقول: الحمد لله! ما قال: أنفقوا ما تحبون، فمن يطيق؟ بل قال: مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، فإذا كان عندك قطع من الذهب فأنفق منها قطعة، وإذا كان عندك قطع من الفضة فأنفق منها قطعة، وإذا كان عندك من البساتين الكثير وأحب إليك البستان الفلاني فأخرجه تصدق به، وهكذا. وفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زال المؤمنون يفعلون.قال تعالى: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ قل أو كثر فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92] ومعنى هذا: لازمه أنه يجزيكم عليه، ويعطيكم ثوابه، والحسنة بعشر أمثالها، وريال الذي راتبه ألف ريال يعدل مائة ريال الذي راتبه عشرة آلاف ريال، فتختلف الحسنة بأصحابها، فإن كانوا أغنياء فدرهمهم ليس كدرهم الفقير الذي لا يملك، ومعنى هذا أن باب الله مفتوح، فيا من يريدون أن يدخلوا الجنة فإنها مفتحة الأبواب. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [آل عمران:90] فلو كان كفروا ثم تابوا قبلوا كما تقدم في الآية السابقة، لكن ازدادوا كفراً وتوغلوا فيه فلن تقبل التوبة، فخبثوا، وما أصبحت أرواحهم قابلة للطهر والصفاء وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] والضال هو البعيد الضلال الذي لا يرجع.ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [آل عمران:91] فما تابوا قبل أن يموتوا، فهؤلاء الجزاء : فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فداء مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا [آل عمران:91] لو افتدى به، مع أن هذا لا وجود له، فهو من باب الفرض والتقدير فقط. قال: أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:91] ينصرونهم، لا بتخفيف العذاب ولا بتأخيره ولا ولا.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

من هداية الآيتين
قال المؤلف: [من هداية الآيتين: أولاً: سنة الله فيمن توغل في الكفر أو الظلم أو الفسق وبلغ حداً بعيداً أنه لا يتوب ] فلهذا عجل بالتوبة ولا تؤخرها أبداً، ولا تقل: حتى أتزوج .. حتى تعود أمي .. حتى أبني المنزل .. حتى أتوظف، فانتبه لهذه الكلمات التي يمليها الشيطان، فإذا شعرت بأنك أذنبت فقل: أستغفر الله وأتوب إليه .. أستغفر الله وأتوب إليك، خشية أن يحال بينك وبين التوبة.ثم قال: [ ثانياً: اليأس من نجاة من مات كافراً يوم القيامة ] فإذا مات أبوك أو أخوك أو زوجتك أو أمك -والعياذ بالله- على الكفر، فلا نجاة أبداً، وليس هناك رجاء أبداً، أيئس. وإذا مات من مات على الكفر أيسوا المؤمنين من أن يدخلوا الجنة أبداً، وهذا كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا [آل عمران:91] فهذا تيئيس.ثم قال: [ ثالثاً: لا فدية تقبل يوم القيامة من أحد، ولا فداء لأحد فيه ] فلو قدمت أسرتك كلها أو تقدمت الأسرة تقول: يا رب! أدخلنا النار وأنج والدنا وأدخله الجنة؛ والله لا يقبل أبداً، بل لو تقف البشرية كلها وتقول: يا رب! أنقذ فلاناً فقط وأدخله الجنة.ومن أراد الصورة المثالية: فهذا رسول الله قائم على الحوض في عرصات القيامة، وإذا بجماعات ممن ينتسبون إلى الإسلام يقبلون على الحوض فيطردون، فتطردهم الملائكة فيقول: ( رب! إخواني، يقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً ).وأوضح من هذا إبراهيم وقد واعده ربه في القرآن بإنقاذ والده من النار، فلما يجد والده في النار يصرخ: يا رب! لقد واعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار فأي خزي أخزى من هذا يا رب! فيقال له: انظر تحت قدميك. وكان رافع رأسه يبكي، فينظر وإذا بين يديه والده آزر البابلي في صورة ذكر الضباع ملطخ بالدماء والقيوح، فما إن يراه إبراهيم عليه السلام حتى يقول: سحقاً سحقاً، فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في عالم الشقاء، فتطيب نفس إبراهيم.إذاً: من مات له ميت على الشرك والكفر فلييأس من نجاته، أما من مات على ذنب: آكل ربا .. زنا فعل كذا وعقيدته مؤمنة سليمة فهذا يرجى له، وأما من مات على الكفر، والكفر هو الجحود، فمن جحد كلمة واحدة من شرع الله فهو كافر، والتكذيب من كذب الله أو رسوله في قضية واحدة وآمن بكل القضايا فهو كافر. قول ربنا لنا نحن المؤمنين: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ قلَّ أو كثر فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92]، ولازم ذلك أن يجزيكم، فلا تقل: آه لعل الله ما يدري أنني أنفقت يوم كذا كذا وكذا، فانتبه! فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92].
قراءة في تفسير قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ...) من كتاب أيسر التفاسير

من هداية الآية
قال المؤلف: [من هداية الآية: أولاً: البر وهو فعل الخير يهدي إلى الجنة]، وإياك أن تفهم البيرة فهي خمر عالمية، والمرضى بالجهل مساكين صاروا يورّدونها إلى المدينة بحجة أنها خالية من مادة الإسكار الكحول، وأصبحنا نسمع البيرة: أعطني بيرة في المقاهي. وهذه قبل ثلاثين سنة، والحمد صرخنا وبكينا في هذا الدرس وقلنا: يا جماعة! حتى لو كانت عسلاً ما دام اسمها البيرة فهي حرام.وهذا الشاطبي يقول في أصول الفقه: لو تتناول كأس اللبن أو الماء أو العسل على الهيئة التي يتناولها عليها الشرّيب الذي اعتاد يشرب الخمر؛ فتأخذ الكأس على الطريقة التي يأخذ انقلب فوالله إن لبنك إلى خمر، وإنك آثم.وكذلك الذي يمسك القلم ليكتب به على هيئة الحشاشين أصحاب الدخان، وانظر لما يركب السيارة كيف يعمل السيجارة، وأنت تتناول القلم رغبة في أن تكون مثله فانقلب قلمك إلى سيجارة، وهذا لا يصح.واسم البيرة يكفي، وأكثر من يشربها من أبنائنا الطائشين يشربها من أجل اسمها البيرة.ثانياً: الحجاج والزوار عندما يزورون دولة الإسلام التي يمنع فيها صنع الخمر وبيعه وتوريده، ويجلد صاحبه أمام المسجد، يقولون: البيرة موجودة في المدينة، كيف هذا؟! وهي والله موجودة، فسببتم حكومة القرآن وشتمتموها أمام العالم، وهذه وحدها كافية في تحريم هذه المادة، وهذا السائل حرام أن تقدمه، وقد سببتم دولة القرآن وعرضتموها للطعن والنقد والإهانة.ثالثاً: إنهم يوردون عشرين كرتونة كما يقولون بيرة، ويدسون كرتون الوسكي بينها، والله قد فعلوا، وهذه حيل الفساق والفجار والجاهلين الذين لا يعرفون الله إلا بالانتساب، والحمد لله قد استجابت الهيئة وطاردوهم ومنعوها من الدكاكين. قال: [ ثانياً: لن يبلغ العبد بر الله وما عنده من نعيم الآخرة حتى ينفق من أحب أمواله إليه ]، فإن ورثت باخرة كاملة من البيرة فارمها في البحر، والله ليعوضنك الله أكثر مما رميته، وأنت يا صاحب المقهى إن اشتريتها في غفلة أو جهل فارمها في بئر، واطلب الجزاء من الله، فوالله لن تخيب ولن يخيبك.أما أنت يا ضائع! يا من يتلذذ باسم الحرام في مدينة الرسول! فاعلم أنك على حفا هاوية، وإن لم ينقذك الله هلكت، والذي يشرب البيرة ويتلذذ بها والله لو وجد المسكر شربه، أقسم بالله لما نعرف من سنة الله في الخلق.قال: [ ثالثاً: لا يضيع المعروف عند الله تعالى قلَّ أو كثر، طالما أريد به وجه الله تعالى ]، فالذي يتصدق بمليار كالذي يتصدق بريال، والله لا يضيع أجر هذا ولا ذاك، والذي يتصدق بتمرة كالذي يتصدق بصاع من التمر؛ لأن الله لا يضيع أجر المحسنين.وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-11, 11:52 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (28)
الحلقة (169)

تفسير سورة آل عمران (34)

أحل الله عز وجل لعباده الطيبات من الرزق، ومن ذلك أنه أحل لبني إسرائيل كل الطيبات من المطاعم والمشارب إلا ما حرمه يعقوب على نفسه لنذر سبق وأن نذره، ثم لعصيان بني إسرائيل وطغيانهم وتمردهم على شرع الله عاقبهم الله تعالى بأن حرم عليهم طيبات كانت قد أحلت لهم.

تفسير قوله تعالى: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عندهم ) ، اللهم حقق لنا هذا الرجاء؛ إنك ولينا، ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس ونحن في سورة آل عمران إلى هذه الآيات، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:93-97].

سبب نزول قوله تعالى: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل ...)
معاشر المستمعين والمستمعات!قول ربنا جل ذكره: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ... [آل عمران:93] الآية، ما سبب نزولها؟ما زال السياق مع أهل الكتاب! وها هم اليهود يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: أنت تدّعي أنك على ملة إبراهيم، وها أنت تبيح ما حرم الله على إبراهيم وبني إسرائيل؛ فتأكل لحوم الإبل وتشرب ألبانها، فأين تقيّدك بملة إبراهيم؟!فعلماء اليهود بالمدينة لما نزلت الآيات: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123] قالوا: كيف تقول: أنا على ملة إبراهيم وتستبيح ما كان حراماً على إبراهيم؟فأجاب الرحمن ولي محمد صلى الله عليه وسلم قل لهم: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:93]، فلا لحوم الإبل ولا الألبان ولا لحوم ذات الظفر ولا .. ولا.وقوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أي: لأولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وأولاده الأسباط هي قبائل بني إسرائيل. كَانَ حِلًّا ، ومن يرد على الله؟قوله: كُلُّ الطَّعَامِ على اختلاف أنواعه كان حلاً بمعنى: حلال، لبني إسرائيل اللهم إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران:93]، وبين يعقوب عليه السلام ونزول التوراة قرون ومئات السنين، فالتوراة أنزلت على موسى، فأين موسى من يعقوب؟والآن أسكتهم فقال: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عليه السلام عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران:93].وماذا حرم إسرائيل على نفسه؟كان إسرائيل قد مرض بعرق النسا، عافانا الله وإياكم منه، وفيه آلام يعرفها من أصيبوا به، فنذر لله تعالى إن شفاه ألا يأكل ما يشتهي في هذه الحياة، وأن يترك أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها، فما إن شفاه الله تعالى حتى تركها فلا يأكل لحم الإبل ولا يشرب لبنها، هذا والله لحق.قال: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ وإسرائيل هو يعقوب، ولقب بإسرائيل لأن إيل معناها: اسم الله القوي القدير، وجبريل .. ميكائيل .. إسرافيل .. إسماعيل، فإيل هو الله -بالعبرية- القوي القدير.

علاج نبوي لمرض عرق النسا
هنا علاج لمرض النسا مذكور في هامش الكتاب: [ روى ابن ماجه في سننه ]، وهو من أصحاب السنن، وسننه مقبولة إلا ما ضعفه أهل الحديث، [ عن أنس بن مالك ]، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم .. خادم نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد تبرعت به أمه وأبوه، فلما نزل الرسول بالمدينة وما عنده أولاد، جاءت به أمه وقالت: هذا ابني يخدمك يا رسول الله!وقد وقع مثل هذا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أم أنس ، فوالله إن رجلاً من الصالحين كان له ولدان فجاءني وقال: يا شيخ! إن فلاناً يخدمك وهو طفل صغير في البيت يقدم الطعام ويشتري كذا، فقلت: سبحان الله، ما زال الإيمان هكذا. وأثنيت عليه ودعوت له بخير، فاللهم اجزه خيراً.فـأنس بن مالك خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، يقول: ( ما قال لي يوماً في شيء فعلته: لم، ولا في شيء تركته: لم تركته ). وهيا نرتقي إلى هذا المستوى، فخدمه في البيت ما قال له في شيء فعله: لم فعلت هذا اليوم، ولا لشيء تركه: لم تركته، فهذا مظهر من مظاهر الأخلاق المحمدية، وصدق الله العظيم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فافعلوا هذا مع نسائكم فقط وجربوا! فهي امرأتك تسكن إليها وتسكن إليك، فإذا قدمت لك ماء لا تقل لها: لا تفعلي يا كذا -بالبذاء- أو لم ما فعلتي كذا؟ ولو قاله وهو يبتسم معها لأثلج صدرها وانشرح ولا بأس، لكن وهو غضبان فلا.وأكثر الناس على هذا إلا من سلم الله وعافاه.فهذه المؤمنة التي تحتك هي أختك وهي التي تربي أولادك، وتجوع إن جعت، وتشبع إن شبعت، وإن مرضت مرضت، فلماذا لا تتأدب معها وتحسن إليها، أليس هناك إلا الكلمة النابية والدفعة القوية!لا إله إلا الله، ماذا أصابنا؟إننا ما ربينا في حجور الصالحين، وهذا هو ذي علتنا.فهيا نتربى من جديد وبسم الله من الليلة بدأنا إن شاء الله.يا أرباب الزوجات! لا تسمع امرأتك بعد اليوم: لم فعلتي أو لم تركتي؟هذبها .. أدبها .. علمها الحلال .. علمها الحرام .. علمها ما يجب، فإذا علمت واقتنعت تمشي على ظلك وورائك.إذاً أنس دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة: ( اللهم بارك في عمره وماله ) فما مات أنس بن مالك إلا وله من الأحفاد أكثر من مائة وثلاثين أو قرابة المائة والثلاثين، وكان نخله في المدينة يلد مرتين، فيطلع يؤبر ويأخذ البلح والبسر، ويطلع مرة ثانية فلا يجد إلا والثمرة الأخرى موجودة.وهذه آيات النبوة المحمدية. وبلغني أنه يوجد في منطقة الفقرة نخل يلد مرتين، من بقايا بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم.وإليكم ما يحدثنا أنس عن رسولنا به، يقول: سمعت بأذني [ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( شفاء عرق النسا ) ]، أي: دواء عرق النسا، ويطلق الشفاء على الدواء؛ لأنه يحصل به تفاؤلاً، [ ( شفاء عرق النساء ألية شاة عربية ) ]، الألية: الذيلة أو الشحمة في عجز الشاة، وقوله: العربية أي: ليست سودانية أو أريترية أو تركية، بل من بلاد العرب شاة عربية، ثم قال: [ ( تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ) ] تذاب؛ لأنها شحم، وأيام كنا في غير هذه الظروف كان الشحم هذا أعز شيء عندنا، فلما نأتي إلى الجزار أنا وعمي كنا نختار أسمن لحم، والآن يدفعون الشحم ويرمونه، فالشحم يجمع ويذوب كالسمن دسم -يا سعادة من يملكه- قولوا: كلمة الشكر! الحمد لله، الحمد لله.قال: [ ( تذاب وتجزأ ثلاثة أجزاء ) ] إما بمغراف وإلا بكأس تقسم ثلاثة أقسام.قال: [ ( ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء ) ]، يقوم الصبح يتوضأ ويصلي وإذا جاء البيت قبل أن يفطر يشرب ذاك الكأس أو الفنجان أو الثلث وإن كان نصف لتر لا بد من هذا ثلاثة أيام وقد شفاه الرحمن.قال: [ ( على الريق كل يوم جزء )، فقال أنس : فوصفته لأكثر من مائة رجل مريض فشفوا بإذن الله. ].الجماعة الطماعون مثلي ومثل عدنان من الغد: لا لا لا..يشترون ويذوبون ويقسمونه قراطيس ثلاثة .. ثلاثة ويبيعون بمائة ريال، على شرط أن تكون الشاة عربية ليست سودانية أو إثيوبية، وأن تجزئها ثلاثة أجزاء بالميزان أو المغراف، وتجعل كل جزء في قارورة أو في آنية، وتختم عليه وتقول لمرضى النسا عافانا الله وإياكم منه: تريدون الدواء؟ تعالوا، وخذ هذه الكمية يوم الخميس والثانية يوم الجمعة والثالثة يوم السبت، لكن لا تعتقد بأن الأيام فيها بركة، يعني: ثلاثة أيام متتالية.

حل كل الطعام لبني إسرائيل إلا ما حرم يعقوب على نفسه بسبب النذر
إذاً قول الله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [آل عمران:93]، ما الذي حرم إسرائيل فقد حرم لحم الإبل ولبنها على نفسه لا على زوجته ولا ولده وهو رسول الله، فما شمل الناس بهذا، فقط لأنه مرض بعرق النسا وآلامه، فنذر لله هذا النذر: إن شفيتني يا رب فلن آكل ما أحبه ولا أشربه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل ولبنها، وهذا حق.إذاً: قال اليهود للرسول: كيف تدعي أنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحم الإبل وتشرب لبنها؟ فأبطل الله هذه الدعوة واجتثها من أصولها فقال تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ وكل من ألفاظا العموم فتستغرق كل شيء، كَانَ حِلًّا أي: حلالاً: لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أولاد يعقوب: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ فالزمن ما بين موسى وبين يعقوب زمن طويل، فموسى تربى في مصر، لأن لما يوسف عليه السلام ملك مصر وعاش بها ومعه إخوانه ومضت أجيال ومات، ووجد مجموعة من بني إسرائيل منهم موسى وأصحابه، ونبئ الله موسى وأرسله وأنزل عليه التوراة، فالفرق بعيد في الزمان ولا يقدر.إذاً: قل لهم يا رسولنا: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93]، تفضلوا وهاتوا التوراة واقرءوا ونحن نسمع، فهل تجدون فيها أن الله حرم على بني إسرائيل كذا وكذا؟ فما استطاعوا فليس فيها.

سبب تحريم الطيبات على بني إسرائيل
إنما حرم الله على بني إسرائيل لما ظلموا .. لما جاروا وحرفوا واعتدوا وتمردوا على شرع الله، فعاقبهم الله عز وجل فحرم عليهم طيبات كانت قد أحلت لهم؛ عقوبة لهم. قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ... [النساء:160]، الآية من سورة النساء.وقال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الأنعام:146]، فهذا التحريم حق في التوراة عقوبة الله لبني إسرائيل عاقبهم الله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] ، وبيّنها من سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ أي: ظفر الرجل في الإبل وغيرها: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا ، فلا يحل لهم شحم إلا ما كان راسخاً في المصارين أو لاصقاً مع اللحم، أما الشحم الذي ينفصل فحرام إلى اليوم لا يأكلوه.ونحن المسلمون ماذا حرم علينا؟حرم الله علينا ثمانية، قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أيها المسلمون الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3].هل حرم الله تعالى علينا هذا عقوبة لنا أو رحمة بنا؟والله لرحمة بنا؛ لأن الميتة كلها جراثيم ومكروبات، ماتت معها فما سالت مع دم التذكية، فلا يصح أكلها؛ لما فيها من الأمراض والعلل.أما الدم؛ ففيه جراثيم، لما يذبح الشاة ويجعل الدم في إناء في قصعة، فهذا الدم فيه جراثيم، وهو قذر، ولا طعم له، والنظر إليه فقط لا يقوى عليه العبد الصالح فكيف يأكل الدم؛ لما فيه من المرض.ولحم الخنزير -أعوذ بالله- يورّث الدياثة، فالذي يأكل لحم الخنزير ويعتاده يصبح ديّوثاً، وعلى باب الجنة مكتوب: الديوث لا يدخل الجنة، والديوث هو الذي يرضى الخبث في أهله، فيرضى بأن تزني امرأته .. بنته .. أمه .. لا يبالي، فهذا الديوث، والذين يأكلون لحم الخنزير تتأصل فيهم هذه الخليقة أو الطبيعة، ويصبح يقدم امرأته ولا حرج، واذهب إلى المراقص وقل له: أعطني فتاتك ترقص معي. فيقول: تفضلي ارقصي مع فلان والناس يتفرجون، وهذه دياثة.قال العلماء: الخنزير ديوث ألف مرة لا يغار على أنثاه أبداً، أما الجمل والله لغيرته عجب، قد يأكل، والله حتى الكلاب والقطط تغار .. فكل الحيوانات تغار على أناثيها إلا هذا -العياذ بالله- الخنزير فلا يغار أبداً.وأنتم تسمعون سب العوام يقولون: اسكت يا ديوث!وفي أيام العنترية لو واحد يقول لك: يا ديوث فإنك تذبحه وتقتله، ولا ترضى بهذه السبة.إذاً: حرم الله لحم الخنزير: أولاً: فيه علل وأمراض. وثانياً: يورّث هذا الخلق الهابط عن خلق الحيوانات.قوله: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فكل ما ذبح لغير ربنا حرام أن نأكله، والإهلال بالحج هو رفع الصوت بقول: لبيك اللهم لبيك حجة. والهلال هلال محرم.والذي يقول: هذه الشاة لسيدي عبد القادر .. هذه الشاة لروح مولاي إدريس .. هذه الشاة لمولانا أو سيدنا فلان. فهذه الشاة لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يأكل لحمها؛ لأنها تقرب بها إلى غير الله، وكيف ترضى أن يتقرب المؤمن أو الإنسان إلى غير ربك وتسكت وتأكل فإذاً أنت راض بعبادة غير الله ويا ويلك.لكن يقولون: نحن ما ذبحنا لسيدي عبد القادر ولكن ذبحنا لله، والدليل أننا نقول: باسم الله، فالذابح لما يذبح يقول بالعادة .. بالعرف: باسم الله، ولا يقول: باسم مولاي فلان، فهذه الشاة لسيدي فلان، أذبحها له. والقضية هي هي، فليس هناك فرق أبداً، فما أهل به لغير الله لا يحل أكله، والسر في ذلك أنه يورّث فيك الكفر والشرك، وأي داء أو خطر أعظم منهما؟!والحمد لله انتصرت دعوة التوحيد وقد أرادها الله فقلَّ الآن من يفعل هذا.نعم قد يوجد من يغرس في بستانه فيقول: هذه النخلة نخلة سيدي عبد القادر ؛ حتى يبارك الله في كل النخل وينبت، أو هذه الزيتونة لسيدي فلان. أو يشتري في آخر الشتاء قطيعاً من الغنم وفي الربيع يقول: هذه الشاة لسيدي فلان؛ حتى تبارك الغنم. وهذا ما زال عند الغافلين، فلا يجعلون لله شيئاً، وصار أجدادنا العرب والمشركون أفضل منهم.فإن قال قائل: كيف تقول هذا يا شيخ؟أقول: اسمع الله يقول من سورة الأنعام: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136]، هذا الكلام ليس كلام محمد بن عبد الوهاب ، إنما كلام الله، فالمشركون قبل نور الإسلام يقولون: هذه الشاة التي لا تلد هي لله، أما الشاة التي لا تلد فهي للعزى أو لمناة أو لصنم من الأصنام، وكذلك هو حال الذي يغرس فيقول: هذه النخلة لله، وهذه للعزى، فهناك بعض الإنصاف، أما حال بعض الناس الآن فلا يجعلون لله شيئاً، فقط للولي.إذاً: فعاتبهم الله وندد بهذا السلوك وأبطله فقال مخبراً عنهم: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ أي: خلق مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ، قال: بزعمهم؛ لأن الله ما شرع هذا ولا أنزل به القرآن ولا بعث به الرسول، فهو من عندهم فقط وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ، بمعنى: إذا كان الذي جعلوه للشركاء كالنعجة ولدت .. البقرة ولدت .. النخل أطلعت، والذي جعلوها لله ما أنتجت، والكثير لا تنتج، فما يحولون لله شيئاً ليعطوه للحجاج وإلا لأهل البيت، وإذا كان الذي لله هو الذي أنتج، والذي للشركاء ما أنتج يحولونه، والله في غنى عنه. وهذا عجب! وهذا هو الإنسان إذا قادته الشياطين.قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ [الأنعام:136]؛ لأن الله ما طلب هذا ولا أمر به، وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ، أي: لا يحولوه لله، وإن كانت ناقة الله ما ولدت لا يحولونها .. زرع الله ما نبت لا يحولونه، وإن كان قد أنبت زرع الله أو نخله وما جعلوا للآلهة ما أنبت يحولونه؛ بدعوى أن الله غني وليس في حاجة، فقلنا لإخواننا وعلمناهم: على الأقل اجعل نخلة لله ونخلة لـعبد القادر مثل المشركين، واجعل شاة لله وشاة لـعبد القادر مثلاً، فلم الله لا تجعل له شيئاً؟وهذا هو نتاج الجهل فلا لوم عليهم ولا عتاب، فمن علمنا؟ من عرفنا؟ من هدانا؟ من دلنا؟إنها أمم تعيش على الجاهلية.وإلى الآن الأعاجم في بلادهم وهم نسبة في العالم الإسلامي نسبة عظيمة ما عرفوا الله، فهل ذهبنا إليهم وعلمناهم؟ هل جلسنا بين أيديهم؟ هل بكينا أمامهم؟ هل .. هل .. كيف يعرفون؟دلوني؟ لا يعرفون.وكيف نعلمهم ونحن أيضاً جهلنا وأبينا أن نتعلم ورفضنا التعلم واشتغلنا بالباطل واللهو؟على كل حال السعيد من سعد في الدار الآخرة، والشقي من شقي. قال تعالى: قل لهم يا رسولنا: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا اقرءوها إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فوقفوا.

تفسير قوله تعالى: (فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون)
قال تعالى: فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [آل عمران:94]، وقال: ما ليس بحق وادعى دعاوى باطلة: فَأُوْلَئِكَ البعداء هُمُ الظَّالِمُونَ [آل عمران:94]، وانتصر الإسلام وانهزم اليهود، فأولئك هم لا غيرهم الظالمون ، أي: الذين يضعون الأشياء في غير موقعها.

تفسير قوله تعالى: (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم ...)
قال تعالى لرسوله ولأمته يعلمنا: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ، قولوا: صدق الله! ما أكذبهم؟ وبيّن عوارهم فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ يا معشر أهل الكتاب! حَنِيفًا ، أي: مائل عن أنواع الباطل والشرك والضلالات إلى الحق وحده، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:95]، فأنتم تنتسبون إلى إبراهيم وتعتزون بأن اليهود كالنصارى، وحاشا إبراهيم أنه كان يعبد الأصنام فما كان من المشركين بل كان إمام الموحدين.ولو تأخذ الآن جهال المسلمين أيضاً وتقول لهم: هل كان محمد صلى الله عليه وسلم يقيم مولداً؟ هل كان ينذر لسيدي فلان وفلان؟ هل علم ابنته فاطمة هذا؟ هل كانت عائشة تقول هذا؟الجواب: لا.. لا. إذاً: لم تبتدعون وتقولون؟!

تفسير قوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ...)
قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]، هذا إعلان، وهو رد على اليهود الذين قالوا: إن أول بيت بني هو بيت المقدس، فكيف تترك قبلتك إلى بيت المقدس وتستقبل البيت مع أن بيت المقدس أول بيت بني لله في الأرض، وهذه كذبة. فلما تحولت القبلة إلى مكة بعدما استقبل النبي والمؤمنين بيت المقدس سبعة عشر شهراً، أي: سنة وخمسة أشهر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع -كما علمتم- إلى أن يحول الله قبلته إلى الكعبة، كما قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، فجن اليهود كيف هذا الأمر وقالوا: كان بيت المقدس أمس والكعبة غداً وبعد غدٍ في المشرق فلا يثبت على شيء.أما إخواننا الآن فيقولون أكثر من هذا، لأنهم ما عرفوا الطريق إلى الله فيقولون هذا الكلام فيما بيننا نحن المسلمين.إذاً: قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96]، فأسكتهم، مع أننا نعلم أن إبراهيم بنى البيت بإذن الله وهو الذي جدّد بنائه في الحقيقة، وقد كان كومة من تراب جرفته السيول، وقد بناه الله لآدم وحواء عند نزولهما؛ فقد أصابتهما وحشة، لأنهم نزلوا هذا العالم لا يرون أحداً، فبنى الله لهم هذا البيت فيأتيانه ويطوفان به ويسألان حاجتهما ويتبركان به فتزول تلك الوحشة، وإلى الآن المؤمن الصادق الرباني تزول وحشته إذا كان يطوف بالبيت.ولما جدّد البناء أمر أن يبني بيت المقدس فبناها بعد الكعبة بأربعين سنة، فمضت أربعون عاماً ثم رأى أن يبني بيت المقدس في فلسطين.فقول الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ أي: لله بني وُضِعَ لِلنَّاسِ وضع للناس ماذا يفعلون به؟ يزيلون الوحشة ببيت ربهم فيطوفون ويتبركون ويدعون ويحجون ويفدون إليه من الشرق والغرب فهو بيت ربهم؛ لتقبل دعواتهم وترفع درجاتهم وتعظم حسناتهم، ففيه عظائم الفوائد.قال: لَلَّذِي بِبَكَّةَ مكة وبكة سواء من البك، الذي هو الدفع، بكّه: دفعه، ومكّه كذلك، ومن أراد أن يدخل البيت بقوة يدفعونه: يبكّونه ويمكّونه، فسميت مكة وبكة لأجل هذا.قوله: مُبَارَكًا فالبركة لا تفارقه أبداً والله العظيم.قوله: وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فالمشرق كالمغرب، والشمال كالجنوب، والمؤمنون حتى على عهد نوح .. على عهد هود .. على عهد صالح كانوا يحجون والرسول يقول: ( كأني بصالح على ناقة كذا يلبي في فجاج مكة ). ولفظ العالمين يدخل فيه كل الأجناس البشرية فليس خاصاً بالعرب ولا ببني فلان.

تفسير قوله تعالى: (فيه آيات بينات مقام إبراهيم ...)
قال تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97]، الآيات جمع آية، أي: علامة تدل على كذا وكذا، فهي آيات واضحات بينات منها: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97]، مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان يقف عليه ويبني الكعبة، فيقوم فوقه؛ لأنه كان هو وإسماعيل فقط، فإسماعيل يناول إبراهيم الحجارة والطين، وإبراهيم يسوي، فلما ارتفع الجدار احتاج إلى شيء ليصعد فوقه، فجيء بهذا الحجر يعلو عليه إبراهيم ويبني المنطقة هذه متر اثنين، ويحولون إلى الجهة الثانية وهكذا حتى اكتمل البناء، وتركه ما بين الحجر الأسود والركن الشامي، ثم جرفته السيول بمرور القرون، وهو الآن في مكانه الذي هو الآن فيه، فلما أرادوا أن يحولوه اجتمعت كلمة العلماء أن يبقى في مكانه كما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا كان عند جدار الكعبة.وكونه آية فإن إبراهيم لما كان واقفاً عليه قائماً ساخت قدماه فيه، فأثر القدمين كما هو، وهذه آية.قال: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، ليس كالآن يسرقون، وأيام لا حكم إسلامي ولا ولاية ربانية عندما كان العرب مشركون كافرون ألقى الله في قلوبهم ألا يسرق في الحرم سارق ولا يفجر فاجر ولا يؤذي آذي، وهذا تدريب الله عز وجل، ووالله أن الرجل ليمر بمن قتل أباه وهو في الكعبة وفي الحرم يلوي رأسه ولا ينظر إليه أبداً، فلهذا قال بعض أهل العلم: هذه الجملة لفظها خبر، ومعناها إنشاء، وهي على أصلها.نقول: وهذا أيام كان لا حكم إسلامي، فلما وجد الحكم الإسلامي كان يجب أن يؤمّن كل من يدخل الحرم، فتقطع يد السارق ويقتل القاتل، ويبقى الحرم آمناً تنام فيه وتضطجع في ليك ونهارك لا تخاف شيئاً، فيجب أن يكون هذا: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97].

قراءة في كتاب أيسر التفاسير
قال: [ وفي المسجد الحرام دلائل واضحات منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقي أثر قدميه عليه مع أنه صخرة من الصخور ومنها زمزم ]، زمزم أعظم آية، وقد حفر أو أخرج ماءه بقدم جبريل قال هكذا بعقبه ففار زمزم، وقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أم إسماعيل لو تركته لكان عيناً معيناً )، وتمضي القرون والآن ستة آلاف سنة وزمزم كما هو، ودلوني على عين في أمريكا .. في بريطانيا .. في مصر مضى عليه ستة آلاف سنة، لا وجود له.قال: [ والحِجر ]، أي: حِجر إسماعيل فقد كان يسكن هناك عند الكعبة، حيث بنى البيت مع أبيه، وتزوج وأنجب، والآن نطوف بالحجر، ولا نطوف داخل الحجر؛ لأنه ليس بالكعبة، فالحجر آية.قال: [ والصفا والمروة]، وهما آيتان تذكران بعهد هاجر وإسماعيل، وهي تطلب الماء لابنها الرضيع وهو يتلوى من شدة العطش، فتعلو على المروة وعلى الصفا وتنادي وتطالع فلا تجد شيئاً فتجري في الوادي وتعلو على المروة هكذا سبع مرات وإذا بالهاتف يهتف وهي تقول: أسمعت .. أسمعت .. هل من مغيث؟ تنظر وإذا على طفلها رجل قائم -هذا جبريل- فما إن دنت منه قليلاً حتى قال هكذا بعقبه ففارت زمزم وذهب جبريل إلى السماء.قال: [ ومنها الأمن التام ]، وهذه أعظم آية، [ لمن دخله فلا يخاف غير الله تعالى؛ إذ قال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، ثم هذا الأمن له والعرب يعيشون في جاهلية جهلاء والفوضى لا حد لها، ولكن الله جعل في قلوبهم حرمة الحرم وقدسيته ووجوب أمن كل من يدخله؛ ليحجه أو يعتمره، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] ].والحج إن شاء الله ندرسه دراسة وافية، ويوزع عليكم الكتاب، ودراسته ذات قيمة؛ لأن كل مسألة يذكر حكمها وحكمتها، ولا تجدونه في غير هذا الكتاب.وصل اللهم على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-11, 11:57 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (29)
الحلقة (170)

تفسير سورة آل عمران (35)


البيت الحرام هو أول بيت وضع للناس للتعبد فيه والطواف به، وقد كتب الله على المستطيع من عباده حج هذا البيت، والواجب الإتيان بهذه الفريضة مرة في العمر وما زاد فهو تطوع، ولا يجوز لمن ملك القدرة والاستطاعة على الحج ألا يحج؛ لأنه بذلك يكون قد فرط في ركن عظيم من أركان الإسلام.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سابق عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ لنحظى بتلكم البشرى التي جاءت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عندهم )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء؛ إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الخمس، درسنا الأربع منها، وانتهينا إلى الآية الخامسة.تلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:93-97].نستمع إلى شرح هذه الآيات من الكتاب تكرارً لما سمعناه أمس وعلمناه.

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات: ما زال السياق في الحجاج مع أهل الكتاب ] اليهود والنصارى [ فقد قال يهود للنبي صلى الله عليه وسلم ] وذلك أيام كانوا معه في المدينة قالوا: [ كيف تدعي أنك على دين إبراهيم وتأكل ما هو محرم في دينه من لحوم الإبل وألبانها؟ ] كذا قال اليهود في المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تدعي أنك على دين إبراهيم وملته وتأكل ما هو محرم في دين إبراهيم من لحوم الإبل وألبانها، [ فرد الله تعالى على هذا الزعم الباطل الكاذب ] أي: رد عليه [ بقوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا [آل عمران:93] أي: حلالاً لبني إسرائيل ]، وبنو إسرائيل من هم؟ قال: [ وهم ذرية يعقوب الملقب بإسرائيل ] أي: بعبد الله القوي القدير، قال: [ ولم يكن هناك شيء محرم عليهم في دين إبراهيم اللهم إلا ما حرم إسرائيل "يعقوب" على نفسه خاصة وهو لحوم الإبل وألبانها، وذلك لنذر نذره وهو أنه مرض مرضاً آلمه ]، وقد علمنا أنه عرق النسا، فلما آلمه هذا المرض في رجله، قال: [ فنذر لله تعالى: إن شفاه الله ترك أحب الطعام والشراب إليه ]، أي: نذر لله نذراً إن شفاني ربي أترك أحب الطعام إلي وأحب الشراب، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه لبنها لبن الإبل.قال: [ وكانت لحوم الإبل وألبانها من أحب الأطعمة والأشربة إليه فتركها لله تعالى، هذا معنى قوله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران:93] ]؛ لأن التوراة أنزلها الله على موسى، وبين موسى ويعقوب قرون عدة.قال: [ إذ التوراة نزلت على موسى بعد إبراهيم ويعقوب بقرون عدة، فكيف تدعون يا يهود أن إبراهيم كان لا يأكل لحوم الإبل ولا يشرب ألبانها؟! فأتوا بالتوراة فاقرءوها؛ فسوف تجدون أن ما حرم الله تعالى على اليهود إنما كان لظلمهم واعتدائهم، فحرم عليهم أنواعاً من الأطعمة وذلك بعد إبراهيم ويعقوب بقرون طويلة ]. فهذه مظاهر الجهل في اليهود من جهة ومظاهر الكذب والخيانة من جهة أخرى.ثم قال: [ قال تعالى في سورة النساء: فَبِظُلْمٍ ] أي: فبسبب ظلم [مِنَ الَّذِينَ هَادُوا أي: اليهود حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]. وقال في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا [الأنعام:146]. ولما طولبوا بالإتيان بالتوراة وقراءتها بهتوا ولم يفعلوا، فقامت الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقوله تعالى: فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ [آل عمران:94]، بعد قيام الحجة بأن الله تعالى لم يحرم على إبراهيم وعلى بني إسرائيل شيئاً من الطعام والشراب إلا بعد نزول التوراة باستثناء ما حرم إسرائيل -أي: يعقوب- على نفسه من لحمان الإبل وألبانها كما علمتم، فأولئك هم الظالمون لكذبهم على الله تعالى وعلى الناس، ومن هنا أمر الله تعالى رسوله- محمداً صلى الله عليه وسلم- أن يقول: صدق الله فيما أخبر به رسوله ويخبر به وهو الحق من الله. إذاً: فاتبعوا يا معشر اليهود ملة إبراهيم الحنيف الذي لم يكن أبداً من المشركين ] وها أنتم مشركون -والعياذ بالله-.قال المؤلف: [ هذا ما تضمنته الآيات الثلاث.وأما قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]، فإنه متضمن الرد على اليهود الذين قالوا: إن بيت المقدس هي أول قبلة شرع للناس استقبالها فلم يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة؟ ] قالوا هذا لا سيما لما ترك بيت المقدس بعدما استقبلها سبعة عشر شهراً، قالوا: كيف هذا؟ وهي أول بيت وضع للناس، وكذبوا.قال: [ وهي متأخرة الوجود في نظرهم وكذبهم، فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة لا بيت المقدس ]، إي والله، بل الكعبة بنتها الملائكة لآدم، وحجها نوح وهود وصالح والأنبياء قبل إبراهيم.قال: [ وأنه جعله مباركاً ] أي: البيت العتيق مباركاً [ يدوم بدوام الدنيا، والبركة لا تفارقه، فكل من يلتمسها بزيارته وحجه والطواف به يجدها ويحظى ويظفر بها، كما جعله هدىً للعالمين. فالمؤمنون يأتون حجاجاً وعمّاراً فتحصل لهم بذلك أنواع من الهداية، والمصلون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه في صلاتهم، وفي ذلك من الهداية للحصول على الثواب وذكر الله والتقرب إليه أكبر هداية. وقوله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97] يريد في المسجد الحرام دلائل واضحات منها: مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقي أثر قدميه عليه مع أنه صخرة من الصخور ] وإلى اليوم آيات، وبعض من يجامل ويراعي الملاحدة يقولون: كان طيناً وهل الصخر يكون طيناً حتى تنزل فيه القدم؟والله ما كان إلا صخراً من جبل أبي قبيس، ولكن لتدوم الآية إلى يوم القيامة فلما وقف عليها إبراهيم ارتسمت قدماه على الصخرة إلى اليوم.ثم لو ما جاء الرسول صاحب المعجزات والآيات وأقر هذا وصلى خلف المقام وتركه في مكانه فلك أن تقول: هذه اجتهادات وآراء، لكن أما قال الله عز وجل: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، فهل معنى هذا أن المسجد ومكة كلها مقام إبراهيم؟ المراد من مقام إبراهيم الحجر الذي كان يقوم عليه وهو يزاول بناء البيت، وسن هذا الرسول وبينه، فمن طاف بالبيت سبعة أشواط لا ينتهي طوافه إلا إذا صلى خلف المقام كالمصلي يصلي الظهر أربع ركعات ولا تنتهي صلاته حتى يقول: السلام عليكم، وكذلك الطائف يبقى طوافه معه حتى يصلي ركعتين خلف المقام.قال: [ ومنها زمزم والحِجر والصفا والمروة وسائر المشاعر كلها آيات ] أي: علامات على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته وتدبيره وعلى قدم هذا البيت قدماً عجيباً من عهد آدم، فكيف يدعي اليهود أن بيت المقدس أولاً؟ والرسول أخبر أن ما بين بناء الكعبة الذي بناه إبراهيم وبيت المقدس أربعين سنة.نعم سليمان بن داود بنى المسجد الأقصى في عهد دولته وعظمته كما بنيناه نحن وجدّدناه في عهد الإسلام، لكن أصل البناء وقع من إبراهيم، فإنه لما هاجر من العراق نزل بالقدس، وولد له يعقوب.في القدس أين كان يصلي؟ وكيف نقول: هذا بناه سليمان؟! وهذا بعض المفسرين من المعاصرين قالوا هذا الكلام.أما كان إبراهيم يصلي؟! وأين كان يصلي؟ وماذ كان يستقبل؟إذاً: سليمان عليه السلام جدد البناء ورفعه، هل المسجد النبوي على عهد الرسول كما هو الآن؟ فرق كبير.قال: [ ومنها الأمن التام لمن دخله، فلا يخاف غير الله تعالى، قال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، ثم هذا الأمن له والعرب كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء وفوضى لا حد لها، ولكن الله جعل في قلوبهم حرمة الحرم وقدسيته ووجوب أمن كل من يدخله ليحجه أو يعتمره ].الآن إذا لم يكن لنا رجال أمن وحرس ومؤمنون قد لا يأمن الحاج ولا الزائر؛ لأن الأمر أسنده الله إلينا وإلى الدولة المسلمة، وقبل أن لا يكون إسلام ولا دولة ولا حكم، كان الله هو الذي يتولى الأمن، فوالله إن أحدهم ليمر بقاتل أبيه في الحرم لا ينظر إليه بل يغمض عينيه ويمشي، ولو وجده خارج الحرم لقتله، فهذه آيات تدل على علم الله وقدرته ورحمته ووجوده وحكمته.

تفسير قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].الحج بفتح الحاء، والحِج بكسرها، وأحسن ما تقول: هما قراءتان: قراءة نافع الحج بالفتح، وقراءة حفص الحج بالكسر، والأصل فيهما لغتان: لغة أهل نجد ( الحِج )، وأهل الحجاز ( الحَج )؛ لأن الألسن تختلف بحسب المناطق، فهي بلد واحد ويختلف الناس في النطق.إذاً: اقرأ الحَج والحِج ولا تتحرج، فالكل جائز وواسع، والقرآن نزل على سبعة أحرف.وقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ [آل عمران:97]، هذه الصيغة صيغة إلزام وإيجاب، وهي أعظم من صيغة: حجوا أو فرضنا عليكم الحج، فهذه لله حق على عباده المؤمنين، وهي أبلغ من كلمة: حجوا أو ليحجن أحدكم.فقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ أي: حق واجب.قوله: حِجُّ الْبَيْتِ ، وهذا الحج مرة واحدة في العمر واجبة، وما عدا ذلك فهو فضل كبير، ويكره للمؤمن أن يمضي عليه خمس سنوات ولا يحج، وقبل الخمس السنوات لا بأس، وهناك في الروضة كأنكم تشاهدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل يقول له: ( أفي كل عام يا رسول الله؟! فيسكت الرسول، أفي كل عام يا رسول الله؟! ) فلا يريد الرسول أن يجيبه، وفي الثالثة يقول له: ( لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم )، فلو كان الحج واجباً كل عام فلا تقدر أمة الإسلام عليه؛ لأن الرسول يعرف أن الإسلام ليس في المدينة أو في الحجاز، بل سيبلغ أقصى الشرق وأقصى الغرب فكيف سيأتي الناس يحجون؟! وحجاج المغرب فقط كانوا يقضونها سنة ذهاباً وإياباً فكيف بمن في أقصى الشرق وأقصى الغرب.فالحج فرض مرة واحدة في العمر، ولله حق واجب على الناس أن يحجوا بيت الله، فهو الذي أمر ببنائها.ولكن هل الله في حاجة إلى بيت؟الجواب: ولهذا كانت الآية الأخيرة قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، وإنما هذا البيت بناه لآدم وحواء لما اشتاقت نفسهما إلى الله فقد كانا في الملكوت الأعلى مع الله يكلمهم ويسمعون كلامه، فنزلوا إلى هذا العالم الهابط فانقطعت تلك الصلة فأصابتهما تلك الوحشة التي نحن نشكوها الآن، والله يعلم.فبنى لهم هذا البيت ليزورانه ويطوفان به ويسألان الله حاجاتهما وهما بين يديه، وبقي في ذرية آدم إذ هو للعالمين أبيضهم وأسودهم وعربهم وعجمهم، أولهم وآخرهم إلى يوم القيامة.وقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا الاستطاعة هنا بمعنى القدرة، تقول: أطاع الشيء واستطاعه قدر عليه، وتقول: لم يستطع أي: لم يطعه فعجز، وأحسن ما تحفظون: أن الاستطاعة تتوقف على الزاد والراحلة، ويتفرع عن الراحلة: أمن الطريق، فأنا عندي راحلة أركبها أو باخرة أو سيارة، ولكن في الطريق موانع كحروب فحينئذ لا أستطيع، والأمن لا بد منه، فإن كان يخاف على نفسه في الطريق لوجود لصوص ومجرمين أو قطاع طريق أو ما إلى ذلك، فحينئذٍ ينتظر حتى يزول هذا الخوف.والزاد لا بد من طعام يأكله ويشرب في طريقه، فقد يمشي شهرين .. ثلاثة وهو يحج، فكيف يأكل ويشرب، ولا بد وأن يترك لأسرته ما يعيشون عليه في غيبته شهر أو شهرين مثلاً.ولفظ الزاد والراحلة يشمل ويجمع كل ما يعوق عن الحج ويصرف عنه.والراحلة قد لا يحتاج إليها المرء لكن لا بد أن يستطيع المشي، فإذا كان شيخاً كبيراً أو مريضاً لا يقدر، أو ضعفت رجلاه فهو لا يستطيع وهذا معناه أنه ليس عنده راحلة يرحل عليها.فقوله: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أي: الزاد والراحلة وما يتطلبه ذلك من الأمن والقدرة، ومن هنا من كان عاجزاً لشلل في جسمه ومرض أقعده فهو معفو عنه، وتجوز النيابة عنه فيحج عنه وليه أو قريبه، ولا بد من أن يعطي نفقة لمن يحج عنه، أما إذا كان قادراً على المشي، وإنما أوعزه المال أو الأمن فينتظر العام والأعوام حتى يفتح له المجال.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف: [ معنى الآيات: قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، لما ذكر تعالى البيت الحرام وما فيه من بركات وهدايات وآيات ألزم عباده المؤمنين به وبرسوله ألزمهم بحجه؛ ليحصل لهم الخير والبركة والهداية ]، نعم قد يشعر العبد بعدم الحاجة إلى الهداية والبركة، لكن الله لرحمته بأوليائه المؤمنين لما أودع بيته هذا الخير وهذا الكمال فرض على أوليائه؛ حتى يظفروا ويفوزوا بهذه الخيرات والبركات؛ لأنه وليهم، والولي لا يريد لوليه إلا خيره وكماله وسعادته، فليس الله في حاجة إلى هذا الحج وهو في غنى كامل، ولكن لما أودع هذا البيت وهذا الحج من الهداية والبركات والخيرات، ألزم أولياءه المؤمنين أن يحجوا، ما داموا قادرين على ذلك.قال: [ ففرضه بصيغة: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ، وهي أبلغ صيغ الإيجاب ]، أي: أبلغ من حج أو حجوا أو لتحجن.قال: [ واستثنى العاجزين عن حجه واعتماره ]، والاعتمار: العمرة ومعناها الزيارة، قال: [ بسبب مرض أو خوف أو قلة نفقة للركوب والإنفاق على النفس والأهل أيام السفر ].وعند شرح هذه الآية ذكر الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار عند اشتراط الأمن فقال: كان الأمن على عهد الجاهلية بتدبير الله، فألقى الله في قلوبهم احترام هذا البيت وهذا الحرم وتقديسه، كما ألقى في نفوسنا حب الطعام والشراب.كذلك على شركهم وجهلهم وجاهليتهم فإذا علق أحدهم في كتفه أو في عنقه قشرة من قشور الحرم كان يمشي من مكة إلى نجد إلى تبوك إلى اليمن فلا يخاف إلا الله.قال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [المائدة:97] فتسوق إبلك أو غنمك للحرم هدية تهديها لله رب البيت ليطعمها أولياءه؛ وعلمها بعلامة تدل على أنها مهداة للحرم. فيخرج القبائل وأولادهم وهم جياع يريدون الناقة أو الشاة فيجدونها معلمة يقولون: امش.والخائف يأخذ من قشر شجر الحرم قطعة ويربطها في عنقه ويمشي، وكل من يراه يقول: هذا للحرم، واقرءوا هذه الآية من سورة المائدة آخر ما نزلت: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ومعنى (قياماً للناس): أن حياتهم متوقفة عليها قائمة عليها، ومعنى (والشهر الحرام): إذا أعلن عن دخول القعدة أو الحجة أو محرم أو صفر انتهت الحرب، والأمم المتحدة والله لا تستطيع ذلك، حتى سمي رجب برجب الأصم، فلا تسمع قعقعة السلاح أبداً، وهذا من تدبير ربنا.وقد قلت لكم: لما جاء الإسلام ودولته ورجاله أسند الله القضية إلى الحكام والمؤمنين، ولما كان لا حاكم ولا دين ولا معرفة أسند هذا وألقاه في قلوب العرب، ولما جاءت الدولة وجاء النظام والحكم ما وجد سراق ولصوص، وعهد السعودية فيه خير عظيم، والله لا نظير له إلا في العصور الذهبية.وقال الشيخ رشيد رضا : أين الأمن في هذه الديار على عهد الملك حسين ؟ وقال: ألف الشيخ أبو بكر خوقير رسالة بين فيها التوسل الجاهلي، فأخذه حاكم مكة وولده بالسلاسل والأغلال وأدخلهما السجن حتى مات ولده، وبقي الشيخ أبو بكر خوقير في السجن حتى أطلقه السلطان عبد العزيز لما دخل مكة.كتب رسالة ضد الخرافات والشركيات؛ لتعرفوا لماذا امتدت مدة الخرافة والشركيات في الأمة الإسلامية؛ لأن الحكام كانوا على تلك الضلالات، فمن رفع صوته بالتوحيد قال: اسجنوه.أنا أحياناً أفكر: هذه القرون التي شاعت فيها هذه الضلالات أين الحكام؟ يوجد علماء لم ما يستطيعون وهم يشاهدون: القبور تعبد، والأشجار والأحجار؛ أين حكام المسلمين؟لأنهم كانوا من هذا النوع.يدلك على هذا هذا الشيخ ألف رسالة فقط في بيان التوسل الحق، ما هو بالقبور والصياح، فما كان من حاكم مكة الشريف إلا أن سجنه وولده، ومات ولده في السجن معه من أجل رسالة.وبقي الشيخ حياً في السجن حتى دخل عبد العزيز وحكم مكة وأطلق سراحه، وهذه تفيد طلبة العلم. فاحمدوا الله عز وجل أن الناس الآن يدعون إلى الله وتوحيده في العالم الإسلامي بأسره، وليس هناك من يضغط عليه أو يسكت وهو يدعو إلى التوحيد، الحمد لله!كذلك الأمن الذي حصل في عهد هذه الدولة، وقد كان الحجاج من قبل أيام الخوف يبتلعون الجواهر في بطونهم، حتى إذا تغوط أرسلها فخرجت وغسلها ويعودها إلى بطنه أو كذا.ولا تفهم أننا تمدنا وتحضرنا، فوالله إنك لا تزال تجد من السرقة والتلصص والإجرام العجب العجاب، وقد حدثني شاب قال لي: يا شيخ! والله إن والدتي وأبي كانا يحجان كل عام لأجل السرقة، وقد بنيا من ذلك عمارة ذات كذا وكذا.إذاً: ماذا تقولون؟الحمد لله، اللهم أبق هذا الظل علينا؛ حتى لا نفتن في ديننا ودنيانا كما فتن آباؤنا وأجدادنا.أو تغضبون؟ لا تريدون السعودية؟ إذاً تأتيكم الدولة اليهودية؟نعم، من كفر نعمة الله سلبها، فهذه سنة الله ماضية، والله العظيم! ما كفر عبد نعمة الله إلا سلبها الله منه، فالمفروض أن يتعاون كل المؤمنين في الشرق والغرب على إبقاء هذه البقية الباقية، فيدعمونها بطهارة أنفسهم وزكاة أرواحهم والصدق.لكنهم لا! لا يريدون، في الداخل يفجرون لتسقط، وفي الخارج يكيدون ويمكرون لتسقط وهكذا؛ فلهذا نبكي وما نفع البكاء.وهذا رشيد رضا يقول: أين الأمن الذي كان في الجاهلية؟ فإن الشيخ أبا بكر خوقير ألف رسالة ينقض فيها التوسل الباطل ويبين التوسل الحقيقي فسجن هو وابنه، حتى مات ولده في السجن من أجل رسالة، فكيف إذاً لو دعا في الجماهير وقال: هذا شرك وباطل، وبقي في السجن حتى أخرجه السلطان عبد العزيز لما حكم.قال المؤلف: [ وقوله تعالى في آخر الآية: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]].أي: أن من كفر الحج ولم يحج وأنكره فلا تفهم أن الله في حاجة إليه! وبنينا البيت وما حجوا، فإنه غني عن العالمين. ولا يخطر ببالك أن الله في حاجة إلى حج الناس وأفرضه عليه وألزمهم به: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] فتصبح للناس منة على الله لا، فإن الله غني عن العالمين كلهم، كان ولم يكونوا، وحياتهم كلها بيده، فهو موجدها، وهو معدمها، وأرزاقهم وكل ما لديهم هو من الله المنعم المتفضل به.فإن الله غني عن العالمين. قال: [ فإنه خبر منه تعالى بأن من كفر بالله ورسوله وحج بيته بعدما ذكر من الآيات والدلائل الواضحات؛ فإنه لا يضر إلا نفسه، أما الله تعالى فلا يضره شيء، وكيف وهو القاهر فوق عباده، والغني عنهم أجمعين؟! ].ومن هنا استنبط بعض الأصحاب كـعمر وعلي أن من قضى على الحج ولم يحج استخفافاً وعدم مبالاة فإن شاء فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً؛ أخذاً من نور الآية: وَمَنْ كَفَرَ أي: بالحج فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] وكلمة كفر دالة على الكفر، لكن لا يحمل إلا على شخص قدر واستطاع ولم يحج استهتاراً واستخفافاً، وعدم مبالاة، فهذا معناه أن مرض الكفر في قلبه. فإن الله غني عن العالمين.معاشر المؤمنين والمؤمنات! هل الحج واجب على الفور أو على التراخي؟الجواب: للعلماء قولان: لكن الذي يعول عليه ويؤخذ به أن العبد إذا توفر لديه القدرة المالية والبدنية فلا يحل له أن يؤخره، فلا نقول: على الفور بحيث لا بد، ولا نقول: على التراخي، فنقول: من قدر عليه أي: استطاع أن يحج فليعجل وليحج، ومن كانت هناك موانع فلينتظر حتى تزول بإذن الله تعالى.

هداية الآيات
قال [ من هداية الآيات: أولاً: ثبوت النسخ في الشرائع الإلهية، إذ حرم الله تعالى على اليهود بعض ما كان حلاً لهم ]، أي: دلالة على وجود نسخ في الشرائع: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا [البقرة:106] وإن وجد من اليهود من لا يقول بالنسخ فلا قيمة لهم.والنسخ في الشرائع الإلهية ثابت، فما كان حراماً أو حلالاً مثلاً على عهد إبراهيم أو يعقوب جاءت شريعة موسى فنسخه الله، وما كان حلالاً على عهد عيسى جاء الإسلام ونسخه؛ لأن النسخ للأحكام يتوقف على معرفة المشرع لحال المشرَّع لهم، ولظروفهم وما يترتب عليهم. ما هو لمجرد كذا، بل نظراً إلى مصالح الناس يحل الله أشياء اليوم ويحرمها غداً بكتاب وشريعة.أما الإسلام فلم يطرأ عليه نسخ قط بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ شرعه الله للبشرية كلها؛ ولهذا لا يمكن أن يأتي زمان لا يتلاءم مع الصيام، أو لا يتلاءم مع الزكاة، أو لا يتلاءم مع تحريم الزنا أو الربا، مستحيل! [ ثانياً: إبطال دعوى اليهود أن إبراهيم كان محرماً عليه لحوم الإبل وألبانها ]، رد الله هذا فقال لهم: هاتوا التوراة واقرءوا إن وجدتم.[ ثالثاً: تقرير النبوة المحمدية بتحدي اليهود وعجزهم عن دفع الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.رابعاً: البيت الحرام كان قبل بيت المقدس، وأن البيت الحرام أول بيت وضع للتعبد بالطواف به ]، ولا يقبل أي صوت يدعي أن مكان كذا كان قبل كذا وكذا.والآن يوجد عند الروافض بيت في كربلاء، يعتبرون زيارته أعظم وأجل من زيارة الكعبة، فجعلوا الكعبة باطلة، ولا حرج؛ لأن من وضع لهم ذلك سلخهم سلخاً من الإسلام، وكومهم أكواماً تأكلها النار، وهذا مسخ، ولعل يد اليهود معهم.[ خامساً: مشروعية طلب البركة بزيارة البيت وحجه والطواف به والتعبد حوله ]، فيمشي الرجل يصلي فرضه طلباً للبركة، وآخر يزور بيت المقدس طلباً للبركة، ويعتمر أو يحج التماساً للبركة حيث وضعها الله عز وجل.ولا حرج بزيارة البيت وحجه والطواف به والتعبد فيه، بل يجوز أن تزور عبداً صالحاً وتجلس معه وتقول: نأخذ بركة تحصل لي! على الأقل من كلامه معك وتوجيهه لك، فضلاً على أنك لا تسمع باطلاً ولا تشاهد منكراً، فتقضي الساعة كلها حسنات.كذلك إذا جلست مع سيئ فإنك تكتسب الآثام، لأنه قد يقدم لك شراباً حراماً أو طعاماً مسروقاً، فطلب البركة والتماسها مشروع في دين محمد صلى الله عليه وسلم.[ سادساً: وجوب الحج على الفور لمن لم يكن له مانع يمنعه من ذلك ]. أما إذا كان أطفاله صغاراً، أو الزاد ما كمل، أو يخشى على المزرعة أن تفسد إذا غاب عنها؛ فإذا ما كان هناك أي مانع أبداً فيجب أن تحج، ولا تؤخر الحج.ومن الموانع كذلك أن أحد أبنائك قد مرض، أما إذا كان ليس هناك مانع وهو في عافية كاملة، والنقود موجودة والطريق آمن فلا يؤخر الحج، فإنه لا يدري قد يموت قبل العام المقبل.[سابعاً: الإشارة إلى كفر من يترك الحج وهو قادر عليه، ولا مانع يمنعه منه غير عدم المبالاة ] وهنا نورد هذه الآثار كما في الهامش.قال: [ الإجماع على أن الحج مرة واحدة في العمر؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا، ولو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم )].قال: [ ذكر القرطبي عن مجاهد قوله: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96]].قال: [ وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض. قال: ( المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً )] وهذه رواية مسلم ما هي رواية أبي فلان! أو سنن فلان. قال: [ ( أربعون عاماً، ثم جعلت الأرض مسجداً، فحيثما أدركتك الصلاة فصلِّ ) ] فالأرض كلها مسجد.وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-11, 12:04 PM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (30)
الحلقة (171)

تفسير سورة آل عمران (36)


لما أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام كفر به أهل الكتاب وأعرضوا عن دعوته رغم علمهم بصدقه وتحقق بشارات كتبهم فيه، ولكن حملهم الحسد على ذلك، وهم لم يكتفوا بذلك ولكنهم زادوا عليه بأن حاولوا صد من آمن بالله عن دينه، لذلك فقد حذر الله عباده المؤمنين أشد التحذير من اتباع أهل الكتاب، لما في اتباعهم من النكوص عن الدين القويم إلى ظلمات الكفر والضلال.

تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في هذه الليلة ندرس كتاب ربنا عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا بك يا ولينا! إنه لا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وانتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:98-101].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!تقدم لنا ما بينه تعالى من شأن أهل الكتاب اليهود والنصارى وبخاصة اليهود، إذ زعموا أن بيت المقدس قد بني قبل الكعبة، وزعموا أن إبراهيم عليه السلام لم يبن البيت، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: أنت تدعي أنك على ملة إبراهيم وفي نفس الوقت لا تستقبل قبلته التي كان يستقبلها! فرد الله تعالى عليهم أباطيلهم رداً حاسماً، وها هو تعالى يوبخهم ويبكتهم بهذه الآيات الكريمة. ‏

تنزه الله عن مخاطبة أهل الكتاب مباشرة
يقول الله لرسوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:98] فتنزه تعالى أن يخاطبهم، فما هم أهل لأن يقول الله: يا أهل الكتاب! وانظر لما أراد المؤمنين ناداهم باسمهم: يا أيها الذين آمنوا! فما أسند النداء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المؤمنين أولياء الله، يحبهم ويحبونه، فناداهم: يا أيها الذين آمنوا!أما اليهود فلبعدهم عن الله وخبث نفوسهم، ولشرهم وطغيانهم وفسادهم ما ناداهم بل أسند إلى رسوله أن يناديهم.وهل تشعرون بهذا أم لا؟فالشخص إذا كان يعادي آخر فإنه لا يكلمه، بل يقول: كلمه أنت! واطلب منه كذا.قل يا رسولنا والمبلغ عنا صلى الله عليه وسلم: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:98] وهنا يعلم تعالى أنهم يعلمون، وأنهم على علم بما جاء به رسول الله من الحق والهدى، وأن الإسلام هو دين الله وملة إبراهيم والأنبياء.

كفران أهل الكتاب بآيات الله
يا أهل العلم والمعرفة! لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:98] بعد علمكم ومعرفتكم، وعوامهم لا شأن لهم، لكن خواصهم وعلماؤهم يعرفون كما نعرف نحن، وقد حملهم على الكفر والاستمرار عليه والكيد للإسلام والمكر به وبأهله الحفاظ على مراكزهم ومناصبهم، وعلى أملهم البعيد في أن تعود مملكة إسرائيل ودولتهم وعزهم وفخارهم. فهذه الحقيقة. ووثقوا فيما سمعتم.وقوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:98] أي: ولو لم يكونوا علماء فكيف يقال: تكفرون، وتجحدون بعد العلم والمعرفة؟وآيات الله منها أن هذا البيت العتيق بناه إبراهيم وإسماعيل، وأنه قبلة العالم بأسره، وأنه وجد قبل إبراهيم، وما إبراهيم عليه السلام إلا جدد بناءه مع إسماعيل، وأن بيت المقدس ما بني إلا بعد أربعين سنة، فبنى إبراهيم الكعبة بأمر الله تعالى، أو جدد بناءها، ثم أمره أن يبني بيتاً في أرض فلسطين، فبنى بيت المقدس، وإن جددها سليمان على نمط عال وراقٍ، لكن إبراهيم بناها لما كان يقيم هناك بعد هجرته من أرض بابل.إذاً: قوله: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ومنها النعوت والصفات التي في التوراة والإنجيل، وهي تقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم باسمه وبصفاته ونعوته، فجحدوها وأنكروها وأولوها وحرفوها؛ حتى يبعدوا العالم عن الإسلام، فلهذا بكتهم ووبخهم.

معنى قوله تعالى: (والله شهيد على ما تعملون)
ثم قال: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:98] فهم يعملون المكر .. الكيد .. الدس .. الخديعة .. التحريف .. التأويل، وفي هذه الجملة التهديد لهم بالانتقام منهم، وإنزال البلاء والشقاء بهم وعليهم.فقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:98] أي: من المكر والخداع والغش والتضليل.

تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن ...)
قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ أي: قل يا رسولنا لهم، أما أنا فلا أناديهم ولا أكلمهم، فما هم أهل لأن يكلمهم الله عز وجل، فقد هبطوا إلى الحضيض بالشرك والكفر والنفاق والخداع والتضليل.فقوله: قُلْ أي: يا رسولنا! يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ [آل عمران:99] به، فلم تصرفون المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب؟ فإذا أسلم أنصاري أوسياً أو خزرجياً يأتون إلى بيته، ويأخذون في فتنته، وإذا أسلم أحدهم عادوه وأعلنوا الحرب عليه، فلم تصدون عن سبيل الله وتصرفون الناس عن طريق يسعد أهله السالكين له والقائمين عليه؟ فهذا توبيخ وتأنيب وتبكيت.ثم قال: تَبْغُونَهَا عِوَجًا [آل عمران:99]أي: تريدون سبيل الله معوجة، وسبيل الله مستقيمة لا تنتهي بالسالكين إلا إلى رضا الله ودار السلام، فلم تطلبونها معوجة منحرفة، يقولون: نحن نعرف أنه رسول، ولكن رسول العرب ما هو رسولنا نحن. فيصرفون إخوانهم عن الإسلام، وإلى الآن ما زال حالهم هكذا.قال: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ [آل عمران:99] أي: على ما تعلمونه من صحة هذه الدعوة، وصحة نبوة صاحبها وأنها دين الله الحق الذي لا دين سواه.إذاً: خواصهم والله كانوا عالمين وعارفين، ومنعهم من الدخول في الإسلام مراكزهم ومناصبهم، وحتى يبقوا في نظرهم شرف بني إسرائيل، وحتى لا يذوبوا في الإسلام والمسلمين، أما عوامهم فإنهم يقودونهم كالبهائم، فرؤساؤهم يحرفون يؤولون، ويفعلون ما شاءوا من أجل أن تبقى هذه الزمرة اليهودية، لكن يقول تعالى بعد ذلك: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [آل عمران:99].إذاً أهل الكتاب يبغون سبيل الله معوجة منحرفة، لا تقود إلى دار السلام وإلى رضا الله، فيحرفون شريعة الله، ويريدونها معوجة لا مستقيمة، وأنتم شهداء على هذا الذي تعملونه وتعترفون وتقرون به، والله ليعرفون أن محمداً رسول الله، وألا دين إلا الإسلام.ولا تعجب! فقد وجد من المسلمين من غرته الحياة الدنيا، وهو يعرف الحق ويعدل عنه، إلا أن هذه الطائفة والعياذ بالله تعالى واجهت رسول الله والمؤمنين.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ...)

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذي أوتوا الكتاب ...)
قال تعالى في نداء آخر لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:100-101].هذه الآيات جاء في سبب نزولها أن شاس بن قيس اليهودي وأحد رجالات اليهود الماكرين، مر بمجموعة من الأوس والخزرج في مكان ما وقد كانوا نازلين فيه يتكلمون ويتحدثون، وكانوا مستبشرين فرحين مسرورين بالإسلام وبما هداهم الله إليه، فاغتاظ شاس اليهودي وتأسف وتحسر كيف أن الأوس والخزرج الذين كانوا يعيشون على عداء كامل وعداوة تامة بينهم، كيف يتحدون اليوم ويتعانقون ويتصافحون؟!وقد قامت حرب بعاث والتي دامت أربعين سنة بين القبيلتين الأوس والخزرج، وكان اليهود هم الذين أشعلوا نارها، وهم الذين فرقوا بين قبيلتين أصلهما واحد، وديارهما واحدة؛ وكل ذلك من أجل أن يجدوا مكاناً يسودون فيه، ولو ترك الأوس والخزرج متحابين متعاونين فلا مكان لليهود، بل سيعيشون أذلاء هابطين، لكنهم أوقدوا نار الفتنة بينهم، وأججوا شعلة الحرب فيهم أربعين سنة بما يسمى حرب بعاث، وكان الذي أوقد نار هذه الفتنة هم اليهود؛ ليبقى لهم وجود!أما الآن فإن أعداءنا من اليهود والنصارى يظنون نفس الأمر أننا لو اتحدنا وأصبحت كلمتنا واحدة فإنهم سيخسرون الشيء الكثير، لكن فرقة المسلمين أوجدت لهم مكاناً بينهم ينتفعون بها.وتبدأ القصة من أن المدينة قبل الإسلام كان يسكنها الأوس والخزرج، وأصلهما من اليمن، بسبب ما حصل لسد مأرب فهربوا ونزلوا هنا في المدينة، وبعضهم الآخر نزل في الشام، وكان اليهود قد نزحوا من الشام ونزلوا المدينة وخيبر وفدك وتيماء، وقد هربوا من ضغط النصارى؛ إذ كان النصارى يبغضون اليهود أشد من بغضنا نحن لليهود، والعلة أنهم يعتقدون أن اليهود قتلوا إلههم وصلبوه، والذي يعتقد أن إنساناً قتل ربه لا يرضى عنه، بل هو كافر، وفعلوا بهم العجب، فهرب اليهود من بلاد الروم إلى بلاد العرب، هذا من جهة.ومن جهة أخرى كان اليهود يتطلعون إلى نبوة آخر الزمان وخاتم الأنبياء؛ لما يجدون في التوراة والإنجيل من البشارات الإلهية عن نبي آخر الزمان، وأنه يخرج من جبال فاران، وأنه من ولد إسماعيل، وهذه النعوت موجودة عندهم. فنزحوا إلى هذه البلاد رجاء أن يستقبلوا النبوة الجديدة، وينضموا تحت رايتها، ويحققون أهداف بني إسرائيل.فلما ظهر لهم أن الأمور ليست في صالحهم شرقوا بريقهم، ووقفوا حرباً ضد الرسالة الجديدة، ومن مظاهر ذلك ما نحن بصدده.فقد مر شاس بن قيس اليهودي الحَبر العالم بمجموعة من الأوس والخزرج يتبادلون الحب والولاء والطهر والصفاء فاغتاظ وتألم، فجاء بيهودي وقال: اجلس بينهم وذكرهم بحرب بعاث، وأنشد بعض الأشعار التي كانوا ينشدونها لإثارة الحمية والحماس، فأنشد الأوسيون والخزرجيون تلك الأشعار التي فيها السب والشتم، وإذا بنار الفتنة تتأجج، وقالوا: لن ننتهي إلا بحرب! وتواعدوا بالحرة: غداً نلتقي هناك بسيوفنا.وبالفعل خرجوا من الغد بسلاحهم ورجالهم؛ لينتقم بعضهم من بعض، وأُعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحادثة؛ فخرج صلى الله عليه وسلم ماشياً على قدميه، هو وبعض رجاله من المهاجرين، فما إن شاهدهم حتى رفع صوته صلى الله عليه وسلم قائلاً: ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! ) فما زال يكررها حتى سالت دموع القوم، وبكوا وتعانقوا، وذهبت تلك الفتنة إلى غير رجعة إلى يوم القيامة.فهاتان الآيتان نزلتا في هذه القضية، والعبرة -كما تقولون وتفهمون- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلنستمع نداء الله لهم ولنا معهم.

نداء الرحمن لأهل الإيمان
قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100] لبيك اللهم لبيك! فقد نادانا، وإن نادى غيرنا فما نحن بمؤمنين. والحمد لله!وكل مؤمن ومؤمنة إذا سمع: يا أيها الذين آمنوا! فليعطها أذنه وسمعه، ولينتظر ما يقول ربه، وهذا عبد الله بن مسعود يقول: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا! فأعرها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه. فخذ نصيبك يا عبد الله!ونداءات الرحمن لأهل الإيمان سمعناها بآذاننا، وحفظناها في صدورنا، وها نحن نطبقها حرفياً في حياتنا، والحمد لله!وللأسف أن ملايين المسلمين ما سمعوا أن الله ناداهم، ولا فهموا أن الله يناديهم أبداً، وعلة هذا الجهل، وعلة الجهل الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأقبلنا على الأغاني والملاهي والطبول والمزامير والفكاهات والأحاجي والقصص والخرافات والشركيات قروناً عديدة! فكيف نعلم؟!وأسألكم بالله: أيوحى إلينا وأنت لا تتعلم؟! وقد ختمت النبوة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا بد إذاً من طلب العلم، ولا بد من معرفة ما أنزل الله وما شرع الله وما أمر ونهى عنه الله، والجهل هو محنتنا.

التحذير من طاعة فريق من أهل الكتاب
قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هذه نصيحة إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] وهنا يدخل النصارى، فإن تطيعوا فريقاً مختصاً، وهم أهل المكر والخديعة والتضليل والفتنة، والعياذ بالله يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] فلما أطاعوهم وخرجوا إلى الحرة لولا أن الله أنقذهم بالرسول صلى الله عليه وسلم لعادت الجاهلية من جديد؟ والرسول بأعلى صوته يقول: ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! ) أي: ما مت بعد!وهنا كررنا هذا القول مئات المرات والله شاهد، وقلنا: يا معشر المؤمنين! أيها المسئولون! يا آباء البنين اسمعوا! إنكم تضعون أبناءكم بأيدي المعلمين من أهل الكتاب! فيجلسون بين أيديهم السنوات فكيف يعودون إليكم ربانيين مؤمنين صالحين؟ أما تجب طاعة المعلم؟ بلى. تجب!وأنا إذا كان معلمي يهودياً أو نصرانياً، قساً أو حَبراً من الأحبار، فإني سأجلس بين يديه يعلمني أربع سنوات إلى خمس سنوات وينفث في نفسي روح الكفر؟!وللأسف أن الوزارات في العالم الإسلامي عرباً وعجماً يتولاها أولئك الخريجين، وخمسة وسبعين في المائة هم من خريجي جامعات أوروبا وروسيا والبلاد الشيوعية، فهؤلاء الوزراء في المال .. في الاقتصاد .. في الحرب .. في السلم .. في كذا .. معصومون؟ كيف يتحركون؟ يتحركون بغير ما علموه وعرفوه؟الجواب: والله إلا من عصم الله، لا يتحركون إلا بما فهموه وعلموه، ومن هنا حقروا الإسلام والمسلمين، وأعرضوا عن كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وقالوا في أهله: خرافيون ورجعيون وكذا وكذا.هذا هو السر، واسمع الحكيم العليم يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، ومن يقول: لا يا رب! لا يردوننا؟ أيقول هذا عاقل؟!والواقع شاهد، فلم تعطلت شريعة الإسلام وأبعد القرآن وهجرت السنة، وترك الحكم بكتاب الله وسنة رسوله؟ لم؟ وما سبب ذلك؟والله إنه للجهل المركب الذي تلقاه أبناؤنا ورجالنا من معلميهم، سواء الذين يعلمونهم الفيزياء أو الهندسة أو الديمقراطية أو قل ما شئت، فينفثون فيهم سمومهم، وإن أنفقوا عليهم الأموال فلا ينفقونها ليتعلمون حب الله ورسوله والمؤمنين، وكره الكفر والكافرين.وهذه الآية عجب فكأنها نزلت الآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا وما قال: إن تطيعوا أهل الكتاب إنما قال: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا أي: مختصاً، وهم الذين يثيرون الفتن ويحرضون على الباطل والشر من أجل هبوط هذه الأمة وعدم صعودها ورقيها، وقد أطعناهم والواقع شاهد، فلِمَ يستقل الإقليم ولا يطالب السلطان عبد العزيز بأن يبعث لهم قضاة ورجالاً يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ بل ما إن يستقل حتى يعلن عن دولته وقانونه بعيداً عن الإسلام والمسلمين!أعيد القول وسوف تسألون يوم القيامة: من أوجد دولة عبد العزيز ؟الضلال الذين يكرهون التوحيد يقولون: بريطانيا!والله ما أوجدها إلا الله، وتعلموا هذا إن كنتم تعقلون، فلما خفتت أنوار الإسلام، ووضع الغرب قدميه العفنتين على صدور المسلمين من إندونيسيا إلى موريتانيا، فالعرب والعجم الكل تحت أقدام الاستعمار، وصفق اليهود والنصارى والضلال والغافلون، فما بقي للإسلام شأن لا قرآن ولا سنة ولا دعوة، فأيس الناس كيف يعود القرآن يحكم من جديد؟ فجاء الله عز وجل بهذه الدولة، وأسباب مجيئها ليست بشيء، ولكن الله أراد، وحكم عبد العزيز بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعالم يشاهد وينظر، والجاهلون يصفقون للعالمين، والعالمون يكرهون التوحيد والإسلام والمسلمين! وشاهدوا بأم أعينهم الأمن الذي تحقق في هذه البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وشاهدوا الطهر والصفاء اللذين تحققا بحكم الله عز وجل، ولا ينكر هذا إلا مغرض أو جاهل مسحور يتكلم بما لا يعلم.فظهرت آيات الله، وأخذ الله عز وجل يحرر المسلمين بعد أن أذاقهم مر العذاب بالهون والدون لفسقهم وفجورهم وجهلهم وإعراضهم عن الله.وأول إقليم تحرر وقد عاصرناهم إقليماً بعد إقليم، وكان الواجب على أهل ذلك الإقليم ما إن تسلموا زمام الحكم وخرجت فرنسا أو إيطاليا أو بريطانيا كان الواجب أن يرسلوا وفداً إلى عبد العزيز أو من خلفه، ويقولون: هذا الإقليم استقل وتحرر، وهذه مفاتيحه فعين والياً عاماً، فهذا إقليم من أقاليم الدولة الإسلامية، وابعث قضاة يطبقون قال الله قال رسول الله، ويبقى البلد له خيراته وبركاته، ولكن تطبق فيه شريعة الله، فيؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، وتجبى فيه الزكوات، وتقام فيه الصلاة إجبارياً، وتغلق أبواب المخامر، وتدمر المصانع، والحمد لله ستتسع رقعة البلاد الإسلامية، فينتقل إلى الإقليم الثاني والثالث والرابع والخامس، فمن ثم تكون الخلافة الإسلامية قائمة، وأمة الإسلام أمة واحدة، وأمرهم واحد.لكن لم أعرض المسلمون عن هذا؟خوفاً من الله!والآن يبكون ويبكون، وماذا يجدي البكاء فقد مزقتنا خلافتنا بأيدينا، وأعرضنا عنها.ونعود إلى: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] فأكثر الوزراء والمسئولون في الدول العربية والإسلامية بعد استقلالها وأيام استقلالها هل هم بدو من أصحاب الكتاتيب؟ من حفاظ القرآن؟!إن حفظة القرآن يقرءونه على الموتى، ولا وظيفة ولا مال، والله العظيم! أما الذين ساسوا وقادوا البلاد فهم خريجو جامعات بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا.إذاً: ماذا ترجون من هؤلاء والله يقول: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] صدق الله العظيم.أما تبكون على المسلمين وأمورهم؟ أين الإسلام؟و( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم )! وها نحن نشاهد الفتن تنتقل من بلد إلى بلد والمسلمون يحترقون.
تفسير قوله تعالى: (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله ...)

العجب من ظهور الكفر بين المسلمين مع وجود تلاوة القرآن ووجود الرسول
يقول تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] يا للعجب! بعدما قرر الله يقيناً أننا إذا أطعنا هذا الفريق من خبرائهم وعلمائهم وساستهم، لأننا جهلة وهم عالمون، وأخذنا نقلدهم ونمشي وراءهم؛ يردوننا كافرين! تعجب الرحمن لنتعجب نحن: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ والحال أنكم تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101].وقضية شاس اليهودي تتناول هذا اللفظ، ولكنها انتهت، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونوره يلوح فعادوا إلى الله، لكن يبقى هذا الحكم: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ فمن أين يأتيكم الكفر أو يدخل عليكم أو يفسد قلوبكم والحال أنكم تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]؟وقد بينا مئات المرات في هذا المسجد المبارك، وما بلغنا أن مؤمناً نقل مثل هذا أو تكلم به، لا في بيته ولا مع جلسائه، وإن تكلم يقولون له: خيالات، هذا خيال فقط ولا حقيقة له!ومعنى الآية أنه لا يتأتى الكفر لنا ولا يدخل قلوبنا ما دام القرآن يقرئ علينا ويفسر لنا ويبين لنا، وسنة رسوله تشرح وتبين وتقودنا! فإن نحن اعتزلنا وبعدنا عن الكتاب والسنة فلا محال من الكفر، فالمناعة انتهت!

التحذير من ابتعاث أبناء المسلمين إلى بلاد الكفر دون قيود وشروط
قلت مئات المرات: المفروض أننا لو ابتعثنا عدداً من أبنائنا يدرسون في روسيا أو أمريكا أو بريطانيا، فيجب أن نؤجر لهم منزلاً خاصاً بهم، وأن نجعل فيه مصلى يصلون فيه، وأن نبعث معهم عالمَين ربانيين بالكتاب والسنة، فيدرسون في الكليات ثم يعودون إلى مقرهم النوراني فيتلقون الكتاب والحكمة ويتهجدون ويعبدون الله، ويعودون إلى كلياتهم وكلهم نور فيغمر ذلك المربي أو المعلم، وقد يدخل في رحمة الله والإسلام من كلمة يسمعها من مؤمن من هؤلاء المؤمنين!أما أن نبعثهم ونرمي بهم في أحضان العواهر!وقد نددنا بتلك الإعلانات والتي فيها: وانتهت العطلة الصيفية: فمن يبعث ولده إلى بريطانيا ليتعلم أربعين يوماً اللغة البريطانية، وينزلونهم في أسرة من العواهر الكفار!فكيف يعودون أسألكم بالله؟!وصرخنا وبكينا وقلنا: هذا موت .. هذا دمار، كيف تبعث ابنك أربعين يوماً في العطلة ليعيش مع العواهر؟! أستغفر الله! وهل الكافرات مصونات عفيفات؟!إنه شاب من شبيبة الإسلام ترميه بين أحضان الفتيات فكيف يسلم من الفجور؟ وهذا الواقع الذي نصرخ منه له أسبابه، ومن ذلك أن المسلمين لما استقلوا ما عرفوا الله، فكرهوه وكرهوا دينه وملته، وتغنوا بالاشتراكية والديمقراطية وأعرضوا عن الإسلام، وبعثوا أولادهم يتعلمون الكفر أحبوا أم كرهوا.وبهذه الأذن سمعت في فرنسا مسئولاً في سفارة من السفارات يقول: لما يقولون: إلى متى هذا الحجاب وهذا كذا؟ قال: نقول لهم: ما هي إلا أوقات فقط، ولا بد من التدريج. ففهمت أنهم يريدون مسخنا ولكن بالتدريج وليس بالقوة! فالحجاب ليس بممنوع، لكن شيئاً فشيئاً.وماذا عسانا أن نقول والله ينادينا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:100-101] ماذا تقولون في هذه الآية: جديدة أم قديمة؟ولما سمع إخواننا من الجن آيات كهذه قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]. ولكننا كالأموات.هل فسرت هذه الآية في العالم الإسلامي؟وهل بلغكم أنهم يبعثون مع طلابهم أئمة يربونهم؟والله لو فعلوا هذه النظرية وقد قلناها من عشرات السنين؛ لصار مركز الطلاب مركزاً للدعوة الإسلامية! فيؤذنون فيه والنصارى يسمعون ثم يأتون يسألون العالِم: ما هذا الإسلام؟كما قد قررنا وقلنا: ينبغي للمسلمين إذا دخلوا إلى مبنى الأمم المتحدة أن يدخلوا بعمائمهم وطرابيشهم، لا أن يدخلوا كاليهود والنصارى، وأين المسلم؟!فلما يدخلون مبنى الأمم المتحدة أو مجلس الأمن بالمشلح أو العمامة يقولون: من هذا؟ فيقال لهم: هذا مسلم! فيقولون: وما مسلم؟ فهو ما سمع بالإسلام. ثم يقال له: إن كنت تريد أن تسمع عن الإسلام فامش وراءه، فهو نازل في الفندق الفلاني فيعلمك!فبالزي فقط ندعو إلى الإسلام! لكن للأسف الشديد حتى الزي لا يوجد.كذلك المسلمة لو سافرت للضرورة معك! فلا تنزع عنها الحجاب من الطيارة، بل دعها تسافر محتجبة حتى يقولوا: ماذا هذا؟ فيقال لهم: هذا الإسلام، فيقول: ما هذا الإسلام؟ فيسألون أهله ويبدءون يتساءلون.لكن لا، أكثرنا يقول: لا نريد أن نعرف أننا مسلمون.فجحدنا الإسلام، وعلة هذا الجهل، ليس الجهل بالفيزياء أو بالتقنية، إنما الجهل بالله ومحابه ومكارهه، وما أعد لأوليائه وما هيأ لأعدائه.

طريق عودة المسلمين إلى دينهم وعزهم
إن قال قائل: لا تلمنا يا شيخ! هذا هو واقعنا، نحن ما ربينا في حجور الصالحين، وقد مضت علينا قرون ونحن نعيش في الخرافة والشرك والجهل، ثم انتكسنا انتكاسة أخرى، فتعلمنا من اليهود والنصارى وتحضرنا بحضارتهم وسلكنا سبيلهم، فكيف نعود؟فأقول لهم: يقول الله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] فهيا نعود!يقول: صعب يا شيخ! أن نعود.أقول: والله إنها لأسهل من أن تشرب كأس لبن، لأن ولاية الله من يقاومها؟ من يقهر الله أو يذل أولياءه؟فإن قال قائل: ما هو الطريق السهل الميسر؟أقول: الطريق السهل أن أهل القرية العربية والأعجمية وسكانها ألف .. ألفان .. ثلاثة آلاف نسمة يقولون: هيا نعود إلى الإسلام من جديد! فنعود بسم الله، ويبدأ إمامهم على المنبر يوم الجمعة يقول لهم: أبناءنا إخواننا! هي نأخذ على أنفسنا عهداً لله أننا لا نغيب عن بيت ربنا كل يوم من المغرب إلى العشاء، فإذا مالت الشمس إلى الغروب نغلق باب التجارة إن كنا تجاراً، ونرمي المسحاة من أيدينا إن كنا فلاحين، والمطرقة إن كنا حدادين، ونتوضأ ونأتي بنسائنا وأطفالنا إلى المسجد بيت الرب، فيجلس النساء وراء الستارة، ومكبر الصوت بينهن، والأطفال دونهن في صفوف عجيبة كالملائكة، والفحول أمامهم، ويصلون المغرب، ثم يجلس لهم عالم بالكتاب والسنة، فقط يعلمهم الكتاب والحكمة، ويأخذون في التلقي يوماً بعد يوم.وكذلك هو حال أهل الأحياء في المدن يوم الجمعة يقول لهم خطيبهم: معاشر المستمعين! من اليوم لا يتخلفن رجل ولا امرأة عن صلاة المغرب والعشاء في مسجدنا هذا؛ لنتلقى الكتاب والحكمة، وفي صدق يقبلون على المسجد، ويتلقون ليلة آية وأخرى حديثاً، كما قد مثلنا هذا وجربناه في كتاب المسجد ففيه ثلاثمائة وستين آية وحديثاً، ونظل على ذلك سنة كاملة ونحن نمرن المسلمين على هذا، ولا حركة أبداً.فإن سأل سائل: ماذا ينتج كل هذا؟الجواب: والله إن النتيجة لهي أن يسود الحب والولاء والأخوة والصفاء، وينتهي الغش والخداع والكذب والنفاق والإسراف والتكالب على الدنيا، وتصبح القرية أو الحي كالملائكة، فلا جوع ولا فقر ولا خوف ولا بلاء، والله ليفيضن المال، حتى إن من راتبه عشرة آلاف يبحث كيف ينفقها.إذاً فلم لا نقبل على هذا ويصبح مذهبنا واحداً؛ فلا حنفي ولا حنبلي ولا مالكي ولا زيدي ولا أباضي، بل مسلمون، قال الله وقال رسوله، وفي قريتهم أو في حيهم، في بيوت الله طول العام، ساعة ونصف فقط أو ساعتين، والله لا منقذ لأمة الإسلام وقد هبطت إلا هذا، إلا أن تعود إلى الكتاب والسنة بهذه الطريقة.فإن قلتم: هذا أمر صعب، فلم تقولون: وليس هناك إلا الجهاد أو الديمقراطية أو يقتل بعضنا بعضاً؟يا أبنائي! هناك نيران مشتعلة في الجزائر لها أربع سنوات وستنتقل من بلد إلى بلد، ولا يطفئها إلا الله، ولا تطفأ إلا بالإيمان الصحيح والعودة الربانية.

الاعتصام بالله بوابة الهداية
قال تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101] ألا وهو الطريق الموصل إلى الجنة دار السلام.لكن كيف يعتصم بالله؟ الجواب: يستمسك بحبل الله النازل من السماء.وما هو حبل الله؟ حبل الله هو القرآن الكريم، كتاب الله عز وجل.والله تعالى أسأل أن يهدينا والمؤمنين إلى أن نعود إلى ربنا، فتنشرح صدورنا وتطيب نفوسنا، ونجد لذة الأنس بذكر ربنا. فاللهم حقق لنا ذلك، إنك ولينا وولي المؤمنين.وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-19, 12:50 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (31)
الحلقة (172)

تفسير سورة آل عمران (41)

تقوى الله عز وجل طريق كل خير، والتقوى تحمل المؤمنين على طاعة أوامر الله عز وجل، ومما أمر الله به عباده المؤمنين أن يعتصموا بحبله المتين، وهو دين الله القويم، وحذرهم سبحانه وتعالى من التفرق والاختلاف، فالاختلاف سبب كل شر، والتفرق ضعف وهوان، وما أوتي المسلمون إلا من هذا الباب.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب ربنا عز وجل؛ راجين من ربنا عز وجل أن يهبنا ذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ). فحقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع هذه الآيات، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].وهذا النداء مسبوق بآخر وهو موضوع درسنا البارحة، وتلاوة الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:100-101]. ‏ خلاصة هذا النداء هو أن الله نادانا بعنوان الإيمان؛ لأننا أحياء، نسمع ونفهم ونقدر على أن نعمل أو نترك، وتشريفاً لنا ما قال لرسوله: قل يا أيها الذين آمنوا! بل تولى نداءنا مباشرة بنفسه، بخلاف أهل الكتاب قال: قل يا أهل الكتاب! فتنزه الله أن يناديهم! فما هم أهل لذلك، لا سيما عندما يذكر فظائعهم وخسرانهم وأباطيلهم.

خطورة طاعة أهل الكتاب
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] والله العظيم المخبر هو الله، الذي يقلب القلوب، والذي غرز الغرائز، وطبع الطبائع، وسن السنن، ووضع النواميس والقوانين، أيخبر ويخطئ؟! لا والله ما كان.فما من مسلم يطيع جماعة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين لا هم لها إلا تكفيرنا وإبعادنا عن نور الله ورحمته، فما يطيعها أحد إلا وقع في شَرَك الكفر والعياذ بالله.وقد سمعتم وقلت لكم: هناك خطأ وقعت فيه أمة الإسلام وهي لا تدري، فقد بعثت بأبنائها وشبيبتها -ومع الأسف وبناتها أيضاً في بعض البلاد- ووضعتهم بين أيدي الماكرين من علماء أهل الكتاب من يهود ونصارى، فيدرسون السنين العديدة الأربع والست والسبع والثمان سنين.أسألكم بالله: ألا يفرغون فيهم باطلهم؟! ويملئون قلوبهم بشرِّهم وكفرهم؟وتجلت الحقيقة وقلنا: إن أكثر من تولى حكم المسلمين من إندونيسيا إلى موريتانيا هم خريجو تلك الجامعات، فتجدونهم في وزارة المال .. في وزارة العدل .. في وزارة التعليم .. في وزارة كذا وكذا، وهم قد حشوا وملئوا ببغض الإسلام وكرهه!ثم يقودون أمتهم بحسب ما في قلوبهم، والله إن منهم من يجامل المسلمين مجاملة، وهو لا يثق فيهم ولا يعد نفسه منهم، بل فوقهم، بل يصفونهم بأنهم رجعيين .. متخلفين .. جهال! لأنهم ليسوا كمشايخهم في أوروبا وأمريكا! وأحلف لكم بالله: والله إن إبعاد المسلمين عن دينهم بعد أن استقلوا عمن استعمرهم لمحنة جاءتهم من مسئولين درسوا عند الكافرين، وأشبعوا بمفاهيمهم وعلوم معارفهم، فعز عليهم أن يصلوا أو يدعوا إلى الصلاة! وإذا ما رأيتم فسوف تسمعون بهذا في قبوركم قبل النشر والحشر، وتنكشف الحقائق.فإن قال قائل: يا شيخ! ماذا تريد منا؟الجواب: كان المفروض بنا عندما نبعث بعثة من أبنائنا إلى روسيا .. إلى الصين .. إلى أمريكا .. إلى اليابان .. إلى أوروبا؛ ليتعلموا الصناعة والتقنية وما نحن في حاجة إليه؛ أن نبعث معهم علماء شرعيين، ونلزمهم بطاعتهم إلزاماً، ونعد لهم سكناً خاصاً على حسابنا نحن المسئولين بالدولة. فيتحول ذلك المركز إلى إشعاعات نورانية! ويعودون من كلياتهم وتمارينهم ليركعوا ويسجدوا بين يدي ربهم، ويدرسوا الكتاب والسنة، فتغمر تلك البلاد أنوارهم، ويدخل الناس في الإسلام معهم، لكن مع الأسف يبعثونهم ويضعونهم بين يدي أعداء الله ورسوله، فكيف يسلمون؟! نعم قد يسلم واحد، لكن العبرة بالأكثرية لا بالأقلية.فهل إذا وضعوا لهم مركزاً خاصاً يتعلمون فيه الهدى ويعبدون الله يأمنون؟إي والله! أما قال تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] فيتعلمون في الصباح من أساتذة الكفر المضطرين إلى التعلم عنهم هذه الماديات، ويعودون في الليل ليبيتوا ركعاً سجداً، يتلى عليهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.وهذا ما دل عليه كلام ربنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100] كالخبراء .. المعلمون .. المستشارون .. الفنيون .. السياسيون، وما قال: إن تطيعوا الذين أوتوا الكتاب، لا! سبحان الله العظيم! إنما قال: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا خاصاً هيئ للفتنة ونشرها يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100].

العجب من ظهور الكفر مع تلاوة القرآن وتعليم السنة
ثم قال في صورة تعجب: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ بعد إيمانكم وأنوار قلوبكم، كيف والحال أنكم تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]؟!دعنا من تلاميذنا في الخارج، ونعود إلى ديارنا في الداخل، وكيف زاغت قلوبنا، وضلت فهومنا، وتهنا في متاهات الشرك والباطل والفسق والفجور؟ ألكوننا تتلى علينا آيات الله وفينا رسوله؟ لا والله! إنما لأننا بعدنا كل البعد عن تلاوة كتاب الله وهداية رسوله صلى الله عليه وسلم.ومن يمنعنا أن نزل ونسقط؟ ومن يمنعنا أن نضل ونتيه ونفجر؟أين المناعة؟فالقرآن نقرؤه على الموتى فقط، فإذا مات ميت نقرأ عليه القرآن في المقبرة أو في بيته؛ من أجل أن نأكل الرز واللحم.وقالت علماء الزمان: من فسر القرآن الكريم وأصاب فقد أخطأ، أي: حرام أن تفسر كلام الله، فإنك تهلك، وإن أخطأ فقد كفر، فألجمونا بلجامهم وأسكتونا وقطعوا أنفاسنا.فقلنا لهم: وماذا نفعل بالقرآن؟!قالوا: اقرءوه على الموتى.معشر المستمعين والمستمعات!ثبت عندنا يقيناً في بلاد استعمرتها فرنسا، وفي إقليم من أقاليمها، وقد جاء حاكم عام يقود تلك المنطقة من فرنسا، فأخذ يتجول في المدينة، فوقف على كتاتيب الطلاب في المساجد يتعلمون القرآن؟ فعجب ذلكم الفرنسي وكاد يغمى عليه أن المدارس مفتوحة ووزارة المال تنفق ومع ذلك وجدت هذه الكتاتيب؟ فلا معنى لهذا، أغلقوها، فليست فرنسا في حاجة إلى هذه الكتاتيب على الأرض، إنما عليها أن تنشئ المدارس وتبعث بالمعلمين. وصدر الأمر بإغلاق الكتاتيب، فألهم الله تعالى مؤمناً وقال: يا مسيو! لا معنى لإغلاقك هذه الكتاتيب وسد أبوابها، فهذه الكتاتيب تعلم القرآن من أجل أن يقرءوه على الموتى، فقط على الموتى؟ فقال: على الموتى فقط، أما الأحياء فلا يفهمون ولا يقرءون. قال: إذاً: خلهم يقرءون، والله العظيم!فإذاً هبطنا فمن يرفعنا؟ وهل من رافعة؟الآن الرافعات ملأت ديارنا تحمل الإسمنت إلى الطابق العاشر، وقد كنا نتحدث عن الرافعة فلا يفهمنا إخواننا، إلا الذين ينزلون الموانئ والمراسي، ويشاهدون الرافعة تأخذ السيارة من السفينة وتضعها في الأرض، أو تأخذ الطن من الأرض وتضعه في السفينة.الآن الرافعة معروفة فهي ترفع من كان على الأرض إلى عنان السماء، وعندنا رافعة حرمها البشر بكيد الكائدين ومكر الماكرين من فريق من أهل الكتاب، وهذه الرافعة تتجلى لنا قوتها وسلطانها وقدرتها على الرفع، فقد رفعت العرب الذين كانوا كالبهائم في الأرض، فالأحباش مستعمرون اليمن، والنصارى مستعمرون الشمال، والمجوس محتلون الشرق، وليس هناك إلا هذه البقية في الحرمين فقد حماها الله، فرفعتهم هذه الرافعة خمسة وعشرين سنة وصاروا سادة العالم وأئمة البشرية.ما هذه الرافعة؟إنه القرآن الكريم. واقرءوا لذلك قول الله عز وجل من سورة الأعراف: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:175-176] لا إله إلا الله! هذا قرآن أم ماذا؟فقوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي: يا رسولنا! نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا كالحية لما تنسلخ من ثوبها، وتتركه حنش أبيض. فقوله: آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا أي: حولوها إلى الرفوف، وإلى القبور يقرءونها فقط، وليس هناك من يقول بها أو يعمل بها أو يتعظ بها أو يهدي بها.إذاً: ففقدنا الحصانة والمناعة، والمناعة كانت في القرآن، فلما انسلخ منه وتركه على الرفوف جرى الشيطان وراءه، إذ لا حصانة ولا مناعة؛ فأدركه فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175]، والغي لفظ يكاد يتقيأ منه الإنسان، وأهله هم الغاوون أي: الفاسدون الأخباث الهابطون.ثم يقول تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176]، ما قال: لرفعناه بأيدينا أو بملائكتنا، قال: لَرَفَعْنَاهُ بِهَا أي: بالآيات، إذ هي الرافعة للبشرية من سقوطها في أوضار الذنوب والآثام، وأوساخ الدنيا والجرائم والموبقات.فليست الرافعة معاشر الأبناء في الاشتراكية أو الديمقراطية.إنه والله لَفي القرآن، فعندما يؤمن الإنسان به ويقرأه، ويفهم مراد الله منه ويطبقه، فتلك هي الرافعة.ثم قال: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176]، وقد كنا نسمعهم يقولون: الخبز للجميع، والدولة كلها قائمة على تحقيق الخبز! أهؤلاء بهائم وحيوانات، فقط وفروا لهم الخبز فقط! وهذا في النظام الاشتراكي.إذاً: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176]، فما اتبع عقله أبداً فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176] في أي شيء؟ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ [الأعراف:176] بالعصا يَلْهَثْ أي: لسانه مدلى، وتتركه في الظل والماء بين يديه والله وهو يلهث.وكنا نقول: والله لن تنقطع لهثة العرب والمسلمين إلا إذا عادوا إلى الكتاب والسنة. ومضى الآن أربعون سنة .. خمسون سنة وهم معرضون عن الكتاب والسنة، فلم ينته لهثهم وحيرتهم أبداً، فقولوا: آمنا بالله.وهذا هو القرآن الذي يقرأ على الموتى.إذاً قوله: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، فأيما فرد أو جماعة أو أسرة أو قرية يعيشون على تلاوة القرآن والسنة وتطبيقهما والعمل بهما لو اجتمع أهل الأرض من شياطين وبشر على أن يكفروهم والله ما كفروهم، ولا استطاعوا أن يبعدوهم عن الله ودينه؛ لأن المناعة أودعها الله في القرآن والسنة.

الاعتصام بالله طريق النجاة
وأخيراً: يقول تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ [آل عمران:101] أي: يستمسك بدينه وشريعته، وبما يحملها من كتابه وهدي رسوله، ويشد على ذلك علمه أنه قد هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، فلن ينتهي به إلا إلى سعادته وكماله، فهو ليس بمعوج، بل صراط يصل بسالكه إلى سعادة الدنيا والآخرة، وهذا إعلام الله وإخباره، ولا يتطرق إليه أبداً الضعف.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ...)


أهمية تقوى الله
جاء النداء الثاني فهيا نتدارسه، فيقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لبيك اللهم لبيك، فماذا تريد منا يا ربنا؟ قال: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] وهذا الأمر لنا. أي: اجعلوا بينكم وبين غضبه وسخطه وعقابه وعذابه وقاية وكافية.ما هذه الوقاية؟هل هم رجال الفن أو مصانع الذرة والسلاح؟! هل هي الجيوش الجرارة والأنظمة العصرية؟!هذه ليست هي الوقاية، فوالله ما تقينا هذه أبداً، فالله فوقها، وهو الذي دبرها وأوجدها وسخر الأيدي التي صنعتها.إذاً: بِم يتقى الله؟يتقى الله عز وجل بطاعته في أمره ونهيه، وطاعة الرسول من طاعة الله، وطاعة إمام المسلمين من طاعة الله، وطاعة المربي من طاعة الله، وطاعة الوالدين من طاعة الله، وما هناك إلا طاعة الله وقد تفرعت عنها الطاعات الأخرى، فطاعة الله بها يتقى عذابه وغضبه.وطاعة الله تكون يا عبد الله ويا أمة الله بفعل أمرٍ أمر به وترك نهي نهى عنه، وإن كانت النفس تحب ذلك وترغب وتشتهي، فما هناك حيلة والله أبداً.فقط أن نعرف أوامر الله ونواهيه، ونصحح العزم في صدق على أن ننهض بالأمر ونختلي ونبتعد ونجتنب النهي، ولا يتقى الله بشيء سوى هذا.من هنا: أولاً يجب تحقيق الإيمان إذ لا يقدر على هذا إلا مؤمن.وهل نحن مؤمنون؟ وكلمة (إن شاء الله) لا تنفعنا.تريدون عرض شاشة قرآنية تشاهدون فيها أنفسكم، وإن وجدتمونا فيها فنحن مؤمنون، وإن ما وجدتمونا فما نحن بمؤمنين، وإن وجدتمونا في جهة وليس في أخرى فإيماننا ضعيف مذبذب.تريدون أن تشاهدوا أنفسكم أو لا؟وإليكم الشاشة الأولى من سورة الأنفال المدنية، والتي نزلت بعد وقعة بدر عندما اختلفوا في الغنيمة، وادعى من ادعى الإيمان وهو غير مؤمن صحيح الإيمان، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي: بحق وصدق الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4].كيف حالنا يا معاشر الناظرين إلى الشاشة القرآنية؟إن قلت: يا عبد الله! اتق الله فلا تسب الدين، تجده يسخر ويضحك! أهذا مؤمن؟!إن قلت: يا أمة الله! استتري واحتجبي والزمي بيتك، تخرج لسانها وتسخر منك! أهذه مؤمنة؟إن قلت لبائع الدخان والحشيشة وأشرطة الباطل: يا عبد الله! اتق الله، لا تنشر هذا الباطل بين المؤمنين، يقول مع الأسف: الزبائن لا يشترون منا إذا ما عندنا هذا؟ وهل هذا توكل على الله والله يقول: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].إن شاء الله رأيتمونا في الشاشة.والشاشة الثانية من سورة التوبة أخت سورة الأنفال ولا فاصل بينهما، يقول تعالى: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ [التوبة:71] وهذه الصيغة بمعنى: والمؤمنون والمؤمنات بحق؛ لأنها رد على المنافقين والمنافقات في السياق الأول بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وانظر إلى أخيك إلى جنبك هل أنت وإياه بعضكما أولياء بعض؟ فإذا استغاثك: أي صاحبي! تقف إلى جنبه أو تضحك وتتركه.وإذا رأيته والكلاب تمزق ثيابه ولحمه تمر بعيداً تقوله: دعه، أهذه هي الولاية؟!وإذا رأيته جائعاً والجوع يقطع أمعاءه، وأنت شبعان والتمر في جيبك، أهذه هي الولاية؟!وقد بينا وعلم العالمون حقيقة أن هذا الولاء معناه الحب والنصرة، وأيما تأويل آخر تسمعونه فهو باطل، والتأويل الحق أنه الحب والنصرة، فتحب أخاك المؤمن وإن كان أرمد أعمش أسود مريض وسخ، وتقف إلى جنبه وتنصره متى استنصرك وطلب نصرتك، وبدون هذا فلا ولاية.ثم قال: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71]، وعندما تدخل بلاد المسلمين لا تجد من يقول: يا أبناءنا! هذا باطل، يا عم! هذا لا يجوز. يا سيد! أذن المؤذن أغلق الباب واذهب إلى المسجد، أبداً، لا يوجد من يأمر بالمعروف، ولا من ينهى عن منكر يشاهده في السوق أو في البلاد ولا .. ولا أبداً، فلا أمر ولا نهي.أهؤلاء مؤمنون؟! وكيف هي نسبة الإيمان؟وعلى الأقل يطبقون هذا الأمر في بيوتهم، فيا عبد الله! مر أباك أو أمك أن يطهرا بيتهما من هذه الأوساخ وهذه الأراذل من صور الخلاعة والدعارة وأصوات المجرمين، فإن الملائكة قد رحلت منه، فيجيبك أنه لا يستطيع، أهذا هو الإيمان؟!وللأسف أن أحدهم قد يجد ابنه معلقاً الصليب في عنقه فيسكت ويقول: دعه يلعب.وهذه الآية لا ندري هل نحن من أهلها أو لا: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]؟إن شاء الله رأيتم المؤمنين في هذه الشاشة، ومن وجد نفسه غائباً فليعد، فإن باب الله مفتوح، حتى يتأكد من صحة وجوده في هذه الشاشة البيضاء القرآنية.والأمر بالمعروف والله من أيسر ما يكون، فصديقك أو زميلك الذي يحبك وتحبه أما تقول له: يا فلان! صلّ الصبح ولا تتركها.أتعجز عن هذه النصيحة؟! فكيف تحبه إذاً؟كذلك إذا أخذ يأكل وما قال: بسم الله، أما تقول له: سم الله يا أخي؟!وإذا أكل بشماله، قل له: اتق الله، حرام الأكل بالشمال فأنت مؤمن؟وهكذا في دائرة أسرتك وإخوانك تؤدي هذا الواجب، وتصبح آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر.

تقوى الله تكون في حدود الاستطاعة
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، هنا احتار المسلمون وقالوا: كيف نستطيع أن نتقي الله حق تقاته، وما الذي نتقي به الله، ولو نملك السماوات والأرض لا نستطيع، فالسماوات والأرض يقبضها بيده فكيف نتقيه؟والجواب أيها الأحباب: هو أننا نتقيه في حدود طاقتنا، فما طلب منا أكثر من ذلك، إذ قال من سورة التغابن: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، أي: اتقوا الله في حدود طاقتكم، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( تقوى الله حق تقاته أن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يطاع فلا يعصى )، فنفعل هذا في حدود طاقتنا، فنذكر الله ولا ننساه أبداً، فنذكره عند الأكل .. عند الشرب .. عند القيام .. عند القعود .. عند الملاقاة .. عند الصلاة، عند ذبح الشاة .. عند الركوب .. عند النوم .. عند اليقظة .. فنذكر الله طول الليل والنهار، ولا ننساه أبداً. وما يشق علينا ذكره.كذلك نشكره على آلائه وإنعامه علينا ولا نكفرها أبداً. فإذا قيل لك: كيف حالك؟ تقول: الحمد لله، نحن بخير، قد أنعم علينا بنعمة السمع .. بنعمة البصر .. بنعمة الأمن .. بنعمة الطهر، ونحن في خير .. في عافية.. وهكذا لا نكفر نعمة من نعمه أبداً، ونحمده على كل نعمة.ولا نعصيه إلا إذا أكرهنا أو نسينا أو جهلنا، وتلك هي طاقتنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] أولاً.

الموت على الإسلام
ثم قال تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وهل نملك هذا يا رب؟ إي نعم، أنت قادر على أن لا تكفر ولا تفسق ولا تفجر، فعندك قدرة فجاهد نفسك، حتى لا تموت إلا على الإسلام.نعم قد تضطر في بعض الظروف أو بعض الأماكن إلى أن تهاجر وتخرج من ذلك البلد، وترحل من تلك العمارة فتسكن في أخرى. وإذا خشيت أن يعبث بعقلك وقلبك ويفسد إيمانك وتموت على سوء خاتمة، فقد فرض الله الهجرة فرضاً، وأيما مؤمن وجد نفسه في مكان لا يستطيع أن يعبد الله فيه وجب عليه أن يهاجر، فينزل الجبال أو التلال أو الأودية، ولا يبقى في بلاد لا يستطيع أن يعبد الله فيه خشية أن يموت على غير الإسلام، أو يموت وما أسلم قلبه ولا جوارحه لله: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

الدعوة إلى الاعتصام بحبل الله والتحذير من التفرق
ثالثاً: ومن نصائح مولانا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103]، وحبل الله هنا هو القرآن الكريم .. السنة .. الإسلام .. الدين الإسلامي، فهذه كلها جاءتنا منه وتدلت علينا، فمن استعصم بها وشدد لا يخشى السقوط أبداً، ولا يهوي في عذاب النار. ثم قال: وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وما تقولون في التفرقة حرام أو حلال؟وقد عرف العدو خطر الفرقة والتفرق فقال: والله لأفرقنهم حتى يصبحوا أهلاً لأن نسوقهم كالأغنام والأبقار، وفعلاً فرقونا، وبدءوا بالقريب ثم البعيد، وفي العصر الحاضر هناك نيف وأربعون دولة.آلله أمركم بهذا؟إذاً: لِم تعصون الله عز وجل، وتفرقون دولتكم وتمزقونها، فالدولة ذات ألف مليون التي ترهب الإنس والجن إذا كبروا كبر الكون معهم، لكنهم تمزقوا إلى نيف وأربعين دولة حتى أصبحوا أذلة مهانين مدانين لا يستطيعون أن يقولوا كلمة في الدنيا.فتفرقنا ليس بالقوة، وإنما ملئونا بالوطنيات والجنسيات.أتدري ما وطنك يا عبد الله؟ الأرض كلها لك يا عبد الله.وكلمة (وطن) أي وطن هذا؟! حتى قالوا: قال الرسول -يكذبون عليه-: ( حب الوطن من الإيمان! ) وهل حب الطين والتراب من الإيمان! أعوذ بالله.فالمسلمون دارهم واحدة، نعم يوجدون في أقاليم متعددة، ولكن أمرهم واحد، فإذا قال إمام المسلمين: الله أكبر رددوها، وإذا قال: الجهاد في سيبل الله، رفعوا أصواتهم: حي على الجهاد، لكننا تفرقنا حتى نذل ونهون كما هو الواقع.وفرقونا بالمذاهب؛ الزيدية .. الأباضية .. الرافضية .. الـ .. الـ .. آلله أمر بهذا؟ ألسنا أتباع النبي صلى الله عليه وسلم؟ أما نحن الذين أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، فنور الله بأيديهم كتابه وهدي نبيه، ومن أراد أن يفرقنا أو يمزق شملنا فنلعنه ونبعده من ساحتنا، وتبقى أمتنا أمة واحدة.وفرقونا طرقاً فهذا: قادري .. رحماني .. عيساوي .. عيدروسي .. إدريسي! لا إله إلا الله.وفي القرية الواحدة تجد: غناء وقصائد وأناشيد وشاي وأكلات، وهؤلاء أصحاب سيدي أحمد . وفي طرف القرية الأخرى كذلك أناشيد وقصائد وترنمات وأكل وشرب، وهؤلاء قادريون، وهؤلاء كذا، فلا إله إلا الله، وهذا في القرية الواحدة.ومن أراد أن تتجلى له الحقيقة، فقد أخبرنا العالمون: أن مصر عاصمة العالم العربي بها سبعون طريقة.إذاً فمن مزقنا، من فرقنا؟ آلله أذن في هذا؟ أما قال: وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] فعصينا وأصابنا ذنبنا ويكفي في ذلك فقرنا وذلنا وخلافنا وبلايانا ورزايانا والعياذ بالله؛ لأننا ما اعتصمنا بحبل الله، ولا تآخينا وتواددنا وتحاببنا، وأصبح منهجنا واحد، فهذا زيدي، وهذا أباضي، وهذا كذا، وهذا كذا، والأصل هذا مؤمن مسلم، وقال الله وقال رسوله.وقد مضت فترة تكون أنت جالس في درس، فيأتي آخر يجلس ويأتيه قريبه وصديقه، ويقول له: قم .. قم، لا تسمع، هذا وهابي يفسد عليك قلبك، فيأخذونه من حلقتنا، وأي مرض أعظم من هذا؟والمدرس يقول: قال الله وقال رسوله، وهو يقول: ما قال شيخنا فلان ولا فلان وفلان، قم لا تسمع.وكان عندنا طالب يمني جاء يشتغل حداداً، يصلح الدوافير، وحضر عندنا الدرس، قال: أوصاني أبي وأمي: يا فلان! لا تجلس في حلق الدروس في المسجد النبوي؛ لأنهم وهابيون يفسدون عليك دينك. ويحلف لي بالله يقول: وكنت أمر بالحلقة داخل المسجد ولا أراك إلا شيطاناً على الكرسي!! لكن أراد الله إنقاذ هذا المؤمن، فجاء به إخوانه من اليمنيين وقالوا: أنت ما لك؟ هذا ليس وهابياً، هذا شيخ جزائري، وكيف تقول: وهابي؟ أنت واهم فقط، واسأل الناس. فهدأت نفسه وسكن روعه، وأخذ يجلس ويجلس، والحمد لله حتى عرف الطريق ودرس وتخرج من الجامعة، وهو الآن داعية إلى الله. وهذا مثال فقط.إذاً فرقنا بأيدي وأصابع أعدائنا.وكلمة (وهابية) الأصل فيها اليهود والنصارى، حتى لا ترى أمة الإسلام هذه الدولة وقد أنشأها الله تحمل راية: لا إله إلا الله محمداً رسول الله، فصرفوا قلوب العرب والمسلمين عنها حتى لا يقتدوا بها أو يأتسوا.فلما استقللنا في الشرق والغرب قالوا: لا ترفع راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى لا ننتسب إلى القرآن والسنة، لأن كلمة: لا إله إلا الله معناها: لا يعبد إلا الله، فلا عبد القادر ولا عيدروس ، وكلمة محمد رسول الله معناها: لا يتابع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قال الله وقال رسوله.إذاً: وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فتفرقنا يا ربنا بدون قدرة منا ولا طاقة فسامحنا، فهيا اجتمعوا قد سامحناكم، وبدأنا يا ربنا ولك الحمد.ويدل على هذا أنه قبل خمسين سنة أو خمسة وأربعين سنة، لو يؤلف حنبلي كتاباً في الفقه الحنبلي وهو حق، أو مالكي أو شافعي أو حنفي، فكل من يرى الكتاب يقول: هذا ليس في مذهبنا، فلا يقرأ أبداً، مع أن المذاهب الأربعة والله إنهم على الحق، وعلى نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما وقع خلاف في الفهم فقط للكتاب والسنة، وما مزق هذا الفهم أمة الإسلام أبداً، ومع هذا من يقرأ الكتاب يقول: هذا الكتاب شافعي، وأنا مالكي.والآن ومنذ أربعة أو خمسة وأربعين سنة أصبح المسلمون الواعون صغاراً وكباراً المهم عندهم قال الله وقال رسوله، سواء جاء من طريق أحمد أو أبي حنيفة أو من غيرهما.ويدل لهذا كتاب منهاج المسلم الذي ندرسه وهو الآن يقرأ في العالم الإسلامي، حتى عند النساء؛ لأنه أولاً في المقدمة قلت لهم: والله ما خرجنا عن المذاهب الأربعة قيد شعرة.ثانياً: كل مسائله قال الله وقال رسوله، والآن يقرأ بسهولة، فجمع الله قلوب المؤمنين عليه، وهناك انفراج؛ لأن السياسة هبطت، ولو كان الحكام كما كانوا والله ليؤدبونك ويسجنونك: كيف تقرأ هذا الكتاب على غير مذهبنا! ومرة في المغرب أصدر الحاكم قراراً أن من يقبض يديه في الصلاة يقبضون عليه.وقد ألف أبو بكر خرقير رسالة يبين فيها التوحيد من الشرك في التوسل فقط في الحق والباطل، فسجنه الملك وسجن معه ولده في مكة، ومات ولده في السجن، وبقي الشيخ في السجن حتى دخل عبد العزيز وحكم وأطلق سراحه، وكل ذلك من أجل رسالة في التوحيد!فالذي صرف العالم الإسلامي أن الحكام هبطوا، فقد كانوا يسمعون كلام علمائهم: هذا المذهب خامسي فلا نقبل، وانفرجت والحمد لله، والله نسأل أن تستمر وتدوم هذه.

فضل الله على المؤمنين بتأليفه بينهم
قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [آل عمران:103] الحمد لله، اذكروا نعمة الله عليكم، وذكر النعمة يتطلب شكرها، فقولوا: الحمد لله.ثم قال: إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً لبعضكم بعضاً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103]، الحمد لله، الحمد لله.وهذه الحادثة قد تكلمنا عليها في قضية الأوس والخزرج، وهذه الآيات فيهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ونعود إليها في يوم ما.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-19, 12:57 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (32)
الحلقة (173)
تفسير سورة آل عمران (37)
لما أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالإسلام، وأنزل عليه القرآن، كان ذلك مؤذناً بسقوط الممالك القائمة على الوثنية والديانات المحرفة، فسقطت دولة فارس ودولة الروم وشتت الله شمل يهود، ومنذ ذلك الحين وهذا الثالوث الأسود لا يدخر وسعاً في حرب الإسلام، ومحاولة انتزاع سبب قوة المسلمين من صدورهم، ألا وهو كتاب الله العظيم القرآن الكريم.

تسمية القرآن بالروح
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات من سورة آل عمران، وتلاوة الآيات المباركات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:100-103].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهان السامعين وخاصة أن من بينهم زواراً وحجاجاً ما كانوا قد سمعوا ولا علموا ما درسناه في الأيام السابقة.أقول: القرآن الكريم سماه الله منزله بالروح في ثلاث آيات، فالله تعالى خالقنا ورازقنا وموجد العوالم كلها سمى القرآن الكريم الروح.وهل يوجد حيوان بدون روح؟ وهل توجد حياة في كائن بدون روح؟الجواب: والله ما كان، ولنستمع إلى الآية التي فيها تسمية القرآن بالروح؛ فقد جاء من سورة الشورى قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، أي: وكذلك أوحينا إليك يا رسولنا روحاً من أمرنا، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فسماه روحاً ونوراً. وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، فالقرآن الكريم روح ونور.أسألكم بالله: هل توجد حياة بدون روح؟الجواب: لا.وأسألكم بالله: هل الماشي في الظلمات يهتدي إلى مراده بدون نور؟الجواب: لا، ولنحفظ إن القرآن روح ولا حياة بدونه، ونور ولا هداية بدونه.وهل هناك برهنة أو تدليل على ما تقول يا شيخ؟الجواب: نعم، فالعرب في هذه الديار كانوا وثنيين مشركين ممزقين مفرقين، وفارس من الشرق تستذلهم وتستعمرهم، والروم والرومان من الشمال يذلونهم ويستعمرونهم، والأحباش من الجنوب يستعمرونهم ويستذلونهم. فما إن نزل فيهم هذا القرآن، وطلعت شموسه ولاحت أنواره وفي خلال خمسة وعشرين سنة دان لهم أكثر المعمورة، وأصبحوا هداة وقادة، ولم تعرف الدنيا أمة أكمل ولا أطهر ولا أصفى ولا أعدل ولا أرحم ولا أقوى من تلك الأمة في ثلاثة قرون؛ بسبب ماذا؟ هل بالمال .. بالفلسفة .. بالتقنية .. بالعلوم الآلية؟ الجواب: والله ما كان ذلك، وإنما كان بالقرآن وبيانه على لسان المنزل عليه.

أمثلة على تأثير القرآن في أصحابه من الجيل الأول
قد يلطخ ويلوث الملاحدة والأعداء تاريخ الأمة البشرية وتاريخ الأمة الإسلامية، ولكن لن يستطيعوا أن يوجدوا أمة طابت وطهرت واستقامت وقادت البشرية إلى الكمال كما كانت أمة الإسلام في ثلاثة قرون: قرن الصحابة، وقرن أولادهم، وقرن أحفادهم بالقرآن فقط.أعطيكم أمثلة وبرهنة:فهذا عمر رضي الله عنه يستدعيه أحد ولاته في دولة الخلافة العمرية لتناول الطعام، فيقدم له سفرة ملونة، وإن كانت لا تبلغ طعامكم اليوم، فينظر عمر إلى ألوان الطعام فينتفض كالأسد ويقوم، فيقول له واليه: ما لك يا خليفة رسول الله لا تأكل؟ فقال رضي الله عنه -واسمعوا تربية القرآن-: إني خشيت وخفت أن أكون ممن قال الله تعالى فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].فهل رأيتم مثل هذا الرجل؟ وهل سمعتم في دنياكم اليوم بمثل هذا الموقف؟!وهذا سلمان الفارسي الأعجمي من ديار فارس، وقد تنقل واستعبد مرات، حتى وصل إلى مدينة النور، فأسلم، وهو مجوسي وأبوه كان ناظر النار التي كانوا يعبدونها والقيم عليها، وقد قال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( سلمان منا آل البيت )، فآل محمد صلى الله عليه وسلم هو كل مؤمن تقي، والفاسق الفاجر الكافر هو عدو وليس من أولياء محمد، وإن كان ابن أخيه أو ابن عمه.فـسلمان لما ولاه عمر على إحدى مدن العراق والياً عاماً، جاءت قافلة تجارية من الشام، وكانت القوافل تحمل بضائعها على الإبل والبغال والحمير في أوروبا وفي بلاد العرب. فدخلت القافلة، ومر سلمان الفارسي والعصا في يده يتجول في البلاد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فما إن شاهدته القافلة التجارية الشامية حتى قالوا: هذا حمال، احمل معنا بضائعنا إلى الفندق، فظنوه صعلوكاً، وأخذ حقيبة من وراء وحقيبة من أمام وأخرى على رأسه، ومشى وراءهم إلى الفندق، فاعترضهم من أهل البلاد رجل يقول: ويحكم! أتستخدمون أمير المسلمين؟! هذا والي المدينة، فجروا وراءه يبكون: سامحنا لوجه الله، نحن ما عرفناك فهات الحقائب! قال: لا، أبداً، سأصل بها إلى الفندق، ما أنا ومن أنا؟ ألست عبد الله أحمل لإخواني أمتعتهم ماداموا في حاجة إلي.وهل تحلم الدنيا بمثل هذا الموقف عندكم يا سكان الأرض قاطبة؟ونحن بمجرد ما يترقى أحدنا بنجمة في كتفه يرتفع ويتكبر، وبمجرد ما يعلو راتبه أو تربح تجارته ينتفخ وينتفش.لكن ما السبب؟ وما العلة؟ وما السر؟الجواب: أولئك حيوا على روح القرآن واستناروا بنوره، فكملوا واهتدوا، ونحن أين القرآن منا؟ وكل محاكم المسلمين باستثناء هذه البقعة تدخلها لا تجد قرآناً فيه ولا تفسيراً له فيه.
دور الثالوث الأسود في إفساد الأمة الإسلامية
عدو المسلمين مكون من ثلاث طوام: المجوس واليهود والنصارى.لكن لِم تكون هذا العدو منهم؟ إليكم البيان: ‏

الدور المجوسي
أما المجوس عبدة النار فما إن سقط عرش كسرى على يد عمر ، ثم أخذ تاج كسرى ووضعه على رأس سراقة بن جعشم رضي الله تعالى عنه وأرضاه.وسراقة هذا لما صدر حكم قريش بالإعدام على رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا في ناديهم بمكة واتخذوا قراراً بإعدام محمد! والذي أملى هذا القرار هو عدو الله إبليس عليه لعنة الله، إذ دخل عليهم في دار الندوة وهم مجتمعون، فهذا يقول: نسجنه إلى الأبد، وهذا يقول: ننفيه من البلاد بالمرة. فجاء إبليس وقال: تأخذون برأيي، وجاء في صورة رجال نجد وهم معروفون بالحكمة والسياسة. فقالوا: نعم يا شيخ. قال: إن سجناه لا تستطيعون أن تضمنوه في السجن، سيأتي رجال ويطلقون سراحه، وخبتم، وأما نفيه فإنه سيكون عصابات في الخارج ويغزوكم، وما هذا برأي، والرأي أن توزعوا دمه على قبائل قريش، فتختارون أربعين شاباً، وكل شاب يمثل قبيلة أو فخذاً أو بطناً ويضربونه ضربة رجل واحد. فيموت ويتوزع دمه بين القبائل، فماذا يصنع بنو هاشم؟ هل يحاربون العرب كلهم، فيقبلون الدية ويسكتون. قالوا: هذا الرأي وقد أصبت. فصدر الحكم بإعدامه.ومكث الرسول صلى الله عليه وسلم في غار ثور مع الصديق ثلاث ليالٍ هاربين، وقريش تطلبهم تقذف الحجارة، وأعماهم الله عز وجل وما رأتهم، وكأني بـأبي بكر يقول: يا رسول الله! لو رفع أحدهم قدمه لرآنا، وحزن أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما بالك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما )، وجاء هذا بعدما نزلت سورة التوبة بالمدينة بعد كذا سنة: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وخرجا والخريت الجغرافي أمامهما يدلهم على الطريق الذي ليس فيه مخاوف.وأعلنت قريش عن جائزة قيمتها مائة بعير لمن يأتيها برأس محمد، وكان سراقة من رجالات العرب وأبطالها فقال: أنا أفوز بهذه الجائزة، وتلون وغير طريقه ولباسه حتى لا يعرف ويتبع، وركب فرسه وسيفه على كاهله، فمضى يتلمس أخبار رسول الله وصاحبيه، فلما انتهى ووصل إليهم إذا بالفرس يعلق في الأرض بقدميه ويسقط -وهذه من معجزات النبوة المحمدية- ورفع الفرس رجليه وحافره ومشى، ثم وقع مرة أخرى، فعرف سراقة أن هذا نبي الله. فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ( كيف بك يا سراقة إذا توجت بتاج كسرى )، فالرسول هارب شارد مطارد ويقول لهذا الجاني الطالب له: ( فكيف بك إذا وضع على رأسك تاج كسرى ).وتم ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد قبض رسول الله وقبض الصديق وتولى عمر وغزا وفتح، وكان سراقة مع جيشه في ديار فارس، فلما قُتل كسرى أخذ عمر تاجه ووضعه على رأس سراقة ، وهذه وحدها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.إذاً: ما إن سقط عرش كسرى حتى تكون حزب وطني يعمل في الظلام للانتقام من الإسلام الذي أسقط عرش كسرى.ودخلت البلاد في الأنوار الإلهية، وأصبحت فارس بقعة من النور، ولكن هذا الحزب الذي يعمل في الظلام لإعادة عرش كسرى يعمل، وأول طلقة أطلقها هذا الحزب في جسم الإسلام هو قتل عمر في محرابه. والذي قتل عمر بن الخطاب هو أبو لؤلؤة الفارسي المجوسي، وقد كان عبداً من عبيد الرجال، ولكن يوحى إليه بطريق خفي من الحزب النظامي، وهذه أول رصاصة في جسم الإسلام.

الدور اليهودي
أما اليهود فكانوا يحلمون من سنين .. من قرون، ويتطلعون إلى آخر النبوات، وفي التوراة والإنجيل بيان ذلك، وكانوا ينتظرون خروج رسول من جبال فاران -جبال مكة-، فإذا خرج آمنوا به وانطووا تحت لوائه ورايته، وقادهم لإعادة مجد بني إسرائيل، وعاشوا في المدينة يتطلعون يوماً بعد يوم، وإلا ما جاء بهم من القدس في الشام إلى مدينة سبخة وحرة وحفنة التمر؟ جاءوا لتطلعهم إلى النبوة الخاتمة للنبوات.وما إن لاحت أنوار النبوة في مكة وأخذوا يتجمعون ويتطلعون، وعندما جاء وفد قريش يسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أهل علم، والعرب جهال، قالوا لهم: سلوه عن ثلاثة أسئلة إن أجاب عنها كلها فما هو بنبي، وإن لم يجب عنها فليس بنبي، وإن أجاب عن بعضها وسكت عن البعض فهو نبي.وكان الوفد برئاسة أبي سفيان فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسئلة عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، فلما سألوه قال صلى الله عليه وسلم: ( غداً أجبيكم عن أسئلتكم )، انتظاراً للوحي، فعاتبه ربه من أجل أنه ما قال: إن شاء الله، فانقطع الوحي خمسة عشر يوماً، وزغردت نساء قريش، وقالوا: انفضح الرجل، وتركه ربه وقلاه، فهو ليس بنبي وقد عجز. ومسح الله دموع حبيبه ببشرى عظيمة: بسم الله الرحمن الرحيم: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]، فالحالف هو الله. والمحلوف عليه: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، أي: ما تركك ولا أبغضك؛ لأن أم جميل كانت تغني بالشوارع وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى:4-6]، وقد مات أبوه في السنة التي ولد فيها، وماتت أمه بعد ذلك وعمره أربع سنين وَوَجَدَكَ ضَالًّا لا تعرف شيئاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا [الضحى:7-8]، فترك له والده جارية وناقة أو خمسة من النوق فأغناه، فكانت هذه السورة بشرى عظيمة لرسول صلى الله عليه وسلم، فانشرح صدره وطابت نفسه.ونزلت سورة الكهف تحمل قصتين: قصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين، وفيها قول الله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] أي: حتى تقول: إن شاء الله.وهنا نذكر قصة سليمان بن داود والتي قصها علينا رسول الله في هذا الباب: ( قال سليمان: لأطأن الليلة أو لأطوفن بمائة جارية، فتلد كل جارية ولداً يقاتل في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فلم تلد واحدة من المائة جارية، إلا واحدة ولدت ولداً مشلولاً نصف ولد )، ووضعوه على كرسيه ليشاهده، لأنه ما تأدب مع الله، وما قال: إن شاء الله.ونحن لما هبطنا بلغنا أن بعض الدوائر الحكومية في العالم الإسلامي إذا قال أحدهم: إن شاء الله، يقول الآخر: لا تقل: إن شاء الله، فلا يقبلون منه أن يقول هذا. فلا يحل لمؤمن أن يذكر الله ويذكره، ويقول: أفعل أو لا أفعل.ونسي هؤلاء أن هذا الإنسان لا يتحرك إلا بالله، ولا يسكن إلا بإرادة الله، فلهذا إذا لم يقل: إن شاء الله وحنث تلطخت روحه بالنتن والعفونة، ولا تغسل لا بماء ولا صابون ولا بعملية جراحية، ولا بصيام ولا .. ولا، لا تغسل إلا بالمادة التي وضعها الله لذلك، وهي كسوة عشرة مساكين عمامة وثوباً، أو إطعامهم، أو عتق رقبة، وفي الأخير صيام ثلاثة أيام إن لم يستطع.وهذه هي المواد التي تزيل ذلك الأثر الناتج عن كونه يقول: أفعل، ولم يقل: إن شاء الله، فنسب القدرة إليه.والصواب يا عبد الله! أنك إذا قلت: أسافر غداً، فقل: إن شاء الله، وإذا قلت: سنلتقي غداً عند فلان فقل: إن شاء الله، وإذا قلت: أقوم وأتوضأ، فقل: إن شاء الله، والذي مضى من الأفعال لا تقل فيه: إن شاء الله، فإن الله شاءه، فإن سئلت: هل صليتم المغرب؟ فلا تقل: إن شاء الله، فقد شاء الله وصلينا، لكن قل: سنصلي العشاء إن شاء الله، ولو لم يشأ والله ما صلينا، فيخسف بنا الأرض، ففي الكلام الماضي لا معنى لكلمة: (إن شاء الله)، فقد شاء ووقع، لكن للمستقبل احفظ هذه الكلمة: (إن شاء الله)، ومن قال لك: لا تقل: إن شاء الله، فقل: إن شاء الله رغم أنفك.إذاً: اليهود ما إن طلعت الشمس وانتشر نورها، وهزم المشركون في بدر في السنة الثانية حتى كشروا عن أنيابهم، وعرفوا أن الريح ليست لهم، وأن هذه النبوة لا تخدمهم، فإن هم دخلوا في الإسلام ذابوا، وانتهى وجودهم كيهود وبني إسرائيل، وأصبحوا من عامة البشر، فقالوا: إذاً لن نسلم ولن ندخل في هذا الدين.وبحثوا عمن يتعاون معهم على ضرب الإسلام ومحوه فوجدوا المجوس والحزب الوطني اللذين يعملان في الخفاء فتعانقوا، وإلى الآن هم متعاونون، وعملوا ما عملوا في المدينة ثم أجلوا منها.

الدور النصراني
لما انتشر نور الإسلام في شمال إفريقيا، ودخل من الغرب إلى أوروبا ومن الشرق، صاحت النصارى وقالوا: يا ويلنا! هذا النور سيغمرنا. فبحثوا مع من يتعاونون، فوجدوا اليهود والمجوس فتعانقوا، وكونوا الثالوث الأسود، وإلى الآن متعاونون.

شاه إيران يحتفل بذكرى قيام الدولة الساسانية
لطيفة سياسية: كان شاه إيران يحكم البلاد وقد قرأت بلساني ونظرت بعيني مجلة في الدار البيضاء فيها: أن الشاه يقيم ذكرى للدولة الساسانية التي مضى عليها ألفان وخمسمائة عام.وفكروا يا عقلاء: حاكم مسلم يحكم مملكة إسلامية يحتفل بذكرى دولة مجوسية مضى عليها ألفان وخمسمائة عام! فماذا تقولون؟قولوا: لا نعرف.لو أن العرب احتفلوا بموت أبي جهل أو عقبة بن أبي معيط أو بقتلى بدر من المشركين هل يقال فيهم: مسلمون؟! مستحيل!فهؤلاء يحيون ذكرى الجاهلية. وأولئك يحيون ذكرى المجوسية فماذا تقولون فيهم؟ وهل تشكون أن هذا كفر؟!ووراء ذلك لابد من إعادة مجد الساسانيين وعرش كسرى.

دور الثالوث الأسود في انتزاع القرآن الكريم من صدور المسلمين وإخراجه من حياتهم
الآن أصبح الثالوث متكوناً من: المجوس .. اليهود .. النصارى، وإلى اليوم التعاون مستمر.وأخذوا يعملون متعاونين في الظلام، فخاضوا حروباً مع الإسلام وأهله، واندحروا وانهزموا في مواطن كثيرة، وكادوا ييأسوا، فاجتمعوا وبحثوا عن سر هذه القوة التي لا تقهر، وهذا السلطان الذي لا يسقط، فعثروا على الحقيقة، وقالوا: سر هذا هو القرآن الكريم والسنة، فإذا استطعتم أن تذهبوا من بين أيديهم القرآن وتلهوهم عن سنة الرسول وبيان القرآن أمكنكم أن تضربوهم ثم تسودوهم وتتحكموا فيهم، فقالوا: هيا نعمل، وحاولوا أن يسقطوا حرفين فقط كلمة (قل)، وانعقدت محافل بحثوا فيها كيف يسقطون من القرآن كلمة (قل)، فوالله ما استطاعوا. فالقرآن يحفظه النساء والرجال والحضر والبدو، ولم يستطيعوا أبداً أن يذهبوا بذلك النور.إذاً: ماذا صنعوا؟قالوا: اصرفوهم عن دراسته وفهمه.لكن كيف صنعوا؟قالوا: اجعلوا القرآن يقرأ على الموتى، ومن ذاك التاريخ إلى اليوم يقرأ القرآن على الموتى فقط، فيحفظه الأبناء، ويحفظه الرجال لا لشيء، إلا ليقرأ على الموتى، حتى علمنا أن في بلاد سوريا مكتباً خاصاً بهذه القضية، فمن مات له أب أو أم يتصل بالهاتف على المكتب ويقول: نحتاج عشرة من الطلبة يقرءون القرآن! أو خمسة على قدر الحال! فيقال له: من فئة مائة ليرة أو خمسين ليرة؟ فإذا كان الميت غنياً من فئة مائة ليرة، وإذا فقيراً خمسين ليرة.وأصبح القرآن من إندونيسيا إلى موريتانيا لا يقرأ إلا على الموتى! فأكثر من ألف سنة تقريباً لا يقرأ إلا على الموتى.أما لِم لا يفسر ويبين مراد الله منه لعباده ليعملوا، فقالوا: إن هناك قاعدة ومن أراد أن يقف عليها فعليه بحاشية الحطاب على مختصر خليل، وفيها قالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ، فإذا فسرت وأصبت فأنت مخطئ، وخطؤه كفر، وإذا فسرت وأصبت فأنت آثم. فكمموا أفواه المؤمنين وألجموهم، وما بقي من يقول: قال الله أبداً، فالقرآن يقرأ على الموتى.أدلل لكم بما أنتم عليه، من منكم أيها الزوار يقف ويقول: نحن إذا كنا جالسين تحت ظل شجرة أو جدار في الصيف، أو كنا في مجلس نقول لأحدنا: أسمعنا شيئاً من كلام الله، أو تجلس بجوار سارية المسجد ويمر بك من يحفظ القرآن فتقول: يا شيخ! يا سيدي! من فضلك اقرأ عليّ شيئاً من القرآن، وما حصل هذا أبداً.إذاً: فارقنا القرآن، وفارقتنا الروح فمتنا، ومن قال: كيف تقول: متنا؟أقول: أما سادتكم بريطانيا وحكمتكم فرنسا وإيطاليا وهولندا، فمائة مليون مسلم كانوا تحت أقدام ثلاثة عشرة مليون، أما ذللنا وهِنا وهبطنا؟ وسبب ذلك أننا متنا، قالروح علت وارتفعت، وعشنا بدون روح، وهذا شأن من لا روح له.والرسول صلى الله عليه وسلم كان جالساً وجلس إليه عبد الله بن مسعود فيقول: ( يا ابن أم عبد ! اقرأ عليّ شيئاً من القرآن، فيعجب عبد الله ويقول: أعليك أنزل وعليك أقرأ؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري، فيقرأ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] ثلاثين آية، وإذا برسول الله يبكي والدموع تسيل من عينيه، وهو يقول: حسبك حسبك، فلما انتهى إلى قوله الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] بكى رسول الله ).إذاً: عرفتم الثالوث ماذا فعل بنا؟لا تقولوا: استعمرونا وأذلونا هذا كله ماض، لقد أماتونا وأخذوا الروح وسلبوها، وكتب الفقه التي تدرسونها في الشتاء والربيع ما فيها قال رسول الله أبداً، بل قال سيدي فلان .. قال فلان .. قال فلان.فأبعدونا عن الروح والنور، فهلكنا وضللنا.قلنا: هيا نعود.قالوا: لا نستطيع يا شيخ، ولا نقدر.قلنا: نحن لم نقل لكم: اخرجوا من أموالكم ودياركم، لا، فقط: هيا بنا نؤمن إيماناً حقاً وصدقاً، فيعود كل شيء.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران


نداء الله لأهل الإيمان
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100] إذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فقل: لبيك اللهم لبيك، وقد كان عبد الله بن مسعود يقول: إذا سمعت القارئ يقرأ: (يا أيها الذين آمنوا) فأعرها سمعك، وأعطها أذنك فإنك منادى، ألست مؤمناً؟فقوله: (يا أيها الذين آمنوا) يعني: أن مولاك يناديك، فاسمع.وقد عرفنا نحن أهل الدرس بالاستقراء والتتبع، أن الله ما نادانا إلا لواحدة من أربع، إما ليأمرنا لما فيه كمالنا وسعادتنا، أو لينهانا عما فيه شقاؤنا وخسراننا، أو ليبشرنا ليزداد إيماننا وصالح أعمالنا، أو ليحذرنا من المفاسد لننجو ونسلم من المهالك والمعاطب، أو ليعلمنا ما نحن في حاجة إليه.وقد جمعت نداءاته تعالى تسعون نداءً، وهي عند المؤمنين، فما اجتمعوا عليها ولا قرءوها ولا درسوها، وما زلنا هابطين.ومن يقول: نحن في القرية الفلانية نجتمع كل ليلة على نداء نحفظه ونفهم مراد الله منه، ونعزم على العمل وعلى الترك؟ ولا أحد. عشرات الآلاف وزعت، لِم ما دقت ساعة الحياة وما زلنا هابطين.

التحذير من طاعة الكافرين
قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسمعوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، هذا خبر الله، وهو صحيح إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا أي: فريقاً خاصاً من المستشارين والساسة والمدرسين والمعلمين؛ تطيعوهم: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100].والهبوط الذي أصاب أمتنا سببه أن جل الوزراء والمسئولين والحاكمين تخرجوا من مدارس اليهود والنصارى، وكل الشهادات السياسية من عندهم، فجلسوا بين يدي أساتذتهم يعلمونهم فأطاعوهم.ثم قال: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ما الذي يحصل؟ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، عرفتم العلة أو لا؟ والعالم الإسلامي قد مد عنقه للخبراء والمستشارين و.. و.. من العالم الشرقي والغربي حتى من روسيا.إذاً: كيف تريدونهم أن يقيموا دولة الإسلام، وقد ختم على قلوبهم، وصرفت نفوسهم؟!والله يخبر بالواقع: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، هذه الأولى.

التمسك بالكتاب والسنة حصانة للمسلمين
والثانية: يقول الله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، فالحصانة والمناعة هي أن نعيش على روح الله ونوره؛ الكتاب والسنة.واسمع الله يقول: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ فمن أين يأتي الكفر والحال أنكم: تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101].وهنا ذكرنا مئات المرات، وقلنا للمسئولين من العالم الإسلامي: إذا اضطروا إلى أن يبعثوا أولادهم ليتعلموا في الشرق والغرب في ديار اليهود والنصارى؛ فعليهم أن يبعثوا معهم علماء، وأن يعدوا لهم مساكن خاصة بهم ينزلون بها، فيصلون الصلاة في الجماعة ويتلون كتاب الله، ويتلقون الكتاب والحكمة من ذلك العالم المنتدب لهذه المهمة، فيطلبون العلم المادي ويعودون سالمين آمنين، فلا يصل إلى قلوبهم زيغ ولا كفر ولا.. ولا؛ لأن الكتاب يتلى عليهم كل ليلة، وسنة الرسول بين أيديهم.وقوله: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، أي: مستحيل أن يأتي الكفر لقلب أشبع بمعرفة الله وحب الله، وهو يسمع كل يوم كلام الله وكلام رسول الله، لكن مع الأسف بعثوا أبناءهم فعادوا شبه مسلمين فقط، يسخرون من الإسلام.وهنا: عرفتم أن المناعة والحصانة توجد في الكتاب والسنة، وهذا هو الحل، وهذا هو الطريق، والله إن أردنا أن نعود إلى الطريق السوي المنجي المسعد؛ فعلينا أن نعود إلى الروح فنحيا وإلى النور فنهتدي بالكتاب والسنة.كيف الطريق؟ كيف الوصول إلى ذلك؟تقرر مئات المرات: أهل كل قرية من قرى العالم الإسلامي، عرباً أو عجماً عليهم أن يوجدوا عالماً بالكتاب والسنة، وأن يلتزموا في صدق؛ فإذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف دولاب العمل، فلا مصنع يشتغل، ولا متجر، ولا مزرعة، ولا .. ولا، ويأتي أهل القرية بنسائهم وأطفالهم يصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون كما جلسنا، وآية من كتاب الله يتغنون بها حتى يحفظوها، ثم تشرح لهم وتفسر، ويبين لهم مراد الله منها، فإن كانت عقيدة عقدوها في قلوبهم، ولن تنحل إلى يوم القيامة، وإذا كانت أدباً تأدبوا بها من تلك اللحظة، وإذا كانت خلقاً تخلقوا، وإذا كانت واجباً عزموا على القيام به، وإذا كانت ممنوعاً محرماً عزموا على تركه، وغداً حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحفظونه ويفسر لهم، وتوضع أيديهم على المطلوب، وكلهم عزم؛ نساء، رجالاً، أطفالاً، أغنياء، فقراء، أشرافاً .. باعة .. كلهم جماعة واحدة في قريتهم، فليلة آية وليلة حديثاً، ومع هذا العلم وهذا التصميم والله ما تمضي سنة فقط إلا وتلك القرية كأنهم ملائكة، فلا غش ولا كذب، ولا خداع، ولا زنا، ولا ربا، ولا فجور، ولا ظلم، ولا يجوع بينهم جائع ولا يعرى عارٍ، ولا يظلم مؤمن؛ لأنهم أسرة واحدة.يتحقق هذا أو لا؟والله ليتحققن هذا حسب سنة الله عز وجل، أليس الطعام يشبع والنار تحرق، وكذلك الكتاب والحكمة يرفعان الإنسان إلى منارات الكمال.ومن شك قلنا لهم: يا أهل القرية! من أتقاكم من أحسنكم؟أعلم أهل البلد هو أتقاهم لله، وأفجرهم أجهلهم بالله، وهذه سنة الله، فوالله لا سبيل إلى نجاة العالم الإسلامي لأي بلد إلا هذا.فنرجع إلى الله في صدق.فإذا دقت الساعة السادسة مساءً ذهب اليهود والنصارى إلى المقاهي والمقاصف والملاهي، وذهب المسلمون إلى بيوت ربهم بأطفالهم ونسائهم يتعلمون الكتاب والحكمة، وخلال سنة واحدة والله ليصبح إنتاجهم المادي أضعاف ما كانوا، ووالله لتتوفر أموالهم وتزيد؛ لأن السرف والترف قد انتهى، والتكالب على الشهوات انتهى، فهذا هو الطريق، ولا نحتاج إلى فلوس ولا إلى رشاش، فيصبحون كالملائكة، والحكام يجلسون معهم فيتبركون بهم!!وهل هناك طريق سوى هذا؟والله لا وجود له، ولو يخرج عمر والله ما استطاع إلا على هذا المنهج.وهذه الآية بين أيدينا ونواصل دراستها غداً إن شاء الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:100-101]، فليلة الكتاب وليلة السنة هو الكتاب والنبي، وبدون هذا لن نسمو ولن نرتفع ولن نسود، بل ولن ننجو إلا من شاء الله من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.هل فهم السامعون هذا؟ وهل تتحدثون به في القرية أو لا؟بلغونا أن قريتكم شبعت، فتدرس الكتاب والحكمة، وإذا قالوا: ما عندنا عالم نبعث لهم عالماً، فيجلس بين أيديهم سنة واحدة وراجعوا الحياة كيف تبدلت وتغيرت، أما بدون هذا فإن كثر المال عم السرف والبذخ والإسراف، وإن قل المال صار الشح والسرقة والتلصص، وهكذا لا ينجو إلا من أنجاه الله، واذكروا هذا وانووا النية الصادقة على أن تعملوا به وتبلغوه، وأجري وأجركم على الله. والسلام عليكم ورحمة الله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-19, 01:07 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (33)
الحلقة (174)
تفسير سورة آل عمران (39)
إن القرآن الكريم ما ترك شيئاً تتوقف عليه سعادة العالمين في الحياتين الأولى والآخرة إلا بيّنه، وجاءت السنة النبوية مفصلة لما أجمل، وما من شيء ينفع العباد ويهمهم في أمر معاشهم ومعادهم إلا بيّنه لهم عليه الصلاة والسلام، فاجتمع للناس النبراسان الأكملان، باتباعهما والأخذ بهما ينال العباد السعادة والغفران، وبالإعراض عنهما وتنكب طريقهما يتحقق للناس الشقاوة والخسران.

تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات، إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل.وبالأمس كنا مع هذا النداء الإلهي الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:100-101].

عظمة تأثير القرآن والسنة في أتباعهما
ما زلنا مع هذا النداء معاشر الإخوان والأبناء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فالمنادي هو الله، وسبحان الله! هل الله هو الذي نادانا؟ إيه وعزته وجلاله.كيف بلغنا هذا النداء؟الجواب: بلغنا من طريق وحيه إلى رسوله، فقد نبه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بغراء حراء، ثم أرسله رسولاً للعالمين، بعد أن بلغ من العمر أربعين من السنين، وأنزل عليه كتابه القرآن العظيم، وهذا الكتاب ما قدرته البشرية حق قدره.وهذا الكتاب الحاوي لمائة وأربعة عشر سورة، وهذا القرآن العظيم ما ترك شيئاً تتوقف عليه سعادة العالمين في الحياتين الأولى هذه والآخرة الآتية إلا بينه، واقرءوا: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، وهذا أبو هريرة صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم يقول اسمعوا: ( علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء )، أي: ما ترك شيئاً يكفل شهادتنا ويبعدنا عن شقائنا وخسراننا إلا علمه، ( حتى علمنا الخراءة ) أي: علمنا كيف نخرأ.والبشرية اليوم تعيش بعيدة كل البعد عن هذه التعاليم الإلهية، ففقدوا هذا النور وعاشوا في الظلام.نعم ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك شيئاً تحتاج إليه أمته المؤمنة به إلا بينه، حتى كيف تجلس لقضاء حاجتك بينه والله العظيم، فكيف إذن بالسياسة في الداخل والخارج، وكيف بالاقتصاد.وكلمة واحدة ما أخذ بها عبد وافتقر قط، وقد تكلم صلى الله عليه وسلم بمئات الآلاف، وكلامه صلى الله عليه وسلم من يوم أن أوحي إليه كل كلامه حكم وعلوم ومعارف.وائتني بكلمة من كلامه لا تحمل هدى أو حكماً؛ ومن ذلك قوله: ( ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد )، فالذي يقتصد في طعامه وشرابه وكسائه ومركوبه ومسكنه لا يفتقر أبداً، والفقر يصيب الذين لا يقتصدون، والشاهد عندنا في كلمة واحدة من ملايين الكلام: ( ما عال من اقتصد ).وقد جربت هذا، وهدانا الله إليه، والآن نيفنا على ثلاث وسبعين سنة وما سألت أحداً ديناراً ولا درهماً قط، ولا مددت يدي لأتناول ما لا يحل لي، وسر هذا الاقتصاد، فإن رزقت ريالاً أنفق بحسب الريال، وإن رزقت عشرة أنفق بحسب العشرة، والشاهد عندنا فقط في كلمة واحدة لم يستطع أحد أن يلفظها غير رسول الله: ( ما عال من اقتصد ).إذاً: هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم اختاره الله .. اصطفاه .. اجتباه .. انتقاه من أصلاب الآباء والأمهات؛ من إسماعيل بن إبراهيم إلى جده عبد المطلب إلى والده عبد الله ، فما اختلط بشيء اسمه زنا، فنطفة حفظها الله عدة قرون؛ هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.هذا الذي قال واصفه: إنه لأشد حياء من البكر في خدرها، فالبكر غير الثيب تكون في خدرها مخدرة فيه محجوبة تستحي أن تقول كلمة أو يسمع صوتها رجل، وقد كان الرسول أشد حياء من البكر في خدرها، وما واجه أحداً من أصحابه وقال: لم قلت أو لم فعلت؟ وما لطم امرأته بيده.وهذا تلميذه أنس بن مالك الأنصاري لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة جاءت به أمه وقالت: هذا ابني يخدمك يا رسول الله في البيت، وقد كان ابن سبع سنين أو ثمان، فخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، يقول رضي الله عنه: ( خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي يوماً في شيء فعلته: لم فعلت هذا؟ أو في شيء تركته: لم تركت هذا أبداً ).وأنتم ماذا تفعلون بنسائكم وأولادكم؟للأسف يوجد الضرب والشتم والطلاق!كيف هذا؟! ولا يحل لمؤمن أن يروع مؤمنة، ولا يحل لمؤمن أن ينظر نظرة شزراً إلى مؤمن؟!أين نحن؟الحمد لله نتبجح، لعلكم تقتدون: لقد أقمت مع أم أولادي تغمدها الله برحمته ستين سنة تقريباً، والله ما لطمتها بيدي، ولا قلت لها يوماً: أنت طالق أو إن فعلت كذا فأنت طالق، ولا قلت لها كلمة تغضبها أبداً.وتبلغنا الأخبار عنكم معاشر المستمعين! السب والشتم والطلاق.. فلا إله إلا الله، أين يذهب بنا؟إلى مسارح الباطل والظلام، والعلة الجهل، فما ربينا في حجور الصالحين، فكيف إذاً نستقيم؟! كيف نهتدي؟! كيف نتهيأ لرضا الله تعالى وحبه؟!

الطريق القويم هو طريق تلقي الكتاب والحكمة
الطريق كما ذكرنا في قوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] أي: من أين يأتيكم الكفر وكيف يصل إلى قلوبكم والمناعة كاملة والحصانة تامة، وهما أنكم تتلقون الكتاب والحكمة كل يوم وليلة، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]؟فمن هنا لا حل لمشكلتنا ولا مخرج لنا من ظلمتنا، ولا طمع في أن نسود ونقود كما ساد أسلافنا وقادوا البشرية إلا إذا عدنا لتلقي الكتاب والحكمة فقط، فلا مذهبية ولا طائفية ولا وطنية ولا حزبية ولا جمعية، مسلمون فقط.وهل كان على عهد رسول الله مذهب حنفي .. مالكي .. أباضي .. زيدي .. إمامي .. شافعي ..؟لا والله لا يوجد إلا أمة الإسلام.وهل كان على عهد أصحاب رسول الله مذهب وطائفة؟والله لا يوجد.وهل كان على عهد أحفاد رسول الله وأبناء أصحابه طائفية؟الجواب: لا، مسلمون فقط.فعرف هذا العدو كما علمتم وأبعدنا عن الكتاب والحكمة، وأبعدنا عن القرآن والسنة بمكر من أشد أنواع المكر، حيث حول القرآن إلى الموتى والمقابر، وهجروا السنة.وأعطيكم مثالاً في الديار الجزائرية فأيام كنا بها كان بعض الجزائريين يجلسون في محراب الجامع الكبير، ويقرءون صحيح البخاري للبركة لا ليتعلموا حكماً شرعياً أبداً، فقط يقرءون صحيح البخاري للبركة، وجئنا المدينة مهاجرين، فوجدناهم في تلك الروضة كل رمضان كان أعيان البلاد ورجالات المدينة يجتمعون حلقة عظيمة ليقرءوا صحيح البخاري للبركة إلى هذا العام، وليس فيهم من يرد يقول: لا.فهل السنة والحكمة النبوية تقرأ للبركة؟ أيعقل هذا الكلام؟ إيه لقد عقلوه، يقرءون حدثنا .. حدثنا .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسأل عن حكم لا في الآداب والأخلاق ولا السياسة المالية، ولا الاقتصاد والحرب ولا السلم.. أبداً.إذاً: ذبحنا رسول الله وأقبرنا القرآن.وهذا مكر الثالوث الأسود: المجوس واليهود والنصارى، ومازال هذا العدو متعاوناً مع بعضه بعضاً، لا يريدون أن تلوح أنوار الإسلام كما لاح الصليب، وعرفوا كيف يتحكمون بنا تحكماً كاملاً.فإن قلنا: هيا نعصهم.قالوا: لا نستطيع يا شيخ.قلنا: لم؟ هل وضعوا الرشاشات على أبوابنا؟ لا لا، كيف لا نستطيع؟ أنعجز أن نبرهن وندلل على أننا مسلمون، ثم في حينا نحن آل المدينة من مدننا الإسلامية يتصل بعضنا ببعض، نقول: هيا نعود.اسمعوا يا أبنائي ويا إخوتي! من غدٍ لا يتخلف رجل ولا امرأة، والكل إذا دقت الساعة السادسة مساء يتطهر ويتوضأ ويحمل امرأته وأولاده إلى بيت ربه .. إلى المسجد الجامع، فإذا أتيت متأخراً تمر بالحي لا تجد دكاناً مفتوحاً، لا حلاقاً ولا تاجراً، ولا مطعماً ولا مقهى أبداً، فإذا سألت: أين أهل المدينة؟ يقولون لك: في بيت الرب، سبحان الله! في بيت الرب؟ إي والله، وهذه الكلمة ترعب الشياطين، وتصيبهم بالخذلان: أهل القرية كلهم في بيت الرب!ويصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون جلوسنا هذا، إلا أن النساء وراء الستار محتجبات، والأولاد الصغار صفوف بيننا وبين أمهاتهم كالملائكة لا يلتفتون، ونتلقى الكتاب والحكمة، والكتابُ موجود محفوظ بحفظ الله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، ألف وأربعمائة سنة وخمسة عشر عاماً، ولم يستطع العدو مهما تلون أن يحذف حرفاً واحداً فضلاً عن كلمة أو جملة من كلام الله، والله لولا الله ما بقي إلى اليوم.أين التوراة؟ (75%) كذب.أين الإنجيل؟ الإنجيل الواحد حولوه إلى خمسة أناجيل، فبعد أن فضحوا اجتمعوا في روما وجعلوا الأناجيل خمسة وثلاثين إنجيلاً، ثم لما تفطن لهم الأذكياء وعابوهم وعيروهم اجتمعوا اجتماعاً آخر وجمعوها في خمسة أناجيل، بمعنى: أن كلمة الله خمسة من أربعة، والأربعة كذب وتضليل، فلهذا ضل النصارى ضلالاً بعيداً.والمسلمو على ما أصابهم وحل بهم كتاب الله بين أيديهم ما نقص منه حرف واحد ولا تغير له معنى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيض لها أيضاً رجالاً؛ فحموها وحفظوها وصانوها، وما يمر بهم حديث إلا وعرفوه هل هذا من النبوة المحمدية أو من كذب الكاذبين.إذاً: أهل القرية في مسجدهم الجامع أو أهل الحي في حي مدينتهم، إذا اجتمعوا على الكتاب ليلة والسنة أخرى، لا يكفرون أو يرتدون أو يفسقون أو يفجرون؛ لأن الله خالق القلوب ومصرفها قال: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، فمن أين يأتي الكفر، ونقول: من أين يأتي الفجور والفسق والظلم والشر والخبث والفساد؟! ويصبح أهل القرية كأسرة واحدة، لا فرق بين أبيض وأسود ولا أحمر وأصفر، ولا عربي ولا عجمي، ولا صغير ولا كبير ولا غني ولا فقير، يتلقون الكتاب والحكمة.سلوني: كيف تصبح تلك القرية؟قلنا مرات: لو ظهرت في الآفاق لحججناها وزرناها كما تزار مكة؛ لنشاهد آثار الكتاب والحكمة كيف حولت الإنسان إلى شبه ملك، ونعم إي والله، لا يقوى على أن يقول كذبة، بل يجوع ثلاثة أيام ولا يمد يده لمال غيره.فالكتاب والحكمة هو الطريق، وأهل القرية عندما اجتمعوا سنة وهم يدرسون قال الله وقال رسوله، هل بقي فيهم من يقول: أنا مذهبي كذا؟ هل بقي فيهم من يقول: أنا حزبي كذا؟ هل بقي فيهم من يقول: أنا من جماعة كذا؟ هل بقي فيهم من يقول: أنا من وطن كذا؟ والله لم يبق لهذا وجود، وعدنا كما بدأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الطريق.والبلاد التي فيها فتن دائرة اليوم بسبب الجهل وسوء التصرف والتدبير، فنقول لهم: اصبروا عاماً .. عامين حتى تنطفئ نار فتنتكم، وعودوا إلى بيوت الله عز وجل بنسائكم وأطفالكم ورجالكم، أغنيائكم وفقرائكم، علمائكم وجهالكم، أمة واحدة لا مذهبية ولا طائفية ولا حزبية.والبلاد التي هي الآن آمنة ولا تمنع من دخول المسجد ولا الاجتماع فيه، ولا تعلم الكتاب والحكمة في بيوت الله لم ما تأخذ هذا الطريق وما المانع؟الجواب: لا مانع إلا الأهواء والشهوات والأغراض، وقدر الله نافذ.وهذا الحديث يا معاشر المؤمنين والمؤمنات هو معنى قوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، فنقول: كيف تفسقون أو تفجرون أو تظلمون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ والرسول وإن مات فسنته .. تعاليمه .. هدايته .. هداه موجود مع القرآن، وما من آية إلا ويفسرها لك حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سر مناداة الله لأهل الإيمان
هكذا نادنا مولانا جل جلاله وعظم سلطانه بعنوان الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:102]، وهنا سر يخفى على الكثيرين: لماذا ما قال: (يا أيها الناس)، ولم ما قال: أيها المسلمون، إنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:102]، أي: يا من آمنت بالله رباً وإلهاً وبالقرآن هداية ونوراً وبمحمدٍ نبياً ورسولاً، وبالإسلام ديناً؟السر هو أن المؤمنين أحياء، والكافرين أموات.اسمعوا معاشر الحجاج والزوار، وإن شئتم حلفت لكم بالله: المؤمن بحق يسمع إذا ناديته .. يعقل إذا خاطبته .. يعطي إذا طلبته .. يمنع إذا نهيته؛ لكمال حياته، والكافر ميت.تريدون دليلاً أو لا؟أيام كنا سائدين وحاكمين، وتحتنا أهل الكتاب من يهود ونصارى أو من يسمون بالذميين، هل كنا نأمر الذمي بأن يصلي؟ والله ما نأمره، هل كنا نأمر الذمي بأن لا يشرب خمراً؟ لا لا. هل كنا نأمر الذمي بأن يصوم؟ هل كنا نقول له: اخرج وجاهد معنا؟ والله ما كان، لماذا؟ لأنهم أموات وليسوا بأحياء، وإن قلت: يأكلون ويشربون وينكحون فالحمير والخيول والبغال والدجاج كذلك، فالحياة التي صاحبها إذا ناديته سمع النداء .. إذا علمته علم .. إذا قلت: افعل، فعل، وإذا قلت: اترك ترك، هذا هو الحي، فهذه حقيقة تأملوها وعودوا بها إلى دياركم، فالإيمان هو الحياة، وإن ضعف ضعفت الطاقات البشرية، وبقدر ما يضعف إيمانك يا عبد الله تضعف طاعتك لله ورسوله، وبقدر ما يزيد إيمانك ويرتفع منسوبه بقدر ما تقوى وتقدر على الطاعة، وإن كانت الطاعة تدعوك إلى الخروج من مالك كله، أو تقديم نفسك فداءً لله، ولهذا يجب أن نحقق إيماناً وأن نرعاه رعاية كاملة حتى لا ينقص ولا يضعف أبداً، ويزيد الإيمان ويقوى على الطاعة.سبحان الله، طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ينتجها الإيمان، وتلك الطاعة تزيد في طاقة الإيمان والله العظيم، وقم في ليلتك وتوضأ وصل ركعتين وابك يرتفع منسوب إيمانك إلى ما فوق المائة وتسعين، يزيد على طول، ولولا إيمانك ما قمت في آخر الليل ولا صليت، فالإيمان يأخذ ويعطي، لا إله إلا الله!وهذا هو السر في نداء الله لنا بعنوان الإيمان؛ نادانا تسعة وثمانين نداء: (يا أيها الذين آمنوا).ولِمَ ينادينا؟ينادينا ليأمرنا بفعل أو اعتقاد أو قول، وما من شأنه يزيد في طاقة إيماننا، ويؤهلنا لكرامة الدنيا وسعادة الآخرة، أو ينادينا لينهانا عما من شأنه أن يثبطنا أو يقعد بنا عن الكمال، أو يحرمنا السعادة في الدنيا والآخرة، أو ينادينا ليبشرنا فتنطلق أعضاؤنا تعمل بسرعة وتتزود من صالح الأعمال، أو ليحذرنا من عواقب سوء حتى نتجنب تلك العواقب ونبتعد عنها؛ لأننا أولياؤه، والله لا يرضى أن يؤذى وليه أو يخسر أو يتحطم أو يشقى، وحاشى لله، أو ينادينا ليعلمنا علوماً ومعارف من شأنها تزيد في طاقات إيماننا، وتزيد في أعمالنا وتزيد في سعادتنا.إذاً الله عز وجل ينادينا ليأمرنا وينهانا ويبشرنا وينذرنا ويعلمنا؛ لأننا أولياؤه، واسمعوا أبو هريرة في صحيح البخاري يروي لنا عن أبي القاسم فداه أبي وأمي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، يقول: ( قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، أي: أعلنت الحرب عليه، فيا ويلك يا عبد الله، ويا ويلكِ يا أمة الله أن تؤذي ولياً من أولياء الله، فمن آذى ولياً في عرضه .. في دمه .. في ماله، فقد تعرض لأن يعلن الله الحرب عليه، ومن يعلن الله الحرب عليه مستحيل أن يحارب الله وينتصر.

دور الثالوث الأسود في تغيير مفهوم الولاية لله
عرفتم الثالوث الأسود: اليهود والنصارى والمجوس، فلما عرفوا ما عرف المؤمنون: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) فأصبح أهل القرية أو أهل المدينة أو المسافرون في سفرهم لا يؤذي أحدهم أخاه، ولو بكلمة نابية، فلم يبق ظلم ولا زنا ولا فجور ولا خيانة، ولا ولا، لأنهم أولياء الله، فكيف إذاً: يؤذي ولي الله ولي الله؟ مستحيل، فقالوا: نستطيع أن نقلب حالهم فيصبح بعضهم يأكل بعضاً ويذبح بعضهم بعضاً، ويزني رجالهم بنسائهم، كيف؟قالوا: نحصر الولاية في الموتى! فلا ولي بيننا، لكن الولي من مات وبنينا على قبره قبة خضراء أو بيضاء، ووضعنا على قبره تابوتاً من أغلى أنواع الخشب، ووضعنا على الخشب أزر من الحرير، فهذا ولي الله .. هذا الذي يحلف به .. هذا الذي ينذر له النذور .. هذا الذي ترتعد فرائصنا إذا تعرضنا لأذاه، أما الأحياء فاسرقهم واكذب عليهم، وسبهم، واشتمهم، وازن بنسائهم، ولا شيء عليك.وأقول: هذه الكلمات تقال في هذا المسجد من أربعين سنة، ولو تدخل إلى القاهرة ذات الملايين من العلماء والمؤمنين، وتدخل وتقول لأول من تلقاه في الطريق من المطار أو من القطار: يا سيد! أنا جئت من بلاد أريد أن أزور ولياً، فوالله ما يأخذ بيدك إلا إلى قبر، ولا يفهم أن هناك الملايين في القاهرة من الأولياء الأحياء.وما نقوله في القاهرة نقوله في إسطنبول .. في كراتشي .. في مراكش .. في تونس .. في الجزائر .. في العراق .. في اليمن .. في المملكة قبل عبد العزيز فقط. وقبل عبد العزيز وأولاده، والله ما يفهم أن ولياً في السوق بين الناس، إلا من مات وضربت عليه القبة وعُبد من دون الله.من خط هذه الخطة؟ من وضع هذا المنهج؟إنه الثالوث، فقد شاهدونا إخوة لا يسرق مؤمن مؤمناً، ولا يكذب مؤمن على مؤمن، ولا يفجر مؤمن بنساء مؤمن، سبحان الله!فقالوا: كيف نفعل معهم؟قالوا: نحول الولاية منهم إلى موتاهم، وبعيني وأذني وأنا طفل حدث مثل هذا في القرية، كان هناك مشايخ يتحدثون قالوا: فلان كان إذا زنا لا يمر بضريح سيدي فلان! وإذا زنا في قرية لا يستطيع أن يمر على شارع أو زقاق فيه قبر سيدي فلان، فانظر، يحارب الله والمؤمنين ويفجر بنساء المؤمنين ولا يخاف الله ولا يبكي ولا ترتعد فرائصه، ويخاف من الولي الميت، فما يمر بالشارع الذي فيه قبره!!والقضاة عندنا كان إذا رفعت إلى القاضي قضية يقول: ( والبينة على المدعي واليمين على من أنكر )، هذه الكلمة وضعها أبو القاسم، وقضاة العالم كلهم لا يستطيعون أن يخطئوا هذه: ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر )، فبكلمة واحدة قام القضاء عليها؛ لتعرفوا من هو رسول الله، فيجيء الرجل إلى القاضي يقول: فلان سرقني، يقول: هات البينة، يقول: ما عندي، لكن أنا أعرف أنه سرق شاتي وذبحها، ما هناك بينة احلف، أنت تعترف أو لا؟ قال: أنا ما سرقت، احلف، قال: أنا أحلف، قال: احلف بالله، والله .. والله .. سبعين مرة ما سرقت، يقول الخصم: يا سيادة القاضي! هذا يحلف بالله مرة، لكن قل له يحلف بسيدي عبد الرحمن، أو بمولاي فلان، فلما يقال له: اسكت لا تحلف بالله فأنت متعود على الكذب، لكن احلف بسيدي فلان! فيخاف ولا يستطيع! قلنا للقضاة: لم؟ قالوا: ماذا نصنع؟ نحن نحافظ على أموال الناس وحقوقهم.قلنا لهم: لم تقبلون اليمين بغير الله، قالوا: اليمين بالله يحلفونها لأنهم جهال؛ لكن إذا قلت له: احلف بسيدي عبد القادر يقول: لا، ما يستطيع.فانظر إلى أين وصلنا، فأصبحنا نعبد الأولياء عبادة كعبادة الله.كذلك أمي رحمة الله عليها، وأنا كهذا الغلام قبل أن أعرف التوحيد، كان عندها خصومة أخوها مع امرأته؛ فمرت بقبة على جبل قالت: يا سيدي فلان! إذا كان انتصر أخي في الخصومة على زوجته أفعل لك كذا وكذا!وهذا الأمر من وجود النذور للأولياء عام من إندونيسيا إلى موريتانيا، فيأتي بالكبش ويقدمه لسيدي فلان، ومعنى هذا أننا عدنا إلى الجاهلية والشرك الأول، إي والله، وسبب هذا أنهم أبعدونا عن الكتاب والسنة، فغشانا الجهل وغطانا، ووضعوا لنا هذه المحنة فحولنا إلى عبدة الأوثان.ومن قال: هذا ليس بصحيح، نقول له: استعمر العالم الإسلامي وحكمته بريطانيا وإيطاليا وأسبانيا وفرنسا وبلجيكا، فكيف الموحدون المسلمون يحكمهم الكافرون، وماذا تصنع بقول الله: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، أيكذب الله؟ أبعد هذا تقول: أعطني دليلاً على هذا، فأصبحنا وثنيين، وحسبك أنه يحلف بالله سبعين مرة كاذباً ولا يحلف بسيدي عبد القادر صادقاً أو كاذباً.

مفهوم الولاية الحقيقية لله
نعود إلى أولياء الله، تعرفون عنهم شيئاً؟جاء من سورة يونس عليه السلام ما بين هود والتوبة، جاء قول الله عز وجل: أَلا [يونس:62] أداة استفتاح للحديث وتنبيه للمحدث، بمعنى: أنت واعٍ تسمع؟ فهذه تركناها مع القرآن، فلا نفهم له معنى، إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا خوف عليهم لا في الدنيا، ولا في القبر ولا يوم القيامة، ولا حزن ينتابهم لا في دنياهم ولا في أخراهم.ولا تظن أن هذا الكلام ليس بصحيح، فقد رأينا ولي الله يدفن أولاده وهو يبتسم ولا يعرف الحزن، ويفقد كل شيء من جيبه ولا يحزن.يقول: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] هؤلاء أولياء الله، من هم أولياء الله؟ سيدي عبد القادر .. إدريس .. العيدروس .. البدوي ، وقد علمنا هذا الخبراء الفنيون أهل الكتاب الثالوث الأسود: اليهود والنصارى والمجوس.ما السر؟أبعدونا عن الكتاب والحكمة، فقالوا: نجهلهم أيضاً في قضية الولاية حتى يصبح المسلمون يشيع بينهم الزنا .. اللواط .. السرقة .. الكذب .. الغش .. الخداع .. الربا، والباطل بطريقة واحدة، ما هي هذه الطريقة؟قالوا: نعلمهم أنهم ليسوا أولياء الله، فأعداء الله يأكل بعضهم بعضاً، أما أولياء الله من يستطيع أن يسب واحداً منهم أو يشتمه أو يتعرض له، كيف لا وهم يتقربون إليهم في مدينة من مدننا العربية: سيدي فلان! إذا جاء الزوار كما بلغني لا يأتون إلى الضريح يمشون؛ إنما يأتونه حبواً، وقد بينت لكم أن الواحد منهم أمام القاضي يحلف بالله سبعين مرة ولا يبالي ولا يحلف بالولي.إذاً: سلبونا ولاية الله وأضفوا علينا ثوب أعداء الله، إذاً: فليأكل بعضنا بعضاً من خلال السرقة .. الخيانة .. الغش .. الكذب، حتى الرجل يضرب امرأته، ويضرب ولده، والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ).معشر المستمعين والمستمعات! هل يجوز الآن يا من علمت أن تنظر إلى مؤمن وتقول له: اسكت يا كلب .. امش يا خنزير كما كنت تقول؟ والله لا تستطيع.هل تستطيع أن تمر بامرأة مؤمن وتأخذ تنظر في امرأته من رجليها إلى رأسها؟ والله لا تستطيع أن تؤذي هذا المؤمن.ولو سقط من جيبه دينار أو مليار هل تستطيع أن تأخذه وتسكت؟ والله ما كان.والسر أنهم أبعدونا عن الله، فأصبحوا أولياء للشياطين، وتركنا ولاية الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه.وإليكم بيان هذه الولاية، يا من يرغب في ولاية الله يرفع يده، الليلة تضفى عليك وتصبح من أولياء الله.قالوا: لا نستطيع يا شيخ، تريد أن تقول لنا: لا تكذبوا، لا تسرقوا.. لا.. لا، لا نستطيع.إذاً: ترضون بأنكم أعداء الله؟اسمع بيان الله للولاية والأولياء، لما أعلن ذلك الإعلان: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، كأن سائلاً يقول: من هم أولياؤك يا رب؟ فهذه الجملة مستأنفة استئنافاً بياناً واقعة في جواب سؤال، فلما أعلن هذا الإعلان العظيم: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، تتطلع النفوس: من هم أولياؤك يا رب؟ فأجاب تعالى بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فقط لا عربي ولا عجمي ولا شريف ولا وضيع، ولا في الأولين ولا في الآخرين، فقط آمن واتقى وواصل التقوى المتجددة.فهؤلاء آمنوا حق الإيمان، وكانوا طول حياتهم يتقون سخط الله وغضب الله، بحيث لا يتركون واجباً أوجبه، ولا يفعلون حراماً حرمه قط، فهؤلاء هم أولياء الله، ومن منكم يرغب أن يكون منهم؟ قولوا: كلنا، إننا والله لمنهم.فهؤلاء آمنوا الإيمان الحق، وعاشوا طوال حياتهم يتقون الله، فلا يقولون كلمة كفر، ولا ينظرون نظرة تسخطه، ولا يأخذون ريال لا يرضاه يعيشون على التقوى.وكيف تعرف نفسك أنك ولي الله؟قال تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، وإياك أن تشك: لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:64]، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى بقوله: ( الرؤيا الصالحة يراها أو ترى له )، فالبشرى في الحياة الدنيا رؤيا منامية صالحة يراها هو أو يراها عبد صالح ويبلغه ما رأى، أما عند سياق الموت فسوف يشاهد مواكب الملائكة تزف إليه البشرى ذاتها، واقرءوا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] آمنوا واستقاموا: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] هذا تنزل الأفواج فوج بعد فوج، ماذا تقول لهم: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، أما في عرصات القيامة وساحة فصل القضاء: وَتَتَلَقَّاهُم ُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103]، سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73].إذاً: يا أولياء الله! إياكم أن تنقضوا هذه الولاية؛ بأن تشتم امرأتك الليلة أو تسبها، أو تنظر إلى مؤمنة مارة في الشاعر وتحملق بعينيك فيها، أو تقضي الساعات بعد الآن مع التلفاز وأنت تشاهد عواهر يغنين ويرقصن أعوذ بالله! أو تسمع صوت كافر في بيتك وهو يتكلم وأنت تنظر إليه، فهذه تتنافى مع ولاية الله أبداً، ولن تكون ولي الله، وإذا لم تتق ما يغضب الله فكيف تحقق الولاية، أليست إيمان وتقوى؟يا ابننا الحلاق كيف تحلق في وجوه الرجال أعوذ بالله، هذا ولي الله؟يحلق في وجوه المؤمنين من أجل خمسة ريالات وعشرة؟!اكتب على الصالون هذا محل تحسين الحلاقة وليس حلق الوجوه، لتكون ولي الله.يا من يبيع في دكانه التبغ والسجائر وأنواع الدخان، لمن تبيع هذه؟ لأولياء الله؟ كيف يصح هذا؟من الآن بع الحلويات والبطاطس، وأما الدخان فلا تبع.. وهكذا تترقى يا عبد الله حتى تصبح حقاً ولي الله.اللهم اجعلنا من أوليائك.. اللهم اجعلنا من أوليائك.. اللهم اجعلنا من أوليائك.. واضفِ علينا آلائك ونعمائك، إنك ولينا وولي المؤمنين.وصل اللهم على محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-19, 01:13 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (34)
الحلقة (175)
تفسير سورة آل عمران (4)

توعد الله الكافرين يوم القيامة بأن يكونوا وقوداً للنار، ولن تغني عنهم أموالهم التي جمعوها، ولا أولادهم وإن كثر عددهم، وذلك لأنهم اتبعوا سنة من قبلهم من آل فرعون وغيرهم في تكذيبهم بالرسل وإنكارهم للرسالة، وقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يبشر كل من أنكر رسالته وعانده ورفع راية العداء له أنهم سيغلبون في الدنيا ثم سيحشرون يوم القيامة إلى النار التي أعدت لهم.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).وبشرى ثانية قال فيها صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).وثالثة: ( ما من مؤمن يصلي الفريضة -كما صليتم العصر- ويبقى في المسجد ينتظر الصلاة الآتية حتى يصليها إلا كانت الملائكة تصلي عليه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى يصلي أو ينصرف ).تعجبون من هذا؟ من نحن؟! وما نحن حتى تصلي علينا الملائكة الأنوار؟!لو أردنا أن نفرض على أحدهم أن يصلينا علينا مرة واحدة هل نملك ذلك؟ هل نقدر عليه؟ هل نستطيعه؟ الجواب: لا. ولكنه فضل الله علينا ورحمته! الملائكة تصلي علينا بقولها: اللهم اغفر لهم! اللهم ارحمهم! حتى نصلي المغرب أو العشاء وننصرف، ومع هذا نسبة الذين يحضرون بيوت الله ويطلبون فيها الذكر والعلم واحد إلى ألف، وتسعمائة وتسعة وتسعون في غفلتهم نائمون! أليس كذلك؟ بلى. ولا عجب إذ يقول الله عز وجل لآدم عليه السلام في عرصات القيامة: ( يا آدم خذ بعث النار، فيقول: يا رب وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين )، إلى جهنم وواحد إلى الجنة، فلا عجب إذاً ولا غرابة في كفر الكافرين وضلال الضالين وإجرام المجرمين.ولقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات النورانية وهي أربع آيات، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:10-13]. هذه الآيات من سورة آل عمران عليهم السلام. ‏

معنى المحكم والمتشابه
أذكركم! بالأمس علمنا أن القرآن الكريم فيه المحكم، فما موقفكم أيها المؤمنون من ذلك؟ قولوا: نؤمن بمحكمه ومتشابهه، كل من عند الله.والمحكم ما معناه؟ المحكم ظاهر بيّن واضح نعمل به ونعيش عليه ونطبقه. والمتشابه: ما خفي معناه وستره الله عنا؛ لعجزنا وليبتلينا فنؤمن بالمحكم ونفوض أمر المتشابه إليه سبحانه.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الذين يتبعون ما تشابه من آيات الكتاب
أيضاً: سبق أن عرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذين يبتغون المتشابه: ( احذروهم ) ، فلهذا واجبنا تجاه أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه: هجرانهم والإعراض عنهم؛ لأنهم مبتدعة من أهل الأهواء، فلا نجادلهم ولا نتكلم معهم؛ لأنهم مرضى بأهوائهم وقلوبهم يريدون إفساد ديننا علينا، فواجبنا الإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم، وهجرانهم الكامل، إذ قال الرسول: ( احذروهم ) هكذا!

استحباب الدعاء وطلب النجاة عند ظهور الزيغ ورؤية الفتن
عرفنا أيضاً: استحباب الدعاء بطلب النجاة عند ظهور الزيغ ورؤية الفتن والضلال، كما فعل أبو بكر رضي الله أيام حروب الردة، فقد كان إذا صلى المغرب وصار إلى الركعة الثانية قرأ فيها بقول الله تعالى: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].أيضاً: تذكرون ما قالت الصدّيقة عائشة وقد رأت وسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: ( لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماًً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) ، هذا عزمنا على حفظه وعلى أن نقوله كلما استيقظنا.

صفات الراسخين في العلم
قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]. ذكرنا الراسخين في العلم، فمن هم هؤلاء هل يعني ابن عباس وحده أم من؟ الجواب: الراسخ في العلم من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه، ذلكم الراسخ في العلم. من هم الراسخون في العلم؟ بشرنا رسول الله وقال: ( من برت يمينه )، ما معنى برت يمينه؟ أي: لا يحلف إلا على حق، ( وصدق لسانه ) فلا ينطق بكلمة كذب قط، فما يقوله دائماً الصدق والحق، ( واستقام قلبه ) فلم يزغ يميناً ولا شمالاً، هؤلاء هم الراسخون في العلم.
طلب الهداية والرحمة من الله

قال الله: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، علمنا الله هذا الدعاء لما لا ندعوه به؟ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] .

جمع الله الناس ليوم لا ريب فيه
قال الله: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران:9] يجمعنا ليوم لا شك فيه، وهو يوم القيامة، اليوم الآخر، يوم البعث والنشور، يوم الحساب والجزاء بعد نهاية هذه الدورة التي طالت بنا. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، الوعد والميعاد لا يخلفهم الله عز وجل، فلا بد وأن يجمعنا مع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ونتلقى الجزاء حسب عدل الله عز وجل ورحمته.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم...)
أما آياتنا الأربع في هذه الأمسية المباركة، فنبدؤها بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10]. هذا خبر أم لا؟الجواب: الصيغة صيغة خبر، يقول الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [آل عمران:10] .النار في الدنيا توقد بالفحم وبالحطب وبالغاز، ويوم القيامة مادة اتقادها: لحوم البشر وعظامهم، والله العظيم تتقد النار يوم القيامة بلحوم الكافرين والمشركين، قال تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، أي: من الحجارة والأصنام التي كانوا يعبدونها.هذا الخبر يشمل: أولاً: وفد نجران الذي جاء يتبجح ويجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريد أن يقنع رسول الله بأن عيسى عليه السلام ابن الله! أعوذ بالله! الأعمى لا يقول هذا، والجن تعجبت كيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة؟! مجانين هؤلاء؟ أيوجد ولد بدون زوجة؟ مستحيل، كيف يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟! ثم هذا الولد أيها النصارى كبرتموه وعظمتموه وعبدتموه وجعلتموه إلهاً يعبد مع الله، وعلقتم الصلبان في أعناقكم وحتى على سيارتكم، فأنتم تعتقدون أن اليهود قتلوه وصلبوه! وقبل أن يسحرهم اليهود كان الصليبي لا يفتح عينيه في يهودي من بغضه له، فهو لا يريد أن ينظر إليه؛ لأنه قاتل إلهه، فكيف ينظر إلى من قتل ربه؟! فهل الإله الذي يعطي ويمنع ويبسط ويقبض ويحيي ويميت يقتل ويصلّب؟! كيف يعقل هذا الكلام؟!ملايين النصارى من أمريكا إلى اليابان يعتقدون هذا الباطل وهذه الخرافة والضلالة ويموتون عليها!قبل أن يوجد عيسى من كان يدير الكون؟ وأمه العذراء من أوجدها؟ من نفخ فيها من روحه حتى كان عيسى؟! لا توجد خرافة أعظم من خرافة النصارى في تأليه عيسى، والآن لما ارتقوا بعض الشيء في الماديات قالوا: نحن ما عبدنا عيسى لذاته؛ بل عبدناه من أجل الله؛ لأن الله يحبه، وهذا كذب.إذاً: نقول لهم: اسألوا عن الله وتعالوا نعرفكم به! ما دمتم تؤمنون بأن عيسى ابن الله فتعالوا نتعرف إلى الله! هل الذي كان ولم يكن شيء قبله يكون له ولد يا خرافيين؟!هل الذي يقول للشيء كن فيكون يحتاج إلى ولد؟تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً!ثانياً: يدخل في حبر الوعيد: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [آل عمران:10] المشركون عامة، ويدخل رأساً اليهود المتبجحون في المدينة، فهذه الآية اشتملت على وعيد الله للنصارى واليهود والكافرين. ‏

سبب ذكر الله للأموال والأولاد في هذه الآية
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10].لماذا ذكر الله الأموال والأولاد؟ لأنهم ما أصروا على الكفر وثبتوا عليه ونفوا التوحيد وهربوا منه إلا من أجل أموالهم وأولادهم، والحفاظ على المركز والوظيفة! إذاً: ذكر تعالى المال والولد هنا؛ لأن سبب بقاءهم على الكفر والإصرار عليه بعدما لاحت شموس الهداية ونزل القرآن وبعث الله الرسول هو الحفاظ على أموالهم وأولادهم ومراكزهم. والآن اليهود كالنصارى لم يدخلوا في الإسلام بعد علمهم به -بالنسبة إلى كثير منهم- إلا للحفاظ على حياتهم المادية، وصدق الله العظيم إذ قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:10]، أي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [البقرة:161] لا بد من هذا القيد، فهو لازم وضروري. ما معنى كفروا؟ أي: سبوا الله، سبوا رسوله، وصفوا الله بما لم يصف به نفسه، نسبوا إليه العجز والنسيان والغلط والخطأ كاليهود، جعلوا له آلهة تشفع لهم عنده خرافة وضلالة! كفروا: جحدوا رسوله وخاتم أنبيائه محمداً صلى الله عليه وسلم! جحدوا القرآن وأنكروه وقالوا: ليس بكلام الله، وهكذا.. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10]، لن تغني عنهم أدنى غنى أبداً.

الذين كفروا هم وقود النار يوم القيامة
قال الله: وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [آل عمران:10] أولئك البعداء -واللام في أولئك للبعد في هذا المقام- أولئك البعداء عن ساحة الخير والصلاح والطهر والصفاء هم لا غيرهم، هم وحدهم وَقُودُ النَّارِ [آل عمران:10]، وحطبها الذي تلتهب به. الخبر هذا عظيم! ولهذا والله لو تأتي بمؤمن صادق الإيمان فتصلبه وتقطعه على أن يكفر بالله ما كفر بالله! إليكم موقف غريب وما هو بغريب إلا أننا تركنا سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم! أتعرفون خبيباً ؟ من هو خبيب هذا؟ هذا ولي الله في مكة، عذبه أهل الشرك بمكة؛ لأنه قال: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، سجنوه في بيت، فكانت امرأة الرجل تأتيه بالطعام -ليس كطعامنا ولكن كسرة من خبز- فتجد عنده العنب يأكله، فتسأله: من أين لك هذا يا خبيب ؟ فيقول: من الله. كان هذا في بني إسرائيل ، وكان أيضاً في المسلمين. وأما في بني إسرائيل فـمريم البتول العذراء نذرتها أمها لله، لا لإبراهيم ولا إسحاق ولا يعقوب نذرت لله ما في بطنها -ونساءنا ينذرن لسيدي عبد القادر - فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا أي: خالصاً، فلما ولدته وجدته بنتاً فقالت: إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ . فخرج بها من خرج بين علماء بني إسرائيل وصلحائهم يقول: من يكفل هذه النذيرة؟ فالكل رغب أن يكون هو الكافل والكفيل فاضطروا إلى القرعة واقترعوا وفاز بها زكريا؛ لأن امرأته أخت حنا ، وكان زكريا وضعها في غرفة مرافقة للمسجد كالمقصورة؛ لتعبد الله، إذ ما خلقت إلا لذلك، وما أرادت أمها إلا أن تعبد الله، فكان إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف فيعجب ويقول: أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37]. استفاد زكريا من هذا أم لا؟ الجوب: ما إن رأى هذا المنظر وهذه المرأة العجب حتى قال: لم لا أدعو الله أن يرزقني ولداً، رغم كوني كبير السن وامرأتي عاقراً، فالله يفعل ما يشاء، قال تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]. لما شاهد العبرة وهو من أهل العبرة اجتاز عليها بعبارة إلى أن يسأل الله الولد وهو في شوق وحاجة إليه، وكان يمنعه من الدعاء كونه كبير السن ولم تجر العادة بابن الثمانين والتسعين والمرأة العاقر العقيم، لكن لما رأى آيات الله وعجائبه في الخلق قال: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا [آل عمران:38].واستجاب الله لدعائه: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39].

تفسير قوله تعالى: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم...)
قال تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [آل عمران:11]. يعني: حال المشركين واليهود ونصارى نجران حالهم كحال فرعون وقومه ومن قبلهم عاد وثمود ذاقوا العذاب.فرعون تبجح تبجحاً ما تبجحته أحد، قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال لرجاله: اصنعوا لنا آلات نطلع إلى السماء نبحث عن إله موسى هذا وإني لأظنه من الكاذبين! وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [القصص:38]. قال العلماء: والله ما قال هذا إلا ليخادع البلهاء والبسطاء وإلا فهو موقن أنه ليس بإله ولا بالله ولا يستطيع أن يصل إلى السماء، لكنه استغفل قومه! وظهرت آيات الله في أخذه وعقابه فألقاه في أعماق البحر هو ورجاله!أين عاد ذات العماد الشداد، الذين قالوا: من أشد منا قوة، سلط الله عليهم ريحاً لسبع ليالي وثمانية أيام فقط فما أبقت منهم أحداً، أصبحوا كالنخيل المحطمة الهابطة في الأرض.وأين ثمود؟ وأين.. وأين؟ أهلكهم الله!إذاً: حال هؤلاء النصارى واليهود والمشركين كحال الأولين: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ . ‏

تكذيب الكافرين بآيات الله
قال: كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا هذه العلة كذبوا ، جحدوا وأنكروا وكفروا بآياتنا. ما هي آيات الله؟ هي العلامات التي أعطاها لرسله؛ ليبينوا بها للناس من هو خالقهم، من الرحيم بهم، من مولاهم وسيدهم سواء كانت التوراة أو الإنجيل، أو كانت المعجزات على أيدي الرسل. أما كذب فرعون وقومه بالآيات؟ بلى تسع آيات عجب، أولها العصا وآخرها انفلاق البحر وما آمنوا، العصا تتحول إلى جان تهتز! وأعظم من هذا: أنهم أقاموا مهرجاناً حضره أهل البلاد من شرقها إلى غربها وهي مباراة وجاء السحرة بحبالهم ونفخوا فيها بالسحر فأصبحت كلها حيات وثعابين، فخاف موسى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:67-69]، فألقها وقال بسم الله ففتحت فاها فدخل ذلك الباطل كله في جوف تلك الحية، إذا بتلك الثعابين المرهوبة كلها تدخل في جوف عصا موسى، وما إن رأى السحرة تلك الحال حتى خروا ساجدين على الأرض، آمنا برب موسى وهارون، ما وسعهم إلا أن يقعوا على الأرض يرتعدون! وهددهم فرعون وأراد وقتلهم وصلّبهم فلم يردهم ذلك عن دينهم! كنا نقول: خبيب العبرة لما صدر حكم أبي سفيان عليه السلام رضي الله عنه في إعدام خبيب أيام كان رئيس الدولة الكافرة، أخرجوه من الحرم؛ لأنه لا يجوز القتل في الحرم -كفار ويؤمنون بهذه النعم- خرجوا به إلى الحل إلى التنعيم، وجاءت الأمة وراءه تتفرج، وخبيب على أعواد المشنقة، فبعثوا خبيراً سياسياً يساومه، فقال له: هل ترضى أن محمداً في مكانك هذا وأنت تطلق الآن وتعود إلى أهلك؟ مساومة، لو قال: نعم أرضى لأطلقوه. ولكنه قال لهم: اسمعوا، والله لا أرضى أن يشاك بشوكة وهو في مكانه الذي هو فيه وأن أعود أنا إلى أهلي، فصلبوه! لكن قبل أن يصدر حكم التنفيذ، قال: اسمحوا لي أن أصلي ركعتين، فسمحوا له بذلك! والآن في سجونكم أيها العرب لو يطلب هذا والله ما يعطوه، لم؟ لأن أولئك كانوا من قديم وبقايا الفطرة السليمة موجودة فيهم، الصدق والوفاء والرحمة والولاء موجود فيهم، تناقلوه، ونحن شاخت الدنيا بنا نحن في آخر عمرنا! فلا تعجب.قال :اتركوني أصلي ركعتين، فتركوه يصلي فقام فتوضأ وصلى وخفف وما أبطأ؛ خاف أن يقولوا: انظروا الخوف من الموت كيف يفعل به! طول الصلاة خوفاً من ساعة الموت! قال: لولا أني خشيت أن تقولوا خاف من الموت فأخذ يطيل الصلاة لأطلتها كما كنت أطيلها وأصلي، لكن دفعاً لهذا الخاطر الباطل استعجلت. فرضي الله عن خبيب وأرضاه! ما سر هذا الصبر والشجاعة؟ يا معشر العقلاء إنه اليقين، ارتفع إيمانه إلى مستوى اليقين.وعندنا مظاهر أخرى: أصحاب الأخدود في نجران، تسرب إليهم الإيمان فآمنوا، وكان الحاكم يهودياً، فحكم عليهم بإحراقهم في النار، واقرءوا: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِين َ شُهُودٌ [البروج:1-7]، فكان يؤتى بالرجل فيقال له: تعود إلى دينك وإلا تلقى في النار؟ فيقول: لا إله إلا الله، فيدفعونه إلى النار، ويؤتى بالمرأة فتسأل: تعودين إلى دين آبائك وأجدادك؟ فتقول: لا، آمنت بالله، فيدفعونها إلى النار! وجاء دور امرأة وفي يديها رضيعها ضمته إلى صدرها وفاه معلق بثديها، فلما وقفت ورأت النار ملتهبة خافت، كيف يحترق هذا الطفل؟ فتأخرت وأحجمت فأنطق الله الطفل الرضيع، وقال: أماه أدخلي من النار إلى الجنة دار السلام.

حلقات الذكر وتدارس كتاب الله هي طريق التغيير
آه متى نؤمن؟ متى نحصل على هذا الإيمان؟ ما الطريق يا أبناء الإسلام؟تعرفون الطريق أم لا؟ الطريق ما قررناه من سنتين أو ثلاث سنين! الطريق هو -اسمعوا! بلغوا! علموا- أن أهل القرية من قرى المسلمين سواء كانت في بلاد العجم أو العرب، القرية ذات العدد المحدود كذا مائة أو ألف نسمة يتعاهدون على أن لا يؤذن المغرب وفي القرية رجل أو امرأة خارج المسجد بأطفالهم ونسائهم! يشتغلون في الفلاحة.. في التجارة إلى الساعة السادسة مساءً، فإذا دقت الساعة السادسة أوقف العمل، وتوضأ، حمل زوجه وأطفاله ونسائه إلى بيت ربه العظيم الجليل، إلى بيت الرب، فيصلون المغرب وكأنهم نسمة واحدة، ولما يفرغون من صلاة المغرب وأداء السنة النافلة ركعتين يجتمعون حول مربٍ عليم يعلمهم الكتاب والحكمة من صلاة المغرب إلى العشاء وهم ساكنون سكوننا هذا يتعلمون الكتاب والحكمة، ويوماً بعد يوم والعام كله وأهل القرية بنسائهم ورجالهم لا يتأخر منهم أحد إلا مريض أو ممرض! أسألكم بالله كيف سيصبح إيمانهم؟ كل يوم يسقونه بماء النور الإلهي فينمو ويزيد فيبلغ درجة اليقين!وفي نفس الوقت لا يبقي كذب ولا خيانة ولا غش ولا خداع ولا سرقة ولا حسد ولا كبر ولا باطل ولا ترف ولا سرف ولا شره ولا طمع أبداً، تنمحي بهذا النور الإلهي وتصبح قرية كأنها كوكب في السماء تنير هذه الأرض! والقرية الأخرى والمدينة، أحياؤها الخمسة أو العشرة أهل كل حي يتعهدون ألا يتخلف رجلاً ولا امرأة من السادسة حتى يصلوا العشاء، ويحضرون كلهم وتغلق أبواب الدكاكين والمقاهي والمعامل، وترمى المساحي وآلات الحرافة، ويجتمعون كلهم في بيت ربهم، فيتعلمون ليلة آية وليلة حديثاً، يتعلمون الكتاب والحكمة، وتزكو أنفسهم وتطيب وتطهر فتتجلى حقائق الإيمان، وتظهر آيات اليقين فينتهي الباطل ويختفي الشر والخبث والظلم والفساد، ويصبحون أولياء الله لو رفعوا أكفهم إلى الله على أن يزيل الجبال والله لأزلاها، ولن يستطيع من على الأرض أن يكيدهم أو يمكر بهم وينجو؛ لأنهم في حماية الله؛ ولأنهم أولياء الله.هل هناك طريق غير هذا؟ والله لا وجود له أبداً، جربوا ما جربتم! الاشتراكية! الديمقراطية! الرأسمالية! العربية! الوطنية! جربوا الخرافات كلها.. المنظمات.. الأحزاب.. الجمعيات.. الطعن.. السب.. الشتم، وبعد دلونا على خير نراه! وسؤالي الآن: هل هذا أمر صعب مستحيل؟ هل هذا أمر تمنعه الحكومات الموجودة الآن في العالم الإسلامي؟ والله ما تمنعه، أقسم بالله، والله سيأتون ويجلسون معكم، ما إن تتجلى تلك الأنوار والحقائق وإذا بهم معنا، فينتهي الظلم، حتى الشرطة تنتهي، ما بقي لها مجال، فكلهم في المسجد! فهيا نطبق هذا؟ ستقولون: لا نستطيع. إذاً: لماذا تتعنترون وتكفرون الحكام وتخرجون عليهم وتقاتلونهم؟ من أجل ماذا؟ من أجل إيجاد الدولة الإسلامية؟ كم سنة وأنتم تقاتلون؟ أين هي؟ لن تكون هذه الدولة إلا إذا كان أفرادها من المؤمنين والمؤمنات.إياكم أن يقول لكم أبو مرة: اسمعوا هذا العميل هذا الذنب ماذا يقول ، والله ليسمعونها ويقولونها، وقالوها وهم أغبياء جهلة لا بصيرة لهم ولا نور ولا هداية.عرفنا أن اليقين هو السبب، أما إيماننا هذا فلا، ما يستطيع أن يترك معصية ألفها، تورط في ربا فلا يستطيع أن يتخلص منه، تورط في حشيشه ما يستطيع أن يتركها، تورط في عقوق أبويه وسبهما فيألف ذلك، ما استفاد، ليس هناك إيمان حقيقي ولا طاقة دافعة.

معنى قوله تعالى: (فأخذهم الله بذنوبهم)
يقول الله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بماذا؟ بِذُنُوبِهِمْ . الذنوب بريد العذاب! الذنوب هي التي تصل بالمذنب إلى عذاب الله في الدنيا والآخرة، هي التي تصل بالعذاب إلى أصحابه! هل تعرفون معنى الذنوب؟نحن مع إخواننا وأبنائنا العوام طول العام نقرب لهم المعاني ويفهمونه وتستنير قلوبهم، لما يجري أمامك حيوان هارب من أين تمسكه؟ من ذنبه. فلا تأتي من أمامه وتأخذه من رأسه، بل تمسكه من موخره، فالله عز وجل يؤاخذ عباده بذنوبهم! ولكن هل يكون هذا قبل أن يذنبوا؟ لا لا، لما يذنبوا يأخذهم بذنوبهم، قال تعالى: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ . والذنوب جمع ذنب وهي المعصية، وترك الطاعة لله عز وجل.وقد يسأل سائل: ما معنى المعصية وترك الطاعة يا شيخ؟ إذا قال لك الله: قف ووقفت أطعت، وإذا قال: اجلس وجلست أطعت، وإذا قال: لا تأكل البرتقال وأكلت عصيت، ما أكلت أطعت، فطاعة الله هي فعل المأمور به، وترك المنهي عنه. لم يؤاخذنا على هذا؟ لأن فعل المأمور يزكي أنفسنا ويطهرها ويسمو بها إلى السماء ودخول الجنة، ومعصيته بترك ما أمر بفعله أو اجتناب ما نهى عنه يخبث نفوسنا ويلطخها فتهبط إلى الدركات السفلى في عالم الشقاء، فهو يأمرنا وينهانا لصالحنا، فوالله ما أمر ولا نهى إلا من أجلنا! وهذا الأب يأمر ولده وينهاه لصالحه أم أنه يريد أن يعذبه؟ لصالحه! إذا نهاه عن مجالسة الضائعين وعن استعمال الدخان أليس من صالحه؟بلى. والله أرحم من الأب بابنه فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ، وإن شئت فقل بسبب ذنوبهم

معنى قوله تعالى: (والله شديد العقاب)
قال الله: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [آل عمران:11]، شديد المعاقبة قويها، يستطيع أن يقلب البلاد ظهراً على باطن، يصيب بالوباء فلا ينجو أحداً، يصيب بالزلازل فيفنون عن آخرهم، يصيب بدولة كافرة يسلطها على تلك الأمة فتذلها وتهينها شديد العقاب أي: عقابه قوي وقاس؛ لأنه الجبار العظيم.

تفسير قوله تعالى: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون...)
قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12] ، فوجه الله تعالى الخطاب لمصطفاه ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: قل يا رسولنا أيها المبلغ عنا، قل لمن؟ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، الله أكبر! قم أنت الآن وبلغ أمريكا والهند والصين والعالم الكفري، قل لهم: والله لتغلبن ولتدخلن جهنم، وتمضي سنة الله فيكم، بلغ عن رسول الله.قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ، بماذا كفروا؟ بالإسلام وأبو أن يعترفوا به دين الله، وما كفروا إلا للحفاظ على أموالهم وأولادهم ومناصبهم، وما كفروا إلا أنه يكلفهم بأن يصلوا ويصوموا ويتصدقوا! أذكركم! لما شاعت وراجت البلشفية الحمراء الشيوعية ووضعوا ذلك المبدأ العجيب الغريب، والذي استساغه البشر من غير أهل القرآن والسنة وهو: (لا إله والحياة مادة). من وضع هذا المبدأ؟ وضعه بنو عمنا اليهود، لا عامة اليهود والدراويش والبهاليل، بل رؤساء ورجالات المأسونية التي تدير دفة العالم في هذه الأيام! قالوا: كيف نهبط بالبشرية وخاصة الصليبين -أعداء اليهودية- والمسلمين؟ قالوا: نوجد لهم مبدأ ننسيهم الله، بالأدلة والبراهين (لا إله والحياة مادة فقط)، وراجت الفكرة ودرست حتى في مدارس بعض العرب، وأظن في الثانوية درسوا نظرية داروين ، وهي تقول: أن الإنسان أصله قرد! أعوذ بالله، أولاد حواء يتناسلون جيلاً بعد جيل خلال هذه القرون، يعرفون أمهم وأباهم فيأتي هذا بخرافة ويقول: أصلك قرد، ويصفق له الهابطون!!لا إله إلا الله! ما انقطعت البشرية قروناً وجاءت من جديد، والله ما انقطعت، من حواء إلى اليوم والبشر يلد بعضهم بعضاً، فكيف يسوغ بيننا أن أصل الإنسان قرد؟! ودفنوا القرد في الأرض وأخرجوا رأسه قالوا هو هذا!! فحاصرهم علماء أوروبا الصليبيون وأخذوا في جلسات خاصة يضغطون عليهم وقالوا وأخيراً: لو نقول: الله لقلتم صلوا، فلهذا لا نقول الله أبداً، فضاغطوهم وحاصروهم: من خلق الكوكب؟ الماء؟ من أنزل كذا؟ أين.. أين.. فشلوا. قالوا: تريدون أن نقول الله، إذا قلنا الله تقولون صلوا، ولذا لا نقول الله، فانكشفت سوءتهم وظهرت عورتهم، وإلى الآن في كل مكان لا ينكر الإسلام إلا المصر على الفسق والباطل والفجور ولا يريد أن يستقيم ولا يطهر، أما منطقياً وعقلياً فلا وجود لمانع أبداً يمنع الإنسان من أن يعترف بأنه مخلوق وأن له خالق وأنه أنزل كتبه وبعث رسله ليتربى ويكمل ويسمو! قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا قل يا رسولنا للذين كفروا سَتُغْلَبُونَ إي والله العظيم وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، وهذا تناول أولاً اليهود من بني النضير فقد انهزموا وتحطموا، وكذا من بني قينقاع وقريظة دفنوا هنا، وآخر المسجد كانت مقبرة لهم، سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، بئس المهاد مهدوه لأنفسهم، مهدوا وأوجدوا لهم عذاباً في عالم الشقاء.

تفسير قوله تعالى: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا...)
قال تعالى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13] . قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ، أي: علامة كالشمس في رابعة النهار فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ، الفئة: الجماعة يفيء بعضها إلى بعض التقتا تلاقيا في ساحة المعركة. أين كان هذا اللقاء؟ والله في بدر. أي بدر؟ هذا ماء في طريق مكة، بئر الذي حفره يقال له: بدر، فسميت القرية به في بدر، فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهي فئة محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وَأُخْرَى فئة ثانية كَافِرَةٌ جاحدة منكرة للخير والكمالات البشرية يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ من تدبير الله عز وجل لما بدأ السيف والرمح في بدر أن المشركين لما نظروا إلى أصحاب الرسول وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فقط نظروا إليهم وأنهم أضعاف منهم ، وقللهم في أعين المؤمنين، فالمؤمنون لما شاهدوهم وهم قرابة الألف قللهم الله فنظروا إليهم فكأنهم أقل منهم، حتى تحتدم المعركة وتسيل الدماء!إذاً: قد كان لكم آية على صدق دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، على صدق هذا الكتاب ورسوله من أن المشركين الكافرين سينهزمون وسيتحطمون وسيئول أمرهم إلى جهنم وبئس المهاد، ها هي آية انظروا إليها يا معشر اليهود في المدينة! لما انهزم المشركون في بدر، بنو قينقاع بدءوا يتبجحون وقالوا: اسمع يا محمد! لا تظن أننا كمن لقيتهم لا يعلمون ولا يعرفون القتال، لو قاتلتنا لعرفت من نحن، تبجحوا، فقال تعالى لهم: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [آل عمران:13] .‏

تأييد الله لعباده المؤمنين بالنصر على الأعداء
قال الله: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:13] منهم الذين يشاء الله تأييدهم؟ بيض أم حمر؟ أغنياء أم فقراء؟ دائماً أنبه السامعين والسامعات إلى أن مشيئة الله قائمة على الحكمة، من يشاء نصرهم؟ أولئك الذين قدموا لله قلوبهم ووجوههم وانتهت آمالهم في دنياهم وأصبحوا لا هم لهم إلا رضا ربهم، هؤلاء الذين أقبلوا على الله هم الذين ينصرهم ويؤيدهم، أما الذين قلوبهم ممزقة هذا ينظر للمرأة وهذا للمال وهذا للوظيفة وهذا للحياة وهذا كذا فهذا التشتت وأهله لا ينصرون، وليسوا أهلاً لنصرة الله. إذاً: تأييد الله يكون للمؤمنين الصادقين الذين أسلموا قلوبهم لله ووجوههم لله. كيف أسلم قلبي لله؟ أنزعه وأعطيه لله؟ ما معنى أسلموا قلوبهم لله؟ قال تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22]، وإسلام القلب لله: أن لا يتقلب قلبك طول العام ولا يدور إلا في طلب رضا الله، حركة القلب ودورانها من أجل الله، لا هم لي إلا أن يرضى الله عني، فهذا هو إسلام القلب لله، وإسلام الوجه فلا تبقى له وجهة يتجه إليها إلا رضا الله وطلب طاعته، فهؤلاء يهديهم الله وينصرهم.

الاعتبار بنصر الله وتأييده لعباده المؤمنين
قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13]، إن في ذلك النصر لأولياء الله والهزيمة لأعدائه عبرة!في هذه الأحداث الجليلة عبرة لأولي الأبصار والبصائر، فمن الآن عرفوا أن لا نصر إلا من الله، فلا يطلبون النصر من الشرق والغرب ولكن يطلبونه من الله، برفع أكفهم إليه بعد استقامت القلوب والوجوه، وبانطراحهم بين يديه، لا هم لهم إلا أن يرضى عنهم، ثم يتحقق النصر! ومن أراد أن يمتحننا يقول لنا: هيا نعود إلى بيت الله من جديد حتى ننمو ونسمو ونكمل أربع سنين فقط إذا دقت الساعة السادسة مساءً لا يبقى رجل ولا امرأة خارج المسجد، الكل يتعلمون الكتاب والحكمة أربع سنين والأمة كلها أولياء لله عز وجل، ومن ثم لو رفعنا أكفنا إلى الله ما ردها صفراً ولا خائبة.

لا حياة ولا هداية بدون القرآن
معشر المستمعين! عرفتم هذا الكلام كلام الله، هذا الذي كنا نقرأه على الموتى قروناً ولا يجتمع عليه ولا يدرس أبداً، ومن فعله كفروه، ووضعوا قاعدة مُرة: (تفسير القرآن صوابه خطأ) أي: إن فسرت وأصبت مراد الله فأنت مخطئ مذنب، (وخطأه كفر)، فكممونا وألجمونا قروناً!قتلونا؛ لأن القرآن هو الروح ولا حياة بدون الروح، القرآن هو النور ولا هداية بدون نور.وسرني أمس أن خطاباً وردني من بهلولة من الصالحات في ديارنا افتتحت الخطاب وتقول: الحمد لله الذي جعل القرآن روحاً لا حياة بدونه، وجعله نوراً لا هداية بدونه! فقلت: كيف وصل هذا الخبر واجتاز عشرات الآلاف؟ آمنا بالله، فحمدنا الله أن هذا الدرس مبارك، ونفع الله به في الشرق والغرب؛ لأنه كلام الله.نعم. لا حياة بدون القرآن ولا هداية بدونه، واقرءوا لذلك قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فهل تطلب أمة حياة بدون القرآن؟ هل تحيا؟ تحيا كالقردة والخنازير ينزل بعضها على بعض، أما حياة الطهر والصفاء والمودة والإخاء والحب والتلاقي والتعاون فوالله لن تتم إلا على القرآن إيماناً به وحفظاً له ودراسة وتعلماً، وتطبيقاً وتنفيذاً لأحكامه! هل تريد أن تهتدي بأمتك أو بشعبك أو بإخوانك أو ببيتك إلى حب الله ورضوانه بدون القرآن؟ والله ما وصلته ولا ظفرت به، فالقرآن هو النور: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، سماه الله نوراً؛ فإن انعدم النور تتخبط في الظلام! والبرهنة على ذلك قاطعة! كيف سلط الله علينا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وهولندا؟ أين ممالك الهند الإسلامية التي حكمت المجموعات من التجار البريطانيين؛ لأنهم هبطوا؟ كيف يسلط الله على أوليائه أعداءه؟ هذا من شأن الله العزيز الحكيم! متنا سلبونا الروح وأبعدونا عن النور فهبطنا فركبوا على أجسادنا وإلى الآن نساق هذا المساق وننتظر يوماً لا تنزل فيه الكوارث والمصائب والويلات، ولا يكون إلا إذا استيقظنا وعدنا إلى الله! وقد يقول قائل: يا شيخ! كيف نعود؟ أمر صعب، مستحيل هذا؟ فأقول له: والله ما هو بصعب والله هو بمستحيل أبداً، فقط ساعتين من كل أربع وعشرين ساعة نبكي بين يدي الرب في بيته، نبكي يوماً بعد يوم فيرفع الله شأننا ويعلي قدرنا ويذهب آلامنا وأحزاننا.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-19, 01:19 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (35)
الحلقة (176)
تفسير سورة آل عمران (38)


لقد أنعم الله عز وجل على أمة الإسلام بأن عصمها بالكتاب والسنة، فمتى ما تمسكت هذه الأمة بكتاب ربها وسنة نبيها حازت الفلاح في الدنيا، والفوز بالجنات في الآخرة، ومتى ما أطاعت أعداء الله الحريصين على إفسادها، فتنكبت طريق الهدايتين، وأعرضت عن سبيل النبراسين أصابتها سنة الله التي لا تتخلف فتاهت في سبل الضلال، وحارت في دياجير العماية والظلام.

التمسك بالقرآن الكريم هو سبب سمو أمة الإسلام وعلوها
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل.وقد عرفتم معشر المستمعين والمستمعات أن القرآن الكريم روح، وأنه لا حياة بدون روح، والقرآن الكريم نور، ولا هداية بدون نور، والماشي في الظلام لا يصل إلى غرضه ولا ينتهي إلى أمله، ولهذا كان الكتاب الكريم والحكمة المحمدية -أي: السنة النبوية-؛ كانا سلم رقي هذه الأمة، وكانا معراج رسولها إلى غاية كمالها. ‏

كيد أعداء الأمة وتآمرهم على القرآن والسنة
لعلكم تذكرون أن عدو هذه الأمة المسلمة تكون من اليهود والمجوس والنصارى، فلما انهزموا في المعارك؛ معارك السيف والسنان، عرفوا سبب سمو هذه الأمة وعلوها؛ وعرفوا سبب رقيها وسيادتها بعد طهرها وصفائها. فقالوا: إنه القرآن والسنة، فاحتالوا ونجحوا، فحولوا القرآن إلى المقابر والأموات، ومن إندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً ومن عدة قرون لا يقرأ القرآن إلا على الموتى، وطلبة القرآن يحفظونه لهذا الغرض؛ ليقرءوه على الموتى.أما السنة فقد أبعدوها، وإن كانوا يقرءونها فللبركة.وقد قلت لكم: إنه كان في هذه الروضة النبوية الشريفة يجتمع أهل الغفلة ويقرءون صحيح البخاري بركة، لا لتعلم الحكمة، ولا لمعرفة الحلال والحرام، ولا الواجب والمندوب، ولكن للبركة، فقطعونا عن سلسلة وحبل وصولنا إلى السماء، وما زالت أمة الإسلام في غفلتها إلى اليوم.

استجابة الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل في تعليم أمة الإسلام
القرآن الكريم هو كتاب الهداية، والسنة النبوية بيان لذلك الكتاب، وشرح هدايته وتفصيلها. وأذكركم بما قاله إبراهيم الخليل وولده إسماعيل وهما يبنيان هذه الكعبة، وإذا بهما يتقاولان الكلمات الآتية: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، وهذه دعوة إبراهيم وولده إسماعيل، وقوله: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ ، أي: في ذرية إسماعيل قبل أن يوجدوا، ابعث فيهم ماذا؟ رَسُولًا مِنْهُمْ ومهمته ما هي؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .وتمضي القرون وتتوالى السنون، ويصبح لإسماعيل مئات الآلاف بل ملايين الذرية، واحتاجوا إلى رسول يعلمهم الكتاب والحكمة، فاستجاب الله لإبراهيم وإسماعيل، وبعث في ذريتهما محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان يجلس لأولاد إسماعيل يعلمهم الكتاب والحكمة ويهذبهم ويزكي أرواحهم.وامتن الله علينا بهذه النعمة في آيتين؛ في آل عمران وفي الجمعة، إذ قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، ومن سورة آل عمران: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164].وسمت أمة الإسلام وعلت وارتفعت، وبلغت مستوى لم تحلم به الدنيا، ولم تعرف البشرية أمة أرقى ولا أسمى ولا أطهر ولا أصفى، ولا أعز ولا أكرم، ولا أعلم ولا أعرف من تلك الأمة، استجابة الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل.
من مظاهر كيد الثالوث الأسود بالمسلمين


تحويل قراءة القرآن إلى الموتى دون الأحياء
عرف العدو المكون من المجوس الذين سقط عرش كسراهم، وأطفئت نار عبادتهم وتأليههم؛ ومن اليهود الذين خابوا وخسروا؛ وذهب أملهم في إعادة مملكتهم؛ ومن النصارى الذين خافوا أن يغمر هذا النور ديارهم؛ فتذهب تلك السيادة والكرامة لقسسهم ورهبانهم، فتضامنوا على إطفاء هذا النور.لكن كيف وصلوا إلى إطفائه؟ بالسحر؟ لا، بالسيف والرمح؟ لا، فما يستطيعون.قالوا: نميتهم، لكن كيف؟قالوا: إن روحهم التي سموا بها وارتفعوا بها وسادوا هي القرآن والحكمة المحمدية المبينة المفصلة الشارحة لكلام الله، فحولوا القرآن إلى المقابر وإلى ليالي العزاء، فإذا مات ميتنا نجمع مجموعة من طلبة القرآن يقرءون على ميتنا من أجل إنقاذه من النار، وتشترى الختمة الواحدة بألف دينار.وانعدم من يقول لأخيه: يا أخي! أسمعني شيئاً من كلام ربي. فلا يوجد هذا أبداً، ولا تمر بجالس في المسجد ويقول: يا أخي! إن كنت مساوياً له في السن، أو يا أبتِ! إن كنت أكبر منه، أو يا ولدي! إن كنت أصغر.. أسمعني شيئاً من كلام ربي.أسألكم بالله: هل حصل هذا فينا؟ ومن صرفنا عن القرآن؟هل بلغكم ما سمعتم، وقد رددت عليكم هذا القول لتحفظوه؛ قالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ، وخطؤه كفر.أي: من يستطيع أن يقول: قال الله إذاً؟فإذا فسر آية وأصاب معناها أخطأ وارتكب خطيئة، ومن يقوى على ارتكاب الخطايا، وإن أخطأ في تفسيرها كفر، ومن يقوى على أن يكفر؟فألجمونا وكمموا أفواهنا، وما بقي من يقول: قال الله.إذاً: ماذا نصنع بالقرآن؟ ماذا نصنع؟نعم أراد الله حفظه وبقاءه، فقالوا: نقرؤه ونحفظه لنقرؤه على الموتى فقط، وأما الأحياء فلا ينتفعون به.وهنا لطيفة عرفناها من أهل العلم: كان حاكم فرنسي في بلد إسلامي في شمال إفريقيا أيام استعمرتنا فرنسا، فاستبدل بحاكم آخر، وفرنسا كغيرها تستبدل الحاكم في الإقليم كل عام أو عامين، فجيء بهذا الحاكم يتجول في المدينة فعثر على الكتاتيب في المسجد يقرءون القرآن فتعجب، وجدهم جالسين على الحصر أو على التراب وفي أيديهم ألواح من خشب، وأقلام من قصب، ومظاهر الفقر والحاجة عليهم، فقال: ما هذا؟ قالوا: يتعلمون القرآن.قال: يتعلمون القرآن! هل أذنت لهم الحكومة؟ وماذا يريدون من هذا التعلم؟! أعجزت الحكومة عن فتح المدارس لتعليمهم وترقيتهم؟ ما عجزت، فإلى المدارس وأغلقوا هذه الكتاتيب فإنها لا تنفعهم. فلمس هذا الحاكم وخاف أن هذا القرآن يعيد الحياة لأمته فخاف.وألهم الله أحد المؤمنين فقال: يا سيادة الرئيس! أبكيت النساء والرجال وآلمت الأمة بقرارك هذا، فهؤلاء يقرءون القرآن من أجل الموتى، فإذا مات ميت يقرءون عليه القرآن، لا لأجل وظيفة ولا عمل ولا سياسة ولا.. فقال: لأجل هذا فقط ؟ قال: إي نعم، قال: إذاً: افتحوا الكتاتيب، فما دام القرآن يقرأ على الموتى فقط فخلوهم وحالهم.فهل عرفنا الطريق وعدنا إلى القرآن؟الجواب: ما زلنا والله يشهد.فهذا القرآن الكريم هو الروح التي بها الحياة، وقد فعل بنا العدو ما فعل وهبطنا.

تشويه ولاية الله في العباد
الكلمة الثانية التي نرددها وهي: من هم أولياء الله يرحمكم الله؟ سيدي عبد القادر ؟ سيدي العيدروس ؟ مولاي إدريس ؟ سيدي عبد الرحمن .. سموا أولياءكم.هؤلاء هم الأولياء؟ إي والله، فقط من مات وبني على قبره قبة ووضع على القبر تابوت من خشب، ووضعت عليه الأزر الحريرية، وأوقدت الشموع ليلة الإثنين والجمعة فهذا ولي الله، وهذا الذي يحلف به، وهذا الذي يستغاث به، وهذا الذي تساق له الأبقار والعجول، وهؤلاء هم الأولياء! فوضعوهم موضع الله عز وجل، فيحلفون بهم كما يحلفون بالله، والله ليجلونهم أعظم من الله، ويخافونهم أعظم مما يخافون الله.لكن: لم فعل الثالوث بهذه الولاية بهذه الطريقة؟ وما السر؟السر عرفت قول الله عز وجل في صحيح البخاري من طريق أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، وفي رواية: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته ) أي: أعلمته، ( بالحرب ) بيني وبينه، ومن يستطيع أن يؤذي ولي الله فيقول فيه كلمة سوء بشتمة أو عدم مبالاة.إذاً: ماذا فعل العدو؟سلبنا ولايتنا أيها الأحياء، ووضعها على الموتى، لم؟ من أجل أن يزني بعضنا بنساء بعضنا .. من أجل أن يسرق أحدنا مال أخيه المؤمن .. من أجل أن يكذب على أخيه المؤمن .. من أجل أن يضربه بعصاه أو ببندقيته.لعلي واهم! أسألكم بالله: ألا يوجد في ديار المسلمين زنا .. سرقة .. كذب .. خداع .. غش .. إزهاق الأرواح .. قتل المؤمنين .. إخافتهم؟!ولو كنا نعتقد أن هؤلاء أولياء الله، فإننا لا نستطيع أن ننظر إليهم فقط بنظر شزر، أو أن نكذب على ولي الله أو نسخر منه، أو نفجر بنسائه.ونحن كما تعرفون نستطيع أن نحلف بالله ولا نقدر على أن نحلف بسيدي فلان تعظيماً وإجلالاً له، حتى إن القضاة في بلاد العالم الإسلامي أصبحوا يُحلِّفون الخصوم بالأولياء ولا يحلفونهم بالله؛ لعلمهم أن هذا الإنسان يحلف بالله سبعين مرة ولا يبالي، ولا يقدر على أن يحلف بسيدي فلان.إذاً: أفقدونا ولاية الله، ونقلوها من الأحياء ووضعوها على الموتى، ومشينا وراءهم، وأكثر من سبعمائة سنة إلى ألف سنة ونحن هكذا؛ وإذا خرجت للسوق تجد هذا يشتم هذا، وهذا يسب هذا، وهذا يعير هذا.. ولا يقوى أن يقول في ولي كلمة، فترتعد فرائصه أبداً ولا يستطيع؛ لأن الولي ميت، وهذا الإنسان حي.وقد قلت لكم: إلى الآن باستثناء الذين سمعوا هذا الهدى؛ لو تسألوا رجلاً عن ولي في قريته فإنه لا يهتدي أبداً إلا إلى ميت، ولا يفهم أن في القرية ذات الخمسة آلاف نسمة بينهم ولي أبداً، ولا ولي إلا الميت المدفون.لكن هل في الإمكان أن نغير وضعنا أو لا نستطيع؟هيا نعود إلى الكتاب والسنة، ونعود إلى معرفة ولاية الله ونحققها في أنفسنا.

كيفية اكتساب ولاية الله
ولاية الله تكتسب بشيئين فقط: الإيمان وتقوى الرحمن، فكل مؤمن تقي هو لله ولي، وأحلف لكم بالله: كل مؤمن تقي هو لله ولي، فيحرم أن تنظر إليه بنظرة شزر، ويحرم عليك أن تمسه بأصبعك إهانة له أو إذلالاً، ويحرم عليك أن تنال من عرضه بكلمة، أو من ماله بفلس واحد، فهو ولي الله، فكيف تؤذي ولي الله! أما تخاف الله؟ ( إن الله ليثأر لأوليائه كما يثأر الأسد الحرب ) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم. فهيا نعود.معشر الأولياء! هل مرتبتكم واحدة أو متفاوتون؟التفاو ت حاصل، ونحن رتب على طريقة الجيوش، فأول ما يدخل الشاب للعسكرية يقال فيه: عسكري، وعام عامين يرتقي إلى جندي أول، ثم ملازم، ثم ملازم أول، ثم رقيب، ثم نقيب، ثم عريف، ثم كذا، ثم جنرالا.وأولياء الله كذلك ليسوا بمرتبة واحدة بل يتفاوتون، لكن ما من مؤمن يتقي الله إلا وهو ولي الله، فيحرم عليك أن تناله بسوء، وإن أبيت إلا أن يعلن الله الحرب عليك فاستعد ولن تفلح ولن تنجح أبداً وأنت تؤذي أولياءه.إذاًً: أولياء الله حصلت لهم هذه المنزلة العالية بشيئين: الإيمان والتقوى. ‏

معنى الإيمان
ما الإيمان يا شيخ؟ هل الإيمان دعوى أن نقول: أنا مؤمن؟ لا.الإيمان اعتقاد جازم قاطع راسخ في القلب بوجود الله لا إله إلا هو ولا رب سواه، واعتقاد جازم قاطع بأن محمداً رسول الله، واعتقاد جازم قاطع بأن كل ما أخبر الله تعالى به أو أخبر به رسوله هو واقع كما أخبر، ويستحيل أن ينتقض هذا هو الإيمان، وهذه هي الطاقة الدافعة، وهذه هي القوى التي تحملك على تقوى الله، فإن ضعفت ضعف تقواك يا عبد الله.

آيات قرآنية تبين صفات أولياء الله
ومن باب تقريب المعاني للمستمعين نعرض عليهم شاشة قرآنية، وهم متعودون على شاشة التلفاز والسينما؛ شاشة قرآنية تشاهدون عليها أولياء الله، فمن رأى نفسه بينهم فليحمد الله وليقل: أنا مؤمن، ومن ظهر في زاوية واختفى في أخرى فليعلم أنه ضعيف الولاية، وليعمل على تحقيق ولايته يا ولي الله، ومن لم يجد نفسه بينهم والله ما هو بمؤمن.مستعدون تشاهدون أو لا؟اسمعوا من سورة الأنفال يقول الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه في الرد على الذين يدعون الإيمان وهم كاذبون، قال جل وعز وتأمل هذه الصيغة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي: بحق وصدق، لا بالادعاء والنطق: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، فإذا كان في يدك خاتم من ذهب استعملته للجهل وعدم العلم، ونظر إليك مؤمن فقال: أي فلان! أما تتق الله كيف تتختم بخاتم الذهب؟! فانظر إذا اهتزت عواطفك واقشعر جلدك وخشيت الله ونزعت الخاتم من يدك فأنت والله لمؤمن، وإن أنت لا قدر الله ضحكت أو سخرت واستهزأت فوالله لا إيمان: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، أما أن يذكر الله فيضحك ويسخر ولا يبالي، ويواصل جريمته المتلبس بها، فوالله ما هو بمؤمن.ثم قال: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] فإذا قرئت عليه الآيات ارتفع منسوب إيمانه، فإذا كانت العقرب تشير إلى مائة وخمسين فإنه يرتفع إلى المائتين والزيادة.وعلى سبيل المثال: إذا قام قائم يعظنا ويذكرنا، ويطلب منا عملاً ما، وقرأ آيات الله عز وجل، فمن هش ورغب وأحب أن يعمل وأخرج من جيبه مطلوباً، دل ذلك على أن إيمانه ارتفع وزاد، وأن إيمانه موجود، والدلالة على وجوده ارتفاع منسوبه. وإن قرأت علينا الآيات أمراً ونهياً لنفعل كذا أو نترك كذا، ولم تحصل أي إجابة، ولا رغبة فينا أن نفعل ولا أن نترك..! فوالله من كانوا هؤلاء فليسوا بمؤمنين؛ لأن الذي أخبر بهذا الخبر هو واضع الإيمان في القلوب: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] فإذا ما ازداد الإيمان فليس بموجود، لابد وأن ينمو ويرتفع.ثم قال: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] أي: يفوضون أمرهم إلى الله، ويقفون إلى جنب الله ولا يبالون بالحياة وما فيها من مهام أو آلام.تريدون صورة واضحة.تقول لأحدهم: يا سيد! أنت والحمد لله في خير وعافية، فلماذا تسمح لزوجتك تشتغل مع الرجال؟ أمن أجل الخبز والماء؟ فالله قد تكفل به، ودع امرأتك في بيتك تربي أولادك وتصون عرضك، وتزيد في كرامتك، وتسعدك بابتسامتها وتقديم حاجتك إليها، وهو خير لك من أن تتركها تشتغل مع البوليس أو مع الشياطين في فندق .. أو متجر .. أو كذا ..لكنه يقول: الحياة تطلبت هذا.فأين التوكل على الله؟ وأين تفويض الأمر إلى الله؟واضح هذه الصورة أو لا؟وقد قلنا لهم في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تزيدوا في تعليم بناتكم على الابتداء فقط، فتتعلم خمس سنوات وتصبح تعرف الله وما يحب وما يكره، وكيف تقدم له المحبوب وتبعد عنه المكروه، وتحقق ولاية الله لها، وما هناك حاجة إلى مدرسة ثانوية وجامعية.قالوا: المستقبل.وهناك فتاة دخلت المتوسطة أو الثانوية فغار أبوها وقال: أخرجوها، وأمها مطلقة من سنين، وأبت أن تسلم له بنته فهو بالطائف وهي بالمدينة، فاستدعاني كقريب لها وجلسنا في البيت ومن وراء الستار، فقلت لها: يا بنيتي! تعلمتي والحمد لله كيف تعبدين ربك وتتقربين إليه، فما هناك حاجة إلى هذا التعليم، فطريقه موصلة إلى الدمار والخراب.فقالت وراء الستار: مستقبلي يا بابا .. مستقبلي يا يابا.ومن علمها هذه الكلمة؟فقلت لها: اسمعي. هذه أمك تسمع، والله من زمن أمك هذه إلى وقت فاطمة الزهراء ما توظفت امرأة مع الرجال ألف وثلاثمائة سنة وزيادة، وأنتِ فقط: مستقبلي يا بابا! إن مستقبلك في بيتك مع زوجك وأولادك، وليس مع التحاكي مع الرجال وطلب الوظيفة.والشاهد عندنا: أين التوكل على الله؟فاترك بنتك في بيتك وقد تعلمت وعرفت خمس سنوات وحفظت من القرآن ما شاء الله ومن السنة ما شاء الله، وعرفت كيف تعبد الله، واتركها في البيت تساعد أمها على تربية أخواتها وإخوانها.لكن الشياطين أرسلهم الثالوث الأسود، وإن شئتم حلفت لكم بالله: إن ذلك الثالوث هو الذي حسن تعليم بنات المؤمنين والزج بهم في مدارس الكليات والجامعات ليفقدن الصلة بالله عز وجل.أين التوكل على الله واحجب ابنتك، وفوض أمرك وأمرها إلى ربك.والآن الذين توظفت نساؤهم استعاضوا عن النساء بالخادمات، لينظر إلى ما لا يحل النظر إليهن، ويجالسه وقد يأكل معه، فانمسخوا، ولم يبق إيمان ولا نور، فعرف هذا العدو وما عرفناه؛ لأننا هجرنا كتاب الله، وسيشكونا رسول الله إلى ربه: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].إذاً أيها المستمعون بينكم متوكلون على الله لا على المحراث، ولا على القلم، ولا على الوظيفة .. على الله فلا نعصيه ونجاهر بالمعصية؛ إذ الأمر له وبيده.ثم قال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الأنفال:3] تعرفون معنى يقيمون الصلاة بحق؟!فإذا قال المؤذن: حي على الصلاة، في منارة القرية أو المدينة، أخذ أهل القرية يلبسون ثيابهم، ويغلقون أبوابهم، وإذا بمظاهرة لم تعرف الدنيا مثلها، فأهل المدينة كلهم مقبلون على الله، ولم يبق دكان مفتوح ولا مقهى، ولا واقف بالباب ولا أحد.. فالكل إلى الله في خمس مظاهرات في الأربع والعشرين ساعة، ولم يتخلف إلا مريض أو ممرض.فهذا هو إقام الصلاة، وهذا هو الذي ينتج الطاقة ويولد النور في النفس؛ ليعرف صاحبها الطريق إلى ربه.ولكن هل هذا موجود في ديار المسلمين؟ الجواب: المؤذن يؤذن وهو يغني، والمؤذن يؤذن وهو يحلق في وجه فحل ولا يبالي. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الأنفال:3] وإقامتها أن تقف على قدميها فلا تميل يميناً ولا شمالاً، وتؤدى في أوقاتها المحددة، وبالصفات والهيئات التي نزل جبريل فعلمها رسول الله والمؤمنين. وهذا مظهر من مظاهر الإيمان الحق.أما أن هذا يصلي وذلك لا يصلي، وهذا يصلي وهذا يغني .. فما أقيمت الصلاة.وأخيراً: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3] فدائماً وأبداً مما رزقناهم ينفقون، فليس الإنفاق مرة في العام أو في الشهر، بل الإنفاق متواصل.فإن قيل: كيف ننفق يا شيخ ونحن كذابون، ودجالون، وسحرة، ومتلصصة وبعضنا يكذب فيقول: إنه جائع وهو شبعان، أو يقول: أنا مدين وهو يشتري الحشيش ويأكلها. كيف نصنع؟أقول: هذا يتلاءم معه ذلكم المنهج الرباني في أن أهل القرية يجتمعون في مسجد قريتهم بنسائهم ورجالهم كل ليلة وطول العام، وعلى مدى الحياة فيتعلمون الكتاب والحكمة، ومن ثم يكونون كلهم علماء صادقون صالحون بررة، فتنتفي كل مظهر من مظاهر الخيانة والكذب والباطل لتعلمهم الكتاب والحكمة.ويجعل صندوق في المحراب من حديد، ويقول المربي: معاشر المستمعين! من زاد ريال عن قوته اليوم يدفعه إلى هذا الصندوق، وهو بين خيارين: إما أن ينمى ويأخذ الفوائد المباركة أو يتركه فقط فماله محفوظ وعند الحاجة يتسلمه، وهذا الصندوق إذا مضى عليه ستة أشهر إذا به يفيض، فإن كان أهل القرية من أهل الزراعة أنشئوا مزرعة ربانية، مزرعة في المسجد، وإن كانوا في بلاد صناعية أنشئوا مصنعاً ولو لإنتاج الملاعق أو الإبر، وسوف يبارك الله في ذلك الصندوق ويدر ويجلب المال.ومن ثم فإن أهل تلك القرية هيهات هيهات أن تجد بينهم عارياً أو جائعاً أو مريضاً بدون علاج ولا دواء، فأمرهم واحد وكأنهم بيت واحد.هنا النفقة أنت تطلبها، وأنت تبحث أين تضعها، للتكاثر والتضامن الإيماني المؤمن أخو المؤمن، المسلم أخو المسلم.والآن تستطيع أن تنفق هذا؟ لا تستطيع، ولا تعرف المحل اللائق، فما عندنا صدق ولا وفاء ولا.. ولا.وأخيراً اسمع هذا الختم الإلهي: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:4]. كيف حال أبنائنا إن شاء الله؟ وجدتم أنفسكم هنا، أو ظهرتم في مكان واختبيتم في آخر.إليكم شاشة أخرى، ولا تقولوا: الشيخ يشجعنا على السينما والتلفاز والفيديو!هذا فقط من باب أنكم عرفتم هذا، وإلا بيتك يا عبد الله لا توجد فيه شاشة تلفاز ولا فيديو.فإن قيل: لم يا شيخ؟أقول لك: أسألك وأجبني: هل وجود التلفاز في بيتك تعرض فيه صور العواهر والكافرين والمجرمين، ينتج لك يومياً عشرة ريالات؟والله ما كان.هل ينمي كل يوم صحتك وصحة أولادك؟الجواب: لا.هل يرضي عنك الله عز وجل؟الجواب: لا.هل يزيد في معارفك وعلومك الإلهية؟والله لا.إذاً النتيجة أن ترحل الملائكة من بيتك وتنزل منازل الشياطين فقط، وإذا نزلت الشياطين ورحلت الملائكة والله لينتشرن الخبث بين أهلك وأولادك، أحببت أم كرهت.لعلي واهم؟ والواقع واضح، فهبطنا والرسول يقول: ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ).وإن قلت: أنا سياسي ومسئول عن الدولة! فاجعل تلفازاً في غرفة المكتب، واحضر ساعات تتلقى فيها لك ذلك قد تؤجر، لكن بيوت المؤمنين والمؤمنات ماذا يستفيدون من تلك المناظر والملاهي والأباطيل.أما قلت لكم: إن الأطفال تعلموا اللواط من طريقها؟ وتعلموا الفجور بواسطتها وهم صبيان.وزادتنا محنة الصحن الهوائي المسمى بالدش، وتكالب عليه إخواننا كأنهم لا يؤمنون بالله؛ إذ كم صحنا وبكينا؟ وصدر إفتاء من رجل ما تكتحل عين الوجود بمثله هذه الأيام، إنه مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز بن باز بحرمة هذا الفيديو. لكن البعض كأنه يتحدى وبعض السطوح فيها أربعة وخمسة صحون، وهذا يدل على إيمان مؤمنون! هذا خرافة.لكن تذكروا: أين ربكم؟ أين الله؟ بالمرصاد إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14].وها هو رسول الله على المنبر يقول: ( إن الله ليملي للظالم ) الإملاء الزيادة في المال والمتعة والحياة ( ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )، وقرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].والمسلمون الآن ألف مليون في الشرق والغرب تحرروا، وفسقوا، فجروا، وفعلوا كل شيء، فهل أنتم آمنون؟ والله ما هي إلا إملاء لله وإمهالاً، ومن يعش سيذكر هذه الكلمة.أنعيش منحرفين عن طريق الله ونسلم، وتقولوا: سلامتنا وشهادتنا..؟ هيهات هيهات.ومن قال: دلل على ما تقول؟أقول: استذلنا الغرب وسادونا أو لا؟ حكمونا أو لا؟ وفعلوا بنا الأعاجيب أو لا؟كيف هذا ونحن مؤمنون؟الجواب: فسقنا عن أمر الله، وخرجنا عن طريق الله، وسنة الله من أكل السم هلك، ولا تتخلف السنن، فإذا خرجنا عن منهج الله نتحطم لا محالة، طال الزمان أو قصر.وأكثر المسلمين ظنوا أنهم لا يخافون الله، ماذا يفعل؟ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14] يرصدنا، وفسر هذا رسول الله ( إن الله ليملي للظالم ) والظالم هو الذي ظلم نفسه فدلاها في مهاوي الشر والخبث والعفونة والفساد.إذاً: الآن عرفتم الطريق إن شاء الله؟ فهيا نحقق ولاية الله.
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ...)


العصمة في الكتاب والسنة
الآية الكريمة ختمها تعالى بقوله: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101] الآية التي نحن بصددها نصها الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:100-101].فإن قيل: يا شيخ! ما تتلى علينا الآيات ولا نسمعها، وما بيننا رسول الله!يا ويلنا إذاً! متى تتلى علينا آيات الله ويكون الرسول فينا؟ إذا اجتمعنا في بيوت ربنا اجتماعنا هذا، نقرأ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] أي: من أين يأتيكم الكفر وأنتم في هذه المناعة وهذه الحصانة العظيمة ويتلى عليكم القرآن، وأنتم أحياء لتتعلموا الطريق إلى الله، وفيكم الرسول يبين ويشرح ويفصل.فالعصمة كل العصمة للأسرة والقرية والعالم الإسلامي في قال الله وقال رسوله، إما أن نخصص وقتاً في الأربعة وعشرين ساعة لنتعلم الكتاب والحكمة، لنزكو ونطهر .. لنسمو ونعلو .. لتنتهي مظاهر الخبث والظلم والشر والفساد، وتتجلى مظاهر العلم والمعرفة والصدق والطهر والصفاء، إما وإما، ولا تفهم أنك حر تعمل ما تشاء، إنما أنت تحت النظارة.

الاعتصام بالله طريق الهداية إلى الصراط المستقيم
ثم قال: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101] هذا خبر، والمخبر هو الله.ماذا يقول؟ يقول: وَمَنْ يَعْتَصِمْ أي: من رجل أو امرأة .. من عربي أو عجمي، في الأولين في الآخرين.. فـ(من) من ألفاظ العموم وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ ونعتصم بالله أي: بحبل الله وهو دينه، ومن يعتصم أي: يأخذ بيديه بشدة وبقوة، فلا ينحرف يميناً ولا شمالاً في عقيدته .. في عبادته .. في سلوكه .. وهذا الذي يعتصم بحبل الله فَقَدْ هُدِيَ من هداه؟ الله، إلى أين؟ إلى طريق الجنة إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: الطريق الموصل إلى دار السلام.عرفتم الآن لما حذرنا من موالاة الكافرين واتخاذهم قادة وهداة، فحذرنا من ذلك وأرشدنا إلى العصمة وهي أن نجتمع على كتاب الله وسنة رسوله طول الحياة، وأخيراً قال واسمعوا أيضاً هذا الخبر: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ [آل عمران:101] أي: يستمسك بدينه .. بحبله الممتد من السماء إلى الأرض، فهذا العبد قد هدي إلى الصراط المستقيم الموصل إلى رضا الله وإلى الجنة دار السلام.ونعتصم بالله بأن: أولاً: يجب أن نعرف العقيدة التي شرعها الله وأحبها لنا، ثانياً: يجب أن نعرف العبادات التي شرعها وكيف نؤديها، وبعد ذلك يمكننا أن نستعصم ونعتصم، أما جاهل لا يعرف عن الله شيء، فكيف يستعصم؟وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-19, 01:23 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (36)
الحلقة (177)
تفسير سورة آل عمران (40)


إن طاعة المؤمنين لأعدائهم من الكافرين سبب لبعدهم عن كتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبعدهم عن هذين المصدرين سبب لضعفهم وذهاب ريحهم، وتسلط عدوهم عليهم؛ لأنهم إنما يقوون باتباع الكتاب والسنة، وتحكيمها في كل شأن من شئونهم الدنيوية والأخروية.

تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي التي سبقتها ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:100-103].

مخططات الأعداء في صرف المسلمين عن القرآن
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! عرفنا بتعريف الله لنا أن الذي يطيع فريقاً من اليهود والنصارى والمشركين والكافرين يردوه عن دينه، لكن الآية خصت أهل الكتاب: اليهود والنصارى؛ لأن اليهود لا يريدون أن يبقى الإسلام ولا المسلمون، يريدون فقط أن يبقى بنو إسرائيل، والنصارى لا يريدون أن يغمرهم نور الإسلام، يريدون الصليب ليسودوا على أممهم الجاهلة ويتحكموا فيها.وقد علم أهل الكتاب أن الإسلام روح لا حياة بدونه، ونور لا هداية بدونه، عرف اليهود والنصارى هذا معرفة يقينية. وقد قررنا -على علم- أن القرآن روح ولا حياة بدون روح، وأن القرآن نور ولا هداية بدون نور، فلما عرف أعداء الإسلام هذا صرفوا أمة الإسلام عن القرآن، ففقدت الروح فماتت، وابتعدت عن النور القرآني فضلت وما اهتدت، وقد علمتم -ولا يخالكم تنسون هذا- أنهم حولوا القرآن ليُقرأ على الموتى، فلا يجتمع اثنان تحت ظل شجرة أو جدار أو سارية في مسجد أو على حصير في بيت ويقول أحدهما للآخر: اقرأ عليّ شيئاً من القرآن. أبداً، وإنما إذا مات أحدنا يؤتى بطلبة القرآن يقرءون عليه ثلاث ليال، سبع ليال، أربعين ليلة.. بحسب غناه وفقره، لا أقل ولا أكثر.فلما أخذوا القرآن وحولوه ليُقرأ على الموتى ماتت وضلت أمة الإسلام، ومن ثَّم أمكنهم أن يسودونا ويحكمونا، ويتحكموا فينا من اندونيسيا التي حكمتها بلجيكا إلى موريتانيا والمغرب التي حكمتهم فرنسا، والشرق الأوسط بكامله لبريطانيا وممالك الهند. كيف حكمونا؟! كيف سادوا علينا؟! كيف ساقونا سوقَ البهائم؟ لأنهم أماتونا أولاً، أخذوا الروح القرآن، ولكنهم ما عرفوا أين يضعونه، فقد تعهد الله بحفظه، حاولوا أن ينتزعوا من القرآن كلمة: (قل) فقط وعقدوا مؤتمرات سرية لذلك فما استطاعوا.إذاً: ماذا يصنعون به؟ حوَّلوه ليُقرأ على الموتى فقط، وما زال المسلمون إلى الآن يقرءون القرآن على الموتى! حتى إن بغياً-زانية-في دار البغاء يُؤتى لها إذا ماتت بأهل القرآن يقرءون عليها في بيتها! وعليه فلا تسألني كيف هبطنا؟! كيف متنا؟! كيف سادنا الشرق والغرب؟! كيف عزَّ اليهود الأذلاء وذل المؤمنون الأعزاء؟! تطلب دليلاً؟ الآن علمتم، ولن يَرُدَّ هذا أحد على الأرض.

وصف الله للقرآن الكريم بأنه روح ونور
قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] أيسميه الله روحاً وهو ليس بروح؟! ممكن؟! مستحيل، أيكذب الله؟! لمَ لم يقل: وكذلك أوحينا إليك قرآناً؟ بل قال: روحاً؛ ليعلِّم البشرية أنه لا حياة بدون القرآن، ومن عاش بدونه عاش حياة البهائم، يأكل ويشرب وينكح، وكل آماله في ذلك لا تخرج عنه.وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8] أي نور أنزله الله؟ والله إنه للقرآن، فهو نور، فالذي حفظه، فهمه، عرفه، عاش عليه، لن يضل أبداً، لن يخطئ طريق الحق أبداً، ولن يتيه في متاهات الحياة والنور بين يديه.

كيد الأعداء للكتاب والسنة
إذاً: عرفتم ما فعل بنا أهل الكتاب؟ لقد أبعدونا عن مصدر حياتنا: الكتاب والسنة. وهل تذكرون أن السنة النبوية -وهي المفسرة للقرآن، المبينة لأحكامه، الشارحة لكلماته- في عصور الهبوط تُقرأ للبركة، يجتمعون في الروضة في المسجد النبوي يدرسون البخاري فقط حدثنا حدثنا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، ولا يسألون عن حكمٍ في الأموال، ولا في السياسة، ولا في الاجتماع، ولا في الحرب، ولا في السلم، ولا في الآداب، ولا في الأخلاق، ولا في العقيدة، ولا في العبادة، أبداً، يسمعون فقط، فإذا فرغوا رفعوا أيديهم يدعون ليحصلوا على بركة دراسة كتاب البخاري!أزيدكم: توجد مؤلفات ومصنفات في الفقه، في العقيدة، لا يوجد فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمَ؟ لأن العدو أراد أن يميتنا، وأن يهبط بنا لنساويه وننزل إلى الدرك الأسفل دونه، فعرفوا الحياة والنور فأبعدونا عنهما فضللنا في متاهات الحياة وإلى الآن.

دعائم الدولة القرآنية الإسلامية
يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] من يقول: لا يا رب؟! أعوذ بالله، إن الواقع شاهد، ثم لمَ لما استقل العالم الإسلامي عن مستعمريه في الشرق والغرب ما طبق شريعة الله؟ من يقف ويدلل ويبرهن؟إن قلت: قد جهلوها فكيف يطبقونها؟! قلنا: الدولة القرآنية الإسلامية تقوم على ثلاثة دعائم يعرفها النساء والرجال والصبيان والعلماء والجهال، وهي بعض آية فقط من القرآن الكريم، إذ إن القرآن الكريم يحتوي على ستة آلاف آية ومائتين وأربعين، كل آية علامة أكثر من الشمس تدل على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وسميت الآية آية أو علامة -لا فرق بين آية وعلامة- لتدل على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، جاء ذلك في سورة الحج المدنية المكية، إذ بعضها مكي وبعضها مدني، جاء فيها قول الله عز وجل: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] ما معنى: مكناهم في الأرض؟ سوَّدنهم، حكَّمناهم، أصبحوا حاكمين سائدين في الأرض. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] ماذا فعلوا؟ الذي عاصرناه مع آبائكم أيام استقلالاتكم، أنه إذا تم الاستقلال ماذا نصنع؟! حفلات الرقص، والاختلاط، وشرب الخمر، والكذب، والصياعة، فهذه هي حفلات الاستقلال!!وأنتم لا تعرفون لأنكم أحداث، لكن كبار السن يعرفون حفلات رقص الاستقلال، والله يقول: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41] أي: أزمِّة الأمور بيد الله.فأيما إقليم يستقل عن الاستعمار، وتتكوَّن فيه دولة، هذه الدولة إن لم تقم على هذه القواعد الثلاث والله ما سعد أهلها، ولا طابت حياتهم، ولا كمُلوا، بل يسلبها الله في يوم ما من الأيام، فبلغوا أن هذا الشيخ الكبير في المدينة يعلن طول العام على أن محنة يقترب منها العالم الإسلامي وتقترب منه، وهي والله لأشد مرارة من الاستعمار، إلا أن ينقذنا الله بتوبة صادقة في أربع وعشرين ساعة، أمَا لو نستمر هكذا معرضين عن الله، عن ذكر الله، عن عبادته، نستحل ما حرم، ونستبيح ما منع، ونترك الواجبات، ونتخلى عن المسئوليات، وكأن الله لا وجود له، مع علمنا أن الله بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِا لْمِرْصَادِ [الفجر:14]، أتعرفون الرَصَد؟ يجلس فيه الرجل ويطلع على كل ما يجري.وعليه؛ فإما أن يتوب المسلمون -في أي بلد- ويرجعون إلى الله، فيكتب لهم المناعة، ويسودهم ويعزهم، وإما أن تستمر الحال هكذا حتى تدق ساعة سنة الله تعالى، فلله سنناً لا تتبدل ولا تتغير لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].

حكم وفوائد إقامة الصلاة
ما المانع أن نعود ونحن قادرون على العودة؟! يصدر قرار حكومي، جمهوري، ملكي، سلطاني: أنه لا يتخلف عن الصلاة جندي عسكري ولا مدني، فإذا دقت الساعة وأذن المؤذن تقف الحياة كلها، وتُقبل الأمة على ربها-ولهذا خلقت-فإذا قضيت الصلاة انتشر المؤمنون في الأرض ينتجون ويوجدون ويصنعون، فوالله لو أقيمت الصلاة بهذه الطريقة لاختفى الظلم، والفسق، والفجور، والكذب، والخيانة، والشر، والفساد تلقائياً.ولنقرأ لذلك قول الله تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، وكأن سائل يقول: لمَ؟ ما فائدة إقامة الصلاة؟ فكان الجواب بالعلة: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] الصلاة إذا أقامها العبد أو الأمة من شأنها أو من خواصها أنها تمنعه من أن يأتي الفواحش أو يرتكب المنكرات، وعندنا مثل -نكرره- على ذلك وهو: لو مشينا في أي بلد إسلامي إلى المحافظ، أو مدير الشرطة والأمن، ونقول: يا سيادة الرئيس أعطنا قائمة بالجرائم التي ارتكبت في هذا الأسبوع أو في هذا الشهر، هذا زنى، وهذا سرق، وهذا ضرب أمه، وهذا لعن أباه.. وتُرفع القضية قطعاً للشرطة، فهي مدونة عندهم، فأعطانا القائمة، وأنا أقول لكم: والله لن تجد نسبة أكثر من 5% من أصحاب الجرائم من مقيمي الصلاة، و95% من تارك الصلاة ومن المصلين الذين ما أقاموا الصلاة، وهذا الكلام كررته أربعين سنة وزيادة، فهل وجد من نقضه فذهب إلى مدير الشرطة وقال: أعطنا قائمة بالمجرمين لهذا الأسبوع، ووجد أكثر من 5% من مقيمي الصلاة؟! إن سنة الله لا تتخلف، فالطعام يشبع أو لا؟ الماء يروي العطشان أو لا؟ الحديد يقطع أو لا؟ النار تحرق أو لا؟ الجواب: نعم، وإقام الصلاة سنة من سنن الله لن تتخلف، والمقيم للصلاة لا يأتي الفواحش ولا يرتكب المنكر.وإن سألت عن العلة سؤال فلسفة: إقام الصلاة عملية لتوليد الطاقة، عملية لتوليد النور، فهي كمولدات الكهرباء، إذا أُديت أداء صحيحاً في أوقاتها المحددة بشروطها وأركانها فلن تتخلف عن إنتاجها، بل تنتج النور يغمر قلب الإنسان، فيظهر على سمعه، على بصره، على لسانه، على جوارحه، والذي ما صلى من أين يأتيه النور حتى يعرف قبح الجريمة وسوء المنكر؟! والذي صلى وما أقامها حق إقامتها، وما حسَّنها فما ولَّدت وأنتجت؟! الفقيه يقول: صلاته باطلة، فمثلاً: صلى أحدنا المغرب ركعتين فقط، هل يقول له فقيه: صلاتك صحيحة؟! لا، وإنما يقول له: أعد صلاتك، فصلاتك باطلة، ولو أنه قال: أنا سأصلي المغرب أربع ركعات، فأنا في صحة وعافية، وقال: لمَ لا نزيد ركعة؟! فصلى المغرب أربع ركعات تفضلاً منه، فهل تجد فقيهاً يقول له: صلاتك صحيحة؟ لا والله، بل صلاته باطلة، فالفقيه يقول: باطلة، ونحن نقول الليلة ماذا؟! يا سامعيّ! ماذا نقول؟ ما أنتجت النور المطلوب منها، فهي عملية فاسدة، ما ولَّدت الحسنات، فيبقى القلب في ظلمة، وتنتشر الظلمة ودخنه على جوارحه، فيسمع الباطل ويرضى به، وينظر إلى الحرام ويتلذذ به، وينطق بالسوء ويجد له لذة وراحة، ويمشي على قدميه إلى الباطل ولا يتعجب؛ لأنه فاقد للنور، واسمعوا حتى أبرهن لكم: حديث البخاري، وهو حديث قدسي، أي: من كلام الله أوحاه إلى رسول الله، خارجاً عن القرآن، أي: ما هو في القرآن، وبالتالي فكلام الله: القرآن والحديث القدسي الذي يأتي به جبريل إلى رسول الله، أو يلقي الله في روع رسول الله فيفهم عنه، فهذا هو الحديث القدسي، وإليكم نصه:يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) يا ويح من يسرق أموال المؤمنين! من يفجر بنسائهم! من يسفك دماءهم! من يأكل لحومهم! من يحتقرهم ويزدريهم، أو يهينهم ويذلهم! على شرط أن يكونوا أولياء الله، أما إذا كانوا أعداء الله فافعل فلا حماية ولا مناعة، إنما هذه المناعة لأولياء الله تعالى فقط.والدليل على ذلك: أن قومك في بلادك لا يذكرون ولياً بسوء أبداً، ولا يستهينون به ولا بضريحه ولا بقبره، مع العلم أنه قد يكون ليس بولي، لكن استقر في أذهان المؤمنين على أن أولياء الله هم الذين ماتوا وضربت عليهم القباب، ووضعت عليهم التوابيت، ووضع عليها الأُزر الحريرية، ووقدت الشموع.. والآن لا ندري هل هناك شموع أو كهرباء؟ كنا نعرف إضاءة الشمع على قبر السيد ليلة الإثنين، ليلة الخميس والجمعة، وكأنه يبيت يقرأ على الشمعة! أمة هابطة، ميت تجعل له شمعة في قبره! ماذا يصنع؟ لا إله إلا الله! كالذي يضع له قصعة من الثريد! هل يأكل منها؟! ومثله الذي يقرأ عليه حزباً وحزبين من القرآن! هل يقوم يتفكر فيها؟! يتدبرها؟! لا إله إلا الله! وصلنا إلى هذا؟ إي والله.من فعل بنا هذا؟ إنه الثالوث الأسود المكون من اليهود والمجوس والنصارى، واسأل إذاعة بريطانيا عن هذا الثالوث الذي عزم على أن يطفئ نور الله؛ لأن هذا النور أضاء الدنيا، وهم يحبون الظلام ليعيشوا فيه، ما يريدون الحق ولا العدل ولا الطهر ولا الصفاء ولا الكمال.يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) أي: أعلنت الحرب عليه، فأسألكم بالله، هل الذي يحارب الله ينتصر عليه؟! هل ينكسر وينهزم ويتمزق؟ لا. وإن آذيت أولياء الله -طال الزمان أو قصر- والله لتتحطمن، فالحرب معلنة إلا أن تتوب، وهذا أمر مشاهد بالعيون.وقوله: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ) فتح لكم الباب أيها الطلاب لتدخلوا إلى قصر الولاية فتتخرجوا منها أولياء أفضل من عبد القادر، وسيدي أحمد فقال: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء )، أي: يتزلَّف ويتملَّق حتى يحبه سيده، والعوام يعرفون هذا فيما بينهم، فإذا أراد أن يحصل على شيء من عندك يأتي إليك فيصلح لك نعلك مثلاً، أو يتقرب إليك، أو يشكرك، ويقول لك: أنت سيد، أنت كذا، سمعنا عنك كذا وكذا.. حتى يستميلك، ولكنهم لا يعرفون التملق إلى الله. ستقول لي: يا شيخ! علماؤكم ما عرفوا هذا حتى يعرفه العوام؟ فأقول: التزلف إلى الله والتملق ولو بذكره.قوله: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ) لا أفضل من الفرائض أبداً، فيا من يريد أن يتملق إلى الله ليحبه ويواليه، الفرائض أعظم من النوافل بسبعين مرة، والغافلون يستهينون بالفريضة ويعبثون بها، ويتقربون ليلة كاملة بالنوافل وهي لا تنفع، ولذا فاعلم الفرائض، واعرف كيف تؤديها، واعرف أوقاتها وشروطها.. وتقرب بها إلى الله، فإنك ما تقربت بشيء أفضل منها.( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) تأملوا إماء الله وعبيد الله ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل ) أي: بعد أداء الفرائض، ( حتى أحبه )، فإذا أحبك الله نم فالمخاوف كلهن أمان، إذا أحبك عصمك فلا يرضى أن تتلوث ولو بكلمة سوء، فإن الله طيب لا يقبل إلا الطيبين، إذا قربك وأدناك وأصبحت وليه حفظك من التلوث، بل لن تتلوث أبدأ.إذاً: ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) كم سنة؟ كم شهراً؟ ما يزال يتقرب يوماً بعد يوم، شهراً بعد آخر، عاماً بعد عام ( حتى أحبه ).ونضرب المثل بالمعتاد، فقد بينا لكم في السابق أن ولاية الله أهلها يتفاوتون فيها، إذ إن كل الحاضرين أولياء الله، لكن مستواهم غير واحد.وقلنا: إن أصحاب رسول الله رضي الله عنهم ليس مستواهم واحداً، فـأبو بكر أفضلهم، ولكن الولاية ولاية، فمن آمن واتقى فهو ولي الله.كما ضربنا مثلاً بالرتب في الجيش، فهذا عسكري، وهذا ملازم أول، وهذا عريف، وهذا عقيد، إلى عشرة أو عشرين جنرالاً، عرفتم هذا أو لا؟ فهل بالإمكان أنك من أول أسبوع تدخل الجيش فتصبح جنرالاً؟ لا، إلا أن يشاء الله، فيهيئك تهيئة خاصة في أمر ما.قال: ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل ) يوماً بعد يوم ( حتى أحبه )، هنا أحببت أن أقول: من الجائز أن يُدخل عبد الله في طلب رضا الله وحب الله شهرين أو ثلاثة أو أربعة وإذا هو ولي الله، قد أحبه الله، وقد يعمل في هذا الشأن عشرين سنة حتى يظفر، وذلك لقصوره ولعدم أدائه هذه العبادات على وجهها، ولهذا قال: ( وما يزال -يوماً بعد يوم- يتقرب إليّ -أي: بأداء الفرائض والنوافل- حتى أحبه ) .وهنا معاشر المستمعين والمستمعات! من منكم يرغب أن يعرف هل أحبه الله أو لا؟ لو أجد من يخبرني أن الله يحبني لكدت أطير من الفرح؛ لأن من أحبه الله أمّنه، وحاشا لله أن يعذب أولياءه.أيها المتسابقون! أيها المتنافسون! هل منكم من عرف أنه أُحب أو لا؟ من يرغب أن يعرف؟ قولوا: كلنا، أو لستم في حاجة إلى هذا؟ نعوذ بالله.اسمع كلامه تعالى يبين لنا ويعرفنا الطريق، يقول: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به )، إذا وجدتَ نفسك يا بني أو يا أُخيّ لا تستطيع أن تسمع ما يغضب الله، وترتاح وتسعد لسماع ما يحب الله فاعلم أنك وصلت، وبالتالي فهؤلاء إذا سمعوا كلام الله، كلام رسول الله، كلام الحق، كلام الخير، كلام المعروف يرتاحون ويصغون ويسمعون ويطيب لهم المجلس، وإذا سمعوا كلمة منكرة، كغيبة، أو نميمة، أو أغان، أو أصوات عاهرات.. لا يستطيعون أن يجلسوا، وإنما يأخذون نعالهم ويخرجون، بل والله ليغلقون آذانهم، وكأنهم مدفوعون إلى هذا؛ لأن الله أحبهم، ومن أحبه الله لا يرضى له أن يلوث روحه بسماع الغيبة والباطل والكذب والسب، وهذه الحقيقة-والله-نسلٍّم بها كما علمتم.قال: ( وكنت بصره الذي يبصر به ) الولي أن ينظر إلى المؤمن فيرتاح، ينظر إلى أمه، إلى زوجته، إلى أولاده، إلى أقاربه.. فيسعد بالنظر إليهم، ولا يستطيع أن ينظر إلى امرأة لا تحل له؛ لأنه يشعر وكأن اللهب في وجهه، فلا يشعر إلا وقد طأطأ رأسه وأغمض عينيه، لأن الله أحبه، فلا يتركه يتلوث ويتلطخ بالآثام والجرائم وهو حبيب الله، وإنما يحفظه من ذلك، وجرب ذلك في نفسك، فإذا وجدتَ أنك لا تقوى على أن تسمع الباطل، ولا أن تنظر إلى الحرام، فاعلم أنك قُبلت من يوم ما أصبحت هكذا.قال: ( وكنت لسانه الذي ينطق به )، فملك الله سمعك فلا يسخره إلا في رضاه، وملك بصرك فلا يسخره إلا في رضاه، وملك لسانك فلا تستطيع أن تنطق إلا بما يحب، فتجلس مع أخيك-ولي الله-عاماً وعامين ما تسمع كلمة سوء أبداً، ما ينطق بها، من عصمه؟ من حفظه؟ إنه الله؛ لأنه تقرب إليه حتى قبله ورضي عنه وأحبه، فهنا يحفظه حتى لا يتلوث، وإن زلت القدم ووقع الشيطان عليه، ووضع عصابة سوداء على عينيه، وارتكب يوماً ذنباً من الذنوب، فإنه يلهم على الفور أن يستغفر الله، ويندم ويتألم ويحزن حتى يزول ذلك الأثر، وتبقى الولاية ثابتة.قوله: ( وكنت يده التي يبطش بها ) الأبطال يختطفون الفارس من على صهوة جواده على الأرض ويأخذون القنطار ويرفعونه، والله لا يستطيعون أن يتناولون بأيديهم كأس خمر، ولا يستطيعون أن يمسوه بأيديهم أو يلطمون وجه مؤمن؛ لأن يده ملكها الله، فلا يستخدمها إلا فيما يرضيه ويحبه ( وكنت يده التي يبطش بها )، فإذا ملك يدك سخرها فيما يحب لا فيما يسخط.قوله: ( وكنت رجله التي يمشي بها )، قد عرفنا أيام كنا مع العوام يعجز الرجل أن يمشي مائة خطوة إلى المسجد، فيصلي في بيته، لكن إن أُعلن عن حفل غناء ورقص أو عرس ووليمة، فإنه يمشي عشرة كيلو أو عشرين كيلو! فانظر العجب؛ لأن الله ما ملك رجله، وإنما ملكها الشيطان، فيدفعه إلى حيث يغضب الله جل جلاله، ولا يدفعه حيث يرضى الله جل جلاله.وأخيراً يقول الله تعالى: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني ) أي: طلب الحفظ ( لأعيذنه، ولئن استنصرني لأنصرنه )، وأعظم من ذاك وذا ( وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ) لا إله إلا الله! أبشروا يا أولياء الله، يعلم أن وليه يكره الموت وهو لا يريد أن يؤذي وليه، ولكن لا بد من الموت ( وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته )، هذا سبب التردد. إذاً: هنيئاً لكم يا أولياء الله. عرفتم الطريق إلى الولاية، فزكِ نفسك يا عبد الله وطيبها وطهرها بأنواع العبادات، فإذا طابت وطهرت قبلك الله ووالاك، وإذا مت أنزلك بجواره.أما الروح الخبيثة العفنة المنتنة بأوضار الذنوب، والآثام، والشرك، والكفر، والربا، والزنا، وقتل النفس، والغيبة، والنميمة، والحسد، والكبر.. فهذه الظلمات صاحبها ما يرقى إلى السماء، ولا ترفع روحه إلى الله.والدليل على ما نقول: قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فهذا حكم الله صادر علينا، فهل هناك من يعقب على الله ويبطل حكمه؟! أمَا قال في سورة الرعد: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]؟ أيما قاضٍ يصدر قضاء أو حكماً قد يعقَّب عليه، قد يخطئ أو يجهل أو ينسى، أما الله فمن يعقب عليه؟! قَدْ أَفْلَحَ [الشمس:9] ما معنى: أفلح؟ التجار يعرفونه في تجارتهم، في مزارعهم، ألا وهو بمعنى: فاز ونجا من المرهوب وظفر بالمرغوب المحبوب. واسمع إلى حال أصحاب الأرواح الخبيثة التي سببها الكفر والتكذيب وعدم العمل بما تطهر عليه النفس، جاء في آية من سورة الأعراف ما ننساها: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]. وسم الخياط: الإبرة التي لها ثقب يدخل فيه الخيط، ذاك سم الخياط، فهل البعير أو الجمل الأورق يستطيع أن يدخل في عين الإبرة؟! مستحيل. إذاً: فصاحب الروح الخبيثة مستحيل أن يدخل دار السلام، إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40] يعني: لأرواحهم، فالروح لما تقبض يعرجون بها إلى السماء فتغلق الأبواب في وجهها وتهبط إلى الأسفل وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، الذين أجرموا على أنفسهم، فصبوا عليها أطنان الذنوب والآثام فنتنت وتعفنت، وما أصبحت أهلاً للملكوت الأعلى لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ فراش وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ أي: أغطية، فالنار فراشهم وغطاؤهم وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41] هذا جزاء الظالمين أرضاً، الذين ظلموا أنفسهم الطيبة الطاهرة وهم صبية وغلاماناً، فلما بلغوا وأصبحوا مكلفين أخذ يصبون عليها أطنان الذنوب والآثام ظلماً لها، فخبثت وأنتنت وتعفنت، فلن يرضاها الله ولا نحن أيضاً.والآن لو يجيئنا فحل يلبس ثياب ملطخة بالقيح والدماء، والرائحة المنتنة، فهل نفسح له في المجلس؟ لا، وإنما نقول له: اذهب يا نجس، اخرج، فكذلك دار السلام دار الطهر والصفاء، لا يدخلها -والله- إلا الطيبون الأطهار الأصفياء، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

الطريق إلى ولاية الله تعالى
معاشر المستمعين! هذه ذكرى لا ننساها، فلو قيل لنا: كيف نرجع إلى الله وقد غشينا الظلم والفسق والفجور، وخرجنا عن عبادة الله وطاعته، وتهنا في متاهات الحياة؟ ما الطريق؟ دلونا؟ تقولون على علم: لن تستطيع يا عبد الله أن تستقيم على منهج الله إلا إذا عرفت الله، وعرفت ما يحب وما يكره، وعرفت كيف تتملق وتتزلف إليه بأداء ذلك المحبوب، والبعد وترك ذلك المبغوض المكروه، فلا طريق إلا العلم، وكلمة إبراهيم وإسماعيل ما ننساها: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فهل استجاب الله أو لا؟ نعم، استجاب في ذرية محمد وإسماعيل، وأصبحت تلك الأمة مضرب المثل في الكمال ثلاثة قرون، ثلاثة أجيال، ثم تسلط عليها الثالوث فهبط بها.فهيا نعد، فلا طريق إلا أن نعود إلى بيوت الله بنسائنا وأطفالنا، في جامع القرية أو الحي، وذلك كل ليلة من غروب الشمس إلى أن نفرغ من صلاة العشاء، فنحفظ آية من كتاب الله بعد أن نتغنى بها وتدخل كلها في قلوبنا، ثم يبين لنا المربي العليم الحكيم مراد الله منها، ثم العمل والتطبيق بها، يوماً آية ويوماً حديثاً، وعند ذلك سنة ويتغير وضع البلاد تماماً، ويصبح أهل القرية كلهم أولياء الله، حتى لو أنهم رفعوا أيديهم على أن يُزيل الله الجبال لأزالها.. على أن يدمر عدوهم لدمره، أما قال الله: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه )؟أرأيتم أهل إقليم -مدنهم وقراهم- قالوا: الآن نعود إلى الله، وعادوا إلى تعلم الكتاب والحكمة في صدق، وأخذوا يتعلمون ويعملون، سنة أو سنتين فقط، كيف يصبحون؟ لاشك أنهم سيصبحون أولياء الله كالملائكة، وتهجرهم الشياطين من الإنس والجن. وإن أردت التفصيل: فوالله ما يبقى فقر، ولا هون، ولا دون، ولا ذلة، ولا مسكنة، ولا ظلم، ولا خبث، ولا شر، ولا فساد أبداً.. يصبحون فاعلين، يبحثون في الأرض ويخرجون كنوزها، ويزرعون فينبت النبت، وتنزل بركات السماء بدون أن يتكلفوا شيئاً، فقط قالوا: نرجع إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحقق دعوة إبراهيم وإسماعيل، فيؤذن للمغرب فتأتي إلى القرية فلا تجد رجلاً ولا امرأة إلا في المسجد، دقت الساعة السادسة في المدينة فلا تجد أبداً إلا من هو يهرع إلى بيت الله، يتعلمون العلم الحقيقي: قال الله، قال رسوله، ويتدرجون في التطبيق والعمل، وبالتالي فمستحيل أن يبقوا فجرة أو فسقة أو مجرمين، سنة الله لا تتبدل.هذه هي الدعوة فقوموا بها، والعودة العودة والإنابة والتوبة الصادقة إلى الله.لما نجتمع في المسجد كلنا هل يبقى فينا من يقول: سامحوني أنا مالكي؟ هل سيوجد من يقول هذا الكلام؟ يستحي.هل سيوجد من يقول: أنا حنفي؟ هل يبقى من يقول: أنا زيدي؟ أنا أباضي؟! لا وجود لهذا، وإنما قال الله قال رسوله، أصبحنا أمة واحدة كما أراد الله، فالبعد عن الكتاب والسنة هو الذي مزقنا فرقاً وأحزاباً وجماعات. وهل يبقى بين الربانيين من يقول: هذا وطنه كذا وهذا كذا، وهم أمة واحدة؟!لا. يا حجاج بيت الله! يا وافديّ المسجد النبوي! هل علمتم هذا؟ ادعوا بهذا وبلغونا نزوركم، نزور هذه القرية التي إذا دقت الساعة السادسة أقبلوا على بيت الله، وهم مجتمعون بنسائهم وأطفالهم يتعلمون الكتاب والحكمة، ومن أراد أن يدلل نقول له: أهل قريتك أعلمهم بالله أتقاهم لله، أليس كذلك؟ بلى، فهل عرفتم علماء ربانيين زناة؟ لائطين؟ مرابين؟ خونة؟ والله ما كان، بل أعلمنا هم أطهرنا، فلا سبيل إلى الطهر والصفاء إلا هذا العلم فقط، العلم الجاد الصادق، نجلس في بيت ربنا نستمطر رحمته، ونطلب هداه ومعرفته، فاذكروا هذا ولا تنسوه.وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-24, 04:31 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (37)
الحلقة (178)
تفسير سورة آل عمران (42)


تقوى الله عز وجل سبب كل فلاح، فلابد للعبد أن يتقي الله حق تقواه، باتباع ما أمر به سبحانه، وما أمر به رسوله صلوات الله وسلامه عليه، واجتناب ما نهى عنه سبحانه، وما نهى عنه رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وبذلك يتحقق لهم الإيمان الحق الذي امتدحهم الله سبحانه وتعالى به في مواطن كثيرة من كتابه العزيز.

تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع نداء من نداءات الرحمن لأهل الإيمان، والنداء من سورة آل عمران، ونصه بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].

الحكمة من مناداة الله لعباده المؤمنين
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قد سبق أن علمتم-زادني الله وإياكم علماً-أن الله جل جلاله وعظم سلطانه لا ينادي عباده المؤمنين إلا لواحدة من أربع: إما ليأمرهم باعتقادي أو قولي أو فعلي، ما من شأنه أن يزكي نفوسهم ويطهر أرواحهم؛ لتستوجب رضاه والنزول بجواره، أو يناديهم لينهاهم عما من شأنه أن يُخبِّث نفوسهم، فيدنو من سخط الله وغضبه. وما ينهاهم عنه فقد يكون اعتقاداً باطلاً، أو قولاً سيئاً، أو عملاً فاسداً، إذ هم أولياؤه وهو مولاهم ووليهم، ولا يرضى لهم أبداً أن يتلوثوا، أن تتعفن أرواحهم فتصبح كأرواح الشياطين، فيلعنها بعد أن يسخط عليها، ويبعدها من ساحته، أو يناديهم ليبشرهم بما من شأنه أن يزيد في إيمانهم وأعمالهم الصالحة، أو يناديهم ليحذرهم، لينذرهم من مخاوف، من عقائد أو سلوك أو عمل، من شأنه أن يغضبه عليهم، وهم أولياؤه وهو وليهم، فلا يرضى لهم أبداً أن يخبثوا ويتلوثوا، أو يناديهم ليعلمهم العلم النافع لهم، ذاك العلم الذي هو نور يهتدون به إلى ما يحقق لهم إرضاء ربهم عز وجل عنهم، هكذا عرفنا فلا ننسى هذا.

نعمة الإيمان سبب لمناداة الله لنا
وشيء آخر يا معشر الأبناء والإخوان! ويا مؤمنات! من نحن حتى ينادينا رب السموات والأرض وما بينهما، الذي خلق الخلائق كلها، الذي أدار الأفلاك كلها، الذي بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير، الغني الذي كل شيء مفتقر إليه وهو غني عما سواه؟! من نحن حتى ينادينا؟! كيف أصبحنا أهلاً لأن ينادينا؟! الجواب: إنها نعمة الإيمان، لما آمنا به وعرفناه، وأحببناه ورغبنا في جواره وما عنده أحبنا، ولذلك ينادينا ليأمرنا أو ينهانا، ليبشرنا أو ينذرنا، ليعلمنا ما نحن في حاجة إلى معرفته والعلم به، فقولوا: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.

مناداة الله لعباده المؤمنين بأن يتقوه حق تقواه
نادانا في هذا النداء ليأمرنا أولاً: بتقواه عز وجل حق التقوى، نادانا بعنوان الإيمان؛ لأننا مؤمنون، والمؤمنون أحياء يسمعون ويبصرون، يعقلون ويفهمون، يقدرون على الأخذ والعطاء، على الفعل والترك، أما الكافر فهو ميت، وهل الميت ينادى؟! وهل إذا نوديَ يسمع؟ وإذا أُمر يفعل؟ وإذا نهي ينتهي؟ الجواب: لا، وإنما ينادى الحي.وقد تذكرون برهنة هذا وقد تنسونها، كيف تفرقون بين حياة المؤمن والكافر؟ هل تذكرون ما علمتم؟ أن أهل الذمة من أهل الكتاب والمجوس في ديارنا لا نأمرهم بالصلاة، ولا نأمرهم بالصيام، ولا نأمرهم بالزكاة، ولا نأمرهم بالحج، ولا نأمرهم بالجهاد، ولا بالرباط، ولا بالصدقات، لماذا؟ خوفاً منهم؟! أليسوا تحت رايتنا ونحن السائدون؟! لمَ لا نأمرهم وننهاهم؟ لأنهم أموات، أتأمر ميتاً؟! كيف يعقل هذا؟! فإذا نفخنا فيه الروح وحيي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فمُره بالغسل يغتسل، مره بالصلاة يصلي، انهه عن الخمر وما يتعاطاه من المحرمات ينتهي؛ لأنه حيي، أصبح حياً بين الأحياء، أما وهو ميت فكيف نكلف الأموات؟! هل أدركتم هذه الحقيقة؟ برهنة كالشمس، والذي يرد عليك ويقول: ما هذا؟ كيف تفرق بين الأحياء وتقول: هذا حي وهذا ميت؟ فقل له: الحياة حياتان: حياة بهائمية لا قيمة لها، وأهلها كالأموات، بل هم أضل، وحياة حق، وهي حياة الإيمان والمعرفة، وهذه التي يُكلَّف صاحبها، وينهض بالتكاليف ويقدر عليها.

حقيقة الإيمان بالله تعالى وأصاف المؤمنين به تعالى
ما هو الإيمان؟ كل يدعي أنه مؤمن، فهل عرفت الله الذي آمنت به، أو تقول: هاه! لا أدري؟ كيف تؤمن بما لا تعرف؟! إن كنت آمنت فدلل وبرهن على إيمانك، وقد تعلمتم -زادكم الله علماً- آيتين واضحتين في القرآن الكريم، من أراد أن يمتحن نفسه هل هو مؤمن أو غير مؤمن فلينظر إلى آية في سورة الأنفال، وآية أخرى في سورة التوبة، فإن رأى نفسه تنطبق عليه تلك الآية مع مواكب المؤمنين فليبشر، وليهلل، وليكبر، وليحمد الله، وليقل: إني مؤمن، وإذا وجد غير ذلك فكيف يكون مؤمناً؟! وكيف يقول: أنا مؤمن؟! وأتل عليكم هاتين الآيتين لتشاهدوا بأنفسكم هل تنطبق فيكم أم لا؟الأولى: من سورة الأنفال، بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2]، يا عرب! إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2]، هذه الصيغة ترد على دعاة الإيمان بالباطل، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] بحق وبصدق لا بالادعاء والنطق، و(إِنَّمَا): أداة حصر وقصر إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] أي: يرتفع منسوب الإيمان عنده، وكأنه يشير إلى المائة والخمسين إلى مائتين وعشرين، على الفور، دلالة على وجود إيمان حي، وإلا كيف يرتفع؟! إذا تليت عليه الآيات ولم يرتفع منسوب إيمانه فهو ميت وغير حي، إيمانه جامد ليس بسليم ولا صحيح، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] فاللهم اجعلنا منهم، آمين. أجرح إخواننا، وهم مستحقون للجراح حتى يعالجوا أنفسهم، الذي يبيع المحرمات في مدينة الرسول توكل على الله؟! يقول: لولا بيعي لكذا وكذا.. ما حصلت على قوتي، ولا عشت! بالإجمال: المتوكل على الله لا يتعاطى ما حرم الله من أجل الخوف من الجوع أو المرض أو الموت، إذا أمره الله أو نهاه لا يبالي بمخاوف الشياطين وما تزينه أو توسوس به، ويصبر على ترك ما حرم الله، ذلك هو المتوكل على الله، الذي يفوض أمره إلى الله، إن عذبه حمده على التعذيب، وإن أسعده حمده على السعادة، اطرح بين يديه وفوض أمره إليه، إلا أن هذا يا أبنائي لا يتم لأناس ما عرفوا الله، كيف يتم لهم وهم ما عرفوه حتى يتوكلوا عليه؟! الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:3-4]، هذه الآيات من سورة الأنفال ما سمع بها المسلمون؛ لأنهم لا يقرءونها على الموتى؟! إذاً: كيف وجدتم أنفسكم يا أبنائي؟ هل انطبقت هذه الآيات على كل واحد منكم أم لا؟ من وجد ذلك فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فليسأل الله من فضله.الآية الثانية: من سورة التوبة، وذلك لما ادعى المنافقون ما ادعوه من الإيمان، قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ [التوبة:71] بحق وصدق لا بالادعاء والنطق، و(أل) هنا للأصالة وللعراقة والمتانة في اللفظ وَالْمُؤْمِنُون َ [التوبة:71] بحق، وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، المؤمن ولي المؤمن، والمؤمنة ولية المؤمن والمؤمنة، ومن هنا سادهم الحب والولاء، فلا يكذب مؤمن على مؤمن، ولا يشتم أو يسب المؤمن المؤمنة، ولا يغش ولا يخدع ولا يهزأ ولا يستسخر ولا.. ولا.. فضلاً عن أن يتركه فريسة للعدو من الشياطين والإنس، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] النصرة الكاملة، والحب الشامل الكامل، فالذي لا يحب المؤمنين -والله- ما هو بمؤمن، والذي يخذل المؤمنين ويهزمهم ويعرِّضهم للمحن والإحن والبلاء؛ والله ما هو بمؤمن، والذي ينهك أعراضهم ويأكل أموالهم ويمزق كرامتهم ويهينهم ويدوسهم بنعاله؛ والله ما هو بمؤمن.وإن قلتم: يا شيخ! أمة المسلمين هذه حالها في كل مكان، فالجواب: ما عرفوا الله حتى يؤمنوا به، كيف يعرفونه وما سألوا عنه، ولا قرعوا أبواب العلماء، ولا نزلوا على عتبة أبوابهم يطالبونهم بمعرفة الله؟! يسأل أحدهم عن البصل والثوم، وعن الفحم واللحم، ولا يسأل عن الله! كيف يعرف الله؟! وقد عرفتم الدليل على معرفة الله: هو حبه له وخوفه منه، فالذي لا يحب الله ما عرفه، والذي لا يخاف الله والله ما عرفه، ماذا نصنع؟ هيا نتعلم، قالوا: ما نستطيع أن نتعلم! لمَ لا نستطيع أن نتعلم؟ هذا أمر أعظم من أي عظيم في حياتنا، لمَ لا نتعرف إلى ربنا حتى نحبه ونخافه؟!إذاً: وَالْمُؤْمِنُون َ [التوبة:71] بحق وصدق، وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] الولاء والبراء سائدة في الأحزاب والجماعات والمنظمات! وحب المؤمنين لبعضهم البعض فريضة الله، إذ إن آية الإيمان وعلامته: نصرة المؤمنين لبعضهم بعضاً؛ لأن ذلك من أوجب الواجبات، وألزم ما يلزم يا عبد الله ويا أمة الله، أما أن يزني بعضهم بنساء وببنات بعض، ويسرق أموالهم، ويحتقرهم ويزدريهم، ويتكبر عليهم، ويحسدهم ويبغضهم و.. و.. و.. من هذه الفضائح، ويقول: نحن مؤمنون! أين الإيمان؟! أين الولاء؟! يقتل بعضهم بعضاً، ولا يستطيع أحد أن يقول: هذا باطل أو منكر، أو يدعوا إلى صلح أو مصالحة، أين الولاء؟! يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71] فلهذا تدخل قرية المؤمنين أو مدينتهم لا تسمع -وإن عشت بينهم أربعين سنة- بأن فلاناً زنى أو فلانة زنت، بمن يزني وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟! كيف تزني هذه المرأة وهي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فلا تسمع أبداً بجريمة من الجرائم إلا نادراً؛ لفقدان وانطفاء نور الإيمان على العبد، فيحصل هذا مرة في زمانه، أما أن يعيش أهل البلد يزني بعضهم بنساء بعض، فهذا من المنكر العظيم، ولو أقص عليكم ما أسمع وما يسألونني تبكون الدماء، نسأل: أفي مدينة الرسول؟! ما هذا الذي حصل؟! ما هذه الانتكاسة؟! أردة بعد إيمان؟! أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! حتى الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر يسخرون منهم، ويستهزئون بهم، ولا يلتفتون إليهم.

هلاك الصالح والطالح إذا كثر الخبث
صاح أبو القاسم صلى الله عليه وسلم في عشية من العشايا لغبار وغيم وسحاب وعواصف ويقول: ( ويل للعرب من شر قد اقترب، فتقول أم المؤمنين: أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟! فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم، إذا كثر الخبث )، نعم نهلك وبيننا الصالحون إذا كثر الخبث، وهذا حديث صحيح، وقد وضع القواعد التي لا تنخرم على مدى الحياة، والخبث هو الغش، الخداع، الكذب، النفاق، الزنا، اللواط.. ماذا أقول؟ أي شيء هو خبث. ومع الأسف عرف هذا خصومنا، عرف هذا أعداؤنا، عرف هذا اليهود والنصارى، فعملوا على نشر الخبث في العالم الإسلامي، فخمَّت ديار العالم الإسلامي بالخبث، وندر الطهر فيها والصفاء، وهي تتأهل للفتنة العامة، والضربة الربانية، وهذا البلد الأمين، وهذه البقعة الطاهرة، تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يحكمون شرع الله، فتضايق الأعداء، وتململوا، وتحرجوا، كيف يصنعون؟ كيف يعملون؟ فعرفوا، ومددنا أعناقنا فهبطنا! من يوم ما أصبحت العاهرات تغني في بيوتنا عرفنا الطريق إلى الهاوية! هذا بيت مسلم تدخله فتجد رجلاً وامرأة ومعهم البنون والبنات وعاهرة تغني على شاشة الفيديو والتلفاز! أهذا البيت يُحتضن بالطهر؟! والله ما احتضنه الطهر.والعجيب-كما ذكرنا-أنك تجد هذا في مدينة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقد قلنا هذا وبكينا، فتمر بأسواق المدينة فتجد دكاناً من أعلاه إلى أسفله يحتوي على أشرطة أغاني، بل حول مسجد رسول الله قبل أن تهدم هذه المباني، كان هناك دكان يسمى بالديكور أو بالبلكور، من أعلاه إلى أسفله يحتوي على أشرطة أغاني، من يشتريها؟! من يغني في بيته؟ آلله أمر بهذا؟! لا والله، وهل الرسول سمح بهذا وهو الذي يقول: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ) ويغضب ويتجلى الغضب في وجه الطاهر، فتعرف ذلك أم المؤمنين وتقول: أتوب إلى الله ورسوله، ويقول: ( أزيلي عني قرامَك يا عائشة )، وهي خرقة من الصوف فيها صورة منسوجة بالصوف على نافذة تُسْتُر بها بعض حاجتها. والآن خمَّت البلاد من الزنا والعهر والجرائم، ولولا هذه الدويلة-التي نسأل الله أن نموت ولا تموت-وهذا الظل والله لرأيتم -إن عشتم- العجب العجاب، مُسخت القلوب، انطفأ نور الإيمان، ونحن تائهون في متاهات لا ندري ما مصيرنا؟! فهيا نتب. كيف يتصور هذا في مدينة الرسول؟! في بلد الإسلام وشرعه ينتشر هذا الخبث بين الناس؟! جاءني إلى البيت مؤمن يبكي ويقول: أشاهد الرجال يدخلون على بيت جاري! ماذا أصنع؟ قلت له: علِّمه، انصحه، ابعث زوجتك لتنصح زوجته. وآخر يقول: كذا وكذا. وواحدة تقول: زوجي يعرف إحدى عشرة امرأة! ما هذا الخبث؟! كيف انتشر؟! بالسحر؟! والله ما له من أسباب سوى أننا فتحنا أبوابنا وقلوبنا للشياطين، والأغاني والمزامير والطبول، وما إلى ذلك وشيئاً فشيئاً حتى قست القلوب وماتت لدى أكثرنا، وسوف نذوق الألم والمرارة إن طالت الحياة بنا.

العلم النافع طريق إلى معرفة الله تعالى
هذا الله عز وجل يأمرنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] فهيا بنا نعمل على أن نتقي الله، قولوا للناس: اتقوا الله، وأولاً: عرفوهم بالله حتى يعرفوا عظمته، سلطانه، قدرته، وجوده، رحمته، ملكوته، ثم عرفوهم بمحابه، علموهم ما يحب ربهم وما يكره، وعلموهم كيف يفعلون المحبوب، وكيف يقدمونه له تملقاً وتزلفاً ليرضى ويحب، ولا يعذب ولا يشقي.عدنا من حيث بدأنا، ووالله ما هناك حيلة، لو يخرج عمر ما استطاع إلا من طريق: هيا يجب أن نتعلم.كيف نتعلم؟ المدارس والجامعات والكليات موجودة، فماذا تريد من هذا العلم؟ أين يُذهب بعقلك؟! قلنا: أين آثار تلك المدارس والجامعات والكليات؟! أين آثارها في مظاهر الحياة.. في العز والكرامة.. في الصدق والوفاء.. في الطهر والصفاء.. في المودة والرحمة والإخاء.. في الرغبة في الملكوت الأعلى؟! أين آثار ذلك؟! إن وجودها أصبح كعدمها؛ لأن العدو الذي رسم ووضع الخطط، وضع طلب العلم للوظيفة فقط، وأتحداكم أن تأتوا لي برجل -واسمحوا لي إن شئتم أو ادعوا علي- يقول لولده: يا ولدي! تعلم كيف تعرف ربك، تعلم كيف تعبد مولاك، تعلم كيف تحصل على رضاه، بل لا نجد إلا: تعلم لتكون كذا وكذا.. تعلم لتصبح كذا وكذا.. وهذا كان مع الذكور، والآن والله مع الإناث أيضاً، تعلمي لتكوني كذا وكذا.. فكيف نرتفع وقد لصقنا لصوقاً كاملاً بالأرض؟!

الطريق إلى رفعة هذه الأمة
بحت حلوقنا ونحن نردد هذه الكلمة، وملها الغافلون أيضاً، فأصبحوا لا يريدون سماعها: الطريق -إن أردنا أن نتعلم العلم الذي يرفعنا إلى الملكوت الأعلى، هو: أن يجتمع نساؤنا ورجالنا في بيوت ربنا، هذا الاجتماع على هذه الصورة في بيوت ربنا المتواجدة في كل حي وفي كل مكان من مدننا، نساؤنا وراء الستار، وأبناؤنا دونهن، وفحولنا -كأنتم- في الأمام، والمربين بين أيديهم، وفي ليلة يحفظون آية من كتاب الله، وليلة أخرى يحفظون حديثاً من أحاديث رسول الله، فيحفظون ويفهمون، وكلهم عزم وصدق في أن يعملوا بما علموا، فيعودون والأنوار تغمر قلوبهم وجوارحهم، وذلك كل ليلة وطول العام وعلى مدى حياتنا، ووالله الذي لا إله إلا الله غيره -ولا تقولوا: لمَ يحلف الشيخ كثيراً؟ أما ينتقد الناس الحلف؟ والجواب: الله يحلف، ورسول الله يحلف، إذ إن الحلف حتى يُقبل الخبر ويصدق، وهذا شأن الإنسان، إذا لم تحلف له لا تطمئن نفسه- لا يمكن لأهل بلد في العالم الإسلامي أن يعودوا إلى الطهر والصفاء، والولاء والمودة ولإخاء، إلا إذا سلكوا هذا المسلك الذي سلكه رسول الله والمؤمنون، فإذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، ولم يبق مقهى ولا مطعماً ولا دكاناً ولا متجراً ولا.. ولا..إلا أُغلق؛ لأن كل أهل المدينة أو القرية قد تطهروا، وحملوا نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، يستمطرون رحماته، ويطلبون آلاءه وإنعامه وإحسانه إليهم، ويتعلمون الهدى، وعند ذلك والله ما تمضي سنة وما في القرية جاهل وجاهلة بربها، وإذا زال الجهل وحل محله العلم فلا تسأل عن الطهر كيف ينشر؟! وعن الولاء والمودة ولإخاء كيف يتم؟! فكل مظهر من مظاهر الباطل والسوء اختبأ، وإن شذ شاذ فالشاذ لا حكم له.وإن قالوا: نحن لا نستطيع على ذلك! قلنا لهم: كيف لا تستطيعون وأنتم تقتدون بالنصارى، وتعتزون بسلوكهم وبنظامهم وبديمقراطيتهم وبحضارتهم، وهم إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل، ولبسوا أحسن ثيابهم، وأخذوا نساءهم وأطفالهم إلى دور السينما، إلى المراقص، إلى المقاصف، إلى الملاهي، إلى الملاعب، حتى نصف الليل أو ثلث الليل؟! استطاعوا هذا ونحن الذين نريد أن نسود الدنيا، ونقود البشرية لا نضحي بساعة ونصف! ونحن الذين نريد أن نخترق السبع الطباق، وأن ننزل بالملكوت الأعلى في الفراديس العلى؟! هذه المسافة كيف نجتازها؟ كيف نصل إليها؟ نشح بساعة ونصف نتعلم فيها هدى الله؟ أين يُذهب بعقولنا لو كنا عاقلين؟ لمَ العلماء لا يرددون هذا الكلام؟ هل أنهم لم يفهموه؟ لا، بل هو مكتوب علينا. جاء في سورة الأعراف قول الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الأعراف:175]، من يأمر؟ الله، ومن المأمور؟ رسول الله، ومن المقروء والمتلو عليهم؟ نحن. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ [الأعراف:175]، كيف ينسلخ منها؟ هل كان يلبسها كالثوب؟! تعرفون الثعبان يا أهل الصحراء ينسلخ من ثوبه ويترك الأبيض نظيفاً، ويذهب هو أسوداً، فالآيات هي كتاب الله وسنة رسوله، والانسلاخ منها: وضعها على الرفوف، وعدم قراءتها ودراستها والعمل بها والتفقه بما فيها. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175] أي: أدركه، كان الشيطان خائفاً يوسوس من بعيد، ما يقوى على أن يصل إلى هذا القلب المعمور بالنور، فلما زالت الحصانة وانتهت المناعة -إذ كانت في كتاب الله وهدي رسوله-أصبح ذاك الإنسان أهْلاً لأن يركبه الشيطان، فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175] والغاوي من الغي، أي: الوساخة، الكذب، الزنا، الربا، اللواط، الغش، الخداع، خلف الوعد، الكره، البغض، فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175]؛ لأن الشيطان هو الذي يغمسه في هذه الأغياء، فيعلمه الخيانة والكذب والفجور والباطل والشرك وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176] لمَ هذه الآية ما يقرؤها العرب والمسلمون؟! هل لأنها لا تُقرأ إلا على الموتى أم أنها طويلة؟! وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ [الأعراف:176] بماذا؟ بِهَا [الأعراف:176]، أي: بالآيات، فهل هناك رافعة لأمة العرب من هبوطها وسقوطها غير آيات الله؟ والله لا رافعة لهم، فقد جربوا الاشتراكية وقالوا: اشتراكيتنا نوالي من يواليها، ونعادي من يعاديها، فتمزقوا وتمنطقوا أكثر من أربعين سنة، وبعد أين وصلوا؟! كذلك الجمهورية، أين آثار الجمهوريات؟ أصبحت نيراناً أحرقت من فيها، والآن يطالبون بالديمقراطية والعدالة! وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176] ما هي الرافعة؟ آيات الله، هل سبق أن رفعت أو لا؟ نعم، سبق أن رفعت أمة العرب حتى أصبحت مضرب المثل في كمال البشرية، فقد كانت أمة جاهلة لاصقة بالأرض وثنية تعبد الأوثان، فرفعتها خلال خمسة وعشرين سنة فقط. وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176]، هذا هو الواقع، فأبناؤنا وبناتنا تعلموا لأجل الوظيفة والخبز، كل شيء للخبز. وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176] لا عقله ولا هدى الله له.إذاً: ماذا حصل؟ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176]، لو كنا لا نحفظ القرآن لقلنا: كيف أن القرآن فيه هذه الكلمة؟! فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176] من هذا؟ الذي انسلخ من آيات الله ومشى في ظلمة الحياة، فاستولت عليه الشياطين فأغوته وحطمت كرامته، وأصبح في هذه الوضعية كالكلب إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] بالتجربة، إن جريت وراء الكلب والعصا بيدك لهث وأخرج لسانه، وإن تركته تحت الشجرة والظل والماء بين يديه والله يلهث -شاهدناهم- فوالله لن ينتهي لهث العرب والمسلمين إلا إذا عادوا إلى الرافعة، لا فلسفة ولا باطل ولا.. ولا.. وإنما قال الله وقال رسوله، إيمان صادق، وقلب متفتح يريد الملكوت الأعلى.قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:102] لو كنا صادقين لقلنا: يا رب! كيف نتقيك؟ علمنا، دلنا. يقول: عليكم بعلمائكم يعلمونكم كيف تتقون الله، وإن شاء الله غداً نتعلم كيف نتقي الله تعالى.والله أسأل أن يتوفنا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-24, 04:36 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (38)
الحلقة (179)
تفسير سورة آل عمران (43)


ولاية الله عز وجل هي أمل كل عبد من عباده، ومنتهى مطلب كل من على ظهر هذه البسيطة، وهذه الولاية لا تتحقق لكل أحد، ولا يدركها كل من تمناها، فقد اشترط الله على من أراد نيل ولايته أن يتقيد بعدة صفات، ويحقق عدداً من الخصال؛ ومن هذه الخصال أن يلتزم العبد تقوى الله عز وجل، وأن يلتزم جماعة المسلمين القائمين بأمر الله، وغير ذلك من الصفات.

تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) اللهم حقق لنا طلبنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومع هذا النداء الإلهي الكريم، وتلاوته بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103]. ‏

سر مناداة الله تعالى لعباده بوصف الإيمان
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! عرفنا فيما مضى أن هذا النداء يحمل ما يلي:أولاً: الأمر بتقوى الله عز وجل، فهيا نطع ربنا، أما نادانا بعنوان الإيمان لأننا مؤمنون فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:102]؟ فقلنا: لبيك اللهم لبيك، مر نفعل، انه نجتنب، بشر نفرح، أنذر نخاف ونحذر، علم نتعلم، كلنا استعداد، وذلك لأننا أحياء، ولأن الإيمان روح وصاحبه حي، والحي يسمع ويأمر وينهى، ويمتثل ويترك لكامل حياته.

معنى قوله تعالى: (اتقوا الله)
قوله: اتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:102] ما معنى: أمره لنا بتقواه؟ أي: أن نتقي غضبه وسخطه وعذابه، وقل: اتقوا الله: خافوه، ارهبوه، اخشوه، ولازم ذلك أن تطيعوه.إذاً مرة أخرى: نتقي الله بطاعته فيما أمر، وفيما نهى عنه وزجر، إذ لا يمكن لآدمي أو جني أن يتقي عذاب الله وسخطه بدون طاعته عز وجل، فأطيعوه بفعل ما أمركم بفعله، وترك ما نهاكم عن تركه، والمأمور والمنهي يدور على أعمال القلوب والألسن والجوارح.إذا أمر الله بمعتقد -سواء استطعنا إدراكه وفهمه أو عجزنا لضعفنا- أمرنا أن نؤمن به، كأن يُخبرنا بأنه تعالى فوق عرشه، بائن من خلقه، وكأن يُخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة وينادي: ( هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه )، فنقول: آمنا بالله، ولا نقول:كيف ينزل؟! بل آمنا فقط، وذلك لعجزك يا ابن آدم، ولضعفك، ولعدم قدرتك على ذلك، إذ إننا قد عرفنا أن طاقاتنا محدودة، فالطاقة البدنية صاحبها يستطيع أن يحمل كيساً من الدقيق، وقد يعجز عنه آخر، كذلك الطاقة البصرية قد تبصر إلى مدى ستة أميال عشرة أميال، ثم يعجز بصرك فلا تستطيع أن ترى، أيضاً طاقة سمعك، فقد تسمع صوتاً ينادي من ثلاثة أميال من عشرين ميلاً، ثم تعجز فلا تستطيع أن تسمع، فكذلك عقلك يدرك في حدود محدودة، ولا يستطيع أن يدرك كل شيء، فإذا أمرنا الله تعالى بعقيدة فيجب أن نعتقدها ونعقدها في قلوبنا، سواء قدرنا على فهمها أو عجزنا، والمثال الذي ذكرته لكم واضح، فإذا كان الله ينزل إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر وينادي، فلا نقول: كيف؟! فالله أخبرنا، ورسوله يقول: ( إن الله ينصب وجهه لعبده في صلاته ) فإذا قلت: الله أكبر ودخلت في الصلاة، فالرحمن جل جلاله ينصب وجهه لك، وهو معك، فلا تقل: كيف؟! فهو يعلم السر وأخفى، يعلم نبضات العروق وتدفق الدم فيها، لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137]، أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: ( كان الله ولم يكن شيء قبله ) آمنا بالله.كذلك إذا أمرنا أن نقول قولاً فيجب أن نطيعه ونقول، ولو كان ذلك القول يتنافى مع أغراضنا، مع شهواتنا، مع أطماعنا، مع متطلبات حياتنا، قد أمر الله فأطعه، واتق عذابه بطاعته، فإذا نهانا عن قول أو عمل ينبغي أن ننتهي، إذ تقوى الله عز وجل تكون بالخوف والرهبة منه، والخوف والرهبة يحملان العبد على الطاعة، فالخائف يطيع، والذي لا يخاف ما يطيع.

الإيمان والتقوى طريق تحقيق الولاية لله
وأذكركم بشأن التقوى، فهي الخطوة الثانية في تحقيق ولاية الله عز وجل، فمن أراد أن يصبح ولياً لله، أو يمسي من أولياء الله، فعليه بالإيمان والتقوى، فالذين لا يتقون الله لا يصبحون أولياء الله أبداً، وهذا أمر مفروغٍ منه، وذلكم لما حفظتم وعلمتم من قول الله عز وجل: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، فإذا رأيت العبد لا يخاف من غير الله، ولا يحزن لموت امرأة ولا ولد، ولا لفوات مال، فاعلم أنه ولي الله، لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] لا في الدنيا، ولا في البرزخ -أي: في الحياة بين الحياتين- ولا يوم القيامة، منفي عنهم الخوف والحزن، لكن أعداء الله هم محط الخوف والحزن في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. كأن سائلاً يقول: من هم أولياؤك يا رب الذين قلت فيهم: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]؟ قد يقول لك العوام: سيدي عبد القادر، مولاي إدريس ، سيدي العيدروس! فهم لا يعرفون أولياء لله بين الناس أبداً، وإنما يعرفون أولياء الله الذين ماتوا وبنيت على قبورهم القباب، ووضعت عليها الستائر الحرير، وأنيرت قبورهم بالمصابيح، أولئك أولياء الله عندهم! أما أولياء الله الأحياء في الأسواق والمتاجر والمزارع فلا يعرفونهم أبداً.وقد تكرر هذا القول فبلغوه؛ لأنه لا يزال (95%) منا معاشر المسلمين! لا يعرفون أننا أولياء الله، وإنما أولياء الله -في نظرهم- الذين ماتوا وعُبِدوا من دون الله بالذبح والنذر لهم، والحلف بهم، والخوف منهم عند وجودنا أمام قبورهم، أولئك الأولياء حسب اعتقاد العوام، أما الموجودون على سطح الأرض، يبيعون ويشترون، ويحرثون ويحصدون، ما هم بأولياء! فهل هناك من يرد علي لعليَ واهم؟الجواب لا، لا يوجد، وقد عرفنا سر ذلك معرفة علمية يقينية، فقد أراد الثالوث الأسود، وأراد العدو أن يهبط بنا لنصبح دونه، فقنن هذه القوانين، وحصر ولاية الله في الموتى فقط من أجل أن يستبيح الأحياء دماء بعضهم بعضاً، وأعراض بعضهم بعضاً، وأموال بعضهم بعضاً، فترى المسلمين في القرية هذا يزني بامرأة أخيه، وهذا يسرق ماله، وهذا يسبه ويشتمه، وهذا يتكبر عليه ويترفع فوقه، وهذا يزدريه ويحتقره، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، من هذا مع ولي من أولياء الله ما يقدر على أن يقول في ولي: يا كذا.. ممن ماتوا وبنيت عليهم القباب، فهل فهمتم هذه وبلغتموها أو ما زلنا نبكي فقط؟هيا نسافر إلى دمشق، أو بغداد، أو القاهرة المعزية، أو كراتشي الباكستانية، أو اسطنبول، وبمجرد ما ننزل من الطائرة وندخل المدينة، أول من يقابلنا من أهل البلاد نقول له: يا سيد! جئنا لنزور أحد أولياء الله في هذه المدينة، فمن فضلك دلنا على ولي، والله -إن لم يكن حضر في هذه الحلقة وعرف- لا يقودونا إلا إلى قبر، ولا يفهم أن في كراتشي ولياً بين الناس، ولا في اسطنبول ولا في بغداد ولا في دمشق ولا في مراكش، اللهم إلا الذين بلغتهم هذه الدعوة، وقد انتشرت ففهموا، أما أولئك فلا يفهمون وجود ولياً بين الناس، ولهذا وجد الشتم، والتعيير، والتلصص، والسرقة، والخيانة، والزنا، والفجور، فلا إله إلا الله! لو كانوا مع أولياء الله يفعلون هذا؟! أحدهم ما يستطيع أن يحلف بالكذب بولي من أولياء الله.فهل عرفتم من هم أولياء الله؟ الجواب من رب الأرباب، إذ قال في بيان ذلك: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].

التحذير من إيذاء أولياء الله تعالى
احذر يا عبد الله! احذري يا أمة الله! أن تؤذي ولياً من أولياء الله ولو بكلمة شر، أو نظرة شر، أو كلمة قاسية، وما أجمل أن تدخل سوق المؤمنين وتخرج، وتدخل مساجدهم وتخرج، فلا تجد من يسب أخاً له، أو يشتمه، أو يعيره، أو يحاول أن ينال منه شيئاً من ماله أو جسمه أو عرضه؛ لأنهم أولياء الله، فمن يؤذي ولي الله والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الأسد الحرِب )؟! فهل الذي يعرف هذا يعتدي على ولي الله؟! يسخر منه؟! يستهزئ به؟! يمكر به؟! يفجر بامرأته؟! والله ما كان.إذاً: تنال ولاية الله بأمرين اثنين: الإيمان، والتقوى الدائمة المتجددة المتكررة، إذ قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] يتقون من؟ الله؛ حتى لا يغضب ويسخط عليهم، أو يمحو اسمهم من ديوان أوليائه.كيف نتقي الله يا أبناء الإسلام؟ نتقيه بطاعته، بالإذعان له، بالتسليم له، إن قال: آمِن، قلت: آمنت، قال: قل، قلت، قال: قف، وقفت، قال: سر، سرت، فهذا هو الإيمان، وهذه هي التقوى.

سؤال أهل العلم لمعرفة ما يحب الله وما يكره
بالأمس نبهت وعلَّمت وقلت: الذي لا يعرف أوامر الله ولا نواهيه، أسألكم بالله هل يتقي الله؟ لا، كيف يتقيه؟! فلابد من معرفة كل ما يحب الله، وكل ما يكره الله، من الاعتقادات والأقوال والأفعال، بل والصفات والذوات أيضاً؛ لأن هناك صفات يكرهها الله، لا يحب لعبده أن يتصف بها، كالخيلاء ومشية التكبر.وبالتالي فكيف نستطيع أن نعرف محاب الله ونستوفيها، ونعرف مساخط الله ونجمعها، فنصبح عالمين بما يحب ربنا وبما يكره؟ هل يحصل هذا بالمنام؟ بالتمني؟ أسألكم بالله بم يحصل؟يحصل بالطلب، فاطلب تجد، وحسبك أن تسمع قول الله في كتابه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] (فَاسْأَلُوا): فعل أمر، أيأمرنا ولا نلتفت إلى أمره؟! كفرنا به، أم تكبرنا عليه، أم ماذا أصابنا؟! أليس هذا أمره؟ يا من لا يعرف محاب الله، يجب أن تسأل أهل العلم عنها حتى تعرفها، يا من لا يعرف مساخط الله، اسأل أهل العلم حتى تعرفها فتتركها حتى لا تُغضب الرب عليك.هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون رسول الله؟ ، نعم، فهذا ابن مسعود وقف في الصف وقال: ( يا رسول الله، أي شيء أحب إلى الله؟ قال -جواب العالم-: الصلاة على وقتها -أحب شيء: الصلاة على أول وقتها- قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين )، فأصبح ابن مسعود يبر بأبويه، يؤثرهما على نفسه، يجوع ولا تجوع أمه، يعرى ولا يعرى أباه، ( قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله )، فما نودي إلى الجهاد إلا كان في وسط الصف، يسأل أو لا؟ والرسول نفسه يعلمهم بالسؤال فيقول: ( ألا ) تعرفون: (ألا)؟ ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله ) أي: نبئنا، أخبرنا، لمَ ينبئهم بأكبر الكبائر؟ ليجتنبوها، وحتى يحققوا تقوى الله لهم، ( بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله ) فلم يبق أبداً ممن سمعوا من المؤمنين والمؤمنات من يرضى بأن يشرك بالله ولو في كلمة، والشرك بالله يكون باعتقاد وجود من يخلق أو يرزق أو يدبر أو يحيي أو يميت أو يعطي أو يمنع أو يضر أو ينفع في هذه الأكوان، فلا يصرف عبد الله ولا أمته عبادة الله لغير الله ولو بانحناء.كثير من شبيبتكم أيها المؤمنون! ومن أحفادكم وأولادكم يقبل يد أبيه أو الشيخ، هكذا، ويسجد، يُقبَّل وهو فحل أطول منك! فهل يجوز هذا؟ هل هناك من يستحق أن يُسجد له على الجبهة والأنف سوى الله؟ والله لا أحد، فالركوع لا يكون إلا لله.ومن المؤسف: أن أبطال الكرة -والعياذ بالله- لما ينتهي اللعب ويريدون أن يتفرقوا يركعون للشيطان! ومع الأسف فيهم من يزعم أنه مؤمن. أرأيتم كيف يركعون للشيطان؟!آه! لا يحل لمؤمن يؤمن بالله ولقائه أن يصرف عبادة من العبادات لمخلوق من مخلوقات الله يحمل العذرة والبول العفن في بطنه، فكيف يركع له ويسجد؟! كيف ينحني له؟!وهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم سيد البشر، والله ما رضي أن يُسجد له، جاء أحدهم من أهل الشام، وأراد أن يفعل كما يفعل مع حكامه ومسئوليه، فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )؛ لما له عليها من حقوق، ولكن لا سجود إلا لله.

حكم الحلف بغير الله
الحلف بغير الله، هذا الشرك الواضح بيننا وضوح الشمس والقمر، ثلاثة أرباع المسلمين يحلفون بحق فلان وسيدي فلان، وكأن هذا ليس من الشرك أبداً، بل يحلف بالله سبعين مرة ولا يبالي، ولا يستطيع أن يحلف بولي من أولياء الله الموتى، وقد كررت هذا القول على علم لتنقلوه، فقد حدث أيام الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا، أنه أخذ بعض القضاة يحلَّفون الخصوم بالأولياء ولا يخلفونهم بالله! وسألناهم فقالوا: إذا قلنا له: احلف بالله، فإنه سيحلف سبعين مرة ولا يبالي، وإذا قلنا له: خذه إلى سيدي فلان وليحلف عنده يرتعد ويخاف! مع أن الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول في جامع الترمذي: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، ( من حلف بغير الله فقد كفر ). وبينا لكم كيف الشرك؟ وفيم أشرك؟ في عظمة الله، تلك العظمة مخلوق من مخلوقات الله؛ لأن أصل الحلف هو تعظيم المحلوف به وإجلاله وإكباره؛ لما له من سلطة وقوة وقدرة وجناب عظيم، فإذا حلفت بمخلوق فقد أعطيت مما هو لله لهذا المخلوق، وأشركته في العظمة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) أشرك هذا المخلوق في حق الله، في عظمة الله، ولعلكم لا تعلمون أن الفطرة البشرية في الجاهلية أنه لا يحلف إلا بشيء عظيم، فلا يحلف بالشيء المهان كالقط والكلب وما إلى ذلك، وإنما يحلف بما هو عزيز وعظيم، ومن هنا من حلف بغير الله فقد أشرك في عظمة الله وجلاله وكبريائه.وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ( فقد كفر )، فقد قلت لكم وعلمتم أن الكفر معناه: الجحود، التغطية، الستر، فمن حلف بغير الله فقد غطَّى الله وستره وجحده، حتى حلف بغيره، لو تجلى له الله عز وجل ما يستطيع، كيف يحلف بغيره؟ فمن حلف بغير الله فقد كفر الله، وجحده، ولو ما جحده لمَ لا يحلف به؟! وكيف يحلف بغيره وهو يؤمن به؟! وماذا نصنع مع هؤلاء؟ نقول لهم: توبوا، قولوا: لا إله إلا الله.إذاً: لابد من معرفة ما نتقي الله تعالى فيه، وهو أوامر ونواهي جاءت في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن لم يعرف تلك الأوامر ولا تلك النواهي -والله- لن يكون ولياً لله، ولو طار في السماء ونحن نشاهد، أو غاص في الماء ونحن نبصر، والله ما هو بولي لله أبداً، تذكرون هذه أو نسيتموها؟ قالت الحكماء: ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علَّمه. أي: إذا أرادك الله ولياً له وأنت جاهل علمك، كيف يعلمك؟ يعطيك ذكاء فارطاً، فلا تسمع كلمة إلا تحفظها، يبعثك إلى حِلق الذِكر ويدفعك دفعاً، يبعث بك إلى أبواب العلماء فتقرع الباب وتسأل حتى تتعلم، فهو يعلمك بالإيحاء الخاص، لا أنك بنبي.

طريق تعليم المؤمنين محاب الله ومكارهه
ما هو الطريق لتعليم المؤمنين والمؤمنات محاب الله ومكارهه؟ هل هي المدارس والمعاهد والكليات والجامعات؟! حقاً هي وضعت للتعليم، ولكن صرفناها لغير الله، وقد قلنا لهم: اتركوها لدنياكم، اتركوها لتعليم الصناعات ومهن الحياة، وأما تعليم محاب الله ومكارهه فإنه لا يتم في غير بيوت الله عز وجل، إذ الآتي إلى المسجد لا يرجو شهادة يظفر بوظيفة بها، ولا سمعة ولا شهرة يرتفع بها، وإنما يجيء فيتململ ويطِّرح بين يدي الله في بيته يتعلم محابه ومساخطه، ليحب ما يحب ربه، ويكره ما يكره ربه، وليعمل المحبوب ويقدمه لمولاه، ويبتعد عنه المكروه والمبغوض له. يا علماء الإسلام! أين أنتم؟ ماتوا.. سبحان الله! أين علماء الإسلام؟ كأنني قاربت الموت، فلهذا ما أصبحت أخاف، أين العلماء؟ لا وجود لهم أو غطيتموهم؟ كذا شهراً بل سنة ونحن نقرر هذه الحقيقة، لن نعود إلى الصراط السوي والطريق المستقيم لنكمل ونسعد إلا إذا عدنا إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن يجتمع نساء ورجال القرية وأولادهم في جامعهم الذي بنوه باللبن والطوب، بالخشب والشجر أو بالحديد والاسمنت، يصلون المغرب ويجلسون جلوسنا هذا، النساء وراء، والأطفال دونهن، والفحول أمامهم، ويجلس لهم عالم رباني، يعلمهم ليلة آية من كتاب الله، وأخرى حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك لن يبقى مذهب ولا فرقة ولا طائفة ولا جماعة؛ لأن أهل القرية أصبحوا كنفس واحدة، فقد أخذوا يتعلمون: قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وسلم، في العقيدة، في العبادة، في الآداب، في الأخلاق، في المعاملات، فلا تمض سنة إلا وهم أولياء الله، لو رفعوا أيديهم إلى الله على أن يزيل جبلاً لأزاله، فيصبحون في حماية الله، من عاداهم أعلن الله الحرب عليه، فمزقه وشتت شمله وأهلكه، ولا يكلف هذا المؤمنين شيئاً، فلا يوقِف مزارعهم ولا متاجرهم، ولا يوقِف أعمالهم أبداً، فكل البشر إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل وأقبلوا على اللهو والباطل والأكل والشرب، والمؤمنون عرب وعجم في قراهم ومدنهم أولى بهذا أو لا؟ ولا سبيل إلى توحيد أمة الإسلام، وجمع كلمتها وقلوبها، وإطفاء نار التحزب والخلاف والفتنة بينها إلا هذا الطريق، أحببنا أم كرهنا.ووالله لن يسعد حكامهم، ولن تطيب حياتهم، ولن يشعروا بطمأنينة ولا سلام ولا سعادة إلا على هذا المنهج، من يرد عليّ؟ يا أهل البصائر قولوا، عندنا مثل: يا أهل القرية الفلانية! نسألكم بالله من هو أتقاكم لله، فلا يسرق ولا يزني ولا يكذب ولا يخون؟ الجواب: أعلمنا، أو في هذا وهم؟! في أي مكان أعلم أهله أتقاهم لربه؟ لمَ؟ لأنه عرف الله وعرف ما يحب وما يكره، وعرف ما لديه لأعدائه ولأوليائه فاتقى الله، أما أن تأمر جاهلاً بتقوى الله فلن يتقي الله؛ لأنه ليس أهلاً لتقوى الله.

دور العلماء في تعليم الناس ما يحب ربهم ويكره
ما زلنا ننادي: يا علماء الإسلام هيا! والله لولا المسجد النبوي لرحلت إلى قرية أو حي من أحياء مدينتنا وناديت في أهل الحي: أن اجتمعوا، هاتوا نساءكم، هاتوا أبناءكم، نصلي المغرب ونجلس إلى صلاة العشاء فنبكي بين يدي الله ونتضرع له، نتعلم هداه، نتعرف إلى محابه كل ليلة، وانظر إلى ذلك الحي كيف يزدهر، كيف تطيب النفوس وتطهر القلوب، ويتم الإخاء والمودة والحب، اتركوا أبوابكم مفتوحة طول الليل، من يأتيها؟ ما هناك من يجيب! ماذا نصنع؟وشيء آخر قلته غير ما مرة: حتى في البلاد التي فيها الحكم العسكري والضغط و.. لما يشاهد المسئولون اجتماع القرية في مسجدهم على هذا النور، والله لأتوا وجلسوا معهم واطمأنوا، واستفادوا أموالاً كثيرة يصبحون في غنىً عنها؛ لأن هذا التجمع في الله ينتهي معه الفقر المدقع، إذ إن العامل ناشط مبارك العمل، فينتهي الإسراف والشهوات والبذخ، والخبز والزيت كافيان، فلا نريد البقلاوة والحلاوة، ويتوفر الثياب واللباس، وتستريح الدولة، فهل ما نستطيع أن نفعل ذلك؟ يا علماء! أين الكتاب المفتوح إلى علماء المسلمين وحكامهم، إلى مسئولي أمة الإسلام علماء وحكام؟ بمن البداية؟ بالعلماء أو بالحكام؟بالعلما ء، والحكام يكفيهم مهمتهم، ولذا لابد أن العلماء هم الذين يقرعون أبوابهم، ويقدمون الهدى لهم، فهذا كتاب مفتوح كأنما وزعناه على القبور إلى الآن! سنة إلى الآن؟ هذا في فاتح المحرم، والله سنة، كأنما نشرناه على قبور الموتى، ما بلغنا أن عالماً حاول هذه الحركة بأدب واتصل بالمسئولين وقال: نجمع إخواني في هذا المسجد ولا.. ولا.. لا في الشرق ولا في الغرب، لا في العرب ولا في العجم، أبداً، كأن هذا الكلام باطل، أو خرافة، أو ضلالة، أو يجلب بلاء، أو يسوق إلى فتنة، والله لا ذاك ولا ذا، ما هو إلا أن نعود إلى الله؛ لنطهر ونصفوا ونكمل ونسعد، وينتهي الخبث من ديارنا، وينتهي الشر والفساد؛ ليظهر الحب والولاء، وينتهي كل مظهر من مظاهر الضعف والهبوط، إذا السُلَّم للرُقي هو ما قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

معنى قوله تعالى: (حق تقاته)
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، قال العلماء: حق التقوى: أن يذكر الله فلا ينسى -وها نحن نذكره ولا ننساه- وأن يشكر فلا يكفر -له نعمة، ولو خيط في إبرة، ما من نعمة إلا والله مسديها والمتفضل بها، لما تفتح وتنظر تقول: الحمد لله، أنا نظرت بفضل الله- وأن يطاع فلا يعصى، لا في أمر أوجبه ولا في نهي حرمه.وهنا جاءت آية من سورة التغابن خففت عن نفوس المؤمنين، وهي قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] اتقوا الله بالقدر الذي تقدرون وتستطيعون عليه، فمن أراد أن يحمل كيساً يحمل، فإن عجز تركه، ولا يقول: أنا ما أستطيع، لا، أولاً: قم طاعة لله واحمد، فإذا أراد أن يصوم ما يقول: ما أستطيع أن نصوم، وإذا أذن الظهر عجز أفطر، لما يعرف أنه اتقى الله في حدود طاقته، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] فهذه كالمخففة لعموم هذه الآية، وما قاله العلماء نعيش عليه، نذكر الله فلا ننساه، ونشكره فلا نكفره، ونطيعه فلا نعصيه. وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-24, 04:43 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (39)
الحلقة (180)
تفسير سورة آل عمران (44)


لا تزال أمة الإسلام بخير، ولا يزال الدين في منعة، ما اعتصم المسلمون بحبل الله المتين، وما كانت كلمتهم واحدة ورأيهم غير مختلف، وقد امتن الله على عباده من أمة الإسلام أن جمعهم على كلمة الحق، فكانوا بنعمته إخواناً، وأن أنقذهم من ظلمات الضلال والكفر وهيأ لهم الهداية والرشاد، وكل هذا من آيات الله التي يهتدى بها المهتدون.

تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل -القرآن الكريم- رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن ما زلنا مع هذا النداء الإلهي من سورة آل عمران عليهم السلام، وتلاوة هذا النداء بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].

مناداة الله لعباده بأن يتقوه حق التقوى
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نادانا الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه فكان هذا شرفاً لنا وإلا فمن نحن؟ وما نحن حتى ينادينا ملك الملوك، ذو الملك والجبروت، المحيي المميت، الذي يضع الأرض في كفه ويطوي السموات السبع في أخرى؟! لكنها منة الله علينا حيث رزقنا الإيمان به وبلقائه وبكتابه وبرسوله وبقضائه وبقدره فحيينا، أي: أصبحنا أحياء نسمع ونبصر وننطق ونأخذ ونعطي لكمال حياتنا، فلما أحيانا نادانا: يا أيها الذين آمنوا، فأجبناه: لبيك اللهم لبيك، مر نفعل، انه نترك، بشر نفرح، أنذر نحذر، علم نتعلم، هذا استعدادنا معشر الأحياء، أما الأموات فأنى لهم ذلك، وهذا النداء الكريم اشتمل على ما يلي: أولاً: على الأمر بتقواه عز وجل حق التقوى، وعرفنا -زادنا الله معرفة- أن الله يُتقى عذابه وسخطه وغضبه بطاعته وطاعة رسوله، فيا من يريد أن يتقي عذاب الله فلا ينزل عليه، وغضب الله وسخطه فلا يكون عليه، أطع الله ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم. كما عرفنا أن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله تكون بفعل الأوامر المستلزمة للوجوب، وبترك النواهي المستلزمة للتحريم، فبهذا يُطاع الله ورسوله، وبهذا يتقى الله جل جلاله وعظم سلطانه.

طريق معرفة أوامر الله ونواهيه
وهنا بكينا وقلنا: ما هي أوامر الله؟ وما هي نواهيه؟ ما عرفنا؟ ماذا نصنع؟ ما نستطيع أبداً أن نطيعه في شيء ما عرفناه، فتقرر عندنا أنه لابد من طلب العلم، ومن أعرض ولوى رأسه وأبى فمصيره معروف، من أعرض أعرض الله عنه، لابد من معرفة أوامر الله ونواهيه، والطريق إلى ذلك سؤال أهل العلم، إذ قال تعالى في آيتين من كتابه العزيز من سورة النحل والأنبياء: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] والمراد بالذكر: القرآن الكريم، فمن سأل وعلم عرف واتقى الله، ومن لم يسأل لم يعرف، وإذا لم يعرف كيف يتقي الله؟! مستحيل.

مصير المسلمين عند جهلهم بأوامر الله ونواهيه وإعراضهم عن شرعه
لو نظرنا إلى أمة الإسلام ذات الألف مليون -مضت عليها قرون- لوجدنا خمسة وتسعين في المائة لا يعرفون أوامر الله ولا نواهيه، إذاً كيف يتقون الله؟! كيف يتقون نقمه وعذابه وبأسه؟! ومن ثم سلط الله عليهم أعداءه وأعداءهم فسادوهم، وحكَموهم، وأذلوهم، وتحكموا فيهم، وأهانوهم، وأخرجوهم عن دائرة الكمال، وما زلت أقول: إن العالم الإسلامي لينتظر ساعة من أسوأ الساعات وأشدها؛ لأن الله تعالى مكَّن لهم في الأرض فأبوا أن يعبدوه، وأعرضوا عنه وعن كتابه وذكره، وغرتهم الحياة الدنيا بزخارفها، وقد كررنا القول: أين ربكم؟ بالمرصاد، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14]. إذاً: فالعالم الإسلامي تحت النظارة، وفي إمكانهم أن يعلنوا عن وحدتهم في أربع وعشرين ساعة، والصوت يدوي فيدخل كل بيت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وهذا كان متعدياً ومستحيلاً فيما مضى، لكن الآن في إمكانهم أن يجتمعوا على كتاب واحد يدرسونه، كلهم رجالاً ونساءً في العالم الإسلام بأسره، ولا مشقة في ذلك، بل في الإمكان أن يبايعوا إماماً لهم -الله أكبر إمامنا فلان- وإذا بالأمة الإسلامية تحت راية لا إله إلا الله محمداً رسول الله، وأسهل من أكلها البقلاوة وشربها الشاي، فقط تسلم قلوبها ووجوهها لله، وتصبح بلاد المسلمين حقاً بلاد المسلمين، لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي، كما في إمكانهم أن يطبقوا شريعة الله -فيزول الجهل ويظهر العلم- فيجتمع علماء الفقه ليضعوا الدستور الإسلامي في أربعة أيام، وفي أربعين يوماً يُطبع منه مئات الآلاف، ويوضع في يد كل حاكم ويقول لمسئوله: طبقوا شرع الله، وهذا كان مستحيلاً في القرون الماضية، ولو فعلنا ذلك فإننا سنطير في السماء كالملائكة، فما المانع أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله تعالى حتى تنتهي الفوارق، فلا عنصريات ولا تحزبات ولا مذاهب ولا تجمعات، وإنما مسلم فقط؟إن هذا الخير متوفر والمسلمون معرضون، فماذا عسى أن يكون مستقبلهم؟ أهملهم الله، إن لله سنناً، صدقت يا أبا عبد الله، قال: أمهلهم، إي نعم، إن الله يمهل ولا يهمل، وكأننا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على منبره ذاك يخطب في المؤمنين، ثم قال لهم: ( إن الله ليملي للظالم ) يزيده ( حتى إذا أخذه لم يفلته )، وقرأ قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، ما المراد بالقرى؟ العواصم، الحواضر، ما يقول: البادية، إذ البلاء في المدن، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102]، والحال أنها ظالمة، ظالمة لربها، ظالمة لنفسها، ظالمة لغيرها، أي: ما نهجت منهج الله المؤدي إلى سعادتها وكمالها، كالذي يحتسي السم ويشرب الخمر ويلاعب الأفاعي والحيات، فهل يسلم هذا؟! إذاً: فعلى المسلمين أن يتعلموا محاب الله ومكارهه، وكيف يؤدون تلك الفرائض على الوجه الذي من شأنه أن يولد لهم الطاقة النورانية في قلوبهم،وقد تكرر العلم عندنا أن هذه العبادات مولدة للنور، فأنت لا تدري إذا صمت ماذا حصل؟ وإذا صليت لم تدر ماذا حصل؟ إن هذه العبادة التي شرعها الله العليم الحكيم لعباده شرعها لهم من أجل تزكية نفوسهم وتطهير أرواحهم، فإذا كان الماء والصابون من شأنهما تطهير الأجسام أو الأبدان أو الثياب فكذلك العبادة إذا أداها عبد الله أو أمة الله بإخلاص لله -أداها وقلبه مع الله لا يتلفت إلى سواه، وأداها كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا زاد فيها ولا نقص منها، ولا قدم جزءاً ولا أخر آخر- فإنها تولد النور المسمى بالحسنات، فإذا زكت روح العبد أو الأمة رضيه الله وقبله ورفعه إليه.أما إذا كانت روحاً خبيثة عفنة من أوضار الذنوب والآثام، ولم تزك يوماً، ولم تطهر ساعة، فإن مصيرها سجين أسفل الكون، ولا ترتفع إلى الله، ولن تصل إلى الملكوت الأعلى، وهذا بنص كتاب الله تعالى، أما قرأنا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]؟ متى يدخل البعير في عين الإبرة؟! مستحيل، فكذلك صاحب الروح الخبيثة المنتنة بأوضار الشرك والمعاصي، مستحيل في حق روحه أن ترقى إلى الملكوت الأعلى. أيضاً: عرفنا حكم الله الصادر علينا إنساً وجناً، أولين وآخرين، حكم الله الذي لا يُوارِب، إذ قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فهل في الإمكان أن يُنقض هذا الحكم؟ من يقوى على نقضه أو التعقيب عليه والله القائل: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]؟! وهنا تقرر مصيرك يا ابن آدم ويا ابن الجان، فإن أنت عملت على تزكية نفسك فزت وأفلحت ونجوت من عذاب النار، وسكنت الجنة دار الأبرار. وإن أنت لوثتها بأكل الربا وتعاطي الزنا وسب العلماء وسب المؤمنين و.. و.. و.. أصبحت عفنة كأرواح الشياطين، فهيهات هيهات أن تقبل هذه الروح في الملكوت الأعلى، فالذي خلق الماء العذب والصابون المطهر للأبدان هو الذي أوجد كلمة: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، أو الله أكبر، أو الحمد لله، وما قالها مؤمن موقناً بها عالماً بمعناها إلا وعملت في نفسه الزكاة والطهر والصفاء، ولن تتخلف، ولا قال كلمة سوء أو نطق بكلمة باطل أو خبث إلا وانعكس أثره على نفسه ظلمة وعفناً ونتناً والعياذ بالله تعالى. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، وقد علمتم أننا نذكره ولا ننساه، ونشكره ولا نكفره، ونطيعه ولا نعصيه، وبذلك نكون قد اتقينا الله حق تقاته، وبهذا أمرنا.

معنى قوله تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
لننتقل إلى الأمر أو النهي الثاني، وذلك بعد أن نادنا وأمرنا بتقواه حق التقوى، نهانا أن نموت على غير الإسلام، فقال تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] و(اللام) هنا ناهية، فلا تمت يا عبد الله إلا وأنت مسلم، وقبل ذلك أمرنا بتقواه حق التقوى من أجل أن يرفعنا إليه بعد أن يطهرنا ويزكي نفوسنا، وهو ذا ينهانا عن الموت على غير الإسلام، لماذا؟ خشية أن ننقطع؛ لأنك قد تزكي نفسك أربعين سنة، بل سبعين سنة، ثم تقول كلمة الكفر فتتحول إلى عفن وإلى نتن والعياذ بالله، وعند ذلك يحال بينك وبين الملكوت الأعلى. وكلمة الكفر إن أردتم لها مثلاً فبحبة الهيدروجين أو الذرة، إذ إنها في وزن حمصة، لكنها تنسف مدينة بكاملها، فكذلك كلمة الكفر كلمة واحدة تبطل كل عمل صالح قد عملته، ولا عجب. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فإن من مات غير مسلم حرم من لقاء الله، استحال أمره أن يرفع إلى الملكوت الأعلى.

معنى الإسلام المطلوب تحقيقه
وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] قد سبق أن بينا للصالحين والصالحات معنى الإسلام، إذ إن الإسلام هو: أن تسلم قلبك ووجهك لله، فيا فلان هل أسلمت؟ نعم. هل أديت حق فلان؟ ما معنى: أسلم يا عبد الله؟ وأُسلم ماذا؟ أسلم قلبك ووجهك لله، فالمسلم الحق عبدٌ أسلم قلبه ووجهه لله تعالى، وفي القرآن: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، كيف أعطي وجهي لربي؟ لا ننظر إلا إليه، لا نرى إلا هو، كيف أسلم قلبي لله؟ لا يتطلب أربع وعشرين ساعة إلا في طلب رضا الله. فهذا إسلام القلب والوجه لله، فما لنا إلا الله، نأكل ونشرب لله، نبني ونهدم لله، نبيع ونشتري لله، ننام ونستيقظ لله، نتزوج ونطلق لله، لا تخرج أعمالنا أبداً عن دائرة رضا الله عز وجل، فهل عرف المسلمون هذا؟ وهل في إمكانهم أن يفعلوه؟ ما يستطيعون، ما عرفوا. إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، إذ كان صلى الله عليه وسلم يقول: ( إني أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية )، فأعلمنا بالله أتقانا لله، وأجهلنا بالله أفجرنا عن طاعة الله. عرف هذا الثالوث المكون من المجوس واليهود والنصارى معرفة يقينية، فأبعدونا عن العلم ووضعونا في برك الجهل نشرب منها ونرتع، والقرآن يُقرأ على الموتى منذ قرابة ألف سنة ولا يُقرأ على الأحياء وإنما على الموتى فقط من إندونيسيا إلى الدار البيضاء. أي سخرية هذه؟ أي استهزاء هذا؟ أي أجنون هذا؟ أي أموت هذا؟ تضع بين يديك ميت وترغبه وتعظه وتخوفه وتهدده بعذاب الله في الآيات، هل يقوم يتوضأ ويصلي؟! هل يقوم يستسمح منك ويقول: سامحني؟! كيف هذا؟! أين عقولنا؟! لا إله إلا الله! القرآن يُقرأ على الموتى؟! من فعل هذا بنا؟! اليهود.وأيضاً بقيت الأنوار المحمدية -السنة النبوية- ماذا فعلوا بها؟ قالوا: السنة فيها الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والصحيح والضعيف، اتركوها ويكفينا مصنفات الفقه التي صنفها علماؤنا! وما أصبح الرسول يُذكر بينهم، من يقول: قال رسول الله؟ أبعدهم العدو عن مصدر حياتهم كاملة، لا كتاب ولا سنة، فكيف نعرف الله والطريق إليه؟! معاشر المستمعين -وخاصة الغرباء والزوار- هل بلغكم هذا الكلام وسمعتموه؟ هل فهمتم ما سمعتم؟ دلوني على شخص يقول: تعال أسمعني شيئاً من القرآن، في قرية أو في حاضرة أو في أي مكان، هُجِر كتاب الله، والذين يقرءونه إنما يقرءونه على الموتى ليأكلوا الخبز والحليب، لا ليُعرف الله ومحابه ومكارهه.

تعاليم ربانية لمن أراد أن يموت مسلماً
يا من صح عزمه على ألا يموت إلا مسلماً، أنصح لك بالتالي، إليك هذه التعاليم:

أولاً: أن لا ننسى الله أبداً
أولاً: أن لا تنسى الله أبداً، دائماً اذكره، فإذا أكلت: باسم الله، شربت: باسم الله، فرغت من الطعام: الحمد لله، نمت: باسم الله، استيقظت: باسم الله، أخذت المعول أو الفأس: باسم الله، ضربت: باسم الله، وعندها تصبح حياتك كلها مع الله، ومثلك لا يموت على غير الإسلام، وأما الذين يتعرضون للموت على غير الإسلام هم الذين يعرضون عن ذكر الله، هم الذين ينسون الله.إذاً: فأول ما ينبغي أن نعلم ونعمل ألا ننسى الله أبداً، نذكره طول النهار والليل، حتى عند الدخول إلى المرحاض تقول: باسم الله الذي لا إله إلا هو، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، الرجس النجس الشيطان الرجيم، وثم تسكت فلا تتكلم، فإذا خرجت ألقيت برجلك اليمنى خارج المرحاض وقلت: الحمد لله الذي رزقني لذته وأبقى في جسمي قوته.

ثانياً: أداء الواجبات باجتهاد وصدق
ثانياً: أداء الواجبات باجتهاد وصدق -ومن أعظمها: الصلوات الخمس- إذ إن أداء هذه الفرائض والمحافظة عليها فيه ضمان للموت على الإسلام، والذي يتلاعب أو يتهاون بها، يأتيها يوماً ويترك يوماً، والله إنه لعرضة لأن يموت على غير الإسلام.وبالتال فالذي يسلك الطريق في صدق، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، يُرجى له أن يصل إلى غايته، والذي يتلاعب ويمشي خطوات ويرجع للوراء، أو يميل ذات اليمين وذات الشمال، قد لا يبلغ هدفه، ولا يصل إلى غايته.

ثالثاً: الابتعاد عن الكفر وأهله
ثالثاً: الابتعاد كل الابتعاد عن الكفر وأهله، فلا تقيمن بين كافرين، فإنك لا تأمن أن تنتكس وتنقلب على رأسك، فلهذا حذر أبو القاسم من ذلك وقال: ( لا تتراءى نارهما ) ، فالبعد كل البعد عن أهل الكفر.

رابعاً: البعد عن أهل الفسق والفجور
رابعاً: البعد عن أهل الفسق والفجور، فإنهم يعدونك بالعدوى، فلهذا قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28] أي: احبس نفسك مع أهل لا إله إلا الله، ألزمها بالعيش معهم والبقاء بينهم، وتجنب مجالس الباطل والسوء.

خامساً: الحذر من كتب ومصنفات أهل الكتاب
خامساً: الحذر من كتب ومصنفات كتبها المجوس واليهود والنصارى، إذ إن هذه الكتب قراءتُها تفتح لك أبواب الردة وتصاب بها وأنت لا تشعر، فهذا عمر رضي الله عنه كان في يده ورقات من التوراة، فنظر إليه رسول الله وسأله ما هذا؟ فقال: ورقات من التوراة، فقال له صلى الله عليه وسلم: ( ألم ائتكم بها بيضاء نقية؟! كيف يهدونكم وقد ضلوا؟! ارمها يا عمر )، وقد عرفنا أن مئات الآلاف من المسلمين هلكوا بتتلمذهم لعلماء الإلحاد والشرك والكفر، والانقياد لهم والإذعان لتعاليمهم، فماتت قلوبهم وأصبحوا أجساماً بلا أرواح، وأكثرهم يموت على سوء الخاتمة.

سادساً: تطهير البيوت من المعاصي والآثام
سادساً: طهروا بيوتكم كما طهرتم مجالسكم، أنصح لكم فأقول: أخرجوا كل آلة تعرض صور الخلاعة والدعارة والنساء والرجال، وتسمعكم أصوات الكفر والكافرين، إذ إن هذه أخذ يظهر أثرها ويموت أهلها على سوء الخاتمة، فانتبهوا، وإذا أُلزمتم بالحديد والنار فهاجروا، اتركوا البلاد التي ألزموكم فيها بأن تعمروا بيوتكم بالشياطين وترحِّلوا منها الملائكة لتعيشوا مع الشياطين، كيف يرحمونكم؟! أسألكم بالله، الذي امتلأ بيته بالشياطين كيف يستطيع أن يموت على الإسلام؟! ومرة ثانية أقول: من أُجبر وأُلزم بأن يدخل الفيديو والتلفاز والسينما في بيته بالقوة فيجب عليه أن يهاجر، يلتحق بالجبال وبالسهول والأودية أو بمناطق أخرى، ولا يرضى أبداً أن يتهيأ لأن يموت على غير الإسلام، وقد سمعت اليوم خبراً عظيماً: جاءت امرأة تشكو زوجها فقالت: زوجي لا يصلي! كيف لا يصلي؟! شكته للمحكمة فصلى فترة ثم ترك الصلاة، فقلت لها: ماذا يصنع؟ قالت: لا يعمل شيئاً، فقط هو جالس في البيت عند التلفاز أمام الأغاني والمسلسلات، وعنده مال أودعه في بنك، وهو يعيش على فوائده! فلأول يوم سمعنا هذا! كم يعطونهم؟! خمسة في المائة؟ اجعلها سبعة، إذا كان عنده سبعمائة ألف؟ كم يعطونه؟ سبعين ألفاً، ومع ذلك لا يصلي ولا يعمل شيئاً، وإنما يفجر فقط ويغني. الآن تبين لنا آثار الربا أم لا؟ إن هذه البنوك من وضع الثالوث وتخطيطه، ومد المؤمنون أعناقهم واستسلموا للشيطان، والمؤمن بحق يرضى أن يموت جوعاً ولا أن يأكل لقمة حراماً، يرضى أن يعمل الليل والنهار من أجل الخبز والزيت -إن أمكن- ولا يرضى أن يجاهر ربه بالمعاصي، لكن الشياطين التي ملأت بيوت القوم وطردت الملائكة هي التي تزين لهم هذا وتحسنه. إذاً وهو أخيراً: طهروا بيوتكم من الشياطين، فإنها لا يخلو منها بيت، ترى فيه تلك الصور في فيديو أو تلفاز أو آلة سينما أو أي آلة، ومن كذب بهذا فقد كذب رسول الله وكفر، ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ) والذي يعيش زمناً وهو مرتاح النفس، يضحك مع أهله، مع عاهرة تغني أو ترقص، والله ما نستطيع أن نجزم له بالموت على الإسلام، ولكن كيف ينجو ويموت وقلبه مع الله؟! فهل عرفتم نهي مولاكم: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]؟ فابعثوا، فاعملوا، فابعثوا على كل وسيلة من شأنها أن تحفظ لك إيمانك وطهرك وصفاءك في قلبك حتى تُسلَّم روحك لملك الموت وهي كأرواح الملائكة في الطهر والصفاء، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا [آل عمران:102] والحال أنكم مسلمون، قلوبكم ووجوهكم لله.

تفسير قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا...)
قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]. ‏

معنى قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً)
جاء أمر آخر لنا نحن أولياء الله المؤمنين المتقين: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103] أغنياؤكم فقراؤكم أمراؤكم علماؤكم خدمكم نساؤكم أولادكم، كلكم، والمراد بحبل الله الممتد من السماء إلى الأرض: الإسلام بشرائعه، بأحكامه، بآدابه، بأخلاقه، والذي يمثله القرآن الكريم، فتمسكوا به، عضوا عليه بالنواجذ، وإياكم والفرقة، فلا تقل: أنا شافعي وتستبيح ما شئت، ولا يقول هذا: أنا حنفي ويفعل ما يشاء، ولا يقول هذا: أنا حنبلي، أنا مالكي، فلا فرقة، وإنما الجمع فقط، وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل القرون الذهبية -خير القرون- وهم لا ينتمون إلا إلى الله ورسوله، مسلمٌ، قال الله قال رسوله.وهذا يتطلب منا أن ندرس كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهما نرد ومنهما نصدر، فهيا بنا نعد إلى دراسة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيهما الغناء الكامل، لكن للأسف أصبحت السنة تُقرأ للبركة، فنقرأ كتاب البخاري إلى اليوم للبركة، مع أننا قد استيقظنا، وها نحن ندرس كتاب الله من أربعين سنة -الحمد لله- فهل ضللنا بقراءة كتاب الله ودراسته؟ والله ما ضللنا، وإنما اهتدينا، وهل دراستنا لأحاديث رسول الله تفرق شملنا وتشتت جماعتنا، وتجري العداوة والبغضاء بيننا؟! لا. أبداً.

الفرقة والاختلاف سبب في طمع الأعداء في الأمة الإسلامية
قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103] أغنياؤكم فقراؤكم أمراؤكم علماؤكم خدمكم نساؤكم أولادكم. كلكم يا أهل الإسلام اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، فإن الفرقة هي الحالقة، ما إن تفرق المسلمون وأصبحوا مذاهب وطرقاً حتى تسلط عليهم عدوهم، فسادهم وحكمهم وأذلهم كما علمتم وكما تعلمون. الآن لنا أربعة وأربعون دولة، آلله أمر بهذا؟ هل الرسول أوصى بهذا؟ أسألكم بالله، هل هذه تفرقة أم جمع؟ لمَ لا نعلن عن الوحدة في أربع وعشرين ساعة؟ تعالوا إلى الحرم الشريف، إلى الروضة ونقول: بايعنا فلاناً، هاتوا كتاب الله واحكمونا به، وتصبح ديارنا واحدة، لا شامي ولا يمني، لا شرقي ولا غربي، لا عربي ولا أعجمي، وبذلك نأمن ونسود ونقود وننقذ البشرية من وهدة الضلال والفقر والعياذ بالله، ما المانع؟ قلوبنا مريضة، ما تربينا في حجور الصالحين، وعندنا براهين قاطعة، ونحن مع أبنائنا وإخواننا مللناهم من هذا الكلام . أبرهن لكم أم لا على أننا لسنا بأهل للكمال والإسعاد؟ دبر الله الأمر -ولا مدبر إلا هو- فوضع العالم الإسلامي تحت أقدام بريطانيا وبلجيكا وهولندا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال، إنها آية من آيات الله، سبحان الله! المسلمون أصبحوا مسودين محكومين تطبق فيهم شرائع الكفر؟! إنها أعظم آية من آيات الله، وفجأة وبعد سبعين مائة من السنين أزال الله سلطان الكفر وحرر المسلمين من اندونيسيا إلى بريطانيا، فاستقلوا وتحرروا، وهذه فتنة أخرى. وقد قلت والله يعلم: لو ربينا في حجور الصالحين، وكانت نفوس علمائنا ورجالنا ونسائنا ومشايخنا وأهل البصيرة فينا، لو كانت البصيرة حقة، والنفوس طاهرة، كان المفروض -واسمعوا- أيما إقليم يستقل عن فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، أيما إقليم يأتي إلى الدولة القرآنية، لكن قد يقول قائل: يا شيخ أين هذه الدولة؟ إنها ليست بموجودة، لا، أوجدها الله جل جلاله وعظم سلطانه، وهي آية من آياته، ومعجزة من معجزات الأنبياء، وإلا فكيف والعالم الإسلامي تحت أقدام الكفار، ويأتي عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ويعلن عن دولة القرآن في الرياض! أين بريطانيا؟ أين فرنسا؟ أين أمريكا؟ كيف يتم هذا؟! والله ما تم إلا بالله، ومن شك فلينظر إلى إخوانه في كل ديارهم، هل لهم أن يطبقوا الشريعة؟ لا، إنهم يخافون من الكفار وهم مستقلون! يمالقون ويتملقون الكفار بإعراضهم عن الشريعة وعدم تطبيقها، ويأبى الله ويأتي بهذا الرجل فيعلن عن دولة القرآن، ويؤسسها على دعائم وضعها الله لا سقراط ولا نابليون ولا فيلسوف، أربع دعائم وضعها الله عز وجل، كم سنة ونحن نذكر هذا، والعالم الإسلامي يستقل من الوقت إلى الوقت، ولا استطاع إقليم عربي أو أعجمي أن يقيم دولته على قواعد وضعها الله بنفسه؟ ما هذه القواعد؟ اطلبوها في الدساتير البريطانية لا توجد، إنها لا توجد إلا في القرآن الذي حوَّلوه ليُقرأ على الموتى فقط. جاء في سورة الحج المدنية المكية قوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، كلام من هذا؟ هل يحتاج إلى تفسير؟ الذين إن مكناهم، أي: سوَّدناهم، حكَّمناهم، ملكوا، ماذا فعلوا؟ أقاموا الصلاة إجباراً، إذا قيل: حي على الفلاح وقف دولاب العمل، ووقفت الحياة كلها، وأقبل المؤمنون على بيوت ربهم، إذ لذلك خُلِقوا، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، على هذه الدعائم أقام عبد العزيز دولته هذه التي بقيت باقية، أقامها على هذه الدعائم فأقيمت الصلاة، وجبيت الزكاة، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، واستقل العالم الإسلامي قطراً بعد آخر، وهذا محل الشاهد. فلو كنا أهلاً للسيادة والعزة والطهر والكمال، فأيما إقليم يستقل يأتي وفد منه ويقول: يا عبد العزيز، استقل الإقليم الفلاني، جزء الدولة الإسلامية، ابعث لنا قضاة، وابعث والياً عاماً يدير هذا الإقليم، فهمتم هذه اللغة أو لا؟ ممكن ما تقبلونها، والله الذي لا إله غيره لو كنا أهلاً للكمال لكان كل إقليم يستقل ولو كان كالباكستان مائة مليون، يأتي رأساً إلى عبد العزيز ويقول: استقل القطر الفلاني، ابعث قضاة يطبقون شرع الله، ابعث والياً عاماً يطاع بطاعة الله ورسوله، وهكذا في ظرف سبعين سنة والعالم الإسلام كل عام عامين يستقل إقليم، وإذا بأمة الإسلام أمة واحدة، فلمَ لا نفعل هذا؟ أجيبوا؟ إنه الجهل المركب، وظلمة النفس، وحب الدنيا والشهوات والأهواء، والإعراض عن ذكر الله وشرعه ودينه، فهل هناك غير هذا؟ والله ما هو إلا هذا. من يرضى بهذه الدويلات والأقاليم؟ إن بلاد المسلمين بلد واحد، حكمهم واحد، شريعتهم واحدة، فلمَ تفرقوا؟ عصوا الله وفسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، ولم يعتصموا بحبله، وتفرقوا، فأذاقهم الله المرارة، في هذه الظروف التي أصبحنا كأننا نقرب من الجنة، فلو كان العالم الإسلامي أمة واحدة لكنت تشاهد ماذا؟ما تستطيع أن تدرك النعيم الذي يفيض على المسلمين. حب وولاء، طهر وصفاء، مودة وإخاء، ربانية لا تحلم بها، لكن استجابوا للعدو، وأعرضوا عن الله ورسوله وكتابه، فهم إذاً تحت النظارة، ولا تبكي وتقول: الخلافة والدولة؛ لأننا لو كنا رشداً فأيما إقليم يستقل يُقدِّم مفاتيحه، وحتى دول الجزيرة -البلد الواحد- جزيرة الإسلام، كل إقليم منطقة للاستقلال، ماذا ينتظرون؟ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14] فاتت الفرصة وضاع الأمل إلا أن يشاء الله يقلب تلك القلوب ويلويها. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:102-103] بهذا أمرنا، فنعيش -والحمد لله- لا على مذهبية ولا وطنية ولا إقليمية، وإنما مسلم أعيش لله.

معنى قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم)
وأخيراً يقول تعالى لنا: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [آل عمران:103]، هذه وإن نزلت في أصحاب رسول الله فهم آباؤنا وأجدادنا، لما اجتمعت كلمتهم بعد التفرق جاء النور والهداية، وجئنا للإسلام والمسلمين، فهي نعمة ما تنسى، نذكر الله تعالى ونشكره عليها. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-24, 04:49 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (40)
الحلقة (181)
تفسير سورة آل عمران (45)


يدعو الله عز وجل عباده المؤمنين إلى طاعته، ويحضهم سبحانه وتعالى على تقواه واتباع سبيله، وأن يكونوا عباده المسلمين، وحتى يكون العبد من المسلمين فعليه أن يلتزم الآداب الإسلامية، ومن هذه الآداب أن يبقى لسانه رطباً بذكر الله عز وجل، وأن يؤدي واجباته الشرعية باجتهاد وصدق، وأن يفارق أهل الكفر والعصيان والفجور، وأن يطهر نفسه وبيته من المعاصي والآثام، وغير ذلك من الآداب الإسلامية.

تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقط رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! ما زلنا على عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع ذلكم النداء الإلهي العظيم من سورة آل عمران، وتلاوته بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].

التقوى طريق تحقيق ولاية الله تعالى
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نادانا مولانا أولاً ليأمرنا بتقواه، إذ تقواه عز وجل -كما علمتم- هي الخطوة المؤكدة لولاية الله لعبده الله المؤمن وأمته المؤمنة، والأمر بتقوى الله عز وجل معناه تحقيق ولاية الله للعبد، إذ لا يكون العبد ولياً لله إلا إذا كان تقياً لله. واذكروا قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فهذه التقوى عليها مدار تحقيق سعادة الدنيا والآخرة، إذ إن أهلها لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقد نبهنا إلى أنه لا يتأتى لعبد ولا لأمة من إماء الله وعبيده أن يتقي الله بدون ما لم يعلم ما يتقيه فيه، فثبت أن طلب العلم فريضة أكيدة، فالذي لا يعرف ما أوجب الله ولا ما حرم الله -أسألكم بالله- كيف يفعل واجباً ما عرفه؟! كيف يحذر ويتقي محرماً ما عرفه؟! غير ممكن أبداً. فوجب على كل من دخل في الإسلام أن يعرف ما أمر الله به وما نهى عنه بنية أن يفعل المأمور، وأن يجتنب المنهي.وكما قد علمتم أكثر من هذا، أن كل أوامر الله ونواهيه تدور على تزكية هذه النفس وتطهيرها، ففعل الأوامر أدوات تزكية، وترك المحرمات إبقاء على التزكية كما هي، فالذي يصلي ركعتين ويشتم مؤمناً كأنما غسل ثوبه ثم أفرغ عليه زنبيلاً من الوسخ، وهذا عابث ولاعب، والذي أدى الزكاة فزكت بها نفسه ثم انغمس في أكل الحرام من السرقة والربا، كان كمن اغتسل بالماء والصابون ثم أفرغ عليه زنبيلاً من القاذورات والأوساخ. ففعل الأوامر أدوات تزكية، واجتناب المنهيات إبقاء لتلك التزكية على ما هي، فإنه إذا ارتكب كبيرة معنى ذلك أنه عم ذلك الأثر وأفسده، ولهذا أرشدنا الرسول الكريم بقوله: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها )، وقعت نجاسة في يدك أفرغ عليها الماء واغسلها، وقعت لطخة من دم في ثوبك أفرغ عليها الماء واغسلها، كذلك قلت كلمة سوء، نظرت نظرة محرمة، تناولت ما لا يحل لك، عجل بالتوبة، واعمل الصالحات، فإنها تحيلها إلى كتلة من النور، ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ). إذاً: هذه هي التقوى التي أمر بها المولى عز وجل لصالحنا قطعاً.

معنى قوله تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
ثانياً: نهانا الله فقال: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فنهانا أن نموت على غير الإسلام فيفسد كل ذلك الذي بنيناه وينهدم كما علمنا، فلو أن عبداً عبد الله سبعين سنة ليلاً ونهاراً، ثم قال كلمة الكفر أو الشرك ومات عليها انمحى ذلك كله ولم يبق له أثر، ومن هنا أرشدنا ولينا -وله الحمد والمنة- على أن نحافظ على إسلامنا لله، أي: نسلم قلوبنا ووجوهنا لله حتى يتوفانا ونحن مسلمون، والإنسان لا يدري تقلبات الحياة، فقد يأتي يوم يكره فيه العبادة ويبغض فيه الصالحين.وهذا الصديق ابن الصديق ابن الصديق، يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول في ابتهاله بينه وبين ربه: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، أتدرون متى قال هذه الكلمة؟ قال هذه الكلمة لما جلس على أريكة الملك، وحكم الديار المصرية، وأصبح مالكها، ودانت له بالطاعة، وجاء الله بأبويه وإخوته، وتم له كل مطلوب في هذه الحياة، فبدل أن يقبل على النساء وعلى اللهو والطعام والشراب، إذ إنه كان في نِعم متوالية، بدل أن يقبل على اللذات والشهوات، بعد أن حضرت بين يديه، وتم له السلطان عليها والقدرة، رغب عنها بالمرة، واتصل بذي العرش يقول له: يا رب، يا خالقي، ويا رازقي، يا إلهي الذي ليس لي إله سواه، قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف:101]، وهي النبوة وتعبير الرؤى -ولا ننسى تعبيره لرؤيا الملك وهو في السجن- فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يوسف:101]، يا خالق السموات والأرض، أنت لا غيرك، أنت وحدك، وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [يوسف:101] . إذاً: توسلتَ إليك رب بإنعامك عليّ، وها أنا أريد منك شيئاً واحداً وهو أن تتوفني مسلماً وتلحقني بالصالحين، فهل عرفتم هذا؟ إخواننا آباؤنا أبناؤنا من أهل الجهل والغفلة بمجرد ما يجلس على أريكة، سواء كانت وظيفة أو شركة، بدل أن يفزع إلى الله ويشكو ويبكي بين يديه يستفرغ ذلك كله في الشهوات، وكأنما أعطاه الله ما أعطاه ليعصيه به وحاشا لله. تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، هل تسألون ربكم هذا أو لستم في حاجة إليه؟! لم لا نسأل؟! يا فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي [يوسف:101] وليس لي ولي سواك في الدنيا والآخرة معاً، أطلب منك أن تتوفني مسلماً، أي: على الإسلام، إسلام قلبي ووجهي لك، وقد علمنا من قبل معنى إسلام القلب والوجه، فأسلم قلبك لله، فلا تفكر أبداً إلا في ما يرضي الله، لا تلتفت بقلبك إلى غير الله، لا مانع ولا معطي ولا ضار ولا نافع ولا رافع ولا واضع إلا هو، أعطه قلبك ووجهك، فلا تلتفت إلى أحد سواه، أنت وليي فليس لي ولي سواك.

بعض التعاليم لمن أراد أن يموت مسلماً
كما بينت لكم ما ينبغي أن نسلكه لنحصل على هذه الجائزة العظمى وهي أن نموت مسلمين، فمن ما بينت لكم: البعد عن مجالس السوء والباطل حتى لا تسري العدوى إلى قلبك من قلوبهم، فهذا الله جل جلاله يوصي رسوله ويقول له: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28]، فاحذروا مجالس السوء -وأنتم تعرفونها- كمجالس الغيبة والنميمة والقمار والكذب والأغاني والمزمار والأباطيل والأضاحيك فأهلها قلوبهم ميتة. ثم طهروا بيوتكم ونقوها، اطردوا الشياطين منها -وقد أعطاكم الله قدرة على ذلك- واملئوها بالملائكة أهل النور، فلا يرى الله تعالى في بيتك في حجرتك في غرفتك شاشة للتلفاز أو الفيديو، كما لا يرى الله عاهرة من عاهرات الدنيا تغني أو تتبجح وتتكلم، أو يرى كافراً أو فاسقاً في بيتك يتكلم بالباطل وينطق بالسوء. وقد ظهرت آثار هذه الفتنة، وأصبح الناس يموتون على سوء الخاتمة، إذ إن لله سنناً لا تتبدل أبداً، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، ومجالسة السوء والإقبال عليه وإعطاؤه القلب والنفس نهايته أن يموت العبد وهو لا يقول: لا إله إلا الله. واذكروا قول الله عز وجل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وإرشاد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن )، والله عز وجل يقول -وقوله الحق- في سورة النساء: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، حق أوجبه على نفسه تفضلاً منه وتكرماً على عبده، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، ما السوء؟ موسى؟ سكيناً؟ سماً؟ ما السوء؟ قيل: إن عالماً بالرياض يعرف السوء، فهل نبعث إليه واحداً يعلمنا السوء أو ليس هناك حاجة؟ وإن قالوا: إنه غير موجود في الرياض، فقد التحق بالهند، فهل نبحث من نبعث إليه أو ليس هناك حاجة؟ ما السوء؟ السوء: كل ما أساء إلى نفسك، فلوثها بالعفن والنتن والظلمة من سائر الذنوب والآثام، كل ما يسيء إلى تلك النفس الطاهرة فيخبثها أو يلوثها فذلكم هو السوء، وعليه فيدخل في السوء كل معصية صغرت أم كبرت، وإنما التوبة على الله حقاً وصدقاً منته تفضله إحسانه، وإلا فمن يوجب على الله شيئاً وهو قاهر الخلق وملك الكل؟! لكن من إحسانه يوجب على نفسه اطمئناناً لقلوبنا، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17] أولاً، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] ثانياً. ما معنى: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]؟ أنواع الجهالة كثيرة، منها: أن يقول: هذا العالم الفلاني يفعل في هذا، فلو كان حراماً ما فعله، فهذا نوع من الجهالة، ومنها: أن يقول: هذا أحسن من أن أقتل فلاناً أو أفعل كذا وكذا، يهون هذا الذنب ويخففه، كذلك من الجهالة أن يقول: سيتوب الله عليّ وأتوب، أو يقول: إذا فعلت كذا أتوب، فهذه أنواع الجهالة، ويخرج منها ذاك الذي يتعمد معصية الله والفسق عن أمره عناداً ومكابرة على علم، ومثل هذا لا يتوب الله عليه، إنما يتوب الله على من فعل المعصية بجهالة من الجهالات، ثم يتوب من قريب، لا يؤجلها العام والأعوام، أما الذي يعرف أن الله حرم هذا ويفعله ساخراً وضاحكاً، فمثل هذا لا يتوب أبداً، ولا تقبل له توبة، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17] عليم وحكيم يضع كل شيء في موضعه. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، الباب أُغلق، ما تنفعه تلك التوبة، وقد بين الحبيب صلى الله عليه وسلم هذا الإجمال بقوله: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) إن الله يقبل توبة العبد والأمة ما لم يغرغر، تعرفون الغرغرة؟ آه، ما يُفصح، عندنا لها مثل الحاضرون ما عرفوه، أيام كانت البطارية -الحجر- التي نُشغِّل بها الإذاعة -سبحان الله- الكهرباء كالروح لا محالة، وهي الطاقة، لما تفرغ تلك الطاقة تصبح تلك البطارية تغرغر، فتسمع لها خشخشة، وكأن الروح كادت أن تخرج، فسبحان الله! الكهرباء هذه سواء بسواء، فإذا غرغرت وحشرجت الروح في الصدر فلا تقبل توبة العبد، ونحن لا ندري متى نموت؟ أو فينا من يعلم ذلك؟ يكذبكم من يدعي أبيضاً كان أو أسوداً. إذاً: فمن هنا وجب علينا أن نأخذ بالإرشاد المحمدي: أتبع السيئة الحسنة، والتوبة بإجماع أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة على أنها تجب على الفور، فلا توجد توبة يقول لك: أخرها أسبوعاً، أو انتظر بها حتى يأتي فلان، أو انتظر حتى تتوظف، أو انتظر حتى تتزوج، فهذا كله باطل ولا وجود له، وكل هذا من أجل أن نحقق مطلوب الله منا، ألا وهو: أن نموت مسلمين، فقلوبنا لله لا للشيطان ووجوهنا لله لا للشياطين.

أمر الله لعباده بأن يعتصموا بحبله ولا يتفرقوا
ثم جاء الأمر الثاني: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، كيف نعتذر اليوم إلى الله؟ واعتصموا، الاعتصام: الالتفاف حول الشريعة، وأخذها بعقائدها وعباداتها وآدابها وأخلاقها وأحكامها، اعتصامٌ كامل بذلك الحبل الممتد من العرش إلينا، ألا وهو الإسلام وكتابه وشرائعه. كيف حالكم معاشر المسلمين؟! كم مذهباً عندكم؟ سبعون، كم طائفة؟ كم حزباً؟ كم دولة؟ أين الاعتصام بحبل الله؟! أين عدم التفرق؟! وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقد خلعنا أيدينا من حبل الله وتركناه مدلى، وقلَّ من يُمسكه، فغضب فانتقم، لما تفرقنا وتمزقنا سلط الله علينا أوروبا التي كانت ترتعد فرائصها إذا قيل: عربي عند الباب. حدثنا الشيخ رشيد رضا في مناره عن شيخه محمد عبده رحمهما الله ورضي عنهما -وهناك فئة لا هم لها إلا النقد والطعن! وإنه لضلال في ضلال- قال: كنت في فندق في باريس -أستغفر الله- أو سويسرا فقلت لربة الفندق: أريد ماءً أتوضأ به، فجاءته بإناء فيه ماء -الشيخ محمد عبده يتوضأ ليصليَ المغرب أو الظهر- قال: فلما فرغت من الوضوء من ذلك الماء -ممكن في صحفة أو غيرها- جاءت طفلة جويرية صغيرة تحبو كعادة الأطفال الصغار، وأرادت أن تمس الماء، فقالت لها أمها: كخ كخ. فقالت البنت: ماما ماما ديدان ديدان. أي: العربي هذا سقطت منه هذه الديدان! فانظر كيف حذرت الأم الطفلة وقالت لها: كخ كخ، ابعدي، لمَ يا أماه؟ فيه وسخ هذا العربي، فالبنت انحسرت عنه فقالت: ماما ماما، ديدان، حشرات موجودة، جراثيم! فإذا أرادت هذه الأم أن تخوف ابنتها تقول: عربي عند الباب! فهل عرفتم أوروبا؟ واسألوهم، إذا أرادت الأم أو الأب أن يخوف ولده يقول له: عربي عند الباب! وكلمة: (عربي) عندهم يعني: مسلم، فكل مسلم عربي، صيني هندي بخاري، كل مسلم عربي، فكلمة: (عربي) هذه طغت؛ لأنهم هم الذين نشروا نور الله، وأخذوا الإسلام وبلغوه الشرق والغرب. فهؤلاء عرفوا كيف يعاملوننا، فمزقوا جمعنا وشتتوا شملنا، فقط الطرائق في قرية واحدة سبع طرائق: التجانية، القادرية، العيساوية، الرحمانية، الأحمدية، وكل طريقة يجتمع أهلها فيشربون الشاي ويأكلون، لا رابطة ولا جامعة، فهم على مذاهب شتى، فإذا قلت لأحدهم: هذا هو الحديث، يقول لك: لا، أنا مالكي! اسأل كذا، فيأتي للآخر فيقول لك: لا، أنا حنفي! آلله جاء بهذا؟! هذه مظاهر الخلاف والفرقة، كما جاءت مصيبة أكبر وهي الحزبية، فهذا حزب فلان، وهذا حزب فلان، وهكذا لما هبطنا سلط الله علينا أوروبا فساسونا وسادونا، من يقول: لا، والله إلا هذه البقعة فقط، كرامة الله لرسوله ولبيته، والعالم الإسلامي تحت أقدام الكفار، لمَ؟ لأنهم عصوا ربهم.قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وهؤلاء نفضوا أيديهم من حبل الله وتركوه وتفرقوا، وبالتالي حقت عليهم كلمة العذاب. وإلى الآن ما زال المسلمون متفرقين جاهلين متخاصمين متباعدين، فلا إله إلا الله! وتأتينا مجلة كشمير اليوم إلى البيت فنشاهد الدماء مسفوكة والعظام مكسرة، فماذا نصنع؟ تأتي أنباء البوسنة والهرسك و.. و.. والشيشان فماذا نفعل؟ جاءتني اليوم ورقة منشورة عن أحد الإخوان قال: وصل إلى البوسنة والهرسك من المدينة ثلاثة آلاف مجاهد. كذب هذا! ثلاثة آلاف مجاهداً؟! أين تدربوا؟! أين تعلموا؟! كيف يجاهدون؟! يذهبون ليزاحموا أولئك المبتلين الممتحنين في قرص العيش؟! بماذا يجاهدون؟! أهكذا الجهاد؟! إن الجهاد في أمة لا إله إلا لله أن يقودها أمام واحد، هو الذي يبعث بالكتائب ويرسل بالفيالق التي تغزو وتفتح، أما أن ننتكس هذه الانتكاسة ونجاهد هذا الجهاد فلا عندما نكون أمة هابطة لا نستطيع أن نجاهد في أي بلد؛ لأننا ما ربينا في حجور الصالحين، ولا تجمعنا جامعة ولا تربطنا رابطة، وليس لنا من الآداب والأخلاق ما يوحد كلمتنا أو يؤاخي بيننا، فنحتاج إلى تربية ربع قرن على الأقل، خمسة وعشرين سنة حتى نعرف قيمة الجهاد. إخوانكم في الجزائر أربع سنوات أو ثلاث إلى الآن يريقون دماء بعضهم بعضاً، ويمزقون لحوم بعضهم بعضاً من أجل الجهاد، وإقامة الدولة الإسلامية؟ هل ستقوم؟! أين الذين تقوم عليهم الدولة؟ أين أولئك الأبرار الصادقون الصالحون أولوا البصائر والنهى الذين يذوبون في ذات الله، الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟ أمة هائجة تجري وراء الشهوات والأطماع هل يمكنها أن تتلاءم وتنحني بين يدي الله فتعطيه القلب والوجه حتى يسودها شرع الله؟ واحسرتاه! ولكن ماذا يجدي البكاء والتأوه، من الآمر بهذا الأمر: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] إنه الله.

معنى قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم)
وآخر أمر: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [آل عمران:103]، المسلمون في الهند قبل دخول الإسلام عليهم كانوا أعداء لبعضهم البعض، المسلمون في الشام، في إفريقيا، في أي مكان قبل وجود الإسلام ما كانوا على المودة والإخاء، بل كانوا على الفرقة والبلاء، وبخاصة أهل المدينة -الأوس والخزرج- فقد دارت رحى الحرب بينهم أربعين سنة، وذلك بين قبيلتين من أصل واحد أيضاً، ولكنه الجهل والكفر والعمى والضلال، فجمع الله بين قلوبهم بصورة عجيبة بالإسلام

امتنان الله على رسوله بأن ألف بين قلوب المؤمنين
واسمع قول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63]، فلو تأتي الآن دولة كبيرة كأمريكا، وتأتي بباخرة كلها دينار أمريكاني أو دولار وتقول للجزائريين: تحابوا، تعاونوا، تلاقوا، تعانقوا، خذ شيكاً بمليار، خذ شيكاً بكذا، فهل تزول الأحقاد والإحن والبغضاء والفتن؟ والله ما تزول، يأخذون المليارات، ويأخذون في الإسراف فيها والفساد والشر، فلا ننفع. لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63]، ما معنى: مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [الأنفال:63]؟ من الأموال؟ لا تفهم أن المال يوحد بين الناس، بل والله إنه يزيد الفتنة، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]، ألف الله بينهم بهذا النور القرآني، بمعرفة الله ومعرفة محابه ومساخطه، ومعرفة ما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه. هذه هي المعرفة التي ألفت القلوب ووحدت بينها، ألف الله بينهم أن هداهم للإيمان، وأن جمعهم حول رسوله الكريم، يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وفترة من الزمن وإذا هم على قلب رجل واحد.وإن قلت: هذه القضية تتعلق بالأوس والخزرج أو بالأنصار والمهاجرين، ونحن بيننا وبينهم قرون، فكيف يذكرنا الله بها؟ فأقول لك: أما سمعت الله يقول: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [إبراهيم:6]؟ يذكرهم بأن أنجاهم من آل فرعون، فكم بينهم من الزمن؟ ثلاثة آلاف سنة. ويقول ليهود المدينة: اذكروا هذه النعمة، فلا يقولون: أوه هذه بعيدة؛ لأن تلك الوحدة وذلك التآلف والحب هو الذي نقل إلينا هذا النور والإسلام فعشنا عليه. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، كانت القبائل العربية تتقاتل، والقبائل في كل بلاد العالم قبل الإسلام تتقاتل.

وجوب شكر نعم الله علينا
وهنا معاشر المؤمنين والمؤمنات! نذكر النعم فلا ننساها، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع بين يديه طعام، لا بقلاوة ولا رز بخاري ولا مصلي ولا.. ولا..، بل طعامه من تمر أو غيره لا يقول: ما هو؟ وما هذا؟ بل يأكل قرص عيش، أو كسرة خبز ثم يقول: ( الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة )، فالحمد لله رأس الشكر، فاحفظوا هذا يا عباد الله، فمن لم يحمد الله ما شكره. ثم تأتي السنة الأخرى وهي: ما رفع طعام الرسول أو مائدته أو صحفته من بين يديه إلا وقال: ( الحمد لله -لا تستعجلوا- حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنىً عنه ربنا ) فالصحابي يقول: ما رفع رسول الله صحفة أو مائدة إلا قال هذا اللفظ حتى مات، فكيف حالكم أنتم؟ هل تقولون هذا؟ إذا أردت أن تركب سيارتك والمفتاح بيدك ماذا تقول؟ هل تشكر الله؟ أليست هذه السيارة نعمة؟ والله لنعمة، إنها تسير بنا في الطرقات، وتقطع المسافات التي كنا نقطعها في الأيام في ساعات، والدابة التي تدب على الأرض، سواء كانت حماراً أو بغلة أو فرساً أو جملاً ماذا علَّمنا الله تعالى عند ركوبها؟ ماذا قال؟ قال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13-14]، فارفع رجلك يا عبد الله وضعها على جانب السيارة وقل: الحمد لله الذي سخر لي هذا وما كنت له مقرناً. والسفينة علمنا إذا ركبناها أن نقول: باسم الله مجراها ومرساها. أما الطائرة فلا تسأل، وطائراتكم أيها المسلمون -باستثناء هذه الأمة الطاهرة أو الحكومة الإسلامية- تباع فيها أنواع الخمور، تباع في السماء! ولا يذكر اسم الله، ولا يقال فيها: الله أكبر، فأين شكر الله على هذه النعم؟ إذاً: الشاهد عندنا: اذكر النعمة تشكرها، أما أن تنساها والله ما تشكر، فنحن مأمورون بذكر النعمة أو بشكرها؟ بذكرها؛ لأننا إذا ذكرناها شكرناها، لو قال: اشكروا، لا نستطيع ونحن لا نعرف النعمة ولا نذكرها، فأولاً: اذكروا النعمة؛ لأنك إذا ذكرتها شكرت الله، فإذا مشيت فاذكر قدميك وساقيك ورجليك، وأخوك يمشي على عصا، فهلا قلت: الحمد لله؟ وإذا مشيت وترى أخاً أعمى بين يديك أو ضعيف البصر وأنت تبصر، فهلا قلت: آه! هذه نعمة، أذكر الله وأشكره عليها. في جيبك ريال وعشرة وعشرون، وآخر ليس في جيبه ريال ولا قرش واحد، فهلا قلت: الحمد لله والشكر له. كذلك تجلس على مائدة فتأكل ما شاء الله من الأطعمة، فتذكر أن أناساً بجوارك وفي بلدك وغير بلدك ما وجدوا هذا الطعام، فهلا قلت: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله. ولنذكر حادثة حتى نعمل بما نعلم والشكر لله، فإذا تعلمنا المسألة والله من جريدة وما هي من كتاب، ما نستطيع إلا أن نعمل بها!كنا بمدينة بريدة في رحلة للدعوة أو محاضرة، واستدعانا أستاذ من أساتذة البلاد للغداء، فوضع السفرة والغداء، وله شيخ أكبر مني، فلما وضعت السفرة وأقبلنا عليها نأكل وذاك الشيخ يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، ينظر في تلك النعم من الرز واللحم ويقول: الحمد لله، والله حتى فرغنا وهو يقول: الحمد لله، الحمد لله، وإن شاء الله تنتقل إليكم. ومضت سنتان أو ثلاث وحدثت بها في هذا المسجد وانتشرت، وجمعني الله بآخر في الرياض، كذلك ما إن وضعت السفرة وأخذ الأكلة يأكلون إلا وهو يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله. إذاً: ذكر النعمة يا أبنائي يحملك على شكرها، وأما أن تتجاهل النعمة وتغمض عينيك عنها ولا تلتفت إليها، فلا يمكن أن تشكر الله عليها، بل اذكر تشكر. ولا تسألني عن نعمة الشكر، فالشكر قيد النعم، إذا النعمة حاصلة فقيدها الذي تقيدها به هو شكر الله، وهو أيضاً يجلب النعم ويأتي بها، فإن فقد عبد الله الشكر خرجت النعم من بين يديه، ولا يطمع في أن يحصل على مثلها، واقرءوا قول الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ [إبراهيم:7] هذه فيها معنى: وعزتي وجلالي لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ [إبراهيم:7] فماذا؟ إِنَّ عَذَابِي [إبراهيم:7] ما قال: ولئن كفرتم لأسلبنها أو لأحرمنكم منها، فهذه العبارة لا تؤدي الغرض، لكن التي تؤدي إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء، يمشي في صحة فيصبح مشلولاً، يمشي في رغد من العيش فيصبح فقيراً ، يصبح في أمن وإذا به في مخاوف، فهذا ألوان العذاب إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، فاذكروا معاشر الأبناء هذا، ولا تنسوا نعم الله، فإنها أداة الشكر، اللهم اجعلنا وإياكم من الشاكرين. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-24, 04:54 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (41)
الحلقة (182)
تفسير سورة آل عمران (46)


إن طاعة كثير من علماء اليهود والنصارى بالأخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تودي به إلى الكفر، شعر بذلك أم لم يشعر، فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم، وإنما يعصم المسلم من مثل ذلك التمسك بكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن تمسك بهما لم يضل، وعن سبيل الهداية لم يزل.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، حقق اللهم لنا هذا الموعود، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران، وما زلنا مع النداءين الكريمين أتلوهما وتأملوا ما جاء فيهما، وقد عرفتم الكثير ولا ينقصكم إلا أن تتذكروا ما علمتم، ثم ندرس الآيات دراسة في الكتاب -أي: التفسير- إذ لو درسناها بدون قراءة لما جاء فيها في التفسير، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:100-103].

معنى الآيات
هذه الآيات شرحها في هذا التفسير، فلنستمع ولنتأمل، قال الشارح غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ بعد أن وبخ الله تعالى اليهود على خداعهم ومكرهم وتضليلهم للمؤمنين، وتوعدهم على ذلك، نادى المؤمنين محذراً إياهم من الوقوع في شباك المضللين من اليهود، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وذلك أن نفراً من الأوس والخزرج ] والأوس والخزرج سكان هذه المدينة، وقد كان يقال لها: يثرب، وهم من قبائل اليمن، وذلك لما تحطم السد وشرد أهل البلاد نزح من نزح إلى الشام، ومن نزح نزح في طريقه، فبقي الأوس والخزرج هنا، وبعد أن طلعت الشمس المحمدية فيهم سماهم الله بالأنصار، إذ نصروا دين الله ورسوله والمؤمنين. قال: [ وذلك أن نفراً ] سبعة أنفار أو ثمانية [ من الأوس والخزرج كانوا جالسين في مجلس ] من مجالسهم في مدينتهم [ يسودهم الود والتصافي ] أي: جالسين يسودهم الود والتصافي والحب [ وذلك ببركة الإسلام الذي هداهم الله تعالى إليه، فمر بهم شاس بن قيس اليهودي ] عليه لعائن الله، فلما رآهم صامتين مبتسمين هادئين ساكنين مسرورين اغتاظ، وما طابت له الحياة [ فآلمه ذلك التصافي والتحابب، وأحزنه بعد أن كان اليهود يعيشون في منجاة -بعيدة - من الخوف من جيرانهم الأوس والخزرج؛ لما كان بينهم من الدمار والخراب ] أي: من الحروب، فقد دامت حرب أخيرة بينهم في الجاهلية أربعين سنة، واليهود ينعمون ويضحكون، أعداؤهم يتقاتلون وهم في راحة. قال: [ فأمر شاس شاباً ] من شبيبة المدينة [ أن يذكرهم بيوم بعاث ]. أرأيتم الإعلام اليهودي؟ إن اليهود اليوم أخبث من اليهود الذين مضوا لما علمتم أن الدنيا ما تنتهي حتى تشيخ البشرية فيزول ذلك الكمال البشري شيئاً فشيئاً، كنشأة الإنسان، ينشأ ذكياً طاهراً نقياً أربعة عشر سنة أو خمسة عشر ثم بعدها يشب، ويبدأ الطيش والمكر وكذا.. وإذا عرج على الستين أخذ يهبط حتى يخرف، فالدنيا هكذا، الكمال الذي كان في العرب لا يوجد الآن في خريجي كليات المشركين في أوروبا وغيرها.والشاهد عندنا -وهي لطيفة-: ما يمضي عام إلا والذي بعده شر منه، وعلة ذلك أن البشرية تكبر وتشيخ شيئاً فشيئاً، فتصبح تعبث بالحياة.قال: [ فأمر شاس شاباً أن يذكرهم بيوم بعاث، فذكروه وتناشدوا الشعر، فثارت الحمية القبلية بينهم، فتسابوا وتشاتموا حتى هموا بالقتال ] عرفتم ما فعل شاس؟ جاء بشاب مغرور لا يدري، فقال له: ذكرهم بأيام بعاث، فذكرهم فأخذوا يتناشدون الشعر كما كانوا، ويشتم بعضهم بعضاً حتى هموا بالقتال. قال: [ فأتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم ] ذهب من ذهب إليه وقال: تعال، الأنصار كادوا يقتتلون [ فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم وذكرهم بالله تعالى وبمقامه بينهم ] أي: بمقام الرسول بينهم ووجوده فيهم [ فهدءوا، وذهب الشر ونزلت هذه الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، فحذَّرهم من مكر أهل المكر من اليهود والنصارى، وأنكر عليهم ما حدث منهم، حاملاً لهم على التعجب من حالهم لو كفروا بعد إيمانهم؛ فقال عز وجل: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:101] صباح مساء، في الصلوات وغيرها، وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] هادياً ومبشراً ونذيراً، وأرشدهم إلى الاعتصام بدين الله. وبشر المعتصمين بالهداية إلى طريق السعادة والكمال، فقال: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ [آل عمران:101] أي: بكتابه وسنة نبيه، فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، ثم كرر تعالى نداءه لهم بعنوان الإيمان تذكيراً لهم به، وأمرهم بأن يبذلوا وسعهم في تقوى الله عز وجل، وذلك بطاعته كامل الطاعة، بامتثال أمره واجتناب نهيه، حاضاً لهم على الثبات على دين الله حتى يموتوا عليه، فلا يبدلوا ولا يغيروا، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وأمرهم بالتمسك بالإسلام عقيدة وشريعة، ونهاهم عن التفرق والاختلاف، وأرشدهم إلى ذكر نعمته تعالى عليهم بالألفة والمحبة التي كانت ثمرة هدايتهم للإيمان والإسلام، بعد أن كانوا أعداء متناحرين مختلفين، فألف بين قلوبهم فأصبحوا بها إخواناً متحابين متعاونين، كما كانوا قبل نعمة الهداية إلى الإيمان على شفا جهنم، لو مات أحدهم يومئذ لوقع فيها خالداً أبداً، وكما أنعم عليهم وأنقذهم من النار، ما زال يبين لهم الآيات الدالة على طريق الهداية الداعية إليه؛ ليثبتهم على الهداية ويكملهم فيها، فقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103] ] هذا شرحٌ لتلك الآيات، فهيا نضع أيدينا على ثمارها، وعلى نتائجها وعبرها علَّنا ننتفع بذلك.
هداية الآيات
قال الشارح: [ هداية الآيات: ] ولكل آية هداية تهدي المؤمن إلى رضوان الله وجواره الكريم[من هداية الآيات: ]

أولاً: أن طاعة علماء اليهود والنصارى يؤدي بالمسلم إلى الكفر
[ أولاً: أن طاعة كثير من علماء اليهود والنصارى بالأخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تؤدي بالمسلم إلى الكفر، شعر بذلك أم لم يشعر، فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم ]، وبينا هذا بياناً شافياً، وسمعتموه في إذاعة القرآن، فانتبهوا، إذ إن طاعة كثير من اليهود -لا كل اليهود- والنصارى والأخذ بنصائحهم التي يقدمونها لنا وبتوجيهاتهم السياسية والمالية والعلمية والاجتماعية والديمقراطية وما يشيرون به على المسلم، افعل كذا، لا تفعل كذا، يؤدي بالمسلم إلى الكفر، شعر بذلك أم لم يشعر، فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم.وقد بلغني اليوم من أحد الناس: أن امرأة مصرية زوجها ملحد علماني فرفعت أمرها إلى المحكمة وطالبت بالطلاق لأنه كافر، فطلقها القاضي، فأذاع اليهود من إذاعة لندن فقالوا: إن المصريين تأخروا بهذا الحكم خمسين سنة إلى الوراء! كيف تُطلِّق المرأة عن زوجها لأنه علماني، أو لا يؤمن بالله واليوم الآخر؟! تبجحت إذاعة لندن بهذا.والشاهد عندنا: قولوا: صدق الله العظيم، أقول على علم: إن الكثيرين ممن يسوسون العالم الإسلامي من وزراء وخبراء وفنيين ومسئولين، كثيرون منهم لما كانوا يدرسون هذه العلوم المادية في روسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، تخرجوا وقد سمموهم وأفسدوا قلوبهم، ومن قال: لمَ؟ ما الدليل؟ أقول: الدليل: أنهم مصرون على الباطل، وتطبيق الهوى، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله، ولو كانوا أحياء بإيمانهم بصراء لا يثبتون على هذا، لا بد وأن يطالبوا بالإسلام وتطبيق شريعته، لكنهم كالمسحورين. أو ما فهمتم هذه اللغة؟ أنت تجلس بين يدي كافر يربيك عشرين سنة حتى تأخذ الدكتوراه، عشر سنوات وأنت تسمع منه وتتلقى منه وهو كافر، أما ينتقل كفره إليك؟ هل أنت معصوم؟ شاب يجلس في مجلس فاسد سبعة أيام أربعة أيام فيقلبوه إلى خبيث منتن، فكيف بالذي نضعه بين أيدي مربين علماء مسيح ويهود ونصارى يتعلم منهم؟! ما يسلم إلا أن يشاء الله، وهذا كلام الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:100-101]. من أين يأتي الكفر؟ يا للعجب وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، وهذا قد بيناه مئات المرات، لكن صوتنا هذا لا يسمع. هل يمكن أن اليهود سحرونا؟! نقول: ينبغي إذا أردنا أن نبتعث بعثة من أبنائنا أن نبعث معهم عالَمين، وأن نسكنهم في منزل واحد، وأن يكون في المنزل مسجداً، فإذا خرجوا من المدرسة يأتون إلى تلك القاعة النورانية، فيتعلمون الكتاب والحكمة، ويعبدون الله عز وجل، فيعودون أطهر مما كانوا؛ لأنهم حبسوا كذا سنة في بيت الله يتلقون الكتاب والحكمة، أما أن نبعث بهم وهم شبان، حمقى، طائشين، هائجين، شهواتهم عارمة، نبعث بهم يدرسون، من يسلم منهم من الزنا والعهر؟ ومن يسلم منهم من الباطل؟ ومن ومن؟ إلا أن يشاء الله.في بلادنا هذه المكرمة السعيدة بدولة الإسلام، يأتون ولكن ما يُفصحون، لا بد وأن يصلي ويقول: لا إله إلا الله، لكن بلاد حرة أخرى يسب فيها الله والرسول ويسخر منك، فهل فهمتم هذه أم لا؟ لمَ لا تبلغونها؟ والمحنة أيضاً: أنهم يبعثون بناتهم وفتياتهم يتعلمن في سويسرا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا! كيف يعدن هؤلاء؟ عواهر مائة في المائة، ومن أجل ماذا؟ ومن شرع لنا تعليم بناتنا الكفر والباطل؟ إنهم اليهود والنصارى، الذين يقولون: حتى لا تبقى المرأة ميتة في البيت، ميتة في البيت! تعال نبين لك حياتها في البيت، فأنت الميت وأمك وامرأتك، المرأة في بيتها تعبد الله أربعاً وعشرين ساعة، فهي تذكره دائماً، فهل هذه ميتة؟! إنها تربي البنين والبنات وتخرجهم صالحات، وتقوم بشئون زوجها، وتسعده في فراشه وفي طعامها وشرابها، كل هذا العمل لا تأتي به فرنسا كلها، قولوا: مسجونة في البيت! ونحن نمد أعناقنا لأننا جهالاً لا نعرف شيئاً، ماذا أنتج لهم تعليم بناتهم في الضلال والزندقة والباطل؟ هل لهم أن يدلونا؟ والشاهد عندنا: قول الله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101]، والحال أنكم تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]؟ هذه هي المناعة، هذه هي الحصانة، أما أن نبعدهم عن الكتاب والسنة بالمرة ونطرحهم ونضعهم بين أيدي مربين كفرة، ونقول: يؤمنون، فهذا ليس بمعقول، بل إنهم يكفرون، فبلغوا هذا للمسلمين.

ثانياً: أن العصمة في التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
[ ثانياً: العصمة] كل العصمة [ في التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن تمسك بهما لم يضل ] ولن يضل، وأخذنا هذا المعنى من قول الله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، فأيما أسرة أو قرية أو أمة أو جيل من الناس يعيشون على كتاب الله وسنة الرسول، فلا يضلون ولا يكفرون ولا يفسقون -ووالله ما كان- بل مستحيل، فإنها سنن الله التي لا تتبدل، فالطعام يشبع، والماء يروي، والحديد يقطع، والنار تحرق. فلماذا لم تتوقف هذه السنن؟ هل أصبحنا في وقت الماء لا يروي أبداً؟ هل تشرب برميل ماء فلا تروى؟! هل أصبحت النار لا تحرق؟ هل هذه السنة تبدلت؟! لا. إذاً: الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله من سنن الله أن صاحبهما لن يزيغ ولن يكفر ولن يهلك أبداً.

ثالثاً: الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال
[ ثالثاً: الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال، وأخيراً من الهلاك والخسران ] في الدنيا والآخرة، فلا زيغ في القلب ولا ضلال في الحياة، ولا هلاك في الدنيا والآخرة، ولا خسران للذين تمسكوا بالإسلام. والبرهان على هذا: ما زلنا نقول: أنت في بيتك تمسِّك بالكتاب والسنة، وانظر هل تزيغ أو تهلك؟ هل تخسر؟ والله ما كان، سواء أسرة أو قرية، وقد بينا غير ما مرة: القرون الثلاثة الذهبية، هل اكتحلت عين الوجود بمثلها؟ والله ما كان، وعرف هذا الأعداء، فهم يشوهون ويزيدون وينقصون كالكلاب يلهثون، ولكن مستحيل أن يوجد جيل أو أمة تبلغ ذلك المستوى الذي بلغته تلك القرون الذهبية من الصحابة وأولادهم وأحفادهم، إنه الكمال المطلق في عقولهم، في آدابهم، في سلوكهم، في حياتهم كلها. سبب ذلك ماذا؟ تعاليم سقراط؟ الفلسفة الكاذبة؟ التاريخ الهائج؟ إذاً ماذا؟ ما هو إلا قال الله وقال رسوله، التمسك بالكتاب والسنة عقيدة وخلقاً وآداباً وشرائع وأحكاماً وقوانين. وقلنا لهم: تعالوا نريكم بأعينكم يا حسدة، لما هبط العالم الإسلامي إلى الأرض أين كان؟ كان في السماء، هبط فوضع الغرب قدميه أو أقدامه على العالم الإسلامي، ممالك الهند حكمتها شركة تجارية بريطانية، أُسود المغرب وأبطاله شمال إفريقيا كان يضرب بهم المثل، وضعت فرنسا أقدامها على رقابهم وبالت عليهم. الشرق الأنور الأوسط كله يرزح تحت وطأة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. فكيف هذا؟ ما السبب يا فلاسفة، يا علماء الاجتماع، يا علماء النفس؟ دلونا؟ والله ما يعرفون، هبطوا لأنهم احتالوا عليهم منذ قرون، أبعدوهم عن القرآن إي والله، حوَّلوا القرآن ليُقرأ في المقابر والمآتم، ليُقرأ على الموتى فقط، ويحك! أن تقول: قال الله، اسكت، كيف تقول بدون علم: قال الله؟! والسنة تُقرأ للبركة، ففقدوا مصدر الحياة فماتوا، انتشر الشرك، وعمَّ علماء أزهريين بعمائمهم وهم يركعون ويسجدون على القبور! لا إله إلا الله! قرون فقدوا العقيدة، فقدوا النور، فقدوا الهداية، وأصبح في القرية خمس طرق، الآن مصر المعزية بها سبعون طريقة، وإن كان خفت صوتها لكن ما زالت أصولها سبعين طريقة، من التجانية إلى القادرية إلى.. إلى..، لا إله إلا الله! المذاهب مفرقة، الطرق.. و.. وبالتالي سلط الله علينا الغرب فحكمونا، وشاء الله عز وجل أن يريهم آية من آياته، ومع هذا عموا وصموا، لا إله إلا الله! ففجأة طلعت شمس الإسلام من جديد، قالوا: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود احتل الرياض وأعلن عن دولة القرآن! كيف هذا؟! قالوا: نعم، زحف من بلد إلى بلد، ووصل إلى المدينة فحاربوه وقتلوا رجاله، ثم انتقل إلى مكة وجلس عبد العزيز على كرسي الملك.لطيفة ذكرها الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار فقال: زرت الملك عبد العزيز وهو في قصر المعابدة، وقصر المعابدة كان لدولة الأشراف، قال: فلما دنوت تلوت آية من سورة يونس، وهي قوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [يونس:13] الله أكبر! لما ظلموا أو لا؟ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:13-14] قال: وإذا عبد العزيز يغلبه البكاء والنشيج، فأين أنت نازل يا عبد العزيز ؟ في قصر المعابدة تبع الأشراف، من أجلسك هناك؟ من ملَّكك؟ أليس الله؟ لمَ؟ ليبتليك، لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14]. ونحن صبية في الكُتّاب نتعلم القرآن لنقرأه على الموتى فقط، حتى أمي رحمة الله عليها -وهي من الصالحات إن شاء الله- قالت: يا رب! أسألك أن تجعل ولدي إما طالب قرآن وإما جزار. لماذا؟ لأن اللحم عندنا من العام إلى العام، أو كل ستة أشهر مرة، وسلوا أجدادكم، الجزار لا بد أن يأتي باللحم وبالكرشة وبكذا، أو طالب قرآن يقرأ على الموتى ويأتيها بقطعة اللحم يلفها في منديله ويأتي بها، رحمة الله عليها. إذاً: هذا الشيخ يعلمنا القرآن ونحن صبية، فقال: الآن السلطان عبد العزيز في مكة ومر رجل معه كيس في الشارع فيه دقيق، ومسه آخر بأصبعه -هذا الرجل- فبلغ السلطان أن هذا الرجل أراد أن يسرق أو كذا، فقام فقطع له أصبعه -وهذه مبالغة- قطع أصبعه لأنه مسَّ كيساً ليس له، وليس له ذلك، وبالتالي ساد الأمن في هذه الديار، وما عرفته والله إلا أيام الخلفاء الراشدين والقرون المفضلة. أمن حارت به الدنيا، لا يوجد في أوروبا ولا في أي مكان، ما عنده تلفوناً ولا رشاشاً ولا طيارة ولا..، يخرج المؤمن من المدينة إلى حائل، إلى الأحساء، إلى أبها، إلى الرياض لا يخاف إلا الله، فلا إله إلا الله! أمن وطهر، فقد انتهت الجريمة، فلا خلاعة ولا زنا ولا فجور ولا.. ولا..، وما شذ فلا قيمة له، إذ قد شُذَّ حتى على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن منذ ثلاث وأربعين سنة قلت لكم: كنا ننزل في بيت بلا أبواب أبداً، ودكاكين الذهب والله ما هي إلا خرق تلقى عليها، ويذهب صاحب الذهب إلى بيته يقيل ويتغدى وينام ثم يأتي! سحر هذا أم ماذا؟ كيف تحقق هذا؟ إذاً: أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. هذه هي النعمة. والشاهد عندنا: العرب والمسلمون يقولون: هؤلاء وهابيون، خوامس! وقد جاءني - وأنا طفل- أحد الصالحين من تلامذة العقبي في العاصمة بالأصول الثلاثة، وقد طبعت في الجزائر لأن دعوة الإصلاح منتشرة على عهد العقبي ، فأعطيت الكتاب لشيخي الذي يعلمنا القرآن، وكان ذكياً وفطناً، فتصفح الكتاب وهو على المنصة أو الدكة، ثم قال لي: يا أبا بكر ! هذا الكتاب طيب، ولكن قالوا: مؤلفه خامسي، مذهب خامسي! وأخذ العالم الإسلامي ينهش ويعض ويكسر ويحطم، لا يريد هذا النور أن يبقى أبداً، لكن الله قهرهم.وجاء دور الاستقلال، وهنا قلت: إن القوم عموا وصموا - فجاء دور الاستقلال- فأول قطر استقل -اسمعوا يا أحداث- هو انسحاب فرنسا من سوريا ولبنان، فكان المفروض والواجب القرآني الإسلامي الإيماني بمجرد ما خرجت فرنسا أن يبعثوا وفداً إلى السلطان عبد العزيز، وكان يومها هو هو، ويقولون: استقل هذا الإقليم عن دولة الكفر فلينضم إلى دولة القرآن. افهموا أن الشيخ يتكلم معكم ولا يعتبر ساسة الدنيا ساسة، بل هم جهلة يعيشون في الظلام، وأعود فأقول: كان المفروض أن يأتوا إلى عبد العزيز ويقولون له:يا سلطان عبد العزيز! استقل هذا الإقليم، ابعث لنا قضاة يطبقون شريعة الله، يحكموننا بالإسلام، وابعث خليفة لك يضيء هذا القطر وينضم إلى المملكة، وتطبق شريعة الله في دمشق وفي بيروت وفي تلك البلاد كما هي في المدينة والرياض والأحساء وحائل وتبوك. يسعدون أو لا؟ أو ما تعرفون؟ والله لو فعلوا لسعدوا في الدنيا والآخرة. ثم فجأة استقل العراق عن بريطانيا، فلو قالوا: يا سلطان عبد العزيز! ابعث قضاة، كنا نُحْكَم بالهوى، وابعث والياً عاماً يخلفك في تلك الديار، وهكذا استقل الأردن، استقلت مصر، استقلت كذا.. خمسة وثلاثون سنة والخلافة قائمة، أمة الإسلام أمة واحدة. لمَ ما فعلوا هذا؟ كل إقليم يستقل ماذا يصنع؟ الجمهورية، الديمقراطية، الوطنية، كذا.. مضى هذا من أجل أن يذوق المسلمون الذل والهون والدون والشقاء والخسران في الدنيا قبل الآخرة. أليس هو هذا أيها المسلمون؟ أين ثمار الاستقلال ونتائجه؟! فهل عرفنا الآن أو لا؟ قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103]، فما حبل الله سوى دينه وكتابه وهدي رسوله وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101] لن يضل ولن يشقى أبداً. إذاً الهداية الثالثة: [ الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال، وأخيراً من الهلاك والخسران ] والله الذي لا إله غيره! لو أن دولة في أوروبا تسلم غداً بلجيكا أو بريطانيا أو هولندا أو أي دولة، وتقيم الدولة كما أقامها عبد العزيز، للاحت في آفاق أوروبا أنوار لا حد لها، ولدخل الناس في دين الله أفواجاً، آيات الله، لكن اليهود والنصارى لا يريدون هذا، فهاهم الآن في البوسنة والهرسك فقط ما هم بالمسلمين، فقط قالوا: مسلمون، وإلا لا شريعة ولا ولا ولا، وأوروبا في كرب وهمّ وحيرة، يعقدون مؤتمرات في الداخل والخارج من جهة أن هؤلاء مظلومين، ومن جهة أنهم يريدون الإسلام، وهم في فتنة، فكيف لو أسلمنا قلوبنا ووجوهنا لله؟! أربعة وعشرون ساعة فقط ويهتز العالم بأسره.وكيف نسلم يا شيخ؟ بينا الطريق، فليس فيه كلفة، فقط معاشر المسلمين! من الليلة يجب أن نجتمع في بيوت ربنا بنسائنا وأطفالنا ورجالنا، نتلقى الكتاب والحكمة، ونبكي بين أيدي ربنا؛ فإنه سوف يعزنا ويرفعنا. فهل هذا يكلف شيئاً؟ ما إن تقبل الأمة على ربها، وتجتمع في بيوته يقودها نور الله -الكتاب والسنة- حتى تنتهي الخلافات، وينتهى الباطل والشر والخداع والتكالب على الدنيا والعبث والسخرية والفجور، كل هذا يمحى، سنة الله لا تتبدل، وتعود أمة الإسلام من جديد، بالحجارة تهدم كل سور من أسوار الكفر، بل ما يتركها الله للحجارة، وإنما يفتح عليها أنواعاً من السلاح ما عرفته أوروبا؛ لأن الله معها.معاشر المستمعين! هذا كلام اليهود والنصارى على علم به وعلى يقين، والمسلمون ولا واحد في المائة يعرف هذا ويسمع به، أما هم فيعرفونه يقيناً على علم.

رابعاً: وجوب التمسك بالدين الإسلامي وحرمة الفرقة والاختلاف فيه
قال: [ رابعاً: وجوب التمسك بشدة بالدين الإسلامي، وحرمة الفرقة والاختلاف فيه ] فلا مذهبية ولا طرقية ولا وطنية ولا.. ولا..، وإنما مسلم، وهذا شأن المسلم، لكن ما يريد الأعداء ذلك، فقد قسمونا مذاهب وطرقاً، قسمونا دياراً ووطنيات، فهل في الإسلام وطنية؟ وطن الإسلام الأرض كلها، ليس فلسطين فقط، أوروبا كاملة يجب أن تكون للمسلمين، أمريكا وكل ما فيها، ما هي قضية طين وتراب، وإنما يجب أن يُعبد الله في الأرض ولا يعبد غيره، لكن الوطنية درسناها في كتب السياسة.

خامساً: وجوب ذكر النعم لأجل شكرها
قال: [ خامساً: وجوب ذكر النعم لأجل شكر الله تعالى عليها ] بمَ يشكر الله؟ بطاعته وطاعة رسوله، بعد الحمد لله الطاعة لله ورسوله، وهي شكر النعمة. هل أمر تعالى بهذا؟ أما قال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [آل عمران:103]؟ لمَ نذكرها يا رب؟ من أجل أن تشكروها، فمن ذكر شكر، ومن جحد وأنكر كيف له أن يشكر؟! الذي لا يعترف أنك أعطيته سيارتك كيف يقول: جزاك الله خيراً؟ فإذا اعترف أنك أعطيته سيقول لك: جزاك الله خيراً، فاذكروا تشكروا، ومن لم يذكر والله ما يشكر.

سادساً: أن القيام على الشرك والمعاصي وقوف على شفير جهنم
قال: [ سادساً: القيام] أي: البقاء [ على الشرك والمعاصي وقوف على شفير جهنم ] القائم الواقف على الشرك في عقيدته، في عبادته، في أحكامه، القائم على المعاصي، ارتكاب المحرمات، غشيان الذنوب، ترك الواجبات؛ هذا معناه أنه واقف على شفير جهنم. أتعرفون الشفير؟ إنه حافة البئر، والواقف على حافة البئر يكاد أن يسقط. ثم قال: [فمن مات على ذلك وقع في جهنم حتماً بقضاء الله وحكمه ] وقد قال الله: وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ [آل عمران:103]. أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-24, 04:59 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (42)
الحلقة (183)
تفسير سورة آل عمران (47)


أمة الإسلام هي خير الأمم، لأنها حملت مهمة تبليغ الدين بعد انتقال نبيها صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وقد حث الله أفراد هذه الأمة أن تحمل لواء الدعوة إلى التوحيد، والأمر بالمعروف في أوساطها، والنهي عن المنكر؛ لأن ذلك هو طريق الفلاح والفوز برضا الله عز وجل ودخول جنته.

تفسير قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي تليها ندرس كتاب الله عز وجل -القرآن العظيم- رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، حقق اللهم لنا هذا الموعود، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران، ومع قول ربنا جل ذكره بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:104-109].

معنى قوله تعالى: (ولتكن منكم)
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من القائل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104] وصفها كذا وكذا؟ والله لهو الله، إذ هذا كلامه في كتابه أوحاه وأنزله على المصطفى الذي اصطفاه من كافة الخليقة، واجتباه لهذه الرسالة، محمد صلى الله عليه وسلم. إذاً: هذا أمر، والأمر مثل: قم، صلِ، انطق، افهم، والآمر إذا كان الله فهل يُعصى؟! لا يصح العصيان أبداً، لا يصح عصيانه وإلا العصا، إذاً: ولتكن منكم يا معشر المسلمين، و(اللام) هنا لام الأمر يجب أن تكون منا. أُمَّةٌ [آل عمران:104]، والأمة: العدد الكبير من الرجال الذين أمرهم واحد، معتقدهم واحد، منهجهم واحد، أملهم واحد، تجمعهم جامعة، فلا يكونون أفراداً متفرقين.

صفة ومهمة: (الأمة) في قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104] ما مهمتها؟ ما الذي وصفت به؟ قال تعالى: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، والخير ضد الشر، الخير ما يحصل به كمال الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، وما يحصل به شقاؤه وخسرانه ونقصانه في الدنيا والآخرة فهو شر وليس بخير.

تفسير معنى: (الخير) في قوله تعالى: (يدعون إلى الخير)
يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] الخير ما يحصل به الكمال والسعادة للإنسان، وينجو به من الشقاء والنقصان والخسران، وبالتالي فما هو هذا الخير؟ ألا إنه الإسلام بعقائده وآدابه وأخلاقه وعباداته وشرائعه وأحكامه، هذا هو الخير الذي يجب أن يكون من المسلمين من يدعون إليه، يدعون الأبيض والأصفر، الأحمر والأسود، العربي والعجمي من بني آدم أجمعين. وَلْتَكُنْ [آل عمران:104]، يجب أن تكن؛ لأن الله أهلَكم لذلك، وهيأكم له وأعدكم، فبعث فيكم رسوله، وأنزل عليكم كتابه، ورزقكم الإيمان الصادق به وبما جاء به رسوله، فأنتم متأهلون لهذه المهمة. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ [آل عمران:104] أيها المسلمون، أُمَّةٌ [آل عمران:104]، كم عددها؟ لا يقال: لها عدد، إنما المهم أن يوجد بين المسلمين من يغزو ويفتح ويعلن كلمة التوحيد ويدعو البشرية إليها، هل امتثل المسلمون هذا؟ إي والله، لو ما امتثلوا هذا ما اجتمعنا هذه الليلة، ولا كان فينا إسلام ولا مسلمون، ولكن الذين امتثلوا هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأولادهم وأحفادهم وأحفاد أحفادهم، فهم طيلة ثلاثمائة سنة وهم ينشرون راية العدل والحق في العالمين، حتى انتهى الإسلام إلى المحيط الأطلنطي، فقال أحدهم وقد رمى بفرسه في البحر: لو أعلم أن وراء هذا البحر أمة لمشيت إليها. وشرقوا وانتهوا إلى ما وراء نهر السند أداءً لهذا الواجب، ويعلم الله لقد قاموا به، فلقد كانت منهم أمة الجهاد والغزو والفتح، لا للدنيا ولا للمال، ولكن لامتثال أمر الله. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، ألا وهو الإسلام، فهل وراء الإسلام من خير؟ قولوا! لا، فهيا بنا نتجول في ربوع العالم، نبدأ بالبرازيل وننتقل إلى كندا، ونترك أمريكا في الوسط، ونشرق ونغرب إلى اليابان، إلى الصين، أي خير هم فيه وعليه؟! الفجور، الخداع، الكفر، الباطل، المقاطعة، بلاء عظيم! أين الخير؟ الخير هو الإسلام، فهو نعمة الله، إذ قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].

واجب العلماء الربانيين في السعي لتوحيد الأمة
الآن هل أمة المسلمين وِجدت من هذه الأمة؟ من هم؟ يجب أن يكون للمسلمين إمام يؤمهم، قائد يقودهم، هادي يهديهم، مرشد يرشدهم، مصلح يصلحهم، هذا الإمام يجب أن يعد العدة، وأن يجيش الجيش ويهيئوه ويغزو به بلاد العالم، هل لاستعمار الأمم واستغلال أموالهم وثرواتهم واستذلالهم وإهانتهم؟! لا والله، وإنما لإدخالهم في رحمة الله، لتطهيرهم وتصفيتهم وتزكيتهم، وإعدادهم لسعادة الدنيا والآخرة.بعبارة أقرب: من أجل أن يعرفوا ربهم وخالقهم، رازقهم ومدبر أمرهم، ثم يعبدوه بما شرع، فتلك العبادة هي التي تكملهم في آدابهم وأخلاقهم ومعارفهم، وتسعدهم في دنياهم وأخراهم، إذ ليس للبشرية سوى هذه الأمة، فمن يقوم بهذه الرسالة؟ الكاثوليك عبدة الأهواء والشهوات، أم الملاحدة، أم المجوس؟ من يحمل هذه الرسالة؟ هل يوجد غير المسلمين؟! فهيا نطيع ربنا، دلونا على الطريق، جماعات تقول: الحاكمية، الجهاد، الحكام كفار، الأمة كافرة، وصاحوا وذُبِحوا، وصاحوا وخُنِقوا، وصاحوا وماتوا ولا شيء، لعلي واهم؟ قم وقل لي: أما رأيت كذا؟ حينئذ نقول: نستغفر الله ونتوب إليه.هل أقمتم حكماً إسلامياً؟ أطلعت شمس تلك البلاد وأصبحت تضيء الحياة للناس، وأصبحت مضرب المثل؟ تعالوا وزوروا هذا البلد وشاهدوا الأنوار، الصفاء والطهر، والأخوة والولاء، العزة والكرامة، انظروا إلى تحكيم شرع الله! ماذا نصنع؟ هيا دلونا، لو تقوم جماعة من الربانيين الصادقين أولياء الله الذين إذا رفعوا أكفهم إليه ما ردها خائبة أبداً ولا صفراً، لو سألوه أن يزيل الجبل لأزاله، لو أقسموا على الله لأبرهم وما حنثهم، هذه الجماعة الربانية تزور العالم الإسلامي إقليماً بعد آخر، وتقرع باب كل حكم وحكومة، وتقول: هيا بنا نتعانق، نحيي هذه الأمة بعد موتها، ويبتدئون من بلد إلى بلد وهم يعركون ويُلَيِّنون و.. و.. وفجأة وإذا بحكام العالم الإسلامي وعلمائه قد اجتمعوا في هذه الروضة، إذ ما هو صعب الآن، بالطيارة خلال أربع وعشرين ساعة وهم فيها، ما هو كالزمان الأول مستحيل. فيقولون: بايعناك يا إمام المسلمين، ثم يا علماء! لا تخرجوا من هذه الروضة حتى تضعوا دستور أمة الإسلام، القرآن والسنة وما عليه فقهاء وعلماء الأمة، في خلال أربعين يوماً والدستور يطبق من إندونيسيا إلى موريتانيا بأيدي القضاة والحكام -الكتاب موجود- أربعون يوماً فقط وأمة الإسلام أمة واحدة، فإذا قلت لها: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] وجدتها قائمة، الجيوش العربية الإسلامية أصبحت تقام فيها الصلاة ويعبد فيها الله، وانتهت الضلالة والخرافة، وانتهى هذا الفسق والمجون والباطل، ولاحت أنوار الصدق والوفاء، وأصبحت كلمتهم كلمة أولياء الله، فيغزون ما شاء الله، بل إذا اتجهوا صوب إقليم دخل في رحمة الله، فماذا ترون؟ أو ما هناك حاجة إلى هذا الدرس يا شيخ! اترك هذا؟! أيجوز هذا؟ نقرأ ونمشي، ألسنا مأمورين؟ وَلْتَكُنْ [آل عمران:104] من؟ مِنْكُمْ [آل عمران:104] نقول: لا، نحن غير مؤمنين، تكون من غيرنا، نرضى بهذا؟ نقول: ما نحن بمؤمنين، اتركنا! لا أبداً، نرضى أن نُحرَّق، نصلب، نقتل وما نرضى أن نكفر ونتخلى عن إيماننا. وَلْتَكُنْ [آل عمران:104] هل الأمر صعب؟ لا، بل سَهُل الآن، وكما قلت لكم وأعيد القول من فتوحات الرحمن: لو بيننا ربانيون سالمون، صالحون، صادقون، خمس عشرة عالماً، عشرون، مائة من العالم الإسلامي، وتتكون لجنة من خيارهم وتقوم بزيارة مسئولي أمة الإسلام وحكامهم، وتعرض عليهم منهجاً ربانياً لجمع كلمة هذه الأمة، وتوحيد صفها؛ لتنهض بواجباتها، وتقوم بأداء رسالتها، فلا أظن أنهم يخيبون أبداً؛ لأنهم يعرفون كيف يعرضون، وأنوار الله تلوح من أفواههم ومن أبصارهم، وفجأة وإذا موعدنا شهر كذا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يخرجون من هذه الروضة إلا وقد بايعوا إمامهم: أنت إمام المسلمين، ويعودون يطبقون شرع الله، وفجأة وإذا بالبلاد كلها أنوار؛ لأن الوقت مناسب، والزمان مواتي، لكن قبل وجود هذه المواصلات كان هذا من أبعد البعيد، كيف تزور هذه البلاد وأنت تحتاج إلى أربع سنوات وأنت تمشي حتى تصل، بينما الآن يطوفون بالعالم الإسلامي في ثلاثين يوماً، بل أقل، فأين هؤلاء الأولياء الصالحون؟ ما وِجِدوا بيننا؟! لمَ؟ لأن آباءهم وأمهاتهم ما رُبُوا في حجور الصالحين، فما تربوا هم في حجور الصالحين، فكيف يوجدون بهذا الصلاح؟! كيف يحصل هذا؟! ونقول: كيف؟ نقول: ما وجدوا، فأين هؤلاء؟ لو وجِدوا لجمعوا كلمة المسلمين، لوحدوا صفوفهم، لطهروا قلوب المؤمنين من الشرك والضلالات والخرافات والأوهام والأطماع والشهوات، لكن إن وجد هذا فقد قلت لكم: قطعاً هذا أمر سهل ويسير في هذه الظروف.

الطريق الموصل إلى الله تعالى
قد تقولون: هذه بعيدة، أنى لنا أن نصل إليها، كيف توجد هذه؟ ماذا نصنع؟ نعود من حيث بدأنا، وأنا أحلف بالله، وبعض الإخوان يلومونني لماذا أحلف؟ لا تلوموني، فأنا أحلف اقتداء بربي، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والحلف من أجل أن تطمئن النفس إلى القول وتقبله، فمن أراد أن يرحم أناساً يحلف لهم، من أراد أن يصدقوا الخبر يحلف لهم، والحلف الحرام بسيدي عبد القادر ورسول الله وفاطمة والحسين، فهذا من الشرك والعياذ بالله، الحلف بالباطل حرام، والحلف بالكذب فسق وفجور، لكن الحلف على الحق دين الله عز وجل. فأقول: الطريق السهل الميسر الذي نُري الله تعالى فيه قلوبنا وصدقنا في إيماننا، ورغبتنا في لقائه والسير في الطريق الموصل إليه، هو أن نأخذ بمبدأ: أن أهل القرية كأهل الحي في بلاد العرب والعجم على حد سواء، إذا دقت الساعة السادسة مساءً يقف دولاب العمل، لا دكاناً ولا مقهى ولا مطعماً ولا مصنعاً ولا مزرعة ولا.. ولا.. أهل القرية أهل الحي يتوضئون بسرعة، يلبسون أحسن ثيابهم ويحملون نساءهم وأطفالهم في صدق إلى بيت ربهم، وهل لربهم بيت خاص؟ إي نعم، المسجد، وإن ضاق وسَّعوه، وليسوا في حاجة إلى الحديد والإسمنت، يوسعونه بالخشب والحطب، باللبن والتراب، يجتمعون في بيت ربهم، أذَّن المغرب في الساعة السابعة والربع وإذا بأهل الحجاز كلهم في بيوت الله، أما الجهة الشرقية فبيننا وبينها نصف ساعة، والأمة كلها في بيوت الله، فيصلون المغرب والنساء وراء الستائر، والأطفال النورانيون دونهن، والفحول من أمثالكم أمامهن، ويجلس لهم عالم من ذاك النوع الرباني، فيدرسون كتاب الله وحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقط قال الله وقال رسوله، لا أباضي ولا زيدي ولا نخولي ولا رافضي ولا مالكي ولا شافعي ولا حنبلي ولا حنفي ولا حزبي ولا وطني، وإنما أمة لا إله إلا الله، أمرها واحد، يخاطبها رب واحد، يهديها إلى الصراط المستقيم إله واحد، لا فرق بين عربي ولا عجمي، ولا أبيض ولا أسود، أهل القرية أهل الحي يتعلمون كتاب الله وحكمة رسوله، ليلة بعد ليلة، وفي عام وعامين تصبح تلك القرية وكأنها في عهد رسول الله وأصحابه. ما الذي يحصل بالعلم؟ يحصل به المودة، الإخاء، الحب، الولاء، التعاون، الزهد في أوساخ الدنيا وأوضارها وشهواتها وأطماعها، يتوفر المال عند الناس فماذا يصنعون به؟ من كان ينفق في الشهر عشرة آلاف ينفق ألفين ويفيض الزائد، ماذا يصنع به؟ لعلي واهم؟ والله لكما تقولون، عندما يصبح أهل الحي كأمة واحدة، جسم واحد، ماذا يصنعون بالمال؟ يفيض عليهم، وتنتهي مظاهر الضعف: الخيانة، الغش، الخداع، الكذب، الكبر، الحسد، الزنا، اللواط، ال.. ال.. انتهت، مُسِحَت، وهل تُمسح يا شيخ؟ إي نعم، سنة الله التي لا تتبدل، ونضرب المثل دائماً فنقول: أعلم أهل القرية اليوم في بلاد العرب أو العجم أعلمهم بالله ومحابه ووعده ووعيده أتقاهم لله، وأقلهم فجوراً، وأقلهم خيانة وكذباً، وأقلهم باطلاً وشراً، والله العظيم، فهل في من يشك بهذا؟ ومن ثَمَّ ما تكلفنا شيئاً، كل ما في الأمر أن النتاج يقوى، قلوبنا تتغير، يصبح ما يحصل عليه العامل وينتجه أضعاف ما كان قبل، فنحن نصلي الصبح ونقبل على الأعمال في البساتين، في المزارع، في المصانع بصدق وجد، بإخاء ومودة وتعاون، والله لننتج أكثر ما تنتجه مصانع الشرك والباطل والكفر، لا تقولوا: إذاً نعوِّق الحياة ونقف بها والناس يتقدمون، والله نصبح في وضعية يفتح الله أبواب العلم والمعرفة، فننتج ما لا تنتجه دول الكفر، وبهذا نكون قد أطعنا ربنا وامتثلنا أمره في قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104].وهنا قد يقول قائلٌ: أنت فسرت الخير بالإسلام، وهذه الأمة -كما هو معروف- أمة الجهاد والغزو، كما أنك تقول: لو اجتمعنا في بيوت الله بنسائنا وأطفالنا نتلقى الكتاب والحكمة، فسننتقل من وضعية إلى وضعية أحسن، ونصبح.. ونصبح.. فكيف ونحن قد تركنا الجهاد؟! الجواب: نحن الآن لسنا في حاجة إلى أن نغزو، لا بريطانيا ولا إيطاليا، ولا تخوفوهم؛ لأن بلادهم مفتوحة لنا، فادخل وابن المسجد، وادع إلى الله، ووزع الكتاب والنَشْر ولا تخف، ولسنا في حاجة إلى أن نرسي سفننا في ميناء كذا لندخل إلى كذا، أبداً، انتهى هذا، فقط هيا ندعو إلى ربنا، كيف يا شيخ؟لقد بينا وقلنا: لمَ لا تتكون لجنة عليا، والمسئول عنها رابطة العالم الإسلامي، هذه التي بكينا وصحنا كذا سنة حتى تكونت، فتكوَّنت الرابطة، وتكوَّنت الجامعة الإسلامية، وتكون صوت الإسلام أو نداء الإسلام، هذا كله بسبب هذه الدعوة، فهل انتبهتم أو لا؟ أو نحلف لكم؟ والله العظيم، لو أن عندي الآن الرسالة التي رفعتها إلى جلالة الملك سعود، لاشتريتها بألفين ريال وهي ما تساوي عشرة قروش، لكن ضاعت، رفعنا رسالة وطبعتها بالآلة، ورفعناها إلى المسئولين، وكان مفتي الديار السعودية الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، أحد كبار العلماء في أيام الملك سعود رحمة الله عليه، وقلنا: لابد من القيام بهذا الواجب، أي: إنشاء جامعة أو معهد لتخريج الدعاة، فأمة الإسلام يأكلها الجهل ويغشيها ويعميها الضلال والشرك، فمن ينقذها؟ لابد من مصدر لتخريج العلماء أهل التوحيد والمعرفة لتطهير القلوب والنفوس، فوافق على تكوينها، فكذلك لابد من جماعة تربط العالم الإسلامي بعضه ببعض، وقد أخذ العالم يستقل إقليماً بعد إقليم. لا بد من هيئة عليا للعلماء تتكلم باسم العالم الإسلامي فتكونت الرابطة فكانت صوت الإسلام ولكن النتاج قليل؛ لمعوقات، ولأن القائمين عليها ما هم من النوع الذي نحلم به من الربانيين والأصفياء، أهل كرامة الله هم من نوعنا، فلهذا ما خطونا الخطوة الواسعة.الشاهد عندنا: الآن تتكون لجنة عليا من العالم الإسلامي تضم من كل إقليم -كبير وصغير- عالماً أو عالمين، وإذا بمجلس العلماء أفراده ينيفون على الثمانين، فكل دولة تبعث عالمين، هذه اللجنة العليا للإسلام لما تجتمع تكوِّن منها لجنان؛ لجنة إلى أمريكا، لجنة إلى أوروبا الشرقية، إلى أوروبا الغربية، لجنة إلى اليابان، أخرى إلى الصين.. إلى بلاد الكفر، وتدرس أوضاع الجاليات الإسلامية، وتتعرف إلى أعدادهم، وإلى مذاهبهم، وإلى سلوكهم، وإلى حاجاتهم، وبعد أربعين يوماً أو شهرين تأتي بخريطة، الإقليم الفلاني فيه كذا، الدولة الفلانية فيها كذا.إذاً: فهيا ننشر الإسلام، وحينئذ يكوِّنون ميزانية سرية خفية حتى لا نفزع اليهود أو الصليبيين، يسهم فيها كل مؤمن ومؤمنة بقرش؛ لأنها ضريبة الجهاد، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104]، يشارك فيها كل مؤمن، فأهل كل إقليم العلماء الذين منه يتولون الاتصال بالأفراد نساء ورجالاً يعلمونهم بأنه لا بد من المشاركة في هذه الميزانية في نشر الإسلام ودعوته في العالم، وفي خلال أربعين يوماً يعرفون أكبر ميزانية في العالم، فتكرس وتأخذ اللجنة العليا أولاً: تنتقي الكتاب اللائق بتدريسه وتعليمه، تنتقي العلماء الربانيين الصادقين، وتبعث العالم والكتاب بيده، وتتولى نفقة المسجد أو المدرسة على حسابها، وفجأة وإذا بتلك الجالية من أمريكا إلى أوروبا إلى اليابان أمرهم واحد؛ لأن مصدر النفقة واحد، ولأن الكتاب الذي يدرس واحد.وعلى سبيل المثال: منهاج المسلم، فأيما مسلم يقول: أنا لا أدرس هذا، مُسح اسمه من الإسلام، ما هو بمسلم؛ لأن هذا الكتاب يجمع المسلمين، فلا فرق بين شرقي، لا بين شافعي ولا حنفي، لا بين زيدي ولا أباضي، ولا بين مسلم ومسلم، يجتمعون في بيت الله، يتلقون الكتاب والحكمة، وتنمو أخلاقهم، وتسمو معارفهم، وإذا بالنور ينتشر، وإذا بالكفار من جيرانهم يغمرهم نورهم، فيطلبون هذا النور ويظفرون به، والله العظيم لو شاهد الكفار أنوار الإيمان حولهم لما رغبوا عنها ولطلبوها.وبالتا ي نكون قد قمنا بواجب نشر الدعوة وبرئت ذمتنا، العوام والعلماء والحكام والأغنياء والفقراء.. كلهم برئت ذمتهم، وأصبحوا قد أدوا واجبهم، وكوَّنوا ما طلب الله أن يكوِّنوا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، فهل فهمت هذه يا دكتور أحمد؟ واضحة أم لا؟ ما الذي يمنع أن تكوَّن لجنة عليا وقد طالبنا بهذا في كتاب مكتوب إلى مسئولي الأمة علماء وحكاماً، ومضت عليه سنة، وما تحرك عالم ولا حاكم؟ أنا لا ألوم الحكام وإنما ألوم العلماء أولاً؛ لأن العالم لم يأت الحاكم فيبين له، وعليه فإننا آثمون، ما أدينا واجبنا، ما قمنا بأمر ربنا، عفوك يا عفو يا كريم، رحماك يا رب العالمين.

أهمية وجود هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مدن وقرى المسلمين
قوله تعالى: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا توجد في العالم الإسلامي قط إلا في هذه المملكة، وقد أوجدها عبد العزيز رحمه الله؛ لأنه استقل عن العالم الكافر، والمسلمون مازالوا تحت سماء بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا، فكيف يكوِّنون هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم محكومون؟!إذاً: أعذرناكم أيام كنتم محكومين، لكن لما حكمتم واستقللتم وسدتم، وأصبحت لكم الحكومة المستقلة، لم لا تكوِّنون هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! نادوهم، ادعوهم: يا حكام كذا وكذا وكذا، من إندونيسيا إلى المغرب، لمَ لا تكونون هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أهم عصاة؟ إي والله، لم يطيعوا الله تعالى، أما وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]؟ لمَ نكوِّن أنواع البوليس على اختلافها؛ الدَرَك، الشُرَط ولا يوجد من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟! البوليس في يده الكُرْبَاج والصفارة يدور طول الليل والنهار، يشاهد منكراً ما يقول: هذا منكر، يشاهد معروفاً متروكاً ما يقول: يا عبد الله ما لك؟ لا، ما هي مهمتي؟! لا، لا، ما تتهمهم بهذا يا شيخ عبد الله اتركنا، اسمع، أنا ماشي في الطريق لمَ تعترضني سامحك الله؟! أنا أقول: استقل الإقليم عن بريطانيا، فيجب أن تكوِّن فيه هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووالله لو وجد في ذلك الإقليم -الذي استقل أمس عن بريطانيا أو فرنسا- علماء ربانيون صادقون لألزموا الحاكم أن يفعل، ولفرح بذلك؛ لأن الحكام ليسوا بجهلة، علمتموهم؟ جُهال وضلال؛ لأنهم تخرجوا من مدارس روسيا وأمريكا وبريطانيا، كيف يصبح وزيراً أو حاكماً وهو أمي؟! معقول هذا الكلام؟ لابد وأن يحمل الماجستير، الدكتوراه في علم السياسة، في علم النفس، فأين درسوا؟ في المسجد النبوي؟! أنفي ما قال تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101]؟ نحن الذين بعثناهم فدرسوا حتى كفروا، أنلومهم؟ ما لنا؟ أين عقولنا؟ سنقول: لو كان هناك علماء ربانيون لطالبوا الحاكم عندما استقل البلد أن يوجد هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يفرض إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ لأمر الله تعالى بذلك عند وجود الحكم والاستقلال، ما ننسى آية الحج: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].لكن قد يقول قائل: يا شيخ، هذا الكلام نظريات قرآنية، فأين الواقع؟ ما رأينا الواقع، أقول: تعالوا إلى السعودية تشاهدون الواقع -إذا قالوا لهم: هذه رجعة إلى الوراء- تشاهدون هذا البلد المبارك، لولا الخليط الآن والارتكاسات، وماذا نقول؟ الذين يحاربون هيئات الأمر بالمعروف في داخل المملكة أكثر من خارجها، فهم يتقززون منها، ومع هذا والله لا يوجد بلد آمن من هذا البلد، ولا أطهر من هذا البلد، ومن يرد علي يخرج معي إلى البيت ويقول: أنا آخذك إلى البلد الفلاني الذي ليس فيه زنا ولا عهر ولا خيانة ولا كذب ولا.. ولا..، هاتِ، والله لا آمن ولا أطهر من هذا البلد، بسبب ماذا؟ الحكومة السعودية؟! هل عندها سحر؟ والله ما هو إلا إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووالله العظيم -لا تقولوا: الشيخ يحلف- يا ويل الذين يثبطون الحكومة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكتبون في الصحف، إنهم مرضى؛ لأنهم درسوا في الخارج، فيتقززون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بينما هو أمر الله يجب أن يكون في كل قرية من قرى المسلمين، رجالٌ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، حتى لا ينتشر المنكر بينهم فيهلكوا، حتى لا يختفي المعروف فينزلقوا ويتحطموا، ويسلط الله عليهم من يذلهم ويدوسهم بنعاله. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] إي: الإسلام، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، كذا أو لا؟ فهيا نعتذر إلى ربنا، يا ربنا ما نستطيع، ما نقدر على أن نكوِّن، يقبل هذا العذر؟ نبحث عن الأسباب.

معنى قوله تعالى: (وأولئك هم المفلحون)
قال: وَأُوْلَئِكَ [آل عمران:104]السامون الأعلون، أشار إليهم بالبعد لعلو منزلتهم، والآن الحكومات والشعوب الإسلامية والكافرة كلها هابطة، والحكومة هذه البقية الباقية عالية والله العظيم، أو ما تثقون بهذا الكلام؟ أو لعلكم تقولون: هذا الشيخ يتملق! إن هذه كلمات يوحيها إبليس يمرض بها القلوب والعقول، ما يسمحون لمؤمن يقول كلمة حق أبداً، يتملق فقط، والتملق إذا قال الكذب أو قال الباطل، إذا دعا إلى المنكر من أجل إرضاء أصحابه، أما أن تكتم الحق، فهل هذا يصح من مؤمن؟! هذه البلاد من عفَّنَها؟ العالم الإسلامي يهشمها ويحطمها في كل مكان، فتجد السب والشتم والتضييع، ولا يقولون فيها خير أبداً ويذكروه، جبنا ديارنا وعرفناها في الشرق والغرب، والله لولا الله ما بقيت إلى اليوم أبداً. وَأُوْلَئِكَ هُمُ [آل عمران:104] لا غيرهم، الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] فالله يكذب؟ أعوذ بالله! تعالى الله عن الكذب، عرف الأشياء قبل أن يخلقها، كونها قبل أن توجد، فهل يجهل هذا؟ وأولئك الذين كونوا أو كانت منهم أمة تدعو إلى الإسلام وتجاهد وتبتع، وأمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في ديارها، هؤلاء هم وحدهم المفلحون، ما قال: (وأولئك المفلحون)، وإنما قال: وَأُوْلَئِكَ هُمُ [آل عمران:104] فلمَ أتى بالضمير(هم)؟ ليقصر الفلاح عليهم، ووالله لكما قال تعالى: هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، فما معنى الْمُفْلِحُونَ ؟ الفائزون، وما معنى: الفائزون؟ هل الفائزون بجائزة نوبل؟! الله أكبر! أهل القرآن يقولون: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] إي والله، واقرءوا هذه الآية الكريمة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، من يقول: إلا نفوس بني هاشم، إلا نفوس الطِليان. هل هناك من يستثني؟ لا. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، من حكم بهذا الحكم؟ الله، فهل استطاع أن ينقضه كائن في الكون؟ نافذ أو لا؟ إذاً: اسمع: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، أيتها الشغيلة، أيتها العملة، يا عمال! اعملوا، واصلوا العمل في الليل والنهار، ولا تطالبون اليوم بالأجر، إذ هذه دار عمل وليست دار أجر وجزاء، لا إله إلا الله! اعمل الصالح والطالح، والجزاء ليس هنا أبداً، فهي ليست دار جزاء، وإنما هي دار عمل، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ [آل عمران:185] متى؟ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، أجور العمل سواء كان شراً أو كان خيراً وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]. ما هذه الأجور؟ دولارات، مليارات، إبل، أغنام، قصور؟! بين الأجور فقال: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185] أي: أُبعد عنها وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فهل عرفتم الفوز أو لا؟ وأخيراً: اذكروا حكم الله فينا وقد صدر: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].معاشر المستمعين والمستمعات! هيا نزكي أنفسنا ولا يضرنا سقوط البشرية كلها في الهاوية، ليعمل كل واحد منا على تطهير نفسه بهذه العبادات المتقنة المقننة، وبالبعد عن كل ما حرم الله، من نظرة محرمة، أو لقمة محرمة، أو كلمة سيئة، أو حركة باطلة، بهذا تفلح يا عبد الله، وتفلحين يا أمة الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].اللهم اجعلنا من المفلحين الفائزين يا رب العالمين، اللهم إن بيننا من يشكو الألم والمرض، فاشف مرضانا يا رب العالمين، وزكِ نفوسنا، وطهر قلوبنا ونورها لنا يا رب العالمين، وتوفنا وأنت راض عنا، وأدخلنا -يا ربنا برحمتك- في عبادك الصالحين.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-24, 05:03 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (43)
الحلقة (184)
تفسير سورة آل عمران (48)


الأمة المحمدية هي أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأجل أن تكون دعوتها على بصيرة فلابد لكل داعية فيها أن يعلم محاب الله عز وجل فيأمر بها، ويعلم مكاره الله ومساخطه فينهى عنها، ومتى ما قامت الأمة بهذا الواجب العظيم حفظ الله أمرها في الدنيا، وكتب لها الفلاح في الآخرة.

تابع تفسير قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات المباركات من سورة آل عمران عليهم السلام، وتلاوة الآيات -التي شرعنا في درسها البارحة- بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:104-109]. ‏

وجوب وجود جماعة من المسلمين تدعو إلى الإسلام
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! عرفنا وعلمنا وفهمنا وأيقنا أن على أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل أزمنتها وعصروها أن توجد فيها من يدعو إلى الإسلام، قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، فلا خير أعظم من الإسلام، وبالتالي فلابد من إمام تبايعه أمة الإسلام، وأن يكون له جيش عظيم يغزو ويفتح من أجل نشر دعوة الله، وإدخال البشرية في الإسلام الذي هو رحمة الله، وهذا واجب ضروري، سواء قلنا: كفائي أو عيني، فأين إمام المسلمين؟ تفرقوا عنه ومزقوا بلاده وكوَّنوا دويلات وجماعات! إذاً فكيف يوجد لهم جيش إسلامي يدعو فيغزو ويفتح؟!إذاً: يجب أن تلتئم جراحاتهم، وأن تجتمع كلمتهم، وأن تتحد رايتهم، وأن يحملوا راية الدعوة إلى الله عز وجل، وإلا فهم آثمون بتركهم هذا الواجب، اللهم اغفر لنا وارحمنا.وقد ذكرت لكم فيما مضى ولعل بيننا من ينقل هذه الكلمات الحقة: مادمنا قد عجزنا عن الغزو والفتح، وقد فتح الله لنا بلاد العالم من الصين واليابان إلى أمريكا وأوروبا، فباسم الله نكوِّن لجنة عليا يشترك فيها من كل إقليم من أقاليم العالم الإسلامي عالم أو عالمان، وهذه اللجنة المكونة من أربعين أو خمسين عالماً تتولى نشر الدعوة الإسلامية بالكتاب والمعلم، وقبل ذلك بالدينار والدرهم.كما قلت لكم: إنه في الإمكان أن يرسموا خريطة للجاليات الإسلامية الموجودة في العالم، ويُعرف عددها وحاجتها، ثم توضع ميزانية تُفرض على كل مسلم في العالم الإسلامي أن يساهم بدينار، وهذه الأموال لا نريد أن نتبجح بها في الصحف والإعلانات فنثير أحقاد اليهود والماسونية والصليبيين، وإنما تتم في حالة سرية، والحكمة تقول: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، ثم يبعث إلى تلك الجاليات بعالم أو عالمين أو ثلاثة أو أربعة على قدر اتساع رقعتهم، ومعهم الكتاب الذي يوحد كلمتهم وصفوفهم، وحتى لا تبقى الفرقة ولا مظهر لها، وإنما كلهم مسلمون، فلا مذهبية ولا طائفية ولا عنصرية ولا وطنية، وإنما ديننا الإسلام الذي مصدره الكتاب وسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم.وتمشي القافلة فلا تلبث أكثر من ربع قرن إلا وقد تضاعف أعداد المسلمين في العالم الخارجي، ولا يبعد أن تظهر دويلات إسلامية، ونكون بهذا قد أدينا هذا الواجب، ولنحمد الله على أن أراحنا من حمل السلاح وغزو البلاد وفتحها، إذ إن الله قد فتحها فالحمد لله، فهل تذكرون هذا أم لا؟ ننتظر حتى توجد الخلافة الإسلامية؟! متى؟ إن الباب مفتوح أمامنا انشر دعوة الله تعالى، بل يستطيع المسلمون أن يتجولوا في تلك البلاد بدون ما أمر من فوق أو من تحت، وبالتالي فالذي له ساعة في وقته له أن يزور بلداً ما على أن يحسن لغتهم، وله أن يتصل بفلان وفلان، فيعلمهم دين الله تعالى، وكل ما في الأمر أن الله رحمنا لضعفنا وعجزنا، ففتح لنا أبواب العالم لننشر الإسلام بكل راحة وطمأنينة.أما ديارنا الإسلامية فنحن قد هبطنا فمن يرفعنا؟ ورفعتنا ليست مستحيلة أبداً، إذ إن العالم الإسلامي اليوم كبلد واحد، فإذا كبرت في الشرق سمعت تكبيرتك في الغرب، وإذا رفعت يديك: وارباه، سمع دعاءك كل مؤمن في الشرق والغرب، فتستطيع أن تأتي إلى مكة في نصف يوم من أي بلد، وتأتي إلى المدينة في أقل من أربع ساعات.

الطريق إلى إيجاد جماعة من المسلمين تدعو إلى الله تعالى
والمهم والطريق هو -كما علمتم- أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله تعالى، فنطرحهما بين يديه، وترجمة ذلك أن نقبل على ربنا في بيوته، فنبكي بين يديه بنسائنا وأطفالنا كل ليلة حتى يستجيب دعاءنا، ويجمع كلمتنا، ويطهر أرواحنا، ويزكي نفوسنا، وهذا لا يكلفنا شيئاً، فكيف لا ندلل على أننا مفتقرون إلى الله محتاجون إلى رحمته لأننا في أسوأ الأحوال وأقل الظروف؟ يجتمع أهل القرية في مسجدهم، وأهل الحي في مسجدهم، وذلك من المغرب إلى العشاء كاجتماعنا هذا، ويتعلمون الكتاب والحكمة، ويزكون أنفسهم، واسمعوا إلى قول الله فيكم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، أي: القرآن والسنة، فهل فينا يا أهل هذه الحلقة من يعتز بمذهبه فيقول: أنا حنفي، أنا شافعي، أنا مالكي، أنا حنبلي، أنا أباضي، أنا زيدي؟ لا أبداً، فالذين يجلسون في صدق فيتعلمون الكتاب والحكمة أصبحوا مسلمين، فلا عنصرية ولا طائفية ولا مذهبية، وإنما فقط نتبع هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولسنا في حاجة إلى من يبين لنا ذلك، وإنما إذا اتضح ولاح سلكناه ولا نبالي بالشرق ولا بالغرب؛ لأننا نريد أن ننزل بالملكوت الأعلى، نريد أن نخترق ونجتاز السبع السموات الطباق لننزل بدار السلام، فإذا كان هذا يكلفنا أن نجتمع في بيت الله ونبكي بين يديه طول حياتنا، فهل هذا غال؟ رخيص هذا.وشيء آخر: أين السياسيون؟ أين علماء النفس؟ أين علماء الاجتماع الذين يستطيعون أن يردوا على الله ورسوله؟ والله ما إن يطرح المؤمنون بين يدي ربهم إلا وقد انتهى كل مرض في قلوبنا، فلا غش، ولا خداع، ولا كبر، ولا غيبة، ولا نميمة، ولا سحت، ولا ربا، ولا زنا، ولا باطل، بل تنتهي كل هذه الأخباث المتنوعة، وهذا الظلم المتنوع، وهذا الشر والفساد، ولو تجتمع البشرية كلها على إزالته والله ما تزيله إلا على هذا الهدي الإلهي، ولو يضعون مع كل إنسان عسكري، والله ما يستطيع أن يستقيم، وإنما يكذب ويخدع ويغش ويخون، فلمَ لا نعرف هذا؟ فهيا نطهر قرانا ومدننا من هذا الخبث الذي خمت له الأجواء، ومن هذا الشر والفساد الذي طغى، ومن هذا العجز والضعف الذي أصابنا، بله من الحاجة والفقر، فما السبيل إلى ذلك؟ وما الطريق إلى ذلك؟ أن نحقق ولاية الله، أن نصبح أولياء الله، فالله قد نفى عن أوليائه الخوف والحزن فقال: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. من هم أولياء الله تعالى؟ يقولون: العيدروس وسيدي عبد القادر والبدوي وفلان وفلان! إن أولياء الله كل مؤمن تقي لله تعالى، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، أي: يتقون سخط الله وغضبه وعذابه، بمَ يتقونه؟ بالمظلات؟ بالكهوف؟ بالطائرات؟ يتقونه بتسليم قلوبهم ووجوههم لله تعالى، بطاعة الله وطاعة رسوله، هذه الطاعة محتاج العبد إلى أن يعرف فيمَ يطيع الله؟ فيمَ يعصه؟وطلب العلم فريضة، وبالتالي فما الطريق إلى طلب العلم؟ عيينا، فتحنا في العالم الإسلامي مدارس وكليات، ومازال الجهل مخيماً، إذاً كيف نتعلم؟ دلونا على الطريق يا رشداء، يا عقلاء، ما الطريق إلى أن نتعلم؟ أو لستم بموقنين بما نتكلم به؟ والله لن يزول هذا الجهل وهذه الظلمة إلا إذا أقبلت الأمة على ربها في صدق، وأصبحت تجتمع في بيت ربها بنسائها وأطفالها، فيتعلمون الكتاب والحكمة طول العام، بل طول الحياة، في وقت يجب ألا يبقى فيه عمل، إذ الكفار لا يعلمون من الساعة السادسة إلى نصف الليل، ونحن نرفض هذا ونعمل حتى أننا لا نصلي المغرب في جماعة، ولا نجلس بين يدي معلم يعلمنا.

ضرورة إنشاء هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل قرى ومدن المسلمين
قال تعالى: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، وقد قلنا في الجملة: لمَ الدويلات الإسلامية عربها وعجمها لا توجد بها هيئات تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قالوا: هذا يكلف ميزانية جديدة! قلنا: نقسم الميزانية نصفين، نصفها للبوليس والشرط، ونصفها للهيئة، إذ البوليس والشرط لتحقيق الأمن، والهيئة لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فينتهي نصف الشر أو ثلاثة أرباعه، وشيء آخر: والله ليوجد من المسلمين من لو يأذنون لهم فيعطونهم سمة رسمية، ولا يحتاجون إلى مكافأة شهرية ولا عامية، لكن للأسف تستقل الدولة أو الإقليم ولا يريدون إنشاء هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونستطيع أن نقول: إن الذي صرفهم هو الماسونية، لكن نحن الذين نمد أعناقنا لكل أحد، فالماسونية نلعنها، والمستعمرون الذين كانوا يحكموننا والله ما ألزمونا بألا نأمر بمعروف ولاننهى عن المنكر، بل ولا نصدق ذلك، فإقليم من الأقاليم يقول: لا، فنحن لما خرجت بريطانيا فرضت علينا ألا نفعل كذا! والله ما كان، لم ما يفعلون؟ ما يريدون الدار الآخرة؟ استغنوا عنها أم ماذا؟ نكل أمرهم إلى الله، اللهم اشهد فقد بلغنا.

دعائم الدولة الإسلامية
وقد بينت لكم ولهم بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضهما الله عز وجل على الدولة التي تقوم في البلاد، وهذه ليست نظرية وإنما سياسية، إذ إن دعائم الدولة الإسلامية أربعة:الأولى: إقامة الصلاة، ومعنى إقامة الصلاة أن المؤذن إذا قال: حي على الصلاة، وقف العمل، وأقبل المؤمنون على بيوت ربهم، فالجندي والعسكري كالمدني، والعامل كمراقبه، وأقبلوا على الله ليستمدوا قواهم، ويستمدوا رحمته وعونه لهم، وفي خلال ربع ساعة تنتهي الصلاة، ثم اندفعوا وراء أعمالهم، وذلك خمس مرات في الأربعة والعشرين ساعة؛ ليبقوا دائماً أولياء الله، ولتبقى ولاية الله ثابتة لهم.ولا تسألني عن النتائج المادية المحسوسة الملموسة من إقامة الصلاة، إذ لو أقيمت الصلاة اختفى كل وجه للباطل والشر والظلم والخبث والفساد، الأمر الذي لا تستطيع قوى الأمن بأي حال من الأحوال أن تحققه، بينما إقامة الصلاة والله ليحققه، أما قال العليم الحكيم: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]؟ وكررنا هذا القول -واشهد اللهم وإننا لمودعون- وقلنا لهم: تعالوا إلى أي بلد من العالم الإسلامي العرب والعجم، ونأتي بمحافظ المدينة ونقول له: يا فلان أعطنا قائمة بأسماء المجرمين في هذا الأسبوع، فيقدم لنا القائمة: هذا ضرب أباه، وهذا سرق أمه، وهذا فعل كذا، فقلت: والله لا نجد في تلك القائمة نسبة أكثر من 5% من مقيمي الصلاة، و95% من المصلين وتاركي الصلاة، والآن أربعين سنة ولم يعرفوا هذا، فالمقيم الصلاة الذي يناجي ربه على علم وبصيرة خمس مرات يخرج فيلوط ويزني ويكذب ويفجر ويسرق؟! والله ما كان، وإن وقعت مرة في عمره انغسل منها وانمحى ذنبه ببكائه وصيامه النهار وقيامه الليل. فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، لم؟ لأنها ما أنتجت لهم الطاقة النورانية، إذ الصلاة إن لم تقم على قدميها وساقيها كما هي لتنتج وتولد الطاقة النورانية في القلوب فإنها لا تنفع لضعفها، فهي صلاة بلا خشوع لا تولد هذا النور. إذاً: والآن لنعلم معاشر المؤمنين والمؤمنات! أن قول الله تعالى: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] وآيات أخرى دالة على أنه يجب على المؤمن أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، سواء كان مسئولاً أو غير مسئول، وذلك في القرية أو في الحي أو في السوق أو في الطريق أو في المسجد أو في البيت، فإذا رأى معروفاً متروكاً مهملاً، يلفت النظر إلى تاركه ومهمله، ويرغبه في فعله، ويكون بذلك قد أدى واجبه، وإن رأى منكراً مرتكباً مفعولاً في قرية أو في السوق أو في المدينة أو في المسجد أو في أي مكان، وهو يعلم أنه منكر، فينبغي أن ينبه أخاه بلطف ولين على أن هذا منكر، ومثلك لا يفعله، وأنت ولي الله، وهنا يتطلب الموقف معرفة المعروف ومعرفة المنكر، فالذي لا يعرف المعروف كيف يأمر به؟! قد يخطئ، والذي لا يعرف أن هذا الكلام منكر أو هذه الحركة منكر، أو أن هذا العمل منكر، كيف ينهى عنه؟!

أهمية معرفة محاب الله ومساخطه لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر
عدنا من حيث بدأنا: يجب علينا أن نعرف محاب الله ومساخطه، ومحابُ الله هي المعروف، ومساخطه هي المنكر، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يعيش زمناً وهو لا يعرف ما يحب ربه ولا ما يكره مولاه؛ خشية أن يترك المحبوب فيغضب عليه ربه، أو يرتكب المكروه فيسخط عليه ربه، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يعيش فترة يتمكن منها من السؤال والعلم والمعرفة، وهو لا يعرف المعروف ولا يعرف المنكر، إذ المعروف هو ما أحبه الله فشرعه في دينه، وأنزله في كتابه الذي أوحاه إلى رسوله، والمنكر هو المبغوض لله تعالى، أو ما حرمه الله تعالى، أو هدد فاعله، أو توعده، أو وضع له حداً من الحدود، سواء كان عقيدة أو قولاً أو عملاً، وبالتالي نعلم هذا كله في المساجد فقط، أما المدارس والكليات فلا، وقد بلغني -وأنا ما أطيق أن أسمع الأخبار- أن أعداداً كبيرة من خريجات الجامعات في البلاد العربية الآن يتزوجن بإطاليين وأسبان وأمريكان! مع أن الواجب على إمام المسلمين لو تزوجت امرأة مسلمة بكافر أن نغزو تلك البلاد، وأن نحرر تلك المرأة المؤمنة، ولا نترك الكافر يعلوها ويحول بينها وبين عبادة ربها. والآن فتياتنا وبناتنا علمناهن ورفعنا قيمتهن، فتخرجن من الكليات والجامعات، وبعث بهن إلى سويسرا وأسبانيا، وبالتالي يتزوجن اليهود والنصارى! فاسمعوا أيها المؤمنون! من الآن امنعوا بناتكم من دخول الجامعات في المدينة النبوية، لا أقول: من الجامعات في القاهرة المعزية، لكن قدي يقول قائل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟ والله ما إن تزول هذه الراية -لا قدر الله- ويتولى الحكم إخوانكم، تصبح أوضاعكم أسوأ من أوضاع البلاد الأخرى، ويتسابقن بناتكم إلى أوروبا ليتعلمن، وتحل الخيبة وينزل البلاء والشقاء.ومع هذا مادمنا مندفعين وراء تعليم بناتنا، والزج بهن في الكليات والجامعات -هو الطريق المعروف- فلابد وأن ينتهي إلى كشف الوجوه والخلاعة والدعارة والوصول إلى البلاء، فهل يوجد علماء نفس يجادلوننا؟ أو علماء سياسة؟ أو علماء الحكمة؟ إن الله سنناً لا تتبدل ولا تتغير، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، فكذلك الزج بالبنات في الجامعات والكليات والمدارس الثانوية وغيرها من أجل الرغبة في الدينار والدرهم مآله معروف، ولن يفلح إلا من شاء الله، ونحن أتباع النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم نعلم بناتنا كيف يعبدن الله؟ كيف يعشن على ذكر الله؟ كيف يربين البنين والنبات على نور الله وهداية الله؟ كيف يسعدن أزواجهن في بيوتهم؟ لا نعلم من أجل الوظيفة، إذ الوظيفة عمل رسمي يُعطى صاحبه مالاً معيناً.آه لما بدأت الصحف تظهر عندنا، وخاصة صحيفة المدينة والبلاد والرياض، أخذوا يطالبون بحماس: إلى متى والبنت السعودية في دياجير من الظلام؟! لم لا تُفتح مدارس للبنات؟! فكتبت رسالة بعنوان: الإعلام بأن العزف والغناء حرام، وهم يضربون ضربتين، مرة: لمَ تبق بنات السعودية في الظلام، افتحوا لهن مدارس؟ لمَ تبق إذاعتنا محطمة مهجورة ما فيها امرأة تغني، ولا فيها صوت كذا؟ وفعلاً انتصروا، وذلك لأننا -كما علمتم- نمد أعناقنا إلى الأعداء، ما هناك روح إيمانية ولا بصيرة، فقلت: والله إن فتحتم لهن المدارس الابتدائية لتطالبون بالثانوية، وإذا انتقلتم إلى الثانوية والله لتطالبون بالجامعة، وقد تم هذا كله بالحرف الواحد، والآن والله لتطالبن بالوظيفة، وفعلاً بدءوا الآن يطالبون بتوظيف النساء! وإذا تململنا وتململ آباؤهن وقالوا: كيف تتوظف النساء؟! إن التعليم غير الوظيفة، وهذا لا ينفع، فيبعثون بهن بالليل إلى جامعات أوروبا ليتعلمن العلوم التي البلاد في حاجة إليها! لأجل أن نصل إلى الوظيفة لا إلى الله. وعلى كل حال معشر المستمعين والمستمعات! احفظوا بناتكم عن الفتن، وإن جعن وإن عطشن وإن عرين خير لهن من الخروج عن دائرة الآداب والأخلاق والعقيدة والإيمان والإسلام، وحتى لا تكون سبباً في الفتنة إذا ظهرت.وقد بلغنا اليوم أن الحكومة قللت من استقدام الخادمات، فحمدنا الله عز وجل على ذلك، والآن ما يجد إبراهيم أو عثمان خادمة، إذاً: فيقول لابنته: اجلسي، اتركي هذه المدرسة واشتغلي مع والدتك في البيت، إذ والله لو شغلنا بناتنا في بيوتنا ما احتجنا إلى خادمات جاهلات، وبعضهن فاسقات ساحرات مبطلات، وترتب على مجيئهن البلاء وما يغضب الجبار.ونعود فنقول: يجب على المؤمن أن يعرف المعروف الذي يأمر به، ويعرف المنكر الذي ينهى عنه، وليس شرطاً أن تعرف كل معروف حتى تأمر بالمعروف، أو تعرف كل منكر حتى تنهى عن المنكر، وإنما حسبك إن عرفت أن إقامة الصلاة فريضة الله، وواجب على كل مؤمن ومؤمنة، فإذا وجدت من أهملها أو أعرض عنها فمره بذلك، أو عرفت أن الغيبة هي ذكر إنسان غائب في مجلس، وتعريته ونقده، فإذا كنت في مجلس وسمعت من يؤذي مؤمناً فقل: يا إخواننا! لا تذكروا أحداً وهو غائب، إذ إن هذه غيبة محرمة، أيضاً في مرة من المرات مرت بك امرأة كاشفة عن محاسنها في بلاد الطهر كهذه -والحجاب قائم والحمد لله- فأمرها بستر وجهها ومحاسنها، لكن بالكلمة الطيبة، وقد كان عندنا أحد الطلاب وقد مات، فقد كان يقرب من تلك المرأة المتبرجة ويلتفت بعيداً عنها ويقول: يا أمة الله! غط وجهكِ، ويمشي ويبتسم، وهو بهذا قد أدى الواجب الذي عليه .إذاً: يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( بلغوا عني ولو آية )، فمن عرف آية، بمعنى: حفظ الفاتحة، ثم سمع أمياً يصلي وهو لا يحسن قراءة الفاتحة، فيجب أن يقول له: يا عبد الله! تعال أعلمك الفاتحة، ويخلو به في جانب المسجد ويعلمه.أيضاً لو دخل أحدكم إلى بيت صاحبه فوجد في التلفاز نساء يغنين ويرقصن، فيبين له أن هذا لا يجوز، أو وجد كلباً في حجرة صديقه، فيتغدون والكلب إلى جنبهم يلهث، ولا يعرف أن وجود هذا الكلب في هذا المكان حرام، فقل له: يا عبد الله! أبعد هذا الكلب، ضعه عند حراسة الباب أو عند الغنم، لا عندنا في الحجرة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ).كذلك إذا زرت أخاك ووجدت عنده مغنية تغني في التلفاز وامرأته وبناته يشاهدهن، فقل له: هذا ما ينبغي، فأنتم مسلمون، طهروا بيتكم، وكل ذلك بكلمة طيبة، وبالتالي يكون قد أديت الأمانة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر.والذي لا يعرف مسألة لا يجوز له أن يأمر وينهى بدون علم، بل لابد وأن يكون قد عرف المعروف معرفة حقيقية، وعرف المنكر معرفة حقيقية، وحينئذ يأمر وبالتي هي أحسن، وعندنا نظام رباني فاسمع: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، فادع يا عبد الله إلى ربك بالحكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه، والموعظة الحسنة: هي التي ترغب العبد في فعل الخير أو تبغض إليه فعل الشر، فتذكره بالدار الآخرة وما فيها، وإن جادلك من جادل فجادله بالتي هي أحسن؛ لأنه لابد من الكلم الطيب المعسول كما يقولون حتى يصل إلى قلبه ويستفيد منه، فهل عرفتم من هم المفلحون الفائزون؟ أبعدهم الله عن النار وأدخلهم الجنة.

نهي الله للمسلمين أن يسلكوا طريق أهل الكتاب في الفرقة والاختلاف في الدين
وقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا [آل عمران:105]، وهذا نهي، فاسمعوا يا عباد الله! وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105] في الدنيا والآخرة. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا أي: تفرقوا بعدما كانوا أمة أصبحوا أمماً، بعدما كانوا جماعة أصبحوا جماعات، واختلفوا في: هذا حلال وهذا حرام، هذا حق وهذا باطل، وهؤلاء هم أهل الكتاب وبصورة خاصة اليهود والنصارى، وَأُوْلَئِكَ أي: البعداء، لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ لا يقدر قدره ولا يعرف حقيقته إلا الله تعالى.وهنا أذكركم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة )، اليهود كانوا قبل النصارى، ( وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاثين وسبعين فرقة )، رواه الترمذي وهو صحيح، وقال: هذا حديث صحيح، وفعلاً فقد وجدت ست فرق في أمة الإسلام، وهي: الحرورية والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية، وانقسمت كل فرقة إلى اثنتي عشرة فرقة، فيكون مجموع تلك الفرق كلها اثنتان وسبعون فرقة، والناجية هي الثالثة والسبعون.فأولى هذه الفرق: الحرورية، نسبة إلى حروراء مدينة بالكوفة أو بالبصرة، ثم بعد ذلك القدرية الذين يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، وثالثاً: الجهمية محرفوا صفات الله ومؤولوها، ورابعاً: المرجئة الذين ليس عندهم ذنب أبداً، وإنما كل شيء يغفره الله تعالى، وخامساً: الرافضة أو الشيعة، وأخيراً: الجبرية القائلون: بالجبر، فيقتل ويقول: أنا مجبور! ويسب أمه ويصفعها ويقول: أنا مجبور! وكل ذلك حتى يستبيح كل شيء، وكل هذه الفرق لو تتبعتها في كتبها تجدها. إذاً: ما هي الفرقة الناجية؟ بنو هاشم؟ بنو تميم؟ الفرقة الناجية هي التي عقائدها وعباداتها وآدابها وأخلاقها وقضاؤها وحكمها على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فعقيدتك كعقيدة رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وكل الصحابة، وصلاتك وعبادتك تؤديها كما كان الرسول يؤديها وأصحابه ومن بعدهم، وزكاتك وصيامك وآدابك وأخلاقك وسلوكك دائماً مأخوذ من رسول الله وأصحابه، فهذه هي الفرقة الناجية، ومن عداها ففي النار؛ لأن العبادة إذا أُديت كما شرع الله فإنها تزكي النفس البشرية وتطهرها، فإذا زكت نفس العبد قبله الله في دار السلام، والعبادات التي تتنافى مع عبادة الرسول وأصحابه بالزيادة والنقص، أو بالتقديم والتأخير، هذه العبادة فاشلة، ولا تزكي النفس، وإذا لم تزكُ نفس العبد فكيف يدخل الجنة؟! فهل ينقض الله حكمه؟ أو هل هناك قوة أقوى من قوة الله؟ وهل صدر حكم الله على البشرية بأن من زكى نفسه دخل الجنة، ومن دساها دخل النار؟ نعم، ونجد ذلك في قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فكن ابن من شئت، وعش في أي مكان شئت، إذا لم تزك نفسك -وأنت قادر على تزكيتها- فلن تفتح لك أبواب السماء، ولن تدخل الجنة مع الداخلين، وهذا حكم الله.وقد انتهت واندرست كل هذه الفرق والطوائف، إذ ما وجدت إلا للفرقة والتقسيم والضلال والعياذ بالله، وأنت مسلم أمرك الله بكذا، فقل: سمعاً وطاعة، أمرك الرسول بكذا، فقل: سمعاً وطاعة، نهاك الله ونهاك رسوله، فقل: سمعاً وطاعة، ولا تقل: أنا زيدي، أنا أباضي، أنا اثني عشري، بل لا تقل: أنا مالكي ولا شافعي ولا حنبلي، بل مد عنقك وقل: طاعة لله ورسوله.إذاً: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، ونحن قد جاءتنا البينات، فكتاب الله خالد والله حافظه، وسنة الرسول حفظها الله وهيأ لها رجالاً يحفظونها، ولم يبق عذر لأحد من المسلمين، بل ومن الكافرين، ومن طلب وجد، والذين خرجوا عن أمة الإسلام لمَ لا يسألون العلماء ويرجعون إلى دين الله؟ لمَ يبقوا متعصبين جماعات جماعات، يضحك عليهم الشيطان وأولياؤه؟ من أجل أن يستقلوا ويكونوا الدولة على المذهب! إنها فعلة يهودية، وقد مد المسلمون أعناقهم وقبلوا الفرقة وانهزموا أمام الطغيان والشر، وأبوا أن يُقبِلوا على الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابو وليد البحيرى
2019-03-30, 04:40 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (44)
الحلقة (185)
تفسير سورة آل عمران (49)


الدنيا هي دار العمل، والآخرة هي دار الجزاء، فمن عمل في الدنيا الأعمال الصالحات، وقطع عمره في مرضاة الله، والعمل بأمره واجتناب نهيه جاء يوم القيامة أبيض الوجه، ودخل في رحمة الله عز وجل وجنته، وأما من أقام على المعاصي في الدنيا، ولم يأتمر بأمر الله عز وجل ورسوله، ولم ينته عن نهيهما فإنه يجيء يوم القيامة أسود الوجه، ويستحق سخط الله وعقابه.
تابع تفسير قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت، الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) حقق اللهم لنا هذا الموعود، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.هذا وقد انتهى بنا الدرس من سورة آل عمران إلى هذه الآيات التي درسناها ليلتين متتاليتين، وها نحن في الليلة الثالثة، ولعل الله يوفقنا لختمها ونهايتها، وإليكم تلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتأملوا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] جعلنا الله منهم، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:105-109]. ‏
وجوب إيجاد جماعة في الأمة لنشر دعوة الله في العالم
أولاً: علمنا موقنين بأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل أزمنتها وعصورها لابد فيها من جماعة تغزو وتفتح، وتدعو وتنشر دعوة الله في العالم، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] الذي هو الإسلام، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104].وقلنا: يجب على كل أهل إقليم من أقاليم العالم الإسلامي أن يوجدوا هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونظرنا إلى واقعنا فوجدنا أمة الإسلام أعرضت إعراضاً كاملاً عن هذا الواجب إلا ما شاء الله، كالدولة السعودية التي أسسها المرحوم عبد العزيز، فما زالت هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمة، وخصوم لا إله إلا الله يحاربونها في كل مكان، وإن حاربها اليهود والنصارى فلا عجب ولا غرابة؛ لأنهم لا يريدون أن نسعد وننجو، ولكن كون المحاربين لها من المسلمين فهذه التي لا تطاق.
الأسس الأربعة لقيام الدولة الإسلامية
قال تعالى: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] بلغوا: لا يحل لمن أقام دولة في أرض الإسلام، وادعى أنه استقل بشعبه، وأصبح يدير مملكته أو إقليمه أو سلطنته أو جمهوريته، لا يحل له ألا يوجد هيئات من أهل العلم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإن تكبر عن هذا، أو خاف وانهزم، فمآل دولته الخراب والسقوط والنهاية المرة، أحبوا أم كرهوا؛ لأن الله تعالى قال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] أي: حكمناهم وسوَّدناهم وأصبحوا حاكمين، أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].فهذا إخبار بما يجب أن يكون، فإذا مكنك الله يا فلان وأصبحت حاكماً تدير مملكة أو قطراً أو جمهورية أو سلطنة، إن لم تقم دولتك على هذه الأسس الأربعة، فالعاقبة لله، وسوف تذوق أنت وقومك مرارة الحياة وآلامها، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، ماذا يصنعون؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] إجباراً، إلزاماً، لا يحل لمواطن مهما علا شأنه أو نزل ألا يصلي في دولة الإسلام، والذي يتركها معرضاً عنها يستتاب ثلاثة أيام أو يقطع رأسه إلى جهنم، وأن تجبى الزكاة جباية نظامية إسلامية حتى صاع الشعير ورأس العنز؛ استجابة لأمر الله، أما أن نستبدل بها الضرائب الفادحة أو غير الفادحة، ونعرض عن جباية الزكاة، فمعناه: أننا أعرضنا عن الله وذكره، وتكبرنا عن الله وشرعه، قلنا هذا أو لم نقل.
إيجاد هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة صمام أمان من العذاب
ثالثاً: لابد كما كوَّنا هيئات الشرط والبوليس والدَرَك للأمن وتحقيقه، فيجب أن نكوِّن هيئات يأمر رجالها بالمعروف وينهون عن المنكر، فإن رفضنا فالزمام بيد الله، أما قال: وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41] أو عاقبة الأمور عند بريطانيا وفرنسا؟ سوف تنزل بهم المحنة.فإن قيل: يا شيخ! لمَ تقول هذا؟ فنقول على علم: أما أنزل الله بالمسلمين بلاء عظيماً؛ إذ سلط عليهم هولندا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا والبرتغال وأسبانيا، فأذلوهم وأهانوهم وسادوهم وتحكموا فيهم ونكلوا بهم؟ فعل الله هذا أو لا؟ خائفون؟ تجاملون؟ فعل أو لا؟ إي نعم، مع أن أجدادنا الذين تسلط عليهم كانوا أتقى منا اليوم، كان عندهم الحياء والمروءة والرجولة، ونساؤهم محتجبات، ومع هذا لما أعرضوا ضربهم الله.وأما اليوم بعد هذه النعم المتتالية يعرض المسلمون عن ربهم، فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، لا يقيمون صلاة ولا يجبون الزكاة! فأين ربنا؟ بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14].إما أن يتوبوا قبل أن تدق الساعة، وإما والله سينزل بلاء ما عرفوه، مع أنهم في وضعيتهم هذه هم في بلاء، وليسوا في خير ولا في راحة ولا في سعادة، وإنما خبث وظلم وشر وفساد وتكالب.فهل عرفتم مضمون: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]؟ والجائزة: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] الناجون من العذاب، الفائزون بالنعيم المقيم لا غيرهم.
التحذير من مشابهة الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات
قال الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ [آل عمران:105] البعداء، لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، ينهانا أن نكون كاليهود والنصارى في تفرقنا واختلافنا، ونزاعنا وصارعنا، ويعلمنا أن هذا الصنف من الناس لهم عذاب عظيم، حتى لا نتفرق ولا نختلف، فهل خِفنا مما خوفنا الله؟ الجواب: لا أبداً، أصبحنا أكثر من أهل الكتاب في الفرقة والخلاف، فعندنا ثلاثٌ وأربعون دولة، آلله أمر بهذا؟ أمة واحدة أم أمم؟ كم دستوراً -قانون- عندكم تحكمون به؟ عشرات، أين دستور الله: كتابه وسنة رسوله؟ على الرفوف في المكاتب، أما المحاكم فلا، هذه مقتضيات العذاب أو لا؟ والله لمقتضياته، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف:6]، يمهل ولا يهمل، على ذاك المنبر الشريف يخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المؤمنين فيقول: ( إن الله ليملي للظالم ) يزيد في أيامه وطغيانه وحياته، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102]، العواصم والحواضر، وليست جغرافية الملاحدة، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102] عاصمة كذا، وعاصمة كذا، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ [هود:102] شديد الألم، أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] فقل لهم: انتظروا.
تفسير قوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه...)
والآن مع قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، اذكروا يا عباد الله، يوم القيامة وساعة فصل القضاء، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] فتصبح وكأنها الأقمار المشرقة، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] فتصاب بالظلمة والسواد حتى كأنها الليل المظلم، وقطعاً سيتحقق هذا. ‏
جزاء المبيضة وجوههم والمسودة وجوههم يوم القيامة
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] بين لنا ربنا جزاء المبيضة والمسودة وجوههم، فقال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران:106]، فيقال لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106]؟ ما لكم؟ ألستم كنتم بمؤمنين؟ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106]، فماذا يقولون في ساعة فصل القضاء؟ الاستفهام للتوبيخ والتأنيب والتعنيف والتقرير، وفيه إشارة إلى أن الذين يعبثون بدين الله ويستهزئون به، ويسخرون منه، ويعطلونه -وإن انتسبوا إلى الإسلام- فوالله لتسود وجوههم، وهذه فضيحة لهم.
قول الإمام مالك في قول الله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه...)
هذا مالك بن أنس إمام دار الهجرة، وإمام دار النبوة، يروى عنه في العتبية أنه قال: لا توجد آية في كتاب الله أشد على هذه الأمة من هذه الآية؛ لأنها لا تتناول اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، فلا يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟ ثم هل كانوا مؤمنين؟! فهذا يتناول هذه الأمة.اسمع، قال: روى ابن القاسم -تلميذ مالك- عن مالك شيخه في العتبية -كتاب معروف- أنه قال: ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، قال مالك : إنما هذه الآية لأهل القبلة بدليل قوله: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106]، فهاتوا لنا علماء معاصرين يؤولون هذه الآية، ويقولون: إنها في المشركين واليهود والنصارى، لا، فاليهود والنصارى قد انتهى أمرهم، فهل يقال لـأبي جهل: أكفرت بعد إيمانك؟! هو لم يؤمن حتى يقال له ذلك، وهل يقال لابن غوريون أو لـستالين: أكفرت بعد إيمانك؟ هو كان كافراً، إنما يقال هذا لمن يدعون أنهم مسلمون، فلا إله إلا الله! والسر في ذلك: أن هذه العبادات، وهذه الأحكام والشرائع ضمنها الله كفالة، وهي أنها تكفل سعادة الدنيا والآخرة، وذلك إذا طبقت على الوجه المطلوب، لكن إذا وقفت الشريعة، وعطلت أحكامها -كما هو واقع العالم الإسلامي إلا ما استثنينا من هذه الرقعة- فهل إذا سُئلوا يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم وإلا كيف عطلتم شريعتنا واسودت وجوهكم؟! لأنها فضيحة ربانية، كذلك أهل الأهواء الذين حرفوا عقيدة الإسلام، فزادوا ونقصوا وكذبوا وافتروا، وهم يدعون أنهم مسلمون، وإذا دعوناهم إلى الكتاب والسنة، إلى قال الله ورسوله، تأففوا وترفعوا، وقالوا: لنا معتقدنا ولكم معتقدكم، فهؤلاء أهل البدع المخطئة المفسقة، فآيات الله فيهم أن تسود وجوههم، ويقول لهم الرب وملائكته: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:106]، تجحدون بالقول أو بالعمل؛ لأن هذه العبادات إذا لم تؤد على الوجه المطلوب فلا تزكي النفس ولا تطهرها، فإذا صليت الصلوات الخمس ولم تصليها كما صلاها الرسول وأصحابه، فوالله لن تولد لك الطاقة، ولن تنتج لك النور، وهات صلاتك واعرضها على فقيه رباني من أهل السنة وقل له: صلاتي صحيحة أم لا؟ يقول لك: صلاتك باطلة؛ لأنك نقصت فيها كذا، زدت فيها كذا، أخرجت منها كذا، فبطل مفعولها، وهذه هي الحقيقة، ولذلك لو عرفوا لأكبوا على كتاب الله وسنة رسوله يبكون، وطالبوا العالمين بأهل السنة أن بينوا لهم الطريق إلى الله، لا الكبر والعنترية والاعتزاز بالقبيلة وبالإقليم وبالدولة وبالمذهب وبكذا، وكأن لم يكونوا عبيد الله.فهذا مالك يقول: إن هذه الآية لأهل القبلة، وليست في المشركين والكافرين، وإنما لأهل القبلة الذين ينتسبون إلى الإسلام ويصلون إلى الكعبة، وذلك لقول الله تعالى لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106] وإلا فكيف اسودت وجوهكم؟!إذاً: فما الذي تستفيدونه؟ هو أن نحافظ -ما حيينا- على معتقدنا الرباني السليم، وعلى عباداتنا كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤديها ونحن موقنون، لا بدعة ولا ارتداد ولا انتكاس ولا باطل ولا.. ولا..، حتى نُبعث إن شاء الله وينزل بنا ماء من السماء فتبيض له وجوهنا فنصبح كالقمر.
تفسير قوله تعالى: (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله ...)
قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107]، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم. ففي رحمة الله ألا وهي الجنة ورضا الرحمن، خالدين فيها لا يموتون ولا يخرجون منها ولا يرحلون، إنها بشرى عظيمة، إذ إن هذه الآية تساوي الدنيا وما فيها.مرة ثانية: اذكروا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران:106]، بذنوبهم وآثامهم، بشركهم وكفرهم وعنادهم، بإعراضهم عن ذكر الله، مع انتسابهم إلى الإسلام والمسلمين، فهؤلاء يقول لهم الله بنفسه، بل ينزه نفسه أن يكلمهم، فملائكته تكلمهم وتقول لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:106]، ويساقون إلى جهنم كما تُساق الإبل. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107]، لا يسألون ولا يستنطقون أبداً، فما إن ابيضت وجوههم إلا وقد عرفوا أنهم إلى دار السلام إلى الجنة.
تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق...)
وأخيراً: يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [آل عمران:108]، هذه التي سمعتم آيات الله وعلاماته الدالة على وجوده رباً وإلهاً عليماً حكيما قوياً قديراً تغلل علمه في كل شيء، قدرته لا يعجزها شيء، آية تدل على وجود الله وعلمه وقدرته ورحمته وحكمته، وتدل على نبوة محمد ورسالته، إذ لو لم يكن رسوله لما أنزل عليه هذا القرآن، ولما أوحى إليه هذا الهدى وهذا البيان، تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [آل عمران:108]، ينزل بها جبريل بأمر الله تعالى، وجبريل يقرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ [آل عمران:108]، بشرى، حاشا لله أن يريد الظلم للعالمين، إنسهم وجنهم، أبيضهم وأسودهم، أولهم وآخرهم، والله ما يريد الله الظلم لأحد، فهو منزه عن الظلم؛ لأن الظلم من شأن العجزة والضعفة والمحتاجين، فهم يظلمون من أجل أن يُكمِّلوا حالهم، أما الغني عما سواه فكيف يظلم؟! وأي داعٍ للظلم؟! إنما الذي يظلم هو العاجز الضعيف، يريد أن يُكمِّل قوته، وأن يزيد فيها، أما القوي الكامل فكيف يظلم؟! إذاً: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ [آل عمران:108]، بل يريد رحمتهم وهدايتهم وسعادتهم وكمالهم؛ لهذا أنزل كتابه، وبعث رسوله، وبين هذا البيان، وفصل هذا التفصيل.
تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض...)
وأخيراً يأتي هذا التعقيب: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109]، من يقول: إلا الإقليم الفلاني لنا؟ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109]، هل هناك من يقول: إلا القطر الفلاني فهو لنا، إلا الحكم فهو لنا، أين ستالين ولينين وجماعة موسكو؟ في جهنم، وأين تلك العنجهية والعنترية والتعالي؟ انتهوا، مائة سنة من هذه الليلة لم يبق منهم كلب ولا خنزير، إذ إن كل ما في السموات وما في الأرض للباقي الخالد، أما الذي يفنى ويزول ويذهب، أسوأ أحواله هل يملك شيئاً فيقال: له كذا وكذا.
طلب الحوائج من الله
قوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:109]، إذاً: يا فقراء، اطلبوا من هذا الغني، تريدون عزة وسلطان ودولة اطلبوها من الله، فهو يقول لكم: طبقوا شريعتنا، امشوا على منهجنا، تكملون وتسعدون، لكن لا نريد سعادة ولا كمال، وإنما نريد الخبث والظلم والهزؤ والسخرية! إذاً: ابقوا كما أنتم. إن هذا الإعلان عجيب، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109]، يا طلاب الدولة! يا طلاب الرئاسة! يا طلاب المال! يا طلاب العزة! يا طلاب الطهر! يا طلاب الصفاء! يا محتاجون إلى أي شيء، اطلبوه من الله، أو هناك آخر نطلبه منه؟ ليس هناك من يملك إلا هو، فالله ملكاً أبدياً ما في السموات وما في الأرض، فكل من أراد سعادة في الدنيا وفي الآخرة فيطلبها من الله، أما أن يطلبها من الشياطين بالحيل والمكر والخديعة والخبث والنتن والعفونة والله ما ظفر بشيء، ومآله الخسران الأبدي.أردت أن تتزوج، عليك برب الأرباب، قم آخر كل ليلة وصل ركعتين وابكي وقل: زوجني يا رب، والله يأتيك بها كحوراء، تريد عملاً تقتات منه وتسد حاجتك، اقرع باب الله، ما هو بالغش وبالحيلة والمكر والخديعة، وإنما اركع واسجد وابكي عاماً عامين يفتح لك الباب، تريد أن يرفع عنك الظلم وأنت مظلوم مهان فكذلك، وهكذا. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109]، من كل شيء بيده، هو الذي بيديه، ممن نطلب هذا إذاً؟ نطلب من أمريكا؟ من فرنسا تقوينا؟ من أسبانيا تمدنا؟ اطلبوا من الله.
كل الأمور مردها إلى الله سبحانه وتعالى
وأخيراً: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:109]، مردها كلها إليه تعالى، فما بقي لنا إلا أن نقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علمونا محاب الله لنحبه، علمونا مكاره الله لنتركها، علمونا كيف نعبد ربنا من طريق رسولنا، بينوا لنا سنته؟ الجواب: تعالوا إلى بيوت ربكم يعلمكم، فإن رفضتم فلن تموتوا إلا بعداء أشقياء، وهي سنن الله التي لا تتبدل، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، وطلب الهداية من الله يهبها لمن طلبها، وطلب الغنى وعدم الحاجة من الله الله، فهو الذي يغني عبده، وهكذا، أما أن تستغني عن الله، أو لا تعلن احتياجك له، وتطلب حاجاتك من الشياطين والأهواء، فوالله لن تفلح، وإنما تتعب سبعين سنة ثم تتحطم؛ لأن الله قال: وَإِلَى اللَّهِ لا إلى غيره، تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:109]، كلها، أمور الدنيا والدين، أمور الدنيا والآخرة، قولوا: آمنا بالله.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ معنى الآيات: بعدما أمر الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بتقواه، والتمسك بدينه، ونهاهم عن الفرقة والاختلاف، وحضهم على ذكر نعمه؛ ليشكروها بطاعته، أمرهم في هذه الآية بأن يوجدوا من أنفسهم جماعة تدعو إلى الإسلام، وذلك بعرضه على الأمم والشعوب، ودعوتهم إلى الدخول فيه، كما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في ديار الإسلام وبين أهله، فقال تعالى مخاطباً إياهم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] - ولتكن منكم أي: يجب أن تكون منكم طائفة يدعون إلى الخير، أي: الإسلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر- وبشرهم بأن الأمة التي تنهض بهذا الواجب هي الفائزة بسعادة الدنيا والآخرة، فقال: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، الفائزون بالنجاة من العار والنار، وبدخول الجنة مع الأبرار.وفي الآيات (105) (106) (107) نهاهم أن يسلكوا طريق أهل الكتاب في التفرق في السياسة والاختلاف في الدين، فيهلكوا هلاكهم، فقال تعالى مخاطباً إياهم: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ، فلا ينبغي أن يكون العلم والمعرفة بشرائع الله سبباً في الفرقة والخلاف، وهما أداة الوحدة والائتلاف، وأعلمهم بجزاء المختلفين من أهل الكتاب؛ ليعتبروا فلا يختلفوا، فقال تعالى: وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، لا يقادر قدره ولا يعرف مداه، وأخبرهم عن موعد حلول هذا العذاب العظيم بهم، وأنه يوم القيامة حينما تبيضّ وجوه المؤمنين المؤتلفين القائمين على الكتاب والسنة، وتسودّ وجوه الكافرين المختلفين القائمين على البدع والأهواء، فقال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، وبيّن جزاء الفريقين فقال: فأما الذين اسودت وجوههم من سوء ما عاينوه من أهوال الموقف، وما أيقنوا أنهم صائرون إليه من عذاب النار ].لطيفة: اسودت وجوههم بسبب ماذا؟ قال: من سوء ما شاهدوا من أهوال الموقف، وما أيقنوا أنهم صائرون إليه من عذاب النار، فلذلك اسودت وجوههم. قال: [ فيقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ، إذ هذه وجوه من تلك حالهم، فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:106] بالله وشرائعه.وأما الذين ابيضت وجوههم فلم يطل في الهول موقفهم حتى يدخلوا جنة ربهم، قال تعالى: فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107].وفي الآية (108) شرف الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بخطابه والوحي إليه، فقال: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [آل عمران:108]، أي: هذه الآيات المتضمنة للهدى والخير نقرأها عليك بالحق الثابت الذي لا مرية فيه، ولا شك يعتريه، فبلغها عنا وادع بها إلينا، فمن استجاب لك نجا ومن أعرض هلك، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ [آل عمران:108]، فلا يُعذب إلا بعد الإعلام والإنذار.وفي الآية الأخيرة (109) يخبر تعالى أنه له ملك السموات والأرض خلقاً وتصرفاً وتدبيراً، وأن مصير الأمور إليه، وسيجزي المحسن بالحسنى، والمسيء بالسُّوأى ].
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: وجوب وجود طائفة من أمة الإسلام تدعو الأمم والشعوب إلى الإسلام، وتعرضه عليهم، وتقاتلهم إن قاتلوها عليه ].وقد بينا هذا وقلنا: لا بد من وجود إما الجهاد وإما لجنة عليا كما هي اليوم، وإن شاء سوف تسمعون بوجود لجنة عليا تكونت؛ لأنكم بلَّغتم، وتحدثتم بهذا في بيوتكم، وسوف تنقل إلى بعض الصالحين المسئولين فيكونونها. قال: [ ووجوب وجود هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مدن وقرى المسلمين.ثانياً: حرمة الفرقة بين المسلمين والاختلاف في دين الله ].فالذين يرفضون الوحدة والاتفاق على منهج الحق ملعونون هالكون، والذين ينادون: تعالوا، قال الله وقال رسوله ناجون والحمد لله.قال: [ ثالثاً: أهل البدع والأهواء يعرفون في عرصات القيامة باسوداد وجوههم.رابعاً: أهل السنة والجماعة وهم الذين يعيشون عقيدة وعبادة على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يعرفون يوم العرض بابيضاض وجوههم. خامساً: كرامة الرسول على ربه وتقرير نبوته، وشرف من آمن به واتبع ما جاء به.سادساً: مرد الأمور إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة، فيجب على عقلاء العباد أن يتخذوا لهم عند الله عهداً بالإيمان به وتوحيده في عبادته، بتحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ]. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-03-30, 04:45 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (45)
الحلقة (186)
تفسير سورة آل عمران (5)


زين الله عز وجل لعباده زينة الدنيا ومحاسنها وما فيها من النساء والأولاد والأموال فتنة لهم وامتحاناً واختباراً، وذلك حتى يأخذوا منها ما أباحه لهم، وما سمح لهم بأخذه والاستمتاع به، ويجتنبوا ما نهاهم عنه وحرمه عليهم من هذه النعم، ثم أخبرهم تعالى بأن ما أخذوا وما تركوا ما هو إلا متاع الحياة الدنيا والله عنده في الآخرة الجنة لعباده المؤمنين الصادقين.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ) . اللهم حقق رجاءنا يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين!وها نحن اليوم مع آية واحدة من كتاب الله، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]. وقبل أن نشرع في تدارس هذه الآية الكريمة نتذاكر ما علمناه بالأمس! تذكرون أننا عرفنا أن الذنوب هي بريد العذاب، إذ قال تعالى: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أخذهم الله فعذبهم أشد العذاب؛ بسبب ذنوبهم، فالذنوب بريد المهالك والمعاصي وبوابة الخسران والشقاء والعذاب.والذنوب: هي المعاصي، معصية الله في أمره أو نهيه ذنب، ومعصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره أو نهيه ذنب، فمن أمر ولم يفعل كمن نهي وفعل، كلاهما أذنب، فيؤاخذ بذنبه ما لم يتب ويتوب الله عليه.
الإيمان والعمل الصالح هما سلم الصعود إلى الملكوت الأعلى
من منكم يذكر لنا مراقي الصعود؟ ما هي المرقاة التي نخترق بها السموات السبع وننزل بالفردوس الأعلى؟الطلبة يخافون أو يستحون؟! الإيمان والعمل الصالح هما مرقاة الصعود إلى الملكوت الأعلى، وإن طلبتم بيان ذلك فأنتم عليمون به، فقد عرفتم حكم الله الذي صدر علينا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:9-10]، والله إذا حكم فلا معقب لحكمه، فهو الذي أخبر بنفسه في سورة الرعد فقال: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]!تأملوا! قول الله عز وجل من سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ، طاعة الله وطاعة الرسول أليست هي الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي؟! بلى.والطاعات: فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، أمر بالإيمان والعمل الصالح، ونهى وحرم الشرك والمعاصي، اسمع لتشاهد هذه المرقاة: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]! كيف انتظم هؤلاء في سلك هذه المواكب في الملكوت الأعلى؟ ما هي المرقاة؟ ما هو السلم؟ ما هو البريد؟ إنها طاعة الله عز وجل، وطاعة الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم، واللفظ واضح كوضوح الشمس، ولفظ (من) من ألفاظ العموم، فكل من يطع الله والرسول سواء كان ذكراً أو أنثى، عربياً أو أعجمياً، فقيراً أو غنياً، شريفاً أو ضيعاً مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]!أين هم الذين أنعم الله عليهم؟ أين رسول الله؟ في الملكوت الأعلى.أين أرواح الشهداء؟ أين أرواح المؤمنين؟ في الفراديس العلى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]. اللهم اجعلنا منهم ووالدينا يا رب العالمين!
إنعام الله على عباده الطائعين بنعمة الإيمان به
هنا سؤال يُطرح على السامعين والسامعات: بماذا أنعم الله عليهم؟ بالأموال؟ بالذرية والأولاد؟ بالمناصب العالية؟ بالجاه والسلطان؟ نريد أن نعرف بماذا أنعم عليهم؟ من نسي فليقرأ سورة الفاتحة ويتدبر قول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]، إذ أنعم عليهم بأربع نعم: الأولى: نعمة الإيمان بالله، وبما أمر الله أن نؤمن به ونصدق وإن كان وراء العقول -كما يقولون- فإذا قال تعالى شيئاً نؤمن بما قال، ونقول: آمنا!في ذات ليلة وهو صلى الله عليه وسلم جالس كالبدر وحوله الكواكب الزهر من أصحابه قطع الدرس وقال: (آمنت به، آمنت به ) وأخذ بلحيته الطاهرة ، فما هذا الذي أُمر الرسول أن يؤمن به على الفور؟ ( أوحى الله إليه أن رجلاً فيمن كان قبلنا من الأمم السابقة كان يركب بقرة ) فلاح.. مزارع ركب بقرة ( فقالت له: إنا لم نخلق لهذا ) فالبقرة للسقي والحرث وليست للركوب عليها، فلما كان هذا مما لا يعقل ما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: ( آمنت به ). لأنها رفعت رأسها إليه وقالت: ما لهذا خلقت! البقرة نطقت بلغة الرجل، ورفعت رأسها إلى الخلف وهو عليها وقالت: ما لهذا خلقت! فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( آمنت به، آمنت به )، وكان الشيخان غائبين عن المجلس فقال صلى الله عليه وسلم: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ) ثقة في إيمان الرجلين!ومعنى هذا يا أبناء الإسلام! إذا أمر الله بالإيمان بشيء فسلموا وقولوا: آمنا به، سواء أدركتموه أو لم تدركوه فليس أمامك أيها المسلم إلا أن تقول: آمنت به!
إنعام الله على عباده الطائعين بمعرفته سبحانه بأسمائه وصفاته وجلاله وكماله
ثاني نعمة: معرفة الرحمن، معرفة الله، معرفة الله بأسمائه وصفاته، بجلاله وكماله، بآياته في الكون، بمخلوقاته؛ إذ ما من مخلوق إلا والله خالقه؛ فدل ذلك على واسع علمه وعظيم قدرته! من منكم يقول: أنا عرفت الله؟ من منكم يقول:أنا أنعم الله علي بمعرفته فعرفته؟ نحن نقول: عرفنا ربنا، فما هي البراهين على معرفتنا لله أو عدم ذلك؟ ما الدليل؟ اسمعوا وعوا! معرفة الله في القلب تثمر شيئين متى وجدا كانت المعرفة موجودة، ومتى انتفيا أو انتفى أحدهما فلا معرفة، وهما: حبه تعالى والخوف منه. من لم يخف الله والله ما عرفه! من لم يحب الله عز وجل والله ما عرفه! أنت الآن بفطرتك تحب من تسمع عن شجاعته.. عن كماله.. عن سخائه.. عن علمه.. عن طهره.. عن صفائه.. فتحبه لصفاته وليس شرطاً أن تراه أبداً، فكلنا يحب رسول الله لما له من صفات الجلال والكمال، وكلكم يحب علي بن أبي طالب ؛ لشجاعته.إذاً: من لم يحب الله ولم يخفه ما عرف الله!ومعرفة الله تثمر وتنتج للعارف شيئين ضروريين لحياته حتى يستقيم على منهج الحق وهما: حب الله، والخوف منه، فمن أحب الله عمل كل ما يحب في حدود طاقته، ومن خاف من الله هجر وهرب من كل ما يكره الله.
إنعام الله على عباده الطائعين بتعريفهم محابه ومساخطه سبحانه
النعمة الثالثة: معرفة محابه ومساخطه، معرفة ما يحب الله من الاعتقادات القلبية والأقوال والأعمال الذاتية، ومعرفة عكس ذلك وضده وهو ما يكره تعالى من الاعتقادات والأقوال السيئة والأعمال الفاسدة والصفات الذميمة، فلا بد من معرفة ما يحب الله حتى الكلمة الواحدة: (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، ولا بد من معرفة ما يكره الله حتى الكذبة. هذه هي النعمة الثالثة: معرفة ما يحب الله وما يكره، وإذا قلت لنا: كيف أعرف ذلك؟ يقال لك: اقرع أبواب العلماء واسألهم، اقرع كتابه وادرسه، امشي وراء رسوله وتتبع سيرته تجد ما يحب الله وما يكره، أما أن يوحي إليك وأنت في مزرعتك أو مصنعك فهذا مستحيل، والله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7] ، وهذا أمر، اسألوا! من نسأل يا رب؟ أهل الذكر. ما الذكر هذا؟ إنه القرآن: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1].وإذا لم نجد من نسأل ماذا نصنع؟ يجب أن نرحل ونركب بعيراً أو بهيمة أو طيارة أو باخرة حتى نجد الشخص الذي يعرف ما يحب ربنا وما يكره! قد تقول: يا شيخ هذا متعب، وهذا غير معقول؟ فأقول لك: ارحل من هذه القرية التي لا يوجد فيها من لا يعرف ما يحب الله وما يكره وانتقل، هاجر كما هاجر الأصحاب من مكة إلى المدينة؛ ليتعلموا الكتاب والحكمة! فإذا قلت: لا أستطيع! سأقول لك: كيف تستطيع أن تخترق سبع سموات وتنزل هناك؟ أهذه سهلة؟ مستحيلة هذه، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7]، فكل من لا يعلم يجب عليه أن يسأل حتى يعلم أحب أم كره، وبذلك يفترض أن لا يوجد بين المسلمين جاهل إلا من كان حديث عهد بالإسلام؛ إذ هذا نظام حياتهم، من لا يعلم يسأل حتى يعلم، ولا يشترط أبداً القلم ولا القرطاس، فإذا كنت تريد أن تأكل ولأول مرة فائت إلى عالم وقل له: كيف أتناول الطعام؟ سيقول لك: إذا وضع الطعام بين يديك فقل: (بسم الله)، وتناوله بيدك اليمني، ولا تأكل من حافة القصعة، وكل مما يليك فقط، وإذا أكلت فلا تشبع، بل كل بقدر ما تقيم صلبك وحياتك، ثم إذا ختمت فالعق أصابعك كما كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يلعق إن كان فيها إدام، ثم قل: (الحمد لله)، وبهذا تكون قد تعلمت كيف تأكل، فعلم امرأتك وأولادك ما تعلمته!
إنعام الله على عباده الطائعين بنعمة التوفيق للعمل
أخيراً: النعمة الرابعة: توفيق الله لك يا عالم أن تعمل بما علمت، إذ لو خذلك الله وما وفقك فستصبح كعلماء اليهود المغضوب عليهم!لم غضب الله عليهم؟ لأنهم علموا وأبوا أن يعملوا، آثروا الدنيا وأوساخها بعدما علموا فغضب الله عليهم، قال الله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، صراط المغضوب عليهم من اليهود لا نسلكه ولا نمشي عليه، وكذا صراط الضلال والجهال من النصارى، لا نمشي وراءهم! إذاً: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] أنعم الله عليهم بأربع نعم هي: أولاً: الإيمان؛ لأن هذه النعمة تطلب من الله، فكم وكم ممن طار في السماء وغاص في الماء ما آمن، فهذه نعمة تطلبها من الرحمن.ثانياً: معرفته عز وجل، وهذه تطلبها من الكتاب والسنة، وسؤال أهل العلم.ثالثاً: معرفة ما يحب وما يكره سبحانه، وهذه تطلبها من أهل العلم، وترحل من بلد إلى بلد لتظفر بها. وأما الأخيرة فنعمة التوفيق، فاطرح بين يدي الله وتململ بين يديه وأنت تبكي: رب زدني علماً! رب وفقني لما تحب وترضى! فيوفقك، ومن ثم -إن شاء الله- تجدون أنفسكم قد اخترقتم سبعة آلاف وخمسمائة عام، وما هي إلا لحظات فقط والشيخ على سرير الموت، وموكب من الملائكة -وليس ملكاً واحداً- فيسلم عليه ملك الموت: السلام عليكم، فلو كنت حاضراً لرأيت الابتسامة على وجهه وهو فرح، وتزف إليه البشرى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31]، الله أكبر! لأن هذا الميت آمن واستقام، ما اعوج ولا انحرف ولا زاغ، وواصل مسيرته! وروحه ما هي إلا لحظات وهي تحت العرش! وهنا قد يقول قائل: لحظات وهي تحت العرش يا شيخ؟ فأقول له: نعم، هذا فوق مستوى عقولنا، فقل: آمنت بالله! وقد صار أعظم من هذا، من بيت أم هانئ رضي الله عنها إلى بئر زمزم أجريت عملية جراحية لأول مرة في القلب، وغسل القلب وحشي بالإيمان والحكمة، وأسري به إلى بيت المقدس، ومن بيت المقدس إلى ما وراء دار السلام، وعاد صلى الله عليه وسلم. تقول أم هانئ : ما زال فراشه دافئاً ما برد!!
تفسير قوله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين...)
الآن مع قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، من المزين؟ إنه الله الذي زين لعباده الحسن الجميل، وذلك لحكم عالية. ‏
معنى قوله تعالى: (زين للناس)
ما معنى (زين)؟ هل أنت تحب الطعام وتحب الشراب أم لا؟ بلى، كيف تحب هذا؟ من جعل هذا الحب فيك؟ إنه الله، فهو الذي زين لك هذا! وأنت أيها الفحل تحب امرأتك وتأتيها ولولا التزيين الإلهي والله ما تنظر إلى ذلك المكان ولا ترضاه لنفسك، ولكنها غرائز غرزت وطبائع طبعت لحكم عالية، من أبسطها: لولا أن الله زين لك حب الطعام والشراب ما كنت لتعيش، ولو قلت: أنا لا آكل ولا أشرب -كما يفعل الغافلون في السجون فيضربون عن الطعام حتى الموت- فلا بد أنك ستموت. إذاً: زين الله لك هذا حتى تحيا وتمتد حياتك لتذكره وتشكره.ومن ذلك أيضاً: قضية إتيان الأنثى في تلك الصورة، فهذه والله لولا أن الله زينها ما أقبل عليها آدمي ولا عرفها. لِم زينها الله؟ للتناسل وتواجد بالبشرية لتذكر الله وتشكره، وهذا تدبير الحكيم العليم.إذاً: الله يزين هذه الأمور لعباده لحكم عالية، مع ملاحظة أن الله يزين الحسن، والشيطان يزين القبيح، فكن مع ما يزين الله الحكيم العليم، وإياك أن تكون مع ما يزين الشيطان الرجيم، فالشيطان لا يزين إلا القبيح، والله لا يزين إلا الحسن، وتزيين الله عز وجل لحكمة، وتزيين الشيطان أيضاً لحكمة، فيزين لك الخبائث والمحرمات من أجل أن تهلك معه، والقضية قديمة الجذور والأصل، فالشيطان -عليه لعائن الله- حسد أباكم آدم وتكبر، ومن ثم لما أبلسه الله وأيئسه من الخير وأصبح قانطاً آيساً لا يدخل دار السلام أبداً سأل الله عز وجل أن يطيل عمره إلى نهاية الحياة من أجل أن يزين لبني آدم المنكر والباطل، والشرك والكفر، والفسق والفجور؛ ليهلكوا معه ويصبحوا معه في دار البوار والعذاب والشقاء، كما أخبر الله تعالى عنه في كتابه فقال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، اللهم اجعلنا منهم! وقال: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّ هُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39]، فهيا نشرح الواقع: تزيين الطعام الحلال، والشراب الحلال، والنكاح الحلال حسن أم قبيح؟الجواب: حسن. وتزيين اللواط والزنا، وشرب الخمر والمسكرات حسن أم قبيح ؟الجواب: قبيح. فكل قبيح لا تفهم أن الله شرعه، أو أمر به ورغب فيه، وكل حسن تعرف أن الله أمر به وشرعه، فإبليس يزين القبيح، والرحمن جل جلاله يزين الحسن، ولذلك قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمران:14]، فما قال (زينت) أو (زينا) بل قال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمران:14] من بني آدم!
الشهوات التي زينها الله عز وجل للإنسان
قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمران:14] فماذا زُين لهم؟ الجواب: زين لهم حب الشهوات، والشهوات جمع شهوة، بمعنى المشتهى، فمثلاً: حبة التفاح تنظر إليها فتشتهيها، فتلك هي الشهوة. ‏
الأولى: شهوة النساء
قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14]، من ينكر هذا من البشر؟ روسي؟ ياباني؟ من هذا؟ لا أحد ينكر هذا، فهذه غرائز غرزها الرحمن في بني آدم لحكم عالية، وقد قلت لكم: والله لولا أنه غرز هذه الشهوة ما اندفع الآدمي إليها أو حتى الحيوان وما توالدت البشرية، وما كان لها وجود.قوله: مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14]، النساء: واحده امرأة، وليس له مفرد، والنساء واحدة النساء، امرأة، ولا يخطر ببالك أنه مادام قد زين هذا فلتأته أنت مع من شئت من بنات ونساء المؤمنين بالعهر والزنا والفجور، لا ، بل انزع هذا من ذهنك؛ لأنه سبحانه زينه لحكمة وهي التناسل وكثرة البنين والبنات؛ ليعبد الله عز وجل، وليس لذات الغريزة والشهوة.إذاً: من زين له الشيطان الزنا أو اللواط فهذا التزيين للقبيح الذي هو أشد قبحاً، ودائماً نقول: ما أعرف! ما أقبح! ولا أبشع ولا أرخص ولا أذل ولا أنتن من يأتي الذكر الذكر، وقد بلغنا: أن في أوروبا أندية مخصصة للواط!! وذكر أن أحد أئمة الإسلام الأمويين، وهو عبد الملك بن مروان ناشر الدعوة وحامل رايتها زمناً، وقف على منبر دمشق يخطب الناس فحلف بالله: لولا أن الله تعالى أخبرنا عن قوم لوط ما كان يخطر ببالنا أن الذكر ينزو على الذكر. لا يخطر ببال العربي أن الرجل ينزو على الرجل أبداً.أما اليوم فقد وردني كتاب عند باب المسجد من مؤمن يبكي، يقول: إن أخاً له يأتي أخاً له في بيته، وقد قمنا بتأديبهما وضربنا وعذبنا وما استطاعا أن يتركا! لا حول ولا قوة إلا بالله! من أين تعلموا هذا؟ كيف وصلنا إلى هذا؟ لقد كان العرب حتى البغال لا يدخلونها بلادهم، ولا توجد في هذه الديار بغلة إلا الدلدل التي أهداها مقوقس مصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع مارية القبطية.لِماذا كان العرب لا يدخلون البغال ديارهم؟ لأن البغلة تتولد من إنزاء الحمار على الفرس، يسلطون الحمار على الفرس فتنتج بغلة. هذا العرب لا يعرفونه أبداً، ولا يستسيغون أن حماراً ينزو على فرس، مستحيل.. أبداً.وما عرفت هذه الجريرة وهذه الفاحشة - اللواط- إلا في خلافة عمر ، فقد ضبط الصحابة اثنين من العجم في البحرين ينزو أحدهما على الآخر، فاحتار الصحابة كيف يفعل بهما، فقال علي : نطلقهما من أعلى الجبل إلى الأرض، ونرميهم بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط.آه! هذه الجريرة تمارس في بيوت الإيمان؟! أتدرون من علمهم؟ إنه إبليس، أبو مرة! ما هي الآلات التي تقدم بها إليهم؟الجواب: إنه التلفاز، الفيديو، الصحن الهوائي، الدش، فتعلم الأولاد العهر والفجور مما يشاهدون! آه.. أين الإيمان والمؤمنون، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )؟! وإذا رحلت الملائكة من يحل محلها؟! تحل محلها الشياطين. والشياطين ما مهمتها؟ تزيين القبائح. ائتوني بسياسي يتكلم معي، يقول: هذه رجعية وتخلف،سأقول له: يا هذا! أتحداك أن تعدد لي النتائج المباركة الطيبة التي نمت بيننا عندما أدخلنا هذه الآلات في بيوتنا! هل كثرت الأموال؟ ولا ما استفدنا منها ريالاً واحداً! هل أصبحنا شجعان؟ لا والله فقد عبث بنا أذل الخلق من اليهود! فما الذي تحقق؟ لا شيء.إذاً: أيها العاقل الرشيد، نحن نظام حياتنا لا نقول الكلمة إلا إذا عرفنا أنها تنتج خيراً، ولا نتحرك حركة يميناً ولا شمالاً إلا إذا علمنا إذن الله بها، وأنها تنتج خيراً، فكيف نطرد الملائكة من بيوتنا؟ وكيف هجرنا بيوت الرب وتركناها ثم طردنا الملائكة حتى من بيوتنا؟ هل بعد هذا نستطيع أن نعيش طاهرين؟ كيف نطهر؟ هل ماتت الشياطين أو أعلنوا عن هزيمتهم؟! لا والله، وكنا الأمة تخلت عن دينها!وإن فرضنا أنك سياسي، ولابد وأن تطلع على أحداث العالم ولم تنفعك الصحف فاجعل التلفاز في غرفتك أيها الفحل، واضبط أوقات النشرة أو أوقات العرض وادخل وأغلق الباب عليك في الغرفة، ووالله لو تجعله في المرحاض لكان أفضل! وانظر ذاك واسمع الأخبار وما جرى في الحادثة وأغلقه واخرج.قد يقول قائل: لِم هذا يا شيخ؟ فأقول: لأننا عرفنا أنفسنا، هبطنا وما ارتفعنا، ماذا أفادنا هذا؟ زادنا بلاء ومحنة فقط.
الثانية: حب البنين
قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ [آل عمران:14]، والبنات! أيضاً؟ لا.. لا، البنين فقط، ولو قال: (والأولاد) لدخل في ذلك البنات، فهن مولودات، لكنه قال (والبنين)، وأهل هذه الديار، أهل المروءات قديماً كان إذا بشر أحدهم بأنه ولدت له بنت يظل في كرب ويسود وجهه، ويستحي أن يلتقي مع الناس: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:58-59].عمر رضي الله عنه فعلها قبل أن يسلم! ولدت له بنت في مكة فدفنها حية، حفر لها وأخذت تمسح التراب من لحيته، ودسها، وبكى على هذه في الإسلام! مغفور لك يا ابن الخطاب ، فهذا كان في عهد الجاهلية غير عهد الإيمان والإسلام.إذاً: قال: (والبنين) ليكونوا فيلقاً تمر بهم بين الرجال ليحموك، ليحوطوك بالحماية، ولهذا تحبهم!أما الآن فيحبونهم حب شهوة فقط، لأنهم ما ينفعون، أو من أجل الراتب فقط! من فعل بنا هذا؟ إنه الثالوث الأسود، خصوم لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ المجوس، واليهود، والنصارى، ومددنا أعناقنا وساقونا إلى المهاوي والمهالك وما شعرنا بعد.إذاً: حب البنين لأنهم يجاهدون ويقاتلون وينشرون دعوة الله ويبنون ويصنعون، ويسافرون ويتجرون ويربحون، أما البنات فلو قال تعالى: (حب البنين والبنات) فسيقول أحدهم: لا.. لا، هذا ليس كلام الله، نحن لا نحب البنات، ولكن الله قال: (والبنين).
الثالثة: حب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة
قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ [آل عمران:14] مقنطرة، أي: بعضها فوق بعض، والقنطار: ألف أوقية ومائة، والأوقية معروفة عند الناس، وهم يحبون القناطير- أي: الكثرة- لأنها غريزة مطبوعة في النفس. وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران:14]، وقدم الذهب على الفضة لأنه أرقى.لِم قلوب البشرية متعلقة بالذهب؟ لأن الذهب أجمل من الزبدة، وأحلى من العسل، وأطيب من اللبن! أسألكم بالله! من ربط القلوب الآدمية بهذه الطينة؟ لا إله إلا الله، آمنت بالله! هل جاء زمان أو وقت كره الناس فيه الذهب والفضة؟ لا، ولهل واهم يقول: لعلها أيام الشيوعية، فأقول: لا، فقد ربط الله قلوبهم بهذه لينتظم الكون وتنتظم الحياة إلى نهايتها، آمنت بالله.
الرابعة: حب الخيل المسومة
قال تعالى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آل عمران:14]، وهذه شُغلنا عنها بوجود السيارات، وقد كان للخيل قبا وجود السيارات أهمية كبيرة فالذي لا يملك فرساً لا قيمة له، وقد كانت الأمة تجاهد على أرجلها وعلى خيولها، وفرسانها يركبون الخيول سواء العرب أو العجم، الدنيا كلها، والآن هبطت الخيول لوجود السيارات فقط، ومع هذا ما زالت محترمة، وإذا جاء في يوم من الأيام وانتهت المادة وانقطعت السيارات سنعود إليها من جديد، فهي محفوظة، ولعل أحدكم لو يهدى إليه فرس لفرح به مع أنه ليس في حاجة إليه، ولكنه فرس موسوم جميل، فتبيت ليلتك تحمد الله وتشكره إن كنت مؤمناً.
الخامسة: الأنعام
قال: وَالأَنْعَامِ [آل عمران:14]. ما هي الأنعام؟ في ثلاثة أصناف من الحيوان: الإبل، والبقر، والغنم، والغنم منها الماعز، ومنها الضأن، مزينة لأهلها، يحبونها.
السادسة: الحرث
وجاء الختم الإلهي، فقال: وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] . (الحرث) يدخل فيه كل المزارع والحقول من إنبات الحبوب إلى نبات الورود والرياحين، ولو تهدى إليك الآن حديقة لطرت بها فرحاً! من غرز هذا فينا؟ إنه الخلاق العليم؛ من أجل أن تنتظم الحياة وتسير إلى نهايتها.
معنى قوله تعالى: (ذلك متاع الحياة الدنيا)
قال: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] أيها المستمعون وأيتها المستمعات! (ذلك) المزين لكم المذكور في الآية من حب النساء والبنين والقناطير من الذهب والفضة والحرث مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14].والمتاع: ما يتمتع به ويزول، لما تسافر تأخذ معك زنبيلاً فيه الخبز والتمر، فتأكله ولا يبقى منه شيء، فتحمل معك ما يكفيك في سفرك. هذا هو المتاع.(الحياة الدنيا) أي: القريبة. فتترك متاعها وترحل، ولنقرأ آية سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]، فهذا المتاع في الحياة الدنيا زينه الله للابتلاء والاختبار والامتحان، وهو زائل ومنتهٍ، (لنبلوهم) من يأخذ بما أحل الله، ويتخلى عما حرم الله، ومن ينغمس فيما حرم الله فتتمزق نفسه وتخبث وتصبح كأرواح الشياطين.
معنى قوله تعالى: (والله عنده حسن المآب)
قال: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، أرأيت هذا الختم الإلهي؟ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] والآخرة عند من؟ عند الله حسن المرجع والمآب.ومعنى هذا: يا عباد الله! يا أولياء الله! خذوا من دنياكم ما حل لكم وطاب، وميلوا إلى التقتير والتقليل؛ لأن آمالكم في السماء وليست في الأرض؛ لأن: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]! إذاً: اذكروا ما عند الله، فإنه يصرفكم عما حرم الله. وَاللَّهُ عِنْدَهُ [آل عمران:14] ماذا؟ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14] أي المرجع في الجنة دار السلام، دار النعيم المقيم.
الحكمة من تزيين هذه الشهوات للإنسان
عرفتم هذا؟ ما هي النتيجة الطيبة؟النتيجة: عرفنا أن هذا المحبوب المزين زينه خالقه للفتنة وللاختبار والامتحان، فلنأخذ منه ما أذن لنا فيه وسمح به لنا، ونتجنب ما نهي عنه وحرم علينا؛ لأننا ممتحنون، فإن نحن كابدنا فقراً.. كابدنا تعباً ومشقة، فلنصبر ولنعلم أن وراء ذلك: النعيم المقيم، الذي لا حد له ولا حصر، وإليكم كلمات الحبيب صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ) هذا الكلام الحكيم من أستاذ الحكمة ومعلمها، ( حفت الجنة بالمكاره ) فإذا أنت لم تغامر وتتقوى وتمزق تلك المخاوف وتقبل على عبادة الله لن تدخل الجنة، فالجنة محفوفة بما تكره النفس! آه.. الصيام! كيف نترك الطعام والشراب؟ كيف نترك كذا، محفوفة بما تكره النفس.. الزنا حرام، ما تزوجنا كيف نصبر ليلاً ونهاراً الأعوام والسنين؟ إذاً: حفت الجنة بالمكاره. تقول: كيف هذا الحج؟ أمشي على رجليّ وأنا في الأندلس؟ كيف أصنع؟ الاعتراف بالحق! لو صفعك مؤمن فقل: سامحتك! تجوع وتعطش ولا تمد يدك إلى مال غيرك لتسرقه! هذه المكاره تحوط بالجنة، فإن أنت اجتزتها وتجاوزتها دخلت دار السلام! ( حفت الجنة بالمكاره ) كحمل راية الجهاد مع إمام المسلمين، لابد للشبان والكهول أن يخرجوا إلا مريض، أو عاجز، وهذا تكرهه النفس! أصحاب الأموال أيها المؤمنون من عنده فضل عن قوته فليضعه غداً في صندوق الجهاد، تجد نفسك مضطر لابد وأن تخرج. قال: ( وحفت النار بالشهوات )، شهوات الربا، الزنا، الغش، اللهو، الباطل، الخداع، عقوق الوالدين، سب المؤمنين وتكفيرهم، كل هذه محاطة بالنار حتى يدخلها، ويقول فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، يقول: ( اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )، هذا كلام أستاذ الحكمة ومعلمها، اسمع ما يقول لنا يا عبد الرحمن!يقول: (اتقوا الدنيا) كيف نتقيها؟ نجعل بيننا وبينها وقاية فلا ننغمس في أوضارها وأوساخها، ولا نتكالب عليها، بل نأخذ منها الزاد فقط للوصول إلى القبر. لم ننغمس في الأموال فنصبح في أسوأ الأحوال؟ أنت موظف، فاكتف بوظيفتك ولا تفتح دكاناً، أنصحك!يا عبد الله ! أنت في خير وعافية فلا تفتح باب شر عليك، وتبدأ تتطلع ماذا فعلنا، وماذا ربحنا! قال: ( اتقوا الدنيا ) أي: انتبهوا! خافوها واحذروها بأن لا تقعوا في أحضانها فتهلككم ( واتقوا النساء ). كيف نتقي النساء يا رسول الله؟ تخاف من فتنتهن، فإذا مرت امرأة كأنها حية أو ثعبان، فأغمض عينيك واهرب ( فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ). بنو إسرائيل.. أبناء الأنبياء قادوا العالم بطهرهم وصفائهم، حتى بدأت فتنتهم بالكعب العالي فهبطوا! الزائرون لا يعرفون الكعب العالي، اذهبوا إلى أسواق المدينة يعلموكم ما هو الكعب العالي، حذاء كعبه رقيق إذا لبسته المرأة تصبح تتمايل، الشيطان يجعلها تتمايل هكذا.. وهذا الكعب العالي من سنة اليهود.وهذه الصديقة رضي الله عنها رأت بعض نساء المؤمنات تخرج وهي متزينة، فقالت: أو تردن أن ينزل القرآن فيكن كما نزل في بني إسرائيل. والشاهد عندنا: أن فتنتهم كانت بالنساء وإلى الآن فتنتنا في النساء. إذاً: علموا بناتكم ست سنين في المدرسة الابتدائية، وإذا تعلمن كيف يعبدن الله ويتقينه، فاحجبوهن في البيت يخدمن أمهاتهن، ويساعدن على تربية الصغار، ويتهيأن للأنوار؛ فيتزوجن وينجبن البنين والبنات. أما أنك تعلمهن للمستقبل، مستقبلك يا ابنتي! وهي تقول: مستقبلي يا بابا! ثم يتقدمون لخطبتها في الثامنة عشر فتقول لهم: لا، مشغولة، وفي الخامسة والعشرين فتقول: لا، حتى تأخذ شهادة الجامعة وتتخرج، وبعد ذلك تبحث عن وظيفة، والشيطان يوسوس لها، ويوجد لها وظيفة وتنتهي حياتها ولا تستفيد منها شيء، فلا وألف لا.إذاً: فتنتنا بدأت وكانت من النساء كفتنة بني إسرائيل، ولو أن النساء طاهرات صالحات ربانيات -والله- لأسعدن الفحول والرجال، لكن ما دمن شهوانيات راغبات في المال والمتعة والتمتع بالحياة فسيعكرن الحياة على أزواجهن.على كل حال: عمر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال: الآن يا رب. أي: ما دمت زينت لنا هذه فمن الآن، فأنزل الله تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15].. وهذا هو درس أو آية غد إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-03-30, 04:49 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (46)
الحلقة (187)
تفسير سورة آل عمران (50)


لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا، وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإسلام ويحملون هم تبليغه، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا، ذكرهم سبحانه وتعالى بخير عظيم وهو أنه جعلهم خير أمة أخرجت للناس، وامتن عليهم بأن وقاهم من كيد أعدائهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا، بل وسلط عليهم المؤمنين وغضب عليهم بما كانوا يفسقون.
تفسير قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة من يوم السبت والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع، وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الموعود، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس في سورة آل عمران عليهم السلام إلى هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران:110-112].معاشر المؤمنين والمؤمنات! يقول تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، هذا خبر من أخبار الله التي لا يتطرق إليها غير الصدق، فيخبر تعالى مبشراً مهنئاً هذه الأمة بأنها خير أمة أخرجها الله للناس، إذ ما وجدت على وجه الأرض أمة سمت ووصلت إلى ما وصلت إليه هذه الأمة الإسلامية في الخير وعلو الدرجات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. كُنْتُمْ [آل عمران:110]، أي: وجدتم، خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، والمخرج لها هو الله عز وجل، و(الناس): لفظ يشمل البشرية كلها، عربها وعجمها، أولها وآخرها على حد سواء.ثم بين وجه الخيرية، وكيف اكتسبناها وظفرنا بها وحصلنا عليها، فقال تعالى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، أي: لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا، وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإسلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا، ذكَرهم بخير عظيم، وبشر وأعلن عن خيريتهم وأفضليتهم فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].وفي هذا إجمال، وقد بينا (المعروف) الذي تأمر به هذه الأمة ألا وهو شرع الله عز وجل، وما عرفه الله من خير، فيدخل فيه الإسلام وكل شرائعه، إذ ما شرع الله لعباده إلا خيراً، و(المنكر) الذي ينهون عنه يشمل الكفر والشرك، وكل ما كره الله وأبغضه وحرمه ونهى عنه، سواء من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات والذوات. وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، ولازم إيمانهم بالله أنهم آمنوا بكل ما أمرهم الله أن يؤمنوا به، كالملائكة والكتب والرسل والبعث والجزاء، وكل غيب من الغيوب التي أخبر الله عنها وأمر بالإيمان بها، فلا تفهمن من قول الله تعالى: وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]: لا تؤمنون بغير الله، بل تؤمنون بالله وبكل ما أمرنا الله أن نؤمن به، سواء كان من عالم الغيب أو الشهادة، فإذا أمر الله بأن نصدق بكذا وجب على المؤمن أن يصدق.وأركان الإيمان الستة قد بينها جبريل عليه السلام، ونحن والحمد الله على علم بها، ومع ذلك إذا صح الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا بأن نصدق بحادثة معينة وجب الإيمان بها، ولا قيمة لعقولنا حتى ترفض أو تقبل، فكيف إذا أخبر الله تعالى؟!
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال: [ لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا، وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإسلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا، ذكرهم بخير عظيم فقال لهم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كنتم خير الناس للناس ) ] وهذا حديث صحيح، فكيف حالنا اليوم؟ هل نحن خير الناس للناس؟ ما قدمنا للناس شيئاً، بل غرقناهم في الباطل والمنكر، هبطنا فائتسوا بنا وسلكوا سبيلنا، فهذا عمر رضي الله عنه عام حجه وهو خليفة للمسلمين رأى في الناس دعة وقعوداً، فقرأ هذه الآية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، ثم قال: من سره وأفرحه وأثلج صدره أن يكون في هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها، أي: من سره أيها المؤمنون! أن يكون في هذه الأمة الممدوحة المعلن عن كمالها فليؤد شرط الله فيها، وشرط الله فيها: الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك لما كنا نجاهد ونغزو ونفتح ونعلن عن كلمة لا إله إلا الله والبشرية تدخل فيها، وتجلى للبشرية صدقنا وعدلنا ورحمتنا وإحساننا وكمالاتنا، انجذبوا إلى الإسلام ودخلوا فيه.لكن لما وقفنا وهبطنا الآن أصبحوا لا يقبلون الإسلام؛ إذ لم يشاهدوا أنواره ولا آثاره بين المسلمين، فهل نبقى هكذا أو نحاول أن نعود إلى ما كنا؟ الواجب أن نحاول، والطريق الذي ما زلنا لا نعدله هو أن نخلص قلوبنا ووجوهنا لله، ونطرح بين يدي الله نبكي في بيوته بنسائنا ورجالنا، ونتلقى الكتاب والحكمة، وما هي والله إلا فترة قصيرة ونحن أولئك الذين أسوة للبشرية في الكمال البشري، ومن غير هذا الطريق فلا عصا تنفع ولا سحر يؤتَّى.قال: [ كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كنتم خير الناس للناس )، ووصفهم بما كانوا به خير أمة فقال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمران:110]، وهو الإسلام وشرائع الهدى التي جاء بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، وهو الكفر والشرك وكبائر الإثم والفواحش، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وبما يتضمنه الإيمان بالله من الإيمان بكل ما أمر تعالى بالإيمان به، من الملائكة والكتب والرسل والبعث الآخر والقدر.ثم دعا تعالى أهل الكتاب إلى الإيمان الصحيح المنجي من عذاب الله فقال عز وجل: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ [آل عمران:110]، بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من الإسلام، لكان خيراً لهم من دعوى الإيمان الكاذبة التي يدعونها ] أي: ولو آمن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لكان خيراً لهم من هذه الدعاوى الفارغة، وأنهم يدعون إلى اليهودية والصليبية، إذ كل ذلك من الدعاوى الباطلة، فهذا الله عز وجل الحكيم العليم يقول لهم: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ [آل عمران:110]، بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به عن الله من هذه الشرائع والعبادات والقوانين، لكان خيراً لهم مما هم عليه من دعوى أنهم يؤمنون، وأنهم موقنون، وهو كله كذب وباطل. قال: [ وأخبر تعالى عنهم بأن منهم المؤمنين الصادقين في إيمانهم ]، أي: من اليهود، وقد دخل من النصارى ملايين والآيات تنزل بالمدينة.قال: [ وذلك كـعبد الله بن سلام وأخيه، وثعلبة بن سعيد وأخيه ]، وهؤلاء من يهود وعلماء المدينة الذين آمنوا [ وأكثرهم الفاسقون الذين لم يعملوا بما جاء في كتابهم من العقائد والشرائع، ومن ذلك أمر الله تعالى بالإيمان بالنبي الأمي، واتباعه على ما يجيء به من الإسلام ] وهذا عندهم في كتابهم، فلمَ لم يؤمنوا به؟ قد عرفوه وأنكروه وجحدوه وتنكروا له، وذلك للحفاظ على اليهودية الملعونة المزعومة، وحتى لا يذوبوا في روح الإسلام. قال: [ ثم أخبر تعالى أن فساق أهل الكتاب لن يضروهم إلا أذى يسيراً، كإسماعهم الباطل، وقولهم الكذب، وأنهم لو قاتلوهم ينهزمون أمامهم، مولينهم ظهورهم، فارين من القتال هاربين، ثم لا ينصرون على المسلمين في أي قتال يقع بين الجانبين ] وهذا ما أخبر به الله تعالى في الآية الثانية إذ قال: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران:111]، أي: مجرد أذىً فقط باللسان، كالمهاترات والكذب، وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ [آل عمران:111]، في يوم ما، يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ [آل عمران:111]، أي: يعطوكم ظهورهم وأدبارهم ولن يقفوا أمامكم، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [آل عمران:111]، وهذه بشرى للمسلمين وقد حصل ذلك، وهو الواقع. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112]، وهذا في اليهود، والضرب كطبع وختم، والذي ضربها عليهم وألصقها بهم هو الله خالقهم، ذلك لأنهم كفروا به وبما بعث به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، بل ولقتلهم الأنبياء والعلماء، ولارتكابهم جرائم لا حد لها، فقد أهانهم الله وأذلهم فضرب عليهم الذلة. أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112]، أي: حيثما وجدوا في العالم، وصدق الله العظيم، إذ حيثما وجد اليهودي في العالم فهو أذل من الذليل إلى أن ارتبطوا بأوروبا وأمريكا كما يأتي في الآية الكريمة، إذ قال تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، فإذا ارتبطوا بالله ودخلوا في دينه، رفع ذلك الذل وأصبح اليهود من أعز الناس وأكرمهم، أو ارتبطوا بمعاهدة مع دولة عظيمة كما ارتبطوا أولاً ببريطانيا التي رفعتهم وسادوا أوروبا، ثم أمريكا، فهم أعزة ونحن الأذلة. إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وهذه الآية مخصصة لعموم آية الأعراف وهي قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ [الأعراف:167]، يا رسول الله، لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167]، فهذه الآية في سورة مكية، وهذه السورة -آل عمران- مدنية.فاسمع إلى قول الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ، أي: أعلن، لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ [الأعراف:167]، أي: اليهود، لَيَبْعَثَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167]، وهذا عام خصص بهذه الآية التي نزلت بعدها من سورة آل عمران، إذ قال تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وذلك حتى لا تفهم أن قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167]، أنهم إذا أسلموا يبقى العذاب عليهم، لا أبداً، بل إذا ارتبطوا بدولة أو معاهدة قوية فإنه يرفع العذاب عنهم، لكن إذا لم هناك إسلام ولا معاهدة فيبقون أذلة، بل أذل من الحيوانات، وقد عرف هذا البشر كلهم، إذ ليس هناك أذل من اليهودي؛ لأنهم أصحاب مكر وخداع وغش وكذب، مع أنهم أقلية لا يساوون أي شعب من الشعوب، لكن فتح الله تعالى لهم الباب إذا أرادوا أن يخلصوا فقال: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]. إذاً: ضرب الله تعالى على اليهود الذلة والمسكنة أينما ثقفوا وفي أي البلاد وجدوا، ولن تفارقهم الذلة والمسكنة في حال من الأحوال إلا في حال دخولهم الإسلام وهو حبل الله، أو معاهدة وارتباط بدولة قوية وذلك حبل الناس، وهذا علمه الله قبل أن يكون، وما كان النصارى يفرحون باليهود، إذ الثابت عنهم تاريخياً أن النصراني المسيحي لا يفتح عينيه في اليهودي، بل ينزه بصره أن ينظر إلى يهودي؛ بحجة أنه قاتل إلهه، فالذي يقتل ربك كيف تنظر إليه؟! لكن تم ما أخبر الله تعالى به واستطاعوا أن يحتالوا على البشرية، فكان أول ضربة ضربوها بأن أوجدوا المذهب البلشفي الشيوعي الأحمر، ووالله لهم صانعوه وناسجوا خيوطه، وهم الذين نشروه في العالم، وبذلك خف الضغط عليهم، واتسعت رقعة الأرض لهم، بل ورفعوا رؤوسهم، والآن ثلاثة أرباع المسيحيين بلاشفة، ومن ثم أصبح اليهودي يتعنتر في ألمانيا التي هي مخ الصليبية، وظهرت البلشفية الشيوعية، وساقت العالم، ووقع الذي وقع، وخف الضغط على اليهود، والآن لما أدت الشيوعية وظيفتها عوضوها بالعلمانية، فقالوا: كل شيء للعلم فقط لا للدين، وهكذا يعبثون بالبشرية، وهذا شأن الأمة إذا مدت أعناقها لعدوها. قال: [ كما أخبر تعالى في الآية (112) أنه تعالى ضرب عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا، وفي أي البلاد وجدوا، لن تفارقهم الذلة والمسكنة ] والمسكنة هي الفقر والحاجة والضعف.قال: [ إلا في حال دخولهم في الإسلام أولاً وهو حبل الله، أو معاهدة وارتباط بدولة قوية وذلك حبل الناس.كما أخبر تعالى عنهم أنهم رجعوا من عنادهم وكفرهم بغضب من الله ] أي: ذاك العناد والكفر الذي عاشوا عليه رجعوا خائبين، رجعوا بغضب من الله [ وما يستتبعه من عذاب في الدنيا بحالة الفاقة والفقر المعبر عنها بالمسكنة، وفي الآخرة بعذاب جهنم، كما ذكر تعالى علة عقوبتهم: وأنها الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير حق، وعصيانهم المستمر، واعتداؤهم الذي لا ينقطع، فقال تعالى: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ] أي: كتبنا عليهم تلك الذلة والمسكنة بسبب عصيانهم أولاً لله ورسله، وثانياً: باعتدائهم بقتلهم الأنبياء والعلماء، وارتكابهم الجرائم التي لا حد لها.يقول تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، أي: نحن إن شاء الله تعالى، فكل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويؤمن بالله وبما جاء عن الله فهو منهم، وكل من تخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتورط في الموبقات والجرائم هبط وانسل منهم؛ لأن التعليل واضح: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:110]، وهم أقلية كما علمتم، وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:110]، أي: المتوغلون في الفسق، والفسق: الخروج عن طاعة الله ورسوله، يقال: فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، وبالتالي كل من خرج عن دين الله فهو فاسق.ثم قال تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران:111]، أي: مجرد كلام يقولونه، أما أن يقاتلوا وينتصروا على المسلمين فلا، وقد وقع ذلك، فهل انتصر اليهود على العرب في حرب فلسطين؟ لو كان العرب هم المسلمون بحق، والفلسطينيون يشهدون بأن اليهودية إلى الآن أذل مخلوق، إذ ما يستطيع اليهودي أن يواجه مسلماً واحداً. وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ [آل عمران:111]، ما قال: وإذا قاتلوكم، وإنما قال: إن يقاتلوكم؛ لأن هذا نادر، أي: أن يقاتل اليهود المسلمين، لكن عندما هبطنا هذه الأيام في فلسطين فقط، فليس من المؤمل فيه أن اليهود يقاتلون المسلمين، قال: وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ [آل عمران:111]، من باب الفرض، فلن يضروكم أبداً، بل يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [آل عمران:111]. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112]، أي: أينما وجدوا، سواء في الجبال أو في السهول أو في أوروبا أو في أي مكان من العالم، اللهم إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وحبل الله هو الإسلام، فإذا اعتصموا بحبل الله، أي: دخلوا في الإسلام إيماناً وإسلاماً وإحساناً أعزوا وكملوا، وما أصبحوا يهوداً ولا أهل ذلة ولا مسكنة، وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وهذه ما ننساها، إذ إنهم استطاعوا أن يسحروا أوروبا وأن يستولوا على أموالها بعد أن مسخوها، ولو بقيت الصليبية النصرانية كما هي ذات آداب وأخلاق وعطف ورحمة، وتبغض اليهود بغضاً لا حد له ولا نظير له، ما كانوا ليستولوا على أموالهم وتجارتهم ومصانعهم، لكن سحروهم أولاً ثم حولوهم إلى بلاشفة حمر، إذ ثلاثة أرباع المسيحيين في أوروبا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، أي: أنهم ملاحدة. وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:112]، أي: عادوا مهزومين أذلاء مغضوباً عليهم من الله، وضربت عليهم المسكنة، أي: الفقر والحاجة. ذلك [آل عمران:112]، أي: حصل هذا، وتم هذا، وفعلنا هذا؛ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112]، فقد قتلوا زكريا، وقتلوا ولده يحيى، وحولوا قتل عيسى، إذ إنهم صلبوا من شبه لهم بعيسى، وكأنهم قتلوا عيسى عليه السلام، وسحروا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، بل وأطعموه السم في خيبر، ومات وأثر السم في لسانه، وكادوا له في بني النضير وأرادوا أن يرموا عليه الصخرة أو الرحى.كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم الواحد، وفي المساء تكون أسواقهم عامرة بالبيع والتجارة والشراء، وكأن الأمر عادي، ومع هذا فباب التوبة مفتوح، فلو يسلم اليهودي يصبح مثلنا أو خيراً منا، إذ العبرة بطهارة النفوس وزكاتها وليس بالأصل، إذ لو نعود إلى الأصل فأصلهم أشرف الأصول، إذ إنهم أبناء الأنبياء، وأحفاد إبراهيم وأولاده. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112]، أي: في الزمان الأول قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا [آل عمران:112]، أي: لما تمردوا على شرائع الله وخرجوا عن طاعته، وتوغلوا في الاعتداء، فذبحوا الأنبياء، وقتلوا العلماء.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: إثبات خيرية أمة الإسلام ]، إذ إن هذه الآيات قد أثبتت -وهي كلام الله- خيرية هذه الأمة، فلن يستطيع على وجه الأرض إنس ولا جن أن ينفي خيرية هذه الأمة وقد أثبتها الله عز وجل، ورسوله يقول: ( كنتم خير الناس للناس )، وما زلنا والله، إذ لو نعود إلى الله تعالى لنفع الله بنا البشرية وأنقذها من الخلود في النار، ومن الهبوط والسقوط والحيوانية التي تعيش عليها، ولكن ذنبهم هو الذي جر لهم هذا، فهم الذين احتالوا على هذه الأمة ومكروا بها وخدعوها وأضاعوها، ففقدوا من يهديهم ومن يصلحهم. قال: [ وفي الحديث النبوي الشريف: ( أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ) ] أنتم، أي: أيها المسلمون، تتمون سبعين أمة، أي: تكملون من الأمم البشرية سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله والله العظيم، ويكفي شهادة الله بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وبالتالي لو أراد أو حاول أحدهم أن يهبط بهذه الأمة، أو ينفي عنها كمالها ما يستطيع، إذ الله يخبر في القرآن الكريم بخيرية هذه الأمة فيقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران:110]، والرسول يقرر في السنة النبوية فيقول: ( أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله ) ، فالحمد لله، وأنبهكم إلى أمر وهو ألا تنظروا إلى خيرية أمتكم، بل ليعمل كل واحد منا على أن يحقق ما به الخير، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويؤمن بالله، ولن يمسح منه هذا اللقب أبداً. [ ثانياً: بيان علة خيرية أمة الإسلام، وهي الإيمان بالله، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ] أي: أن علة خيرية أمة الإسلام: الإيمان بالله وبكل ما أمر الله أن نؤمن به، والجهاد في سبيل الله لنشر راية التوحيد، لكن لما تركنا الجهاد ما أصبحنا خير أمة؛ لأن الجهاد بذل الجهد والطاقة لهداية البشرية، فنصل إلى بلادها وندعوها إلى الإسلام، كرهت أم أبت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مكان من الأرض، فهذه مهمة هذه الأمة لإنقاذ البشرية جمعاء. [ ثالثاً: قال: وعد الله تعالى لأمة الإسلام ما تمسكت به ]، أي: بالإسلام، فما ضيعت وما فرطت في قاعدة من قواعده ولا في ركن من أركانه، [ وعد الله لأمة الإسلام ما تمسكت به ]، وإلى يوم القيامة، [ بالنصر على اليهود في أي قتال يقع بينهم ].ولهذا صحنا وبكينا أربعين سنة وقلنا: لو أن إخواننا الفلسطينيين -والله شاهد- اجتمعوا وبايعوا إماماً منهم، وتجمعوا في طرف من الأرض وأقاموا الصلاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر سبع سنين فقط، وإذا هم أولياء الله تعالى، وقالوا: الله أكبر، والله لهزموا اليهود، بل والله ما إن يتحرك هذا الجيش الرباني حتى يأخذ اليهود في الرحيل، ثم على شرط أيضاً وهو لا أنهم يخرجون اليهود فقط، بل يواصلون المسيرة إلى أقصى الشرق وإلى أقصى الغرب، فما المانع من هذا كله؟ كأن يتجمعون عندنا في طرف المملكة، أو في طرف لبنان، أو في طرف سيناء مصر، فيتربون نساءً ورجالاً وأطفالاً، فيقومون الليل ويصومون النهار، ويصبح الرجل إذا نظر إلى وجه أخيه يرى النور يلوح من وجهه، ثم يعلنونها: الله أكبر، والله ثلاثة أيام واليهود تشتتوا، ثم يلتفتون إلى جيرانهم فيقولون لهم: يا أهل لبنان تدخلون في رحمة الله؟ قالوا: لا إله إلا الله، يا أهل الأردن تدخلون في رحمة الله؟ يا أهل كذا وكذا.ماذا يكلفنا هذا؟ فقط أن نعبد الله بحق، وأن نسلم إسلاماً حقيقاً فقط، أما الآلام والأتعاب فهاهي معنا، سواء مع الغنى أو الفقر، وما زال الباب مفتوح، فوالله لن يخرج اليهود من أرض فلسطين إلا المسلمون بحق، ولهذا ويلكم أن تقاتلوا اليهود فإنهم يهزمونكم، ولا ننسى قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لتقاتلن اليهود )، يا رسول الله! أين اليهود الذين نقاتلهم؟ إنهم حفنة وثلة وطائفة قليلة، والإسلام قد انتشر في الشرق والغرب؟! ( والله لتقاتلن اليهود )، الله أكبر، تعجب الأصحاب كيف نقاتل اليهود وقد أ جلاهم عمر وطردهم ولم يبق يهودياً منهم، وهم أذلة في بلاد الروم وفي غيرها؟ لكن سيكون لهم شأن، وستكون لهم دولة، وستكون لهم قوة، إذاً ولا بد من قتالهم.( ثم لتسلطن عليهم )، وهذه قد استفدنا منها كلمة سياسية رددناها أربعين سنة في هذا المسجد، فقلت: لو أن العرب أسلموا قلوبهم لله تعالى ودخلوا في رحمته، وخلعوا المعاهدة التي تربط اليهود في أوروبا، وشاء الله أن أمريكا التي تنصرهم تعثر على مؤامرة يهودية تسعى بأن تضر أمريكا، فإنهم يذبحونهم ويقتلونهم، ونظير هذا لما أراد ألله أن يذلهم اكتشف هتلر النازي مؤامرة يهودية لضرب ألمانيا، فوالله قتلهم وتتبعهم وأذلهم في العالم بأسره، فقتل منهم ثلاثين ألفاً، وما بقي يهودي في ألمانيا، فلو أن المسلمين أو العرب أسلموا قلوبهم لله تعالى، فأقل شيء أن تكتشف أوروبا أو أمريكا مؤامرة يهودية لضرب العالم وإفساد البشرية، وعند ذلك سيضربونهم أو يسلطوننا عليهم فنقتلهم، وهذا هو نص الحديث: ( ثم لتسلطن عليهم )، فالله هو الفاعل.( ثم لتسلطن عليهم فتقتلوهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه شجر اليهود )، واليهود الآن يحتفون بهذا الشجر وينمونه أكثر من العنب والتفاح! وذلك لأنه ما يخبر عنهم، فإذا جاء المسلم يبحث عن اليهودي فإن هذا الشجر يغطيه ولا يخبر عنه.والشاهد عندنا هل الشجر يكذب؟ هل الحجر يكذب؟ كيف يقول: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، وهو ليس بمسلم؛ لأنه ما أعطى لله لا قلبه ولا وجهه، فأين الإسلام؟!وسيأتي هذا اليوم لا محالة، لكن هل نحن موجودون؟ الله أعلم، لكن ما زلنا نقول: والله لو نعود إلى الله بالطريقة السليمة الربانية، وذلك بأن يعلنون في بلاد العالم الإسلامي: هيا نعد إلى الله عز وجل، فيجتمعون بنسائهم وأطفالهم ورجالهم في بيوت ربهم كل ليلة من المغرب إلى العشاء، فيتعلمون الكتاب والحكمة، ويبكون ويذرفون الدموع أسفاً وحزناً وألماً، وما هي إلا ساعات وإذا بالباطل يزول والخبث ينتهي والشر ينمحي، وأمة الإسلام كلها ربانية، إذا سألت الله شيئاً أعطاها، ولا نحتاج إلى أن نكون جيلاً يطير في السماء ويغوص في الماء، وإنما نسلك هذا الطريق الذي يعتبر من أيسر الطرق وأسهلها، ولكن مضروب على قلوبنا، مسحورون، واليهود هم الذين سحرونا. [ رابعاً: صدق القرآن في إخباره عن اليهود بلزوم الذلة والمسكنة لهم أينما كانوا ] في الشرق أو الغرب، إلا بأحد الحبلين كما ذكر الله تعالى، وقد عرفناهم في شمال أفريقيا، وذلك لما انتصرت ألمانيا أصبح اليهودي أذل من الشاة في الجزائر أو في تونس، فلا يتكلم ولا ينطق، لكن عزوا وانتصروا وارتفعوا عندما حولوا الصليبيين إلى بلاشفة حمر، ولا ننسى هذه الحقيقة. [ خامساً: بيان جرائم اليهود التي كانت سبباً في ذلتهم ومسكنتهم ].فهل أصابهم الله بالذل والمسكنة لعرقهم أو لشيء آخر؟ لا، ولذلك نحن نعرف أن المسلمين أطهر الخلق وأعزهم، لكن لما خبثت نفوسهم ولطخوها بالشرك والمعاصي والجرائم أذلهم الله، فسلط عليهم الكفار فحكموهم وسادوهم.قال: [ وهي الكفر المستمر ] بدون انقطاع [ وقتل الأنبياء بغير حق ] وهل الأنبياء يقتلون بحق؟ قتل إنسان يعتبر فضيعة كبيرة، لكن إذا كان بحق فلا بأس. قال: [ والعصيان ] أي: التمرد على طاعة الله ورسوله [ والاعتداء على حدود الشرع ] وهذه ظاهرة غريبة وهي واضحة. أسألكم بالله! من الذي كون بنوك الربا؟! أجدادنا؟! النصارى؟! والله إنهم اليهود، وذلك حتى نهبط فلا يرفع لنا دعاء، ولا تستجاب لكم كلمة، فهم الذين كونوا هذه البنوك الربوية ونشروها في العالم، بل وإلى الآن يعملون ليل نهار لإفساد البشرية. ستقولون: كيف هذا يا شيخ؟ بينته غير ما مرة فقلت: المفروض فينا نحن المسلمون: أن أهل كل قرية يجمعون ما زاد عن قوتهم وتوفر في صندوق واحد من حديد أو خشب، وينمونه في طرق التنمية كالتجارة أو الزراعة أو الصناعة، وبذلك تجتمع قلوب أهل القرية فيتحابون ويتآلفون؛ لأن مالهم أصبح في يد واحدة، ثم من ذلك الصندوق يسلفون أو يقرضون من أراد أن يستلف، والمؤمن إذا استقرض أو استلف سوف يرد ذلك أو يقدم دمه وقلبه؛ لأنه المؤمن الحق، وهذه الرابطة قضى عليها اليهود بإيجاد البنوك، فلم يبق من يسلف ولا من يقرض ولا من يساعد ولا من يتعاون أبداً، وقد حاول أناس أن يوجدوا شركات مساهمة فما أفلحوا، فهل عرفتم ما فعل اليهود؟ إن هذه ظاهرة واحدة فقط مما ذكرنا، أما العهر والزنا وأندية اللواط -وكل هذا من صنائعهم- فحدث ولا حرج، وكل ذلك من أجل أن يهبطوا بالبشرية ويعلو فوقها، ويوجدوا مملكة بني إسرائيل التي تحكم الشرق والغرب، وليس لأجل الأكل والشرب، وإنما من أجل أن تعود لهم مملكتهم، إذ البشرية كلها عدو لليهود.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابو وليد البحيرى
2019-03-30, 04:57 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (47)
الحلقة (188)
تفسير سورة آل عمران (52)


إن من كفر بالله وجحد حقه لن تغني عنه أمواله وإن كانت مثل حبات الرمال، ولن يغني عنه أولاده وإن استقوى بهم؛ لأن سبب كفره هو حرصه على هذه الأموال والأولاد، ومهما أنفق الكافر من أموال لإطفاء نور الله وللصد عن دينه فسينفقها ثم ستكون عليه حسرة، وحتى لو أنفق ماله في وجوه الخير في الدنيا فلن ينتفع بها لأن الكافر لا ينتفع بالعمل الصالح.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا، فإنك مولانا ولا مولى لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس ونحن في سورة آل عمران إلى هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:116-117].
معنى الكفر في الآية
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه أخبار إلهية، والمخبر بها هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، فالخبر الأول: يقول تعالى مؤكداً هذا الخبر: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:116]، وسواء كانوا من العرب أو العجم، من أهل الكتاب أو من المشركين، من المجوس أو غيرهم، فما معنى: كفروا؟ كفروا بماذا؟ نريد أن نعرف شيئاً عن هذا الكفر؛ لأن الوعيد شديد، والجزاء عظيم، والمفزوع إليه الله أن ينجنا من هذه الفتنة.أولاً: الكفر معناه: الجحود، يقال: كفَر نعمة الله، أي: جحدها، وفلان كفر ما كان بيننا وبينه من الخير والبر والإحسان، أي: جحده، فالكافر جاحد، وهذا الجحود يتناول أولاً -كما هو مذهب البلاشفة الشيوعيين والملاحدة الدهريين-: جحود وجود الخالق عز وجل، وهذا كفر باطل هابط ممزوج مردود، ولا يقول به إلا هؤلاء الذين صنعهم اليهود بأفرادهم، وإلا فالفطرة البشرية تصرخ بوجود خالقها ورازقها ومدبر أمرها، بل مضت قرون على البشرية -آلاف- ما أنكر فيها أحد -عربي أو أعجمي- وجود الله، وما كان إنسان من عهد آدم إلى هذا القرن يوجد من ينكر وجود الله، إذ الفطرة تعد هذا وتقرره، لكن لعبة اليهود التي صنعوها واستطاعوا أن ينجحوا فيها فقد أوجدوا المذهب الشيوعي الدهري البلشفي، فقالوا: لا إله والحياة مادة!وأُطايبكم بتلك اللطيفة: حدثنا أحد إخواننا كان مهاجراً من فرنسا إلى المدينة، يقول: كانت له صديقة فرنسية أيام كان عيشه في فرنسا، هذه الصديقة أُصيبت بالإلحاد؛ لأن المدارس علمانية، ولذلك من أراد أن يدرس الدين فليدرس في المدارس الخاصة، أما مدارس الحكومة فمدارس علمانية، فقد كانوا يعلمونهم الإلحاد، ونظرية داروين انتقلت حتى إلى بلاد العرب ودرسوها في الثانوية والكليات، ولا عجب؛ لأننا تابعون إلا من رحم الله، فهذه الصديقة التي تبلشفت -وهي مسيحية- كلما ذكرها بالخالق، بالرب تعالى تسخر منه، وتقول: أنت متخلف، أنت رجعي، إلى متى وأنت هابط؟ قال محدثنا غفر الله له: وشاء الله أن تتزوج وتحبل، ثم بلغه أنها مريضة في المستشفى، وأن الطلق يهزها لتضع، قال: فدخلت عليها وسمعتها تصرخ: يا رب، يا رب، يا رب، قال: فتعجبت، فأخرجت ألف فرنك أو ألفين وقلت لها: نادي كما كنت تنادي بهذه، لم عجزت الآن؟! وقبل ذلك كان إذا ذكرها بالله تخرج الكيس وتقول: هذا هو الله الذي ينفعنا! لكن لما هزَّها الطلق وشاهدت الموت: الله، الله، يا رباه، يا رباه، قال: فلما أريتها الجنيه وقلت لها: ادع هذا، سخطت علي وغضبت وقالت: اذهب عني.فهذه كانت بلشفية ملحدة، لكن لما دقت ساعة الهلاك وعرفت أيقنت أنه لا ينفع إلا الله، فهي تنادي: يا رباه، يا رباه، وقوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وقوم إبراهيم، أقوام نتلو قصصها في كتاب الله، فما مر بنا أن قوماً أنكروا وجود الله قط، بل وثقوا فيما تسمعون، فلم يوجد من ينكر وجود الله إلا هذه الطائفة التي كونها اليهود المعروفة بالبلاشفة والشيوعيين فقط، والبشر كانوا يؤمنون بالخالق الرازق، ويؤمنون بالتوسل إليه بالآلهة التي صنعوها وزينها لهم الشيطان، لكن لا ينكرون وجود الله، كذلك العرب كانوا في القمة في الشرك والعياذ بالله، وأنتم تسمعون عنهم في التاريخ أنهم كانوا يحلفون بالله ويؤمنون بالله! ومع هذا كما تسمعون في القرآن أنهم كانوا يسخرون من النبي والقرآن، ويكذبون بالبعث والجزاء.والمراد من هذا: أن كلمة: (كفروا) لا تفهم منها أنهم اليهود فقط، أو النصارى أو العرب، بل يجب أن نعرف ما الكفر حتى نتجنبه، حتى نذهب من ساحته ونبعد من رائحته الكريهة.فخلاصة القول: كل من جحد وجود الله، أو جحد أسماء الله، أو جحد صفات الله، أو جحد عبادة الله، أو جحد نبياً من أنبياء الله فضلاً عنهم جميعاً، أو كذب بخبر من أخبار الله، سواء أطاقه عقله واستطاع أن يفهمه أو لم يفهمه، أو كذب رسول الله في حادثة معينة من أمور الشريعة أو الدار الآخرة فهو كافر، والمؤمن هو الذي صدَّق بوجود الله، وبكل ما أخبر الله به، وآمن بكل ما أمر الله أن نؤمن به، ولو أن عبداً آمن بالقرآن الكريم وكذب فقط بآية واحدة وقال: مثل هذه لا أؤمن بها، فهل يبقى مؤمناً؟ والله لا يبقي مؤمناً، وإنما كفر بالله تعالى، كذلك آمن بكل الرسل إلا أنه قال: إن فلاناً -عيسى- لا أصدق أنه رسول الله، فقد كفر وخرج من ملة الإسلام، إذ إن الكفر: التكذيب والجحود والإنكار لله وبكل ما أمر به من الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، والقضاء والقدر، والبعث والجزاء، وأحوال الآخرة وما يقع فيها من شقاء أو سعادة، فذلكم الكافر، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:116] بهذا المعنى.
لطيفة في قوله تعالى: (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً)
يقول تعالى عنهم: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:116].وهنا لطيفة: لمَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:116]؟ لأن كفرهم سببه المال والولد، والحفاظ على أموالهم وأولادهم حملهم على أن يكذبوا رسول الله، والاعتماد عليهما -المال والولد- على أن صاحبهما لا يشقى ولا يكرب ولا يحزن ولا يخسر في الدنيا، هذه النظرية باطلة، وذكر تعالى المال والولد لعلمه بخلقه، وأن الكافرين يعتزون بأموالهم وأولادهم، كالاعتزاز أيضاً بالجيوش، والاعتزاز بالوطن، والاعتزاز بالحيل، وبالتالي كل من كفر لا بد وأن لكفره عاملاً وسبباً من الأسباب، وأكثر ما يحمل على الكفر هو الحفاظ على المال والولد، إذ الاستغناء يجعل هذا الغني لا يبالي بما يُطلب إليه من الدين، أو ما يُدعى إليه من الإيمان والعمل الصالح، وصدق الله إذ قال: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28]، وتأمل واقعنا تجد المؤمنين كغيرهم، إذ إن أكثر الذين يعرضون عن ذكر الله سبب ذلك اعتزازهم واستغناؤهم بأموالهم وأهليهم، فأبطل تعالى هذا بقوله: لَنْ [آل عمران:116] التي تفيد التأبيد، لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:116]، فإذا أراد أن يضربهم في الدنيا بوباء من الأوبئة، بأن يسلط عليهم عدواً من أعدائهم، بأن يسلبهم عقولهم، بأن يفني ما لديهم وما عندهم من الأولاد والمال، فهل هناك من يرد عنهم شيئاً؟! تُغني عنهم أموالهم وأولادهم؟! لا؛ لأن الله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فمن الخير للإنسان أن يفزع إلى الله ويلجأ إليه ويحتمي بحماه، أما أن تغتر نفسه بما لديه من سلطة أو جاه أو مال، ويعرض عن الله معتزاً بما عنده، والله لن يغني عنه من الله شيئاً متى أراده الله؛ لأن كثيراً من كفار العرب -الذين كفروا وحاربوا- كانوا معتزين بأموالهم وأولادهم، فهذا الوليد بن المغيرة كان معتزاً بأولاده وماله، واقرءوا ذلك في سورة المدثر، اليهود كذلك حافظوا على كفرهم وأبوا الإسلام معتزين أيضاً بأموالهم ورجالهم. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10]، متى أراد أن يُنْزِل بهم نقمه، وأن ينزل بهم عذابه.
وصف النار التي أعدها الله للكافرين
ثم جاء الخبر الثاني وهو قوله: وَأُوْلَئِكَ [آل عمران:10] البعداء، المنحطون الهابطون، الذين ما أصبحوا يتسمون بسمات البشر والعقول البشرية، أولئك البعداء أصحاب النار الذين لا يفارقونها ولا تفارقهم، كما هو صاحب اللسان لا يفارقه أبداً، فكذلك النار لا تفارقهم أبداً.فأولاً: ما هي هذه النار؟ لولا أن الله عز وجل أوجد لنا جزءاً منها من سبعين جزءاً، لكان البشر يكذبون بشيء ما عرفوه، فقطع الله عز وجل عليهم الحجة وأرانا النار، وبها نصطلي ونستدفئ ونطبخ، فهي موجودة، فمن ينكر هذه النار؟! جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80]، هذه النار وهذا اللهب وهذه الحرارة أصلها من تلك النار التي هي في عالم أسفل، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن نارنا هذه جزء من سبعين أو ستين جزءاً من نار الدار الآخرة.ثم هذا الكوكب النهاري -كوكب الشمس- بإجماع البشر على أنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، هذا الكوكب كله نار، فمن أوجد نار هذا الكوكب؟ آباؤنا؟! أجدادنا؟! أيضاً هذا الكوكب الناري -كما نقول غير ما مرة- ما دام أنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فقد قال علماء الإسلام قبل أن يعرف هذا علماء الكفر: لو وضعنا البشرية كلها في الشمس فقط ما سدت جزءاً أو زاوية من زواياها! مع أنه كوكب يجري ويسبح بهذه الضخامة والعظمة طول الحياة، فمن أوجده؟ تلقائياً؟! أتوماتيكياً؟! خرافة الهابطين وسفه السافهين، إنه الله خالق كل شيء.فهذه النار وصفها الله تعالى بأوصاف لو يؤمن بها العبد وتُتلى عليه أو يتلوها يخر مغشياً عليه، وحسبنا منها ما بلغنا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم من أن بعض الناس الأشقياء يوضع في تابوت -صندوق- من حديد ويغلق عليه، ويقذف في ذلك العالم فيعيش بلايين السنين، لا يأكل ولا يشرب ولا يسمع ولا يبصر ولا ينطق، ويمزقه الخوف والجوع والعذاب ملايين السنين، فكيف نأكل أو نشرب؟! كيف نضحك؟!وهذه النار قد عُرضت في ذلك المحراب، شاشة بيضاء قبل أن تعرف البشرية عرض دور السينما وشاشات التلفاز، والله لقد عرضت في محراب رسول الله، في جداره الذي يصلي إليه، وقد شاهدها وشاهد النساء فيها، وآلمه لهبها في وجهه حتى رجع القهقرى، حتى أشاح بوجهه، وليس ذلك العرض الهابط الكاذب، وإنما عرض حقيقي.ثم ليلة الإسراء والمعراج عند عودته مر بها وشاهد ما يتم وما يجري فيها، هذا العالم العظيم، هذه النار حروفها قليلة: (ن، ر، ا) لكن ماذا نعرف عنها؟ لو نستعرض آيات القرآن.أما طعامها وشرابها فالحميم والزقوم، والحميم هو: الماء الحار الذي يشوي الوجوه، والله ما يرفع الإناء ليشرب ويدنيه من وجهه من شدة الظمأ والعطش حتى تتهرى بشرته وتنزل، أما الضريع: فهو الشوك، وقد عرفه العرب في صحرائهم، وهو طعام أهل النار، وكذلك الزقوم، وحسب الأشقياء أن يعيشوا في عالم يفقدون آباءهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم، فلا يعرفهم أحد ولا يعرفونه بلايين السنين، فأي نار هذه؟! ماذا نقول؟!ضرس أحدهم كجبل أحد، إذ يخلق الله تعالى لهم أجساماً ما هي كأجسامنا هذه، وإنما يخلقهم خلقاً جديداً، عرض ما بين كتفي الكافر في النار والله كما بين مكة وقُديد، مائة وخمسة وثلاثون كيلو متراً، فإذا كان عرضه هكذا فضرسه والله كجبل أحد، إذ كيف يعيشون ملايين السنين لو لم تكن أجسامهم هكذا؟! كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:56].لطيفة: لما قدَّم أبو جهل -عليه لعائن الله- لأولاده العجوة من المدينة وصِحاف الزبدة قال: تعالوا نتزقَّم، هذا هو الزقوم الذي يهددنا ويخوفنا به محمد، فكلوا العجوة والزبدة، فأنزل الله تعالى فيه قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة، جاء في سورة الدخان قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-48]، وقولوا له: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، ذق هذا العذاب الروحي الذي هو أشد مليون مرة من العذاب البدني، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:49-50] أي: تشكون. وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ [آل عمران:116]أي: أهلها الذين لا يفارقونها، هُمْ [آل عمران:116]أي: لا غيرهم، فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:116] والخلود: البقاء الأبدي، فلا يموتون ولا يحيون، ولا تنتهي النار أبداً، ولم يشأ الله نهايتها وإفناءها والقضاء عليها، إذ خلقها لحكمة فلا تخرج عن حكمته، فهل عرفتم جزاء الكفار؟إذاً: فهيا نحمد الله على أنا مؤمنون: الحمد لله، الحمد لله، بينما أمثالنا بلايين هم كافرون في الشرق والغرب.
تفسير قوله تعالى: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر...)
قال تعالى: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117]. ‏
إنفاق الكافرين الأموال لإطفاء نور الله تعالى
الخبر الثاني: يقول تعالى: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:117]، والآية تعني: جماعات تهدم الإسلام وتحطمه وتنفق على ذلك الأموال، وعلى رأسهم هؤلاء اليهود والصليبيون، فهم ينفقون أموالهم لإحباط دعوة الله وإبطالها، ولحمل البشرية على الكفر وإبعادها عن الإيمان، ولإخراج الناس من نور الإيمان إلى ظلمة الكفر، ولا شك أنهم ينفقون أموالاً طائلة. مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ [آل عمران:117] من أموال في هذه الحياة الدنيا، وليس ينفقونها على أبدانهم فيطعمون ويشربون ويكتسون ويسكنون، وإنما أناس ينفقون الأموال لإطفاء نور الله، وقد نجحوا في ذلك، مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:117]، لهذه الأغراض السيئة.
معنى قوله تعالى: (كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم)
كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران:117] أي: مثل الريح، والريح معروفة وخاصة ريح الشتاء والبلاد الباردة، والصر: صوت بارد شديد، صوت يُسمع منها، وبردها قاتل.هذه الريح أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ [آل عمران:117]، والمراد من الحرث: ما يحرث للأرض من سائر الزروع، كالبر والذرة والشعير وما إلى ذلك، أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ [آل عمران:117] أي: زرع قوم.
معنى قول الله تعالى: (ظلموا أنفسهم)
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117]، ظلموا أنفسهم بماذا؟ كفروا، فسقوا، فجروا، جحدوا، اعتدوا، ظلموا، أفرغوا وصبوا على أنفسهم أطنان الذنوب والآثام. ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117]، وهل يوجد إنسان يظلم نفسه؟ إي نعم، ومسكينة تلك النفس التي بين جنبيه، فبها يسمع ويبصر وينطق ويقوم ويقعد، هذه الروح التي أُودعت في جسمه كأرواح الملائكة طهراً وصفاء، ونوراً وإشراقاً، فيؤاخذ بمجرد أن يصل إلى مستوى التكليف، وتصبح كلمته ينعكس ظلها على روحه وحركته، كلما أذنب ذنباً صب عليها طناً من القاذورات والأوساخ، فهو بذلك قد ظلمها.ثم هل أودعت نفسه في جسمه مظلمة، منتنة، عفنة، خبيثة؟ لا والله، وإنما نفخها الملك المكلف بنفخ الأرواح وهي نور تتلألأ، والذي حوَّلها من نور إلى ظلمة، ومن طهر إلى خبث، ومن خير إلى شر وفساد، يكون قد ظلمها.إذاً: فكل الفجار والفساق والكافرين والمجرمين والمشركين والظالمين ظلموا أنفسهم، وليس من حقهم أن يفعلوا ذلك، ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117] فهل عرفتم بمَ ظلموها؟ أخذوا السياط وضربوها كالبهيمة بين أيديهم؟! لا، وإنما ظلموها بأن صبوا فوقها أطنان الذنوب والآثام، فاسودت وأظلمت وخبثت وتعفنت.فهل يُرى ذلك في خارج الحياة؟ إي نعم، فأصحاب هذه النفوس الخبيثة هم الذين يزنون بنسائنا، هم الذين يحسدوننا على ما آتانا ربنا، هم الذين يتمنون زوال نعمة أنعم الله بها علينا، هم الذين يحتالون علينا ويأخذون أموالنا، أليس هذا مظهراً من مظاهر هبوط النفس واسودادها وخبثها؟ وهل صاحب الروح الطاهرة النقية يفجر؟! والله ما يفجر، وهل صاحب الروح النقية الطاهرة يكذبك؟ والله ما يكذبك، وهل يمد يده إليك ليأخذ مالك أو يخنقك؟ والله ما كان؛ لأن روحه مشرقة طاهرة، إذاً: فمن هو الذي يأتي هذه الجرائم؟ صاحب الروح الخبيثة، إذ إنه كلما ازداد خبثها ازداد شر هذا الخبيث وظلمه وفساده.
معنى قوله تعالى: (فأهلكته)
كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117]، أهلكت ماذا؟ ذاك الزرع الذي كاد أن يصبح سنابل يملأ العين بخضرته وجماله، أصابته تلك الريح فقضت عليه، فكذلك هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم يقضون على مستقبلهم، ويصبح مصيرهم الفناء والخراب والشقاء والدمار، ولما أصابهم بما أصابهم به من الخسران والخراب والدمار والهلاك في الدنيا والآخرة ظلمهم الله؟ والله ما ظلمهم؛ لأن الله حكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه، فلما أصابهم بالدمار والخراب سلط عليهم دولةً اجتاحتهم ودمرتهم، سلط عليهم وباء دمرهم وأفناهم، سلط عليهم فقراً وجوعاً فأهلكهم، وضعَ ذلك الحكيمُ العليم في موضعه؛ لأن الله حكيم عليم، إذا أصابك الله يا عبد الله بمصيبة فاعلم أنه الحكيم العليم، حكمته وعلمه اقتضيا أن يصيبك بهذا المرض أو الألم، فلهذا ما من مصيبة إلا بذنب، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].أنتم الآن هادئون سالمون راضون، فلو الآن يسب بعضكم بعضاً، ويشتم بعضكم بعضاً، ويلْكِمُ بعضكم بعضاً، فإذا بالدماء تسيل، وإذا بالجيش يطوقكم، وإذا بكم تبيتون في السجن، فهل ظلمكم الله أم ظلمتم أنفسكم؟كذلك لو تذهب الآن إلى بيتك وتقول لزوجتك: يا أم إبراهيم هات الشحم واللحم كله، فأكلت حتى امتلأ بطنك، وأصبحت لا تستطيع الحركة، ثم نقلوك إلى المستشفى، فهل ظلمك الله أم ظلمت نفسك؟أيضاً الآن أنا ظالم لنفسي بينكم والله العظيم، فقد شعرت بمغص هناك، ثم خف الآن والحمد لله، وذلك بأني شربت أربعة أكئوس من الشاي الأخضر، مع أن أكلي كأكل الطفل، وغدائي لا يغدي طفلكم، لكن مع فراغ البطن أربعة أكئوس من الشاي أصابني المغص، فهل ظلمني الله؟ لا، وإنما ظلمت نفسي، وقد هممت أن أقول للدكتور: ماذا أعمل لهذا المغص؟ ما هو الدواء؟ لكن الله لطف فسكتُ، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال تعالى: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117].كذلك لما استولى علينا الشرق والغرب وحكمنا، هل ظلمنا الله؟ حاشا لله، وإنما ظلمنا أنفسنا؛ لأننا انقدنا وجرينا وراء الباطل، وجهلنا بربنا وعصيناه، وفسقنا عن أمره وعبدنا سواه، ومزقنا كلمتنا وشتتنا أمتنا وأصبحنا مذاهب وطوائف، فدقت ساعة الانتقام، فأذاق الله أمة الإسلام العذاب، وهذا الذي نصرخ به، وأن الأمة الإسلامية متهيئة وأنها تحت النظارة، ووالله إن لم تتدارك بالأمة بالتوبة الصادقة، فتجتمع على كتاب الله، وتعود إلى منهج رسول الله، لنزل بها بلاء أعظم من بلاء الاستعمار، والغافلون ما يشعرون بهذا. أمة الإسلام أصبحت أمماً تعبد الطين والوطن، وتُعرض عن ذكر الله وكتابه، وتتعلق بالأوهام والضلالات، وتعتز بالباطل، فلا إله إلا الله! إلى أين تريد أن تصل هذه الأمة؟ ولكن أنفسهم ظالمون لها، والله ما ظلمهم أبداً.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات
قال [ شرح الكلمات: كَفَرُوا [آل عمران:116] ]: كذبوا بالله ورسوله وشرعه ودينه. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ [آل عمران:116]: لن تجزي عنهم يوم القيامة أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً، إذ لا مال يومئذ ينفع ولا بنون. مَثَلُ [آل عمران:117] أي: صفة وحال ما ينفقونه لإبطال دعوة الإسلام أو للتصدق به ] وهم كافرون، فهل تنفعهم صدقاتهم من بناء المستشفيات وتوزيع الأدوية مع السعي إلى تكفير الناس؟! كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران:117]، والآن الصليبيون ينفقون أموالاً طائلة، فهل هذه تغني عنهم من الله شيئاً؟ إن مثلها: كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117]، والله لا ينتفعون بحسنة؛ لأنهم كفار، وينفقون ضد الإسلام للتنصير والتكفير.قال الشارح: [ الصر: الريح الباردة الشديدة البرد التي تقتل الزرع وتفسده، الحرث: ما تحرث له الأرض وهو الزرع. ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117]: حيث دنسوها بالشرك والمعاصي فعرضوها للهلاك والخسار ].
معنى الآيات
قال [ معنى الآيات: لما ذكر تعالى حال مؤمني أهل الكتاب وأثنى عليهم بما وهبهم من صفات الكمال، ذكر هنا في هاتين الآيتين ما توعد به أهل الكفر من الكتابين وغيرهم من المشركين على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب؛ ليهتدي من هيأه الله تعالى للهداية، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:116] أي: كذبوا الله ورسوله، فلم يؤمنوا ولم يوحدوا، لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ [آل عمران:116] أي: في الدنيا والآخرة مما أراد الله تعالى بهم شيئاً من الإغناء؛ لأن الله تعالى غالب على أمره، عزيز ذو انتقام، وقوله تعالى: وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:116] فيه بيان حكم الله تعالى فيهم، وهو أن أولئك البعداء في الكفر والضلال المتوغلين في الشر والفساد، هم أصحاب النار الذين يعيشون فيها لا يفارقونها أبداً، ولن تغني عنهم أموالهم التي كانوا يفاخرون بها، ولا أولادهم الذين كانوا يعتزون بهم ويستنصرون، إذ يوم القيامة: لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] سليم من الشك والشرك والكبر والعجب والنفاق.هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية: فقد ضرب تعالى فيها مثلاً لبطلان نفقات الكفار والمشركين، وأعمالهم التي يرون أنها نافعة لهم في الدنيا والآخرة، ضرب لها مثلاً: ريحاً باردة شديدة البرودة أصابت زرع أناس كاد يُحصد -أي: الزرع- وهم به فرحون، وفيه مؤملون، فأفسدته تلك الريح، وقضت عليه نهائياً، فلم ينتفعوا بشيء منه، قال تعالى في هذا المثل: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ [آل عمران:117] أي: أولئك الكفار، فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:117] أي: مما يرونه نافعاً لهم من بعض أنواع البر، كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ [آل عمران:117] أي: تلك الريح الباردة، حَرْثَ قَوْمٍ [آل عمران:117] أي: زرعهم النابت، فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117] أي: أفسدته، فحرموا من حرثهم ما كانوا يؤملون، وَمَا ظَلَمَهُمُ [آل عمران:117] حيث أرسل عليهم الريح فأهلكت زرعهم، إذ لم يفعل الله تعالى هذا بهم إلا لأنهم ظلموا بالكفر والشرك والفساد، فجزاهم الله بالحرمان، وبذلك كانوا هم الظالمين لأنفسهم، قال تعالى: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117] ].
هداية الآيات
قال [ من هداية الآيتين:أولاً: لن يغني عن المرء مال ولا ولد متى ظلم وتعرض لنقمة الله تعالى.ثانياً: أهل الكفر هم أهل النار، وخلودهم فيها محكوم به، مقدر عليهم لا نجاة منه.ثالثاً: بطلان العمل الصالح بالشرك والموت على الكفر ] فقد يعمل العبد عشر سنين أو خمسين سنة وهو صائم قائم، وإذا بكلمة كفر تخرج منه فتمحو ذلك كله، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، أي: أن بطلان العمل الصالح هو بالشرك وبالموت على الكفر، ومن هنا نعلم أن المشرك يصوم ويتصدق، فهذا الكافر عبد الله بن جدعان الذي سألت عنه أم المؤمنين الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: ( ما تقول فيه يا رسول الله؟ قال: هو في النار، قالت: كان يذبح في الحج الواحد ألف بعير، ويكسو ألف حلة )، من يفعل هذا؟! قال: ( هو في النار؛ لأنه مات على الشرك، مات ولم يقل يوماً: رب اغفر لي وارحمني ). [ رابعاً: استحسان ضرب الأمثال في الكلام لتقريب المعاني ]، فالله ضرب المثل من أجل أن يقرب المعنى إلى الناس ولينتفعوا بما يسمعون، وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-03-30, 05:00 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (48)
الحلقة (189)
تفسير سورة آل عمران (53)


حرم الله عز وجل على عباده المؤمنين اتخاذ مستشارين من أهل الكفر، وحرم إطلاعهم على أسرار المسلمين ومواطن ضعفهم وقوتهم، لما في ذلك من الضرر الكبير الذي يلحق بالمسلمين، وذلك لفساد الكافرين تجاه المسلمين، وما يحملونه في قلوبهم من إرادة الشر لهم، والفرح بما يصيبهم من العنت والنصب والبلاء، وإنما يظهرون لأهل الإيمان النصح والمحبة ويبطنون في أنفسهم البغض لهذا الدين وأهله.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فهنيئاً لكم معشر المؤمنين والمؤمنات.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وهانحن مع هذه الآيات المباركات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:118-120].
مناداة الله لعباده بوصف الإيمان
فهيا نتغنى بهذه الآيات، فنكرر تلاوتها، ونتابع معانيها، وما تهدف إليه، وما تدعو إليه، وما تحققه لنا -معشر المؤمنين-إن كنا مؤمنين صادقين. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:118] نادانا ربنا، فلبيك اللهم لبيك، نادانا بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمنين أحياء، والحي يسمع النداء ويجيب، وإن أُمر فعل، وإن نُهي ترك، وإن بُشر استبشر، وإن حُذِّر حَذر، وإن عُلم عَلِم وتعلم، هذا العلم علمناه الله، وأصبحنا أهلاً له، فالحمد لله، وملايين المسلمين لا يخطر ببالهم هذا ولا يعرفونه! فيا معاشر المستمعين! هل أنتم متفاعلون مع هذه الآيات؟مرة أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، ربنا لك الحمد، فقد بينت لنا إن كنا نعقل، أما إن فقدنا عقولنا، وتهنا في متاهات الدنيا، وأصبحنا كالمجانين فما ننتفع بهذه الآيات. هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:119] أي: كالتوراة، أو الإنجيل، أو الزبور، وكل كتب الله، وهم لا يؤمنون بكتابكم. وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا [آل عمران:119] قل: يا رسولنا، قل يا عبد الله المؤمن: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119] فلا يضرنا غيظكم شيئاً، سبحان الله! إنه تعليم مولانا، قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، كيف يضرنا كيدهم ونحن أولياء الله، والله محيط علمه بهم؟! الله أكبر! هل هذا القرآن يجوز قراءته على الموتى؟! آه، يا للعجب! يا معشر العرب! هذا القرآن يُقرأ على الموتى وما أفقنا إلى اليوم! وإن قلت: لا يُقرأ القرآن على الموتى، يعجبون، كيف لا يُقرأ على الموتى؟! آلله أنزله ليقرأ على الموتى؟! إن هذه الآيات الثلاث لا يوجد واحد في الألف من مسئولي العالم الإسلامي قرأها وعرفها، ولا دروا ما هي، لعلي واهم؟ من يرد عليّ؟ وبالتالي كيف يسوسون البشرية؟! كيف يقودون أهل: لا إله إلا الله؟! إنهم لا يلامون؛ لأن آباءهم وأمهاتهم لا يعرفون القرآن إلا ليلة الميت، فيقرءونه على الميت سبع ليال، أو إحدى وأربعين ليلة، وكأن القرآن ما نزل إلا للموتى، فعجب هذا أو لا؟ والآن الحمد لله هذا النداء تضمنته نداءات الرحمن، وأصبح الآن يقرأه المسئولون، فقد وِزِّع كثيرٌ منه، واليوم طلبوا منا القوات المسلحة إذناً بطبع هذا الكتاب وتوزيعه على كل أفراد القوات، فالحمد لله، وهذا نداء منها، إذ إنها تسعون نداء.والمفروض أن كل مؤمن يضع هذا النداءات عند رأسه، وقبل أن ينام يستمع إلى نداء من نداءات ربه، فيقول: الحمد لله، الحمد لله، الله يناديني! أية نعمة أعظم من هذه؟! يناديني سيدي ومولاي ليعلمني وليهذبني وليرفعني، وما نصغي ولا نسمع! وهل كل مؤمن ومؤمنة يسمع هذه النداءات يبقى جاهلاً؟! والله ما يبقى جاهلاً، يبقى ضالاً؟ والله ما بقي ضلاله إلا أن يشاء الله، فهو قد عرف أن الضلال لمن فقد الهداية والنور، أما الذي هدايته تقوده والنور أمامه كيف يضل؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:118]، نادانا الله عز وجل -نحن معاشر المؤمنين والمؤمنات- بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمن حي؛ لأن الإيمان بمثابة الروح، والأجسام لا تحيا إلا بالأرواح، فإذا خرجت الروح مات الجسم، فكذلك الإيمان والله بمثابة الروح، فلما حيينا بفضله ومنته علينا، وأصبحنا أحياء، نادانا ليعلمنا، ليؤدبنا، لينجينا، ليبعدنا عن المساخط والمهالك.
معنى قوله تعالى: (لا تتخذوا بطانة من دونكم)
ثم قال لنا: لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118]، وهنا اللام ناهية، لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118]، ما هي هذه البطانة؟ البطانة من تستبطنهم وتطلعهم على بطائن أمورك وخفاياها، فأيها المسئول! سواء كنت قائداً عسكرياً، أو كنت إماماً للمسلمين، أو كنت صاحب متجر، أو مصنع، فمصنعك لا تريد أن تطلع عليه غير المؤمنين الصالحين، كذلك تجارتك ومورد أموالك، لا تريد أن تطلع عليه إلا الخواص، الذين تطمئن إليهم، أما أن تطلع عليه أعداءك فسوف يحرمونك من ذلك. لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118] من غيركم، أي: من اليهود والنصارى والبلاشفة الشيوعيين والمجوس والمشركين والكافرين، وقوله: مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118] فقط، أخْرِج المؤمنين، فلا استثناء إلا للمؤمنين، ومن عداهم هم دوننا، من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والملاحدة، بل كل الكافرين، فقد نهانا مولانا أن نتخذ بطانة من دوننا من الكافرين، فنستبطنهم ونطلعهم على خفايا أمورنا وأسرارنا الحربية والسلمية؛ ليكملنا ويسعدنا ويعزنا.
معنى قوله تعالى: (لا يألونكم خبالاً)
ثم بين وعلل فقال: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا [آل عمران:118]، والخبْل: الفساد والشر، أي: لا يقصرون في إفساد حياتكم عليكم، وقائل هذا هو الله خالق القلوب، وواهب العقول، والعليم بذات الصدور، فإن قلت: لا، كفرت، كذبت الله، وأعوذ بالله أن تكذب الله، وهل لك قيمة حتى تكذب العليم الخبير؟! فالأعداء لا يقصرون أبداً في إفساد الحياة عليكم، وصدق الله العظيم، إذ إلى الآن لا يريدوا للعالم الإسلامي أو أي بلد إسلامي أن يسمو أو يسعد أو يكمل أبداً؛ لما في نفوسهم من الحقد والغل على الإسلام والمسلمين.
معنى قوله تعالى: (ودوا ما عنتم)
وَدُّوا [آل عمران:118]، أبلغ وأكثر لتأدية المعنى من: (أحبوا)، وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118]، العنت: المشقة الشديدة، مثل: الذي كُسِر وجبر، ثم ازداد كسراً بعد الجبر، فهذا معنى العنت، وهو أشد من المشقة، وما قال: ودوا مشقتكم، وإنما عنتكم؛ ليبقى المسلمون دائماً في بلاء وفقر وجدب وضعف وخلاف وهزيمة وشر وهكذا، فهذا الذي يودونه. وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118]، احذر أن تقول: لا، يوجد يهود ونصارى لا يحبون لنا إلا الخير! والله ما كان، ولن يكون حتى تطهر تلك القلوب، وتحيا تلك النفوس الميتة، وتتصل بالملكوت الأعلى، وتؤمن بلقاء الله وما عند الله، ثم يحبون كل مؤمن ومؤمنة، ولا يودون له الشقاء ولا التعاسة ولا البلاء، أمَا وهم يعرفون أنهم هم أصحاب النار والجحيم الخالدون فيها، والمسلمون أهل السعادة والكمال، فكيف يحبونهم؟!فإن قيل: يا شيخ! أنت تقول هذا الكلام! إن هذا أمر واقع، فما الذي أنزلنا من علياء السماء إلى الأرض؟ القرآن؟! أولياء الله؟! إذاً فمن؟ والجواب: هم، فقد حولوا قلوبنا إلى قلوب شرك وباطل وأوهام، أبعدونا عن نور الله فعشنا في الظلام، افترقنا وتنازعنا وتناحرنا، وأكل بعضنا بعضاً، وضاعت آدابنا وأخلاقنا، وهبطنا حتى ساسونا وسادونا، وهم يديرون دفة حكمنا، فهل هناك من يرد عليّ من أهل العلم والسياسة؟ أهل السياسة والبصيرة يعرفون هذا، أما الجهال فلا تسأل عنهم.
معنى قوله تعالى: (قد بدت البغضاء من أفواههم...)
ثم يزيدنا ربنا بياناً فيقول: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [آل عمران:118]، أي: بغضهم الشديد لنا ظهر من ألسنتهم، ومن يجلس إليهم ويستمع منهم والله ما يلبث حتى يسمع كلمات دالة على بغضهم لنا.قوله: وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، أي: ما تخفي صدورهم من بغضنا وحسدنا، وحب سقوطنا وضعفنا وعجزنا ومصيبتنا، أعظم مما قد يظهر على ألسنتهم.
معنى قوله تعالى: (قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون)
وأخيراً: يقول لنا ربنا -سامحنا يا رب-: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ [آل عمران:118]، ماذا نقول؟ ربنا لك الحمد، ولا نقول: جزاك الله خيراً، إذ إنه صاحب الخير، فاللهم لك الحمد على ما علمتنا وبينت لنا، ونحن نأسف أننا ما عرفنا بيانك، ولا أخذنا بآياتك، فارتبكنا وهبطنا وتمزقنا، والمنة لك يا رب العالمين. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، وإذا كنتم لا تعقلون فلن تشاهدوا الطريق أبداً، وإلا فإن الله بين الطريق -سبيل النجاة- على أوضح ما يكون، ولكن أين العقول؟ العقول ذهب بها الهوى والدنيا والشهوات، وغطاها الجهل وظلماته، وارتبك العالم الإسلامي وهو الآن في محنة. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ [آل عمران:118]، فلك الحمد يا ربّ أن بينت لنا، وقلت: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، فالذين لا يعقلون ما ينفعهم البيان أبداً، فالمجنون، والخبل، والبهلول، إذا قلت له: الطريق من هنا، فاسر عن يمينك إلى كذا، ثم يأتيك المحل الفلاني، ثم امش حتى تصل إلى كذا، فإنه لا يفهم؛ لأنه لا يعقل، ما عنده عقل.
تفسير قوله تعالى: (هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم...)
قال تعالى: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]. هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ [آل عمران:119] عجيب هذا الكلام الإلهي! لما جاء بالهاء في (أنتم) ما استعجل فقال: هؤلاء، وإنما (هَا)، أَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119]، إذ عواطف المؤمنين والمسلمين تطغى عليهم، فقد يحب المسلم جاره اليهودي أو النصراني أو المجوسي، وخاصة إذا أحسن إليه وشاهد منه بعض الإحسان، ولا يفكر في قلبه، وما ينطوي عليه صدره من الغل والحسد للإسلام والمسلمين، فمن يرد على الله؟ أعوذ بالله! هَاأَنْتُمْ [آل عمران:119] وخاصة قبل نزول هذه الآيات، قبل نزول هذه التعاليم الإلهية، قال لنا: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119]، صدق الله العظيم، إي والله، لا يحبونكم.ثم قال: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:119]، لفظ: (الكتاب) يا طلبة العلم ما هو بمفرد، وإنما هو اسم جنس بمعنى: الكتب الإلهية، كقولك: الإنسان، هل هو واحد؟ لا، إذ إن كل البشرية إنسان. هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119] والبرهنة: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ [آل عمران:119] الإلهي، كُلِّهِ [آل عمران:119]، فلو كان مفرداً ما يقول: كله، لكن (الكتاب) اسم جنس المراد به الكتب الإلهية، فنحن نؤمن بالتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف موسى، وصحف إبراهيم، وصحف شيث وإدريس وهكذا، كل ما أنزله الله من كتاب نحن نؤمن به، وهم لِمَ لا يؤمنون بكتابكم؟! لِم لا يؤمنون بالقرآن ويدخلونه في صدورهم؟! أو ما هم بمؤمنين كما يزعمون؟ أنزله الله أو لا؟ يقولون: هذا كتابه، لِم لا يؤمنون به؟ لأنهم يحافظون على كيان وجودهم، ومن هنا سوف يبغضونكم ويعادونكم، ولا يرون لكم الخير أبداً، فسبحان الله! كيف يُعلٍّم الله المؤمنين؟ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:119]، وهم لا يؤمنون بكتابكم أبداً، بل ولا بآية منه.ثم قال: وَإِذَا لَقُوكُمْ [آل عمران:119]، هذا أيام ضعفهم ووجودهم في المدينة، قَالُوا آمَنَّا [آل عمران:119]، أي: نحن مؤمنون، وَإِذَا خَلَوْا [آل عمران:119] ببعضهم البعض، وما بقي معهم مؤمن في المجلس، عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ [آل عمران:119]، وهذا من عادة الإنسان وفطرته أنه إذا تألم يعض أصبعه، حتى الأطفال الصغار يفعلون ذلك، فهؤلاء إذا خلوا فيما بينهم، وما بقي مؤمن يسمع أو يرى مجلسهم، عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ [آل عمران:119] من شدة الغيظ، فلا يريدون أن يروا مؤمناً سعيداً أبداً.وعند ذلك قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119]، فخفف عن نفسك يا رسولنا، خفف عن نفسك يا شيخ فلان، قل لهم: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119]، وليس شرطاً أن يسمعوك، فما دمت قد علمت هذا فقل لهم الآن: موتوا بغيظكم، لن ينفعكم الغيظ، بل تحترقون به، وهذا أيام كنا أولياء الله والله معنا، فلم نبال بغيظهم، إذ قال لنا ربنا: قولوا لهم: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119]. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]، كل ما في صدر الإنسان وانطوى عليه واختبأ فيه الله عليم به، ولهذا أخبرنا بغيظهم، وأنهم مصرون عليه، وقلوبهم مملوءة، وصدورهم محشوة به، فإذا قال لك اليهودي: لا، نحن لا نحمل لكم غيظاً ولا بغضاً ولا كرهاً! فقل لهم: أخبرنا العلام للغيوب أنكم تبغضون المسلمين، وهذا إخبار الله عز وجل خالق قلوبكم، وموجد صدوركم.
تفسير قوله تعالى: (إن تمسسكم حسنة تسؤهم...)
قال تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، زاد الله تعالى في البيان للآيات، فقال: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ [آل عمران:120]، لا أن تصيبكم، وإنما مجرد المس، كأن نزل المطر بدياركم، الغزوة الفلانية انتصرتم فيها، الرخاء عمَّ الديار، أدنى حسنة تمسَّكم تسؤهم، فيكربون ويحزنون ويتألمون، وكذلك إذا سمعوا أننا أصبحنا ننتج الطائرات المقاتلة يكربون. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ [آل عمران:120] قلَّت أو كثرت، والله: تَسُؤْهُمْ [آل عمران:120]، أي: تصبهم بالإساءة في نفوسهم، لا يريدون أبداً أن يصيبكم خير؛ لأنهم أعداء. وَإِنْ تُصِبْكُمْ [آل عمران:120] لا أن تمسكم مصيبة، وإنما تصبكم مصيبة، كالجدب العام أو هزيمة في معركة، يَفْرَحُوا بِهَا [آل عمران:120]، فتمتلئ صدورهم بالفرح، ويظهر ذلك على ألسنتهم وعلى وجوههم.وبعد: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، وهذه بشرى الله لعباده المؤمنين، لكن بشرطين عظيمين:أولاً: الصبر في البلاء والشدة، فلا نتزعزع.ثانياً: أن نتقي الله عز وجل فلا نعصه، ولا نخرج عن طاعته.وعند ذلك إن نحن صبرنا واتقينا ربنا، والله ما ضرنا كيدهم ولا مكرهم، بل والله لو تألبوا كلهم، وجاءوا من شرق الدنيا وغربها، ما زلزلوا أقدامنا ولا أصابونا بما يضرنا؛ لأن من بيده الملكوت هو الذي يديره، فيخيبهم في كل حملاتهم وظنونهم، ويرجعون خاسرين من حيث أتوا. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، أي: أذاهم، مكرهم، احتيالهم، خبثهم، ما يضر أبداً، إن أنتم صبرتم واتقيتم، وتقوى الله مستلزمة لطاعته في كل الأمر والنهي، في العقيدة، في القول، في السلوك، في اللباس، في كل حياتنا؛ لأنها أنظمة ربانية، إذا تم تنظيمها وأُديت كذلك، فأهلها لن يخسروا أبداً، ولن يضرهم كيد الكائدين.وكرر ذلك بهذا التعليق فقال: إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، هم يبيتون المكر ويتآمرون ويجتمعون في لندن، ويجتمعون في الهند، وفي كذا وكذا، والله مطلع عليهم، فلا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، إذ إن كل أعمالهم مفضوحة لله مكشوفة بين يديه، فلهذا يا معشر المؤمنين! اصبروا واتقوا، والله لن يضركم كيدهم شيئاً؛ لأن الله سيدنا ومولانا وخالقنا وولينا مطلع على كل تحركاتهم الظاهرة والباطنة. وقد قيل لـعمر -خليفة المسلمين- رضي الله عنه: إن هنا رجلاً نصرانياً من رجالات الحيرة -والحيرة قريبة من العراق- لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم -أي: أنه كاتب ممتاز- أفلا يكتب عنك يا عمر؟ فقال عمر: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين؛ لأنه سيصبح يطلع على كل مهام عمر. والناظر إلى الدول الشيوعية الاشتراكية يوم دخلوا في الاشتراكية، أصبحت بطانتهم كلهم من الروس، خواصهم الذين يسيرون دفة الاشتراكية من الروس، أو من المجر، أو المناطق الروسية من يوغسلافيا. كذلك: جاء أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه وأرضاه وعن الأشعريين كلهم -بحسَّاب نصراني- حسَّاب لا نظير له في الحساب إلى عمر، فانتهره عمر وقال له: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله. فأدب عمر رضي الله عنه أبا موسى رضي الله عنه، مع إتيانه له بحساب لا مثيل له، إذ إنه يستطيع أن يحسب الملايين والبلايين. إذاً: معاشر المسلمين! لا تتخذوا بطانة من غير المؤمنين، فتطلعونهم على أسراركم وخفايا أموركم، وخاصة العسكرية والمالية والتربوية والتوجيهية وغيرها؛ لأنهم يدسون، ما يفرحون بسعادتكم وكمالكم، اللهم اجعل المؤمنين يفيقون.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
والآن مع هداية الآيات لنتتبع ما علِمناه. قال المصنف غفر الله لنا وله: [ من هداية الآيات: أولاً: حرمة -والحرمة: المنع- اتخاذ مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامة، وحرمة إطلاعهم على أسرار الدولة الإسلامية، والأمور التي يخفيها المسلمون على أعدائهم؛ لما في ذلك من الضرر الكبير ] أي: حرمة اتخاذ مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامة، سواء كانوا بيضاً أو سوداً مطلقاً، وحرمة إطلاعهم على أسرار الدولة الإسلامية، وما تخفيه وتستره عن الناس.[ والأمور التي يخفيها المسلمون على أعدائهم؛ لما في ذلك من الضرر الكبير على المسلمين ]، فبلغوا هذا، فهم يضحكون عليكم إلا من شاء الله، ولا تلوموهم؛ لأنهم ما عرفوا، ما جلسوا هذا المجلس ولا عرفوا عن الله، ووالله لـ(95%) من مسئولي العالم الإسلامي ما عرفوا شيئاً، منهم دكاترة، أصحاب شهادات، لكن تخرجوا من المسجد النبوي؟! لا، وإنما تخرجوا على أيدي أعداء الإسلام، فملّئوهم وشحنوهم، ووجهوهم التوجيه الذي لا يرجع إلى الله أبداً، ومن طلب البرهنة أو التدليل على هذه القضية، فإليه الدليل:كيف تُسْتَقل ويوجد لنا نيفاً وأربعين دولة، ولا توجد واحدة منها أمر حاكموها بإقامة الصلاة؟! أنتم لا تفكرون هذا التفكير؛ لأننا هابطين، فأسألكم بالله، ما علة وجودنا سوى الصلاة؟ هل هناك شيء غير هذا؟! لماذا لا يُؤمر بإقامة الصلاة؟! السبب: أنهم ما عرفوا، فأبناؤنا وإخواننا غشيهم الجهل، تعلموا من طريق الكفار فهبطوا بهم وأفسدوا عقولهم، وقالوا لهم: يجب أن ننهض، التمدن، الحرية، الترقي، اتركونا من التخلف، اتركونا من الرجوع إلى الوراء، و.. و..، وقد سمعت بأذني مسئولاً من المسلمين في أوروبا يقول: ما هي إلا أيام فقط ونتحرر، وتخرج المرأة عارية تغني، يعني: كالفرنسيات واليهوديات! قال: [ثانياً: بيان رحمة المؤمنين وفضلهم على الكافرين ]، أما قال: تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119]؟ فقلوبنا رقيقة، إذ لو عندي جار أو أسير كافر أرحمه وأشفق عليه، فهل عرفتم فضل المؤمن على الكافر أو لا؟ كفضل ماذا؟ كفضل الآدمي على الخنزير! كفضل الآدمي على الكلب والقرد! فإن قيل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟! والجواب: قد قرر هذا القرآن فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة :6]، فما البرية يا عرب؟ الخليقة، وهل شر الخليقة القردة والخنازير والحيات؟ لا، فلا حيات ولا ثعابين ولا غيرها، وإنما الكفار من أهل الشرك والنفاق، والدليل: أولاً: أن هذا خالقهم أصدر الحكم عليهم.ثانياً: هل الأفعى أو الحنش أو الأرقط أو الخنزير أو الكلب كفر ربه؟! جحد مولاه؟! حارب أولياءه؟! غش عباده؟! الجواب: لا، وهذا الكافر كفر بربه وجحده، وصنع آلهة باطلة وتركه، وخرج عن عبادته وطاعته! فأيهم أشر إذاً؟! وهل عرف الناس هذا؟ ما عرفوه؛ لأن سورة البينة لا تُقرأ على الموتى، وإنما التي تُقرأ على الموتى يس والملك! ثم قال تعالى بعدها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7] أي: الخليقة، من بَرَأ النسمة يبرأ إذا خلقها، والبارئ هو الله، قال تعالى: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر:24]، وإنما قرئ (البرية) من باب التخفيف، وهي قراءة حفص، فقلبت الهمزة ياء وأدغمت في الياء، وإلا فهي ليست من (برية)، وإنما من (برأ يبرأ بريئة)، بمعنى: مبروءة، على وزن فعيلة بمعنى مفعولة، خليقة بمعنى: مخلوقة.إذاً: شر البريئة هم الكفار والمشركون، ومن قال: كيف تقول هذا ياشيخ؟ فنقول: سائر الحيوانات على اختلافها ما عصت ربها، ولا خرجت عن طاعته، بل ما فطرها عليه وهداها إليه تفعله بانتظام، والإنسان يسب ربه ويكفر به، ويحارب أولياءه، وينتقم من أوليائه، ويفعل ويفعل، وكل هذا ضد الله، فهل هذا أصبح فيه خير؟ هذا كله شر، فهو شر الخليقة. قال: ثالثاً: [ بيان نفسيات الكافرين، وما يحملونه من إرادة الشر والفساد للمسلمين ]، كيف عرفنا هذا؟ هل درسناه في كلية من الكليات؟ في علم النفس؟ لا، وإنما عرفنا ذلك من قول الله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]. قال: رابعاً: [ الوقاية -الكافية- من كيد الكافرين -مطلق كافر- ومكرهم ]، والوقاية: الحبر، وهو شيء يقيني من البرد كالثوب، ومن الشمس كالمظلة، ثم هذه الوقاية أين توجد؟ أين تكمن؟ قال: [ تكمن في الصبر والتجلد، وعدم إظهار الخوف للكافرين، ثم تقوى الله تعالى بإقامة دينه، ولزوم شرعه، والتوكل عليه، والأخذ بسننه في القوة والنصر ]، وسيأتينا لاحقاً -إن شاء الله- معرفة سبب انهزام المؤمنين في أحد، وذلك بعدم الأخذ بسنة النصر، فقد تفرقوا وآثروا الدنيا على الآخرة، فلا إله إلا الله! إن هذا القرآن عجيب.فهيا نسمع للآيات مرة أخيرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:118-119]، وهم لا يؤمنون بكتابكم، وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ [آل عمران:119]، ماذا تقولون لهم؟ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:119-120].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابو وليد البحيرى
2019-03-30, 05:04 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (49)
الحلقة (190)
تفسير سورة آل عمران (54)


بين الله لعباده المؤمنين أن الصبر والتقوى هما عدة الجهاد في الحياة، وأن الله عز وجل بولايته لعباده المؤمنين يقيهم مصارع السوء، ويجنبهم موارد التهلكة، ويهيئهم لطريق السلامة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم مثالاً للفئة المؤمنة التي أوشكت على الهلكة، وباتت قاب قوسين أو أدنى من الفشل، إلا أن عناية الله تدركها، ورحمة الله عز وجل تحوطها، فيعود فشلها عزاً وهزيمتها نصراً، كما حدث في غزوة بدر لبني الحارث وبني سلمة.
تفسير قوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك تبوِّئ المؤمنين مقاعد للقتال...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وهذه الآيات الثلاث التي انتهى إليها الدرس، نتلوها ونكرر تلاوتها، والمستمعون والمستمعات يحاولون ما استطاعوا حفظها وفهمها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:121-123]. ‏
سبب نزول قول الله تعالى: (إذ همت طائفة منكم أن تفشلا والله وليهما)
وهنا أذكركم بما قاله جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وأرضاه، إذ إنه قال: فينا نزلت هذه الآية، وهي قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران:122]، وهما بنو سلمة من الخزرج، وبنو الحارثة من الأوس، فقد همتا بالعودة عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المدينة لقتال المشركين بأحد، فرجع عبد الله بن أبي ابن سلول بثلاثمائة من المنافقين وضعفة الإيمان، وبنو سلمة وبنو حارثة همتا بالرجوع، ولكن الله عصمهما، فـجابر يقول: فينا نزلت، ولكنا نحب هاتين الآيتين؛ لأن الله قال: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، شهادة الله لنا بأنه ولينا تعدل الدنيا وما فيها؛ لأن نزول هاتين الآيتين فيه معنى التأديب وعدم اللياقة والرضا، أي: كيف تهم الطائفة بالرجوع وتترك رسول الله في المعركة؟! لكن لما كان فيها: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، قال: إني أحب أنها نزلت فينا.فقوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ [آل عمران:122]، أي: اذكروا، إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران:122]، وتعود إلى المدينة تابعة لـابن أبي، وهذا ذم قاتل، لكن لما قال: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، ما ضرنا هذا ولا آلمنا، بل أفرحنا وأثلج صدورنا، إذ شهد الله لنا بأنه ولينا، أو ما تحبون ولاية الله؟ والله لا خير بدون ولاية الله لنا، إذ من لم يواله الله عاداه، ومن عاداه الله خسر ودمره لله وأهلكه، وولاية الله لا تطلب بالملايين أو بالإبل أو البقر، وإنما تطلب بشيئين اثنين ألا وهما: أولاً: الإيمان الصحيح، وبالتالي فلا تظفرن عبد الله بولاية الله إلا إذا آمنت إيماناً صحيحاً، إذا عرضته على القرآن وافق عليه وصدَّق وأمضى.ثانياً: تقوى الله عز وجل، وهي خوف منه يحملك على فعل ما يأمرك وترك ما ينهاك عنه، ودليل هذا قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يقول: منهم أولياؤك يا ربّ؟ بنو هاشم؟! بنو تميم؟! إذاً فمن هم؟ أجاب تعالى بنفسه فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فكل مؤمن تقي هو ولي لله، ولن يكون المؤمن الفاجر ولياً لله، ولن يكون التقي غير المؤمن ولياً لله، بل لابد من إيمان وتقوى.وسر هذا وفقهه: أن المؤمن التقي تطيب نفسه وتطهر وتزكو وتصفو بواسطة الإيمان الحامل على فعل المأمور وترك المنهي، إذ إن فعل المأمورات تزكي النفس، وترك المنهيات تحافظ على الزكاة والطهر كما هي، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].إذاً: ولاية الله -يا من يطلبها- تتحقق لك بالإيمان الصحيح، وتقوى الله عز وجل التي هي فعل ما أمر بفعله، وترك ما نهى عن فعله، والسر في ذلك: أن الإيمان والعمل الصالح يطهران النفس ويزكيانها، فترك المحرمات والمنهيات يحتفظ بزكاة النفس وطهارتها؛ لأنه إذا كان يزكيها ثم يصب عليه أطنان الأوساخ، فهو كمن يغسلها ثم يفرغ عليها براميل الوسخ، وعند ذلك لا تنتفع، بل لابد من فعل المزكيات وترك المخبِّثات والملوثات.وكل ما في الأمر: أنه إذا زلت القدم، وارتكب عبد الله إثماً، فعلى الفور يغسل وينظف ويطيب ويطهر، أي: يندم ويستغفر ويعمل العمل الصالح.فهل عرفتم معنى قول جابر؟ وهي رواية البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: فينا نزلت هذه الآية: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، قال: نحن الطائفتان بنو الحارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل فينا؛ لقول الله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، اللهم كن ولينا، اللهم حقق لنا ولايتك.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معاشر المستمعين والمستمعات! نقرأ شرح هذه الكلمات لنتأكد من فهم ما فهمنا. ‏
شرح الكلمات
قال [ قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ [آل عمران:121] أي: واذكر -يا رسولنا صلى الله عليه وسلم- إذ غدوت، والغدو: الذهاب أول النهار ]، والرواح: الذهاب آخر النهار، يقال: غدا فلان وراح، إذا مشى في الصباح، وراح -عاد- بعد الظهر، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: [ وقوله تعالى: مِنْ أَهْلِكَ [آل عمران:121]، أهل الرجل: زوجته وأولاده، و(من) هنا لابتداء الغاية، إذ خرج صلى الله عليه وسلم صباح السبت من بيته إلى أحد، حيث نزل المشركون به يوم الأربعاء ] بقيادة أبي سفيان رضي الله عنه، حيث جاءوا للانتقام وضرب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأنهم ذاقوا الهزيمة في بدر، وقد مضت سنة وعزموا على الانتقام، فجاءوا بأحابيشهم ونزلوا بأحد، وأحد جبل طويل فيه أكثر من عشرة كيلو، وقد نزلوا في طرفه في الوادي، وذلك يوم الأربعاء، وقد عرفتم تشاور النبي مع رجاله، هل يخرجون إلى قتالهم أو يتركونهم حتى يدخلوا المدينة ويقاتلونهم دخل المدينة؟ فالنساء والأطفال يرمونهم من السطوح بالحجارة وغيرها، والمؤمنون الرجال يقاتلونهم داخل الأزقة، وهذا كان اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً، واختاره ابن أبي رئيس المنافقين، ولهذا رجع من الطريق برجاله، وقال: عدل الرسول عن رأيي وأخذ برأي الآخرين، فأنا لا أقاتل. قال: [ وقوله تعالى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:121] ]، ما معنى تبوّؤهم؟ يقال: بوأه الدار، أي: أنزله فيها، وبوأه المكان، أي: أنزله فيه.قال: [ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:121] أي: تنزل المجاهدين الأماكن التي رأيتها صالحة للنزول فيها من ساحة المعركة ]، إذ هو الذي صفَّ رجاله، وأمر الرماة أن ينزلوا بجبل الرماة.فال: [ وقوله: إِذْ هَمَّتْ [آل عمران:122]: حدثت نفسها بالرجوع إلى المدينة، وتوجهت إرادتها إلى ذلك ]، يقال: هم بالشيء، أي: عزم عليه، ولكن الله حفظهم وعصمهم؛ لأنهم أولياؤه المؤمنون المتقون، إذ لو عادوا لخسروا كالمنافقين.قال: [ وقوله: طَائِفَتَانِ [آل عمران:122]: هما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار ]، بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، والأنصار هما طائفتا أو قبيلتا الأوس والخزرج.قال: [ وقوله: تَفْشَلا : تضعفا وتعودا إلى ديارهما، تاركَين الرسول ومن معه يخوضون المعركة وحدهم ]. قال: [ وقوله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]: متولي أمرهما وناصرهما، ولذا عصمهما من ترك السير إلى المعركة ].قال: [ وقوله: بِبَدْرٍ [آل عمران:123]، بدر: اسم رجل ]، وعندنا شاب يقال له: أبو بدر، إذ له ولد سمَّاه: بدراً، والبدر معروف، وهو القمر إذا امتلأت جعبته بالأنوار، قال: [ وسمي المكان به لأنه كان له فيه ماء -كان لهذا الرجل بدر ماء في هذا المكان، فسمي المكان به- وهو الآن قرية -أو قُريَّة صغيرة- تبعد عن المدينة النبوية بنحو من مائة وخمسين ميلاً، أي: كيلو متر ]، وأهل البلاد يعرفون ذلك، لكن الذين يقرءون التفسير في الهند أو في أمريكا لابد أن يسألوا: أين توجد مدينة بدر أو قرية بدر؟ قال: [ وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، أي: لقلة عَدَدِكم وعُدَدِكم -وأنتم أذلة في بدر، فقط ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وفرس واحد- وتفوق العدو عليكم ] أي: عدو المشركين، فقد كانوا ألفاً تقريباً.والآن وبعد أن عرفنا المفردات، نسمعكم الآيات مرة أخرى لتتذكروا المفردات: قال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:121]، اذكر أيضاً: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:122-123].
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات: لما حذر الله تعالى المؤمنين من اتخاذ بطانة من أهل الكفر والنفاق ]، نعم حذرنا فقال قبل هذه الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، قال: [ لما حذر الله تعالى المؤمنين ] من أصحاب رسول الله، ومن المؤمنين إلى يوم القيامة؛ لأن ذاك الحكم عام، قال: [ لما حذر الله تعالى المؤمنين -حذرهم من أي شيء؟- من اتخاذ بطانة من أهل الكفر والنفاق ]، ما معنى: بطانة؟ البطانة الذين نستبطنهم ونجعلهم مطلعين على أسرارنا وخفايا أمورنا، قال: [ وأخبرهم أنهم متى صبروا واتقوا لا يضرهم كيد أعدائهم شيئاً ]، وهذا تقدم في الآيات السابقة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:118-119]، وهم لا يؤمنون، وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا [آل عمران:119-120]، ثم قال الله -وهو محل الشاهد- تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، وذلك لما كشف الله النقاب عنهم، وأزاح الستار عن غيظهم ومكرهم وعدائهم -وليس معنى هذا أنه يخوفنا ويهددنا،لا، وإنما يبين لنا- وضع تعالى لنا الطريق فقال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120].فقوله: وَإِنْ تَصْبِرُوا أي: على ما أمركم الله به ونهاكم عنه، وَتَتَّقُوا الخروج عن آدابه، عما شرع من قوانين في الحرب والسلم، لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].قال: [ لما حذر تعالى المؤمنين من اتخاذ البطانة من أهل الكفر والنفاق، وأخبرهم أنهم متى صبروا واتقوا لا يضرهم كيد أعدائهم شيئاً، ذكرهم بموقفين:أحدهما: لم يصبروا فيه ولم يتقوا فأصابتهم الهزيمة، وهو غزوة أحد.والثاني: صبروا فيه واتقوا فانتصروا وهزموا عدوهم، وهو غزوة بدر، فقال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران:121]، أي: اذكر يا رسولنا لهم غدوك صباحاً من بيتك إلى ساحة المعركة بأحد، تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، أي: تنزلهم الأماكن الصالحة للقتال الملائمة لخوض المعركة، وَاللَّهُ سَمِيعٌ لكل الأقوال التي دارت بينكم في شأن الخروج إلى العدو أو عدمه وقتاله داخل المدينة، عَلِيمٌ بنياتكم وأعمالكم، ومن ذلك همُّ بني سلمة وبني حارثة بالرجوع من الطريق لولا أن الله سلَّم، فعصمهما من الرجوع؛ لأنه وليهما، هذا معنى قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122] أي: تجبنا وتحجما عن ملاقاة العدو، وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، فعصمهما من ذنب الرجوع، وترك الرسول صلى الله عليه وسلم يخوض المعركة بدون جناحيها، وهما بنو حارثة وبنو سلمة، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]، فتوكلت الطائفتان على الله، وواصلتا سيرهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلمهما الله من شر ذنب وأقبحه -ألا وهو العودة إلى المدينة وترك الرسول وحده- ولله الحمد ].قال: [ هذا موقف ]، أي: موقف غزوة أحد، قال: [ والمقصود منه: التذكير بعدم الصبر وترك التقوى فيه؛ حيث أصاب المؤمنين فيه شر هزيمة، واستشهد من الأنصار سبعون رجلاً ومن المهاجرين أربعة، وشج رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، واستشهد عمه حمزة رضي الله عنه وأرضاه ]؛ لأنهم ما اتقوا ولا صبروا، فكانت الهزيمة بترك التقوى والصبر.قال: [ والموقف الثاني: هو غزوة بدر؛ حيث صبر فيها المؤمنون، واتقوا أسباب الهزيمة، فنصرهم الله وأنجز لهم ما وعدهم؛ لأنهم صبروا واتقوا، فقتلوا سبعين رجلاً وأسروا سبعين، وغنموا غنائم عظيمة ].إذاً: في أحد ما اتقوا أسباب الهزيمة ولا صبروا عند المواجهة، فكانت الهزيمة المرة، حيث قتل من الأنصار سبعون رجلاً، ومن المهاجرين أربعة رجال، كما استشهد حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، بينما في بدر اتقوا وصبروا، فقتلوا سبعين مشركاً، وأسروا سبعين -ضعف الذين قتلوا- وأما الغنائم فلا تسأل فإنها عظيمة.قال: [ والموقف الثاني: هو غزوة بدر؛ حيث صبر فيها المؤمنون واتقوا أسباب الهزيمة، فنصرهم الله تعالى وأنجز لهم ما وعدهم؛ لأنهم صبروا واتقوا، فقتلوا سبعين رجلاً، وأسروا سبعين، وغنموا غنائم طائلة، قال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، فاتقوا الله بالعمل بطاعته، ومن ذلك: ترك اتخاذ بطانة من أعدائكم لتكونوا بذلك شاكرين نِعَم الله عليكم فيزيدكم، فذكر تعالى في هذا الموقف النصر لأنه خير، فقال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، ولم يقل في الموقف الأول: ولقد هزمكم الله بأحد وأنتم أعزة؛ لأنه تعالى حيي كريم ] الله أكبر! آمنا بالله، لو شاء لقال كما قال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [آل عمران:123]، لقال: ولقد هزمكم الله بأحد! لكن فقط ذكَّرهم بالحادثة، ولم يقل: الهزيمة.قال: [ لأنه تعالى حيي كريم، فاكتفى بتذكيرهم بالغزوة فقط، وهم يذكرون هزيمتهم قطعاً ] أي: لما ذكرهم بغزوة أحد، فإنهم سوف يذكرون الهزيمة ويبكون، ولم يقل: ولقد هزمكم في أحد!قال: [ لأنه تعالى حيي كريم، فاكتفى بتذكيرهم بالغزوة فقط، وهم يذكرون هزيمتهم فيها، ويعلمون أسبابها وهي عدم الطاعة وقلة الصبر ]، أي: قلة الصبر عند المواجهة، وأما عدم الطاعة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من حذقه وبراعته وعلمه وفهمه وولاية الله له، لما نزل أحداً جعل الرجال دون الجبل، وجعل ظهورهم إلى أحد، وصفهم صفوفاً، وجعل الرماة أمام أحد -وكانوا خمسة وثلاثين رامياً- على ذلك الجبل، وأمرهم فقال لهم: ( لا تنزلوا من الجبل وإن رأيتم الطير تتخطفنا )، أي: لا تنزلوا من الجبل، سواء كانت الدائرة لنا أو علينا، انتصرنا أو انكسرنا، وعند ذلك أصبح المشركون بين نارين، بين الرسول وأصحابه وبين الرماة، فانهزم المشركون وفروا في بداية الأمر، حتى فررن نساء قريش، لكن الرماة خالفوا الأمر فنزلوا، وكانت هذه معصية، فلما رأى خالد بن الوليد قائد خيل المشركين أن الجبل خلا احتله، فلما احتله وقع المؤمنون بين فكي المقراض، بين المشركين وبين الرماة، وعند ذلك أُصيبوا بالهزيمة ففرَّوا. والشاهد عندنا -حتى لا ننسى- أن الله عز وجل ما ذكرهم بالهزيمة فقال: واذكروا هزيمتكم في أحد، ولكن ذكر الواقعة فقط، وهم سيذكرون الهزيمة، أما في بدر فقال لهم: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123]، أي: تشكرون الله على نصره إياكم.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: فضيلة الصبر والتقوى، وأنهما عدة الجهاد في الحياة ]، فهيا نكرر هذا ونبلغه المسلمين عرباً وعجماً، وهنا أقول: هل صبر المسلمون على قتال اليهود في فلسطين؟ بمجرد ما يلتقون ينهزمون، أو يصدر أمراً من الأمم المتحدة بوقف القتال يوقفون القتال، وعند ذلك انتصر اليهود على العالم الإسلامي بكامله، من اندونيسيا إلى موريتانيا، إذ فلسطين بلد الإسلام والمسلمين، وليست بلد العرب والمستعربين، فلما لم يصبر المسلمون في قتال اليهود هُزِموا وانكسروا، واحتل اليهود فلسطين وأقاموا دولتهم عالية الراية شامخة اللواء.كما أقول أيضاً: هل اتقى المسلمون الله في القتال؟ هل اختاروا جيوشهم وأعدوا رجالهم وسلَّحوهم وزودوهم؟ والله ما فعلوا ذلك أبداً، أما إخواننا الفلسطينيون فلا ينتصرون ولن ينتصروا؛ لأنه لا إمام لهم يقودهم، لا إمام لهم بايعوه على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يُعبد الله وحده، ولذلك شأنهم شأن المسلمين، هابطين لا يستطيعون أن تجتمع كلمتهم على إمام واحد فيصلون وراءه، ويقيم بينهم حدود الله، ويدربهم ويروضهم العام والعامين، لكن ما استطاعوا ككل العرب والمسلمين.كذلك الذين في مصر، وفي الجزائر، وفي تونس، وفي المغرب، وفي لبنان، وفي العراق، وفي سوريا وغيرها، ينادون بـ: الحاكمية، والجهاد، وإقامة الدولة الإسلامية! هل أقاموا دولة إسلامية في تونس؟ لا، بل اضطهدوا المسلمين هناك، وأذاقوهم سوء العذاب، كذا في سوريا، أين إمامكم؟ من بايعتم؟ هل روَّضكم؟ هل رباكم؟ هل أصبحت كلمتكم واحدة؟ الجواب: لا، وبالتالي مزَّقوا شملهم، وقطعوا ألسنتهم، وفي مصر كل يوم الدمار والخراب والبلاء، آه! إلى متى تبقى هذه الجماعات متطاحنة متناحرة متخاصمة يكفر بعضها بعضاً؟ فهل عرفنا الطريق أو لا؟ عرفنا، لكن إخواننا لا يستطيعون أن يسلكوا هذا الطريق؛ لأنهم ما رُبوا في حجور الصالحين، والطريق الذي يجمع كلمة المسلمين، ويعلي رايتهم، وينصرهم على اليهود والنصارى والبوذيين والمشركين والكافرين أجمعين، هو أن يتوبوا إلى الله عز وجل توبة نصوحة صادقة، وتبتدئ توبتهم وتظهر آثارها في الدنيا وفي العالم بأكمله، عندما يعترف المسلمون بأنهم أخطئوا الطريق وضلوا السبيل، ونهجوا منهجاً ما يرضاه الله، وعند ذلك يعودون إلى الله تعالى، ويطرحون بين يديه، فيبكون الليالي والأيام في بيوت ربهم، النساء وراء الستائر من الكتان، والأبناء والأطفال والأحداث الذين يمرنونهم على اللعب والباطل، يصطفون دون أمهاتهم، وأمامهم رجالهم وآباؤهم، ويجلس لهم العالم الرباني، العالم بكلام الله وكلام رسوله، قال الله وقال رسوله، من المغرب إلى العشاء وهم يتلقون الكتاب والحكمة، ويزكون أنفسهم، ويهذبون أخلاقهم، ويسمون بآدابهم، اليوم بعد اليوم، والعام بعد العام، وفجأة وإذا بأمة الإسلام قد أقبلت على الله، وقبلها الله، وأصبحت لا نفرة ولا خلاف ولا صراع، ولا تحزبات ولا جماعات ولا وطنيات، وإنما أمة الإسلام أمة واحدة.ومن ثم تتجلى آثار الإيمان والتقوى، فلا حسد، ولا بغضاء، ولا عداء، ولا كبر، ولا عجب، ولا شح، ولا بخل، ولا جريمة، ولا تلصص، ولا خيانة، ولا.. ولا..، وكأنهم تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم.ويومها يكونون قد آمنوا واتقوا، حتى أنهم لو قالوا: الله أكبر، لرددها الكون كله، فهل عرفتم الطريق أو لا؟ في أي مدينة، في أي قرية، في أي بلد، إذا اجتمع أهل القرية في مسجد الله، في بيت ربهم بصدق، يتعلمون الكتاب والحكمة، والله لتطهرن تلك القرية، ولتصفون تلك النفوس، وإذا بهم كأنهم في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيظهر الصدق والطهر والوفاء والرحمة والإخوة والإخاء، ولن تبقى مظاهر البخل ولا الفقر ولا الظلم ولا الفجور ولا الكذب ولا.. ولا..، وإنما أصبحوا كأنهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.فهل هناك طريق غير هذا؟ والله لا طريق، إما أن نتوب، ونقبل على الله، ونتعلم الكتاب والحكمة، ونزكي أنفسنا، ونطهر أرواحنا، ونهذب آدابنا وأخلاقنا، فنصبح حقاً أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا طريق غير هذا. قال: [ أولاً: فضيلة الصبر والتقوى ]، أي: الصبر على طاعة الله ورسوله، والتقوى مما يفزعنا أو يزعجنا من سائر الذنوب والمعاصي، ومن الإهمال والترك؛ لما علمنا الله ودعانا إليه.قال: [ ثانياً: استحسان التذكير بالنعم والنقم للعبرة والاتعاظ ]، أي: يستحسن أن يُذكَّر المسلمون بنعم الله عليهم، وأن يُذكَّروا بالنقم الإلهية ليرهبوها ويخافوها؛ لأن الآية ذكَّرت بهزيمة أحد وبنعمة النصر في بدر، فعلمتنا هذا.قال: [ ثالثاً: ولاية الله تعالى للعبد تقيه مصارع السوء، وتجنبه الأخطار ]، وتجلت هذه في طائفة بني حارثة وبني سلمة، إذ إن إيمانهم وتقواهم جنبهم الهزيمة؛ لأن الله وليهم، وإلا كانوا سيقعون في الهاوية ويسقطون، إذاً فولاية الله للعبد تحفظه من مصارع السوء وتجنبه الأخطار.هل عرفتم ذلك معشر السعوديين المؤمنين؟ أقسم بالله، لو أقبلنا على الله بصدق، وتركنا هذا الباطل وهذا الشر، وكادنا اليهود والنصارى والمشركون والعالم بكامله، ما أذلنا الله لهم، ولا أخزانا أبداً في حربٍ معهم.وقد أرانا آية في حرب الخليج، فقد كانت جيوشنا قليلة ودولتنا واسعة، فجاء العدو من الغرب ومن الشرق ومن الجنوب ومن الشمال، وأرادوا أن يضربوا مدة ثلاثة أيام وإذا هم في مكة، فينتهي وجود هذه الدولة وهذا الإسلام، والذي أوقفهم هو الله عز وجل، ولو ما أوقفهم الله قبل أن تصل أمريكا ومصر وغيرهما، لدخلوا البلاد واحتلوها؛ لأنهم رتبوا ترتيباً عجيباً.ثانياً: يحدثكم رجالات الحرب -والله- فيقولون: ما إن يشاهدنا العدو حتى يرتعدون ويهربون، وبالتالي لا يستطعون أن يقفوا أمام الجيش السعودي، وهذا كلام الله وليس كلامي، إذ إن ولاية الله للعبد تقيه مصارع السوء وتجنبه الأخطار، فإذا أردنا أن نحتفظ بهذه البقية الباقية، فعلينا أن نطهر بيوتنا، وأن نزكي نفوسنا، وأن نهذب آدابنا وأخلاقنا، ونقبل على الله، فاذكروا هذا إن كنتم تذكرون.قال: [ رابعاً: تقوى الله تعالى بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه هي الشكر الواجب على العبد ]، الشكر: الذكر والعبادة، وقد خلق الله الكون كله من أجلنا، ونحن خلقنا من أجل أن نذكره ونشكره، ويتم ذكر الله وشكره بتقواه، بفعل أوامره وترك نواهيه، ولهذا قال: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-03-30, 05:07 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (50)
الحلقة (191)
تفسير سورة آل عمران (55)


إن النصر وإن كانت له عوامله من كثرة العدد من المقاتلين، وقوة العدة والعتاد، إلا أنه بيد الله وحده، فقد ينصر الضعيف ويخذل القوي، لذا وجب تحقيق ولاية الله تعالى أولاً قبل إعداد العدة، وتحقيق هذه الولاية يكون بالإيمان والصبر والطاعة التامة لله ولرسوله، ثم التوكل على الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليلة التي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة ) وهي واضحة، فهل هناك ضوضاء ولغط وأصوات؟ السكينة واقعة، ( إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة )، فأين العذاب؟ والله إنها لرحمة، ( وحفتهم الملائكة )، ولو كنا نقوى على رؤيتهم والله لرأيناهم يطوفون بالحلقة، ( وذكرهم الله فيمن عنده )، وهذه التي تعدل الدنيا وما فيها، أي: أن يذكرنا ملك الملوك، رب السموات والأرض في الملكوت الأعلى، فمن نحن وما نحن حتى يذكرنا؟! ولكن منته علينا، وفضله وإحسانه إلينا، رزقنا الإيمان، وهدانا إلى كتابه وتلاوته ودراسته في أعظم بيت من بيوته، فاللهم له الحمد، وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وها نحن مع قول ربنا جل ذكره بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران:124] منزَلين: اسم المفعول، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ [آل عمران:125-127]. ‏
خلاف المفسرين في وقت وسبب نزول هذه الآيات
قول ربنا: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:124]، يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: اذكر يا رسولنا -إذ هو الذي ينزل عليه القرآن ويخاطبه- الوقت الذي تقول للمؤمنين: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران:124]، فهل وقع هذا في أحد أو في بدر؟أهل التفسير منهم من يقول: كان هذا في أحد، لما لم يصبروا ويتقوا حرمهم ذلك، أي: يريدون أن يقولوا: لما كان المؤمنون -أقلية- سبعمائة نفساً والمشركون كذا ألفاً، عند المواجهة طمأنهم الله عز وجل على لسان رسوله، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لم تخافون أو ترتعدون؟ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:124-125]، فلما لم يصبروا ولم يتقوا، ولم يطيعوا أمر رسول الله، ما نزلت الملائكة، وإنما نزلت المصيبة والهزيمة بهم.ولذلك كونها نزلت في بدر أولى؛ لأن المؤمنين كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، والمشركين كانوا ألفاً تقريباً، لكن في بداية المعركة أُعلن أن كرز بن جابر المحاربي قد أمد قريشاً بكذا ألفاً من المقاتلين، وهو في الطريق إليهم، فارتعدت نفوسُ المؤمنين، واحتاجوا إلى من يحملهم على الصبر والثبات، فأنزل الله تعالى على رسوله هذه الجمل، فقال لهم -أي: للمؤمنين- في بدر: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ [آل عمران:124] أيها المؤمنون! أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ [آل عمران:124-125]، أي: كرز بن جابر المحاربي ورجاله، مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ [آل عمران:125]، لكن كرز بن جابر فشل وانهزم قبل مجيئه إلى بدر، فمن ثم لم يمدد الله إلا الألف المقاتل من الملائكة كما جاء في سورة الأنفال؛ إذ قال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، فهذه الألف نزلت على الخيول مسومة، أي: على رؤوسها ريش أو عمائم صفر كما يفعل المقاتلون؛ ليظهروا وليفزعوا عدوهم، فقاتلت الملائكة، وكان جبريل عليه السلام يقودهم على فرس، وتمت هزيمة المشركين في بدر.واسمع السياق: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:124] لما اضطربوا وقالوا: إن كرز بن جابر المحاربي جاء بآلاف المقاتلين إمداداً لقريش، فقال لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ [آل عمران:124]، أي: ربكم بهذا العدد الذي جاء أو يجيء، أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى [آل عمران:124-125] يمدكم، إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا [آل عمران:125]، والفور من فار القدر، يعني: على الفور بدون تراخي، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125] أي: معلِّمين أنفسهم، فلما عاد كرز ورجع بجيشه ولم يسعف قريشاً في جيشها، ما أنزل الله تعالى الثلاثة ولا الخمسة؛ لأنها بشرط: إن يأتوكم من فورهم هذا، فلما لم يأتوا ما أنزل الله الملائكة.ثم قال تعالى لهم: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ [آل عمران:126]، وإلا لو شاء الله لنصركم بكلمة: انتصروا، ولهزم المشركين بكلمة: انهزموا، لكنها سننه في الخلق، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الذي لا يمانع فيما يريد، الغالب الذي لا يقهر بحال من الأحوال، الْحَكِيمِ [آل عمران:126] الذي يضع كل شيء في موضعه، فالنصر من عنده، ويفعل ذلك، لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، أي: يبيدهم ويهلكهم، أَوْ يَكْبِتَهُمْ ، أي: يذلهم ويهينهم ويعودوا خاسئين أذلا، وقد فعل؛ إذ قتل سبعون وأسر سبعون، وأذل الله المشركين أعظم ذل عرفوه، فرجالاتهم وصناديدهم قتلوا وأسروا.مرة أخرى أعيد الآيات فاسمعوا: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:124]، وكلمة: (للمؤمنين) تعرفون مغزاها؟ أي: الصحيحي الإيمان الصادقين في إيمانهم، وهم الثلاثمائة وعلى رأسهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ [آل عمران:124]، وقال لهم هذا -الرسول- لما ارتعدوا وقالوا: كرز بن جابر جاء بجيش عرمرم يؤيد به أبا سفيان، وهو في الطريق إليهم، فلما رأى الرسول هذه الحال في المعسكر قال لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران:124]، أي: ينزلهم الله من الملكوت الأعلى، بَلَى أي: يمددكم، إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ [آل عمران:125]، أما إذا ما صبرتم ولا اتقيتم وهربتم من الآن قبل وصول الإمداد ما يعطيكم شيئاً، إن تصبروا على ملاقاة العدو مواجهته، وتتقوا الله فلا تخرجوا عن نظام الجهاد وما يتطلب من الصبر وعدم الهزيمة. وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125] معلِّمين أنفسهم بعلامات يُعرفون بها، ثم قال لهم لما لم يأت كرز: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، لمَ يفعل هذا؟ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:127]، أو يذلهم ويهينهم ويردهم خائبين، فمن قتل قتل، ومن رجع رجع ذليلاً منهزماً.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
الآن نسمعكم شرح معاني الكلمات أو المفردات كما هي في الكتاب. ‏
شرح الكلمات
قال: [ شرح الكلمات: قوله: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ : الاستفهام إنكاري، أي: ينكر عدم الكفاية -كيف لا يكفي ثلاثة آلاف؟- ومعنى يكفيكم: يسد حاجتكم ] ولا بأس أيضاً أن يكون الاستفهام تقريري؛ لأن (بلى) تدل على هذا، وهو صالح للوجهتين.قال: [قوله: أَنْ يُمِدَّكُمْ أي: بالملائكة عوناً لكم على قتال أعدائكم المتفوقين عليكم بالعدد والعتاد ]، إذ ما مع الرسول إلا فرس واحد.قال: [قوله: الْمَلائِكَةِ: واحدهم ملأك، وهم عباد الله مكرمون مخلوقون من النور، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون ]، وهذا اعتقاد المؤمنين في الملائكة، فهم عباد الله مكرمون، أكرمهم خالقهم، فخلقهم من مادة النور، ولا يعصون الله ما أمرهم، فإذا أمرهم بشيء فعلوا، ولا يعرفون المعصية؛ لأنهم مطبوعون على طاعة الله، فيفعلون ما يؤمرون بفعله.قال: [قوله: بَلَى: حرف إجابة، أي: يكفيكم.مُسَوِّم ينَ: معلمين بعلامات تعرفونهم بها ]، ومعلوم أن الأبطال فيما مضى كانوا يعملون ريشاً على عمائمهم، على رؤوس خيلهم؛ ليظهروا القوة بهذا التسويم والتعليم.قال: [ وقوله: إِلا بُشْرَى لَكُمْ: البشرى: الخبر السار الذي يتهلل له الوجه بالبشر والطلاقة ]، يقال: بشرني فلان بكذا، أي: أخبرني بخبر مفرح وسار فتهلل له وجهي وانطلق، وضده الكآبة والحزن.قال: [ قوله: لِيَقْطَعَ طَرَفاً: الطرف: الطائفة ] من الجيش، قال: [ يريد ليهلك من جيش العدو طائفة ] وقد فعل.قال: [ قوله: أَوْ يَكْبِتَهُمْ: أي: يخزيهم ويذلهم ] يقال:كبته، إذا أذله وأخزاه.قال: [ قوله تعالى: فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ: يرجعوا إلى ديارهم خائبين لم يحرزوا النصر الذي أملوه ] وقد خابوا فعلاً.
معنى الآيات
قال: [ معنى الآيات ] وهي أربع آيات، قال: [ ما زال السياق -أي: سياق الكلام- في تذكير الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما تم لهم من النصر في موقف الصبر والتقوى في بدر ]؛ لأن السياق يحمل المؤمنين على ألا يوالوا الكافرين ولا يودونهم ولا يرهبونهم ولا يخافونهم، إذ إنهم متى صبروا واتقوا فلن يضروهم شيئاً وإلى يوم القيامة.قال: [ فقال: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ عندما بلغهم وهم حول المعركة أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين برجاله يقاتلون معهم، فشق ذلك على أصحابك يا رسولنا، فقلت لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى أي: يكفيكم، إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا أي: من وجههم ووقتهم هذا ]، فلما لم يأتوا ما أنزل الله الملائكة، ما أعطاهم الخمسة ولا الثلاثة؛ إذ قيد هذا بقيد: يأتوكم من فورهم هذا [ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ بعلامات وإشارات خاصة بهم، ولما انهزم كرز قبل تحركه وقعد عن إمداد قريش بالمقاتلين، لم يمد الله تعالى رسوله والمؤمنين بما ذكر من الملائكة، فلم يزدهم على الألف الأولى التي أمدهم بها لما استغاثوه في أول المعركة؛ إذ جاء ذلك في سورة الأنفال في قول الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ] أي: تطلبون الغوث والغياث، ونحن نسمع دائماً العوام يقولون: فلان يستغيث بسيدي فلان، وهذه استغاثة الضلال والهابطين، فيقولون: يا سيدي يا فلان أنا في كذا، جئتك من كذا، أنا في حماك، أغثني، اسأل الله لي، مع أن الاستغاثة لا تكون لغير الله؛ لأنه لا يقدر عليها إلا الله، فالضائع الذي يأتي إلى ضريح، أو إلى قبر، أو إلى شجرة، أو إلى مقام ويصرخ: يا سيدي فلان، أنا في كذا، أنا في حماك! لو وقف ألف سنة والله ما أُغيث، ولا يسمعه من يستغيث به، لا فاطمة ولا رسول الله ولا فلاناً ولا علاناً، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أعلمنا إلا بشيء واحد، وهو أن من سلم عليه في قبره رد الله عليه روحه ليرد السلام عليه، أما أن تقول: يا رسول الله امرأتي مريضة! يا رسول الله ولدي فصلوه من العمل! كل هذا هراء وباطل. وللأسف نجد الضلال والجهال يقفون أمام الأضرحة: أعطني، افعل لي كذا.. وهذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام المحنة في الروضة، والمشركون يناوئونهم، والمنافقون يكيدون لهم، واليهود ينابذونهم العداء، فتململوا وقالوا: هيا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم -الاستغاثة جائزة- أي نقول له: يا رسول الله، خلصنا من هذه الفتنة، فسمعهم صلى الله عليه وسلم وهم يقولون ذلك، فأعلن صوته من وراء الستار فقال: إنه لا يستغاث إلا بالله، إنه لا يستغاث إلا بالله، استغيثوا بربكم، أي: اطلبوا منه تعالى الغوث يغثكم، فهل استغاث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بربهم أم بنبيهم؟ بربهم. إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال:9] أي: خالقكم ورازقكم، وهاديكم إلى هذا النور، ومعطيكم هذا الكمال.قال: [ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فهذه الألف هي التي نزلت فعلاً وقاتلت مع المؤمنين، وشوهد ذلك وعلم به يقيناً، أما الوعد بالإمداد الأخير فلم يتم ] لم؟ قال: [ لأنه كان مشروطاً بإمداد كرز لقريش، فلما لم يمدهم لم يمد الله تعالى المؤمنين، فقال تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ أي: الإمداد المذكور، إلا بشرى للمؤمنؤن تطمئن به قلوبهم، وتسكن له نفوسهم، فيزول القلق والاضطراب الناتج عن الخوف من إمداد كرز المشركين بالمقاتلين، ولذا قال تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ العزيز، أي: الغالب ] الذي لا يمانع في شيء أراده، قال: [ الحكيم: الذي يضع النصر في موضعه، فيعطيه مستحقه من أهل الصبر والتقوى، لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وقد فعل، فأهلك من المشركين سبعين ] صنديداً، قال: [ أو يكبتهم، أي: يخزيهم ويذلهم، إذ أسر منهم سبعون ] منهم: عقبة بن أبي معيط، فقد أُسر هذا الخبيث وقتل في الطريق، وهو الذي جاء بسلا الجزور -مذبوحة عند الصفا- بقيوحها ودمائها فوضعه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد يصلي حول الكعبة، والمشركون والله يضحكون حتى وقعوا على الأرض، وإذا بجويرية كلؤلؤة تمشي، وهي فاطمة بنت خديجة بنت محمد صلى الله عليه وسلم الهاشمية، فأزالت السلا عن أبيها ونظرت إلى المشركين فسبتهم ولعنتهم، إذ إنهم لا خير فيهم ولا مروءة، أيرضون هذا بنبيهم صلى الله عليه وسلم؟! فما استطاعوا أن يتكلموا بكلمة واحدة؛ لأنها طفلة صغيرة، فهبطوا وخابوا وخسروا.قال: [ وقد فعل -جل جلاله وعظم سلطانه- فأهلك من المشركين سبعين، أو يكبتهم، أي: يخزيهم ويذلهم؛ إذ أُسر منهم سبعون، وانقلبوا خائبين لم يحققوا النصر الذي أرادوه ].وإليكم الآيات مرة أخرى، فاسمع يا عبد الله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: في بدر، والذي يخاطبهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إنه يقول لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:124-125]، فلم يمددهم ربهم بِخمسة آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَة؛ لأنه ما تحقق الشرط، وهو أن يأتوكم من فورهم هذا، أي: ما جاء كرز ولا رجاله، إذاً فلا داعي إلى إنزال الملائكة، أما الألف الأولى التي سألوا الله وأعطاهم فهي موجودة معهم يقودها جبريل عليه السلام. بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا ، ليس معناها: أنه قد يمدنا بخمسة آلاف، وبالتالي فلنفرح ولنستبشر، بل لا بد من الصبر على طاعة الله ورسوله، والتقوى الملازمة لذلك، إذ لو ما صبروا واتقوا وجاء كرز برجاله والله ينهزمون؛ لأنه لا يمدهم الله إلا بهذا الشرط: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:125-126]، العزيز يقدر على النصر، وهو الغالب الذي لا يغلب، الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه. لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ [آل عمران:127] أي: ذليلين خاسرين.
هداية الآيات
بعد معرفة معنى الآيات، هيا نستنبط ونستخرج منها درراً نتزين ونتحلى بها، نستخرج منها مبادئ سياسية وعسكرية؛ لأننا عرضة للحرب من الإنس والجن، فنحن في حاجة إلى الهداية الإلهية، فلا توجد آية خالية من الهداية، إذ ما أنزلها الحكيم إلا لحكمة.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ من هداية الآيات:أولاً: بيان سبب هزيمة المسلمين في أحد، وهو عدم صبرهم، وإخلالهم بمبدأ التقوى، إذ عصى الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا من الجبل يجرون وراء الغنيمة، هذا على تفسير أن الوعد بالثلاثة آلاف وبالخمسة كان بأحد -كما قدمت لكم- وكان الوعد مشروطاً بالصبر والتقوى، فلما لم يصبروا ولم يتقوا لم يمدهم بالملائكة الذين ذكر لهم ]، واذكروا كلمة علي بن أبي طالب : القرآن حمال الوجوه، فالآية في أحد وفي بدر، أي: أنها نزلت في أحد ثم نزلت في بدر تذكرهم بها، وذلك لما خافوا من كرز ورجاله، فالقرآن حمال الوجوه؛ لأنه موجز مختصر، إذ لو كان القرآن كالتفسير لم يحفظه أحد ولم يحمله أحد.مرة أخرى: قال: [ بيان سبب هزيمة المسلمين في أحد ]، ما سبب هزيمتهم؟ [ وهو عدم صبرهم، وإخلالهم بمبدأ التقوى، إذ عصى الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ]، وكانوا خمسين رامياً [ ونزلوا من الجبل ] لما شاهدوا المشركين هاربين تاركين أموالهم وغنائمهم، فقالوا: نحن أيضاً ندخل مع إخواننا ونحصل على الغنائم، ونسوا قول الرسول: ( لا تبرحوا مكانكم هذا، لنا أو علينا )، ولولا أنه أدبهم وهزمهم لكانوا في أية معركة -وأمامهم معارك إلى يوم القيامة- يقولون: ما دام الله قد أمرنا فانفعل كذا.يذكر الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار -وهو يفسر هذه الآيات- أنه رأى في المنام أن النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته وهو راجع من أحد، والمسلمون وراءه في كرب وهم وحزن، والرسول يقول: لو خيرني ربي بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة؛ لأنهم لو انتصروا مع عصيانهم للرسول وخروجهم عن الطاعة والآداب لاتخذوا هذا سلماً، وفي كل معركة لا يبالون إذا عصوا القيادة وخرجوا عن طاعتها. قال: [ ثانياً: النصر وإن كانت له عوامله ]، ومن هذه العوامل: [ من كثرة العدد وقوة العدة، فإنه بيد الله تعالى ]، إذ إن الله تعالى قال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]. قال: [ فقد ينصر الضعيف ويخذل القوي ] كما فعل في بدر، فقد نصر الضعفاء وخذل الأقوياء.قال: [ فلذا وجب ]، ماذا وجب علينا؟ [ تحقيق ولاية الله تعالى أولاً ] قبل أن نقاتل اليهود أو البريطانيين أو الروس، قبل أن نقاتلهم يجب أن نحقق ولاية الله أولاً، فهل نحن أولياء أو لا؟ إن وجدنا أنفسنا أولياء الله حينئذ نقاتل، وإن لم نحقق ولاية الله، وملكنا الهيدروجين والذرة والصواريخ ما انتصرنا، ولا تقولوا: ماذا هناك؟! نحن أقوى منهم فلنقاتلهم، فأقول: هل قد انتصرنا على اليهود؟ هذه الشلة الهابطة التي هي من أذل الخلق، إذ لا أذل منهم إلى اليوم، إذا انتهر الجزائري يهودياً في بيت فإنه يهرب، وقد عرفنا هذا من العمال، ووجدتُ ذلك أيضاً في دولة فرنسا، فإذا اختلف اليهودي مع الجزائري، وانتهر الجزائري اليهودي والله يذل ويهرب، وصدق الله إذ يقول: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة:61]، فمن يمح هذه الذلة، من يزيلها؟ لكن على شرط أن نكون أولياء الله، فهل العرب والمسلمون أولياء الله؟ فلنسأل، وهيا بنا نمشي إلى القاهرة المعزية، إلى دمشق، إلى بغداد، إلى كراتشي، إلى مراكش وغيرها من البلدان الإسلامية، ونسأل أهل البلاد ونقول لهم: من فضلكم دلونا على ولي من أولياء البلاد، والله ما يدلونكم إلا على ضريح أو قبر، ولا يفهمون ولياً حياً بين الناس، وإنما كلهم أعداء الله! فلا إله إلا الله!كذلك تدخل أي مدينة وتقول لمن تلقاه في أول الطريق: أنا جئت أريد أن أزور ولياً من أولياء الله، والله ما يعرف ولياً في تلك العاصمة إلا ميتاً، وعليه قبة خضراء أو بيضاء، والأزر التي يضعونها على قبره، والناس عنده عاكفون راكعون! فهذا هو الولي عندهم.إذاً: حققنا عملياً أننا لسنا بأولياء، والبرهنة على ذلك: كيف يذلنا اليهود ويقهروننا وهم لا يساوون واحداً إلى ألف، ولا أعني بهذا أنه لا يوجد بيننا ولي لله تعالى، بل يوجد أفراد، لكن الأمة التي قاتلت اليهود ما فيهم أولياء، ولذلك حقق الولاية ثم قاتل الأبيض والأصفر، أما وأنت لا ولاية لك مع الله فكيف ينصرك؟! حتى لو كنت أكثر منه عدداً وعدة؛ لأنه إذا نصرك معناه أنه قد خانك وغشك، والمؤمنون في أحد بعدما عصوا لو نصرهم الله لغشهم وخانهم.قال: [ النصر وإن كانت له عوامله من كثرة العدد من المقاتلين، وقوة العتاد والعدة، فإنه بيد الله تعالى، فقد ينصر الضعيف ويخذل القوي، فلذا وجب تحقيق ولاية الله ]، لما كان النصر قطعاً بيد الله وجب تحقيق ولاية الله حتى ينصرنا، وإن لم نحقق ولاية الله، فنسبه ونكفر به ونشرب الخمر ونتعاطى المحرمات، ثم نقاتل اليهود واليونان! والله ما ننتصر، وهذا هو الواقع، فكم من معركة دارت بين العرب واليهود في سنوات متعددة ولم ينتصر فيها العرب، ولم يطردوا فيها اليهود، بل آخر ضربة احتلوا فيها مدينة القدس.قال: [ فلذا وجب تحقيق ولاية الله تعالى أولاً قبل إعداد العدة، وتحقيق الولاية يكون ] بماذا؟ هل لأنه مسلم؟ لا، وإنما تحقيق الولاية يكون بالإيمان الحق الذي دائماً نقول: اعرضه على القرآن، فإن وافقه وأمضاه فهو إيمان وإلا فهو ضلالة، أيضاً بالصبر، والصبر حبس النفس حتى لا تعصي الله ورسوله، لا بترك واجب ولا بفعل حرام، والصبر على الابتلاء والامتحان الإلهي، فإذا ابتلاك وامتحنك إنما ليرفعك، وليهيئك للكمال.قال: [ وتحقيق الولاية يكون بالإيمان والصبر والطاعة التامة لله ولرسوله، ثم التوكل على الله عز وجل ].قال: [ ثالثاً: ثبوت قتال الملائكة مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر قتالاً حقيقياً -والله العظيم-لأنهم -أي: الملائكة- نزلوا في صورة بشر يقاتلون على خيول، وعليهم شاراتهم وعلاماتهم، ولا يقولن قائل: الملك الواحد يقدر على أن يهزم ملايين البشر، فكيف يعقل اشتراك ألف ملك في قتال المشركين وهم لا يزيدون عن الألف رجل -إياك أن تقول- وذلك أن الله تعالى أنزلهم في صورة بشر، فأصبحت صورتهم وقوتهم قوة البشر، ويدلك على ذلك ويشهد له: أن ملك الموت -ملك الموت عما قريب سيزورنا- لما جاء موسى في صورة رجل يريد أن يقبض روحه ضربه موسى عليه السلام ففقأ عينه، وعاد إلى ربه ولم يقبض روح موسى عليهما معاً السلام. من رواية البخاري ].إذاً: لما ينزل الله الملائكة في صورة بشر، تصبح طاقاتهم وقدراتهم قدرة البشر، لكن لو أنزل الملائكة في صورتهم الحقيقية فإن الواحد منهم سيقلب مدناً على ظهرها، والدليل القاطع على ذلك: لما جاء ملك الموت عزرائيل عليه السلام في صورة إنسان إلى نبي الله موسى عليه السلام ليمتحنه، فقال له الملك: أنا ملك الموت جئت لقبض روحك -وموسى كما تعرفون طويل وقوي، فقد لَكَم مرة قبطياً حتى قتله، ثم تاب إلى الله واستغفره- ففقأ موسى عين الملك، وعاد الملك يبكي إلى الله، وقال: يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فقال له الله: ارجع إليه وقل له: إن ربك يقرؤك السلام، ويقول لك: إذا كنت لا تريد الموت فضع يدك على مسْك ثور -أي: جلد ثور- ولك بكل شعرة عاماً، ثم عرف موسى وقال: ثم ماذا؟ فقال ملك الموت: ثم الموت، فقال موسى: إذاً الآن، وسلَّم نفسه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لو كنت بصحراء سيناء لأريتكم قبره عند كثيب الرمل في المكان الفلاني.وبالتال كيف تردون على من قال: إن هذه خرافة؟! كيف ألفاً من الملائكة يقاتلون ألفاً من المشركين؟ والجواب: أن الله أنزلهم في صورة بشر، وبالتالي فهم في طاقة بشر، وفي قدرة بشر، سواء بسواء، والدليل على ذلك مجيء ملك الموت -على جلالته- في صورة إنسان لقبض روح موسى عليه السلام، ففقأ موسى عين الملك. وصلى الله على نبينا محمد.

ابو وليد البحيرى
2019-03-30, 05:10 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (51)
الحلقة (192)
تفسير سورة آل عمران (56)

إن الله عز وجل مستقل بالأمر كله، فليس لأحد من خلقه تصرف في شيء إلا أن يأذن الله عز وجل به، ولو كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد تعرض للأذى الشديد من المشركين في أحد، فداخله الأسف على ذلك، فبين له الله عز وجل أنه ليس له من الأمر شيء، بل الأمر كله بيد الله إن شاء رحمهم وأدخلهم في الإيمان، وإن شاء أبقاهم على الكفر فاستحقوا العذاب يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال-فداه أبي وأمي والعالم أجمع-صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وها نحن مع هذه الآيات الخمس، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:128-132]. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] هذه الجملة موجهة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد والمجاهد والمدير للمعركة والمبلغ، قد انتزع الله منه هذا، فقال له: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، فهل بقي من الناس من يزعم أن له شيئاً في القول أو العمل؟ كل شيء لله.وهذا لما شُج وجهه صلى الله عليه وسلم، وسقطت رباعيته، وأوذي في أنفه، وكان يكمِّد الجراحات، فقال عليه الصلاة والسلام: ( كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا؟ ) ودماؤه تسيل، وجراحاته تؤلمه، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، فقال بعدها عليه الصلاة والسلام: ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ). لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ يا رسولنا، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ويدخلون في رحمة الله، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].
تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض...)
قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:129].قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:129] خلقاً وملكاً وعبيداً، وليس لغير الله في الملكوت الأعلى والأسفل من له شيء مع الله، بل ولا إبرة، إذ كل ما في الملكوت العلوي والسفلي من الكائنات هو ملك لله عز وجل، وكيف لا وهو خالقه وصانعه وموجده، ثم أيوجد الشيء ويخلقه ثم يكون لغيره؟! إن هذا الغير مخلوق لله مربوب، فالله أوجده وخلقه، إذاً وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ من الكائنات كلها. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، يغفر لمن يشاء من عبيده الذين أنابوا إليه، وتابوا ورجعوا إليه، ويعذب من يشاء ممن أصروا على الكفر والعناد والشرك والظلم والحرب ضد الإسلام، ومع هذا لسنا كالمعتزلة، فيغفر لمن يشاء أن يغفر له، وليس هناك سلطة فوق سلطة الله بأن تلهمه بأن يغفر أو لا يغفر، أو يعذب أو يرحم، إذ له الخلق والأمر، قال عمر : من بقي له شيء فليطلبه، أي: كل الكائنات قائمة على الخلق والأمر، فالله هو الخالق والآمر والمدبر، فمن بقي له شيء فليطلبه. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، لكن علَّمنا أنه يغفر لمن رجع إليه، وتاب من ذنبه، وتخلى عن باطله، وابتعد عن كفره وشركه، وعد الصدق يعدهم الله أن يغفر لهم، وأوعد أيضاً من أصر على الشرك والكفر والظلم وحرب المسلمين بأنه يعذبه، ويبقى المؤمنون العاملون للصالحات إذا خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فالله عز وجل يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ولا نجزم بأن كل مؤمن ارتكب كبيرة من الذنوب ولم يتب منها، أن الله يغفر له، إذ لا يقول هذا ذو إيمان وعلم ومعرفة، وإنما يُترك الأمر لله، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، والذي نجزم به عقيدة: أن أهل التوحيد أو أهل الإيمان إذا قارفوا الذنوب، وغلبت سيئاتهم حسناتهم، وطغت عليها، ثم أدخلوا النار، فإنهم يعذبون فيها، فإن وعد الله لهؤلاء أن يخرجهم من النار ويدخلهم الجنة.إذاً: أهل الإيمان الحق، أهل التوحيد الصحيح الذين ليس في قلوبهم غير الله، إن زلت أقدامهم، وارتكبوا الكبائر من الذنوب، ثم دخلوا بها النار، فحسب قانون الله وسنته، أن وعد الله على لسان رسوله أن يخرجهم من النار ويدخلهم الجنة دار الأبرار، وأما من مات على الكفر والشرك، فقد أخبر تعالى-وخبره الصدق الحق-أنهم في النار خالدون، لا يخرجون منها أبداً. فليهنأ المؤمنون الصادقون أنهم مهما ارتكبوا من الكبائر واستوجبوا العذاب ودخلوا دار الشقاء فإنهم يخرجون ويدخلون الجنة، فلا بد من فهم هذا من قوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، وختم ذلك بقوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:129]، (غفور) على وزن فعول، أي: كثير المغفرة، كسئول بمعنى: كثير السؤال.إذاً: ثقوا بأن الله يغفر الذنوب، وإلا فهذا الاسم وهذا الوصف -غفور- كيف يظهر؟! أيسمي نفسه غفوراً وهو لا يغفر؟! مستحيل، ورحيم أيضاً فيرحم المعذبين الذين استوجبوا العذاب أو ذاقوه، ولن يستطيع كائن من كان أن يقول: فلان قد غفر الله له! أو فلان سيعذبه الله! وإنما يُترك الأمر لله. وأما حكمه على أهل الكفر أنهم خالدون في العذاب والشقاء، فهذا يجب أن يكون عقيدة كل مؤمن ومؤمنة، وإلا فقد كذَّب الله عز وجل.وأما خروج أهل التوحيد من النار بعد أن يعذبوا فيها أحقاباً أو دهوراً، فكذلك عقيدة المؤمنين، فالله عز وجل يخرج الذين ما عبدوا غيره ولا عرفوا سواه، ولكن غلبتهم دنياهم أو شهواتهم أو شياطينهم، فزلت أقدامهم فارتكبوا الكبائر من الذنوب، كأن قتلوا نفساً مثلاً، فهؤلاء إذا كانت سيئاتهم أكثر من حسناتهم فإنهم يدخلون النار، ويخرجون منها بإيمانهم وصالح أعمالهم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، فلا تبكِ إلا على أخيك إذا مات على الشرك، مات على الإلحاد، مات على الكفر، مات على تكذيب الله ورسوله؛ لأن هذا قد فرغ منه. ثم بعد هذا جاء هذا النداء في استطراد عجيب؛ لأن البلاغة تقتضي أن المتكلم أو الخطيب أو غيرهما ما يسترسل في أحداث يمل السامعون، بل لا بد وأن يستطرد حادثة أخرى؛ لتستأنس النفوس وتقبل القلوب.فالآن نحن مع أحداث أحد وبدر من عدة أيام، وهذه الآيات خاتمة، وقلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا؟ )، فقال الله له: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، ثم قال بعدها عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )، فعاد صلى الله عليه وسلم إلى الصواب بتوجيه الله وهدايته له.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة...)
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130].‏
دعوة المؤمنين للخروج من الربا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:130] لبيك اللهم لبيك، يا أيها السامعون! من كان لديه قليل من المال في البنك الفرنسي السعودي، أو في البنك الأمريكي السعودي، أو في البنك الأهلي، يعزم الليلة على أنه في غدٍ الساعة الثامنة يكون عند باب البنك، يأخذ حقه من المال، فإن وضع خمسين ألفاً أخذها بدون زيادة أو فائدة؛ لأنها لا تحل له ولا لهم، وحينئذ يصبح أخونا قد استجاب لله، وإن أصر فالله يقول: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، قالت العلماء في هذه الجملة: في هذا إشارة إلى أن المستحل للربا، أي: الذي يعتقد حليته ولا يرى حرمته، ولا يثق فيمن يقول: حرام، أنه ارتد وكفر، وهذه قاعدة عامة في كل من استحل محرماً مجمعاً على تحريمه بين المسلمين، أنه قد ارتد وخلع ربقة الإسلام من عنقه بلا خلاف، وعليه فكل من اعتقد حلية محرماً مما حرم الله، واستعمله وقال: لا حرمة عندنا ولا حلال، فقد ارتد وكفر بالله.
قول أهل العلم في قول الله تعالى: (أضعافاً مضاعفة)
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] قال أهل العلم: هذه الصيغة خرجت مخرج الغالب، إذ ليس معناه أنه إذا كان قليلاً فلا بأس أن تأخذه وتأكله، ثم تقول: الآية تقول: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، لا، فهذا خرج بحسب الواقع؛ لأن الرجل يكون في حاجة إلى مال، فيأتي إلى أخيه فيقول له: أقرضني إلى الحج، أو إلى الحصاد، أو إلى أن تعود القافلة الفلانية، فيعطيه قرضاً حسناً، فإذا جاء الوقت وما استطاع أن يسدد، يقول لمن أقرضه: أخرني وزد عليّ، فيقول: أخرناك سنة أخرى وزدنا عليك عشرة أو عشرين أو كذا، فهذا هو ربا الجاهلية، أي: أخر وزد، ويسمى ربا النسيئة، أي: التأخير والتأجيل، وهذا الذي نزل به القرآن فأبطله ومحا أثره بين العرب والمسلمين قروناً.
الفرق بين ربا الجاهلية وربا المعاصرين اليوم
ثم جاء اليهود بعدما استولوا على مصادر العيش والرزق في العالم، فأعلنوا عن الربا بوضوح، وذلك حتى لا تبقى سلفة ولا رحمة ولا إخاء ولا إحسان أبداً، ووضعوا هذا الربا، وحال لسانهم يقول: اتركوا البشرية كالحيات تأكل بعضها بعضاً، بينما ربا الجاهلية أرحم بكثير من ربا اليهود والحضارة الغربية؛ لأن ربا الجاهلية-كما علمتم-تستقرض من أخيك إلى ستة أشهر أو سنة، فإذا عجزت تقول: أخرني وزد عليّ، أما ربا اليهود اليوم فمن أول يوم استلفت عشرة آلاف يحسبونها تسعة، فيعطونك تسعة وفي ذمتك عشرة، وإن استقرضت مائة ألف يعطونك خمسة وتسعين ويكتبون عليك مائة ألف، فإن سئلوا: لمَ تفعلون هذا؟ قالوا: نخشى أنه ما يرد، ومن ثم نخصم عليه من الآن.ومن ثم انتشر الربا في أوروبا أولاً، ثم انتقل إلى العالم حتى لا تبقى رحمة ولا أخوة ولا ود ولا صداقة، والأسرة الواحدة كأن كل واحد منهم من عائلة أخرى، بل من إقليم آخر، وهذا كله من صنع بني عمنا اليهود، وللأسف أننا مددنا أعناقنا إليهم، وقبلنا توجيهاتهم وإرشاداتهم، وقبلنا هذا لما هبطنا، لما أصبح فينا من لا يعرف الله، ولا ما عند الله، ولا ما لدى الله، فضعف الإيمان وتخلخل في النفوس، وما أصبح هناك مودة ولا إخاء، ولا حب ولا صفاء، وبالتالي ماذا نصنع؟ أقبلنا على الربا، مع أن الربا جاءت فيه وعود من الكتاب والسنة لا تُطاق.إذاً: معاشر المؤمنين والمؤمنات! من سبق له أن تورط فليخرج من الورطة، وليتوكل على الله، وليسحب نقوده من البنوك الربوية، ومن لم يقع في هذه الورطة فليحمد الله، وليكثر من حمد الله، وليدع لإخوانه أن ينجيهم الله أيضاً، وأن يخرجهم من هذه الفتنة.
سبب وجود الربا في بلاد المسلمين وكيفية الخلاص منه
معشر المستمعين والمستمعات! إن الربا سببه انحرافنا، وفقدنا لصلتنا بربنا، فأصبحنا كالبهائم، أصبحنا نستلف ولا نرد السلفة، نستقرض من إخواننا ولا نرد قرضاً، نعد ولا نفي بوعد، أسرفنا إذا عندنا الدينار والدرهم، نأكل بلا حساب، ونشرب بلا حساب، ما عرفنا الاقتصاد والصبر أبداً، فلما هبطنا جاءنا البديل وهو البنك فقط، إذاً فما المخرج؟ أصبح هذا المخرج عندنا كالشمس، وهو أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، وأن يصبح أهل الحي من أحياء المدن كأنهم أسرة طاهرة، ويصبح أهل القرية كأنهم أسرة طاهرة؛ وذلك بإقبالهم على الله في صدق، فيجتمعون في مسجدهم الجامع - الذي وسعوه حتى أصبح يتسع لأفراد الحي- كلهم رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، فإذا مالت الشمس إلى الغروب، أوقفوا دولاب العمل، فالفلاح رمى بمسحته ومنجله، والتاجر أغلق باب دكانه، والصانع رمى بالحديدة من يده، فتطهروا وتوضئوا، وجاءوا مقبلين على ربهم في بيته، فيصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون كما جلسنا هذا الجلوس، النساء من وراء الستارة، والفحول أمامهن، والأطفال بينهما، ويتعلمون الكتاب والحكمة كما نتعلمها، ليلة آية وليلة أخرى حديثاً، ووالله ما تمضي سنة إلا وهم أولياء الله، وسلوني عما يحدث في هذه السنة، لم يبق مظهراً للسرقة، ولا للبخل، ولا للشح، ولا للترف، ولا للحزن، ولا للكرب، وإنما تغيرت طباعهم، وزكت نفوسهم، وطابت أرواحهم، فتعيش في تلك القرية سنة لا تسمع كلمة سوء، ولا تشاهد منظراً يغضب الله ورسوله والمؤمنين، وإنما تجد الوفاء والصدق والرحمة والأخوة، ووالله ليفيض مالهم، وعند ذلك ماذا يصنعون به؟ فأكلهم محدود، وشرابهم محدود، ونومتهم محدودة، وعملهم محدود، بل كل حياتهم منظمة تنظيماً دقيقاً، فهل يبقى حينئذ الربا؟ هل يبقى حينئذٍ من يحتاج إلى المال؟ الجواب: لا.هذا هو الطريق، وبدون هذا لو أن الحكام رفضوا البنوك وأغلقوها لأوجدنا في بيوتنا بنوكاً أخرى، وذلك أننا عرفنا عجائز يفعلن هذا، فتمشي إلى العجوز فتقول لها: يا عمتي، تقول لك: أعطني كذا، نعطيك كذا، إذاً فما هو الحل؟ الحل أن نسلم قلوبنا لله، فلا هم لنا إلا رضا الله، ونسلم وجوهنا إليه، فلا نقبل إلا على الله، ويتبع ذلك جوارحنا، فألسنتنا لا تنطق بما لا يرضي الله، أرجلنا لا تمش حيث يسخط الله، أيدينا لا تمتد حيث لا يرضى الله، وهذا والله لهو الحق المبين، وهذا ما يتم بالكرباش ولا بالسحر، وإنما يتم بالطريقة التي سلكها رسول الله والمؤمنون، أي: أن نتعرف على الله، فتمتلئ قلوبنا بحبه وخشيته.والآن نحن في هذه الفوضى سلوا الذين يسلفون إخوانكم: هل ردوا عليهم أموالهم؟ لا يراه طول العام، وقد جربنا هذا والحمد لله تجربة كاملة، وما أظن في حياتي رد عليّ في الوقت المحدد إلا واحداً فقط! إذاً: ما المخرج يا عباد الله؟! هل نبقى هكذا نهبط فقط؟ هيا يا أهل حي بني فلان، من غدٍ نجتمع في بيت ربنا، ولا يتخلف رجل ولا مرأة ولا طفل، وإذا ما اتسع بيت الله نفرش السجادة ونجلس عند الباب، ونعزم على تزكية نفوسنا، وتطهير أرواحنا، وذلك من طريق الكتاب والحكمة، قال الله وقال رسوله، ويجلس لنا رباني عليم بشرع الله، فيأخذ معنا ويهذبنا ويطهرنا وينمي معارفنا ويزيد في كمالاتنا، وكل يوم ونحن نشعر بزيادة من الخير، وفي خلال أربعين يوماً فقط نصبح نعجز أن نغادر المسجد، بل ما تقوى على أن تبقى في الدكان أو في البيت، وهذه سنة الله، أما في خلال سنة فسيصبح أهل الحي كأنهم رجل واحد، يتقاسمون الخير والخيرات على حد سواء.فهل هناك طريق غير هذا؟ نستعمل الإنجيل؟! السحر؟! أو نأتي بعصا هتلر وكل باب أمامه شرطي بالعصا؟! والله ما ينفع، وأقسم بالله أنه لا طريق إلا هذا، أي: أن نصدق ربنا في إسلامنا له، ومن ثم والله لتبحث عن من تعطيهم النقود الفائض عنك، وراتبك كفاك وأنت مقتصد وزاد، وعند ذلك تتمنى أن يأتي إليك مؤمن يقول لك: أقرضني كذا، أو هيا نفتح دكاناً، أو ننشئ مزرعة؛ لما تعلم من صدق أخيك، إذ إنه يرضى أن يقتل ويصلب ويحرق، ولا يرضى أن يخون أو يكذب أو يغتال أو يخدع، وهذا هو المؤمن، إذاً: نحن في حاجة إلى عودة جديدة إلى الإسلام. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:130] لبيك اللهم لبيك! لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، وأصل المضاعفة كانت جارية بها العادة في ربا الجاهلية، خلاف ربا العلمانية اليوم، إذ إنه أفظع وأعظم، بينما ربا الجاهلية تأتي إلى أبي جهل عمرو بن هشام، أو إلى عقبة بن أبي معيط فتقول له: الآن موسم تجارة كذا، فأقرضنا عشرة آلاف درهم، وموعدنا نهاية الموسم، فيعطيك عشرة آلاف، ثم يأت الموسم ولم تستفد أو تربح، فتأتي فتقول: يا عقبة! الأمر لك، إن شئت أخر وزد، أما الآن ما عندي شيء، فيقول: نؤخرك إلى عام آخر ونزيد عشرة! كذلك تمشي إلى أبي سفيان فتقول له: نريد خمسة من الإبل نتجر عليها أو نركب عليها، وفي الحج المقبل نأتيك بها، ثم أخذت الإبل ومشيت، وشاء الله أن ضاعت أو ماتت، ثم جاء الوقت المحدد، فماذا تقول؟ لصدقك وكرامتك تقول: يا أبا سفيان! أخر وزد، أجلني سنة وزد ناقة أو كذا، فهذا هو ربا الجاهلية.أما ربا المعاصرين، ربا البنوك اليهودية، تأتي إلى البنك فتقول: نريد مائة ألف ريالاً، فيسجل عليك مائة ألف ويعطيك خمسة وتسعين! ولا يعطيك مائة ألف ثم يقول لك: ردها مائة وعشرة، فأي الربا أفضل وأهون؟! ربا الجاهلية؛ لأن جهَّال العرب كانوا أكرم الناس، وكانوا أرحم الخلق، وهذا الربا المعاصر ربا اليهود الذين ينظرون إلى الإنسان كوسَخ، سواء كان أسبانياً أو إيطالياً أو بريطانياً، إلا اليهودي، إذ إنهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار، ولهم الحق في الحياة، وكل البشر أوساخ ونجس، فيحتالون على إفسادهم، على تعذيبهم ما استطاعوا، لكن لعجزهم وعدم قدرتهم يتلوَّنون، ومع ذلك الآن استطاعوا أن يسودوا العالم بأسره بالربا.فهيا نعصيهم، ولا نستطيع ولا نقدر على ذلك حتى يعود نور الإيمان إلى قلوبنا، ونصبح نرجو الله والدار الآخرة، وفي ذلك الوقت نستغني عن الحثالات والفضلات، والأطعمة والألبسة الزائدة، فلا نحتاج إلى أن نستقرض، وإنما نكتفي بقرص العيش أو بحفنة التمر.
معنى قوله تعالى: (واتقوا الله لعلكم تفلحون)
وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:130] أي: خافوا الله، لا تعصوه، لا تأكلوا الربا، لا تتعاطوه، لا ترضوا به، لا تقروه. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130] رجاء أن تفلحوا، والفلاح في الدنيا أن تطهروا وتطيبوا وتصفوا وتزكو نفوسكم، وتسعدوا بالإخاء والمودة والطهر والصفاء والعزة والكمال في الدنيا، فلا ذل ولا إهانة ولا فقر ولا بلاء، وتنجوا من مخططات الكفار والماكرين والكائدين من اليهود والنصارى والمشركين، والفلاح في الآخرة أن تزحزحوا عن عالم الشقاء وتدخلون الجنة دار السلام.فاتقوا الله وأغلقوا أبواب الربا، واحذر يا عبد الله أن يراك الله أمام بنك، إلا إذا كنت في بلاد المسلمين، فعرفوا أن في جيبك ألف ريال قتلوك من أجلها، أو في غرفتك هدموها عليك، ففي هذه الحال نقول: ضعوا أموالكم في البنوك لتحميها، ولكن لا تقبلوا فائدة أبداً مهما احتجتم، بل لا تأخذوا فلساً واحداً؛ لأنه حرام. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، هذا الفلاح دنيوي وأخروي والله العظيم، فدنيوي أن يصبح أهل البلاد أو أهل القرية وكأنهم شخص واحد، ولاء وحب وتعاون، وطاعة وإحسان وبر-فإنها سعادة وأي سعادة-فتمشي تجاهد أربعة أشهر لا تخاف على امرأتك ولا على مالك ولا أولادك؛ لأنهم بين إخوانك، يحمونك أكثر مما يحمون أنفسهم، سعادة فلاح في الدنيا بذهاب المخاوف وحصول الأمان والسعادة، وفلاح في الدار الآخرة بالزحزحة عن النار ودخول الجنة، وهذا توجيه الله عز وجل. أما بالنسبة لشركات التأمين، فإذا كانت تؤمن أموالها في البنك، ولا تأخذ فائدة عنه فلا بأس كما قدمنا، وأنت إذا أُمرت أن تأخذ نقودك من البنك الفلاني فلا يضرك ذلك، ونحن قلنا: لا يراك الله عند باب بنك، يعني: تودع وتستلف وتأخذ، وهذا هو مراد المتكلم.
تفسير قوله تعالى: (واتقوا النار التي أعدت للكافرين)
قال تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، أُعدت: أُحضرت، هيئت، وجدت بالفعل، ما تُعَدُّ في المستقبل، فهي موجودة قبل الأرض، وقد أعدت للكافرين بالله وبلقائه وبكتابه وبرسوله وبدينه وبتحليل ما أحل وبتحريم ما حرم. قال أهل التفسير: في هذه الجملة إشارة إلى أن المستبيح للربا كافر، ومعنى المستبيح: أن يقول: ليس هناك حرام، اتركونا من هذا، بخلاف من يقول: حرام وأستغفر الله، فهذا ما يكفر أبداً، فهو يستغفر ويندم، ويجيء يوم يترك المنكر الذي يفعله، أما إذا قال: دعونا من هذا، ليس هناك حرام، فهذا ارتد وكفر وإن صام وصلى.
تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون)
قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132].قوله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران:132] محمداً صلى الله عليه وسلم، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، هذه توجيهات الله رب العالمين لهذه الأمة الطاهرة، فأطيعوا الله في أمره ونهيه، والرسول أيضاً في أمره ونهيه وتوجيهه؛ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، أي: يرحمنا الله إذا أطعناه وأطعنا رسوله بكل أنواع الرحمة في الدنيا وفي الآخرة.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
الآيات مرة أخرى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، قال أهل العلم: (أو) بمعنى: حتى، أي: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم أو يعذبهم، فاتركهم ما هم لك، وإنما هم لله عز وجل، وقد عذب من عذب، ورحم وتاب من تاب ورجع إليه، ومن الذين تابوا: أبو سفيان قائد المعركة رضي الله عنه وأرضاه. إذاً: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، فيعذبهم لأنهم ظالمون، والظالمون هم الذين يضعون الشيء في غير موضعه، فبدل أن يعبدوا الله عبدوا الشيطان، وبدل أن يتجروا في الحلال اتجروا في الحرام، وبدل أن يقولوا الطيب من الكلام قالوا الخبيث من الكلام، فهذا ظلم، والظالم يلقى جزاءه في الدنيا والآخرة، وقد بينا غير ما مرة، فلو أنك قمتَ الآن وقلت كلمة سيئة فإن إخوانك سينهالون عليك بالضرب؛ لأنك ظلمت، كذلك كُلْ هذه الليلة خمسة كيلو من الطعام، غداً وأنت في المستشفى من التخمة؛ لأنك ظلمت. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:129]، فإياكم أن تطلبوا ما لله من غير الله، فأنت تؤمن بأن لله ما في السموات وما في الأرض، فكيف تقول: يا سيدي فلان أعطني كذا! إذاً: لا يصح أن تطلب شيئاً من غير الله، إذ ليس من شيء إلا وهو لله في السموات والأرض، لا المطر ولا العشب ولا النبات، ولا الذهب ولا الفضة. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، إرادته مطلقة، ولكن عَلَّمنا أنه يغفر لمن قرع بابه، وسأله التوبة والمغفرة، أما من أعرض واستنكف وتكبر فلا يجري الله وراءه ويقول: تعال أتوب عليك! وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، من أعرض عن الله وأراد العذاب يعذبه، ومع هذا حتى نخرج من فتنة المعتزلة نقول: إرادة الله مطلقة، فأهل التوحيد يدخلون النار ويغفر لهم، بينما المعتزلة يقولون: لا يغفر لهم، وهذا باطل، إذ إن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وهذا إعلان عن إرادته المطلقة، ولكن يعذب بالحكمة ويرحم بالحكمة؛ لأنه هو العليم الحكيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، وقد عرفتم أنه لا يجوز لأحدهم أن يحتج فيقول: ليس هناك مضاعفة، أعطانا خمسين ألفاً، فأعطيناه ألفين فقط، ليس هناك مضاعفة، ولو نصف ريال؛ لأن هذا خرج مخرج الغالب فقط، فلو تقول: من فضلك أعطني مائة ألف وأردها مائة وعشرين ألفاً، والله ما صح ولا جاز أن تأخذ ريالاً أبداً. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ [آل عمران:131] لمن؟ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، أي: الجاحدين والمكذبين لأخبار الله وأخبار رسوله، ولوعود الله ووعود رسوله صلى الله عليه وسلم. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابو وليد البحيرى
2019-03-30, 05:14 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (52)
الحلقة (193)
تفسير سورة آل عمران (57)


الربا ذنب عظيم وجرم جسيم، لذا فقد أمر الله عباده المؤمنين بعد أن خرجوا من الجاهلية ودخلوا في الإسلام أن يتركوا أكل الربا وكل تعامل به، لما فيه من أكل الأموال بالباطل وظلم العباد، ولما فيه من المفاسد العظيمة فقد أعلن الله الحرب على متعاطيه والمتعاملين به، ومن حاربه الله فأنى له أن يفلح.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وها نحن أيضاً مع الآيات الخمس التي تذاكرناها يوم أمس وتدارسناها، ولم نوفها حقها؛ لأننا ما قرأنا شرحها في الكتاب، فهيا نتذكر ما سبق أن تعلمناه منها، وإليكم تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، وتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا )، ثم قال: ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) لما نزلت هذه الآية: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، و( أو ) قلنا: بمعنى: حتى. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:129]، وتذكرون أيضاً أنا بينا أن المعتزلة يحتجون بهذه الآية على أن الله لا يغفر كبائر الذنوب، ومن مات عليها يخلد في النار، والآية لا تحمل هذا؛ لأنها في سياق حال الكافرين والمشركين الذين جاءوا يحاربون الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في غزوة أحد وفي غزوة بدر قبلها.فقوله: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، أي: الذين يشاء الله مغفرة ذنوبهم هم الذين تابوا إليه، وأنابوا ورجعوا إليه؛ فآمنوا وصدقوا وأطاعوا الله ورسوله، وأخلصوا في طاعتهما، فهؤلاء وإن عاشوا على الشرك عشرات السنين متى ما تابوا إلى الله قبلهم وغفر ذنوبهم، وأسكنهم الجنان العالية. وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، أي: تعذيبه لمن أصروا على الشرك والكفر وماتوا عليه، أما أهل الإيمان إن ماتوا على كبائر الذنوب إن شاء غفر لهم ولم يدخلهم النار، وإن شاء عذبهم ثم أخرجهم بتوحيدهم من النار، وهذا هو الجمع بين مذهب المعتزلة وعلماء أهل السنة والجماعة.وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، تذكرون أن هذه الصيغة: (أضعافاً مضاعفة) لا تدل على أن الربا لا يحرم إلا إذا تضاعف، وإنما خرجت مخرج الواقع أو الغالب في تلك الأيام، إذ كان الرجل يكون عليه دين لأخيه، فإذا حلَّ الأجل قال: يا أخي! أخر وزد، ليس عندي ما أُسدد به، أخرني حولاً آخر وزد، فيأتي الحول الثاني وما استطاع السداد، فيقول له مرة أخرى: أخر وزد، فيصبح الدين أضعافاً مضاعفة! وكان هكذا ربا الجاهلية، وإلا فدرهم ربا كقنطاره، لا فرق بين القليل والكثير فيما حرم الله عز وجل، فدرهم واحد يعذب الله به صاحبه، وهو والعياذ بالله أفظع من ثلاثين زنية! وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، أي: اتقوا عذابه، اتقوا عقابه، وذلك بطاعته وطاعة رسوله، ولا يتم فلاح إنسان ولا جان إلا إذا زكت نفسه وطابت وطهرت، وتزكو النفس وتطيب وتطهر بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ الحسنات مزكيات للنفس، والسيئات ملوثات مخبثات لها، فمن أطاع الله ورسوله فيما أمرا به زكت نفسه، ومن أطاعهما فيما نهيا عنه فترك الذنوب والآثام احتفظ بزكاة نفسه وطهارتها، وأصبح أهلاً لدار السلام. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، أي: أُحضرت لهم من قرون، من أزمنة لا يحصيها إلا الله، فهي موجودة مهيأة للكافرين، والكافرون هم الذين كذبوا الله ورسوله في قليل أو كثير، والكافر هو الجاحد المكذب، فمن مات على تكذيب وجحود الله ورسوله، فإنه مهما عمل من الصالحات فلن يغني ذلك عنه شيئاً.فهذا عبد الله بن جدعان الذي كان يذبح في كل حج ألف بعير للحجاج، فيطعمونها أيام وجودهم في الحرم، ويكسو كل عام ألف حلة -بدلة من ثوبين- لفقراء الحجاج، ومع هذا سألتَ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ( هل عبد الله بن جدعان في الجنة؟ قال: لا، هو في النار؛ لأنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين )، أي: أنه مات كافراً. وبالتالي فالحسنات لا تكون حسنة محسِّنة للنفس مزكية لها إلا إذا كانت مما شرع الله، وعملها عبد الله أو أمته إيماناً واحتساباً، أما حسنات ما شرعها الله، فلن تكن حسنة وإن كانت في ظاهرها من فعل الخير، ثم تلك الحسنة إذا لم تؤد على الوجه الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن تنفع، ولن تزكي النفس.وأخيراً: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، فباب الرحمة مفتوح، أطع الله وأطع رسوله، افعل المأمور واجتنب المنهي، فإنك إن فعلت ذلك وصلت إلى الفلاح، والفلاح ليس ربحك الشاة والبعير، ولا الدينار ولا الدرهم، ولا الجاه ولا السلطان، إنما الفلاح أن تزحزح عن النار وتدخل الجنة، إذ بين تعالى هذا بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
والآن مع الآيات بمفرداتها وشرحها وهداياتها؛ لأننا يوم أمس قد تجاوزنا هذا. ‏
شرح الكلمات
قال: [ قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] والأمر: الشأن، والمراد به: توبة الله على الكافرين أو تعذيبهم ]، أي: ليس لك من أمر تعذيبهم أو هدايتهم يا رسولنا شيء؛ لأن هذا لنا، فنحن لنا ما في السموات وما في الأرض، نغفر لمن نشاء ونعذب من نشاء [ و(شيء): نكرة متوغلة في الإبهام -والجهل- وأصل الشيء: ما يُعلم ويُخبر به ] قل أو كثر، صغر أو عظم. [ قوله: أَوْ يَتُوبَ [آل عمران:128] -قال العلماء:- (أو) بمعنى: حتى، أي: فاصبر حتى يتوب عليهم أو يعذبهم ]، أي: اتركهم حتى يتوب عليهم أو يعذبهم. [ قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ[آل عمران:129]، أي: ملكاً وخلقاً وعبيداً ]، كل ما في السموات وما في الأرض هو مملوك لله، إذ هو خالقه وهم عبيده يعبدونه، قال: [ يتصرف فيهم كيف يشاء، ويحكم كما يريد ].[ وقوله: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130] لا مفهوم للأكل، بل كل تصرف بالربا حرام، سواء كان أكلاً أو شرباً ولباساً ] أو سكناً أو ما كان، وإنما مخرج الغالب أن الأصل في الأموال أنها تؤكل، فلا تقول: أنا لا آكل الربا، ولكن ألبس به ثياباً! أو هذا الحاصل من الربا لا ألبسه، أنا أبني به منزلاً! أو تقول: أنا أروِّح به على نفسي فأذهب به رحلة إلى الخارج! كل هذا باطل، إذ لا يحل درهم ربا ولو كنت ترميه في المزبلة، ولا يحل التصدق به حتى على اليهود والنصارى، ولذلك قد منعنا من أخذه فلنمتنع، وعلى كلٍ قال: (لا تأكلوا) باعتبار الأكثرية والغالب أنه يؤكل. قال: [ الربا -في لغة العرب- لغة: الزيادة ]، يقال: ربا الشيء يربو، إذا زاد وكثر [ وفي الشرع] أي: ديننا [نوعان] لا ثالث لهما [ ربا فضل، والثاني: ربا نسيئة ] فيجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف هذين النوعين. [ ربا الفضل يكون في الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح ] وبعبارة فقهية: يكون في كل مقتات مدخر، أي: في كل ما يقتات ويعيش به الإنسان ويصلح للادخار، أما البطيخ والحبحب والبرتقال لا يدخر [فإذا بيع الجنس بمثله يحرم الفضل، أي: الزيادة، ويحرم التأخير ]. إذا بعت ذهباً بذهب يجب أن يكون الوزن جراماً بجرام، كيلو بكيلو، ويحرم الفضل، أي: الزيادة، كذلك إذا بعت فضة بفضة، فإياك أن تفضل وتزيد، وإنما كيلو بكيلو، قنطار بقنطار، أيضاً بعت قمحاً بقمح، كيساً بكيس، خيشة بأخرى، فلا بد أن يكون كيلو بكيلو، حفنة بحفنة، ولا تزد شيئاً؛ لأنه نوع واحد، كذلك بعت شعيراً بشعير، فإياك أن تفضله وتزيد عليه حفنة أو كيلو، أيضاً الملح يدخل في الربا؛ لأنه عنصر الطعام، فإذا بعت ملحاً بملح، فبع الكيلو بالكيلو، والقنطار بالقنطار، وإياك أن تزيد، فإن زدت فقد رابيت ربا الفضل، أي: ربا الزيادة، وكلمة: (الفضل) تعني: الزيادة، يقال: تعشيتم؟ قالوا: نعم، وهذا الذي بقي؟ قالوا: هذا فضلة، أي: زائد عن طعامنا.فهذه الأجناس وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم كقاعدة، فإذا بيعت ببعضها البعض فيحرم الفضل والزيادة، وإن اختلفت الأجناس، كأن بعت فضة بذهب، أو قنطار فضة بعشرة كيلو ذهب فلا حرج، أو بعت قنطارين شعير بقنطار قمح أو أقل، أو بعت قنطار تمر بعشرة قنطار ملح، كل ذلك لا حرج. إذاً: إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم بحسب الأسواق، أي: زيدوا الفضل ولا حرج، لكن إذا بعت ربوياً بمثله فلا يحل الزيادة من جنسه.قال: [ ربا الفضل يكون في الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، فإذا بيع الجنس بمثله يحرم الفضل، أي: الزيادة -ولو حفنة أو جراماً- ويحرم التأخير ] أيضاً، فإذا بعت فضة بذهب جاز التفاضل، كأن تبيع كيلو فضة بعشرة كيلو ذهب، لكن يجب أن يكون التقابض في مجلس واحد، فلا تأخذ الذهب وتقول: سآتيك بالفضة فيما بعد، أو تأخذ الفضة وتقول: سآتيك بالذهب فيما بعد، لا، بل يجب أن يكون التقابض في المجلس، فإذا بعت تمراً بتمر، كأن بعت برْنياً بعجوة، فيجب أولاً: أن يكون صاعاً بصاع، وثانياً: أن يكون التقابض في المجلس، ولا تقل: أعطني وأنا سآتيك بعد.وعليه فربا الفضل الزيادة فيه محرمة إذا كان الجنس واحد، أما إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم حسب الأسعار والسوق، ويحرم التأخير، أما إذا اشتريت كتاناً بفضة فهذا شيء آخر، أو اشتريت بعيراً بذهب فلك أن تؤخر، لكن هذه الستة التي ذكرناها إذا بعتها فيجب أن يتم ذلك في مجلس واحد، ولا يجوز التأخير.قال: [ ربا النسيئة -هذا سهل-: هو أن يكون على المرء دين إلى أجل، فيحل الأجل ولم يجد سداداً لدينه، فيقول: أخر لي وزد في الدين ]، وهذا ربا الجاهلية، وقد قلت لكم: إن ربا الجاهلية أفضل وأهون من ربا العلمانية اليوم! ووجه التفضيل: أن يكون لك دين على إبراهيم، ثم حل الأجل، فتقول له: سدد، فيقول: ليس عندي شيء، فتقول له: نزيد، فيزيد خمسة في المائة أو عشرة! أما إذا جئت وقلت: سدد، فقال: تفضل دينك، فإنك تأخذ دينك فقط، ولا يعرف العرب الزيادة، فقد كان يستقرض بعضهم من بعض إلى آجال المواسم وغيرها، فإذا حل الأجل يأتي بما عليه من دين، بلا زيادة أبداً، فإن عجز يعتذر فيقول: أخرني وزد.بينما ربا البنوك هذه الأيام أشد وأفظع، فيأتي أحدهم إلى البنك يريد مائتين ألف لسنة، فيعطيه البنك مائة وخمسة وثمانين ألفاً، ويسجل عليه مائتين ألفاً! وهذا هو الواقع، فقد زادوا قبل نهاية الأجل! ولو أتيتهم بالمال لا يقبلونه، بل لا بد من الزيادة أن تنتهي.قال: [ وربا النسيئة: هو أن يكون على المرء دين إلى أجل، فيحل الأجل ولم يجد سداداً لدينه، فيقول له: أخرني وزد في الدين ]، فيتفقون على الزيادة، كثرة أو قلة.قال: [ قوله: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]: لا مفهوم لهذا القول؛ لأنه خرج مخرج الغالب، إذ الدرهم الواحد حرام كالألف، وإنما كانوا في الجاهلية يؤخرون الدين ويزيدون مقابل التأخير حتى يتضاعف الدين، فيصبح أضعافاً كثيرة ]، كانت ألفاً، وفي خلال خمس سنوات وهو يؤخر فيها صارت خمسة آلاف! وهكذا كلما أخر السداد زد ألفاً فوقها، حتى تصبح أضعافاً مضاعفة. [ قوله: تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]: تنجون من العذاب وتظفرون بالنعيم المقيم في الجنة ]، وقد بينا الزحزحة وقلنا إنها: إبعادٌ عن النار ودخول الجنة.[ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]: هيئت وأحضرت للمكذبين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ]، وليس معنى هذا: أن النار ستوجد يوم القيامة، إذ إنها والله لموجودة الآن وقبل مئات القرون، وقد شاهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه كما شاهد الجنة دار السلام، وعالمنا هذا بالنسبة إلى عالم الجنة وعالم النار قطرة ماء في المحيط الأطلنطي، فعالم الجنة تطوى السموات وهو فوقها، وعالم النار تطوى الأرضون كلها وهو تحتها، ومثل الدنيا إلى الآخرة كمثل أن يغمس أحدنا أصبعه في البحر ثم يستخرجها ويزن تلك البلة، فكم سيجدها إذا كان عنده موازين دقيقة؟! كذلك فإن آخر من يدخل الجنة يعطى مثل الدنيا مرتين، أما أنتم فتعطون إن شاء الله عشر مرات، فأين دنياكم إذاً؟! وأما عالم الشقاء فتعرفون أن ضرس الكافر والله كجبل أحد، وعرضه مائة وخمسة وسبعون كيلو، أي: من مكة إلى قُديد، إذاً: كم تتسع النار؟! قولوا: اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، ولله نفحات ما تدري قد يُستجاب لك.قال: [ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]: لترحموا، فلا تُعذَّبوا بما صدر منكم من ذنب المعصية] .
معنى الآيات
والآن مع الشرح الكامل الوافي لهذه الآيات لنزداد إن شاء الله يقيناً بما علمنا.قال: [ معنى الآيات: صح] أي: ثبت في الصحيح [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد دعا على أفراد من المشركين بالعذاب] ما في ذلك شك [وقال يوم أحد لما شج رأسه وكسرت رباعيته: ( كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟ ) فأنزل الله تعالى عليه قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]] لا أمر تعذيب ولا أمر هداية [أي: فاصبر حتى يتوب الله تعالى عليهم، أو يعذبهم بظلمهم فإنهم ظالمون.قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:129] ملكاً وخلقاً، يتصرف كيف يشاء، ويحكم ما يريد، فإن عذب فبعدله، وإن رحم فبفضله، وهو الغفور لمن تاب، الرحيم بمن أناب. هذا ما تضمنته الآيتان الأوليان. وأما الآية الثالثة فإن الله تعالى نادى عباده المؤمنين ] ومن قال نادى هؤلاء المنافقين فكلامه باطل، بل نادى المؤمنين الصادقين في إيمانهم فقال: يا أيها الذين آمنوا [ بعد أن خرجوا من الجاهلية ودخلوا في الإسلام، بأن يتركوا أكل الربا وكل تعامل به ]، فقد كانوا يأكلونه والله العظيم! بل كانوا يتعاملون به كذا سنة بعد دخولهم في الإسلام، إذ ما حرم الربا إلا في المدينة بعد كذا سنة، وذلك لما تهيئوا للامتثال والطاعة، ولقوة إيمانهم بالله تعالى، ناداهم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130]، قال: [ فناداهم بأن يتركوا أكل الربا، وكل تعامل به -ولو ما يؤكل- فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:130]، أي: بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، إذ كان الرجل يكون عليه دين ويحل أجله، ولم يجد ما يسدد به، فيأتي إلى دائنه ويقول: أخر ديني وزد علي، وهكذا للمرة الثانية والثالثة حتى يصبح الدين بعدما كان عشراً عشرين أو ثلاثين، وهذا معنى قوله تعالى: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130].ثم أمرهم بتقواه عز وجل، وواعدهم بالفلاح -إن هم اتقوه- فقال عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، أي: كي تفلحوا ]، والفلاح: أن تزحزح بعيداً عن عالم الشقاء وتدخل الجنة دار السلام، هذا هو الفلاح، لا ربح تجارة ولا وظيفة ولا شاة أو بعير، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]؛ لأن تقوى الله معناها: فعل المأمور، والمأمور لما يفعله العبد بشروطه فإنه يزكي نفسه ويطيبها ويطهرها، وإذا اجتنب المنهي يبقى ذلك الطهر كما هو، بل ينمو ويزيد؛ لأن من اغتسل ثم صب على رأسه بولاً ووسخاً هل انتفع بذلك؟! لا، إذاً لا بد أن يحافظ على ذلك الطهر، وفي هذا حكم صادر عن الله عز وجل على الإنس والجن، ونصه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، أي: نفسه، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:10] أي: نفسه، والتزكية تكون بفعل الطاعات، والتدسية تكون بفعل المحرمات، فالماء والصابون يطهران الأنجاس، والبول والعذرة يوسخان الأبدان، وهذه سنة الله عز وجل، والعجب كيف يجهل المؤمنون هذا؟! لا عجب؛ لأنهم ما سمعوا هذا الكلام أبداً، فالقرآن يقرءونه على الموتى! أما الأحياء فلا.قال: [ قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130] أي: كي تفلحوا بالنجاة من العذاب، والحصول على الثواب وهو الجنة ] دار السلام، جعلنا الله من أهلها.قال: [ وفي الآية الرابعة أمرهم تعالى باتقاء النار التي أعدها للكافرين، فهي مهيأة محضرة لهم، واتقاؤها يكون بطاعته تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131] ] فمن هم الكافرون؟ أبو جهل؟ قال: [ أي: المكذبين الله ورسوله، فلذا لم يعملوا بطاعتهما؛ لأن التكذيب مانع من الطاعة ] أي: هذه النار للكافرين؛ لأنهم كذبوا فلم يعملوا بما يزكي أنفسهم، ولم يتخلوا عما يدسيها، فبُعثوا وأنفسهم خبيثة كأرواح الشياطين، وبالتالي كيف يدخلون دار السلام؟! مستحيل! قال: [ وفي الآية الأخيرة أمرهم تعالى بطاعته وطاعة رسوله، ووعدهم على ذلك بالرحمة في الدنيا والآخرة ]، وقد بينا كيف نحصل على رحمة الله فقلنا: أن يعيش المسلمون على قلب رجل واحد، متعاونين متحابين متناصحين، أطهاراً أصفياء أنقياء، لا خبث ولا ظلم ولا شر، لا فساد ولا خلف للوعد، لا كذب ولا حسد ولا بغضاء، كأنهم أسرة واحدة، فأية رحمة أعظم من هذه؟! وإذا كانوا هكذا انتفى شيء اسمه عذاب بينهم أبداً، ووجدت الرحمة في الدنيا، وعزوا وسادوا وقادوا البشرية أيضاً، ثم في الآخرة بدخول الجنة دار السلام.قال: [ وكأنه يشير إلى الذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، وهم الرماة الذين تخلوا عن مراكزهم الدفاعية، فتسبب عن ذلك هزيمة المؤمنين أسوأ هزيمة، فقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132] ]، والرماة الذين أمرهم ونصبهم القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم بالبقاء على الجبل كانوا خمسين رامياً، وقد أوصاهم ألا يبرحوا أماكنهم، لنا أو عليهم، وبعد لما شاهدوا الانتصار وفر المشركون، فتركوا أموالهم، والنساء مشمرات على خلاخلهن، هبطوا يجمعون المال، فرأى خالد خلو الساحة أو المركز القوي فاحتله برجاله، وصبوا على المسلمين الحِمم، فكانت الهزيمة النكراء بسبب معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعصية الرسول أثرت في أصحاب الرسول، أما نحن فلا! فنعصي كثيراً ومتى ما أردنا، وبالتالي فمن أولى بالهزيمة نحن أم هم؟ نحن والله، ولهذا نحن مهزومون اليوم، فأذل الخلق اليوم المسلمون، بل والله أذل من اليهود! أبعد هذا نطلب بياناً؟! ما السبب؟ إنها معصية الله ورسوله، وهل هناك غير هذا؟ والله ما هو إلا هذا، فلو تابوا وأطاعوا الله والرسول، خلال أربعة وعشرين ساعة وهم أعز العالم، والدنيا تضطرب لكلمة: الله أكبر!قال: [ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، أي: كي يرحمكم، فيتوب عليكم ويغفر لكم، ويدخلكم دار السلام والنعيم المقيم ].الآن استقر معنى الآيات الخمس في نفوسنا إن شاء الله، وهذا خير من خمسين كيلو غراماً من الذهب! ووالله إن الذي وعي هذه الآيات وفهمها وعمل بها لخير له من خمسين قنطاراً من الذهب! أو من بنوك أمريكا وأوروبا.
هداية الآيات
الآن مع هداية الآيات الخمس، إذ لكل آية هداية ورب الكعبة، وكل آية تهدي إلى دار السلام والبعد عن دار الشقاء والبوار، وكل آية تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهل يعقل أن يوجد كلام بدون متكلم؟! ثم هذه الآية من تكلم بها؟ من أنزلها؟ من أوحى بها؟ من قالها؟ الله، إذاً الله موجود، وبالتالي كيف يُنكر أو يكذب به؟! إن هذه الآية من الله على من نزلت؟ على العجائز في القرية؟! على التجار؟! على من؟ اختار الله من البشرية كلها رجلاً واحداً، وهيأه ليوحيَ إليه بها، فمستحيل أن يكون محمداً غير رسول الله! وكيف يوحي إليه وينزل عليه كلامه ولا يكون رسولاًً؟! من ينفي هذا مجنون أو لا عقل له، إذاً كل آية تحمل هذا الهدى. قال: [ من هداية الآيات:أولاً: استقلال الرب تبارك وتعالى بالأمر كله، فليس لأحد من خلقه تصرف في شيء إلا ما أذن فيه للعبد ]، وأخذنا هذه الهداية من قول الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].فإن قال قائل: يا شيخ! ها نحن عندنا أمور نتصرف فيها فكيف ذلك؟ أقول: قد أذن الله لنا فيها، ولو ما أذن لنا فيها فلا يجوز، فالآن أنت تركب سيارة تسرقها؟ يجوز ذلك؟! حرام، أو تشرب شراباً محرماً، هل يجوز لك ذلك؟ لا؛ لأنه ما أذن، ولذلك نأكل أو نشرب أو ننكح أو نلبس في المأذون فيه، أما غير المأذون فيه فحرام وأهله عصاة مجرمون. [ استقلال الرب تبارك وتعالى بالأمر كله، فليس لأحد من خلقه -حتى ولو كان جبريل أو محمد رسول الأولين والآخرين- تصرف في شيء إلا ما أذن فيه للعبد ] بالتصرف، وهذا أخذناه من قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].[ ثانياً: الظلم ]، والظلم يا عبد الله! يا أمة الله! وضع الشيء في غير موضعه، فلو أن أحدكم نام في وسط الحلقة فقد ظلم؛ لأن هذا المكان ليس محلاً للنوم، وأفظع من هذا أن يتبول في المسجد، فكذلك الذي يركع ويسجد لغير الله؛ لأن الركوع والسجود لا يستحقهما إلا الخالق الرازق، فإذا سجد لـعبد القادر وانحنى أمام إدريس فهذا ظلم، ولهذا فإن الشرك أفظع أنواع الظلم؛ لأن ظلمي لك بسبك أو شتمك أو أخذ ريالك أو الاعتداء عليك هو ظلم بيني وبينك بني الإنسان، لكن كونك تظلم الله الذي بيده كل شيء، وتأخذ حقه وتعطيه لغيره، فهذا من أبشع وأفظع أنواع الظلم، ومثاله لو أنك تختصم مع عامي عند الباب أو فقير كنَّاس فتظلمه، فهل ظلمك إياه كظلمك لأمير المدينة لو تسبه أو تشتمه؟! لا أبداً، فهذا أفظع وأبشع، فكيف بالذي يظلم الله ويأخذ حقه الذي فرضه على خلقه ويعطيه لعبيده؟! أعوذ بالله! ولهذا قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. [ الظلم مستوجب للعذاب -أي: مهيئ له- ما لم يتدارك الرب العبد بتوبة فيتوب ويغفر له ويعفو عنه ]، وهذه قاعدة، أي: أن الظلم من الإنسان مستوجب لعذابه، إلا إذا تداركه الله فتاب عليه وغفر له، أما إذا تركه الله على ظلمه فلا توبة ولا مغفرة، بل والله لا بد من العذاب. [ ثالثاً: حرمة أكل الربا -مطلقاً- مضاعفاً كان أو غير مضاعف ]، أمَا قال الرسول الكريم: ( لدرهم واحد أشد من ثلاثين زنية )؟ إذ ليس عندنا شيء اسمه: ربا خفيف لأنه قليل، لا، فالكثير والقليل سواء.[ رابعاً: بيان ربا الجاهلية، إذ هو هذا الذي نهى الله تعالى عنه بقوله: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130].خامساً: وجوب التقوى لمن أراد الفلاح في الدنيا والآخرة.سادساً: وجوب اتقاء النار ولو بشق تمرة ]، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ).[ سابعاً: وجوب طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم للحصول على الرحمة الإلهية، وهي العفو والمغفرة ودخول الجنة ].معاشر المستمعين! فهيا نتخلص من الربا، فنزور إخواننا وأعمامنا وأخوالنا وأقاربنا ونقول لهم: هيا بنا نخرج من هذه الفتنة، نتعهد ألا يرانا الله غداً أو بعده أمام بنك، ومن عنده نقود يسحبها، وتمشي هذه الروح والناس يبكون نساء ورجالاً، وفي اليوم الأول والثالث والرابع يترك العمال العمل في البنك، وإذا برؤساء البنوك قد داخوا وأصابهم الإعياء، وفي خلال أربعين يوماً يغلقونها، فننتهي من شرها، فهل تستطيعون ذلك؟ أنتم تستطيعون يا أهل النور! لكن نسبتكم إلى أهل الظلام كم؟ ولا واحد إلى ألف، إذاً لا ينفع، وهذا ما يسمى بالإضراب العام، وهو ينفع إذا أضربت الأمة كلها، وهذا هو الهجران الذي أوجبه الله ورسوله، فإذا أخونا أو عمى فسق وأبى أن يتوب قلنا: لن نتكلم معه ولن نتعامل معه، وفي خلال أربعين يوماً يتوب ويبكي.ولو تأملنا في الثلاثة الذين تخلفوا عن المعركة، فقد أعلن الرسول هجرانهم خمسين يوماً، فكانوا يمشون بالأسواق ولا يكلمهم أحد، بل إن نساءهم لا تتكلم معهم، وإنما الواحد منهم تضع له زوجته الخبز وتسكت، وبقي هذا الحال حتى ضاقت بهم الأرض بما رحبت، فهذا هو الهجران الحقيقي، أما أن أقاطعه وأنت تصاحبه، ولا أتعامل معه وأنت تتعامل معه في كل شيء، فهل ينفع هذا؟ ونحن والحمد لله قاطعنا البنوك، فهل انتهت؟ لا؛ لأن المقاطعين لها قليل، لكن إذا الأمة كلها عرفت الطريق إلى الله، فإن هذه البنوك والله لتتحولن إلى مصارف خير وهدى ورحمة، ووالله لتدر وتغل أضعاف ما كانت تدر، وأنا أقسم بالله وإني على علم.فإن قيل: يا شيخ! هذا محال وصعب، لا يمكن، إذاً ما الذي يمكن؟ الذي يمكن أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، وأن يأخذ علماؤنا وحكامنا فيجمعوننا في بيوت الله من المغرب إلى العشاء كاجتماعنا هذا، في كل قرانا ومدننا، النساء وراء، والرجال أمام، ونتلقى الكتاب والحكمة يوماً بعد يوم، والنور يعلو، والمعاني ترتفع، والتقوى تعم، وفجأة خلال سنة ونحن أولياء الله! بل لو رفعنا أكفنا إلى الله ما ردها، ويومها لن يبقى معنىً للشح ولا البخل ولا التكالب على الدنيا ولا التلصص، وأفاض الله رحماته علينا، فهذا هو الطريق الذي نبكي حتى يتحقق أو نموت! ووالله لا طريق إلا هذا، أي: أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، فنفزع إلى ربنا، ونطرح بين يديه، ونبكي كل ليلة، ونتلقى هداه ورحمته في قرانا ومدننا، وما هي إلا أيام وقد أغدق الله علينا نعمه وأفاض رحماته، وطريق غير هذا مستحيل أن يتم به شيء.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابو وليد البحيرى
2019-03-30, 05:37 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (53)
الحلقة (194)
تفسير سورة آل عمران (58)



يدعو الله عز وجل عباده المؤمنين بالمسارعة إلى مغفرته وجنته، وهذا لا يكون إلا بالمسارعة إلى التوبة والاستغفار والندم والبعد عن المعاصي، والعمل بما يوجب للعبد دخول الجنة من الأعمال الصالحة؛ كالإنفاق في سبيل الله في السراء والضراء، والتخلق بالأخلاق الحسنة من كظم الغيظ والعفو والإحسان.
تفسير قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي-صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا، فإنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الخمس، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].هيا نكرر تلاوة الآيات مرة أخرى، والمستمعون والمستمعات يتأملون ويتدبرون لاستخراج المعاني التي تحملها هذه الآيات النورانية: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136]، اللهم اجعلنا منهم، آمين، إذ إن لله نفحات، فإذا سمعت الداعي يدعو فقل: آمين لتشاركه في الأجر وفي الجزاء. ‏
أمر الله تعالى لعباده بالمسارعة إلى التوبة النصوح لمغفرة ذنوبهم
معاشر المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، أمر موجه إلى عباده المؤمنين الذين ناداهم في الآيات الماضية، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132]، ثم قال: وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، فنحن مأمورون بأن نستجيب، فهيا نبادر قبل فوات الوقت، وقرئت في السبع: (سارعوا) بدون واو العطف، وقرئت بالواو: (وسارعوا)، والكل واحد.والمسارعة: المبادرة في عجلة دون توانٍ ولا انتظار ولا تأمل، والمسارعة تكون: إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، والمسارعة إلى المغفرة: هي المبادرة إلى التوبة، وكأنما قال: عجلوا فتوبوا إلى ربكم، فأمرنا ألا نأكل الربا، وأمرنا بطاعته وطاعة رسوله، ووعدنا بالرحمة والفلاح، إذاً فعجلوا إلى الهدف. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، والمسارعة إلى المغفرة هي المسارعة إلى التوبة والاستغفار والندم والإقلاع والعزم ألا نعود لهذا الذنب، فهذه هي التي أُمرنا بالمسارعة إليها، أي: إلى المغفرة، فهيا نسارع إلى مغفرة ذنوبنا، وذلك بالإعلان عن التوبة، وبالاستغفار والندم والإقلاع والبعد عن المعصية، سواء كانت من كبائر الذنوب أو صغائرها.ثم أيضاً إلى أين؟ قال تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، ونسارع أيضاً إلى جنة عرضها السموات والأرض.إذاً: تقرر عندنا وعلمنا وفهمنا واقتنعنا وأصبحنا موقنين بأن الجنة دار السلام لا يدخلها إلا الطيبون الأطهار الأصفياء فقط، ولا يدخل الجنة من عليه أوضار الذنوب وأوساخ الآثام، فإن أردت يا عبد الله! الجنة دار السلام ادخل الحمام، فتطهر وتنظف واغتسل وتطيب ثم تفضل، أما أن تدخل الجنة بالعفن وبالرائحة الكريهة والله ما كان.فالذي يأكل أموال الناس يجب أن يسارع إلى التوبة ليُغفر ذنبه، بل لا يبيت الليلة إلا وقد بادر إلى التوبة؛ لأن الجنة دار السلام لا يدخلها إلا الأطهار الأصفياء، ومن هنا دعانا ربنا تعالى رحمة بنا وشفقة علينا أن نتطهر من ذنوبنا، وبعد ذلك تفضلوا إلى الجنة التي أعدت وأحضرت -من زمان- للمتقين.وإن سأل سائل فقال: ما هي التوبة؟ فالجواب: التوبة تعني: الرجوع إلى الحق والاعتراف به، والاستغفار، والندم، والعزم ألا يعود أبداً إلى ذلك الذنب، فإن كان الذنب هو أخذ أموال الناس أو سفك دمائهم أو نهش أعراضهم؛ فلا توبة تصح حتى يتحلل منهم، فإن كان قادراً على سداد المال رده، وإن كان عاجزاً عن ذلك طلب منهم العفو والرجاء والانتظار، وإن كان عِرضاًً طلب العفو والمسامحة، وإن كان دماً أراقه كذلك قدَّم نفسه ليراق دمه أو يعفى عنه، وهذه حقيقة لا بد منها، أما إذا كان الذنب بينك وبين الله -كما ذكرنا- كأن تركت واجباً، فالتوبة تعني: الندم والاستغفار وفعل الواجب، وإن كان الذنب ارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب، أو معصية من معاصي الله والرسول، فالتوبة تعني: الندم والاستغفار والعزم على ألا يعود إلى ذلك الذنب. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، فأولاً: التطهير، ثم بعد ذلك دخول الفردوس، أما وأنت ملوث فلا. وَجَنَّةٍ [آل عمران:133]، أي: وإلى جنة، عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، قال العلماء وعلى رأسهم الحبر عبد الله بن عباس: لو أخذنا السموات رقعة إلى جنب الأخرى وألصقناها بها، وفعلنا بالأرضين كذلك، فإن عرض الجنة أكثر من هذا! أما الطول فلا يعلمه إلا الله، إذ العرض في الغالب مبني على الطول، فإذا كان العرض-مثلاً-ذراعاً فالطول لا شك أنه ستة أذرع، أما لو قال: (وجنة طولها كذا)، فقد يكون الشخص طويلاً ورقيقاً كالحبل، أو سلكاً رقيقاً من المدينة إلى أمريكا، فأي عرض له؟! ما له عرض، لكن إذا ذكرت العرض، فإن الطول ضروري وهو فوق ما تتصور! كما قد عرفنا وقلنا دائماً حتى نتصور قعر عالم الشقاء: هيا نغمض أعيننا ونضع رؤؤسنا بين ركبنا ولنفكر ولنقل: نازل، نازل، نازل، إلى أين؟! كلَّ العقل واندهش، فهل فهمتم هذه أم لا؟ إن عالم الشقاء المعبر عنه بالنار-دار البوار-أعلمَ تعالى أنه أسفل: قال تعالى: رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5]، فهذا السفل فكر فيه، أما الجنة دار السلام فهي فوق السماء السابعة، وسقفها هو عرش الرحمن، وسيأتي يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48]، يوم يطوي السماء كطي السجل للكتب، عند ذلك فقد انتهت السموات وانتهت الأرضون، وبقي العالمان: عالم السعادة العلوي، وعالم الشقاء السفلي، وسعة هذا العالم لا يحده عقلك، فقل: آمنت بالله. وقد علمنا أيضاً: أن آخر من يدخل الجنة من أهل الذنوب الذين كانوا في النار أحقاباً يعطى مثل الدنيا مرتين، أي: مثل هذا الكوكب مرتين، وقلنا: إن هذه الكواكب لا تعد ولا يحصي عددها إلا الله، فلو وزعنا هذه الكواكب على أهل الجنة، فأخذ كل واحد كوكباً أو عشرة كواكب، فإنه سيبقي الكثير منها! فلا إله إلا الله! أين نحن؟ أتدرون أين نحن؟ نحن في رحم الدنيا، أتعرفون رحم المرأة الذي خرجتم منه أم لا؟ رحم المرأة عرضه أو طوله ستة سنتيمتر، فلو يمكنك أن تتصل بالجنين في الشهر التاسع -عندما يتخلق- وقلت له: ويحك يا هذا! إنك في رحم ضيق منتن، اخرج إلى سعة، فإنه سيضحك، وسيقول: هذا الذي يخاطبني مجنون! أين يوجد هذا العالم الذي تعنيه؟ فلا تستطيع أن تقنعه أبداً إلا إذا آمن كما آمنا نحن بالغيب، فهو لا يفهم أن وراء هذا الرحم شيء واسع جداً، وإن قلت له مرة أخرى -وهو محفوظ في تلك الدماء-: إنك في رحم ووسط بطن أمك في ذراع طول وعرض، ووراء هذا البطن غرفة أو حجرة، ووراء هذا البطن كذا وكذا، فإنه سيزداد كفراً وتكذيباً، وكذلك هذه هي الحياة كلها، فالآن حياتنا هذه والله لأقل من الرحم، والآن الملاحدة والكفار لا يؤمنون إلا بهذا فقط، أي: بالمشاهدات، أما وراء هذا العالم عوالم فلا، فهي خرافات، وبالتالي فالملاحدة لا يؤمنون بعالم السعادة وعالم الشقاء، لا يؤمنون بعرش الرحمن وكرسي السموات، وإنما لا يؤمنون إلا بهذا المحيط الذي يحيط بهم، فهم محصورون فيه، وهي أضيق من الرحم! إذاً: قال: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]؛ لأنه يريد تعالى رحمة بعباده أن يعلمهم، أن يعرفهم؛ حتى يعرفوا ويفهموا ويعلموا.
المتقون هم أهل الجنة وورثتها بحق
قال تعالى: أُعِدَّتْ [آل عمران:133]، أي: هيئت وأحضرت، والإعداد شيء خاص، كإعداد الضيافة للضيف. أُعِدَّتْ [آل عمران:133]، لمن؟ لبني هاشم؟! لبني إسرائيل؟! لبني تميم؟! كل ذلك لا، إنما أعدت للمتقين، فلا يدخل الفاجر، والأمر واضح. إذاً: فعلموا البشرية أن الجنة دار السلام تورث، لكن لا بالنسب ولا بالمصاهرة ولا بالولاء لغير الله تعالى -الإرث أسبابه ثلاثة: إما نسب، وإما صهر، وإما ولاء- وإنما ورثتها معروفون، قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، وعرف هذا إبراهيم عليه السلام، وسمعناه في ضراعته وبكائه يقول: ربـ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، فالجنة تورث وسبب إرثها التقوى، فاتق الله يا عبد الله، وحافظ على تقواك حتى تلقى مولاك، فأنت من الورثة للجنة، فإن فجرت يا عبد الله فقد خرجت عن طريق الله، وحرمت من هذا الإرث أحببت أم كرهت. أُعِدَّتْ [آل عمران:133]، لمن؟ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، لو قال: لأهل البيت، لبني هاشم، لبني فلان أو علان لتململ البشر، إذ المتقي ليس بيض الوجوه أو سمرها أو حمرها أو سودها، أو قصار الأبدان أو طولها، أو أغنياء الناس أو فقرائهم، اترك هذا كله ولا تلتفت إليه، وإنما فقط: هل هو تقي أو فاجر؟ والسر في أن التقوى هي التي تورث الجنة: أن التقوى تزكي النفس وتطهرها، والله قد أصدر حكمه فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، أي: طيبها وطهرها، وكيفية ذلك أن التقوى حقيقتها خوف من الله تعالى يحمل الخائف على أن يمتثل أوامر الله، فيفعل ما يفعل ويعتقد ما يعتقد ويقول ما يقول، فهذه هي التي تزكي النفس، أيضاً خاف من الله فترك معاصيه، فلم يقارف الذنوب التي تلطخ النفس وتعفنها، وإن زلت قدمه يوماً تاب وصقلها وصفاها وحافظ على ذلك، وعند ذلك أصبح الوارث بحق.وبالتالي فالمتقي عبد خاف من عذاب الله وغضبه وسخطه فأطاعه، وفعل ما أمره أن يفعله، وقال ما أمر أن يقوله، واعتقد ما أراد أن يعتقده، وذلك الاعتقاد والقول والفعل هي والله بمثابة الماء والصابون لتزكية النفس وتطهيرها، فإذا أضاف إلى ذلك اجتناب ما حرم الله من اعتقاد وقول وعمل، فقد احتفظ إذاً بالطهارة والزكاة، أما إذا صلى وسرق، صام وزنا، فهو يوجد له زكاة ثم يلطخها، فلو مات قبل التوبة هلك، إذ إن فعل المأمورات عبارة عن أدوات تزكية وتطهير، واجتناب المنهيات والبعد عنها معناه المحافظة على تلك الزكاة والطهر والصفاء حتى لا يلوث ويفسد.
تفسير قوله تعالى: (الذين ينفقون في السراء والضراء...)
قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، والسَّرَّاءِ -بالسين والراء مهموز-: حالة السرور، أي: ما يدخل السرور والفرح على النفس، وَالضَّرَّاءِ: ما يدخل الضرر على النفس، ولكل منها صور، فمن السراء: الغنى، ومن الضراء: الفقر، ومن السراء: العافية، ومن الضراء: البلوى، حتى قال بعضهم: السراء: الفرح أو العرس، والضراء: الحبس، وعلى كلٍ كلُ ما يدخل السرور على النفس البشرية فهو سراء، وكل ما يدخل الضر أو الأذى على النفس فهو ضراء، لكن قوله عز وجل: يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أي: في حال الغنى وفي حال الفقر، وهذه الطبقة ممتازة، فهم ينفقون على كل حال، سواء كان المال متوفراً أو كان غير متوفر، فإذا دعا الداعي ووجبت النفقة ينفق بقدر الحاجة والمستطاع، وهذه يا معاشر المستمعين! نعوت وصفات الوارثين للجنة من المتقين، إذ إن قوله: (للمتقين) مجملة، فتأملوا هذه الصفات:أولاً: يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أي: الإنفاق في حال السراء والضراء، وهذه أمكم والله تصدقت يوماً بحبة عنب، هذا العنب الذي ترمونه في المزابل، إذ إنه كان قوتها يوم ذاك، فأخذت الحبة وقالت لخادمها: أعطها لهذا السائل.إذاً: فذو الألف ينفق من ألفه بحسبها، وذوا الريال ينفق بحسب رياله، وهذا شأن المتقين الخائفين، فهم ينفقون في السراء والضراء.ثانياً: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، والكظم: الحبس، يقال: كظم يكظم، إذا حبس الماء في القربة أو أغلقها، والغيظ: ما يغيظك ويؤلمك، فالمؤمن المتقي الوارث إذا ناله من أخيه شيء آلمه، كأن سبه أو شتمه أو عيره أو أهانه أو تكبر عليه أو لطمه، فإنه لقوة إيمانه وصلته بربه يكظم ذلك الغيظ ولا يظهر منه شيئاً، فيبقيه كله في قلبه، فلا يرد السب بأخرى، ولا الشتم بشتم، ولا يظهر بوجه متغير، بل ما يظهر ذلك الغيظ أبداً، وإنما يكظمه ويحبسه كأنما ربط الماء في القربة أو حبسها بالخيط أو بالعصام، فهل نجرب ذلك؟ امش واركض برجلك أحد إخوانك، وتأمل في وجهه ستجد أنه تغير، بل قد يقول لك: مالك، هل أنت أعمى؟! آه! إن هذه النعوت الكمالية لن نصل إليها إلا بالتربية الحقيقة، فكظم الغيظ ألا يُظهر كلمة تؤذي أو تسيء إلى من آذه، بل وألا ظهر ذلك حتى على وجهه.ثالثاً: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وأما العفو شيء آخر، فإذا آذاه بأن ضربه أو أخذ ماله، فإنه يعفو عنه ولا يؤاخذه، ولفظ: (الناس) يشمل حتى الكفار؛ لأنه ما قال: (والعافين عن المؤمنين)، فهو لكماله ولقوة صلته بربه، ولشعوره بأنه وارث دار السلام، إذا آذاه مؤمن أو غيره فإنه يعفو عنه ويصفح ويتجاوز.وقد يقول قائل: إن شباب أو أبناء حينا يستهزئون بلحانا ويسخرون منا، وآباؤهم وإخوانهم واقفون كالجبال، ولا يتألمون لذلك، بل ولا يؤدبون أبنائهم وإخوانهم؛ لأنه ليس في قلوبهم روح الإيمان، فأقول: وهذا من العفو إن عفيتم عنهم. ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] فلأنهم محسنون أحبهم الله، وفوق ذلك هذه صفة أخرى، فيا أهل الإحسان! اعلموا أن الله يحب المحسنين فأبشروا، و(الإحسان) لفظ عام يتناول الإحسان إلى إخوانك فلا إساءة، ويتناول تجويد وإتقان العمل الذي تقوم به، فإن كنت خياطاً للثياب أحسن الخياطة، وإن كنت طاهياً للطعام أحسن طهي الطعام، وإن كنت نجاراً أحسن نجارتك، فكيف إذا كنت تعبد الله وتسيء إلى هذه العبادة وتفقدها نورها وما تنتجه من الصلاح للنفس والطهر؟! فإذا توضأت فأحسن الوضوء، وإذا صليت فأحسن الصلاة، وإذا حجيت أو اعتمرت فكذلك، وحسبنا أن يعلمنا ربنا أنه يحب المحسنين، إذ ما ليس هناك جملة ترغبنا في الطاعة كهذه، فهل تريد أن يحبك الله؟ أحسن فإن الله يحب المحسنين، أحسن إلى الفقراء والمساكين والجيران والإخوان والأباعد والأقارب، أحسن صنعتك ومهنتك وعملك، أحسن قبل ذلك عبادتك حتى تولِّد لك الطاقة الكافية والنور الذي يزكي نفسك ويطهرها. وهذه التعاليم كان لها أثر في أصحاب رسول الله، فما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أكمل ولا أرحم ولا أصفى ولا أتقى من تلك الأمة، أعني: الصحابة وأولادهم وأولاد أولادهم، فهل كان ذلك نتيجة الفلسفات الكاذبة؟! الحضارة المادية؟! إنها نتيجة هذه التعاليم الإلهية، فقد آمنوا وعملوا.وحتى لا يقول قائل: وهذه ماذا تفعل الآن؟ من يعمل بها؟ ما تنتج شيئاً؟ لا، فما زلنا نقول: لو أن أهل البيت، لو أن أهل القرية، لو أن أهل المدينة يجتمعون بصدق كل ليلة لتعلم الحكمة والكتاب، والله لظهرت آثار هذه الأنوار القرآنية، ولتجلى ذلك في نسائهم وأطفالهم ورجالهم، ووالله ما سخروا من لحيتك، ولكنهم أموات غير أحياء وما يشعرون.
تفسير قوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم...)
قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، ما زال السياق يوضح الطريق أيها السالكون، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135]، والفاحشة: الخصلة القبيحة الشديدة القبح، إذ الفحش معناه: القبح الزائد، ولا بأس أن نفهم فهماً عاماً:فأول فاحشة هي: اللواط، إذ قال تعالى عن قوم لوط: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف:80]، أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [العنكبوت:29].والفاحشة الثانية: الزنا، إذ قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32].ثم كل خصلة قبيحة فاحشة، فلو الآن يقوم أحدكم وينفعل، ويأخذ يسب الشيخ ويلعنه، فهذه فاحشة قبيحة، لو فعلها في الشارع فقبحها أقل، لكن بين المؤمنين في مجلس العلم فاحشة قبيحة، إذاً فكل خصلة قبيحة فاحشة، إلا أن أفحش الفواحش: جريمة اللواط وجريمة الزنا، وبعد ذلك الذي يسب أمه أو أباه من أقبح الفواحش، وهل تذكرون ما سمعتموه؟ وهو أن العرب في ديارهم هذه ما كانوا يسمعون بفاحشة اللواط، ولا يخطر ببالهم هذا، كما تشاهدون الحيوانات، هل الذكر ينزو على الذكر من الحيوانات؟ لا، ولذا كانت أول فاحشة لواط وقعت على عهد عمر أو أبي بكر في البحرين، وذلك أن أعجمياً فعل الفاحشة بأعجمي، ورفعت القضية إلى الوالي واحتاروا في تطبيق الحكم، فقال علي رضي الله عنه-هو من أعلم أصحاب رسول الله-: يُرمى من أعلى جبل ثم يتبع بالحجارة، أي: نعمل به كما عمل الله بقوم لوط، ثم بعد ذلك أفتى العلماء بقتله، سواء بالحجارة أو غيرها.والشاهد: أن الخليفة عبد الملك بن مروان قام خطيباً في الناس فقال: أقسم بالله على أنه لولا أن الله تعالى أخبرنا في كتابه عن قوم لوط، ما كان يخطر ببالنا أن الذكر ينزو على الذكر!لكن لما هبطت هذه الأمة هبط كل شيء، والحمد لله نسبة هذه الفاحشة في بلاد المسلمين أقل بكثير، وتوجد أندية للواط في باريس، في أوروبا، فإذا فعل عبد الله فاحشة-هذا الوارث للجنة-أو خصلة قبيحة، أو ظلم نفسه بأن ترك واجباً، فإنه على الفور يعلن استغفاره وتوبته، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135]، فأولاً: ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] بقلوبهم، ولما يذكرون الله ربهم وهو مطلع عليهم، ويذكرون أمره ونهيه، يفزعون إلى الاستغفار فيستغفرون الله، وهذه هي التوبة، أي: أن يقلع العبد فوراً عن الذنب، وأن يعلن عن توبته بكلمة: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ويواصل الاستغفار وكله عزم على ألا يعود أبداً إلى ذلك الذنب كما لا يعود اللبن في الضرع، فإذا حلبت من الشاة لبناً، فهل يمكنك أن ترجعه إلى الضرع؟! لا ينفع ولو بإبرة، فكذلك توبة العبد الصالح إذا زلت القدم وخرَّ على المعصية، ثم استفاق فذكر الله وتاب، لن يعود إلى ذلك الذنب ولو صُلب أو حُرِّق أو قُتِل، وتلكم هي التوبة النصوح.قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135]، الذي أمر ونهى، الذي رغب وحبب، الذي نهى وخوف وهدد، فهذا الذكر هو الذي يبعث: كيف أعصي ربي؟ ثم بعد ذكر الله يستغفر الله، قال تعالى: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135]، التي قارفوها، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135]، فهل هناك أحد يستطيع أن يطلع على نفسك ويزيل عنها الأثر؟ وهل يمكنك أن تلمس روحك أو تعطيها للطبيب ليلمسها أو ترى الظلم فيها وتمسحه منها؟ لا، إذاً فالذي يغفر الذنوب هو الله فقط، ولذا فليستغفر العبد ربه، وليطرح بين يديه، وليبكى بين يديه؛ حتى يعفو ويصفح ويزيل الأثر من النفس ويطهرها. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا [آل عمران:135]، وهذه صفة كمال أيضاً، وهي عدم الإصرار على الذنب، ومن هذا حاله فإنه قريب سيصل إلى الجنة، فإن تعثر أو وقع فلا يحزن ولا يغتم، وإنما يواصل طريقه إلى الجنة، ومثله من أراد مكة أو غيرها من البلدان، فمشى إليها تسع ليال أو عشر، وقارب الوصول، ثم سقط ووقع، كأن انكسرت رجله، فلا شك أنه سيواصل الطريق حتى يصل إلى هدفه.إذاً: إذا زلت قدم العبد فقال قولاً سيئاً أو فعل جريمة فلا يصر، وإنما على الفور يعلن عن توبته بالاستغفار والندم ويواصل حتى يصل إلى دار السلام، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، أن الإصرار معوِّق، وهم يعلمون أن التوبة واجبة، وأنها تمحو الذنب وتزيل الأثر.
تفسير قوله تعالى: (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار ...)
قال تعالى: أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136]، فمن مدح هذا الخير؟ إنه الله، ونعم الأجر الجنة، أجر العاملين لا الكسالى والبطالين، العاملين من صيام بالنهار، وقيام بليل، ورباط في الثغور، وجهاد وصراع في بلاد الكفار المجرمين. أُوْلَئِكَ [آل عمران:136] أي: السامون الأعلون، جزاؤهم -أولاً- مَغْفِرَةٌ من ربهم؛ لأنه لن تدخل الجنة إلا إذا طِبت وطهُرت، ولم يبق عليك ذنب أبداً.ثانياً من الجزاء لهم: وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:136]، كم الجنات؟ أقل ما يعطى أحدكم معاشر المؤمنين! مثل الدنيا عشر مرات، والجنة سميت جنة لأن من دخل تحت أشجارها غطته وجنته، وهذه الجنة قد وصفها خالقها، ووصفها الرائد الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، إذ أسري به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به والله إلى الجنة دار السلام، ومن كذب فقد كفر، والله يقول: وَلَقَدْ رَآهُ [النجم:13]، أي: جبريل، نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13]، أي: مرة أخرى، أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18]، أي: الجنة، كما أنه رأى حوراء لـعمر بن الخطاب ، وخاف من غضب عمر فلم يلتفت إليها وغض بصره، وذكر ذلك لـعمر ، فقال: أعليك أغار يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( علمت غيرتك يا عمر )، فاللهم اجعلنا منهم، اللهم آمين.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله.

ابو وليد البحيرى
2019-04-07, 04:44 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (54)
الحلقة (195)
تفسير سورة آل عمران (59)


إن العبد المؤمن منتهى ما يؤمله وجل ما تهفو إليه نفسه أن يدخل في رحمة الله عز وجل في الدنيا والآخرة، وأن يستحق جنته ورضوانه، وقد دل الله عز وجل عباده المؤمنين على الطريق الموصلة إلى ذلك، ألا وهي تقوى الله عز وجل، والتي تحصل بفعل ما أمر الله به والتزامه، وترك ما نهى الله عنه، والمسارعة إلى التوبة عند الوقوع في شيء منها.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم يا ولينا حقق رجاءنا إنه لا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران، ومع الآيات الخمس التي تدارسنها بالأمس، نعيد تلاوتها تذكيراً للناسين، ثم نأخذ في شرحها مرة أخرى كما هو في كتاب التفسير، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].
شرح الكلمات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ شرح الكلمات:قوله: وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، المسارعة إلى الشيء: المبادرة إليه بدون توانٍ ولا تراخ. إِلَى مَغْفِرَةٍ [آل عمران:133]، المغفرة: ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها] أي: تغطيتها [والمراد هنا: المسارعة إلى التوبة بترك الذنوب وكثرة الاستغفار، وفي الحديث: ( ما من رجل -أو امرأة- يذنب ذنباً ثم يتوضأ ثم يصلي ويستغفر الله إلا غفر له ) ]. فقوله: (ما من رجل)، والمرأة كالرجل، وإنما الشارع الحكيم لا يعرض بذكر النساء بين الفحول، وإلا فالحكم واحد. [ وقوله: وَجَنَّةٍ [آل عمران:133]، الجنة دار النعيم فوق السموات -السبع- والمسارعة إليها تكون بالإكثار من الصالحات ]، وهي اعتقادات وأقوال وأفعال.[ قوله: أُعِدَّتْ [آل عمران:133]: هيئت وأحضرت، فهي موجودة الآن مهيأة ]، وحسبنا زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لها منذ ألف وأربعمائة سنة، حيث وطئ الجنة بقدميه الشريفتين، ورأى حورها وقصورها وأنهارها، فرأى نهره الكوثر عليه الصلاة والسلام، ووصفه بأن ريحه أذكى من المسك الأذفر، وماءه أبرد من مائنا المثلج، وأبيض من اللبن، وأحلى من العسل، كما رأى أو شاهد في الجنة حوراء لـعمر فغض بصره وذكر غيرة عمر، فاعتذر عمر وقال: أعنك أغار يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!ثم إنه بمجرد ما تخرج الروح يُعرج بها إلى الملكوت الأعلى، إلى الجنة، ويدون اسمها في كتاب عليين، ثم تعود للفتنة والامتحان في القبر، وتنجح وتعود إلى دار السلام، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، ثم إذا جاء البعث الآخر، وخلق الله الأجسام، تُرسل تلك الأرواح فتدخل كل روح في جسمها، ولا يمكن أن يشتبه عليها أبداً. [ قوله: لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]: المتقون هم الذين اتقوا الله تعالى فلم يعصوه بترك واجب ولا بفعل محرم، وإن حدث منهم ذنب تابوا منه فوراً.وقوله: فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، السراء: الحال المسرة، وهي اليسر والغنى، والضراء: الحال المضرة وهي الفقر ]، والمرض والبلاء.[ وقوله: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، كظم الغيظ: حبسه، والغيظ: ألم نفسي يحدث إذا أوذي المرء في بدنه أو عرضه أو ماله، وحبس الغيظ: عدم إظهاره على الجوارح بسبٍ أو ضرب ونحوهما للتشفي والانتقام ]، وهذه الصفة ممتازة وأشرف الصفات، فاللهم اجعلنا منهم، فاصدقوه يجعلكم منهم.[ وقوله: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، العفو: عدم المؤاخذة للمسيء مع القدرة على ذلك]، أما إذا كنت عاجزاً عن مؤاخذته وما آخذته فلست من أهل هذه الصفة، كأن حكم له القاضي بكذا فتنازل عنه، وهو يقدر على أن يرد الكلمة بأبشع منها، أو الضربة بأخرى، لكن يقول: عفونا لله مع قدرتنا على ذلك.[ قوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، المحسنون: هم الذين يُبرون ولا يسيئون في قول أو عمل ]، أي: وصْفهم البرور ولا يسيئون في قول ولا عمل.[ قوله: فَاحِشَةً [آل عمران:135]، الفاحشة: الفعلة القبيحة الشديدة القبح؛ كالزنا وكبائر الذنوب.وقوله: أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135] بترك واجب أو فعل محرم فدنسوها بذلك، فكان هذا ظلماً لها.وقوله: وَلَمْ يُصِرُّوا [آل عمران:135]، أي: يسارعون إلى التوبة؛ لأن الإِصرار هو الشد على الشيء والربط عليه، مأخوذ من الصر، والصرة معروفة. وقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، أي: أنهم مخالفون للشرع بتركهم ما أوجب، أو بفعلهم ما حرم ]، فهم يعلمون أنها مخالفة أو معصية وذنب.[ قوله: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136] الذي هو الجنة ] دار السلام. فهذه هي مفردات الآيات، وقد فهمنا هذا بالأمس، ولكن ما تكرر ازداد يقيناً عند صاحبه.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ معنى الآيات:
ترك المعاصي والذنوب سبب لحصول رحمة الله في الدنيا والآخرة
لما نادى الله تعالى المؤمنين ناهياً لهم عن أكل الربا، آمراً لهم بتقواه عز وجل، وباتقاء النار وذلك بترك الربا وترك سائر المعاصي الموجبة لعذاب الله تعالى، ودعاهم إلى طاعته وطاعة رسوله؛ كي يُرحموا في دنياهم وأخراهم ]، وهذا قد تقدم في الآيات السابقة وهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132]، ثم هنا ناداهم بقوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133] الآية.قال: [ أمرهم بالمسارعة إلى شيئين: الأول: مغفرة ذنوبهم، وذلك بالتوبة النصوح ]، والتوبة النصوح: هي التي لا يعود صاحبها إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع، فإذا حلبنا من شاتنا أو بقرتنا أو ناقتنا لبناً فهل في الإمكان أن نرده إلى ضرعها؟! مستحيل، فكذلك التوبة النصوح، فإذا تاب عبد الله أو أمة الله من كبيرة من كبائر الذنوب لن يعود إليها أبداً، والله هو الذي انتدبنا لهذا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] فوصف التوبة بالنصح. [ والثاني: دخول الجنة التي وصفها لهم، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، أي: أحضرت وهيئت للمتقين، والمسارعة إلى الجنة هي المسارعة إلى موجبات دخولها، وهي الإيمان والعمل الصالح، إذ بهما تزكو الروح وتطيب فتكون أهلاً لدخول الجنة ].إذاً: ندبنا الله للمسارعة إلى شيئين: الأول: التوبة النصوح، والثاني: دخول الجنة؛ لأن من تاب بقيت نفسه طاهرة زكية مشرقة، فإذا لفظ ألفاظه الأخيرة خرجت نفسه والله إلى الجنة دار السلام، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]. ].مرة أخرى: قال ربنا عز وجل وهو يخاطبنا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، الذين صفاتهم كذا وكذا، فهيا نسارع إلى مغفرة ذنوبنا بالتوبة النصوح، ومتى تبنا غُفرت ذنوبنا، ثم المسارعة إلى الجنة بالإيمان والعمل الصالح، إذ هما سلم الرقي إلى دار السلام، فمن آمن وعمل صالحاً زكت نفسه وطابت طهرت، وبالتالي من يردها أو يصدها عن دخول الجنة؟! [ هذا ما تضمنته الآية الأولى ].
صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام
قال: [ وأما الآيتان الثانية والثالثة فقد تضمنتا صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام ]، أي: تضمنت الآيتان بعد الأولى صفات المتقين الوارثين لدار السلام، إذ الجنة لها ورثة هم المتقون، فلا يحل أن تقول: بنو فلان أو بنو فلان، أو أصحاب كذا أو كذا، بل كلمة واحدة ما ننساها وهي: إن ورثة الجنة هم المتقون، والمحرومون هم الفاجرون، إذ لا حق ولا نصيب لهم فيها أبداً؛ لأن الجنة موروثة وورثتها المتقون، وتذكرون إبراهيم لما سأل الله فقال: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، وقال تعالى في آية أخرى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].إذاً: المتقون هم الوارثون للجنة، لا لأنهم بيض أو سود أو أغنياء أو فقراء أو عاصروا الأنبياء والمرسلين، وإنما هم قوم زكت نفوسهم بفعل المأمورات والمحافظة على زكاتها بترك المحرمات، فيأتي ملك الموت وأعوانه والروح مشرقة طيبة طاهرة، غير ملوثة بالشرك ولا بالكفر ولا بكبائر الذنوب، فتدخل هذه الروح الزكية الطاهرة الجنة دار السلام. قال: [ فقد تضمنتا صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام، فقوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، هذا وصف لهم بكثرة الإنفاق في سبيل الله ]، لا في سبيل الوطن، ولا رياءً، ولا سمعة، ولا مباهاة، ولا مفاخرة، ولكن في سبيل الله، وسبيل الله كل ما يوصلك إلى رضا الله، إذ كل ما يصل بك إلى رضا الله ليرضى عنك فهو سبيل الله، وبالتالي فالإنفاق على الفقراء، على المساكين، على المحتاجين، على اللاجئين، للإعداد، للجهاد، كله في سبيل الله. قال: [ هذا وصف لهم بكثرة الإنفاق في سبيل الله، وفي كل أحايينهم من غنىً وفقر وعسر ويسر ]، ما هو في وقت معين فقط، بل في الصيف والشتاء والربيع والخريف، في الرخاء والشدة، في اليسر والعسر، في أي الأحوال فهذا شأنهم دائماً. [ وقوله: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، وصف لهم بالحلم والكرم النفسي ]، والحليم لا يرد السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، فإن شتمه أو سبه أحد فلا يرد السب بالسب، وإنما يقول: عفا الله عنك، سامحناك، جزاك الله خيراً. [ وقوله: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وصف لهم بالصفح والتجاوز عن زلات الآخرين تكرماً، وفعلهم هذا إحسان ظاهر، ومن هنا بشروا بحب الله تعالى لهم، فقال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] ]، ولفظ (الإحسان) عام، وإن كان هنا إحسان إلى إخوانهم بعدم الإساءة إليهم، والإحسان أيضاً هو إتقان العمل وتجويده والإتيان به على الوجه المطلوب، وذلك من شأنه أن يزكي النفس ويطهرها، فإذا زكت النفس وطهرت أحبها الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، أما الخبث فلا يحبه الله. [ كما هو تشجيع على الإحسان وملازمته في القول والعمل ]. فقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، إعلان عن حب الله لهم، وفي هذا تشجيع للناس على أن يواصلوا الإحسان ولا يتخلوا عنه أبداً. [ وقوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] ]، أي: ذكروا الله أنه حرم هذا، أو أبغض هذا، أو منع هذا، أو توعد بهذا، فذكروا أمر ونهيه، وعلى الفور -بالفاء- فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135].قال: [ وصف لهم بملازمة ذكر الله وعدم الغفلة، ولذا إذا فعلوا فاحشة -ذنباً كبيراً- أو ظلموا أنفسهم بذنب دون الفاحش ذكروا وعيد الله تعالى، ونهيه عما فعلوا، فبادروا إلى التوبة -فقال في بيانها مذكراً للناسين- وهي الإقلاع عن الذنب، والندم عن الفعل، والعزم على عدم العودة إليه، واستغفار الله تعالى منه ]، إذاً: التوبة: الإقلاع، أتعرفون معنى قولنا: أقلعت السفينة؟ فكذلك أقلع عن الذنب، أي: انفصل عنه وتركه، كأن يكون في يده السيجارة فيرميها إلى الأرض، أو في يده خاتم ذهب فيرمي به كما فعل أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقوله: (والندم على الفعل)، وذلك أن العبد المقصر يقول يوم القيامة: آه! يا ليتني لم أمش في هذا الطريق، ولا جالست فلاناً، ولا فعلت كذا وكذا مع فلان.وقوله: (والعزم -الباطن- على عدم العودة إليه) كيف ما كانت الأحوال، فهذه هي التوبة، وأما الاستغفار ما ننساه، وأذكركم بأن هناك من عباد الله من أهل التوبة يستغفرون الله كلما ذكروا ذنباً قارفوه ولو من سبعين سنة، إذ قال تعالى في سورة ق مخاطباً أهل الجنة: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:32-35]. فقوله تعالى: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق:32]، الأواب: الرجاع، كلما زلت قدمه رجع إلى ربه، فلا يبيت ولا يقضي ساعة ولا دقيقة على ذنب، والحفيظ الذي لا ينسى ذنبه أبداً، فيذكر أنه فعل ذنباً عام كذا، ما أن يذكره حتى يقول: أستغفر الله، وقد تذرف عيناه الدموع، لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:32-33]، قلبه دائماً يرجع إلى الله، فلا يغفل لحظة أبداً.وقوله: (واستغفار الله تعالى منه)، أي: يقولون: أستغفر الله، أستغفر الله، غفرانك اللهم، رب اغفر لي، كل هذه الصيغ متلونة، فمرة يقول: أستغفر الله، ومرة يقول: غفرانك، ومرة يقول: رب اغفر لي، وقد كان الصحابة يعدون لرسول الله في الجلسة الواحدة: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، مائة مرة، فهذا عبد الله بن عمر -الذكي- يقول: ( كنا نجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدثنا ويعلمنا ويقص علينا، ولكن من اللحظة إلى اللحظة يقول: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، فنعد له هذا القول مائة مرة )، وأنتم على الأقل قولوه مائة مرة في أربع وعشرين ساعة، أو فيه صعوبة؟! قال: [ وقوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] ]، أي: علموا أن من تاب تاب الله عليه، وهذه من عقائدنا وأخلاقنا وآدابنا، ونحن موقنون بذلك ولا نتردد فيه، فقوله: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، أي: من قبل أن من تاب تاب الله عليه، إذ كيف يصر إذاً؟! لو كانوا لا يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، فإن العاصي سيقول: ما دمت أني هالك إذاً أبقى في ذنوبي ومعاصيَّ، لكن لعلمهم السابق أن من تاب تاب الله عليه، هذه الحال تجعلهم يتوبون ولا يترددون في ذلك أبداً، وهكذا روي عن مجاهد، ولا يتنافى مع ما فسرنا به الآية، وورد أيضاً: ( ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة )، إذاً: الاستغفار وهو كلمة: أستغفر الله وأتوب إليه، لو فرضنا أن شخصاً كلما استغفر وسكت أذنب ذنباً، ثم زاد فاستغفر ولو سبعين مرة، ما ضره ذلك، وهذا من باب الفرض، وإلا لا يعقل أن يوجد من يذنب في اليوم سبعين مرة ويتوب سبعين مرة! لكن إن فرضنا هذا.والشاهد في قوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]: أن من تاب تاب الله عليه، وهذا الذي جعلهم يتوبون ولا يصرون أبداً، أما لو كانوا لا يعلمون أن من يتوب يتوب الله عليه، عند ذلك يقولون: إذاً هلكنا، ولنواصل ذنوبنا، لكن علمهم بأن من تاب تاب الله عليه جعلهم لا يصرون على الذنب أبداً، وإنما يتركونه ويتخلون عنه بمجرد أن يذكروا. [ وقوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، وصف لهم بعدم الإصرار، أي: المواظبة على الذنب وعدم تركه وهم يعلمون أنه ذنب ناتج عن تركهم لواجب أو عن فعلهم لحرام.
بيان جزاء من آمن واتقى
وأما الآية الرابعة فقد تضمنت بيان جزائهم على إيمانهم وعلى تقواهم وعلى ما اتصفوا به من كمالات نفسية وطهارة روحية، ألا وهو مغفرة ذنوبهم كل ذنوبهم، وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ومدح المنان -وهو الله؛ إذ من صفات الله وأسمائه المنان- ما جازاهم به من المغفرة والخلود في الجنة ذات النعيم المقيم، فقال: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136] ]، أي: ونعم ذلك الأجر مغفرة ذنوبهم وإدخالهم الجنة، لا الكسالى ولا البطالين الذين لا يعملون، فسبحان الله! قال: أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136]، فانتبه واعمل يا عبد الله ويا أمة الله الليل والنهار، فالدار دار عمل، ولا تسألن الأجر والجزاء اليوم، فإنك إن عُمِّرت يا عبد الله أو يا أمة الله سبعين سنة، تعاني الفقر والمرض والآلام، وأنت تصوم وتقوم الليل وتذكر الله ليلاً ونهاراً، فإن جزاء صلاتك وصيامك وصبرك أمامك في الدار الآخرة، وفي المقابل تجد الرجل فاجراً ساخطاً فاسقاً، وهو صحيح البنية، قوي الذات، الأكل والطعام متوفر لديه، فأين جزاء كفره وظلمه؟ الجزاء هناك، وهل هناك آية تدل على هذا؟ نعم، يقول تعالى في خاتمة هذه السورة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، هل هناك من يعترض أو يعقب أو يقول: إلا نفس فرعون، إلا نفس لينين زعيم الاشتراكية؟! الكل ماتوا، فهل هناك من ينقض هذا الحكم؟! كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، ما معنى: توفون أجوركم؟ أي: مقابل أعمالكم، فيا أيتها النفس اعملي ولا تطالبي بالأجر اليوم؛ لأن هذه الدار دار عمل لا جزاء، فهل يستطيع العمال أن يشتغلوا ساعتين أو سبعة أيام من الشهر ثم يقولون: تركنا العمل، أعطنا أجر عملنا يا رب العمل؟! هل يعطيهم أجورهم أو يقول لهم: نهاية الشهر؟ نهاية الشهر، وكذلك إذا كانت معاومة، أي: أن استلام الأجر يكون في نهاية العام، وهذه طبيعة البشر، فكذلك البشرية كلها تعمل هنا والجزاء هناك في الدار الآخرة، وقد بين تعالى ذلك فقال: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]. ولا ننسى أن العاملين للصالحات ينالهم حسن وبركة أعمالهم الصالحة، لكن والله ما هو الجزاء، وأن أهل الفجور والظلم والشر ينالهم شؤم معاصيهم، لكن والله ما هو الجزاء، إذ الدار هذه ليست دار جزاء أبداً، وإنما هي دار عمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ).وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-07, 04:48 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (55)
الحلقة (196)
تفسير سورة آل عمران (6)


الدنيا يهبها الله لمن يحب ولمن لا يحب، وما هي إلا متاع زائل عما قليل يتركه العبد وينتقل إلى الحياة الأبدية في الآخرة، التي أعد الله فيها لعباده المؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار، وأعد لهم فيها أزواجاً مطهرة، وأحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً، فيتحقق لهم بذلك النعيم الذي ليس فوقه نعيم.
تفسير قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن يحقق الله تعالى لنا ذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا الرجاء؛ إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِين َ وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:15-17].وهذه الآيات من سورة آل عمران، فهل تعرفون عن هذه السورة شيئاً؟الجواب: عرفنا أنها مدنية، ومرحباً بالمدنيات والمكيات، وعلمنا أن المكيات تعالج العقيدة، تؤهل العبد الصالح لأن يتحمل رسالة الله ويرقى بها إلى الملكوت الأعلى، والمدنيات تحمل الشرائع والأحكام والآداب والعبادات، وكلها أنوار الله.أيضاً: هذه السورة نزلت في وفد نجران الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجادلوه في شأن عيسى عليه السلام، وفيهم نزلت نيف وثمانون آية. أيضاً: من عجيب هذه السورة: أن آخرها نزل قبل أولها بكذا سنة.قال الله تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15]. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] هنا أذكركم بكلمة عمر رضي الله عنه -وتعرفون والحمد لله من هو عمر بن الخطاب - لما نزلت الآية التي درسناها فيما مضى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، قال عمر : الآن يا رب. ما دمت زينتها لنا الآن. فنزل بعد ذلك كالجواب عليه قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] أي: قل: يا رسولنا: هل أدلكم على خير من ذلكم وهو كذا.. وكذا.. وكذا! وكلمة (خير) بمعنى: أخير، وهو اسم تفضيل، وحذفت الهمزة لكثرته اختصاراً، والعرب إذا تكرر اللفظ في لسانهم يعدلون عن القوانين. وفي هذا إشارة لا بأس بها -وإن لم نقف عليها- وهي: أن هذه المزينات من الحرث والأنعام فيها خير متى استخدمت في طلب رضوان الله عز وجل ورضاه ورحمته؛ فإن استعملت ضد ذلك فكلها شر، ووالله لا خير فيها. فمثلاً: حب الشهوات من المشتهيات من الطعام والشراب، والنكاح، والإركاب، هذه إذا كان المحب لها يستعملها وينتفع بها وهو طالب رضا الله ففيها خير، ولكنها لا تساوي خير دار السلام! أيضاً: البنين.. الأولاد، إذا سأل العبد ربه الولد بنية أن يعبد الله عز وجل ويكون في عداد الصالحين، وتزوج لذلك وربى الولد ونماه على ذلك ففي هذا الولد قطعاً خير، ولكنه لا يعادل خير دار السلام، وإن هو أهمله وأضاعه وطلبه فقط ليشتد ساعده به فيطغى على الناس ويأكل أموالهم ويعتز عليهم، فوالله ما فيه خير أبداً.أيضاً: القناطير المقنطرة من الذهب أو الفضة وكثرة المال إذا أخذ عبد الله أو أمته يجمعه لله، وبسم الله، ومن أجل أن يتقرب به إلى الله، فيتصدق به على الفقراء والمساكين والمحاويج، ويبني به المساجد ويعبد به الطرق، ويقدمه للمجاهدين عتاداً حربياً، ففي هذه الحال فيه خير، ولكنه إذا اكتسبه من الحرام، وهو ينفقه في الحرام، وحمله على الكبر والتعالي على البشر، ومنع الحقوق منه، فوالله إنه لشر كله، وليس فيه خير أبداً.أيضاً: الخيل المسومة، إذا اشتراها عبد الله بنية الجهاد عليها والركوب عليها في الغزو والفتح، لنشر: (لا إله إلا الله) ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العلف الذي يعلفه لها والله محسوب له بحبة الشعير، وإذا كان يمتلك الفرس للمباهاة والخيلاء والفخر بها ولا يغزو عليها ولا يجاهد، فوالله إنها لحمل حطب إلى جنهم، ولا خير فيها بالمرة.أيضاً: الأنعام من الإبل والبقر والغنم - الضأن والماعز- إن أنت اكتسبتها واقتنيتها من أجل أن تسد حاجتك، ومن أجل أن تقضي متطلبات حياتك من كساء أو منزل أو زواج أو كذا وربيتها ونميتها وأديت زكاتها، وتصدقت بشيء من الألبان والزبد، فهذا فيها خير، وإن اشتريتها للمباهاة والعلو والفخر والطغيان، ومنعت حق الله فيها لا زكاة ولا صدقة ولا.. ولا، فهي والله لا خير فيها.أيضاً: الحرث، وهو كل عمل ينتج، فنحن حارثون، والحرث: كل ما تكتسبه من طريق العمل؛ زراعة، صناعة، تربية مواشي، العمل وإن كان يتناول البر والشعير، والذرة وأنواع الحبوب، فهذه مزينة من قبل الخالق لها، زينها للفطرة البشرية، فما من إنسان عاقل إلا ويرغب في الحصول على هذه المذكورات الخمس: حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14]، ثم يأتي التعقيب فيقول تعالى: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14]، هذا الذي سمعتم يتمتع به في هذه الدار فقط، لا ينتقل منه إلى الدار الآخرة شيء، فهذه الدار محدودة الزمان، معدودة الوقت، نموت بآجالنا، لا نتقدم ولا نتأخر، ولكن مآلنا الفناء والزوال والرحيل منها إلى الدار الآخرة.هذه الشهوات مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] فافهموا هذا، فلا يحملنكم هذا المتاع على أن تنسوا الحياة الأبدية الخالدة، فإن كانت دار النعيم فلا تسأل عن أنواع النعيم؛ فإنك تعجز عن تقديره بل وتصوره، وإن كانت دار الشقاء.. دار البوار والهلاك.. النار عالم الشقاء، فلا تسأل عن ذلك الشقاء والبلاء والعذاب الأليم.هذه الآيات الكريمة، يقول تعالى في الختام وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، يعلمنا أن عنده حسن المرجع، فيأيها الراجعون! أيها العائدون! إن ربكم عنده حسن المرجع والمآب، فاطلبوه منه، واقرعوا باب الله، سلوه! ‏
معنى قوله تعالى: (للذين اتقوا)
قال تعالى: قُلْ أي: الآن قل يا رسولنا والمبلغ عنا أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] الذي سمعتم، إي والله خير: (بخير من ذلكم) ولكن لبني هاشم؟ للأشراف؟ للأبطال؟ للسادات؟ لمن؟ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15]. أنبئكم بخير مما سمعتم، ولكنه: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15] كذا الشرط؟ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15] من هم الذين اتقوا؟ لا يحصرون في إقليم ولا في جيل، ولا في منطقة، بل كل رجل أو امرأة اتقى عذاب الله عز وجل وجعل بينه وبين عذاب الله وقاية كالحصون والأسوار العالية، وهذه الوقاية لن تكون بالجيوش الجرارة، ولا بالمليارات من الدولارات، ولا بالأنساب والأصحاب، والله لا تكون إلا بطاعة الله ورسوله فقط.إذا أمرك سيدك ومولاك فقل: سمعاً ربي وطاعة، وأقبل على العمل وحاول، فإن عجزت واطرحت، فقل: ربّ إنك لا تكلف نفساً إلا وسعها وقد عجزت عن القيام بهذا الواجب! فمثلاً: مريض يتألم، ما طاق الصوم يرفع حاجته إلى ربه ويضع بين يديه عذره، ويقول: ربّ لقد أحببت ولا أحب لي من الصيام، ولكن كما تراني قد عجزت فاغفر ربّ وارحم وتجاوز عما تعلم!وإذا نهاك سيدك عن عقيدة فاسدة.. عن النظر إلى باطل.. عن قول خاسر، عن عمل سيء فابتعد عنه ما استطعت، اهرب من المنطقة كلها، بل من الإقليم كله حتى تتمكن من طاعة ربك عز وجل! وأما طاعة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهي من طاعة الله، إذ ما أمر رسول الله بغير ما يأمر الله به، ولا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير ما نهى الله عنه، وهؤلاء المتقون الذين اتقوا سخط الله وغضبه وبالتالي اتقوا عذابه، اتقوه بطاعته وطاعة رسوله. وهنا لطيفة! أذكر بها من لم يبلغهم هذا: والله إن طاعة الله وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لا تعدو كونها تؤهلك وتعدك للسعادة والكمال في الدنيا والآخرة، أما الله فهو غني غنىً مطلقاً إذ كان ولم يكن شيء غيره، فلا تفهم أن طاعة الله وطاعة الرسول ضريبة من الضرائب أمرت بها. والله ما في ذلك شيء، فما هي إلا سلم بدرج ترقى بها إلى سعادتك وكمالك، فمن عصى الله ورسوله هبط إلى أن يتمزق.. إلى أن يتلاشى.. إلى أن يصبح من أهل الخسران الأبدي! ومن باب الترغيب وتحريك الضمائر والنفوس تأتي هذه الأساليب القرآنية وإلا فطاعة الله وطاعة رسوله لن تسعد يا ابن آدم ولن تكمل إلا على هذه الطاعة أحببت أم كرهت. ماذا تقولون في طبيب أمامه مريض يقنن له لقمة الطعام بأوقات محددة وكمية لا تزيد ولا تنقص، فيمنعه من كذا وكذا وكذا، ويأمره بأن يفعل كذا وكذا، لأجل ماذا؟ لأجل برئه وشفائه.إذاً: هل هناك من يتهم الطبيب ويقول: لا، هذا يريد أن يضر به. قال: ما تأكل بقلاوة الليلة، ما تشرب العصير، والله له المثل الأعلى: فقط أحببت أن يفهم المؤمن الواعي والمؤمن البصير أن أوامر الله وأوامر رسوله ما هي إلا سلم للكمال والسعادة: أعرضت عن هذه الطاعة هبطت وتمزقت والله العظيم. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] الذي سمعتم من قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [آل عمران:14] الآية: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15]، اتقوا ماذا؟ اتقوا عذاب الله وسخطه. بماذا يتقونه؟ بالإيمان والعمل الصالح، بترك الشرك والمعاصي، والكلمة الجامعة: بطاعة الله وطاعة رسوله. هل يتقى الله بغير هذا؟ لا والله، فلا سور ولا قبيلة تدفع، ولا حيلة تنفع. اتقوا من؟ اتقوا ربهم. من هو ربهم؟ خالقهم. هل يوجد مخلوق بدون خالق؟ مستحيل! فالذي خلق وصور وأوجد في الأرحام وأخرج من ظلماتها إلى نور هذه الحياة، وأوجد اللبن في ثدي الأم بعد كان دماً قانئاً فأصبح لبناً أبيض مشرقاً وحفظ عليه سمعه وبصره وعقله وبدنه، هذا ربه، هذا سيده، هذا خالقه.
وعد الله للذين اتقوا بجنات تجري من تحتها الأنهار
هؤلاء الذين تقوا ربهم ما لهم؟ وما هو هذا الذي سينبئهم به الرسول وهو خير لهم مما ذكر من الشهوات؟ الجواب: لهم عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:15]، الجنات جمع جنة.. بستان، لكن ما كل بستان يقال فيه جنة، فالجنة والجنان إذا كانت أشجاره قد التفت وأصبحت ملتفة ببعضها البعض، أما شجرة هنا وأخرى هناك والشمس تحرق فليس بجنة هذا. وعدد الجنات لا يحصى، ونحن نعرف عنها واحدة.. الفردوس، فأين توجد هذه الجنات؟ في السماء.فإذا قال قائل: كيف لا تسقط، تبقى النخلة في السماء لا تسقط.. القصور لا تسقط؟ فالجواب: إذا خطر ببالك هذا فقل له: يا عدوي، ارفع رأسك إلى هذا الكوكب النهاري.. إلى الشمس، لِم لا تسقط؟ أحكمته يد أمك هناك؟ لم ما سقط وهو أكبر من الأرض بمليون ونصف المليون مرة؟ أو ما في شمس؟ الكواكب تعد حصى الأودية ولا تعدها فوقنا، فكيف ثبتت؟ بأمر من يقول للشيء كن فيكون.نحن أتباع نبي صلى الله عليه وسلم ارتاد الجنة ووطئها بقدميه الشريفتين، ورآها رأي العين، رأى أنهارها، قصورها، حورها، وتجاوزها، والذي يشك في هذا ميت لا قيمة له.لما قلنا: ما وصلوا القمر، لا الأمريكاني الكذاب، ولا الروسي الساحر، فهذا كذب، ماجت الدنيا وضاقت كيف تقول هذا؟ قلنا لهم: هل آمنوا برائد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم الذي ارتحل من مكة إلى فلسطين في لحظات، ومنها اخترق السبع الطباق إلى الجنة؟ لِم لا يؤمنون ونحن نجري وراءهم ونصفق: وصلوا القمر؟ أي قمر هذا؟ ما قيمته؟والحمد لله، ما مضى نصف قرن حتى كذبوا أنفسهم، فيخرج رائد أمريكي فيقول: والله أكاذيب، ما وصلنا القمر وأنى لنا ذلك، فخافوا وسكتوا، لأنه فضحهم منذ سنة أو سنتين فقط. وأما الجنة فارتادها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، واسمعوا الله الجبار يحلف: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ [النجم:1-5] جبريل عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَه ُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً [النجم:6-13] مرة أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15].عجزت الإنس والجن على أن ينقضوا آية من هذا القرآن، فتاهوا في الأرض حيارى وما استطاعوا. وَلَقَدْ رَآهُ [النجم:13] أي: محمد رأى جبريل، أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18] هذا كلام الرحمن الرحيم، هذا الذي حوله العدو إلى المقابر والمآتم يقرأ على الموتى.إذاً: أبواب الجنة ثمانية وأما الجنات والله لا يحصيها إلا الله، والدليل أن أقل واحد له جنتان: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]. إذاً: الجنات لا يحصي عددها إلا خالقها، لكن أبواب الجنة ثمانية، لما تدخل تجد قصورك أنت وجناتك، وهل تعرفون أن أهل الجنة ينظر أحدهم إلى قصر أخيه كالكوكب الغابر في السماء يتراءون منازلهم في العلو كما نتراءى الكواكب في السماء، قولوا: آمنا بالله.
أوصاف أنهار الجنة
قال: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:15]. كم عدد الأنهار؟ اسمعوا الآية المبينة، قال تعالى من سورة محمد صلى الله عليه وسلم والمعروفة أيضاً بـ(القتال): مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15] كم نهر؟ أربعة أنهار: أنهار كاملة من اللبن، وليس لبن أمي ولا غنمتي، بل لبن دار السلام. وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ [محمد:15] الآن الكيلو بمائة ريال، وهناك أنهار تجري من العسل، فأية نحلة أنتجت هذا؟ لا تسأل! لا يحتاج إلى نحل فهذا يتم بأمر (كن فيكون). وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15]، أظنكم تعرفون الخمر، ومواد تركيبها، هذه الخمر حرمها الله تعالى على هذه الأمة؛لأنها أمة الرسالة، أمة الهداية، أمة الريادة، فلم يسمح لهم أن يتجمعوا على كئوب وكئوس الخمر يشربونها؛ فتذهب عقولهم، ويقولون الباطل، وينطقون بالسوء والهجر والكفر! أئمة البشرية هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فلهذا حرمها عليهم تحريماً باتاً، والمدمن لها المواظب عليها ليل نهاراً لن يشربها في دار السلام، والله لن يذوقها، مدمن الخمر لا يذوقها في الجنة أبداً.وإن قلت: علل يا شيخ؟ كيف ذلك؟ فأقول: ما أدمن عليها وواظب عليها أربعين أو خمسين عاماً إلا لأنه ما آمن، إيمانه ليس بسليم ولا صحيح، والله لو آمن ما استطاع أن يعاودها أكثر من ثلاث مرات. وإن شئت أن ترقى رقياً آخر فقل: إذا أدخله الله الجنة يصرف قلبه عن الخمر، فلا يسمع بها ولا يراها ولا يحبها، يصرفه عنها صرفاً كاملاً إذ لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم، فلا يشتهيها ولا يشربها.
الوضوء مفتاح أبواب الجنة
عندنا جائزة: أبواب الجنة الآن موجودة والله، وهناك كلمات تشبه السحر إذا قلتها تنفتح أبواب الجنة لك الآن وأنت في الأرض، اسمعوا أبا القاسم يقرر هذه الحقيقة فيقول فداه أبي وأمي والعالم أجمع وصلى الله عليه وسلم، يقول: ( من توضأ فأحسن الوضوء ) كما شرعه الله في كتابه وبينه رسوله لأمته (ثم رفع طرفه إلى السماء) والطرف: العين، ومنه: أشارت بطرف العين.. ( وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين إلا فتفتحت له أبواب الجنة الثمانية ). كيف تتفتح؟ ليس هناك في فرق بيننا وبينها، آلياً، أبواب المطارات تفتح لك وأنت مازلت بعيداً.. أبواب السيارات في يده آلة يضغط عليها فينفتح باب السيارة.. هذا مثال يقرب المعنى إلينا . إذاً: بمجرد يا عبد الله! يا ولي الله، يا أمة الله المؤمنة تتوضئين وتحسنين الوضوء وترفعين رأسك إلى السماء وأنت المؤمنة وتشهدين شهادة الحق وتسألين الله الطهر والصفاء.. بمجر ذلك تتفتح أبواب الجنة، ولو كنت أمامها والله لدخلت، لكن بيننا وبينها قرون، وسيأتي ذلك اليوم إن شاء الله!
معنى قوله تعالى: (خالدين فيها)
قال: خَالِدِينَ فِيهَا [آل عمران:15]، فلا يخرجون منها أبداً، لا موت ولا تحول أبداً، فأهل الجنة لا يرغبون أن يتحولون عنها أبداً.عندنا لطيفة! نكررها للزائرين: الذين يقرءون سورة الكهف يوم الجمعة لهم جائزة، يقول تعالى في آخرها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:107-108]، أي: لا يطلبون التحول منها أبداً؛ وذلك لوافر نعيمها.وقلنا: الآن سمعنا الذي يسكن في القاهرة المعزية يقول: آه لو زرت باريس، والذي يسكن باريس يقول: آه لو زرت دمشق.. آه لو زرت موسكو وهكذا.. إلا المؤمنون المتقون المهاجرون في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108]، المؤمن الصادق الإيمان، العارف بربه إذا نزل المدينة ونبت فيها وترعرع والله لو يعرض عليه أن يحكم البلد الفلاني والتاج على رأسه لا يخرج من المدينة؛ لأن بها قطعة من الجنة. تعرفون أين هذه القطعة؟ إنها الروضة؛ لقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )، لهذا الجزء في المدينة المؤمنون الصادقون لا يبغون التحول عنها أبداً. يعرض على المؤمن من أهل المدينة: تعال نجعلك أميراً في الرياض، فيقول: لا.. لا. نسند إليك مهام جدة والمواني كلها. فيقول: لا.. لا، لا نخرج من المدينة إلا إذا كان لأمر صدر رغم أنوفنا، كأمر أمير المؤمنين الجهاد فيجاهد ويرجع.اسمعوا! هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدعو الله وبنته أم المؤمنين حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم تسمعه فيقول: (اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك). فتقول: يا أبتاه! كيف هذا؟ الجهاد وراء نهر السند وبالأندلس، وأنت تطلب الموت في المدينة والشهادة؟ كيف تجمع بين الشرق والغرب يعني؟ فيقول لها: اسكتي، فضل الله واسع، ليس شأنك يا حفصة ! واستجاب الله لـعمر، واستشهد في محراب رسول الله، جاء مجوسي منتن عفن مبعوث من قبل الحزب الوطني الإيراني- ليدمر الإسلام وبخاصة عمر نقمة عليه، فهو الذي مزق تاج كسرى ووضعه على رأس سراقة بن مالك بن جعشم - أعطوه التعاليم: أن يقتل عمر وهو يصلي بالمؤمنين، فما إن ركع رضي الله عنه حتى طعنه أبو لؤلؤة المجوسي لعنة الله عليه.والعجيب: لما أغمي عليه رضي الله عنه والدماء تسيل أخذوه فسأل: من القاتل؟ قالوا: أبو لؤلؤة المجوسي. فقال: الله أكبر، الحمد لله، الحمد لله.تحقق طلبه، وجمع الله له بين متباعدات؛ إنه على كل شيء قدير، فكان موته رضي الله عنه شهادة في سبيل الله وموت في بلد رسوله. استجاب الله دعاءه.
المدينة حرام من عائر إلى ثور
عرفتم المدينة أم لا؟ إنها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، واسمعوا! بياناً رسمياً هذه الليلة وفكروا وسترحلون منها، لا حق لكم في البقاء، اسمعوا! يقول صلى الله عليه وسلم: ( المدينة حرام من عائر إلى ثور )، عائر جبل كالحمار؛ لأن العير هو الحمار في لغة العرب. وثور: جبيل صغير رابض وراء أحد من الشمال، أحد في الحرم وجبل في مكة اسمه ثور أيضاً، والعرب يسمونه لأنه كهيئة الثور.
معنى الإحداث في المدينة
يقول صلى الله عليه وسلم: ( المدينة حرم من عائر إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً ). من يتحمل هذه؟ نشرح لكم أم أنكم عالمون؟الذي يؤسس بنكاً ربوياً ويأخذ ويعطي هذا أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! الذي يفتح أستوديو للتصوير في مدينة رسول الله أحدث حدث شر وسوء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: ( لعن الله المصورين ). ويقول: ( إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة: المصورون )! الذي يفتح صالون حلاقة كأنه في لندن أو باريس فيحلق وجوه الرجال ويخنثهم، أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! الذي يورد في الخفاء وبالهمسات الكوكائين والأفيون والحشيشة ويروجها في الخفاء والظلام في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! ولا يخرج من هذه اللعنة بل هو أول مستحق لها.والذي يورد السجائر على اختلافها وتنوعها ليشم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائحة الكريهة في مدينته، مدينة الملائكة والنور ويبيع ويوقع المسلمين الغافلين الجهلة في هذه الفتنة العظيمة أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله!والذي يأتي ببدعة أو خرافة ينشرها في الخفاء وفي البيوت من البدع التي تتنافى مع السنة والكتاب ويروجها في الخفاء كالطرق الصوفية وما إليها هذا أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! أحدث أبشع حدث يفسد على المؤمنين قلوبهم ويدسي أرواحهم.الذي عند بداية العطلة السنوية يوزع مناشير أيها الأبناء تعالوا إلى المكتب أربعين يوماً في لندن تتخرجون علماء باللغة الإنجليزية فيجمع الشبيبة الغافلة ويرمي بها في أحضان الكفر والمسيحية ويتعلمون الرقص والخنا، وشرب الخمر والباطل ويأتي بهم كالمجانين يكرهوننا في زينا وفي لبسنا، هذا أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! فأي حدث أعظم من هذا؟أشار إلي أحد الصالحين: أن الذي يستورد هذه الدشوش أو الصحون الهوائية وينصبه على بيته ليتفرج بكامل أحاسيسه ومشاعره الساعة والساعتين والأكثر فيشاهد مناظر العهر والباطل والخنا والشر والفساد ويسمع أصوات العواهر والمغنين في مدينة الرسول قد أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! آه! لو كان الرسول حياً، يلعنه لعناً يتمزق فيه ويتشتت.إذاً: (من أحدث فيها حدثاً) ما كان موجوداً عندنا في كتابنا ولا في هدي رسولنا بل أحدثه (أو آوى محدثاً) ساعده وناصره وقواه على أن ينشر هذه البدعة أو ينشر هذا الباطل (فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً)، لا فرضاً ولا نفلاً، فالفرائض مردودة والنوافل مردودة.معشر المستمعين والمستمعات! إن شاء الله عرفنا الطريق، فلا نسمع في بيوتنا إلا كلام ربنا، نتملق إلى ربنا، وعندنا إذاعة ربانية لا نظير لها في دنيا البشر، إذاعة القرآن الكريم هذه الإذاعة افتح أبواب أبواقها طول النهار والليل، فلا تسمع امرأة تتكلم ولا تغني، ولا رجلاً يعزف، ولا باطلاً، لا تسمع إلا قال الله.. قال رسوله.. العلم.. الحكمة.. الآداب.. المعرفة.. السياسة السامية الرفيعة. أعرض عن هذه وآتي بإذاعة تغني فيها عاهرة في بيتي؟ أدياثة هذه أم ماذا؟سيقول قائل: يا شيخ لا تلمهم؛ لأنهم ما علموا. إي نعم، لو علموا ما علمتم ما فعلوا، لكن من صرفهم عن العلم؟ لِم لا يحضرون مجالس العلم وهي بالعشرات في الحرمين الشريفين؟ لِم لا يسألون أهل العلم؟ الجواب: لما أصيبوا بما أصيبوا به، ولكن نسأل الله أن يتوب عليهم. اللهم تب عليهم وارحمهم، واغفر لهم يا رب العالمين.
معنى قوله تعالى: (وأزواج مطهرة)
قال تعالى: وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [آل عمران:15]. الأزواج: جمع زوجة. والزوجة تجمع على زوجات، وهي الزوج. فكيف يكون الرجل زوج المرأة زوج؟ لأن الزوج ضد الواحد، لما تكون أنت يا عبد الله وحدك فلست بزوج، فلما نأتيك بالفتاة إلى جنبك تصبحان زوج، ومن أجل التنزل مع العوام حتى لا يتضايقوا نزيد التاء؛ لأن التاء تؤنث الذكر، عرفتم: زوجة، لكن القرآن لغته راقية. وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [آل عمران:15] من دم الحيض والنفاس، فنساء الجنة والله لا يلدن ولا يحضن فالحيض دم منتن عفن، فنساء الجنة مطهرات من البول والغائط.وأما الطعام الذي أكلته والماء الذي شربته فيتحول الطعام إلى جشاء والماء إلى عرق والله لأطيب من أطيب مسك في دنيا البشر.وهنا أقص عليكم قصة ألطف بها جوكم؛ لأنكم متألمون من طول الدرس: ركب مسيحي لبناني في سيارة أو قطار مع مسلم سني، فأخذ المسيحي يسخر من السني، فيقول: يقولون: أنتم تؤمنون بالجنة، ونحن نؤمن بها، ولكن الجنة أرواح فقط ليس فيها أبدان -هذا معتقد النصارى الهابطين- وتقولون: إن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون، فكيف تصبح بطونهم؟ مراحيض يعني؟ فألهم الله السني المؤمن وهو ليس بعالم -ولكن وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83]- فقال له: يا هذا! الغلام عندما يبلغ السادس من الشهور يتغذى أو لا؟ فقال: من الشهر الرابع ونصفه وهو يتغذى وينمو على الغذاء. فقال له: وهل بطن أمه أصبح مرحاضاً؟ أين بول هذا الولد وأين غائطه؟ فألقمه حجر وأسكته. فالغلام بمجرد ما يخرج من بطن أمه يبول، فلم ما بال بالأمس في بطن أمه؟ قولوا: آمنا بالله.إذاً: مُطَهَّرَةٌ [آل عمران:15] من كل ما هو أذى، بول أو غائط أو مخاط.
رضوان الله على عباده أكبر من أي نعيم
قال الله: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:15] هذا أكبر! رضا الله أكبر من النعيم كله، وعندنا مثل حي: يا أبا جميل لو تنزل في دار أحد الصالحين، ويقول: ابق عندنا كل واشرب والبس، وهو دائماً غضبان عليك، لا يكلمك ولا ينظر إليك، يتقزز منك، أسألك بالله: ذاك الطعام والشراب يروق لك؟ هل ستشرب بسعادة؟ والله تخرج، تصبر شهرين أو ثلاثة وتقول: مادام يكرهني لا أنزل عنده أبداً.فلهذا نعيم الجنة كله لو فقد رضا الله ما كان شيئاً، ولهذا قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]، نعم لأن يرضى علي سيدي ولو حرمني الطعام والشراب المهم أن يكون راضياً عني، أما إذا كان ساخطاً ما قيمة الأكل والشرب واللباس؟!
معنى قوله تعالى: (والله بصير بالعباد)
قال: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15]، بصير عليم خيبر بالعباد. لم هذه الجملة(وَاللَّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )؟ هذا النعيم المقيم لمحمد ورجاله، أم لأهل نجران من النصارى الصليبيين الذين يتبجحون ويقولون: هذا ابن الله ونحن.. ونحن، وغير ذلك من الهراء. إن الله بصير بالعباد، فينزل منازل الأبرار في دار السلام من هم متأهلون لها، ويطرد الآخرين ويرمي بهم في أتون الجحيم. ما هي بالسحر والتدجيل والباطل، تقولون هكذا جزافاً: نحن أولياء الله، فهذا لا ينفع؛ لأن الآيات في وفد نجران وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الذين هم أهل لهذا النعيم المقيم والذين ليسوا له بأهل فمأواهم الجحيم، شرابهم الحميم، وطعامهم الزقوم.
تفسير قوله تعالى: (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا...)
قال الله: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]. الَّذِينَ يستحقون هذا النعيم يَقُولُونَ رَبَّنَا أي: يا ربنا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]، هذه صفة الذين يقولون ربنا إننا آمنا بك وبلقائك وبرسولك وكتابك ووعدك ووعيدك، وبكل ما أخبرتنا به وأمرتنا بالإيمان به. ‏
التوسل إلى الله بالإيمان والعمل الصالح
إذاً: نتوسل إليك بإيماننا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16] هذه أنفع الوسائل. إننا آمنا يا ربنا فاغفر لنا، توسلوا إلى الله ليغفر ذنوبهم بماذا؟ بجاه فلان أو سيدي فلان؟ آه، ماذا فعل الثالوث الأسود؟ حرموا هذه الأمة يا أبنائي قروناً إلا من شذ وندر؛ حرموهم من التوسل إلى ربهم وأعطوهم فقط وسيلتين منتنتين لا خير فيهما، ولا تنفعان لا في الدنيا والآخرة: اللهم إني أسألك بحق فلان وجاه فلان، تدخل قرية الصعيد بكاملها فلا تجد أحدهم يتوسل إلا بسيدي فلان، لا يوجد منهم من يفهم أنه يقوم في الليلة الباردة يغتسل ويصلي ويبكي ويسأل الله حاجته! لا يتوسل إلى الله وبطنه يؤلمه من الجوع لما يقف جائع عند الباب فيحرم نفسه ليواصل الجوع طول الليل ويطعم ذلك المسكين ويسأل الله بذلك. لا، فهم لا يتوسلون إلابـ: أعطني بحق فلان، وأعطني بجاه فلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.بم توسل هؤلاء المؤمنون من أهل الجنة؟ بإيمانهم بربهم، اللهم إنا آمنا بك وبرسولك فكفر سيئاتنا، أو أذهب هذا الهم والغم عنا، اشف مرضانا.
مجالس العلم هي طريق المعرفة والرقي
الناس اليوم لا يعرفون كيف يتوسلون؟ لماذا لا يعرفون كيف يتوسلون؟ لأنهم طردوا من ساحات النور الإلهي، أبعدوا عن مجالس العلم، والعلم يطلب ولا ينزل عليك وحياً، وإنما العلم بالتعلم. وهذا ابن عباس رضي الله عنه كان يحصل له إشكال في آية أو في حديث أو حادثة ورسول الله قد مات، وأبو بكر مات، فيأتي إلى باب الصحابي في المدينة ويجلس عند الباب، يستحي أن يقرع الباب، فيبقى ينتظر الساعتين والثلاث حتى يخرج الصحابي! ما الذي يحصل؟ المدينة غبار ليس فيها بلاط ولا إسمنت، والغبار يأتي عليه وعلى وجهه، وهو صابر حتى يخرج عمر أو علي أو عبد الرحمن فيقول: يا ابن عباس كيف هذا؟ يقول: أمرنا بالتأدب معكم. بهذا ورثنا العلم وعلمنا وأصبحنا علماء، أما نحن إن نسأل فنسأل بسخرية واستهزاء -جربنا العوام- أو لا نسأل. لماذا لا نسأل؟ كيف نعرف الله حتى نحبه؟ كيف نعرف الله حتى نخافه؟ الشيء الذي لا تعرفه تحبه؟ لا تحبه أبداً. إذاً: هيا نعود، يجب على المسلمين في قراهم، في جبالهم، في تلالهم، في سواحلهم، في أوديتهم، حيثما كانوا، عرباً أو عجماً أن يراجعوا الطريق الذي سلكه رسول الله وأصحابه وأحفادهم، فليس بصعب هذا ولا مستحيل، فلا نكلفك يا بني سوى أن تطرح قلبك لله ووجهك وأن تسلم وجهك لله: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، فقط أهل القرية يتعاهدون على أنه لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا طفل عن صلاة المغرب والعشاء في مسجدنا، ونوسع المسجد، إذا ضاق نوسعه، وبلغنا: أن ناساً أخذوا بهذه الدعوة وقالوا: ضاق المسجد علينا ونحن نوسع أعينونا، فأعانهم الصالحون، وقال: ما أصبحنا نرى بعد غروب الشمس رجل ولا امرأة في القرية، كلهم في بيت الرب يصلون المغرب ويجلسون هذه الجلسة ومكبرات الصوت متوفرة منة من الله عز وجل، نساءنا وراءنا ورجالنا أمامنا والستار بيننا، وأطفالنا بين أيدينا، ونتلقى الكتاب والحكمة، ليلة آية من كتاب الله، وأخرى حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوماً بعد يوم وعاماً بعد عام فلا تمضي عدة أعوم إلا أهل القرية كلهم أولياء الله، انتفى بينهم الحسد والبخل والغش، والخداع والنفاق والباطل والشرك؛ انمحى بأنوار الكتاب والسنة. هل هذا فيه صعوبة؟! مستحيل هذا؟! اليهود والنصارى الذين نجري وراءهم ونهتم بهم ونقتدي بهم ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا دقت عندهم الساعة السادسة أوقفوا دولاب العمل كله وذهبوا إلى المقاهي والملاهي، وإلى المراقص والمقاصف ودور السينما يروحون -كما يزعمون- على أنفسهم، ونحن أهل الإيمان، أهل السماء والأرض أين نذهب؟ في الأباطيل والتراهات والكلام السيئ.. وهكذا. كيف نتعلم؟ دلوني؟ والله لا طريقة إلى إنقاذنا إلا هذا أحببنا أم كرهنا، مع أنه لا يكلف شيئاً، والله إن أعمالنا النهارية الدنيوية لتقوى وتصبح أعظم، إذ يوجد عزم وصدق وربانية فلا غش ولا خداع ولا باطل، فنشتغل ثمان ساعات أكثر من أربعين ساعة عند اليهود والنصارى. ماذا أضعنا؟ كل ما في الأمر أنها ساعتان من غروب الشمس تغلق الدكاكين والمقاهي والعمل، نغلق كل شيء ونتطهر ونأتي بأزواجنا وأولادنا إلى بيت ربنا فنتعلم في صدق الكتاب والحكمة، ولا نزال نسمو ونرتفع حتى نصبح كالكواكب في السماء، ولا تسأل عما يفتح الله به علينا بعد ذلك.إذاً: صفات أهل الجنة: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران:16]، يعترفون بذنوبهم أولا، ويطلبون من سيدهم المغفرة، ويتوسلون إليه بإيمانهم وأن يقيهم عذاب النار، خائفين، أي نعم.ومنهم أيضاً: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِين َ وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17] وهذا نأتي عليه في درس آخر إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-07, 04:52 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (56)
الحلقة (197)
تفسير سورة آل عمران (60)


يحث الله عز وجل عباده على المسارعة إلى التوبة وعدم التسويف فيها، إذ المسارعة إلى التوبة دليل التقوى وحياة القلب، ولا يزال العبد بخير ما أحدث توبة بعد الذنب، وأقبل على الأعمال الصالحة من إنفاق في سبيل الله، ومعاملة لعباد الله بالإحسان، فإن ذلك يسد الخلل ويجبر التقصير، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
مراجعة لما سبق تفسيره من سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وصح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أتى هذا المسجد -يشير إلى هذا المسجد النبوي- لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )،وقال عليه الصلاة والسلام: ( إذا صلى -أحدنا- العبد الفريضة، وجلس في المسجد ينتظر الأخرى؛ فإن الملائكة تصلي عليه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى يفرغ من الصلاة ويخرج من المسجد )، فلو دفعنا أرواحنا لأن نظفر بهذا الخير ما اتسعت لذلك، ولو خرجنا مما نملك على أن نظفر بهذا الخير ما يكون ذلك كافياً، ولكن فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].أعود فأقول: أسألكم بالله من نحن وما نحن حتى يذكرنا الله في الملكوت الأعلى؟! قطعاً يذكرنا بخير، ويباهي بنا ملائكته.وأخرى أيضاً: من نحن وما نحن حتى تصلي علينا ملائكة الله فتقول: اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم، طيلة ما نحن في بيت الله ننتظر الصلاة؟ إنه لا يسعنا ألا أن أقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، إذ ملايين البشر والله محرومون من هذا، ولا يُعطونَه ولا يظفرون به، ونحن هيأنا الله بفضل منه وإحسان، وأهلنا لهذا الخير، فهيا نحمد الله فنقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.معاشر المستمعين والمستمعات! بالأمس ظننا الوقت قد انصرم وما ذكرنا ما في هذه الآيات من هدايات، فنعود إليها الآن إن شاء الله بعد أن نتلوا الآيات تذكيراً لكم بها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].هذه الآيات الخمس لها هدايات؛ إذ كل آية تحمل هداية، وأُذكركم أن بالقرآن الكريم ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، كل آية تدل دلالة قطعية على وجود الله عز وجل رباً وإلهاً، عليماً حكيماً، قوياً قديراً، وتدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات رسالته، وبيان ذلك: هل يوجد كلامٌ بدون متكلم؟ مستحيل، وبالتالي فهذه الآية تكلم بها الله وأوحاها إلى من أوحاها إليه وأنزلها عليه، فهي تدل دالة دلالة قطعية على وجود الله، ووجود الله عز وجل -كما علمتم- لابد من علم أحاط بكل شيء، ولابد من قدرة لا يعجزها شيء، ولابد من رحمة لا يخلو منها شيء، ولابد من حكمة لا يخلو منها شيء في الكون، فالله عز وجل القوي، القدير، العليم، لحكيم، الرحيم، لا إله إلا هو ولا رب سواه.والنبي محمد صلى الله عليه وسلم أين هو؟ هناك قبره الشريف وإلى جنبه صاحبيه أبي بكر وعمر، وتلك الحجرة حجرة الصديقة عائشة رضي الله عنها، وهذا مسجده وتلك روضته، وقد عاش آباؤنا أباً عن أب إليه صلى الله عليه وسلم، فنحن موقنون بوجود رسولنا في بيته في حجرته أكثر من يقيننا بوجودنا الآن في مسجده، فهذا النبي العربي صلى الله عليه وسلم عاش أربعين سنة أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ثم بعد الأربعين سنة يتفوق بحيث والله الذي لا إله غيره ما وصل ولن يصل إلى مستواه العلمي كائناً من كان، وهذا القرآن الكريم تحدى الله به الإنس والجن على أن يأتوا بمثله فعجزوا، على أن يأتوا بسورة فقط فعجزوا، وما زال التحدي قائماً إلى يوم القيامة، واقرءوا قول الله تعالى من سورة البقرة المدنية: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24]، قال العلماء: هذه الجملة: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، لا يقدر على قولها إلا الله، ووجه ذلك: لو أن اليابان الصناع اخترعوا آلة صناعية من نوع الآلات المستعملة في هذه الحياة، فهل تستطيع اليابان أن تقول: نتحدى البشر لمدة سبعين سنة أن يوجدوا نظير هذه القطعة أو هذه الآلة؟ والله لا يقولون، كذلك روسيا البلشفية الحمراء الملحدة التي تفوقت على الصين واليابان، هل تستطيع أن توجد قطعة من قطع الآلات وتقول: نتحدى البشرية أن توجد مثلها؟ الجواب: لا.فلهذا قول الله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، لا يقول هذا إلا الله؛ لأنه بيده ملكوت كل شيء، فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه وعلمه وقدرته، فهو يعلم أنه لا يوجد أبداً ولن يوجد من يأتي بسورة من مثل هذا القرآن فضلاً عن الإتيان بمثله، ومن ثم طأطأت البشرية والجن رءوسهم، ولم يستطيعوا أن يأتوا بسورة من أميٍ مثل محمد صلى الله عليه وسلم تحمل الهداية والنور للبشرية إلى اليوم.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات:أولاً: وجوب تعجيل التوبة وعدم التسويف فيها لقوله تعالى: وَسَارِعُوا [آل عمران:133] ]، والمسارعة: المبادرة بدون توانٍ، وقد علمنا معشر المؤمنين والمؤمنات! ما أجمع عليه أهل هذه الملة وهو: أن التوبة تجب على الفور، ولا يحل لمؤمن أن يقارف ذنباً ويؤخر التوبة ساعة أو أسبوعاً أو يوماً أو أياماً أو أعواماً، بل إذا زلت القدم وسقط عبد الله في الذنب قال: أستغفر الله وأتوب إليه، ولينفض الغبار عنه وليواصل سيره وطريقه إلى ربه، ولا يقول: سأتوب بعد كذا أو يوم كذا أو عندما يوجد كذا، فإن هذا حرام بالإجماع، إذ لا يحل تأخير التوبة أبداً، نعم قد تعترض العبد أو الأمة وهو في طريقه إلى الله شيء من العقبات أو الهواجس أو الوساوس فيقع، فيلزمه أن يعجل بالتوبة على الفور، وليواصل سيره إلى دار السلام، أما أن يؤخر التوبة فإنه لا يدري هل يعيش ساعة أو لا يعيشها؟ من يضمن له أن يعيش كذا عاماً أو يوماً أو ساعة؟والقرآن الكريم هداية الله تعالى، فنذكر ما قد علمتم وفهمتم وزادكم الله علماً، فيا أهل القرآن! إذ قال تعالى من سورة النساء: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، هذه الصيغة تفهمون منها أن الله أوجب على نفسه هذا الحق، ولا يوجب على الله أحد، ولكن هو يتفضل ويوجب على نفسه ليطمئننا أن هذا حق لنا على الله، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، لمن؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، والسوء يا أهل العلم! كل ما يسيء إلى النفس بالظلمة أو النتن والعفن، كل ما يؤثر على النفس فيفقدها النور والصفاء. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، وليس معنى (بِجَهَالَةٍ): فقط الذي يعرف أن الله حرم هذا أو أوجب هذا معرفة يقينية ثم يسخر أو يستهزئ أو يرفع كتفيه أو يخرج لسانه ساخراً، فإن مثل هذا لا يتوب الله عليه؛ لأنه أذنب متحدياً لله خارجاً عن طاعته، إذ الذي يتوب ويقبل الله توبته من يعمل السوء بجهالة، أي: نوع من الجهالة، كأن لا يعرف الحكم، أو أن يقول: إن شاء الله سيتوب الله عليّ، أو يقول: لو كان هذا يُغضب الله قلمَ فعله الشيخ الفلاني؟! فلابد من نوع من الظلمة حتى يقوى ويقدر على فعل هذه المعصية، لا أنه كإبليس يتحدى الله ويتكبر عن عبادته، وهذه لطيفة دل عليها قوله: يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17].وأما الثانية: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، والقرب هنا نسبي، فنحن لا ندري نسبة هذه القرب، وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تكون على الفور، فإذا زلت القدم فقلت كلمة السوء، أو نظرت النظرة المحرمة، أو ألقيت بلقمة محرمة في فيك، فعلى الفور الفظها وألقها بعيداً عنك، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]. وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، فعجلوا قبل فوات الوقت، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، وتكون بالتوبة النصوح، وإلى جنة: عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، وذلك بزكاة النفس وطهارتها.إذاً: [ وجوب تعجيل التوبة وعدم التسويف فيها ]، فكم إنسان يقول: سأتوب حتى أتزوج! حتى أتوظف! حتى يجيء والدي! حتى نحصد! وفجأة يأتيه الموت فيموت، ولذا فالدين النصيحة، فيا عبد الله! اسأل الله أن يحفظك أن لا تقع في ذنب، وإذا قُدِّر ووقعتَ فعجل بالتوبة، والتوبة ليست أثقالاً ولا أحمالاً لا تطاق، إنما التوبة أولاً: اللهج الصادق بقول العبد: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر لله، مع ندم يَمَضُّ في قلبك ويؤلمك، والبعد عن هذه السيئة، اللهم إلا إذا كان الذنب يتعلق بأخيك، كأن قذفته، أو أكلت ماله، أو نهشت عرضه، فعند ذلك لابد وأن تطلب منه العفو والصفح والمسامحة، أو تعطيه وتمكنه من نفسك ليقتص.فإن قال قائل: كيف أمكنه من نفسي؟! فأقول: تذكرون حادثة بلال رضي الله عنه عندما عيَّره أبو ذر الغفاري بأمه وقال له: يا ابن السوداء -وهو في الحقيقة ابن امرأة سوداء- فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( تعير أخاك وتقول له: يا ابن السوداء، إنك امرؤ فيك جاهلية )، فماذا فعل أبو ذر الغفاري؟ جاء فطرح رأسه على الأرض وقال: لا أرفع هذا العنق من الأرض حتى تطأه برجلك يا بلال! فهذا هو جزائي، ولذا فمن الجائز أن تأتي إلى أخيك وتقول: أنا أخذت مالك، أو فعلت كذا وكذا في حقك، وأنا الآن بين يديك، فخذ حقك، أما إذا كان الذنب بترك واجب أو بفعل محرم مما حرم الله، فالتوبة هنا هي الاستغفار والندم والإقلاع الفوري والعزم ألا عودة إلى هذا الذنب بحال من الأحوال.إذاً: هداية وَسَارِعُوا دلت على وجوب التوبة على الفور. [ ثانياً: سعة الجنة، وأنها مخلوقة الآن لقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] ]، فالذي دلنا على أن الجنة موجودة الآن ولم توجد بعد هو الله؛ لأن الذي خلقنا هو خالقها وموجدها، وقد أخبرنا فقال: (أُعِدَّتْ)، أي: هيئت وأحضرت للمتقين، فهي محضرة معدة موجودة والله العظيم. [ ثالثاً: المتقون هم أهل الجنة وورثتها بحق ]، ودل على هذا الحكم قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، فمن أعدها؟ الله، وهل يستطيع غير الله أن يعدها؟ لو تجتمع البشرية كلها على أن توجد فقط كوكب القمر أو كوكب الشمس لا تستطيع.إذاً: تلك الجنة التي وصفها خالقها بما لا مزيد عليه في كتابه، وقبل وفاة رسوله صلى الله عليه وسلم رفعه إليها، ومشى فيها، فشاهد أنوارها وقصورها وأنهارها، ومشى بقدميه على تربتها، وكان أول رائد عرفته البشرية، ولم يبق في ذلك مجال للريب أو الشك، أو يقال: إن الجنة مجرد خيالات.إن هذه الجنة موروثة وورثتها هم المتقون، إذ قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، والسبب والعلة والحكمة في ذلك: أن المتقين طهروا أرواحهم وزكوها بالعمل الصالح والبعد عن العمل الفاسد، فأرواحهم زكية طاهرة، وهذه الأرواح الطاهرة هي التي يرفعها الله إليه ويدخلها دار السلام في جواره، أما الأرواح الخبيثة العفنة المنتنة من أوضار الشرك والذنوب والآثام فليست متأهلة للجنة دار السلام.وبعد أن عرفنا ذلك فهيا نتق الله عز وجل، فلا نخرج عن طاعته وطاعة رسوله، وإن زلت القدم وأعمانا العدو -إبليس- وغرر بنا فعلى الفور -وهم يعلمون أن من تاب تاب الله عليه- نستغفر الله، ونعزم على عدم العودة إلى ذلك الذنب، فيبقى ذلك الطهر وذلك الصفاء كما هو؛ لأن المتقي اتقى عذاب الله بفعل طاعته بما أمر وترك ما نهى، إذ المأمور به يزكي النفس والمنهي عنه لا يلوثها، بل يبقيها على طهارتها وصفائها. وهذا بيت من الشعر نستطيع أن ننظر إلى حقيقته من خلال هذه الآيات: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبسفيا عبد الله! ترجو النجاة من ماذا؟ من الماء أو لا؟ إن السفينة لا تجري على الرمل والتراب، إنما تجري على الماء، وبالتالي كيف ترجو النجاة يا عبد الله! ولم تسلك مسالكها؟! إن مسالك النجاة هي التقوى، الإيمان والعمل الصالح والبعد عن الشرك والكفر والمعاصي، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، فهل أنت تريد هذا أو لا؟ هل سلكت مسالك الجنة فمحوت ذنوبك واستغفرت الله منها وعملت الصالحات؟ [ رابعاً: فضل استمرار الإنفاق في سبيل الله ولو بالقليل ]، إذ الاستمرار والمداومة على النفقة في سبيل الله ولو بالقليل كحبة عنب أو شق تمرة، خيرٌ من العمل الكثير المنقطع، إذ قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة )، والآن من يشق التمرة نصفين فيأخذ نصفها والنصف الآخر لغيره؟! هل هذا موجود؟ لقد كان أحدهم يتغذى والله بشق تمرة يوماً كاملاً، وتبقى النواة في فمه يمصها ويتلَّهى بها اليوم واليومين، فهيا نحمد الله تعالى على نعمه الكثيرة علينا، فإن رأيت أخاك في حاجة إلى شق تمرة فأعطه، وتكون بذلك قد اتقيت عذاب الله بشق تمرة، ومعنى هذا: اتقوا النار يا عباد الله! بالحسنات، كبيرة كانت أو صغيرة، قليلة أو كثيرة، المهم أن تقي نفسك من عذابه، فإذا ما وجدت إلا نصف تمرة شققتها بينك وبين أخيك وأعطيته نصفها.قال: [ فضل استمرار الإنفاق في سبيل ولو بالقليل ]، ودل على ذلك قول الله عز وجل: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أي: في حال اليسر وفي حال العسر وفي حال الحبس، إذ إنهم دائماً ينفقون، سواء القليل بالقليل والكثير بالكثير، وهذه المواصلة هي التي رفعتهم إلى هذا العنان من الكمال، والآية ترغبنا في النفقة طول الحياة، وليست من رمضان إلى رمضان، لكن في حدود الطاقة، فالذي عنده حفنة يعطي منها، والذي عنده تمرة واحدة يقسمها أيضاً بينه وبين أخيه ولا يقول: هذا الشيء قليل، وعند ذلك أمة هكذا لا يوجد فيها فقر أو احتياج، بل في هذه الظروف بالذات لو أقبلت أمة الإسلام في كل ديارها على الله في صدق لتجلى الكمال في ديارها بصورة لم تحلم به البشرية، لكن مع الأسف سحرونا وأبعدونا عن الله ونحن تائهون في المتاهات. [ خامساً: فضيلة خُلة ] والخُلَّة -بضم الخاء-: الصفة، والخَلَّة -بفتح الحاء-: الضعف والحاجة [فضيلة خُلَّة كظم الغيظ بترك المبادرة إلى التشفي والانتقام ]، إذ قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليس الشديد بالصُّرَعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) . فقوله: ( ليس الشديد بالصُّرَعة )، أتعرفون الصُّرَعة؟ ذاك الملاكم الذي ما لاكمه أحد إلا صرعه، فهذا هو الصرعة، وقد صارع النبي صلى الله عليه وسلم ركانة فغلبه. إذاً: ليس الشديد والقوي بالصرعة الذي يصرع الناس، ولكن القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، فإذا غضب لم ينطق بسوء، ولم يظهر منه أو عنه شيء اسمه: سوء، وهذا أمر عظيم، فبدل أن يسب أو يشتم أو يتناول شيئاً بيده ليضرب به، فإنه يكظم غيظه، ولا يظهر ذلك عنه أبداً، وكأنك مدحته وأثنيت عليه، وقد قلنا لكم:جربوا هذا فيما بينكم حتى تكتسبوا هذه الصفة، فإذا أغضبك أخاك بكلمة أو بيده أو بأية حركة، فهل أنت ممن يصبر فيكظم غيظه ويحبسه ولا يظهر عنك شيء لا باللسان فينطق ولا بيدك بأن تأخذ وتضرب؟وللأسف الشديد أن المتزوجين قد تأتي الزوجة بأدنى حركة فيطلقها زوجها، فإن سئل: لمَ طلقتها؟ قال: أغضبتني! أو قال: يا أم فلان! عجِّلي بالإفطار، فردت عليه فقالت: انتظر قليلاً، فقال: كيف ننتظر قليلاً؟ أنتِ طالق، أو يقول لها: أما تستحين؟ أنتِ حيوان، أنتِ كذا وكذا، وهي تغضب أيضاً، فلا هو يكظم غيظها ولا هي تكظم غيظه، وبالتالي الطلاق والفراق، وأنا أقول لهم والحمد لله -وهذا من فضل الله علينا-: قد عاشرنا المرأة ستين أو ثمانية وخمسين سنة والله ما قلنا كلمة سوء ولا قالت هي كلمة سوء، ومن ثَمَّ لا غضب ولا سخط ولا طلاق ولا شيء من هذا. ثم كيف أعيش معكم في القرية أو في المدينة العام والأعوام لا أوذي مؤمناً في الطريق لا بسب ولا شتم ولا أذى، وأوذي أختي في بيتي وهي محبوسة من أجلي؟! فسروا لي هذه الظاهرة، فأنا لا أعرف كيف تُفسر؟! أنت يا عبد الله! تعيش مع أناس طول العام في الشارع في العمل أو في أي مكان، فهل قد آذيت مؤمناً؟ لا تسمح لنفسك بذلك، إذاً فلمَ تؤذي هذه المحبوسة في بيتك بكلمة سوء؟! أعود فأقول: إننا ما ربينا في حجور الصالحين، ما تعلمنا ولا هذبنا أنفسنا، فهذا هو السر، وإلا فالذين يتربون في هذه الحلقة الآن والله تجلت عنهم هذه الكمالات وظهرت فيهم، والذين حبسوا أنفسهم ليتعلموا هذا العلم، والذي ما يعلم هذا ولا يحضره أنى له أن يعرف؟ إذاً لا بد من العلم. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، فهل تعرف كيف تكظم القربة إذا فاض الماء حتى ما يخرج منها؟ كذلك لما تصون نفسك ويريد اللسان أن ينطق، والعين أن تحمر، والوجه أن يتبدل، فتملك ذلك وتقول: أستغفر الله، أو الحمد لله، أو سامحني يا رب. [ سادساً: فضل العفو عن الناس مطلقاً، مؤمنهم وكافرهم، بارهم وفاجرهم ]، العفو عن الناس أو البشر، كبارهم كصغارهم، وأشرافهم كضعافهم، مؤمنوهم ككافريهم، فمن أراد أن يظفر بهذا الكمال ويفوز بهذا الوصف فيقوى على أن يعفو عمن ظلمه، وهو قادر على أن يضربه ويأخذ حقه، ولكن يريد أن يعلو فلا يبال بمن آذاه، ويعفو ويصفح ويتجاوز عنه، وكأنني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوزع الصدقات، وإذا بأحد الأجلاف الغلاظ -غفر الله لنا وله- يأخذ أو يُلبِّب رسول الله بردائه ويقول: ( اعدل فينا يا رسول الله! )، ومع ذلك يتبسَّم النبي صلى الله عليه وسلم ويتركه ولا يؤاخذه، وأنا أسألكم بالله! لو وقع هذا معكم فكيف سيكون حالكم؟ وقال عليه الصلاة والسلام: ( رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا وصبر، ويقول له: ويحك إن لم أعدل أنا فمن يعدل؟ )، وهو كذلك، فهل عرفتم العفو كيف يكون؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قادراً على أن يضربه أو يؤذيه، بل لو قال فقط لرجاله: اضربوه، لضربوه ضرباً شديداً، ولكنه العفو النبوي والكمال المحمدي، ولذا فاعفوا على الأقل على أولادكم وعلى نسائكم وعلى إخوانكم إن لم تعفوا على الظالمين والكافرين، مع أن العفو يشمل حتى الكافر، لأنها صفة جلال وكمال يريد صاحبها أن يسمو ويعلو ويرتفع.قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن يشرُف له في البنيان، وتُرفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه )، أي: لا يؤاخذه، فلا يرد السب بسبة، ولا الشتم بشتمة، ولا اللطم بأخرى، وإنما ليعف عمن ظلمه، قال: ( ويعطي من حرمه )، أي: من حرمه من شيء فلا يقابل ذلك بأن يحرمه، بل يعطيه، فلو أن أحدنا جاء إلى آخر فقال: أعطنا بعض التمر، فرد عليه فقال: لا أعطيك شيئاً، ثم في اليوم الثاني جاء يطلبه تمراً والتمر بين يديه، فهل يقول له: لا؛ لأنك حرمتني وما أعطيتني يوم أمس؟ الجواب: لا، بل يعطي من حرمه، وذاك الذي حرمني هو الذي أعطيه، وأتغلب على الطبيعة وعلو فوق الفطرة، وأبحث عمن يحرمني فأعطيه؛ لأني أُريد أن يشرُف ويعلو بنائي، وترتفع درجاتي يوم القيامة، قال: ( ويصل من قطعه )، أي: ذاك الذي قطعني وما أصبح يسلم عليّ ولا يزورني ولا يجلس إلى جنبي أنا أصله، فأجلس إليه وأسلم عليه وأزوره، ولا أقطعه مقابل مقاطعته لي؛ لأني أريد أن أتفوق عليه.ومرة أخرى يا أهل المعرفة! يقول صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن يشرُف له في البنيان، وتُرفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه )، وإن شاء الله سنجرب كل هذه، فإذا ظلمني ظالم أعفو عنه وأتركه لله، مع قدرتي على أن أنال منه، وإذا حرمني شخص من شيء طلبته منه فلا أحرمه من شيء طلبه مني، وإن قطعني من قطعني من إخواني أو جيراني فأنا أصلهم، وذلك من أجل أن أتفوق، وأن يشرُف بنياني، وأن تُرفع وتُعلا درجاتي.ويقول أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث أقسم عليهن )، أي: ثلاث خصال أو ثلاث مسائل أقسم عليهن، وهي: ( ما نقص مال من صدقة )، فلو عندك كوم من المال فتصدقت منه بحفنة أو أقل أو أكثر فالرسول يحلف أن مالك ما نقص أبداً.والثانية: ( وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً )، أي: ما من عبد يؤذى فيعفو وهو قادر على أن ينتقم ما زاده الله بذلك إلا عزاً وإكراماً.والثال ة: ( ومن تواضع لله رفعه الله )، أي: من تواضع لأجل الله رفعه، ولم يهبطه إلى الأرض مع الهابطين. [ سابعاً: فضيلة الاستغفار وترك الإصرار على المعصية للآية ]: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].قال: [ ولحديث: ( ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ) ]، وأخصر من هذا: ( لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار )، أي: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة من صغائر الذنوب مع الإصرار، فإذا أصر العبد على الصغيرة فإنها تتحول إلى كبيرة وينتقل إليها، وإذا استغفر من الكبيرة وتاب منها فلا تعتبر كبيرة أبداً، فلهذا معاشر المؤمنين والمؤمنات! ليكن منهجنا في الحياة أننا نستغفر الله من كل ذنب، وكلنا عزم على ألا نعود إلى الذنب ولو تكرر منا لعجز البشر ولضعفنا، إذ الاستغفار وعدم الإصرار هو الطريق إلى النجاة.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-07, 04:56 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (57)
الحلقة (198)
تفسير سورة آل عمران (61)


لما حدث ما حدث من انكسار المؤمنين في أحد بسبب عدم الصبر، وعدم طاعة القائد، أنزل الله آيات بينات يذكر المؤمنين فيها بالسنن المتحققة في الأمم التي سبقتهم، وإرسال الرسل لهم، وتكذيبهم إياهم، وتحقيق سننه فيهم بإهلاك الظالمين المكذبين، ونصر المؤمنين الموحدين، ثم يعزي سبحانه وتعالى عباده المؤمنين ويبشرهم بالعلو على أعدائهم بعدما أصابهم في أحد من البلاء والقرح.
تفسير قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل يومنا هذا من ليلتنا هذه ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهت بنا الدراسة إلى هذه الآيات الخمس، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:137-141].بعد ذلك الاعتراف العظيم الجليل عاد السياق إلى غزوة أحد، فتأملوا الآيات مرة أخرى، يقول تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:137-141]، وهذا تدبير الله عز وجل.
معنى قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن)
قوله جلت قدرته: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137]، هذا إخبار بالواقع، وذلك أنه قد مضت قبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمم تجلت فيهم سنن الله تعالى، فأهلك الله المكذبين والمشركين والمؤذين لأوليائه وصالح عباده، فإن شاءوا وقفوا على تلك المعالم، فعاد في الجنوب، وثمود في الشمال، وفرعون وقوم لوط في الغرب، فهكذا يعظهم ربهم فيقول لهم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137].إذاً: فنجَّى الله المؤمنين وأهلك الكافرين، وأنتم -أيها المؤمنون- هذا صنيعه معكم، فينجيكم ويهلك أعداءكم الكافرين، وقد تم هذا كاملاً غير منقوص.
معنى قوله تعالى: (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)
ثم قال لهم تعالى: فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137]، ومن سورة اليقطين يقول تعالى: وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات:133-138]، فتجار هذه الديار يذهبون إلى الشام ومصر فيمرون بقوم لوط وديارهم سدوم وعمُّورة، فيرونها قد أصبحت بحراً ميتاً أو بحيرة منتة. فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137]، أي: المكذبين لله ورسله، المكذبين بشرع الله وسننه وقضائه وقدره.
تفسير قوله تعالى: (هذا بيان للناس وهدىً وموعظة للمتقين)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138]، أي: هذا الذي سمعتموه ويتلوه الله علينا من الآيات بيان للناس، وبالتالي فمن أراد أن يتبين الحق من الباطل، والخير من الشر، والفضيلة من الرذيلة، والسعادة من الشقاء، والكمال من النقصان، فالآيات القرآنية موضحة ومبينة ومفصلة لذلك، وفي نفس الوقت هي هدىً وموعظة للمتقين، أما الفجَّار فلا يجدون فيها هداية ولا موعظة، وذلك لأن قلوبهم منتكسة، فلا يعون ولا يفهمون، ولكن المتقون أولوا القلوب الحية والنفوس الزكية، وأولوا البصائر والنهى، ما من آية في الكون -حتى طلوع الشمس أو غروبها- إلا ويجدون فيها ما يدلهم على علم الله تعالى وقدرته، ووجوب عبادته وطاعته.
تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، أي: يقول الله تعالى لهؤلاء الذين شهدوا معركة أحد: وَلا تَهِنُوا [آل عمران:139]، أي: لا تضعفوا ولا تكسلوا، ولا تقفوا عن أداء رسالتكم وهي نشر دعوة الله والجهاد بها. ثم يقول الله تعالى لهم: وَلا تَحْزَنُوا [آل عمران:139]، أي: ولا تحزنوا على ما فاتكم أو ما أصابكم، واذكروا ذلك الانتصار الذي تم في أول النهار، وإذا بالمشركين -وهم ملوك- يفرون هاربين تاركين أمتعتهم وأسلحتهم، ثم لما زلت القدم وخرج الرماة عن منهج القيادة الذي وضعته، ابتلاهم ربهم في آخر النهار، فأصيبوا بنكبة وبكرب وحزن ما عرفوه في تاريخهم.وها هو ذا الرحمن الرحيم يلاطفهم ويهون من شدة كربهم وحزنهم فيقول لهم: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، حقاً والله لهمُ الأعلون، أما الهابطون والأسفلون فهم الكافرون والمشركون، وإن حصلت تلك الهزيمة المرة فتلك لا تهبط بهم أبداً، إذ إنهم هم المؤمنون، ولهذا قيده بقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فالمؤمنون دائماً والله هم الأعلون، فلا يهونون ولا ينزلون ولا يذلون، لكن إذا خرجوا عن سنن الله في الكون وعموا عنها وما أبصروها، وعدلوا عن التمسك بها، فإنه ينزل بهم ما ينزل بغيرهم؛ لأن الله لا يحابي أحداً، إذ إن الله تعالى وضع سنناً في هذا الكون، فمن سلكها في إيمان ويقين فاز ونجا ونجح، ومن تنكبها وبعد عنها أو تعامى عنها ولم ينظر إليها لا بد وأن يصاب بالهون والدون والذل والصغار والحقار. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، أي: أعلى كل الخلق، فلو أن مؤمناً واحداً من المؤمنين الصادقين وضع في كفة ميزان، ووضعت البشرية كلها من أهل الكفر والشرك في كفة أخرى، والله لرجحت كفة المؤمن، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الله عز وجل لا يرضى بأن يؤذى مؤمناً من المؤمنين وأن يَسْلَم كل الكافرين، بل يرضى بأن يؤذى كل الخلق من الكافرين دون ذلك المؤمن، والسر أن هذا المؤمن عرف ربه وعبده وأحبه وخافه ورهبه، بل كل حياته له، بينما أولئك الكفرة الضلال المشركون كفروا بخالقهم، وجهلوه وما تعرفوا عليه، وما سألوا عنه، وما سألوا عن محابه، ما أطاعوه، وبالتالي كيف تكون لهم منزلة عند الله تعالى؟! إن منزلتهم عند الله أحط من منزلة القردة والخنازير والكلاب والحيات، فهل عرف البشر هذا؟! المؤمنون عرفوا؛ لأن المؤمن الحق يرضى أن يقتل أو يقطع أو يصلب ولا يرضى أن يكفر بالله عز وجل، فهذا خباب بن الأرت لما وضعوه على المشنقة خارج الحرم ليقتلوه، جاءه أبو سفيان ممثل قريش يعرض عليه المساومة، فقال له: هل ترضى الآن أن تذكر آلهتنا بخير وتذكر محمداً بسوء ونطلقك فتعود إلى أهلك؟ والمشركون مجتمعون نساء ورجالاً ينتظرون هذا الحفل لقتل هذا الرجل، فقال حالفاً بالله: والله لا أرضى أن يُشاك محمد بشوكة وأعود أنا إلى أهلي!ولكي تعرفوا هبوط البشر عندما يكفرون بالله ولقائه، وأنهم أحط من القردة والخنازير، اقرءوا آية من سورة البينة من قصار المفصل نسمعها في أغلب الأوقات: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، شر بمعنى: أشر، والبريئة: الخليقة كلها.فقول ربنا لأصحاب رسولنا صلى الله عليه وسلم: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ [آل عمران:139]، أي: والحال أنكم أنتم الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، وهذا القيد قول نوراني، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، أي: هذا الكمال الذي ظفرتم به وحصلتم عليه إنما هو لإيمانكم بالله عز وجل، أما الكافر فوسخ لا قيمة له عند الله، ومن شك في ذلك فليرجع إلى أخبار الله التي تقضي وتحكم بأن الكافر يعيش مليارات السنين في عالم الشقاء فلا تمسح له دمعة أبداً، وليست سنة ولا ألفاً ولا عشرة، بل مليارات السنين بلا نهاية أبداً، وسر ذلك: أن الله خلقهم ورزقهم، وخلق كل شيء من أجلهم، ولم يطلب منهم أكثر من الاعتراف به عز وجل، ثم طاعته فيما يهيؤهم لكمالهم وسعادتهم، وينجيهم من خسرانهم وشقائهم، فيرفضون ذلك ويأخذون في الافتراء والكذب والتضليل، لا لشيء، وإنما فقط حتى لا يؤمنوا بالله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله...)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]. ‏
البلاء الذي يصيب المؤمنين يصيب أعداءهم أيضاً
ويقول لهم أيضاً: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]، أي: كما قد قُتِل منكم سبعون يوم أحد، أربعة من المهاجرين والباقون من الأنصار، فقد قُتِل منهم سبعون وأسر منهم سبعون في بدر، وغنمتم غنائمهم كلها. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]، والقَرح والقُرح كالضَعف والضُعف: آلام الجراحات بالسهام أو بالسيوف.
من سنة الله تعالى أن الأيام دول
قوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، وسيأتينا أنه لما انتهت المعركة جاء أبو سفيان يلاحق ويتابع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاء حتى قارب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: أفيكم ابن أبي كبشة؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر بن الخطاب؟ فقال له عمر رضي الله عنه: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وأنا عمر، فقال أبو سفيان: الحرب سجال، يوم بيوم، يعني: أصبتم منا في بدر فأصبنا منكم اليوم، فلا تحزنوا ولا تأسفوا، فقال عمر: قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: قد خسرنا إذاً، وهو كذلك. والشاهد عندنا في قول ربنا لهم: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، وسميت الدولة دولة من المداولة؛ لأنها تدول من شخص إلى آخر، والأيام دول، فأيام رخاء وأيام غلاء، أيام سعادة وأيام شقاء، أيام أمن وأيام خوف، وهذا كله ماض حسب سنة الله عز وجل، فهو الذي يؤمن من يشاء ويخوف من يشاء، ولكن يؤمن ويخوف بسنن لا تتخلف.
معنى قوله تعالى: (وليعلم الله الذين آمنوا)
قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:140]، أي: فعل الله تعالى هذا ليُظهر علمه الغيبي إلى العلن والمشاهدة، ولتظهر حكمته وسنته في خلقه، وليعلم الذين آمنوا من الذين كفروا، إذ إنه رجع مع ابن أبي ثلاثمائة مقاتل جلهم منافقون كافرون، ولولا هذا الامتحان لم يظهروا، ولو ما جاء الله بالمشركين إلى المدينة ليقاتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوفق الرسول للخروج إليهم، فكيف يتميز الكافر من المؤمن؟!
معنى قول الله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء)
قوله تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، وقد اتخذ منهم سبعين شهيداً، وهذا بالنسبة إلى من قُتِل في سبيل الله في الدنيا، وأما يوم القيامة فنشهد أيها المؤمنون على أمم قد سبقت، فيؤتى بنوح فيقال له: هل بلغت يا نوح؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيؤتى بنا فنشهد أن نوحاً قد بلغ أمته، وذلك أننا قد قرأنا في كتاب الله فعرفنا قصة نوح وقومه -في جميع السور- وأنه قد بلغ رسالته، وبالتالي فيتخذ منا شهداء بمعنى: يُستشهدون في المعركة فيدخلون الجنة، وشهداء على الأمم السابقة واللاحقة، وهذه مرتبة عالية وفضيلة لا تعادلها فضيلة.
معنى قوله تعالى: (والله لا يحب الظالمين)
قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، قد عرفنا معاشر المؤمنين والمؤمنات! أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع شيئاً في غير موضعه فقد ظلم وهو ظالم، فالذين عبدوا غير الله وضعوا هذه العبادة في غير موضعها، وبذلك يكونون قد ظلموا وهلكوا، فالرماة الذين نزلوا من الجبل وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا المركز خالياً فاحتله المشركون، هؤلاء قد ظلموا؛ لأن الرسول وضعهم في هذا الموضع وهم وضعوا أنفسهم خارجه يطلبون الدنيا والمال.وكلمة: (الظلم) عامة، وأفظعها ظلم الله تعالى، وذلك بأن تأخذ حق الله وتعطيه لغيره، وبعض طلبة العلم ترددوا في هذا التعبير، فقالوا: كيف نقول: ظلموا الله؟! فنقول: إذا كانت هذه العبادة شرعها الله له، ثم عبدنا بها غيره فقد ظلمنا ربنا وأخذنا حقه، ووضعنا شيئاً في غير موضعه، ومن الظلم أيضاً: ظلم الناس في أعراضهم، في أموالهم، في أبدانهم، في كل ما يؤذيهم، ومن الظلم كذلك أن تغني في هذا الحلقة العلمية؛ لأن الموضع ليس موضع غناء، وهكذا يقول تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].
تفسير قوله تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)
قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:141]، والتمحيص: تمحص الشيء حتى يذهب كل ما كان فيه من دخن ودخل، وذلك ليبقى فقط العنصر الصافي الكريم، كما تمحص الجواهر والذهب وغيرها، وهؤلاء قد ابتلاهم الله بهذه المعركة وساقهم إليها، وكتب ما كتب، والعلة: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141].وهذه الآيات غداً لو ندخل في الإسلام دخولاً جديداً ونواجه نفس المعركة ونتلوا الآيات وكأنها نزلت علينا في يومنا هذا؛ لأنه كتاب خالد بخلود هذه الحياة، ولا يرفعه الله من صدور العباد إلا في نهاية هذه الحياة.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [معنى الآيات: لما حدث ما حدث من انكسار المؤمنين بسبب عدم الصبر ] أي: ما صبروا كما أمرهم قائدهم [ والطاعة اللازمة للقيادة، ذكر تعالى تلك الأحداث -التي تمت في أحد- مقرونة بفقهها لتبقى هدىً وموعظة للمتقين من المؤمنين ]؛ لأن غير المؤمنين لا يستفيدون [ وبدأها بقوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137]، فأخبر تعالى المؤمنين بأن سننه قد مضت فيمن قبلهم من الأمم، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، فقد أرسل الله تعالى إليهم رسله فكذبوهم، فأمضى تعالى سنته فيهم، فأهلك المكذبين ونجا المؤمنين بعد ما نالهم من أذى أقوامهم المكذبين، وستمضي سنته اليوم كذلك، فينجيكم وينصركم ويهلك المكذبين أعداءكم، وإن ارتبتم -في الأمر- فسيروا في الأرض، وقفوا على آثار الهالكين، وانظروا كيف كانت عاقبتهم.ثم قال تعالى: هذا الذي ذكرت في هذه الآيات هو بيان للناس يتبينون به الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وهو هدىً يهتدون به إلى سبل السلام، وموعظة يتعظ بها المتقون لاستعدادهم بإيمانهم وتقواهم للاتعاظ، فيطيعون الله ورسوله فينجون ويفلحون، هذا ما تضمنته الآيتان: الأولى والثانية.وأما الآيتان: الثالثة والرابعة فقد تضمنتا تعزية الرب تعالى للمؤمنين ] بمعنى: أنه يحملهم على الصبر [ تضمنت تعزية الرب تعالى للمؤمنين فيما أصابهم يوم أحد، إذ قال تعالى مخاطباً لهم: وَلا تَهِنُوا [آل عمران:139]، أي: لا تضعفوا فتقعدوا عن الجهاد والعمل، ولا تحزنوا على ما فاتكم من رجالكم، وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، أي: الغالبون لأعدائكم المنتصرون عليهم، وذلك فيما مضى وفيما هو آتٍ مستقبلاً، بشرط إيمانكم وتقواكم، واعلموا أنه إن يمسسكم قرح بموتٍ أو جراحات لا ينبغي أن يكون ذلك موهناً لكم، قاعداً بكم عن مواصلة الجهاد؛ فإن عدوكم قد مسه قرح مثله، وذلك في معركة بدر، والحرب سجال، يوم لكم ويوم عليكم، وهي سنة من سنن ربكم في الحياة، هذا معنى قوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].ثم بعد هذا العزاء الكريم الحكيم ذكر تعالى لهم علة هذا الحدث الجلل والسر فيه وقال: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] ] أي: ما كانت هذه المعركة لغير حكمة، وإنما كانت مقصودة لهذا البيان [ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، أي: ليظهر بهذا الحادث المؤلم إيمان المؤمنين، وفعلاً فالمنافقون رجعوا من الطريق بزعامة رئيسهم المنافق الأكبر عبد الله بن أبي ابن سلول -عليه لعائن الله- والمؤمنون واصلوا سيرهم وخاضوا معركتهم، فظهر إيمانهم واتخذ الله منهم شهداء ]، ولولا الهزيمة لم يكن بيننا شهيد أبداً، إنها حكمة الله تعالى، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140].قال: [ واتخذ الله منهم شهداء، وكانوا نحواً من سبعين شهيداً، منهم أربعة من المهاجرين وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ]، ثم عبد الله بن جحش صهر النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمته، ثم عثمان بن شماس [ وكانوا نحواً من سبعين شهيداً، منهم أربعة من المهاجرين وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومصعب بن عمير ]، وقبره الآن موجود بجوار قبر حمزة، ومصعب هذا كان شاباً لأبوين لم ينجبا سواه، وقد كانوا يكسونه الحرير وأفضل الملابس، ولما أن دخل في الإسلام وآمن بالله وبلقائه وبرسوله تغير حاله، قال أحد الصحابة: لقد رأيته يرتدي جلد شاة في مكة، وقد استشهد في أحد فما وجد الرسول ما يكفنه به إلا ثوباً واحداً غليظاً من جلد، إن غطَّى به رأسه انكشف نصفه الأسفل، وإن غطَّى أسفله انكشف رأسه، فجيء بالعشب والنبات ووضعوه على رجليه، وما إن هاجر إلى المدينة قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وطاف بهذه الديار حتى دخل الإيمان إلى كل دار من دور الأنصار، وصبر ففاز رضي الله عنه وأرضاه، ونحن ما يمسنا من هذا شيء ومع ذلك نُعرض عن ذكر الله والعياذ بالله!قال: [ والباقون من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين. وقوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:141]، أي: أوجد هذا الذي أوجده في أحد من جهاد وانكسار تخليصاً للمؤمنين من ذنوبهم وتطهيراً لهم ليصفوا الصفاء الكامل، ويمحق الكافرين بإذهابهم وإنهاء وجودهم ]. وهذا تدبير العليم الحكيم، والآن لمَ هبط المسلمون واستعمرتهم أوروبا والغرب؟! لمَ فعل الله هذا؟! ليمحص الله الذين آمنوا، إذ لا يحدث حادث في الكون إلا بعلم الله وعلى وفق سننه سبحانه وتعالى.قال: [ إن هذا الدرس نفعَ المؤمنين فيما بعد، فلم يخرجوا عن طاعة نبيهم، وبذلك توالت انتصاراتهم حتى أذهبوا ريح الكفر والكافرين من كل أرض الجزيرة ]، أي: أن هذه الهزيمة التي كانت في أحد كان لها أثرها الطيب في موالاة الجهاد والانتصارات، وبيان ذلك: أن العلماء قالوا: لو أنهم اغتروا بكون النبي بينهم، وبكونهم مؤمنين يقاتلون في سبيل الله، وأنهم لن ينهزموا، سواء تسلحوا أو رموا بالسلاح، أخذوا بالحيطة أو لم يأخذوا بها، لو قالوا هذا ما انتصروا في المستقبل في أي معركة من المعارك، لكن علمهم الله أنهم رغم أنهم مع نبيهم، ويقاتلون في سبيل الله تعالى، وهم المؤمنون الصادقون، إذا خرجوا عن سنته في الانتصار وتعرضوا للهزيمة هزمهم وأذلهم.وقد ذكرت لكم أيضاً رؤيا منامية ذكرها الشيخ رشيد رضا -تغمده الله برحمته- في المنار فقال: رأى شيخنا محمد عبده -رحمة الله عليه- النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو راجع من أحد إلى المدينة على بغلته، والمؤمنون وراءه، وهو يقول صلى الله عليه وسلم: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة على النصر! وهو والله كذلك، إذ لو اغتر المؤمنون بإيمانهم، وأنهم أولياء الله تعالى، حملهم ذلك على الإعراض عن سنن الله، وعدم الأخذ بما وضع الله من السنن في هذا الكون، لا بد وأن ينكسروا ويتحطموا، إذ الإيمان يلزم أصحابه بألا يتركوا سنة من سننه الله تعالى، فكيف يتركون سنناً واجبة في النصر ثم يطلبون الانتصار؟! فهذا درس للمسلمين، وقد استفاد من ذلك أصحاب رسول الله وأولادهم في خلال خمسة وعشرين سنة فقط، حيث قد تم لهم النصر في العالم كله، من إندونيسيا إلى ما وراء نهر السند؛ لأنهم تربوا على هذه التربية الإلهية.قال: [ إن هذا الدرس نفع المؤمنين فيما بعد، فلم يخرجوا عن طاعة نبيهم، وبذلك توالت انتصاراتهم حتى أذهبوا ريح الكفر والكافرين من كل أرض الجزيرة ]، إذ ما مات صلى الله عليه وسلم وفي الجزيرة من يعبد غير الله.
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات ]، فهيا نتدبر هذه الآيات، فنسمعكموها مرة أخرى ونذكر الهداية وتأملوا من أين استنبطت وأخذت؟ قال تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:137-141].قال المؤلف: [ من هداية الآيات: أولاً: عاقبة المكذبين بدعوة الحق الخسار والوبال ]، أي: عاقبة المكذبين بدعوة الحق الخسران والبوار وإلى يوم القيامة. قال: [ ثانياً: في آيات القرآن الهدى والبيان والمواعظ لمن كان من أهل الإيمان والتقوى ]، أما الذين ما آمنوا وما اتقوا فهم عميان، وأعظم من ذلك أنهم أموات، أو أحياء يمشون في الظلام، وبالتالي كيف يهتدون؟! إما أن نقول: أموات لأن القرآن روح، وهم قد فقدوا الروح فماتوا، فهم يعيشون حياة البهائم، والنور هو القرآن الذي أعرضوا عنه وكفروا به، فهم يمشون في الظلام فكيف يهتدون؟! ومن أراد دليلاً على ذلك فلينظر إلى العالم الإسلامي وهبوطه تتجلى له هذه الحقيقة، إذ العالم الإسلامي لا يحيا حياة حقيقية، واليهود يسخرون منه.قال: [ ثالثاً: أهل الإيمان هم الأعلون في الدنيا والآخرة ]، أي: أهل الإيمان الحق، وكلمة المؤمن معناه: المتأصل في إيمانه العريق فيه، لا مجرد نسبة أو يقول: أنا مؤمن.إذاً: أهل الإيمان هم الأعلون في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا هم الأعلون بشهادة الله تعالى، وفي الآخرة هم في الجنات والكفار في السفلى من الدركات والعياذ بالله.قال: [ رابعاً: الحياة دول وتارات، فليقابلها المؤمن بالشكر والصبر ]، أي: إن كانت رخاءً وأمناً وعافية فليقابلها المؤمن بشكر الله تعالى ليلاً ونهاراً، وذلك بلسانه وبجوارحه وبقلبه، وإن جاءت البلوى والعذاب والفقر والخوف والألم فليقابلها المؤمن بالصبر، وهو فائز في كلا الحالتين.فيوم لنا ويوم علينا ويوم نُساء فيه ويوم نسروالحرب سجال والدنيا دول وتارات، يعني: مرات، فيجب أن يقابلها المؤمن بالشكر والصبر، فإن كان الموقف موقف سعادة فليكثر من شكر الله عز وجل، وإن كان موقف شقاء فليصبر ولا يخرج عن طاعة الله تعالى وذكره وعبادته حتى يفرج الله ما به. قال: [ خامساً: الفتن تمحص الرجال ]، والفتنة هي التي يُفتن بها الناس في أموالهم وفي أبدانهم وفي عقائدهم، ومن شأن هذه الفتن أنها تمحص الرجال الصادقين فتظهر كمالاتهم، وتودي وتهلك العاجزين الجزعين، ولذا قال المؤلف: [ وتودي بحياة العاجزين الجزعين ]، فهذه هداية الله عز وجل من هذه الآيات. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-07, 04:59 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (58)
الحلقة (199)
تفسير سورة آل عمران (62)


أنكر الله على عباده المؤمنين ظنهم أنهم سيدخلون الجنة بمجرد الإيمان ودون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد، بل لابد لهم من الابتلاء تمحيصاً لهم وإظهاراً للصادقين منهم في دعوى الإيمان والكافرين فيها، وإظهاراً للصابرين الثابتين والجزعين المرتدين، ثم عاب الله عليهم قلة صبرهم وانهزامهم في معركة أحد، مذكراً لهم بتمنيات من لم يحضروا بدراً للقتال حتى يحوزوا ما حازه من سبقهم، وانكشافهم عند وقوع القتال في أحد.
تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل القرآن العظيم؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الأربع، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:142-145].قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [آل عمران:142]، أي: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة دار السلام، دار النعيم المقيم التي سقفها عرش الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه، و(أل) هنا في (الجنة) للعهد، وهذا الحسبان باطل، والاستفهام هنا إنكاري. وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، وعلم الله تعالى هنا علم ظهور وانكشاف، أما العلم الأزلي القديم فقد علم الله أهل الجنة وأهل النار، ولهم خلق الجنة والنار. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ [آل عمران:142]، وخاضوا المعارك في بدر وفي أحد، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، على إيمانهم وتقواهم وجهادهم وحبهم لرسولهم، وبالتالي ففرض الله الجهاد عليكم من أجل أن يكشف النقاب ويزيح الستار عن الواقع.إذاً: فلا بد من الابتلاء والامتحان والاختبار، إذ قد فرض الله الجهاد وقدَّره على عباده ليظهر صدق إيمانهم وصبرهم، أو يظهر العكس، أي: يظهر نفاقهم وكفرهم وعدم ثباتهم.
تفسير قوله تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه...)
قال تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143].قوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمران:143]، وهذا يخص الذين تأسفوا عن عدم حضورهم غزوة بدر، إذ قد علمنا يقيناً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلن التعبئة العامة في بدر، وإنما ذكر هذا الخبر: أن عيراً لقريش قد خرجت من الشام، فهيا بنا نخرج لعل الله تعالى يرزقنا إياها، فمن شاء خرج ومن شاء لم يخرج، فالذين خرجوا فازوا أولاً بذلكم اللقب الذي لا يُنسى: ( وما يدريك لعل الله قد نظر إلى أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )، وفازوا بالغنائم، وفازوا بشفاء صدورهم من أعدائهم، إذ قتلوهم وأسروهم، وهناك من المؤمنين من لم يخرج إلى بدر، فتأسف وتحسر وتألم، وتمنى أن لو يأتي غزو آخر لكان أول من يخرج، وأول من يستشهد إن شاء الله تعالى، وهذا معنى قوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمران:143]، أي: في المعركة، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، فلِمَ تهربون؟ ولمَ تفرون؟ ولمَ تحجمون؟ ولمَ تقولون وتقولون وقد كنتم تمنيتم ذلك وأراكم الله فقال: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]؟ وهذا بعد وقوع الهزيمة؛ إذ قد علما أن النصر في أول النهار كان للرسول والمؤمنين؛ لأن القيادة حكيمة، والترتيب كان عجيباً، لكن لما عصى الرماة أمر رسول الله وهبطوا من الجبل، واحتل خالد رضي الله عنه مراكزهم الدفاعية ووقع المسلمون بين فكي مقراظ فكانت الهزيمة، وشاهدوا الموت بأعينهم، فقال تعالى مصوراً ذلك: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، فليس من حقكم أن تفروا وتنهزموا وقد كنتم تطلبون الشهادة وتتمنونها، وقد ثبت من ثبت، واستشهد من استشهد.
تفسير قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل...)
قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]قوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، وذلك أن ابن قمئة -أقمأه الله- ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بحجر فشج وجهه وكسر رباعيته، وصاح: قتلت محمداً، والشيطان -عليه لعائن الله- استغل هذه الفرصة وصاح: محمد قد قتل، وانتشر الخبر في الصفوف المصابة بالهزيمة، فوقع الذي وقع، فمنهم من قال: هيا بنا إلى ابن أبي يأخذ لنا عهوداً ومواثيق مع أبي سفيان ونعود إلى ديننا، ومنهم من قال: إذا مات محمد فرب محمد لا يموت، فلمَ الهزيمة والرضا بالكفر بعد الإيمان؟! وعلى كل حال كانت الواقعة ذات حسرة عظيمة، وحسبنا أن يقول الله تعالى لنا ولهم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، أي: قد ماتت الرسل قبله ومضت، وهو أيضاً والله سيموت ويمضي. أَفَإِينْ مَاتَ [آل عمران:144]، أي: موتة حسب سنة الله، أو قتل في المعركة، انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، مرتدين كافرين، وهذا هو الذي أصاب ضعاف الإيمان، وأصاب المنافقين الطابور الخامس.ثم قال تعالى: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ [آل عمران:144]، منتكساً مرتداً، فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144]، إي والله لن يضر الله شيئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، على صبرهم وشكرهم، ومن باب أولى سيجزي الكافرين بمر العذاب وأشده وأليمه، والكافر ضد الشاكر.
تفسير قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله...)
قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145].ثم قال تعالى مقرراً هذه الحقيقة: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:145]، أي: يستحيل أن تموت نفس بدون إذن الله تعالى، وإن شئتم حلفنا لكم بالله، أبعد إخبار الله تعالى إخبار؟! وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ [آل عمران:145]، أي: ما من الأنفس، أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:145] بموتها، إذ هو الذي حدد موعدها وقرره وسجله في كتاب المقادير، فوالله لا تتأخر بلحظة ولا تتقدم بأخرى أبداً، فلو ما كان هذا افلآن يموت منا خمسين أو ستين، فهل نملك نحن ألا نموت؟ الآن في هذه اللحظة يموت أناس، فيتململ الرجل وتخرج نفسه، لكن ما دامت الأرواح والأنفس قد قُدِّر لها مواعيد لموتها، فيستحيل على البشر والجن والملائكة أن يقدموا أو يؤخروا، ومن أجل ذلك انتظمت الحياة ومشت إلى نهايتها، إذ لو كان الموت يأتي فجأة بدون تقدير ولا تقرير ولا قضاء ولا قدر، فإن الحياة لا تنتظم ولا ساعة واحدة. وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145]، أي: بأجل معين ووقت محدد باللحظة والساعة والدقيقة، وقد كشفت الأيام عن هذه الحقيقة، فقد حاول بعض المبطلين إحياء زعمائهم فما استطاعوا ولا ساعة واحدة، فانكشف عوارهم وآمنوا بأن النفس البشرية لا تموت إلا إذا أذن الله بموتها؛ فحدد الله الزمان والمكان، ووضع الأسباب أيضاً والآلات التي تموت بها، وهذه حقيقة تبقى في نفوسنا لا تتغير، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145].ثم قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145]، أي: من ثواب الدنيا، وهذا أيضاً موقوف على سنة الله عز وجل في طلب الدنيا، فأنت تريد الدنيا وتتمناها، وأنت صعلوك مثلي لا تقوم ولا تقعد، ولا تبيع ولا تشتري، فكيف تريدها إذاً يا أخي؟! كذلك ثواب الآخرة، فأنت تريد الجنة والحور العين بدون صلاة ولا رباط ولا جهاد! إن ذلك لا يتحقق، ولذلك فافهموا هذا، فإذا أراد العبد الدنيا وعمل بسنن الله تعالى للحصول عليها، فإنه يُعطى منها بقدر ما كتب له، وإن أراد الآخرة ورغب فيها وأحبها فإن الله يعطيه ثوابها، والحمد لله فقد قال تعالى: (ثواب)، والثواب الجزاء على العمل، وليس مجرد أمنية. وهناك آية في سورة هود فاصلة في هذه القضية، وهي قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]، فكونك فرعون أو طاغية أو كافراً أو مجرماً فهذا لا يجعل الله تعالى يخيبك في زراعتك أو في صناعتك أو في تجارتك أو في شيء آخر. مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]، فلا تفهم أن الله يحرم الكافر نتاج مزرعته أو مصنعه لأنه كافر، وإنما يعطيه جزاء عمله إذا كان يسهر الليالي، ويربط الحزام على بطنه، ويواصل العمل، وأما إذا كان فاشلاً غير عامل فلا يعطيه إلا على قدر عمله، كذلك حتى لا تقول: كيف أن الله يغني الكفار؟ كيف أن الله ينبت زرعهم؟ إن هذا سؤال باطل، إذ إن الله عز وجل يعطيهم جزاء أعمالهم وإن كانوا صعاليك وأحداثاً وفقراء يشحتون، وقد رأيناهم، ففي فرنسا الصعاليك يشحتون ولا يعملون، لا لأنهم كفروا فأفقرهم، وإنما لأنهم لم يعملوا، ولو عملوا وسهروا وأداروا المصانع لأعطاهم على قدر أعمالهم بدون زيادة. فكذلك الآية هنا: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145]، أي: أراد ثواب الدنيا بعمله، وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ [آل عمران:145]، أي: جزاء عمله في الدار الآخرة، نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145] جزاء آخر. فهيا نكن من الشاكرين، ولنبدأ من هذه الليلة، فإذا أكلت أو شربت أو مشيت أو قعدت أو نمت أو استيقظت، فأنت دائماً: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، فهو سبحانه قد أعطاك صحة في بدنك، في عقلك، في فهمك، في علمك، وأعطاك أيضاً قوتاً زائداً أو مالاً كثيراً، فاشكر الله تعالى، وأنفق من ذلك الذي أعطاك لله تعالى، تكن بذلك قطعاً من الشاكرين، وسيكون جزاؤك فوق الثواب المعد لك، إذ الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين ولم يقتل؛ لأن الله أنزل عليه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، فقبل نزول هذه الآية كان على باب حجرة الرسول حرس ليس كحرسنا اليوم بالراتب، وإنما كان كل مؤمن يقول: نمشي نحرس نبينا ساعة، فيتناوبون في الحراسة، ولا تراهم إلا راكعين ساجدين حول الحجرة والرسول يعلم بذلك؛ لأن أعداءه من اليهود والمنافقين والمشركين يضمرون له شراً عليه الصلاة والسلام. فلما نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، قال للحرس: عودوا إلى دياركم، فقد أغناني الله عنكم، لكن قد يقول قائل: وكيف إذاً انزعج الناس لما سمعوا أن محمداً قد قتل؟ والجواب: انزعجوا لأنها الفتنة، ولأن القائل بهذا منافقون وضعفاء فتتخلخل نفوس السامعين.قال: توفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في وقت دخوله المدينة مهاجراً، أي: أن يوم دخوله كان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، وذلك ضحىً حين اشتد الحر، ودفن يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء. قال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، ولما كان اليوم الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من دفن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا. أي: ما إن نفضنا أيدينا من التراب من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا، أو ليست هي القلوب التي كانت أمس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنتم يا أهل الدرس اتركوا الدرس وتخلوا عنه وانظروا إلى قلوبكم إذا كنتم حذاقاً، والله لتجدنها تبدلت؛ لأن الحياة مع الله كالحياة مع رسول الله، حياة خلاف الحياة مع غير الله ورسوله، مع الفسقة والماجنين، ومع الدنيا وطلابها.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله ورحمنا وإياه: [ معنى الآيات: ما زال السياق متعلقاً بغزوة أحد، فأنكر تعالى على المؤمنين ظنهم أنهم بمجرد إيمانهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد؛ تمحيصاً لهم وإظهاراً للصادقين منهم في دعوى الإيمان والكاذبين فيها، كما يظهر الصابرين الثابتين والجزعين المرتدين، فقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142] ]. وهذا الحسبان باطل؛ لأنه لابد من الابتلاء وإظهار الغطاء [ ثم عابهم تعالى على قلة صبرهم وعلى انهزامهم في المعركة، مذكراً إياهم بتمنيات الذين لم يحضروا وقعة بدر، وفاتهم فيها ما حازه من حضرها من الأجر والغنيمة، بأنهم إذا قدر لهم قتال في يوم ما من الأيام يبلون فيه البلاء الحسن، فلما قدر تعالى ذلك لهم في وقعة أحد جزعوا وما صبروا وفروا منهزمين، فقال تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143] ]. وكان منهم من وفى بما وعد فقاتل حتى استشهد، وهو أنس بن النضر عم أنس بن مالك، فإنه لما رأى المسلمين قد انكشفوا قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، وباشر القتال وهو يقول: إني لأجد ريح الجنة، إني لأجد ريح الجنة، ولما قتل وِجد به أكثر من ثمانين طعنة برمح وضربة بسيف، ولم يستطع أحد أن يعرفه إلا أخته، فقد عرفته بعلامة في أصبعه. [ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، أي: فلمَ انهزمتم، وما وفيتم ما وعدتم أنفسكم به؟ هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية.وأما الآية الثالث فقد تضمنت عتاباً شديداً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اشتدت المعركة، وحمي وطيسها، واستحرَّ القتل في المؤمنين نتيجة خلو ظهورهم من الرماة الذين كانوا يحمونهم من ورائهم، وضرب ابن قمئة -أقمأه الله- رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في وجهه فشجه وكسر رباعيته، وأعلن أنه قتل محمداً، فانكشف المسلمون وانهزموا، وقال من قال منهم: لمَ نقاتل وقد مات رسول الله؟! وقال بعض المنافقين: نبعث إلى ابن أبي يأتي يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان ونعود إلى دين قومنا! فقال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، وما دام رسولاً كغيره من الرسل، وقد مات الرسل قبله، فلمَ ينكر موته أو يندهش له إذاً؟! بعد تقرير هذه الحقيقة العلمية الثابتة أنكر تعالى بشدة على أولئك الذين سمعوا صرخة إبليس في المعركة (قتل محمد) ففروا هاربين إلى المدينة، ومنهم من أعلن ردته والعياذ بالله في صراحة وهم المنافقون، فقال تعالى: أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فعاتبهم منكراً على المنهزمين والمرتدين من المنافقين ردتهم، وأعلمهم أن ارتداد من ارتد أو يرتد لن يضر الله تعالى شيئاً، فالله غني عن إيمانهم ونصرهم، وأنه تعالى سيجزي الثابتين على إيمانهم وطاعة ربهم وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيجزيهم دنيا وأخرى بأعظم الأجر وأحسن المثوبات، هذا ما تضمنته الآية الثالثة.أما الآية الرابعة فقد تضمنت حقيقتين علميتين: الأولى: أن موت الإنسان متوقف حصوله على إذن الله خالقه ومالكه؛ فلا يموت أحد بدون علم الله تعالى بذلك، فلم يكن لملك الموت أن يقبض روح إنسان قبل إذن الله تعالى له بذلك، وشيء آخر: وهو أن موت كل إنسان قد ضبط تاريخ وفاته باللحظة فضلاً عن اليوم والساعة، وذلك في كتاب خاص ] وهو كتاب المقادير، أي: اللوح المحفوظ [ فليس من الممكن أن يتقدم أجل الإنسان أو يتأخر بحال من الأحوال، هذه حقيقة يجب أن تعلم من قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145] ] أي: مؤقتاً ليس بمبهم.قال: [ والثانية ] أي: الحقيقة الثانية التي يجب أن نعلمها وقد علمناها [ أن من دخل المعركة يقاتل باسم الله، فإن كان يريد بقتاله ثواب الدنيا فالله عز وجل يؤته من الدنيا ما قدره له، وليس له من ثواب الآخرة شيء، وإن كان يريد ثواب الآخرة لا غير، فالله عز وجل يعطيه في الدنيا ما كتب له، ويعطيه ثواب الآخرة وهو الجنة وما فيها من نعيم مقيم، وأن الله تعالى سيجزي الشاكرين بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. هذه الحقيقة التي تضمنها قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145] ]. وهنا تعليق قال: رثت صفية بنت عبد المطلب -والرثاء: البكاء على الميت- عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم بأبيات من الشعر دلت على مدى ما أصاب المؤمنون من حزن وألم بفراق نبيهم صلى الله عليه وسلم، حتى أن عمر -على جلالته- قال على المنبر والسيف بيده: محمد ما مات ولن يموت، وكيف يموت والمنافقون ما زال منهم فلان وفلان؟! وكان أبو بكر في العوالي فجاء فدخل الحجرة فوجد الرسول مسجى في كفنه، فكشف عنه وقبله بين عينيه وقال: ( طبت يا رسول الله حياً وميتاً )، ثم خرج فوجد عمر هائجاً فقال له: اهدأ يا عمر، ثم صعد المنبر وقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فهدأ الموقف تماماً، فكان رضي الله عنه حكيماً وأهله الله لخلافة رسوله صلى الله عليه وسلم.ونعود إلى الأبيات التي قالتها صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت رضي الله عنها: أفاطم صلى الله رب محمد على جدث أمسى بيثرب ثاوياً تخاطب فاطمة بنت الرسول، فهي تشاركها في حزنها وألمها. فدىً لرسول الله أمي وخالي وعمي وآبائي ونفسي ومالي عرفتم بمَ فدت رسول الله؟ ما تركت شيئاً حتى نفسها. فلو أن رب الناس أبقى نبينا سعدنا ولكن أمر الله قد كان ماضياً هذه هي صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
قال المؤلف: [ هداية الآيات ] هذه الآيات الأربع فيها هدايات، إذ والله لا تخلو آية من هداية، تهدي إلى أين؟ إلى ملاعب الكرة؟! إلى المقاهي والمراقص؟! إنها تهدي أصحابها إلى رضا الله وحبه والنعيم المقيم في جواره بالاستقامة عقيدة وقولاً وعملاً، وهذا هو الصراط المفضي بالسالكين إلى دار السلام. قال: [ من هداية الآيات: أولاً: الابتلاء بالتكاليف الشرعية الصعبة منها والسهلة من ضروريات الإيمان ]، ولا تفهم أبداً أنك تؤمن وتخالف ربك؛ لأن بعض الغافلين ممن يدخلون في الإسلام يبقى على الخمر والزنا والباطل، وهذا لا ينفع، إذ لابد من الابتلاء، وأول شيء أن تغتسل بالماء البارد إذا ما عندك ساخن، وأن تناجي ربك خمس مرات في اليوم والليلة، فتأتيه إلى بيته أو إلى مكان طاهر وتناجيه، ثم بعد ذلك تؤمن بكل ما أمرك بالإيمان به، أطاقه عقلك أو عجز عنه، ثم بعد ذلك تحل ما أحل، وتحرم ما حرم، وتواصل ذلك إلى أن تلقى الله عز وجل، أما أن تقول: أنا آمنت فقط، ثم تمرح كما يحلو لك، والله لا يصح هذا الإيمان أبداً، فهذه هي الهداية الأولى، وقد قال تعالى وقوله الحق: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]. [ ثانياً: تقرير رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ]، فقد قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144]، أي: تقرير للرسالة، إذ إنه ليس بتاجر، ولا بساحر، وإنما قال: رسول فقط، قال: [ وبشريته المفضلة ] أي: أنه بشر قد يموت وقد يقتل كما يقتل البشر ويموتون، ولكنها بشرية مفضلة على كل بشرية، قال: [ وموتته المؤلمة لكل مؤمن ]. [ ثالثاً: الجهاد وخوض المعارك لا يقدم أجل العبد، والفرار من الجهاد لا يؤخره أيضاً ]؛ لأن الله قال: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145]. [ رابعاً: ثواب الأعمال موقوف على نية العاملين وحسن قصدهم ]، أي: أن الثواب على الأعمال متوقف على النية وحسن القصد، فمن جاهد للمال فإنه يثاب بالجنة على جهاده فيعطى المال، ومن جاهد لأجل إعلاء كلمة الله فإنه يعطى كذلك الجنة، وبالتالي فثواب الأعمال كلها موقوف على النية وحسن القصد، حتى لو أن أناساً في المسجد إذا لم يريدوا بعملهم المشروع وجه الله وثواب الله فلا يعطون تعطى إلا ثواب الدنيا فقط. لكن قد يقول بعض الناس: نحن الآن موظفون نأخذ الراتب، وبالتالي ما لنا أجر، فكيف ذلك؟! فأقول: إذا لم يكن عندكم نية والله لا أجر لكم، إذ إنكم قد أخذتم أجركم، وإن كنتم قد وقفتم حياتكم لله من أول اليوم، فكل أعمالكم لله، واقرءوا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، فالمؤمن كما علمتم يتزوج لوجه الله، ويطلق والله لأجل الله، ويبيع ويشتري والله من أجل الله، ويطلب وظيفة ويعمل بالليل أو بالنهار والله من أجل الله، وبالتالي فحياته كلها وقف لله تعالى؛ لأنه إذا عمل ليوفر طعاماً أو شراباً فهو من أجل أن يعبد الله؛ لأنه إذا لم يأكل أو يشرب فقد يموت، وكذلك إذا طلب كسوة يتقي بها الحر أو البرد فهي من أجل الله، وهكذا حياة المؤمن كلها وقف على الله تعالى، فتراه يبني في جدار لله تعالى، وآخر يهدم في جدار لأجل الله حتى لا يؤذي مؤمناً. [ خامساً: فضيلة الشكر بالثبات على الإيمان والطاعة لله ورسوله في الأمر والنهي ]، وسنجزي الشاكرين بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. اللهم يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا مالك الملك، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك لإخواننا المؤمنين في ألبانيا وفي البوسنة والهرسك وفي غيرها من تلك الديار التي يضايقون فيها ويقتلون ويعذبون من أجل لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم تولهم يا رب ولا تتركهم، اللهم أنزل بأعدائهم البلاء والشقاء والفتنة يا رب العالمين، اللهم اصرفهم عن عبادك المؤمنين، واجعل كيدهم ومكرهم فيهم وبينهم، وانصر إخواننا يا رب العالمين بما تشاء أن تنصرهم به، وإن كنا مقصرين وإن كنا مضيعين وإن كنا مهملين فلا تنظر إلى أعمالنا يا ربنا، فإننا عبيدك وأبناء عبيدك وأبناء إمائك فانصر يا ربنا إخواننا المؤمنين، اللهم انصرهم وأعزهم وسلط على أعدائهم من يؤذيهم، وسلط عليهم من يهزمهم يا رب العالمين، واشف اللهم مرضى إخواننا، فإننا لنا مرضى في البيوت وفي المشافي وفيما بيننا فاشفنا يا ربنا إنك ولي ذلك والقادر عليه. وصلى اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-07, 05:02 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (59)
الحلقة (200)
تفسير سورة آل عمران (63)


بعد أن عاتب الله عز وجل المؤمنين المنهزمين في أحد، ذكر لهم أن التاريخ حافل بالأنبياء الذين قاتلوا أهل الباطل، وقاتلهم معهم أتباعهم المؤمنون، حتى قتل منهم من قتل، فما وهنوا لمصابهم في أنفسهم، وما استكانوا لعدوهم من أهل الكفر، بل صبروا وصابروا ورابطوا، وهذا هو الواجب في حق حملة العقيدة وأهل الإيمان.
تفسير قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث المباركات من سورة آل عمران عليهم السلام، فهيا بنا نتلوا هذه الآيات ثم نتدارسها رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة )، والله إنها لنازلة، فهل من ضجيج؟ فهل من صياح؟ فهل من صخب؟ فهل من لغط؟ فهل من ظلم؟ فهل هناك من اعتدى؟ أسألكم بالله، أليست هذه هي السكينة؟ ( وغشيتهم الرحمة )، إي والله، ( وحفتهم الملائكة )، والله إن الملائكة لتطوف بالحلقة، ( وذكرهم الله فيمن عنده )، من نحن معشر الإخوان حتى يذكرنا الله ويتحدث عنا في الملكوت الأعلى؟! إننا لو أردنا أن نحصل على هذه الجوائز بدون هذا المجلس والله ما نحصل على ذلك، حتى لو بذلنا أرواحنا وأموالنا ووجودنا كله، ولكنها منة الله وعطيته، فهو يهب ما يشاء لمن يشاء، فالحمد لله رب العالمين، فهيا بنا إلى تلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146]، وفي قراءة سبعية: (وكأين من نبي قُتِلَ معه ربيون كثير)، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148]، فمن أراد أن يحبه الله فليتحلى بحلية الصبر، ومن أراد حب الله فليحسن النية والعمل، إذ الله يحب الصابرين والمحسنين، فاللهم ارزقنا حبك وحب كل من يحبك، وحب كل عمل يقربنا من حبك يا رب العالمين. إن هذه الآيات خبر من أخبار العليم الخبير، وأخبار العليم الخبير لا تحتمل الصدق والكذب كأخبار الناس، إذ إن أخبار الله كلها صدق؛ لأنه ليس في حاجة إلى أن يكذب، إذ إنه غني غنىً مطلقاً، فبيده ملكوت كل شيء، فأي حاجة له إلى الكذب؟! فهو سبحانه منزه عن الكذب لاستغنائه عن الخلق مطلقاً، وهذا الخبر ذو شأن وعبر. يقول تعالى: وَكَأَيِّنْ [آل عمران:146]، أي: وكم، مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، بل وصبروا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، فلمَ لا تكونون مثلهم يا أهل أحد، إذ الآيات في عتاب أهل أحد، وما زال السياق معهم، إنها معركة يعجز المرء عن وصفها، معركة يشج فيها وجه رسول الله، وتكسر رباعيته، ويقتل فيها عمه.
شؤم المعصية وأثرها على حياة الإنسان
إنها وقعة من أعظم الوقائع، وسببها معصية واحدة! فكم هي معاصي المسلمين اليوم؟! لا يحصيها إلا الله، فكيف إذاً نريد أن نعز ونكمل ونسود وننتصر؟! إن معصية واحدة يصاب بسببها أصحاب رسول الله بنكبة ومصيبة لا نضير لها، لأمر عظيم ومخوف، ونحن والله غارقون في الذنوب والمعاصي، والشرك والكفر، والضلال والجهل، وكبائر الذنوب كالربا والزنا وقتل النفس، ثم بعد ذلك نريد أن نسود ونعز وننتصر! إن هذا محال، ولذا فإنه لن يفارقنا الذل والهون والدون حتى نعود إلى الطريق السوي.إن إخواننا في البوسنة والهرسك وغيرها من البلدان ينكل بهم، فيذبحون، وتنتهك أعراض نسائهم، ويقتل أطفالهم، ثم ندعو الله عز وجل، فهل يستجاب لنا ونحن ملطخون بأوضار الذنوب والآثام؟! هل نريد أن نبدل سنن الله تعالى؟! إن سنن الله لا تتبدل ولا تتغير أبداً، قال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62] . أصحاب رسول الله وهم أفضل الخلق على الإطلاق من يومهم ذاك إلى يوم القيامة، يرتكبون مخالفة واحدة فينهزمون أمام العدو، وذلك لما انهزم العدو أمامهم، وأصبح فاراً بين أيديهم، تاركاً ما لديه وما معه من سلاح ومال، فيُقبل أصحاب رسول الله على التقاط المال وجمعه، وينزلون من الجبل -جبل الرماة- الذي وضعهم فيه الرسول القائد وقال: ( لا تبرحوا أماكنكم كيفما كانت الحال والظروف ) ، فلما نزلوا من الجبل لجمع الغنائم احتل قائد قريش خالد بن الوليد رضي الله عنه الجبل، ووضع عليه الرماة، فصبوا على المسلمين البلاء، وعاد المشركون بعد الفرار، وإذا بالمسلمين بين فكي مقراظ. وهذه كانت نتيجة مخالفة واحدة، فكيف إذا كانت عشرات المخالفات؟! ومع هذا اسمع إلى الله وهو يعاتبهم فيقول: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ [آل عمران:146] أي: وكم من نبي من أنبياء الله الذين مضوا، قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146]، والربي معناه: الرباني المنسوب إلى الرب، إذ كل حياته موقوفة على الله عز وجل، وهم علماء وصلحاء وهداة ودعاة، قاتلوا مع النبيين وقتلوا أيضاً.
معنى قوله تعالى: (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله)
قوله تعالى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، وإخواننا رضوان الله عليهم منهم من قال: تعالوا إلى ابن أبي ليفاوض أبا سفيان فنعود إلى دين آبائنا وأجدادنا! وصاح إبليس فيهم: مات محمد، قتل محمد، فيسمع الرسول ذلك فيقول: إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، حتى رجع من رجع، والتفوا حول رسول الله. فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ [آل عمران:146]، من جراحات وقتل وغير ذلك، فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، لا في سبيل دنيا يريدونها، ولا سلطة يريدون أن ينالوها، ولا غير ذلك من ملذات هذه الحياة الدنيا، ولكن في سبيل الله فقط، من أجل أن يُعبد الله وحده، وأن يُعزَّ أولياؤه وينصر دينه ودعوته.
معنى قوله تعالى: (وما ضعفوا وما استكانوا)
وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، أي: ما استذلوا وما هانوا، بل بقوا كالجبال والصخور ثابتة، فهكذا يعلم الله المؤمنين بألا يضعفوا وألا يستكينوا، وقد استفادوا وتعلموا، وما أصابهم ما أصابهم في أحد إلا لحكمة وأمر عظيم أراده الله عز وجل، وقد ذكرت لكم رؤيا الشيخ محمد عبده، إذ إن بعض السامعين يقول: لماذا الشيخ يقول: كانت الهزيمة أفضل لهم من النصر؟! قلنا: رأى الشيخ محمد عبده النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو عائد من أحد ورجاله معه وهو يقول: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة ؛ لأنهم لو انتصروا مع معصية رسول الله فإنهم يألفون المعصية، ويكفيهم أن يقولوا: نحن مسلمون، ونحن نقاتل في سبيل الله، وبالتالي فلا يضرنا شيء، ويصبحون يغنون ويشربون الخمر في المعارك، ومن ثم ينتهي أمرهم نهائياً، لكنه درسٌ من أقسى الدروس، وللأسف فقد غفل المسلمون عن هذا منذ قرون، إذ لم يتنبهوا للفرق بين المعصية والطاعة. وأقول: دلوني على بلد -باستثناء هذه البقعة- أُمر فيها بإقامة الصلاة إجباراً، هيا فليقم أحدكم ويقول: نعم، دولتنا الفلانية الصلاة فيها إلزامية للمدنيين والعسكريين، للرجال والنساء؛ لأن الصلاة عمدة الدين وعموده، ولا دين بدون صلاة! فأي معصية أكبر من ترك الصلاة، فمن شاء فليصل ومن شاء لم يصل؟! ثم هل هذا بلد إسلامي؟! وهل هذه أمة مسلمة؟! إن هذا مثال فقط لتعرفوا زلتنا، وقد قلت لكم -وإني إن شاء الله على علم-: إن لم يتدارك الله أمة الإسلام في هذه الأيام بتوبة نصوح ورجعة صادقة فقد ينزل بهم البلاء، وليس بلاء الاستعمار أبداً، بل والله لأشد من ذلك؛ لأن لله سنناً لا تتبدل ولا تتخلف، والله يمهل فقط ولكن لا يهمل، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو على هذا المنبر قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102]، أي: المدن والحواضر والعواصم، وَهِيَ ظَالِمَةٌ [هود:102]، أي: والحال أنها ظالمة لأنفسها، إذ أعرضت عن ذكر ربها، إن أخذه أليم شديد [هود:102]، ثم قال: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ). وفعلاً فقد أمهل الله الظالمين من المسلمين زمناً طويلاً، ثم سلط عليهم الغرب والشرق فنالوا منهم وأذلوهم وأخزوهم وداسوا كرامتهم، وليس هذا حباً في النصارى، وإنما والله تأديباً لهؤلاء المسلمين، وشاء الله أن يمتحنهم فقام العلماء والدعاة وطالبوا بالاستقلال والحرية، واستجاب الله لنا فتحررنا من اندونيسيا إلى موريتانيا، واستقلينا عن الغرب والشرق، لكن أبينا أن نعبد الله تعالى، إذ إننا فرحنا بالاستقلال، فأقمنا حفلات الاستقلال تم فيها شرب الخمر، وقول الباطل والزور، وكأننا لا نؤمن بالله ولا بلقائه، والآن نحن أذل من اليهود، فماذا بعد هذا الذل من ذل؟! إن أصحاب رسول الله -والرسول بينهم- يصابون بمصيبة عظيمة فيستشهد منهم سبعون رجلاً، ويجرح نبيهم ويكلم بسبب معصية واحدة ارتكبوها، وذلك تربية لهم حتى لا يعصوه مرة أخرى، وها هو عتاب الله لهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا [آل عمران:146]، كما وهنتم أنتم لما أصابهم، وما ضعفوا ولا رموا بالسلاح وهربوا وقالوا: نلتحق بـأبي سفيان، وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، والاستكانة: السكون والذل والوقوف.
معنى قوله تعالى: (والله يحب الصابرين)
قوله تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، ويكره الجازعين الساقطين، وفعلاً فقد صبروا مع أنبيائهم على ما أصابهم، فما استكانوا وما ضعفوا، وما ذلوا وما هانوا، فأحبهم الله تعالى.فهيا نبدأ فنتعلم بأن نصبر، إذ لنا سنوات ونحن نصرخ بذلك فما استطعنا، وما طالبنا المسلمين أبداً بأن يحملوا السلاح ويقاتلوا، فقط عرفنا زلتنا وسقوطنا وهبوطنا، وأن لذلك سبباً عظيماً وقوياً وهو الغفلة والإعراض عن ذكر الله الناشئة عن الجهل بالله ومحابه ومساخطه، فقلنا في رسائل وكتابات: هيا يا معاشر المسلمين! نتب إلى الله تعالى ونرجع إليه، إذ إن تلك التوبة وتلك الرجعة لا تكلفنا ريالاً واحداً، بل ولا قطرة دم واحدة أبداً، وإنما فقط نوقن كما أيقن أولوا البصائر والنهى أن مصيبتنا هي الجهل بربنا ومحابه ومساخطه، ولذلك فسقنا عن أمره وخرجنا عن طاعته، وما زلت أردد -والواقع يشهد-: أروني عالماً بالله عارفاً به يتعاطى الربا والزنا وسفك الدماء، ويمزق اللحوم والأعراض، ويهمل عبادة الله، ويعرض عن ذكره، لا يوجد؛ لأنه علم، وحسبنا أن يقول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، أيكذب الله عز وجل؟! معاذ الله!ولذلك أي قرية أنت فيها أعلمكم بالله والله لأتقاكم لله، وهذا كله من أجل أن نقرر حقيقة وهي أن الفسق والفجور والهبوط كله ناتج عن الجهل بالله، إذ ما عرفوا الله ولا محابه ولا مساخطه، ولا ما عنده لأوليائه ولا ما لديه لأعدائه، وبالتالي سهل عليهم أن يفسقوا عن أمره، ويخرجوا عن طاعته، ومن ثم انتشر الفسق والظلم والشر والفساد والبخل والشح والعناد. وقد قلت غير ما مرة: لو يخرج عمر في أي بلد إسلامي فلن يستطيع أن يهديهم إلا من طريق التعليم والعلم، إذ العصا لا تنفع، بل لابد للمسلمين أن يقادوا باسم الله إلى حيث يحب الله، إذ أمة هابطة معرضة كيف تقودها وتوجد فيها حكومة إسلامية؟! أنت واهم وتتخبط. إذاً: قد عرفنا ذنبنا، وعرفنا حالنا وضعفنا، فهيا بنا إلى العلاج والخروج من هذا المأزق، وذلك إذا مالت الشمس إلى الغروب عند الساعة السادسة يقف دولاب العمل، ولم يبق دكان مفتوح الباب، ولا مصنع فيه صانع وشغال، ولا مكتب فيه كاتب ولا عامل، وإنما الأمة في القرية أو في الحي تتوضأ وتلبس أحسن ثيابها، وتأتي بنسائها وأطفالها إلى بيت ربها، فيجلس النساء وراء الستارة، ويجلس الأبناء كالملائكة بين الرجال والنساء، وذلك بعد صلاة المغرب مباشرة كما نفعل الآن، ويجلس لهم عالم رباني من الربيين يعلمهم كتاب الله وحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي ليلة واحدة يأخذون آية يترنمون بها حتى يحفظوها رجالاً وأطفالاً ونساء، ثم يشرحها لهم ويبين مراد الله منها، ويضع أيديهم على المطلوب منها، فإن كان عقيدة عقدوها فلن تنحل إلى يوم القيامة، وإن كان واجباً عرفوه وصمموا على أن يقوموا به، وإن كان نهياً عن عمل أو قول عرفوه وعزموا ألا يأتوا ما كره الله وما حرمه، وإن كان أدباً في الأكل أو في المشي أو في العطاء أو في الأخذ أو في السلوك عرفوه وتحلوا به على الفور، وهكذا فيأخذون في العلم والعمل والتطبيق والحفظ يوماً بعد يوم، ولا تمضي والله سنة واحدة إلا وأهل القرية كأنهم أصحاب رسول الله، فلا كذب ولا رياء ولا خيانة ولا نفاق ولا أي شيء من هذه القاذورات؛ لأنهم أصبحوا أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والنتيجة والله أنه لا يبقى في القرية من يجوع ويتألم لجوعه، ولا عار يتألم لعريه، ولا مظلوم مهضوم الحق بين إخوانه، وإنما يصبحون أولياء الله تعالى، وهذا لن يتحقق بالمدفع ولا بالهيدروجين ولا بالسحر ولا بالاشتراكية ولا بالمبادئ ولا بالعلمانية، وإنما يتحقق على هداية الله تعالى فقط. معاشر المستمعين! كم سنة وشيخكم يصرخ: أين العلماء؟ أين العارفون؟ أين الربانيون؟ هل بلغوا حكامنا بهذا؟ هل بينوا لهم الطريق؟ هل جمعوا أممهم؟ والجواب: لا، وظاهر واقعنا هكذا، إذ ما زلنا ننتظر محناً أخرى لا قدرة ولا طاقة لنا بها إلا من رحم الله، وكتاب: المسجد وبيت المسلم قد درسناه لمدة سنة كاملة، وهو نموذج لثلاثمائة وستين آية وحديث، وذلك بمعدل يوم آية ويوم حديث، فلو أن أهل قرية فقط اجتمعوا عليه سنة وقالوا: تعالوا زورونا لتشاهدوا أنوار الإيمان والعلم فينا، والله لزرناهم. فهل فعلنا هذا؟ بعضهم يقول: ندرسه بعد صلاة العصر مع عشرة شيوخ، أما إقبال أمة صادقة بنسائها وأطفالها في وقت فراغها وانتهاء عملها اليومي من المغرب إلى العشاء، فإن هذا ما وقع، وقد أخبرنا شخص في غرب الدنيا أنه وقع، لكن لا ندري أصدق أم لم يصدق؟ وقلنا: قد اقتدينا بالغرب في شتى الأمور، إذ إننا قد عشنا في أوروبا وفي الشرق وفي الغرب، فإذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف دولاب العمل، ورموا بالآلات، ولبسوا أحسن ثيابهم، وخرجوا بنسائهم وأطفالهم إلى المراقص ودور السينما ليروحوا على أنفسهم، فيبقون الساعات الثلاث والأربع والخمس وهم يشاهدون الباطل ويرقصون للكفر، ونحن قد اقتدينا بهم في شتى الأمور إلا في هذا الأمر، إذ إننا لم نستطع أن نغلق الدكان أو نغلق المقهى أو نوقف المطعم عند المغرب! معاشر المؤمنين! هل فيكم من ينكر هذا الكلام؟ إذاً ما الأمر؟ هل ننتظر فقط بلية من الله تعالى؟ إن الله يقول لأصحاب رسول الله مؤدباً ومربياً ومعلماً ومعاتباً: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، من جراحات وقتل، وما ضعفوا أمام أعدائهم، ولا رموا بالسلاح، ولا طالبوا بالانضمام إلى المشركين، وما استكانوا ولا ذلوا ولا ضعفوا، بل صبروا فأحبهم الله والله يحب الصابرين، ونحن ما نستطيع أن نصبر ساعة ونصف في المسجد نتعلم علم الله وهداه! وبالتالي كيف يحبنا الله تعالى؟
تفسير قوله تعالى: (وما كان قولهم إلا إن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا...)
قوله تعالى: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ [آل عمران:147]، أي: ما كان قولهم عند المصيبة والمحنة والبلاء والامتحان والاختبار إلا أن قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]. وهنا يروي لنا الإمام مسلم في صحيحه دعوة الحبيب صلى الله عليه وسلم، هذه الدعوة التي قد حفظناها وأخذنا ندعو الله تعالى بها، فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الدعوة فيقول: ( رب اغفر لي خطيئتي وجهلي )، فالرسول يعترف بأن له خطيئة وجهلاً، ويسأل الله أن يغفر له خطيئته وجهله، والسطحيون من أمثالنا لا يبالون بهذا، ووالله لو نتأمل ساعة فقط لرأينا أنفسنا غارقين في الخطايا وليس في خطيئة واحدة، ولو فكرنا لعرفنا جهلنا ولو أخذنا الشهادات العالية والرفيعة وقال الناس فينا: علماء وعالمون، والله إنا لجاهلون. إذ لو عرفنا فقط ربنا لأصبحت فرائصنا ترتعد عند ذكره، ولا يخطر ببالنا الخروج عن طاعته، لكن لأننا جهال ما عرفنا، والرسول يقول: ( رب اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري ) أي: في حياتي كلها، فهل فارقنا الإسراف عند الأكل والشرب والنوم والقعود والبناء والسيارة وعند أحوالنا كلها؟ لا يفارقها الإسراف لو كنا نشعر ونعلم ذلك. وهؤلاء الصلحاء الربانيون من قبل نبينا قالوا: وإسرافنا في أمرنا، فهل نحن نأكل أو نشرب أو ننام أو نجلس مع الناس على مقدارٍ أحبه الله تعالى؟ وهل نحن نعمل بمقادير محددة حتى تخلو من الإسراف؟ من يستطيع أن يقول: نعم؟ فلهذا نفزع إلى الله ونقول: وإسرافنا في أمرنا.وأخيراً: ( وما أنت أعلم به منا )، أي: وذنباً أنت أعلم به منا، إذ إن لنا ذنوباً الله أعلم بها منا، ولا يظهر لنا ذلك ولا نعرفه، وهي خطايا يعلمها الله العليم الحكيم. فهيا نكررها حتى نحفظها:( ربي اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني )، وقد وقف رسول الله بهذا الدعاء موقفاً للتواضع لم يقفه غيره، فأي تواضع أعظم من هذا؟ يقول: ( ربي اغفر لي خطيئتي ) وهو المعصوم! ( وجهلي ) وهو الذي يتلقى المعارف من الله وحياً! ( وإسرافي في أمري )، ما إسراف رسول الله؟ في طعامه؟ في شرابه؟ لا إسراف بالمرة، ولكن بموقفه وبعبوديته دون الله يخاف الله، ويخاف أن يكون قد أسرف، ( وما أنت أعلم به مني ).والآن لو يأتيني واحد فيقول: يا شيخ! والله لا تقوم من مكانك حتى نحفظ هذا الدعاء، فهل أنتم لستم في حاجة إلى هذا الدعاء؟! أقول: لو أن عبداً من عباد الله عرف وانفتح له باب المعرفة، وسمع هذا الدعاء وقال: والله لا يبرح الشيخ حتى نحفظ هذا الدعاء، فندعو به الليل والنهار، إذ إن هذه الدعوة قد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بها، فيعترف بخطيئته وجهله وإسرافه وبأمور أخرى لا يعرفها إلا الله، لكان ذلك خير له في دينه ودنياه. ( ربي اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني ) ، فهذا يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأين نحن من ذلك؟ إنها ليست خطيئة واحدة ولا جهلاً واحداً ولا إسرافاً في باب واحد، وبالتالي فنحن أحق بهذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيام الشبيبة مع الشبيبة قلنا لهم: يا شبيبة! الرسول صلى الله عليه وسلم صلى يوماً المغرب بسورة المرسلات، وصلت وراءه أم عبد الله بن عباس، فقالت: حفظتها لما سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعطيك مليوناً إذا حفظتها كما هي، بل قد قرأناها في الألواح وكتبناها وما حفظناها! ولذلك تعجبون عندما يسمع أحدهم أغنية لفريد الأطرش أو للعاهرة الفلانية، فيحفظها الشاب بنفس اللهجة والصوت! إنه مظهر من مظاهر الهبوط، ونفسر لهم فنقول: لأن أصحاب رسول الله كانت هممهم عالية لا يعجزهم شيء، ونحن هابطون لا يقف دوننا شيء في هبوطنا. ( ربي اغفر لي خطيئتي ) فنعترف بأن لنا جهلاً، وللأسف غيرنا لا يعترف بذلك حتى يسأل الله أن يغفر له جهله! ( وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ).
تفسير قوله تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة...)
قال تعالى: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148]. فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ [آل عمران:148]، أي: لما دعوا وتضرعوا وثبتوا أعطاهم الله ثواب الدنيا من النصر والعزة والسيادة والطهر والصفاء والسعادة، وثواب الآخرة ألا وهو الجنة دار الأبرار دار النعيم المقيم.ثم ختم العتاب بقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148]، فمن أراد أن يمسي من أحباب الله فليحسن أولاً في عقيدته، ثم في نياته وأغراضه ونوازع نفسه، فيوجهها التوجيه الذي يرضى الله به، ويحسن في أعماله ومشيته وتناوله للطعام فضلاً عن صلاته ووقوفه في ميادين الجهاد، فيؤدي العمل بالإتقان والجودة والإحسان، فلا عبث ولا لهو لا باطل، وهؤلاء يحبهم الله، وكل هذا يعود إلى أن أعمالهم التي أحسنوها أنتجت لهم الطاقة وأوجدت لهم النور، فزكت أرواحهم، وطابت نفوسهم، فأحبهم الله لطهارة أرواحهم، إذ الله طيب لا يقبل إلا طيباً. والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما درسنا ونسمع، وصل اللهم على نبينا محمد وآله وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-07, 05:06 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (60)
الحلقة (201)
تفسير سورة آل عمران (64)


عاتب الله عباده المؤمنين على انهزامهم يوم أحد وانكشافهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وسط المعركة، وذكر لهم سبحانه حال أتباع الأنبياء السابقين من العلماء والصالحين الذين صبروا على القتال مع أنبيائهم وما وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا لعدوهم، ثم بين لهم سبحانه ما كان يجب عليهم من التضرع إلى ربهم وطلب مغفرة ذنوبهم ونصرهم على عدوهم، كما فعل من كان قبلهم من أتباع الأنبياء.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، الحمد لله أن أهلنا لذلك وجعلنا من أهله.معاشر المستمعين والمستمعات! الآيات الثلاث التي درسناها بالأمس ما استوفينا دراستها من الكتاب، فهيا نعيد تلاوتها أولاً ثم ندرسها كما هي في الشرح، ثم نذكر فوائدها أو هداياتها التي رزقنا الله عز وجل، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148].
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين والمؤمنات: [ معنى الآيات: ما زال السياق في الحديث عن أحداث غزوة أحد ] أي: ما زال سياق القرآن في الحديث عن أحداث غزوة أحد، وقد عايشناها [ فذكر الله تعالى هنا ما هو في تمام عتابه للمؤمنين في الآيات السابقة، عتابه لهم عن عدم صبرهم وعن انهزامهم وعن تخليهم عن نبيهم في وسط المعركة وحده حتى ناداهم: إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، فثاب إليه رجال ] أي: فرجع إليه رجال بعد فرارهم وتشتت جمعهم. [ فقال تعالى مخبراً بما يكون عظة للمؤمنين وعبرة لهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ [آل عمران:146]، أي: وكم من نبي من الأنبياء السابقين قاتل معه جمهور كثيرة من العلماء والأتقياء والصالحين، فَمَا وَهَنُوا [آل عمران:146]، أي: ما ضعفوا ولا ذلوا لعدوهم، ولا خضعوا له كما همَّ بعضكم أن يفعل أيها المؤمنون، فصبروا على القتال مع أنبيائهم متحملين آلام القتل والجرح، فأحبهم ربهم تعالى لذلك لأنه يحب الصابرين ] أي: صبروا فأحبهم الله تعالى؛ لأنه تعالى يحب الصابرين. [ هذا ما تضمنته الآية الأولى، ونصها: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]. وأما الآية الثانية فأخبر تعالى فيها عن موقف أولئك الربانيين وحالهم أثناء الجهاد في سبيله تعالى، فقال: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ [آل عمران:147] ] أي: الذي قالوه، قال: [ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147] ] وهذا الذي كان يجب على أصحاب رسول الله أن يقولوه كما قاله أصحاب الأنبياء من قبل، ولكنهم فتنوا، فهو يعلمنا كيف نقول إذا وقعنا فيما وقع فيه إخواننا مرة أخرى. [ ولازم هذا كأنه تعالى يقول للمؤمنين: لمَ لا تكونوا أنتم مثلهم وتقولوا قولتهم الحسنة الكريمة، وهي الضراعة لله بدعائه واستغفاره لذنوبهم الصغيرة والكبيرة، والتي كثيراً ما تكون سبباً للهزائم وللانتكاسات كما حصل لكم أيها المؤمنون، فلم يكن لأولئك الربانيين من قول سوى قولهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]، فسألوا الله تعالى مغفرة ذنوبهم، وتثبيت أقدامهم في أرض المعركة حتى لا يتزلزلوا فينهزموا، والنصر على القوم الكافرين أعداء الله وأعدائهم، فاستجاب لهم ربهم فأعطاهم ما سألوه، وهو ثواب الدنيا بالنصر والتمكين، وحسن ثواب الآخرة وهي رضوانه الذي أحله عليهم وهم في الجنة دار المتقين والأبرار، هذا ما دلت عليه الآية الأخيرة: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148] ].
الإحسان ثلث الدين الإسلامي
والإحسان ثلث الدين الإسلامي، إذ الدين الإسلامي بعقائده وعباداته وقضائه وأحكامه وشرائعه وآدابه وأخلاقه ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: الإيمان، والثاني: الإسلام، والثالث: الإحسان، ففي حديث جبريل عليه السلام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم في حلقة العلم عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال: أخبرني عن الإسلام؟ أخبرني عن الإيمان؟ أخبرني عن الإحسان؟ فجعل الإحسان ثلث هذا الدين، وشيء آخر نعلمه وهو أن الإيمان والإسلام إذا فقدا الإحسان فليس لهما قيمة. ويدلك بوضوح على ذلك أنه إذا توضأ أحدنا ولم يحسن وضوءه فإن وضوءه باطل وصلاته باطلة، أو صلى ولم يحسن صلاته فيقول له الفقيه: صلاتك باطلة، أو حج أو اعتمر ولم يحسن أداء حجه أو عمرته فيقول له الفقيه: حجك باطل وعمرتك باطلة، إذاً ما الإحسان؟ العجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب إجابة لا يرقى إليها سواه، إذ قال له جبريل: ( أخبرني عن الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت )، إذاً فالإحسان أن تعبد الله، فالمتوضئ يعبد الله بالوضوء، والمصلي يعبد الله بالصلاة، والصائم يعبد الله بالصيام، والمتصدق يعبد الله بالصدقة، وتالي القرآن يعبد الله بتلاوته، وبالتالي فكل هذه العبادات لا يستطيع المرء أن يحسن أداءها إلا إذا كان يراقب الله تعالى عندها، فإذا راقب الله تعالى عند وضوئه وكأنه بين يدي الله، أو صلى وكأنه أمام الله، أو جاهد أو رابط في سبيل الله، أو قال قولاً، أو فعل فعلاً، وهو كأنه بين يدي الله، فإن مثل هذا لا يخطئ ولا ينقص من العبادة ولا يزيد فيها، وبذلك يكون قد أحسن أداءها؛ فإذا أحسن أداءها أنتجت له النور المطلوب، أي: الحسنات المطهرة للنفس والمزكية لها، فإن عجز على أن يكون في صلاته أو في عبادته كأنه ينظر إلى الله وهو بين يديه، فعلى الأقل ينتقل إلى المرتبة الثانية وهي أن يؤدي العبادة وهو يعلم أن الله ينظر إليه.إذاً: هما درجتان: دنيا، وعليا، فالعليا: أن تعبد الله بما تعبده به وكأنك تراه، وفي هذه الحال لا يمكن أن يسيء عبادته أبداً، فإن عجز عن هذه المرتبة العليا ينزل إلى الدنيا وهي: أن يعلم أن الله ينظر إليه وهو يتوضأ أو يصلي أو يزكي أو يصوم أو يحج، فإذا كان عبد الله أو أمته بهذه الحال والله سيحسن عبادته، وسيتقنها ويجودها، حتى تثمر له ثمرتها، وذلكم هو النور الذي يطهر النفس ويزكيها.إذاً: إذا لم يحسن العبد في إيمانه ما أفاده، وإذا لم يحسن في إسلامه ما ينتفع به، ولهذا الإحسان هو الجزء الثالث من أجزاء الدين الإسلامي، والجزءان قبله مفتقران إليه، فلا ينفعان إذا لم يكن معهما إحسان، وفوق ذلك: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148]، وقد عرفنا من قبل لم يحب الله المحسنين؟ لا تفهمن من الإحسان ذاك الذي يوزع الريالات، أو آصع التمر أو الدقيق، إن ذاك محسن عند العامة، أما المحسن الذي يحبه الله فذاك الذي يحسن في عبادة الله، ويؤديها أداء سليماً صحيحاً موافقاً لما شرع وبين، وبذلك ينتج له النور، فتطهر نفسه وتزكو والله يحب الطاهرين، وهذا هو السر في محبة الله تعالى للمحسنين، إذ إن هو الإحسان تجويد العبادة وإتقانها، وأداؤها على الوجه المطلوب حتى تنتج زكاة النفس وطهارتها، فمن زكت نفسه وطابت وطهرت والله ليحبه الله، وهو المحبوب لله.أما أصحاب الأرواح الخبيثة والأنفس المنتنة العفنة فهؤلاء قد حكم تعالى بخسرانهم، ولن يرضى أبداً أن يجاوروه أو ينزلوا بجنات النعيم في جواره، قال تعالى حاكماً في ذلك: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فهذا حكم الله تعالى ولا معقب بعده، إذ نفى تعالى إذا حكم أن يعقب على حكمه أحد، قال تعالى من سورة الرعد من خاتمتها: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41].
طاعة الله ورسوله ضمان لمرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة
ولهذا على من يرغب في جوار الله ومواكبة المواكب الأربعة، فليطع الله والرسول فقط، قال تعالى في سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69]، يعني: محمداً، فَأُوْلَئِكَ [النساء:69]، أي: المطيعين، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، فمن أراد أن يكون مع هذه المواكب النورانية فليطع الله والرسول فقط، ولم يقل: يخرج من ماله كله، ولا أن يطلق امرأته، ولذلك قال: (ومن)، و(من) هي من ألفاظ العموم، فيدخل فيه الذكر والأنثى، والأبيض والأسود، والفقير والغني، في الأولين والآخرين، بل قل ما شئت، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69]، أي: المطيعين، مع من؟ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بماذا أنعم عليهم؟ برضوانه وبحبه وبجواره، مِنَ النَّبِيِّينَ ، وهذا هو الموكب الأول، وَالصِّدِّيقِين َ ، الموكب الثاني، وَالشُّهَدَاءِ ، الموكب الثالث، وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، الموكب الرابع.وبالتالي فيمكننا أن نكون من المواكب الثلاثة الأخيرة، فلنفرح ولنستبشر، فأولاً: في إمكاننا أن نكون من الصديقين، وأنا أرجو -ورجائي كبير- أنني منهم، ولا تقولوا: الشيخ يمدح نفسه، لا، أنا أشجعكم فقط، فإن قيل كيف ذلك؟ أقول: ذلك سهل، كونك طول حياتك لم تكذب كذبة واحدة، أرجو أن تكون من الصديقين، فإن قلت: أنا إلى الآن قد كذبت أكثر من ألف كذبة! فكيف الخلاص من ذلك؟ أقول لك: من الآن ابدأ حياتك بالصدق، اختم حياتك بالصدق تسجل في الصديقين؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم ويربي: ( عليكم بالصدق )، أي: الزموه، ثم قال: ( فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة )، إي والله، ( ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً )، فأي مانع من أن نصبح صديقين؟ هل يستطيع أحد أن يقول: يا شيخ! لقد استفدنا من الكذب؟! إنه لا فائدة أبداً من الكذب، وإنما هو خزي وذل وعار وفتنة في النفس.إذاً: هيا نستجب لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: ( عليكم بالصدق )، أي: الزموا الصدق يا عباد الله، لمَ يا رسول الله؟ قال: ( فإن الصدق يهدي إلى البر )، أي: يقود إلى البر، ( وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال المرء )، رجلاً كان أو امرأة، ( يصدق ويتحرى الصدق ) أي: يطلب الصدق ويتحراه في كل أعماله وأقواله وأحاديثه، بل ونياته ظاهراً وباطناً، ( حتى يكتب عند الله صديقاً ) أي: يُعلن أن فلاناً ابن فلان قد تحرى الصدق عشرين عاماً أو ثلاث سنوات أو كذا من السنين، وقد سُجِّل اسمه في ديوان الصديقين، وأصبح من جماعة أبي بكر الصديق.وكما قلت لكم: إذا فات من العمر كذا سنة، وما انتبهنا أو ما وجدنا من يعلمنا ذلك، فمن الليلة لا نكذب أبداً، لا مع المرأة ولا مع الولد، لا مع الظالم ولا مع الحليم، وإنما نتحرى الصدق في كل أحوالنا. ثانياً: في إمكاننا أيضاً أن نكون مع الشهداء، وليس معنى ذلك أن نمشي إلى البوسنة والهرسك أو إلى غيرها من البلدان التي احتلها العدو؛ لأن شيخنا ما قال: هذا جهاد، إذ أين الإمام الذي نجاهد تحت رايته؟ لقد عجزنا عن بيعة إمام فكيف نستطيع أن نقاتل وننتصر؟! إن كل قتال في الإسلام لم يكن تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله ببيعة إمام صالح، نصبح معه إذا قال: قولوا: الله أكبر، قلناها لا خلاف بيننا، لا يُعتبر جهاداً وأهله ما هم بالشهداء، وهذا الكلام إذا سمعه المتحمسون -الذين يقولون: الحكام كفار فلنخرج عليهم- ينكرون ذلك أشد الإنكار، وهم في الحقيقة ينتحرون كالمساكين، ودماؤهم تسيل في الشرق والغرب، بل وما ظهروا في بلد إلا أطفئوا نور الله فيه والعياذ بالله؛ لأنهم ما ذاقوا طعم لا إله إلا الله ولا عرفوا معناها.وهذا مثال محسوس على ذلك: جهادنا في الأفغان، عشر سنوات والشيخ على هذا الكرسي يدعوكم إلى أنه يجب ألا يراك الله يا عبد الله في غير هذا الجهاد، إما بنفسك إن قدرت، أو بمالك إن كان لك مال، أو بدعوة إخوانك ليجاهدوا، أو بدعائك للمجاهدين، ومع هذا نقول: إنه جهاد وفيه دخن، فيغضب الذين لا بصيرة ولا نور لهم، ويقولون: كيف يقول: إن فيه دخناً؟! والجواب: لأنهم ما اجتمعوا تحت راية واحدة، ما استطاعوا أن يبايعوا واحداً منهم، إذ إن كلاً منهم يريد الرياسة، فتقاتلنا ونحن أحزاب وجماعات، فهل تتخلف سنة الله من أجل بكائنا أو بكاء نسائنا أو صدقاتهم؟كما قد ذكرت لكم أنه يأتيني كيساً من اليمن كله فضة لصالح الجهاد الأفغاني، وأم أولادي رحمة الله عليها تخلع ذهبها مرتين وتتصدق به على الجهاد في الأفغان، فنشتريه منها ونرده لها، بل شاركت أمة الإسلام كلها وخاصة هذه الديار في ذلك الجهاد، فهل ارتفعت راية لا إله إلا الله؟! وهل أقيم شرع الله؟! وهل تلاقى أولياء الله وتحابوا وتعانقوا؟! لا، إذاً ما هو السر؟ أو ليس عندنا بصيرة؟ بالله الذي لا إله غيره، إن سر هذا الانكسار والهبوط هو أنهم ما قاتلوا تحت راية واحدة يحملها إمام رباني بايعوه في الشرق والغرب، إذ كل قتال من هذا النوع مآله الخسران، ولله سنناً لن تتخلف ولن تتبدل أبداً، فإخواننا في البوسنة والهرسك يقتلون ويذبحون ويشردون من ديارهم، ولو كنا مؤمنين لاجتمع حكامنا في الروضة بعد صلاة الجمعة وبايعوا إماماً للمسلمين، وتحولت تلك الدويلات الإسلامية إلى ولايات ربانية، فيطبق فيها شرع الله كاملاً، وحينئذٍ إذا قال الإمام: الله أكبر، حيِّ على الجهاد، انقادت الأمة لذلك، فإذا غزونا وفتحنا فإنها تُرفع راية لا إله إلا الله، ويُعبد الله عز وجل.أما قتال من أجل الوطنية والتراب والطين فلا ينفع أبداً، وفي أيام الاستعمار -وإن كنتم تغضبون- كان الإسلام في مستعمرات فرنسا وبريطانيا أحسن مليون مرة منه اليوم، ولذا يا أبنائي أنتم أحداث ما عرفتم هذا، ووالله لأيام الاستعمار كان الإسلام فيها أرفع منه اليوم، بل وأظهر وأكثر، والسر والعلة في ذلك: أننا ما قاتلنا باسم الله، ومن أجل إقامة دين الله، وإنما قاتلنا لتحرير البلاد، لتحرير الوطن، فلما تحرر أعرضنا عن الله، وما استطاع إقليم واحد من المتحررين -من باكستان إلى المغرب- أن يقيموا الصلاة فقط، بمعنى: أن يلزموا المسلمين بإقام الصلاة، إذ إنها أول فريضة فرضت في الإسلام، فإذا أُهملت ولم يلتفت إليها فمستحيل أن يوجد طهر وصفاء، بل لا بد من الخبث والظلم والشر والفساد. كذلك إخواننا في فلسطين، كم نتحسر ونتألم عليهم، إذ لو ألهمهم الله فبايعوا إماماً منهم منذ خمسة وأربعين سنة، والتفوا حول رايته وعبدوا الله، وأعطوا قلوبهم لله، وتجمعوا في مكان ما، وخاضوا المعركة باسم الله، والله الذي لا إله غيره لنصرهم الله، ولأقاموا دولة الإسلام في فلسطين، ولنشروا ظلها في باقي البلاد العربية التي لا تطبق شرع الله، ولن يتخلف وعد الله، أما بدون هذه النية وهذا القصد وهذه المعرفة فلا ينصرنا الله أبداً.ولو أن العرب انتصروا على اليهود في تلك الحروب التي شنوها لهبط الإسلام إلى أسفل الأرض، ولا ما بقي من يجرؤ أن يقول: الإسلام والمسلمون، لكن رحمة الله وولايته لأوليائه ما نصرنا ونحن فسقة فجرة، ظلمة بعيدين عن رحمة الله، إذ لو نصر الله العروبة عندما كانت تصول وتجول، لأصبح لا مجال لأن يقال: باسم الله، والجهاد من أجل إعلاء كلمة الله؛ لأنهم انتصروا بقوتهم، فقد كانوا يقولون: قوتنا الضاربة، ويتبجحون في كل مكان، لكن من لطف الله، ومن تدبير العزيز الحكيم أنه أذلهم لحفنة من اليهود، وذلك لتتجلى حكمة الله عز وجل، ويفتح باب التوبة، ولكن ما تابوا وما عرفوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.وقد قلتها أمس: يا عباد الله! إننا تحت النظارة، إن ربنا لبالمرصاد، فإما أن نستقيم كما أراد الله لنا ذلك على منهج الحق فنعبد الله عز وجل بمحابه فعلاً وبمكارهه تركاً، وإما أننا فقط ننتظر ساعة ينزل فيها البلاء علينا جميعاً، أحب من أحب، وكره من كره، والصالحون ينزل بهم ما ينزل بإخوانهم من العذاب والبلاء، لكن لا يحرمهم الله أجر إيمانهم وصالح أعمالهم، فيرفع الله درجاتهم يوم القيامة.ومن قال: كيف تقول هذا يا شيخ مع وجود هذه الصحوة فينا؟ قلنا: أيام تسلطت علينا فرنسا وإيطاليا وأسبانيا وهولدنا وبريطانيا، لم يكن المسلمون أسوأ حالاً من مثل هذه، فلم يكن فيهم فسق وفجور بهذه الطريقة، والتكالب على الدنيا وأوساخها، بل كان فيهم حياء وشهامة وكرامة وإيمان، مع ما فيهم من الضلال والجهل والفساد، فسلط الله عليهم الأعداء ليؤدبهم، والآن أوضاع المسلمين مع ما آتاهم الله من هذه الاتصالات وهذه الخيرات وهذا العلم الحديث، المفروض أن يتبدلوا في أربعة وعشرين ساعة، فيصبحون كلهم أولياء الله، وكلمتهم واحدة، وعند ذلك اتحدت البلاد والأصوات، وما أصبحت انقسامات ولا تباعدات.فهم تحت النظارة، وقد سئل أحدهم: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد، فهو يمهل ولا يهمل، قالها أبو القاسم على منبره كما سمعتموها البارحة: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )، وقرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، فهيا عجلوا بالتوبة، وخفوا من الذنوب والآثام.
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ من هداية الآيات: أولاً: الترغيب في الائتساء بالصالحين ] وقد رغبنا الله في هذه الآيات بأن نتأسى ونقتدي بالصالحين، ونحاول أن نكون مثلهم [ الترغيب في الائتساء بالصالحين، في إيمانهم وجهادهم وصبرهم وحسن أقوالهم ] أيضاً، وأُخِذت هذه الهداية من قول الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147]، وكأن الله قال: كونوا كهؤلاء الربانيين أيها المسلمون! فقد كانوا هكذا مع أنبيائهم، فلمَ لا تتأسوا وتقتدوا بهم؟!ونحن قد جعل الله لنا رسولنا أسوتنا فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فيجب أن نتأسى برسولنا عليه الصلاة والسلام، فإذا جعنا فلا نسرق ولا نكذب ولا نخون، وإنما نربط الحجارة على بطوننا ونشدها بإزار كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا سببنا أو شتمنا أو عيّرنا أو هزئ بنا أو سخر منا، فلنصبر كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قاتلونا نقاتل، وإن جرحنا وإن قتلنا نصبر كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إن الدماء -في إحدى المعارك- كانت تسيل من وجهه وهو يقول: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ).كما نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدق، إذ والله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، وأيضاً نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في الشورى، فقد استشار رجاله وأخذ برأي الأكثرية في غزوة أحد، ثم إنهم خافوا وارتعدت فرائصهم، وقالوا: حملنا الرسول على هذا، فقال تلك المقولة المشهورة: ( ما كان لنبي أن يضع لأمته عن رأسه حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ).كذلك نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في النوم، كيف كان ينام؟ هل ينام وعاهرة تغني عند رأسه؟! كيف كان يأكل؟ كيف كان يشرب؟ ولذا يجب أن يكون صورة حية أمام أعيننا نتأسى بها ونقتدي، ومن لم يعرف يسأل: يا شيخ! كيف كان ينام الرسول؟ يا شيخ! كيف كان يتوضأ الرسول؟ كيف كان يتناول الرسول صلى الله عليه وسلم طعامه؟ بم يبدأ؟ كيف ينهي طعامه؟ إذا أراد أن يركب على دابته كيف كان يركب؟ قال: [ ثانياً: فضيلة الصبر والإحسان، وذلك لحب الله تعالى الصابرين والمحسنين ] والصبر: حبس النفس وهي كارهة -وقد يأكلها العويل والصياح- على طاعة الله، ولا يسمح لها أبداً أن تفرط في ذلك، فيبعدها كل البعد عن المعاصي والذنوب والآثام، فإذا أصابها الله بمرض أو بعذاب فإنها تلجأ إلى الله تعالى، ولا يسمع منها إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهذا قضاء الله وحكمه، والحمد الله على كل حال، ولا تتململ أو تتضجر أو تسخط، وهذه مواطن الصبر الثلاثة، أي: حبسها على الطاعة حتى لا تفارقها، وحبسها بعيدة عن المعاصي حتى لا ترتكبها، وحبسها على قضاء الله وقدره، فإذا سئلت وأنت مريض: كيف حالك؟ فقل: الحمد لله، ولا تتضجر ولا تسخط ولا تتململ، وكذلك إن كنت جائعاً.وقد ذكرت لكم قصة لأحد الإخوان، إذ إنه كان يقول: أنا أعرف متى يكون عبد الرحمن مختار لم يتغد أو لم يتعش، فقالوا له: كيف ذلك؟ قال: نسأله: كيف حالك؟ فيجيب: إني في خير، إني في نعمة، الحمد لله، وهو والله ما تغدى ولا تعشى! ويُعرف إذا كان مبتلى أو مصاباً والألم في نفسه، إذ إنه يفزع إلى الله تعالى فيقول: الحمد لله، الحمد لله، هذا إفضال الله وإحسانه إلينا، إننا في خير، إننا في نعمة! وهذا هو شأن الصابرين، ولا يقول: نحن لم نأكل، نحن في بلاء، نحن في شقاء! وأعطيكم صورة من الواقع: جماعتنا في المملكة إذا درس أحدهم وتخرج من الجامعة وما وجد وظيفة، فإنه يأخذ في سب وشتم وبغض الحكومة؛ لأنه لم يجد عملاً، وآخر ما قبل ولده في الجامعة أو في المدرسة، فبدل أن يقول: قضاء الله وقدره، يأخذ في السبب والشتم والبغض لهذه الجامعة أو المدرسة! فكون ما نجحت تجارتك أو ما أفلحت في تعلمك تأخذ في السب والشتم والصياح والضجيج، فهل هذا هو الإيمان والصبر؟! إذا كنت في المعركة والدماء تسيل هل تكون كالربانيين؟ والله ما تكون مثلهم، الذين قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147].والحقيقة هي أننا ما ربينا في حجور الصالحين، وأحلف لكم بالله، الذي ما يتربى منذ طفولته في حجر صالح وصالحة لا ينمو على الطهر والصفاء، وإنما يكبر ويتعلم وهو هائج، وأدنى شيء أن ينكشف كل عواره.فهيا نربي أولادنا على الكتاب والسنة، ولا نتركهم للتلفاز واللعب واللهو فيشبون على الانحراف والبعد عن الله تعالى.[ ثالثاً: فضيلة الاشتغال بالذكر والدعاء عند المصائب والشدائد بدل التأوهات وإبداء التحسرات والتمنيات، وشرٌ من ذلك: التسخط والتضجر والبكاء والعويل ] فعندما ترى أخاك يكثر من ذكر الله ويدعو فاعرف أنه مصاب، إذ إن الذكر والدعاء يكون عند المصائب والشدائد، وذلك بدل: آه! ما هذا؟ كيف هذه الحياة؟ ماذا نصنع؟ هذه البلاد كذا! هذه الأمة كذا! فهل هذا يليق بالمؤمن؟ بمن عرف الله ولقاءه؟ لا لوم؛ لأننا ما ربينا في حجور الصالحين، إذ الذين تربوا في حجور الصالحين إذا مرضوا أو جاعوا أو تعبوا، لا يفزعون إلا إلى الله، فلا تصدر منهم كلمة سوء، ولا نظرة باطلة، ولا حركة غير معقولة ولا غير مقبولة.[ رابعاً: كرم الله تعالى المتجلي الظاهر في استجابة دعاء عباده الصالحين الصابرين المحسنين ]، قال تعالى: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [آل عمران:148]، أي: تثبيت أقدامهم ونصرهم على أعدائهم، وهذا في الدنيا، وأما في الدار الآخرة فلا تسأل، إذ إنها جنات النعيم، قال تعالى: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148].معاشر المؤمنين! استفدنا من دعاء الربانيين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]، بحديث مسلم: ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني )، فعندما نتأمل هذه الدعوة نجد أنها أحاطت بكل الذنوب فلم تترك شيئاً.فـ(اللهم) معناها: يا الله، وحذفت ياء النداء لأن الله قريب، قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وقال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، وحذفت ياء النداء وعوض عنها بالميم العظيمة، فبدل أن تقول: يا الله، قل: اللهم، وهذا خاص بالله عز وجل، ولا يعرف إلا مع الله عز وجل.ولفظ: (الخطيئة) في الحديث تشمل كل معصية وكل زلة تزلها أقدامنا، وقوله: (وجهلي)، لو قرأت سبعين سنة فإياك أن تفهم أنك قد علمت، فهذا موسى الكليم عليه الصلاة والسلام يخطب في جمع من بني إسرائيل، فانبهر الناس واندهشوا، فقام شاب من شبيبتهم فقال: هل يوجد من هو أعلم منك يا موسى؟ فقال: لا، فأوحى الله تعالى إليه: بلى، إن عبداً لنا يقال له: الخضر هو أعلم منك، فما كان من موسى الرسول النبي الكريم إلا أن أصبح تلميذاً، وترك الولاية والحكم والدولة وأخذ يتعلم -واقرءوا سورة الكهف- فقال لربه: يا رب! دلني عليه حتى أتعلم منه، فقال الله له: خذ طعامك وشرابك، وخذ تلميذك أو مولاك يوشع بن نون واطلبوه في المكان الفلاني، فمشوا ثم وجدوه، فقال له موسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، وما قال: أنا موسى، أنا ملك ورسول بني إسرائيل فعلمني! لا، وإنما قال له: من فضلك، هل تسمح لي أن أتعلم منك؟ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، قال: وكيف لا أصبر وأنا أريد أن أتعلم؟! فمشى معه ليالي وأياماً، وفي أثنائها ركبوا البحار وانتقلوا إلى بلاد أخرى طلباً للعلم. ورسولنا أيضاً عوتب مرة ثانية، وذلك لما سألوه عن شيء فقال: غداً أجيبكم، ولم يقل: إن شاء الله، فعاتبه الله بانقطاع الوحي نصف شهر أو خمسة عشر يوماً، ثم نزل قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، أي: إلا أن تقول: إن شاء الله، فما تركها حتى مات صلى الله عليه وسلم، إذ كل شيء في المستقبل لا بد أن تقول: إن شاء الله، والعوام عندنا قد أخذوا بهذا حتى في الماضي، فيقال لأحدهم: هل تغديت أم لا؟ فيقول: إن شاء الله، هل صليتم المغرب؟ فيقول: إن شاء الله، فكيف تقول: إن شاء الله وقد صليناها؟! لكن هو أحسن من طلبة العلم ومن العلماء الذين لا يقولون: إن شاء الله، إذ إنه يقول: إن شاء الله دائماً في المستقبل وفي الماضي، والذي يدعي العلم ما يقول: إن شاء الله. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-07, 05:10 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (61)
الحلقة (202)
تفسير سورة آل عمران (65)


حذر الله عز وجل عباده المؤمنين من طاعة الذين كفروا؛ لأن مآل طاعتهم الردة عن دين الله، وتنكب طريق الحق، وفي ذلك الخسران المبين في الدنيا والآخرة، وإنما الواجب مجاهدتهم وقتالهم، وقد وعد الله عباده المؤمنين حينذاك بنصرهم على عدوهم، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، لإعراضهم عن الله، وكفرهم به، ومحاربتهم لأوليائه.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، فهيا بنا نتلوا هذه الآيات عدة مرات ثم نتدارسها؛ رجاء أن نعلم ما أراده الله منا أن نعلمه، وأن نعمل بما أراده الله منا أن نعمله؛ لنظفر إن شاء الله بجائزة العلم والعمل، وتلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:149-151].
الحكمة من مناداة الله لعباده المؤمنين
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا النداء الإلهي الكريم موجه إلى المؤمنين؛ إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:149]، أي: يا من آمنتم بالله رباً وإلهاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، وقد علم الأبناء والإخوان أن الله ينادي المؤمنين لأنهم أحياء يسمعون ويعون، يفهمون ويفقهون، أما الأموات فلا يناديهم؛ لأن الله حكيم، والحكيم لا ينادي ميتاً، وإنما الذي يُنادى حي يسمع النداء ويجيب الدعاء.كما قد علمتم -زادكم الله علماً- أن الله تعالى نادى المؤمنين في كتابه القرآن الكريم تسعين نداءً، فيناديهم ليأمرهم بما فيه سعادتهم وكمالهم إن هم عملوا به، أو يناديهم لينهاهم عما فيه شقاؤهم وخسرانهم إن هم لم يستجيبوا، أو يناديهم ليبشرهم فتنشرح صدورهم وتطمئن قلوبهم وينطلقون في ميادين الخير والعمل، أو يناديهم ليحذرهم من عواقب الانحراف والخلاف والخروج عن منهج الحق؛ حتى لا يخسروا وينهزموا، أو يناديهم ليعلمهم ما ينفعهم أو ما به كمالهم وسعادتهم.فهذه خمس رحمات ربانية أوصاها لعباده المؤمنين، فلا يناديهم إلا لواحد من هذه الخمسة؛ لأنه وليهم، والولي لا يهمل أولياءه أبداً.
نهي الله للمؤمنين عن طاعة الكافرين
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، فهو ينهاهم عن طاعة الكافرين حتى لا يخسروا دنياهم وأخراهم، وذلك لأنه وليهم ومولاهم.معشر المستمعين والمستمعات! ما زال السياق في معركة أحد، وفي التأنيب والعتاب والتأديب والتوجيه لأولئك المؤمنين الربانيين، حيث أصابتهم مصيبة، فها هو تعالى يقول لهم: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:149]، وهم المنافقون الذين كانوا معهم، والكافرون الذين كانوا مع ابن أبي ابن سلول وأبا سفيان في المعركة؛ لأنهم قالوا: هيا بنا نعود إلى دين آبائنا وأجدادنا، وننتهي من هذه الإحن والمحن! وقالوا: من يذهب إلى ابن أبي فيتوسط لنا عند أبي سفيان ونعود إلى ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا.المهم اقتراحات قدمت لهم وسمعت، فأنقذ الله أولياءه على الفور، وأنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، أي: ترجعون إلى الجاهلية الأولى، وتتجرعون غصصها، وتذوقون خسرانها في الدنيا والآخرة.إذاً: حذرهم ونهاهم أن يسمعوا أقوال المبطلين من الكافرين، ولنعلم يقيناً أن هذا التوجيه الإلهي، وهذا الإرشاد الرباني، وهذا التعليم الرحماني، ليس خاصاً بوقعة أحد وبأصحابها، وإنما هذا التوجيه إلى أن تطلع الشمس من مغربها، إلى أن يغلق باب التوبة ويستقر الوضع، فالمؤمن مؤمن والكافر كافر، والسعيد سعيد، والشقي شقي، فعلى الأفراد والجماعات والحكومات والمسئولين من المسلمين ألا يطيعوا الكافرين، سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو بوذيين أو علمانيين أو شيوعيين أو مجوسيين، إذ إن طاعتهم تتنافى مع طاعة الرحمن.وأزيدكم بياناً: والله إن الأعداء ما يريدون سعادتنا ولا عزنا ولا كمالنا ولا غنانا ولا علونا أبداً؛ لأن خالق قلوبهم وطبائعهم قد أخبرنا بهذا، وإن شئت فاخل بواحد منهم وقل له: اصدقني القول، هل تريدون للمسلمين أن تعلو رايتهم، وترتفع كلمتهم وسلطانهم، وأن ينتصروا في دينهم ودنياهم؟ يقول لك: والله ما نريد ذلك أبداً؛ لحسدهم وبغيهم، فهم يعرفون أن الإسلام مفتاح دار السعادة، والذي منعهم من أن يدخلوا فيه وينعموا برحمة الله فيه أنهم يريدون أن يحافظوا على مراكزهم ومناصبهم وسيادتهم وما إلى ذلك، فهذا هرقل يعلنها فيقول: لو علمت أنني أخلص إلى محمد لغسلت ما تحت قدميه؛ لأنه عرف أنه النبي المنتظر، وأن هؤلاء هم المؤمنون أهل الجنة، وما منعه أن ينزل من على سرير ملكه إلا حبه للملك والسلطان.إذاً: إياك أن تطلب النصح أو الإرشاد من كافر، سواء كان ابن عمك أو أباك أو أخاك، أبيضاً أو أسود؛ لأن الكافر ميت، فكيف تسترشد بميت؟! ثم إن الكافر ضد المؤمن ضداً كاملاً، فكيف ينصح لك وتقبل نصيحته، وقد تقدم نداء آخر وهو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118]، أي: أحبوا ما يشقيكم ويرديكم، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].يؤتى بنصراني من الحيرة ليكون كاتباً لـعمر فيرفضه، والكفار اليوم هم الذين يوجهون ويرشدون ويبينون الطريق خمسين سنة! فهل عز المسلمون وسادوا؟! وهل استغنوا وارتفعوا؟! وهل نفعت استشاراتهم وتوجيهاتهم وإرشاداتهم؟! والجواب: لا، إذ إن العالم الإسلامي الآن يعيش في ذلة ومسكنة وضعف أيضاً، والحفنة من اليهود تسود العالم الإسلامي وتتسلط، سواء علناً أو سراً.وعلى كل حال نحن لسنا مع اليهود ولا مع النصارى في ديارنا الطاهرة، لكن إخواننا الموجودون في مصر والشام وأوروبا والبلاد التي فيها كفار ننصح لهم ألا يستشيروا كافراً، بل لهم أن يستشيروا زوجاتهم أو إخوانهم من المؤمنين، أما أن تستشير الكافرين فلن ينصحوا لك أبداً، ولن يوجهوك إلا إلى ما فيه الشقاوة والتعاسة لك، فاستغن بالله تعالى، ومن استغنى بالله أغناه الله، ثم هل انعدم الصلحاء والربانيون بيننا؟ والجواب: لا، إذ يوجد بيننا ربانيون وعلماء وصلحاء وأتقياء ذووا بصيرة وعلم ومعرفة، فإذا احتجنا إلى الاستشارة فهم الذين يُستشارون، وإذا وجهونا فهم الذين نطيعهم ونقبل توجيهاتهم، أما الكافر الذي يكرهني ويكره حتى وجودي في هذه الحياة فكيف نستشيره؟!إذاً: هذه رحمة الله وقد نصحنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:149]، وهذا أعظم من النهي: لا تطيعوا، والسبب أنه قد بين لنا الحقيقة كما هي فقال: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:149]، أي: جحدوا ألوهية الله عز وجل ولقائه ورسالة نبيه، وما أنزل من الشرع والأحكام على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلهذا قلت: يهود ونصارى وبوذيين ومجوس، كلهم جنس واحد كافر.
معنى قوله تعالى: (يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، أي: ترجعون إلى الشرك والضلالة، وتعودون مثلهم كفاراً، فتنقلبون وترجعون بعد هذه الرحلة الطويلة في مسار الكمال والطهر والصفاء خاسرين ذليلين، وما استفدتم شيئاً من إيمانكم وجهادكم وصبركم القرون الطويلة أو الأيام والأعوام العديدة.
تفسير قوله تعالى: (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين)
قال تعالى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150].ثم قال تعالى: بَلِ اللَّهُ [آل عمران:150]، وقرئت قراءة سبعية: (بل اللهَ) بفتح لفظ الجلالة، أي: أطيعوا الله، فهو الذي يجب أن تطيعوه لا الكفار.ثم قال: مَوْلاكُمْ [آل عمران:150]، أي: أن الله مولانا، فهو الذي خلقنا ورزقنا وحفظ علينا حياتنا وتولى كل شئوننا وأمورنا، فكيف لا يكون مولانا؟! إنه مولانا وسيدنا ونحن عبيده، قال: اركعوا فنركع، قال: اسجدوا فنسجد، قال: صوموا فنصوم، قال: اكشفوا عن رؤوسكم وهرولوا بين جبلين، أجبنا وهرولنا؛ لأننا عبيده، قال: لا تشربوا مسكراً، والله ما نشربه، قال: لا تقولوا الباطل، والله ما نقوله، قال: لا تكذبوا ولا تنطقوا بغير الحق، والله ما نكذب ولا ننطق بغير الحق؛ لأننا عبيده ومصيرنا بيده، إن شاء أسعد وإن شاء أشقى، وفوق ذلك أننا نحبه ويحبنا، فكيف إذاً نخرج عن طاعته ونعصيه ونحب من يكرهه ويبغضه ويعصيه؟!ثم قال تعالى: وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150]، أي: وإن طلبتم النصر على المشركين والكافرين، وعلى من تحاربون ويحاربونكم، فهو جل جلاله وعظم سلطانه خير الناصرين، فلا تطلبوا النصر من فرنسا أو إيطاليا أو أسبانيا، وإنما اطلبوه من الله، إذ إنه والله خير الناصرين، فهو الذي يملك، وهو الذي بيده قدرة كل ذي قدرة، إن شاء عز وإن شاء ذل، إن شاء هزم وإن شاء نصر، وهذا هو الذي ينبغي أن نطلب منه، ولا نطلب النصر على أعدائنا بمعصيته كما حصل وتم وتذوقنا مرارته وتجرعنا غصصه في حربنا مع اليهود منذ أن دخلوا فلسطين، وأعلنوا عن دولتهم، ونحن في حماس وحرب بعد أخرى وما انتصرنا أبداً.وسر ذلك يا ربانيون! يا علماء! أننا ما قاتلناهم من أجل أن نقيم دين الله، وإنما قاتلناهم من أجل أن نجليهم عن أرضنا ووطننا، فكان هذا هو القصد، وإن قلت: لا يا شيخ، فأقول لك: عندما قاتلتم اليهود، هل كنتم تقيمون دين الله في دياركم؟! وهل أحللتم ما أحل وحرمت ما حرم؟ وهل أقمتم حدوده عليكم وعلى غيركم؟ وهل دعوتم إليه ورفعتم أصواتكم بـلا إله إلا الله وألا يعبد إلا الله؟! الجواب: لا، باستثناء هذه الدويلة، وباقي الدول العربية من المغرب الأقصى إلى الشرق هل كانوا يعبدون الله بما شرع، ويقيمون شرعه ودينه وهم أولياؤه حتى ينصرهم؟! والجواب: لا، إذاً كيف ينصرهم الله؟! ولذلك كانت هزيمتنا أمام اليهود فيها خير كبير، وقبل ذلك هزيمة المؤمنين مع رسول الله في أحد كان لها خير كبير، إذ لو انتصروا مع عصيانهم لقائدهم صلى الله عليه وسلم لكانوا لا يطيعون الله والرسول، ويقولون: نحن مسلمون، والنصر إلى جانبنا، والله معنا، ولا نبالي بالمعاصي إذا ارتكبناها، ومن ثم يخسرون كل شيء، فعلمهم أنهم لما عصوا رسول الله قائد المعركة هزمهم الله وسلط عليهم المشركين، ولذلك لو أن العرب انتصروا على إسرائيل وهم على ما هم عليه من عدم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك والخرافات والضلالات، لقالوا: انتصرنا بقوتنا، ولم يبق مجال لأن يُعبد الله، وكذلك لو انتصر الاشتراكيون في بلاد العالم، وكثر خيرهم وبركاتهم، وعمهم الغنى، لوقع في هذا الفخ اليهودي كل المسلمين إلا من شاء الله، ولكن الله ما أغناهم، فقد تبجحوا وتحطموا، وذلوا وهانوا وافتقروا.وهذا كله ثمرة ولايتنا لله تعالى، إذ الله ولي المؤمنين، فلا يسمح لهم أن يذوبوا في الكفر وينمسخوا ويهبطوا ويصبحوا لا إيمان ولا إسلام ولا إحسان.إذاً: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ [آل عمران:150]، فحققوا الولاية وشدوا بأيديكم، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150]، إن كنتم ترون أن هناك من ينصر فالله خير الناصرين، فاطلبوا النصر منه، ونطلب نصر الله لا بالدعاء فقط، بل نطلبه بطاعته وبامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ لأن أوامره كلها عوامل النصر والفوز، ونواهيه كلها عوامل السقوط والهبوط، فإذا أطعناه فيما أمر وفيما نهى فقد سدنا وانتصرنا وفزنا بسعادة الدارين.
تفسير قوله تعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب...)
قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151].ثم قال تعالى مبشراً عباده المؤمنين: سَنُلْقِي [آل عمران:151]، وقد ألقى وقد فعل، سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151]، وأقسم بالله لو أن المسلمين في أي مكان أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، وأطاعوا وحملوا راية لا إله إلا الله، وقاتلوا المشركين في أي مكان، والله ليلقين الله الرعب في قلوب المشركين فينهزمون، إذ إنه في خمسة وعشرين سنة فقط وراية لا إله إلا الله من وراء نهر السند إلى اندونيسيا وإلى الأندلس، وهذا الرسول الكريم يقول: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )، وذلك لما حاول ملك الروم أن يغزو النبي محمداً وآله وقومه، فأعد العدة، وجمع ثلاثمائة ألف مقاتل في ديار الشام، وعزم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عزمه على قتاله، فأعلن التعبئة العامة، فجهز اثنا عشر ألفاً من المجاهدين، ولما بلغ الروم عزم رسول الله وخروجه باثني عشرة ألفاً انهزموا وعادوا إلى ديارهم، وعسكر النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك عشرين يوماً، ثم عاد إلى المدينة عليه الصلاة والسلام وقال: ( نصرت بالرعب ).وإن قلت: هذا رسول الله! فنقول: وهذا عبد الله بن رواحة، وهذا جعفر بن أبي طالب، وهذا زيد بن حارثة مولى الرسول صلى الله عليه وسلم قادوا ثلاثة آلاف مقاتل، وخرجوا إلى ديار الشام، واستقبلهم مائتي ألف مقاتل من الروم، فألقى الله تعالى الرعب في قلوب المشركين، وبعد استشهاد القادة الثلاثة الأول فالأول، تولى قيادة الجيش خالد بن الوليد رضي الله عنه، فاستخلص واستل ذلك العدد من مائتي ألف مقاتل كاستلال الشعرة من العجين، إذاً فمن دبر هذا؟ إنه الله عز وجل، وهذا وعده إذ قال: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150]، ومن مظاهر النصر أن الله يلقي الخوف والهزيمة في قلوب المشركين، فيتزعزعون ويتخلخلون، ويتساقطون ويخرون، وهذا ليس خاصاً بمعركة ولا ألف معركة، بل ما زال إلى الآن، وفي البارحة وجهت -وأنا آسف لأني أقول ما لا أعرف، وليس هنا من يقبل قولي ولا يرضاه- وقلت: والله لو أن إخواننا الفلسطينيين تجمعوا في طرف المملكة أو في طرف سوريا أو في طرف مصر أو في أي مكان من بلاد العرب، وبايعوا إماماً ربانياً عرف الله معرفة يقينية، قد ملئ قلبه حبه وخشيته، فرباهم سنتين أو ثلاث سنوات، وهم ينمون بأبدانهم وأرواحهم وعقولهم، لأصبحوا أولياء الله، بل إذا سألوا الله أن يزيل الجبال لأزالها، وتجلت فيهم ولاية الله تعالى، فظهر فيهم الصدق والطهر والصفاء والخشوع والإنابة والتقوى، ثم قادهم باسم الله لأن يُعبد الله وحده في أرض القدس والطهر، وقال: الله أكبر، والله لنصرهم الله تعالى، وفر اليهود هاربين، بل ومنهم من سيقع في البحر، ومنهم من سيذعن وينقاد ويستسلم، إذ الله يقول: سَنُلْقِي [آل عمران:151]، وعد الصدق، فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151]؛ لأنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً.وقد رأينا هذا في التاريخ الطويل، فمتى ما وجِد المسلمون الربانيون بقيادة ربانية وبقصد سليم ونية حقة أن يعبد الله وحده في الأرض إلا نصرهم الله عز وجل، وبدون هذا فلا نصر ولا فوز، وقد عرفنا هذا في جهادنا في أفغانستان، إذ نحن قد ساهمنا وشاركنا فيه، وشيخكم هذا قد لبس البدلة للجهاد وطلعنا الجبل أيام زيارتنا لنخبرهم: بأنكم لا يقاتلون فقط روسيا، وإنما تقاتلون الكفار كلهم، ولن يتم لكم نصر حق إلا إذا أخذتم بمبادئ الإسلام وتعاليمه، فبايعوا إماماً واحداً، وزرنا إخواننا في مخيماتهم، وقال لي أحدهم: معسكر فلان مصيدة فقط للفلوس وليس قتالاً حقيقياً! والعجيب أنهم قادة يقودون أمة لعزة الإسلام ونصرته! وقلنا لهم: بايعوا إماماً واحداً، واستجيبوا لأمر الله تعالى، فأنتم لا تقاتلون روسيا فقط، وإنما تقاتلون من على الأرض من أهل الكفر، فلا بد وأن يكون الله معكم، فإن لم يكن الله معكم فلا نصر أبداً، وللأسف ما استجابوا لذلك، فعاشوا يقاتلون متفرقين، وما إن انهزمت روسيا بأمر الله ودعاء الصالحين حتى عادوا على بعضهم البعض، وهم الآن في فتنة إلى هذه الساعة، ولن تنتهي هذه الفتنة؛ لأنهم ما بايعوا إماماً واحداً ليعبدوا الله تحت رايته.والآن توجد جماعات في بلاد العرب تنادي بالجهاد، وأن الحكومات كافرة، فيجب أن نجاهد وأن نقاتل الكفر! ونحن نقول: يا أبناءنا! ما هكذا تورد الإبل يا سعد، لا يحل قتال بعضكم بعضاً، من أفتاكم بهذا ؟ من أجاز لكم هذا؟ ثم أنتم تقاتلون جماعات وأحزاباً، فهل أذن الله في هذا القتال؟ من إمامكم؟ من بايعتم أنتم وأمتكم، وصليتم وراءه وقادكم خطوة بعد خطوة ليعدكم للجهاد والقتال؟ إنكم تقاتلون أحزاباً ومنظمات وجماعات، وسوف تنتهي بقتال بعضكم بعضاً، وقد قلت هذا وما زلت أقول: إما أن تنتصر الحكومة التي يقاتلونها، وإذا انتصرت فسوف تنتهي هذه الأنوار وتنطفئ، ويصبح إخوانكم وأمهاتكم وأبناؤكم يتملقون الحاكم الفاجر بالفسق والفجور؛ لأننا عرفنا طبيعة البشر، وإما أن تنتصروا أنتم وهذا من باب البعيد بعد السماء عن الأرض، ثم تقتتلون فيقتل بعضكم بعضاً، ولن تقوم للإسلام دولة على مثلكم؛ لأنكم ما عرفتم الله، ولا ملأ حبه قلوبكم، ولا خوفه من نفوسكم، فأين يُذهب بعقولكم؟ وكيف ينصركم الله تعالى؟! أوجدوا أولاً أمة إذا قلتم: الله أكبر رددوها خلفكم. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151]، بسبب ماذا؟ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [آل عمران:151]، والباء هنا للسببية، والميم مصدرية، أي: بإشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطاناً، إذ قد أشركوا في عبادة الله تعالى وفي ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته من لا يستحقون ذلك؛ لأنه تعالى ما أمر بعبادتهم ولا بطاعتهم، بل وما أنزل الله به من سلطان.إذاً: العلة في هزيمة الله للكفار والمشركين والمنافقين: أنهم أشركوا بالله تعالى، فعبدوا الأحجار والأصنام والشهوات والبطون والفروج والأهواء، وهذه العبادة -عبادة غير الله- ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان أبداً في أي زمان من أزمنة الحياة، إذ كيف يُعبد من لا يخلق ولا يرزق؟! كيف يُطاع ويُذعن له ويتابع من لم يؤمن بالله ولا بلقائه؟! وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [آل عمران:151]، أي: أن النار مأواهم الذي يأوون إليه، ومصيرهم الذي ينتهون إليه كل المشركين والكافرين.إذاً: أين هذه النار؟ عندنا مثل نكرره للعاقلين، فنقول: غداً إن شاء الله في رابعة النهار في وقت الساعة العاشرة انظر إلى الشمس، هذا الكوكب المضيء النهاري، إذ قال فيه العلماء: إنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة! وهذا الكوكب كله نار، والذي أوجده هو الله، ولم تجمع الإنس والجن الفحم والحطب وأشعلوا هناك ناراً، ثم إن هذا الكوكب يسير بانتظام في فلكه لتنتظم عليه هذه الحياة، فلو يهبط بأقل هبوط لاحترق الكون، ولو ارتفع بأكثر ارتفاع لمات الناس بالبرد والجليد، ولا ندري كم سنة وهو في دائرته؟ فهذا هو عالم النار فوقنا، فكيف تسأل عن عالم النار؟! وسوف يأتي لهم هذه الكائنات الموجودات العلوية والتي نشاهدها وكلها تصبح سديماً وبخاراً، وعالم السعادة فوق وعالم الشقاء أسفل.وقد قلت لك حتى تتصور قعر النار: ضع رأسك بين ركبتيك وفكر، وقل: هابط، هابط، هابط، حتى تتعب وتكل، فإلى أين تريد أن تصل؟ لقد وقف عقلك، وبالتالي لا يسعك إن كنت العاقل إلا أن تأخذ بلحيتك وتقول: آمنت بالله.. آمنت بالله.. آمنت بالله، وهذه الصور النيرة قد حفظناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان على كرسيه يعلم إخوانه الكتاب والحكمة ويزكيهم، وفجأة يقول: ( آمنت به، آمنت به )، قالوا: ماذا يا رسول الله؟ قال: ( أتاني جبريل فقال لي: إن رجلاً ممن كان قبلكم يركب على بقرة، فرفعت البقرة رأسها وقالت له: ما لهذا خلقت يا رجل! )، أي: ما خلقت ليركب عليها، ولكن لتحلب ويحرث بها، فالرسول تعجب من بقرة تنطق وتفصح بلغة الرجل، فقال عليه الصلاة والسلام: ( آمنت به )، وأمسك بلحيته، ثم قال: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر )، وهما غائبان عن المجلس وليسا فيه، لكن يقين الرسول في إيمانهم وثقته في معتقدهم قال: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ).فهذا هو شأن أهل اليقين، فإذا أخبر الله أو أخبر رسوله بأمر ما فلا مجال للعقل والتفكير فيه، وإنما قل فقط: آمنت به، آمنت بالله. وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151]، أي: وبئس المصير يصيرون إليه، إذ النار مصير سيء وأقبح مصير، وحسبنا أن نذكر ما ثبت عن رسول الله: ( ما بين منكبي الكافر كما بين مكة وقُديد )، أي: مائة وخمسة وثلاثين كيلو متر، فهذا العرض فكيف بالطول؟ قال: ( وضرسه كجبل أحد )، فكم مدة لتأكله النار؟ وكم قرناً ليفنى؟ وإن تعجبت فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سنن أبي داود : ( أُذن لي )، أي: ما نستطيع أن نتكلم بدون إذن؛ خشية أن الناس لا يفقهون ولا يعقلون، إذ الواجب أن نحدث الناس بما يفهمون، ( أذن لي أن أحدث عن ملك رأسه ملوية تحت العرش، ورجلاه في تخوم الأرض السابعة )، فكم سيكون طوله؟ وقال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1]، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( وتجلى لي جبريل عليه السلام في السماء على صورته التي خلقه الله عليها فسد الأفق كله )، فقد كان معه في الغار وضمه إلى صدره كالأم الرحيمة ثلاث مرات وعلمه، ثم فارقه وظهر في صورته التي خلقه الله عليها بستمائة جناح، فسد الأفق كله.إذاً: عالم الشقاء بئس المصير يصير إليه الآدمي، من الطعام الزقوم، والشراب الحميم، وقعرها وبعدها، فوالله لا يعرف فيها أحداً، لا أماً ولا أباً ولا أخاً ولا عماً، ولهذا قال تعالى: وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ من هداية الآيات:أولاً: تحريم طاعة الكافرين في حال الاختيار ]، أما في حال الاضطرار والعصا والقدوم والمنشار في يده فأطعه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعمار : ( أعطهم يا عمار )، ونزل في ذلك قوله تعالى: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فإذا ما أطقت التعذيب، وطلب منك سب الله وسب رسوله، فقل بلسانك وقلبك بريء من ذلك. [ ثانياً: بيان السر في تحريم طاعة الكافرين، وهو أنه يترتب عليه الردة والعياذ بالله ] والله لو نطيع الكفار الآن كأمريكا وبريطانيا وفرنسا، ونأخذ بتوجيهاتهم، ما هي إلا دقائق ونحن مرتدون والعياذ بالله.[ ثالثاً: بيان قاعدة: من طلب النصر من غير الله أذله الله ] وقد عرفنا هذا وجربناه، إذ إن من طلب النصر من غير الله أذله الله ولم ينتصر.[ رابعاً: وعد الله المؤمنين بنصرهم بعد إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، إذ همَّ أبو سفيان بالعودة إلى المدينة ] وذلك لما خرجوا بعيداً قالوا: ماذا فعلنا؟ لماذا رجعنا؟ ما زال محمد وأبو بكر وعمر أحياء، فهيا نقضي عليهم جميعاً، ولكن الله جاء بـمعبد، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وجيشه وقال: هيا إلى مكة، وصدق الله إذ يقول: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151] وقد فعل. [ رابعاً: وعد الله المؤمنين بنصرهم بعد إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، إذ هم أبو سفيان بالعودة إلى المدينة بعد انصرافه من أحد ليقضي عمن بقى في المدينة من الرجال، كذا سولت له نفسه، ثم ألقى الله تعالى في قلبه الرعب فعدل عن الموضوع بتدبير الله تعالى ] وذهب إلى مكة. [ خامساً: بطلان كل دعوى ما لم يكن لأصحابها حجة، وهي المعبر عنها بالسلطان ] كل دعوة سياسية أو دينية أو دنيوية لا تقوم على الحجة والسلطان فلا قيمة لها، والدعاوى باطلة إلا إذا قامت على البراهين الصادعة، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [آل عمران:151].[ خامساً: بطلان كل دعوى ما لم يكن لأصحابها حجة، وهي المعبر عنها بالسلطان في الآية، إذ الحجة يثبت بها الحق ويناله صاحبه بواسطتها ].وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-07, 05:15 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (62)
الحلقة (203)
تفسير سورة آل عمران (66)


يذكر الله سبحانه وتعالى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم بما حصل منهم يوم أحد من عصيان بعضهم لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطمعهم بمتاع الدنيا من الغنائم وفرحهم بها بعد أن أظفرهم الله بعدوهم، ثم فشلهم بعد ذلك وتفرقهم من حول نبي الله لما أن دارت الدائرة عليهم، ثم يمتن الله على عباده المؤمنين بعفوه عنهم وتفضله عليهم سبحانه وتعالى.
تفسير قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وهانحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومع هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153].هما آيتان اثنتان، فهيا نكرر تلاوتهما ونتأمل معانيهما وما تحملانه من هدى ونور: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153]. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [آل عمران:152]، هذا إخبار من الله تعالى، والمخاطبون بهذا الخطاب هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا غزوة أحد وخاضوا معركتها، وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم صبيحة السبت بألف مقاتل، وفي أثناء الطريق رجع ابن أبي رئيس المنافقين بثلاثمائة منهم، فبقي مع النبي صلى الله عليه وسلم سبعمائة رجل من الأنصار والمهاجرين، وقد عسكروا بوادي أحد، وهمَّ رجال من بني حارثة وبني سلمة بالعودة أيضاً ولكن الله سلَّم، وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف مقاتل، ثم بدأت المعركة واشتعلت نارها. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [آل عمران:152]، أي: بالنصر. إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152]، والحس: القتل والقطع. حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ [آل عمران:152]، أي: حتى إذا فشلتم عن قتال المشركين، ووجه الفشل هو أن الرماة -وعلى رأسهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه- الذين وضعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجبل المعروف الآن، وقال لهم: ( لا تبرحوا أماكنكم، انتصرنا أو انتصروا )، لما شاهدوا هزيمة الكفار، وأخذ المجاهدون يجمعون الغنائم، ما ثبتوا، بل اختلفوا ونزلوا من أماكنهم، ولم يبق إلا عبد الله بن جبير ومجموعة معه، ولما خلا الجبل من الرماة احتله خالد بن الوليد قائد خيل المشركين، فوقع المسلمون بين فكي المقراظ، ورجع المشركون لما شاهدوا الهزيمة قد نزلت بالمسلمين، وأن الرماة قد نزلوا من أماكنهم، وأن خالداً قد احتل الجبل، وأصبحت السهام والرماح تأتي على المسلمين من كل جانب، وهذا يدل عليه قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ [آل عمران:152]، أي: في القتال.ثم قال تعالى: وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:152]، من هم الذين تنازعوا؟ الرماة، منهم من قال: إن المعركة قد انتهت، والمشركون قد انهزموا، فهيا بنا ننزل لجمع الغنائم، ومنهم من قال: لا، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصانا ألا نبرح أماكننا كيف ما كانت الحال انتصاراً أو انهزاماً، وكان هذا هو التنازع في الأمر. وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152]، أي: من النصر، وهذا عائد إلى الرماة حيث عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا للمادة. مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، فالذين هبطوا من الجبل يريدون الدينار والدرهم والغنائم، والذين ثبتوا على الجبل ولم ينزلوا يريدون الآخرة. ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ [آل عمران:152]، أي: عن المشركين. لِيَبْتَلِيَكُم ْ [آل عمران:152]، أي: ليختبر إيمانكم وصدقكم وثباتكم أو هزيمتكم. وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، أي: لولا عفوه لما ترك المشركون منكم أحداً، لكن الله صرف المشركين عنكم، ولو واصلوا قتالكم لانتهيتم، ولكنها منة الله تعالى عليكم. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152]، من أصحاب رسول الله، ومن أهل معركة أحد، بل وعلى كل المؤمنين إلى يوم القيامة، وإنه لذو فضل علينا أيها المستمعون والمستمعات! إن كنا مؤمنين، والله ذو فضل عظيم على المؤمنين، ولولا فضله أن من زلت به قدمه وعصى ربه أنزل به المحنة والكارثة ما بقي أحد، لكن فضله لا ينقضي على المؤمنين أبداً، وهو واضح وبيِّن.
تفسير قوله تعالى: (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم...)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153].اذكروا إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153]، يقال: أصعد في الأرض، إذا ذهب هارباً في الصعيد لا يلتفت إلى أحد.ثم قال تعالى: وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153]، أي: ليس هناك من يلتفت إلى الوراء أبداً، بل إذا حصلت الهزيمة فالهروب في تلك الصحراء. وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ [آل عمران:153]، أي: يقول: إليّ عباد الله، وذلك لما انهزموا وفروا؛ لأن إبليس صاح فيهم: لقد قتل محمد، وأشاعها المنافقون بين المسلمين، حتى قال من قال: هيا نلحق بـأبي سفيان ونعود إلى دين آبائنا وأجدادنا، ومنهم من قال: توسطوا بـابن أبي ليأخذ لكم عهداً عند أبي سفيان، فكانت محنة ما مثلها محنة، وسببها معصية واحدة لا ثاني لها، ونحن غارقون في معصية الله والرسول! فهذه معصية واحدة فكيف بمن يعصي الله ليل نهار؟! وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ [آل عمران:153]، وأنتم شاردون هاربون في الصعيد. فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]،، فالغم الأول: الهزيمة، والغم الثاني: فقد الغنيمة، ولنا أن نقول: الغم الثاني: الهزيمة وفقد الغنيمة، والغم الثاني: سماعكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فأصابكم كرب لا حد له، وغم أعظم من ذلك الغم، وأعظم من فوت الغنيمة أو وجود جراحات أو قتلى بينهم. فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]، لعلة: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ [آل عمران:153]، أي: من الغنائم، وَلا مَا أَصَابَكُمْ [آل عمران:153]، أي: من القتل والجرح، وهذا تدبير ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه، فآمنا بالله وحده، فهو الذي سلط ابن قمئة -أقمأه الله- بأن جرح النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سقوطه في حفرة من الحفر، فكسرت رباعيته، وسالت دماؤه، ثم صاح: قتلنا محمداً، إن هذا تدبير ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153]، فأعمالنا الباطنة كالظاهرة، والسرية كالعلنية، إذ كلها مكشوفة لله، فهو يعلمها أكثر مما نعلمها، فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، والملكوت كله بين يديه.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيتين:ما زال السياق ] أي: سياق الكلام الإلهي، [ في أحداث أحد ] أي: هذا الجبل الذي وراءنا، هذا الجبل الذي كان إذا لاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد خفَّ وأسرع، وقال: ( أحد جبل يحبنا ونحبه )، ومن تدبير الله أنه اشتق له اسم من اسمه، فقال: اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فهل تعرفون ماذا فعل أحد؟ قد يقول قائل: يا شيخ! لا تقل: فعل أحد، فأحد ليس عاقلاً حتى يفعل! فنقول لك: ما الفرق بينك وبين هذه الصخرة؟ إنها تنطق وتتكلم وتعبد الله مثلك، وكونك نطقت بالنسبة إليه وباقي المخلوقات كلها تعبد الله وتسبحه، فهو سبحانه الذي جعل عينيك في وجهك، ولسانك في فيك من أجل أن تنطق وتتكلم، وكل المخلوقات تسبح الله وتعبده.ولما انتهت المعركة في آخر النهار زحف أبو القاسم مع بعض رجاله إلى الجبل وارتقوا فوقه، وليس في قمته وإنما في سفحه، ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد، ماد واضطرب الجبل من الفرح، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( اسكن أحد، فإن عليك نبي )، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ( وصديق )، وهو أبو بكر الصديق، ( وشهيدان )، وهما: عمر وعثمان. لا إله إلا الله! أبو بكر الصديق استشهد أو قتل في معركة تخلى عنها مع رسول الله؟! والله ما تخلى عن معركة قط مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفيه وسام الصديقية، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أبا بكر لن يُستشهد في القتال، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف المؤمنون أبا بكر، وقاد الأمة سنتين ونصف، ثم توفي بمرض أصابه.وقوله: ( وشهيدان )، من أخبر رسول الله أن عمر وعثمان سيستشهدان؟ الله، فلا إله إلا الله! هل شهيدان في معارك فارس والروم؟ أم في معارك أفريقيا والأندلس؟ إنهما شهيدان في بيتهما، فلا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فهذا عمر رضي الله عنه كان يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك، فتعجب ابنته أمنا حفصة رضي الله عنها وتقول: أيا أبتاه! كيف تجمع بين هذين: الشهادة في بلاد فارس والروم، والموت في المدينة؟! فيقول لها: اسكتي يا حفصة! إن الله على كل شيء قدير، وفعلاً استشهد في مدينة رسول الله وهو يصلي في ذاك المحراب الطاهر، فقد كان أبو لؤلؤة المجوسي يتربص به الدوائر، إذ إنه مبعوث من الحزب الوطني الفارسي المجوسي لينتقم من عمر الذي حول تلك الظلمة إلى نور، وأطفأ تلك النار التي كانت تُعبد مع العزيز الجبار، فتكوَّن حزب وطني يعمل في الظلام للانتقام من العرب والمسلمين وعلى رأسهم عمر، وأبو لؤلؤة المجوسي هذا كان مملوكاً لأحد أصحاب رسول الله وهو المغيرة بن شعبة، فكان يتربص بـعمر يوماً بعد يوم حتى أتيحت له الفرصة، فصلى يوماً وراء عمر، ولما سجد أو ركع أخرج رمحه وضربه، فصاح عمر فالتفت المؤمنون وهرب القاتل فألقوا القبض عليه، فأدى مهمته ولم يكن خائفاً من الموت، إنما المهم أن يموت عمر وينطفئ نور الإسلام.هذا الحزب الوطني المجوسي إلى الآن ما زال يعمل على إطفاء نور الله عز وجل، وإقامة الدولة المجوسية الساسانية، فأيام كان الشاه على رأس الحكم أقام الشاه ذكرى مرور ألفين وخمسمائة سنة على سقوط دولة الساسانيين، واحتفل بالذكرى كل السفارات والقنصليات، وشارك في ذلك العرب والمسلمون، وهم كالأغبياء ما يشعرون، فهل يُعقل أو يُقبل أن المسلمين يحتفلون بذكرى دولة المجوس؟! أسألكم بالله، لو أن جماعة في مكة قالوا: نحيي ذكرى موت عمرو بن هشام بطل بني مخزوم! فإنك ستقول: هل هؤلاء مسلمون؟! فكيف بهؤلاء الذين يحتفلون بذكرى مجوسي كافر؟! آه! ما زلنا في غفلتنا سائرون.كتبت مرة كلمة في جريدة البلاغ الكويتية محذراً ومنبهاً ومذكراً ولكنا ميتون، وقلت: يا عرب الجزيرة! إنكم والله بين فكي مقراظ، اليهود من الغرب، والمجوس من الشرق، وما هي إلا سنوات توالت وإذا بحملة الشاه آية الله، أو الجمهورية الإسلامية الشرسة على المسلمين، ولولا أن الله أوقفها بالبعث العراقي لما اجتمعنا الليلة هنا، فهل هذه سياسة أو علم؟ ماذا تقولون؟ الغافلون يقولون: سياسة، فاتركنا من هذه السياسة.والشاهد عندنا في استشهاد عمر رضي الله عنه: أن الله تعالى حقق له طلبه ورجاءه، فجمع له بين الموت في المدينة والشهادة في سبيل الله عز وجل.وهذا عثمان رضي الله عنه وأرضاه شهيد، فقد أخبر بشهادته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو علم من الله ليس بالهوى، وقد استشهد رضي الله عنه -وهو خليفة المسلمين- في بيته قريباً من مسجد رسول الله، والمصحف بين يديه حتى تلطخ بدمائه رضي الله عنه، والذي قتله هو الثالوث الأسود.
دور الثالوث الأسود في الكيد لأمة الإسلام
لعل أهل الحلقة قد ملوا من كلمة: الثالوث الأسود، لكن نسمعها من لا يعي هذا ولا يفهمه، وإن كانوا ساسة يقودون الناس، فنقول: إن الثالوث الأسود مركب من ثعابين سود: الأول: المجوس، والثاني: اليهود، والثالث: الصليبيون.وبداي التكوين لهذا الثالوث هم المجوس، وذلك لما سقط عرش كسرى وانهارت المجوسية وانطفأت نارها على أيدي عمر، إذ أخذ تاج كسرى ووضعه على رأس سراقة بن جعشم، وذلك في حادثة تاريخية مشهورة وهي: لما صدر حكم قريش بالإجماع على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، ويسَّر الله الهرب لرسوله فهرب مع الصديق، فأعلنت قريش عن جائزة مقدارها مائة جمل لمن يأتي برأس محمد رسول الله، فأخذ سراقة بن جعشم رضي الله عنه البطل الفارس الخريت الذي يعرف الأرض في البحث، وقال: قد أتيحت لنا الفرصة، وأخذ يتتبع الآثار حتى عرف الطريق الذي سلكه خريت أبي بكر الصديق؛ إذ اتخذوا خريتاً خاصاً يمشي أمامهم ليتجنبوا طرق العرب، ولما وصل سراقة بن جعشم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، إذا بالفرس تغوص رجلاه في الأرض، فيتعجب سراقة بن جعشم من ذلك، إذ إن الأرض صلبة فكيف يحصل هذا؟! ويقفز من على الفرس فيمشي على رجليه فيسقط، فلا إله إلا الله! فالتفت إليه رسول الله وهو يبتسم فقال له: يا سراقة! كيف بك إذا وضع على رأسك تاج كسرى؟! فأين كسرى؟ وأين تاج كسرى؟ والرسول هارب من مكة والإعدام قد صدر عليه، فكيف هذا؟! وأي حلم وأي منام هذا؟! فرجع سراقة وأسلم، ثم تمضي الأعوام ويفتح عمر برجاله ديار فارس، فيأخذ التاج ويضعه على رأس سراقة بن جعشم تحقيقاً لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.إذاً: الثالوث الأسود بدأ بالحزب الوطني الذي يعمل في الظلام إلى اليوم، وقد انضم إلى ذلك اليهود، هؤلاء اليهود الذين أجلاهم عمر تنفيذاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( لا يجتمع دينان في الجزيرة )، والنفي هنا في الحديث أبلغ من النهي، فلا يجتمع دينان في الجزيرة؛ لأن الجزيرة قبة الإسلام وبيضته، ووراءها الدنيا والعالم، لكن هذه القبة لا تُظلل رايتين، ولا يمكن أن يوجد فيها دينان، ولذلك أجلاهم عمر، فاغتاظوا وكربوا وحزنوا، ففكروا وبحثوا عمن يتعاونون معهم ضد الإسلام والمسلمين، فوجدوا الحزب الوطني المجوسي فتعانقوا.ولما انتشرت الفتوحات على يد عثمان وتجاوزت أفريقيا ووصلوا إلى غرب أوروبا في الأندلس، اضطربت نفوس النصارى وفزعوا، وقالوا: إن هذا النور سوف يقضي علينا، فبحثوا عمن يتعاونون معهم، ومن يعينهم ضد الإسلام والمسلمين، فعثروا على المجوس واليهود فتعانقوا، وإلى الآن والله هم متعاونون، فلا يريدون أبداً أن يسعد المسلمون ويشقون هم، إذ إنهم عرفوا أن الإسلام هو الحق، وأن أهله هم السعداء أهل دار السلام، فكيف نسمح لهم بهذا ونحرم نحن؟ فذهبوا إلى مصر وعلى رأسهم ذاك اليهودي الصنعاني اليمني عبد الله بن سبأ، فهيج المصريين، وشاع بأن هذا الخليفة الثالث ينفق الأموال على أقربائه، وأن الوظائف يوزعها على أهله وأقربائه من بني أمية، كما هو عادة الهابطين إلى الآن وإلى بعد الآن، ثم ذهب إلى الشرق ففعل مثل ذلك، فجاءت خيولهم للقضاء على خليفة المسلمين، وما كان من أصحاب رسول الله إلا أن بكوا، كيف يريقون ويسيلون الدماء في عاصمة الإسلام؟! فحاولوا دفع ذلك الشر وما استطاعوا، فهذا علي وضع أبناءه على باب عثمان لحمايته، لكن ينفذ أمر الله فيُقتل عثمان رضي الله عنه، ومن ثم أصابت العالم الإسلامي زلزلة عظيمة، واضطربت النفوس وبدأت الفتنة إلى الآن ولم تنته بعد.
محاولات أعداء الإسلام لصرف المسلمين عن القرآن الكريم
حاول الثالوث الأسود أن يدخل في حروب مع الخلافة الإسلامية، فما أثاروا حرباً إلا فشلوا وتمزقوا فيها، ففكروا في سبب قوة المسلمين، وبعد الدراسة والتأمل والتطلع وجدوا أن هذه القوة عائدة إلى القرآن الكريم، فإن استطعتم أن تبعدوهم عن القرآن فقد نجحتم، فعقدوا اجتماعات على أن يحذفوا كلمة: (قل) فقط من القرآن: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الأعراف:158]، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فما استطاعوا، فوقفت هذه الكلمة حجر عثرة في الطريق، ولولاها لقالوا: هذا كلام محمد فاضت به روحه، أو صهرته الصحارى والحرارة ففاض بهذه العلوم والمعارف، وليس هذا بكتاب الله ولا بوحيه، إذ كيف يقول المؤلف: قل، من يخاطب حتى يقول: قل؟ إنه ليس معقولاً أبداً أن تتكلم وتقول: قل كذا.إذاً: فشلوا في هذا، وبالتالي فماذا يصنعون؟ قالوا: هناك حيلة واحدة وهي أن نصرفهم عن تلاوة القرآن ودراسته وتدبره فقط، ثم بعد ذلك يموتون، فوضعوا قاعدة للتفسير فقالوا -من أراد أن يقرأها فعليه بحاشية الحطاب على شرح خليل بن إسحاق-: تفسير القرآن خطأ، وخطؤه كفر، وبالتالي ألجموا المسلمين، فلا يوجد من يقول: قال الله، وإذا مروا بك تفسر آية فإنهم يغلقون آذانهم ويمشون مسرعين خشية أن تسقط عليهم صواعق، ويقولون: تفسير القرآن خطأ وإثم وذنب عظيم، وهذا صوابه، ففسره مصيباً غير مخطئ، وإن أخطأ فقد كفر، وبالتالي فصوابه خطأ وخطأه كفر، إذاً ماذا يصنع المسلمون بالقرآن؟ قالوا: يُقرأ على الموتى في المقابر، فتدخل المقبرة وتجلس وأنت طالب قرآن فتأتيك العجوز: هذا ولدي اقرأ عليه شيئاً من القرآن، وتضع في جيبك عشرة ريالات، وآخر يأتي ويقول: هذا قبر أبي فاقرأ عليه شيئاً من القرآن، ويعطيك مالاً مقابل ذلك، وهذا في المقابر، وإلا فالأصل في المنازل وفي البيوت، فإذا مات الميت فلا بد من عشاء يسمونه: عشاء الميت، فيجمعون عشرة أو خمسة عشر من أهل القرآن، حسب طاقتهم وقدرتهم غنىً وفقراً، ويقرءون القرآن وهم يضحكون والميت بين أيديهم! وأنا قد رأيت هذا بعيني، ويأكلون بعد ذلك الرز وغيره ثلاثة أيام إذا كانت حالته فقيرة، وإن كانت حالته واسعة فسبعة أيام أو واحداً وعشرين يوماً؛ وذلك ليدخلوه الجنة بقراءة القرآن!بل إذا ماتت البغية في دار البغاء، فيؤتى بطلبة القرآن وأهل القرآن فيقرءون القرآن على البغية الزانية في دار البغاء، فإن قلت: كيف هذا؟! جوابنا: هل حكمتنا بريطانيا وإيطاليا وأسبانيا وبلجيكا أو لا؟ هل استعمرونا أو لا؟ لقد أذلونا وأهانونا، ولو كنا أحياء فأنى لهم ذلك؟ بعدما متنا استُعمرت دياركم من إندونيسيا إلى بريطانيا، باستثناء هذه البقعة فقط؛ لأن الله أراد حمايتها كرامة لبلد رسوله وبلده.كما قد بلغنا في بلد كبير من بلاد المسلمين أن هناك نقابة عملها أنه إذا توفي لك شخص اتصلت بها، فقالوا لك: مرحباً فلان، هل توفي والدك أو توفي عمك؟ هل تريد من فئة مائة ليرة أو خمسين؟ فإن كان الميت غنياً يقول: من فئة المائة، فيبعث له عشرين طالباً يأخذون مائة ليرة في الليلة، وإن كان الميت فقيراً يقول: من فئة الخمسين فقط أو عشرين ليرة، فحوِّل القرآن إلى الموتى، وما بقي من يعي ويفهم ويتدبر ويتأمل، وماتت أمة القرآن. وأما السنة النبوية فمن أجل الحفاظ على المذاهب، يسأل أحدهم: أنت حنبلي؟ فيغضب، وأنت؟ أنا مالكي، وأنت؟ حنفي، وهذا شافعي، ونفخوا في هذه الفتنة فأصبح أهل السنة والجماعة -دعنا من الخوارج والروافض والهابطين-كأنهم أعداء إلى عهد قريب، وفي بداية وجودي هنا كان يأتيني الحاج فيقول لي: أنا شافعي، وقد غطيت رأسي أو فعلت كذا، فما يلزمني؟ فأقول له: لا تقل: أنا شافعي، بل قل: أنا مسلم، كذلك يأتيني أخ فيقول لي: أنا حنفي، فماذا أصنع وقد أحرمت من كذا وكذا؟ فأقول له: قل: أنا مسلم، وخص ذلك الأمر لأمور أرادها الله تعالى، وإلا أصبح المسلمون أعداء وخصوماً لبعضهم البعض، وتم هذا على يد الثالوث الأسود.كما أن السنة فيها الناسخ والمنسوخ، والضعيف والصحيح، وهؤلاء يقولون: دعنا من السنة، يكفينا كتب الفقه، هذه المصنفات قد مضى عليها أكثر من ثمانمائة سنة، فلو تقدم إليهم منهاج المسلم الذي تعرفونه والله ما يقرؤه أحد، وإنما يتصفحه أحدهم فيقول: أنا شافعي، وهذا ليس بمذهبي، ويتناوله المالكي فيقول: أنا مالكي، وهذا ليس بمذهبي، ويتناوله الحنبلي فيقول: هذا ليس بمذهبنا، وكذلك الحنفي فيحطه على الرف، ولا يستفيد منه شيئاً، لكن الحمد لله شاء الله أن تتقارب أمة الإسلام، وأصبحت القضية ليست قضية مذهب، وإنما قضية كيف يحبنا الله وينزلنا بجواره؟فنعبد الله بما شرع وبين في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا شافعية ولا حنبلية تمنعنا من أن نعبد الله عز وجل.وللأسف أن السنة في ديارنا الجزائرية يجتمعون لها في رمضان حول المحراب، ويحضر علماء يقرءون كتاب البخاري للبركة فقط، وقد مضت سنون عل ذلك، وهاجرنا ووجدنا هذا والله في المدينة في الروضة، إذ يجتمع جماعة من أعيان البلاد وأفاضلهم فيقرءون كتاب البخاري للبركة لا ليتعلموا حكماً بالحلال أو الحرام، وهذا كله من فعل الثالوث الأسود، إذ إنه يريد منا أن نبقى تحت أقدامهم، وأن نرضخ تحت أوامرهم، وكلما فررنا من جهة أصابونا بأخرى، فجاءوا لنا بالفيديو والتلفاز والدش والأغاني، فهبطوا ببيوت المسلمين وأظلموها، وطردوا الملائكة منها، وتركوا الشياطين تغني فيها، فقست القلوب وظهرت الفاحشة وما زالوا يوقدون نارها، فإذا تخلصنا منها يأتون بأخرى، فإما أن نكون يقظين ربانيين كلما كادوا كيداً دسناه بنعالنا حتى يفشلوا وينهزموا، وإما فسيظلون يطفئون نور الإيمان في قلوبنا ليسودوا ويحكموا ويقودوا، فاذكروا هذا ولا تنسوه معاشر المسلمين.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-07, 05:18 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (63)
الحلقة (204)
تفسير سورة آل عمران (67)


ذكر الله عز وجل من حال الرماة يوم أحد أنهم لما رأوا غلبة المسلمين ورجحان كفتهم على أعدائهم من المشركين، أرادت طائفة منهم النزول إلى ميدان المعركة لجمع الغنائم مع إخوانهم، وهذه الطائفة التي ذكر الله عنها أنها تريد الدنيا وإدراك الغنيمة، أما الطائفة الأخرى فرأت أن من واجبها التزام أمر رسول الله بالمكث على الجبل حتى يأتيهم أمر من رسول الله بالنزول، وهذه الطائفة هي التي أخبر الله عنها أنها تريد الآخرة، فنزل من نزل وبقي من بقي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، من ابتلاء المسلمين وتسلط عدوهم عليهم.
حكم التدخين
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليلتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.قبل أن نشرع في إكمال تفسير الآيتين اللتين أخذناهما يوم أمس، أقدم هذه المقدمة فأقول: معشر المستمعين! قد تكرر القول: بأن التدخين حرام ومن كبائر الذنوب والآثام، وأن التدخين عادة سيئة انتقلت إلينا من أوروبا الهابطة، وما كان المسلمون يعرفون التدخين بأي صورة من صوره، لكن لما حكمونا وسادونا ودخلوا ديارنا وقادونا تركوا فينا هذه الرذيلة الخبيثة؛ لجهلهم وعدم بصيرتهم، وقد ذكرنا والكل يذكر ولا ينسى: أن جميع الشرائع الإلهية السماوية جاءت بالمحافظة على خمس كليات: العقل والعرض والدين والمال والبدن، وبالتالي فكل ما يؤذي واحدة من هذه فهو حرام، ولا تبحث عن الدليل لا من الكتاب ولا من السنة، إذ كل ما يضر بعرض الآدمي أو ببدنه أو بماله أو بدينه أو بعقله فهو حرام، والتدخين بجميع صوره يضر بهذه الخمس كلها.فأولاً: ضرره بالبدن، فقد عقدت ندوات ومؤتمرات طبية في أوروبا بشأن التدخين، وتوصلوا إلى أن نسبة الذين يموتون متأثرين بالسرطان الرئوي نتيجة التدخين خمسة وسبعون بالمائة، فإذا كان خمسة وسبعون بالمائة يهلكون بسبب التدخين، فهل يبقى من يقول: يجوز التدخين؟! وقلنا: لو كانت هناك مائة رحلة بالطائرة من القاهرة إلى المدينة، وخمسة وسبعون رحلة تسقط، وخمسة عشرون تنجو، فهل ستجدون من يفتي بجواز ركوب الطائرة؟ والله لا يوجد أبداً، بينما خمسة وسبعون بالمائة يموتون بالسرطان الرئوي شيء عادي!.ثانياً: ضرره بالعقل، إذ هو الجوهرة التي يحافظ عليها الآدمي، فإذا فقدت أصبح حيواناً لا خير فيه، ولذلك يجب على الإنسان أن يحافظ عليه من كل ما يضر به، كالسحر والكذب والشعوذة والدجل والمسكرات والمخدرات؛ لأن العقل هو ميزة هذا الآدمي، فإذا مُسَّ بسوء هبط الإنسان، ومن الأمثلة على ذلك: أن الموظف المدمن على التدخين، تدخل عليه في نهار رمضان لحاجتك فتراه شبه نائم ويقول: دعني، انتظر قليلاً؛ لأنه صائم ولم يدخن.ثالثاً: ضرره بالدين، فالمسلم يرضى أن يقتل ويصلب ويحرق ولا يفسد دينه، إذ هو سُلم صعوده إلى السماء، وبالتالي فكل ما يمس بالدين ويضر به ليفسده فهو حرام. كما قد ذكرت لكم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاعوا في غزوة من الغزوات، فكبوا على بستان أو مزرعة فيها البصل والثوم، فأكلوا الثوم والبصل لسد الجوعة، فلما وصلوا إلى المدينة أعلن القائد صلى الله عليه وسلم فقال: ( من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مسجدنا )، وعلل -وهو الحكيم- فقال: ( إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، والإنسان يتأذى من رائحة التدخين ويكرهها ولا يقبلها، وكذلك الملائكة وخاصة الكرام الكاتبين الذين وكلهم الله بتسجيل وكتابة حسناتك وسيئاتك، فهذا عن يمينك وهذا عن شمالك، والرسول يقول: ( من أراد أن يبصق فلا يبصق عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً، وليبصق بين يديه أو تحت قدمه )، لا عن شماله ولا عن يمينه، فانظر للذي يدخن يقول: أف في وجه ملك، فكيف تكون حال هذا الملك؟ لو يدعو الله عليه لاحترق.وكل هذا قد جهله المسلمون ولم يلتفتوا إليه، والحمد لله فقد أفاق المؤمنون والمؤمنات، ففي المدينة والله كان النساء يدخن والعياذ بالله، والآن هذه الإفاقة وهذه العودة نشاهدها، وقد كنا إذا جلسنا في مأدبة فإن صاحب المأدبة يضع علباً أو طفايات، فتنظر إلى الجالسين من إخوانك فتجد ثلاثة أرباع الحاضرين يدخنون، والذي لا يدخن ربعهم، والآن ما أصبحت توضع الطفايات، وما أصبح أحد يجرؤ أن يدخن، فإذا اضطر فإنه يدخل للمرحاض ويدخن.وهذه بشرى أزفها إليكم، وهي أن المسئولين -جزاهم الله خيراً- قد وضعوا في باب المجيدي أو باب السلام المصحات لعلاج التدخين، وذلك في خلال خمسة أيام فقط، فتنسى التدخين نهائياً، فمن استطاع أن يتخلى عن التدخين من الآن فليرمي بالسيجارة أو العلبة ويدوسها برجله، ومن عجز لما اعتاده فليأت هذه المصحات ليُعالج عندهم مجاناً، سواء كان مقيماً أو مهاجراً أو وطنياً، ويُشفى بإذن الله تعالى ويصبح يكره التدخين، وحتى في المستشفيات والمصحات توجد هذه العيادة.
تابع تفسير قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه... )
والآن نعود إلى الآيتين الكريمتين لاستيفاء دراستهما؛ لأننا ما أكملنا دراستها يوم أمس، فهيا بنا نستمع إلى تلاوة الآيتين بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153].قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، والمقصود بهم الرماة الذين كانوا على الجبل، أي: عبد الله بن جبير ومن معه، إذ لما شاهدوا هزيمة المشركين وفرارهم، وشاهدوا نساء المشركين مشمرات عن سوقهن هاربات قالوا: الآن ما بقي لنا حاجة أن نبقى على الجبل، فهبطوا من أجل أن يجمعوا الغنيمة، فأرادوا الدنيا ومتاعها، بينما الذين قالوا: لا نهبط من الجبل، فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلزم أماكننا، سواء كان النصر أو كانت الهزيمة، فهؤلاء أرادوا الدار الآخرة.قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، ولو آخذهم لسلط عليهم المشركين فأنهوهم ولم يبقوا منهم أحداً، ولكن الله ما آخذهم بذلك.قوله: غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]، أي: أصابهم غم الحزن والهزيمة، وأعظم من ذلك لما سمعوا أن محمداً قد قتل، فكان أعظم الغم.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ...) من كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين أجمعين: [ ما زال السياق في أحداث أحد ] أي: معركة أحد[ فقد تقدم في السياق قريباً نهي الله تعالى المؤمنين عن طاعة الكافرين في كل ما يقترحون ويشيرون به عليهم ]، وهذا باق إلى اليوم وإلى يوم القيامة، إذ لا يحل أبداً أن نأخذ التوجيهات والنصائح من الكافرين، فإنهم يمكرون بنا ويخدعوننا، فهذا عمر لما قُدِّم له نصراني يجيد الحساب رده، وقال: كيف نأمنهم وقد خونهم الله عز وجل؟! نعم قد نضطر في بعض الظروف، لكن لا نعول على الكافرين والمشركين.قال: [ نهى الله تعالى المؤمنين عن طاعة الكافرين في كل ما يقترحون ويشيرون به عليهم، ووعدهم بأنه سيلقي الرعب في قلوب الكافرين، وقد فعل فله الحمد، حيث عزم أبو سفيان على أن يرجع إلى المدينة ليقتل من بها ويستأصل شأفتهم ] وذلك لما رحل أبو سفيان بجيشه وتجاوزوا الروحاء، فكروا وقالوا: ما حققنا شيئاً، ما زال محمد وأصحابه عمر وأبو بكر وفلان وفلان أحياء، فهيا نعود نستأصلهم نهائياً، فألقى الله الرعب في قلوبهم فرجعوا إلى مكة، وجاء بـمعبد وقال له الرسول: قل كذا وكذا، فعاد إلى أبي سفيان فهزمهم، ولكنه فعل الله عز وجل.قال: [ فأنزل الله تعالى في قلبه وقلوب أتباعه الرعب، فعدلوا عن غزو المدينة مرة ثانية وذهبوا إلى مكة، ورجع الرسول والمؤمنون من حمراء الأسد ولم يلقوا أبا سفيان وجيشه ] وتذكرون كيف خرجوا إلى حمراء الأسد، فقد كان الرجل الجريح يحمل رجلاً جريحاً، وذلك لأنه أخوه، وقبل ذلك ما إن وصل الرسول إلى المدينة مساء حتى أعلن الخروج غداً لمتابعة وملاحقة أبي سفيان، ونزل قول الله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا [آل عمران:171-174]، أي: من حمراء الأسد بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:174]، إنها صور للكمال البشري، فلو هناك من يقتدي ويتأسى.قال: [ وفي هاتين الآيتين يخبرهم تعالى بمنته عليهم حيث أنجزهم ما وعدهم من النصر، فقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152] ]، والحس: قطع الحس بالقتل والتدمير.قال: [ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بوأ الرماة مقاعدهم وكانوا ثلاثين رامياً، وجعل عليهم عبد الله بن جبير، أمرهم بألا يبرحوا أماكنهم كيفما كانت الحال، وقال لهم: إنا لا نزال غالبين ما بقيتم في أماكنكم ترمون العدو، فتحمون ظهورنا بذلك، وفعلاً دارت المعركة وأنجز الله تعالى لهم وعده، ففر المشركون أمامهم تاركين كل شيء، هاربين بأنفسهم والمؤمنون يحسونهم حساً، أي: يقتلونهم قتلاً بإذن الله وتأييده لهم، ولما رأى الرماة هزيمة المشركين، والمؤمنون يجمعون الغنائم، قالوا: ما قيمة بقائنا هنا والناس يغنمون، فهيا بنا ننزل إلى ساحة المعركة لنغنم ] فتأولوا أمر الرسول فقالوا: أمرنا الرسول بالثبات من أجل الانتصار وقد انتصرنا، فلم يبق معنىً للبقاء في الجبل، وهذا هو التأويل الذي يتخبط فيه المسلمون دائماً وأبداً، فيصابون بالنكسات والانتكاسات، وهو والله باطل، إذ المفروض أن يبقوا على الجبل على أي حال، حتى يأذن لهم بالنزول، فليذكر طلبة العلم هذا، إذ ليس كل تأويل ينفع.قال: [ فذكرهم عبد الله بن جبير قائدهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأولوه ونزلوا ] أي: أنهم قالوا: إنما حثنا الرسول على ألا ننزل من الجبل لأجل أن نحفظ سير المعركة، لكن لما انتصرنا وانهزم المشركون وهربوا فما هناك حاجة إلى البقاء على الجبل، وبالتالي تأولوا ما وصاهم به رسول الله.قال: [فذكرهم عبد الله بن جبير قائدهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأولوه ونزلوا إلى ساحة المعركة يطلبون الغنائم، وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد ] رضي الله عنه، ويومها كان مشركاً كافراً. قال: [ فلما رأى الرماة أخلوا مراكزهم إلا قليلاً منهم كر بخيله عليهم فاحتل أماكنهم وقتل من بقي فيها، ورمى المسلمين من ظهورهم فتضعضعوا لذلك، فعاد المشركون إليهم، ووقعوا بين الرماة الناقمين والمقاتلين الهائجين، فوقعت الكارثة، فقتل سبعون من المؤمنين ومن بينهم حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وجرح رسول الله في وجهه، وكسرت رباعيته، وصاح الشيطان قائلاً: إن محمداً قد مات، وفر المؤمنون من ميدان المعركة إلا قليلاً منهم، وفي هذا يقول تعالى: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:152]، يريد تنازع الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير، حيث نهاهم عن ترك مقاعدهم، وذكرهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا في فهمه وخالفوا الأمر ونزلوا، وكان ذلك بعد أن رأوا إخوانهم قد انتصروا وأعدائهم قد انهزموا، وهو معنى قوله تعالى: وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152]، أي: من النصر، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:152]، وهم الذين نزلوا إلى الميدان يجمعون الغنائم، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، وهم عبد الله بن جبير والذين صبروا معه في مراكزهم حتى استشهدوا فيها.وقوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ [آل عمران:152]، وذلك إخبار عن ترك القتال لما أصابهم من الضعف حينما رأوا أنفسهم محصورين بين رماة المشركين ومقاتليهم، فأصعدوا في الوادي هاربين بأنفسهم، وحصل هذا بعلم الله تعالى وتدبيره، والحكمة فيه أشار إليها تعالى بقوله: لِيَبْتَلِيَكُم ْ [آل عمران:152]، أي: يختبركم فيرى المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، والصابر من الجزع.وقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، يريد أنه لو شاء يؤاخذهم بمعصيتهم أمر رسولهم فسلط عليهم المشركين فقتلوهم أجمعين ولم يبقوا منهم أحداً، إذ تمكنوا منهم تماماً، ولكن الله سلم. هذا معنى قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152] ] ونحن أيضاً معهم، وذاك الذي حققه الله لهم والله نلناه، إذ لولا انهزموا وماتوا فلن تقم للإسلام قائمة، بل مصيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعتبر مصيبة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة، وما دفع الله عن رسوله يعتبر أيضاً نعمة لكل المؤمنين والمؤمنات.قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية فهي تصور الحال التي كان عليها المؤمنون بعد حصول الانكسار والهزيمة، فيقول تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ [آل عمران:153]، أي: عفا عنكم في الوقت الذي فررتم مصعدين في الأودية هاربين من المعركة، والرسول يدعوكم من ورائكم: إليَّ عباد الله، ارجعوا، وأنتم فارون لا تلوون على أحد، أي: لا تلتفتوا إليه.وقوله تعالى: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]، يريد جزاكم على معصيتكم غماً، والغم: ألم النفس لضيق الصدر وصعوبة الحال.وقوله: بِغَمٍّ [آل عمران:153]، أي: على غم، وسبب الغم الأول: فوات النصر والغنيمة، والثاني: القتل والجراحات، وخاصة جراحات نبيهم ] صلى الله عليه وسلم.قال: [ وإذاعة قتله ] بينهم عليه الصلاة والسلام.قال: [ وقوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ [آل عمران:153]، أي: ما أصابكم بالغم الثاني الذي هو خبر قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من النصر والغنيمة، ولا على ما أصابكم من القتل والجراحات، فأنساكم الغم الثاني ما غمكم به الغم الأول الذي هو فوات النصر والغنيمة ] فقط؛ لأن غم المؤمن بقتل النبي وجراحاته أعظم من أن يفوته نصر أو غنيمة.قال: [ وقوله: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153]، يخبرهم تعالى أنه بكل ما حصل منهم من معصية وتنازع وفرار، وترك النبي صلى الله عليه وسلم في المعركة وحده، وانهزامهم وحزنهم، خبير مطلع عليه، عليم به، وسيجزي به المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، أو يعفو عنه والله عفو كريم ].ومرة أخرى اسمعوا إلى هاتين الآيتين، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153]، فإن شاء الله نكون قد فهمنا هاتين الآيتين فهماً صحيحاً سليماً، والحمد لله.
هداية الآيات
قال المؤلف: [ من هداية الآيتين:أولاً: مخالفة القيادة الرشيدة والتنازع في حال الحرب يسبب الهزيمة المنكرة ] وإلى يوم القيامة، ومعنى هذا أيها المؤمنون! أنكم إذا كنتم في الجهاد والقائد رشيد فإياكم أن تتنازعوا، بل ردوا الأمر إلى القائد الرشيد، فإن تنازعكم في حال الحرب والله سبب في حصول الهزيمة، وليس المقصود بالقيادة: الرئيس فقط ولجنته المكونة من المستشارين، بل أي مخالفة لأي قيادة تسبب الهزيمة دائماً وأبداً. [ ثانياً: معصية الله ورسوله والاختلافات بين أفراد الأمة تعقب آثاراً سيئة أخفها عقوبة الدنيا بالهزائم وذهاب الدولة والسلطان ] وهذا هو الذي حصل للعالم الإسلامي، إذ أمرنا الله فما فعلنا، ونهانا فلم ننته، وحصلت الاختلافات بين أفراد الأمة من مذهبية وطائفية وحزبية، وآثاراً سيئة أخفها عقوبة الدنيا بالهزائم وذهاب دولة المسلمين وسلطانهم، فاستعمرتهم بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وهولندا، وكل ذلك بسبب معصية الله ورسوله والاختلافات، فكيف أمة تقاتل عدواً وهي مختلفة فيما بينها، هذا مذهبه كذا، وهذا طريقه كذا؟! أما عقوبة الآخرة فلا تسأل.[ ثالثاً: ما من مصيبة تصيب العبد ] أو الأمة، قال: [ إلا وعند الله ما هو أعظم منها؛ فلذا يجب حمد الله تعالى على أنها لم تكن أعظم ] أي: ما من مؤمن ولا مؤمنة يصاب بمصيبة بسبب ذنبه، ولا تفهم أن الله يصيبك بدون سبب؛ فليحمد الله ولا يحزن ولا يجزع ولا يتسخط، ولا يشكو الله إلى الناس، بل ليصبر وليعلم أن هناك مصيبة أعظم من هذه، إذ لو شاء الله لأصابك بمصيبة أعظم، فلو سمعت أن فلاناً قد احترقت سيارته، وبدأ يسخط ويضجر ويسب الله والعياذ بالله، فأنت تحمد الله، إذ لو شاء الله لاحترقت أنت وسيارتك، وهذا مثال فقط. إذاً: ما من مصيبة تصيب المؤمن أو المؤمنة بسبب بذنبه إلا وهناك ما هو أعظم من هذه المصيبة، فليحمد لله وليشكره وليستغفره، وليسأل الله العفو والعافية، ويحمده على أنه ما أصابه بأعظم من هذا، بينما الحمقى -كما تعرفون- بمجرد ما يصاب بمصيبة أو بلية فإنه يسب الله والعياذ بالله؛ لأنهم ما ربوا في حجور الصالحين،، ما جلسوا في مثل هذا المجلس قط، ولا سمعوا عن الله ورسوله، وبالتالي فلا يلاموا على ذلك، وهذا عامة العالم الإسلامي، واجلسوا في المقاهي واسمعوا ماذا يقولون؟. [ ما من مصيبة تصيب العبد إلا وعند الله ما هو أعظم منها؛ فلذا يجب حمد الله تعالى على أنها لم تكن أعظم ]، وأخذنا هذه الفائدة من قوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، وقلنا: لو ما عفا عنهم المعصية لسلط عليهم المشركين فاكتسحوهم ولم يبقوا منهم أحداً.[ رابعاً: ظاهر هزيمة أحد النقمة، وباطنها النعمة ]، أي: أن هزيمة أصحاب رسول الله في أحد ظاهرها النقمة؛ لأنهم مالوا إلى الدنيا وتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في باطن الهزيمة النعمة، فكيف ذلك؟ لعلكم تذكرون رؤيا الشيخ محمد عبده في تفسير المنار، إذ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عائداً من غزوة أحد على بغلته والأمة وراءه وهو يقول: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة؛ لأنهم لو انتصروا مع المعصية فإنهم سيصبحون لا يبالون بها، وهم مقبلون على قتال الأبيض والأسود، وسيقولون: عصينا وما أصابنا شيء، فيعصون الله لأنهم مسلمون، ولأنهم يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الله، وبالتالي فكيف يهزمهم الله أو يسلط عليهم الكافرين؟! ومن ثم يصبحون مهزومين إلى يوم القيامة، فمن أجل هذا أصابهم الله ليكون هذا درساً لهم في المستقبل وإلى اليوم، فعلمهم أنهم يقاتلون في سبيل الله ومع رسول الله، ولما عصوا مضت فيهم سنة الله فانهزموا.وللأسف فقد انهزمت جيوشنا في كل مكان، وذلك لأنهم يعيشون على معصية الله والرسول، وبالتالي كيف ينصرهم الله؟! وقد بينت لكم فقلت: والله لو انتصرت الاشتراكية التي عمت العالم العربي والإسلامي إلا قليلاً، بأن عاش الاشتراكيون في نعيم ورخاء وكثرة أموال، لكفر المسلمون، ولأصبحوا كلهم اشتراكيين، لكن من حماية الله بالإسلام وأهله ما استفادوا منها إلا الذل والعار والفقر، وذلك لما كانوا يتبجحون ويقولون: اشتراكيتنا نوالي من يواليها ونعادي من يعاديها.إذاً: لو انتصر الاشتراكيون واستغنى مواطنيهم وترفهوا وكثرت أموالهم، لمال الناس كلهم عن الإسلام وتركوه، لكن لطف الله عز وجل ورحمته ما نالهم إلا الخزي والفقر.وأخرى: لو انتصر العرب -لا المسلمون- في قتالهم مع اليهود، لم يبق الإسلام فينا أبداً إلا عند بعض العجائز أو الضعفاء، لكن الله أبى ذلك حتى يبقى هذا النور، وتبقى هذه العقيدة وهذا الإسلام، وذلك ليوم ما ينتفعون به، فسلط عليهم حفنة من اليهود كلما قاتلوهم أذلوهم وهزموهم، مع أنهم كانوا يقولون: قوتنا الضاربة، ولا يذكرون الله أبداً، وبالتالي انهزم العرب في فلسطين، وكان هذا في الظاهر نقمة، وهو في الباطن نعمة.وليس معنى هذا أن الشيخ فرحان بهزيمة العرب، فأنا أقول: لو انتصر العرب الذين كانوا يتبجحون ولا يذكرون اسم الله، لم يبق مجال للإسلام بينهم، ولقالوا: اسكت يا رجعي، يا منتن، لكن أبى الله إلا الهزيمة، وكانت في الظاهر نقمة، وفي الباطن نعمة؛ ليبقى الإسلام ويبقى نوره.قال: [ رابعاً: ظاهر هزيمة أحد النقمة وباطنها النعمة، وبيان ذلك: أن عَلِمَ المؤمنون أن النصر والهزيمة يتمان حسب سنن إلهية، فما أصبحوا بعد هذه الحادثة المؤلمة يغفلون تلك السنن أو يهملونها ] أبداً، إذ قد عرفوا أن النصر والهزيمة يتمان حسب سنن إلهية، فما أصبحوا بعد هذه الحادثة المؤلمة يغفلون تلك السنن أو يهملونها، وهذه السنن هي الوحدة، وطاعة القيادة، والمشي في طاعة الله ورسوله، وكل ذلك يجلب النصر، والخروج عن هذا يسبب الهزيمة إلى يوم القيامة.قال: [ خامساً: بيان حقيقة كبرى -وعظمى- وهي: أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، وفي شيء واحد ترتب عليها آلام وجراحات وقتل وهزائم وفوات خير كبير وكثير، فكيف إذاً بالذين يعصون رسول الله طوال حياتهم وفي كل أوامره ونواهيه، وهم يضحكون ولا يبكون، وآمنون غير خائفين؟! ]، وهؤلاء هم العالم الإسلامي إلا من رحم الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله.

ابو وليد البحيرى
2019-04-10, 05:53 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (64)
الحلقة (205)
تفسير سورة آل عمران (68)


امتن الله على عباده المؤمنين أنه بعد الغم الذي أصابهم يوم أحد أنزل عليهم النعاس مما في قلوبهم من اليقين، حتى إن أحدهم لينام فيسقط السيف من يده ثم يتناوله، أما أهل النفاق والشك فقد حرمهم الله هذه الأمنة، فما زال الخوف يقطع قلوبهم، والغم يسيطر على قلوبهم، وهم يظنون بالله غير الحق، وأن الإسلام سينهزم، وأن أهل الإسلام سينتهون، ولكن الله عز وجل يكبتهم وينصر عباده المؤمنين الصادقين.
تفسير قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه، كان كالمجاهد في سبيل الله )، وثالثة من إفضالات الله علينا وإنعامه: ( أن المؤمن إذا صلى المغرب وجلس ينتظر صلاة العشاء، فإن الملائكة تصلي عليه ما لم يحدث -أي: ينتقض وضوئه- تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى ينصرف من المسجد )، وهذا الإنعام والإفضال قد رُزِقناه وحرمه الملايين، و ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].وها نحن ما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام وخاصة مع أحداث أحد، وها نحن مع هاتين الآتين الكريمتين، فهيا نتلوا هاتين الآيتين ونتدبرهما ونتأملهما، ثم نأخذ في الشرح لزيادة البيان واليقين، وتلاوة الآيتين بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:154-155].إنهما آيتان عظيمتان، فهيا نعد تلاوتهما، والأجر للجميع، والمستمع كالتالي، والحرف بعشر حسنات، يقول تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:154-155].إنه بيان إجمالي من الله عز وجل، فلنشارك سوياً في فهم هاتين الآيتين، يقول تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154]، فالقائل هو الله، والمخاطبون هم أصحاب رسول الله من أهل وقعة أحد. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ [آل عمران:154]، وقد تقدم أنه أصابهم غماً بغم، وعرفنا أن الغم كرب عظيم يصيب النفس.
معنى قوله تعالى: (من بعد الغم أمنة نعاساً..)
يقول تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154]، والأمنة كالأمن، إلا أن الأمنة تكون حال الخوف، والأمن مطلق، أي: في حال الخوف وغيره، وقد فسر الأمنة بالنعاس، يقول طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما: لما أنزل الله علينا النعاس في المعركة كان السيف يسقط من يدي ثم أتناوله، ثم يأخذني النعاس فيسقط السيف من يدي مرة أخرى، والنعاس: مقدمة النوم، لكن يصاب الجسم بالفتور فيذهل العقل.قال: يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154]، وهم الصلحاء الصادقون الموحدون، لا المرتابون الشاكون والمنافقون.
معنى قوله تعالى: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم...)
قال تعالى: وَطَائِفَةٌ [آل عمران:154] أخرى، قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154]، أي: لا هم لهم إلا النجاة.قال: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، وهؤلاء منهم ضعاف الإيمان، وأكثرهم منافقون.قال: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا [آل عمران:154]، أي: ما لنا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ [آل عمران:154]، أي: قل لهم يا رسولنا: إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]، ليس لغيره، إذ إنهم كانوا يقولون: لو كان الأمر لنا ما نأتي لنقاتل المشركين في هذا الوادي، بل سنبقى في المدينة ونقاتلهم فيها، وكان هذا رأي ابن أبي، وقد سبقه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ابن أبي صرح به، ونفث هذه الروح في المنافقين، فالذين رجعوا معه رجعوا، والذي ما رجعوا فهذا النوع منهم.
معنى قوله تعالى: (قل إن الأمر كله لله ...)
قال تعالى: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ [آل عمران:154]، أي: ما لا يظهرون يا رسول الله، يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قل لهم: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:154]، أي: في داخل المدينة، لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، أي: ليصرعوا هناك؛ لأن هذا قد كتبه الله في كتاب المقادير أزلاً، فمن كُتب أنه سيموت في هذا اليوم فإنه سيموت في هذا اليوم، ومن كتب أنه سيصرع في هذا المكان فإنه سيصرع فيه، فالخروج وعدمه ليس بشيء أبداً، فالذين كتب الله مصارعهم في أحد سوف يخرجون، بل لو بقوا في منازلهم وما خرجوا للجهاد فإنهم سيصرعون، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، ليلقوا مصيرهم هناك.قال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ [آل عمران:154]، أي: لو شاء الله لأخذ الأصحاب برأي رسول الله وما خرجوا لقتال المشركين، وتركهم يدخلون المدينة ويقاتلونهم بالنساء والأطفال والرجال، ولكن كيف يمحص ويبتلي؟قال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران:154]، وحسبنا أن ابن أبي عليه لعائن الله رجع بثلاثمائة من الطريق، إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بتسعمائة ألف إلا مائة، فلو ما أمر الله بالخروج وكتبه فكيف سيظهر هذا النفاق؟
تفسير قوله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان...)
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155]، وهذا يشمل طائفتين، وهما بنو حارثة وبنو سلمة، إذ هموا بالرجوع ولكن الله سلم.قال: اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ [آل عمران:155]، أي: أراد أن يوقعهم في هذه الزلة.قال: بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، ولنسكت عن هذا الذنب الخفي إن قلنا: إن المراد منه جماعة بنو حارثة وبنو سلمة، وإن قلنا: هم الرماة الذين نزلوا من فوق الجبل، فالذي كسبوا هو معصيتهم لرسول صلى الله عليه وسلم، ونزولهم لأخذ الغنيمة والمال.قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:155]، أي: جمع المؤمنين وجمع المشركين، والظاهر أنهم الرماة أصحاب الجبل.قال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، والحمد لله، إِنَّ اللَّهَ غَفُ ورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155]، وهذه بشرى لهم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيتين:ما زال السياق في الحديث عن أحداث غزوة أحد، فأخبر تعالى في الآية الأولى عن أمور عظام ] وهي خمسة [ الأول: أنه تعالى بعد الغم الذي أصاب به المؤمنين ]، وهو الهزيمة وفقد الغنيمة، ثم الجراحات التي أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإعلان عن وفاته وموته عليه الصلاة والسلام، وهذا الغم أعظم من الأول.قال: [ الأول: أنه تعالى بعد الغم الذي أصاب به المؤمنين، أنزل على أهل اليقين ] لا أهل الشك والشرك [ أنزل على أهل اليقين خاصة أمناً كاملاً، فذهب الخوف عنهم، حتى أن أحدهم لينام والسيف في يده فيسقط من يده ]. فمن يقوى على أن ينزل هذا الأمن وهذا النعاس في المعركة والدماء تسيل، ومع هذا ينام أحدهم حتى يستريح؟! إنه الله تعالى. قال: [ حتى أن أحدهم لينام والسيف في يده فيسقط من يده ثم يتناوله ]، قال طلحة والزبير وأنس: غشينا النعاس حتى أن السيف ليسقط من يد أحدنا فيتناوله من الأرض.قال: [ قال تعالى -في بيان هذا-: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154] ]، أي: ينزل عليهم ويغطيهم، كالملائكة التي تغشى حلقتنا هذه وتغطيها.قال: [ والثاني: أن أهل الشك والنفاق حرمهم الله تعالى من تلك الأمنة، فما زال الخوف يقطع قلوبهم، والغم يسيطر على نفوسهم، وهم لا يفكرون إلا في أنفسهم، كيف ينجون من الموت؟ وهم المعنيون بقوله تعالى: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154].والثالث -من الأمور العظام-: أن الله تعالى قد كشف الغطاء عن سرائرهم، فقال: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] ]، فيجب أن يظن بالله ظن الحق كأهل اليقين، لا أن يظن به الباطل والسوء كأهل الجهل والشرك. قال: [ والمراد من ظنهم بالله غير الحق: ظن المشركين أنهم يعتقدون أن الإسلام باطل، وأن محمداً ليس رسولاً، وأن المؤمنين سيهزمون ويموتون، وينتهي الإسلام ومن يدعو إليه ]، فهذه هي الظنون الباطلة، وهذا هو ظن أبي سفيان والمشركين، بل هو ظن ابن أبي والمنافقين. [ والرابع: أن الله تعالى قد كشف سرهم فقال عنهم: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [آل عمران:154]، هذا القول قالوه سراً فيما بينهم، ومعناه: ليس لنا من الأمر من شيء، ولو كان لنا ما خرجنا ولا قاتلنا ولا أصابنا الذي أصابنا، فأطلعه الله تعالى على سرهم، وقال له: رد عليهم يا رسولنا بقولك: إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]، ثم هتك تعالى مرة أخرى سترهم وكشف سرهم فقال: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ [آل عمران:154]، أي: يخفون في أنفسهم من الكفر والبغض والعداء لك ولأصحابك ما لا يظهرونه لك ]، وهذا شأن المنافقين وضعاف الإيمان في كل زمان ومكان. [ والخامس: لما تحدث المنافقون في سرهم وقالوا: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، يريدون لو كان الأمر بأيديهم ما خرجوا لقتال المشركين؛ لأنهم إخوانهم في الشرك والكفر، ولقتلوا مع من قتل في أحد، فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:154]، بالمدينة، لَبَرَزَ [آل عمران:154]، أي: ظهر، الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، وصرعوا فيها وماتوا؛ لأن ما قدره الله نافذ على كل حال، ولا حذر مع القدر ]، وليس معناه أننا نترك الحذر ونقول: القدر ماضٍ، إذ إن الله تعالى يقول: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، لكن لنعلم أن الله إذا قدر شيئاً فلا ينفع الحذر، وبالتالي لا نفهم من قوله: لا حذر مع القدر، أنه لا حاجة لنا الآن إلى طلب الحذر، إذ القدر نافذ، لا، بل اطلب الحذر واحذر، والله قد أمرك بذلك، فاحذر من عدوك، لكن ما قدره الله لا ينفع فيه الحذر، بل لابد وأن يقع، ومن فوائد الحذر:أولاً: أن تكون نفسك مطمئنة، فلا تكن مرتاباً ولا خائفاً؛ لأنك قد قمت بالسبب.ثانياً: إذا أصابك شيء بعد أن حذرت وأطعت الله، فإنه سينشرح صدرك، وتطيب نفسك، وترضى بقضاء الله وقدره عليك، بخلاف إهمال الحذر أو الاستعداد أو الأخذ بالأسباب، ولهذا قررنا مرات أن ترك الأسباب التي وضعها الله للوصول إلى غاية من الغايات فسق وفجور، وردٌ لأمر الله ورسوله، والاعتماد على الأسباب وأنها هي الفاعلة، شرك وكفر بالله، فاعرف هذا يا عبد الله، ومعنى هذا: خذ بالأسباب التي أمر الله بها ورسوله، وهي طاعة تثاب عليها وتؤجر، أما أن تعتمد على الأسباب وتقول: قواتنا، إرادتنا، سنفعل كذا، بدون الاعتماد على الله، فهذا شرك وكفر بالله، فقول أهل العلم: لا حذر مع القدر، يعني: إذا حذرت وما نفع الحذر؛ لأن الله كاتب هذه البلية أو هذه المصيبة، فليس معناه: أن نترك الحذر.قال: [ ولا بد أن يتم خروجكم إلى أحد بتدبير الله تعالى ليبتلي الله، أي: يمتحن، ما في صدوركم ويميز ما في قلوبكم، فيظهر ما كان غيباً لا يعلمه إلا هو إلى عالم المشاهدة؛ ليعلمه ويراه على حقيقته رسوله والمؤمنون ]، أي: ما كان مكتوماً في المدينة فقد أظهره الله في أحد، فعلمه الرسول والمؤمنون.قال: [ وهذا لعلم الله تعالى بذات الصدور، هذا معنى قوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] -في أحد- وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154] ]، فالعلم الذي كان غيباً قد أظهره الله لنا، فعرفنا المنافق من المؤمن الموقن.قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى. أما الآية الثانية فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن حقيقة واحدة ينبغي أن تعلم -حقيقة واحدة ينبغي أن يعلمها المؤمنون والمؤمنات- وهي أن الذين فروا -هربوا- من المعركة لما اشتد القتال وعظم الكرب، الشيطان هو الذي أوقعهم في هذه الزلة، وهي توليهم عن القتال -تقدم: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153]-بسبب بعض الذنوب كانت لهم، ولذا عفا الله عنهم ولم يؤاخذهم بهذه الزلة، وذلك لأن الله غفور حليم، فلذا يمهل عبده حتى يتوب فيتوب عليه ويغفر له، ولو لم يكن حليماً لكان يؤاخذ لأول الذنب وأول الزلة، فلا يمكن أحداً من التوبة والنجاة ]، لكن لحلمه ورحمته يمكن عباده، فيمهلهم حتى يتوبوا ليتوب عليهم ويغفر لهم.قال: [ هذا معنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ [آل عمران:155]، أي: عن القتال، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:155]، أي: جمع المؤمنين وجمع الكافرين بأحد، إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ [آل عمران:155]، فلم يؤاخذهم، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155] ].هذا هو معنى هاتين الآيتين الكريمتين، وقد نقلنا لكم أحداث أحد مع رسول الله وأصحابه والمنافقين، وشهدنا هذه الأحداث وكأننا ننظر إليها رأي العين، وتم هذا بفضل الله في كتابه العزيز القرآن الكريم.وهناك سؤال يقول: ما الفرق بين الصدور والقلوب؟ والجواب: أن الصدر هو الجوف الذي فيه القلب، وفيه أشياء تكون في الصدر، كوسواس وهواجس، وأخرى تتركز في القلب، وما في القلب أصعب، وكتمانه سهل، أما في الصدر فيخرج على اللسان، إذ ليس مضبوطاً.
هداية الآيات
والآن مع هداية الآيتين، إذ لا توجد آية لا تحمل الهداية إلى الإسعاد والكمال، وإلى معرفة الطريق، فإذا سلك العارف الطريق نجا وكمل وسعد، فهذا هو معنى الهداية، وكل آية في كتاب الله لها هدايتها الخاصة، فهيا نتأمل في هدايات هاتين الآيتين. قال المؤلف: [ من هداية الآيتين:أولاً: إكرام الله تعالى لأوليائه بالأمان الذي أنزله في قلوبهم ]، وهذه كرامة من الله تعالى لأوليائه، وأنا قد قلت لكم: إنه في أثناء الحرب والمعركة دائرة، أنزل الله عليهم النعاس فهدأت نفوسهم وارتاحت أجسامهم، وكأنهم في المستشفى، بل أفضل من ذلك، فمن يقوى على هذا غير الله؟ والله ما يقدر عليها أحد إلا الله، وهذه طائفة أهل اليقين لا أهل الشك.فيا عباد الله! قد تبتلى في يوم من الأيام بما يزلزل أقدامك ويفزعك، فينزل الله تعالى عليك أمنة كهذه، فلا تبالي عند ذلك، وهذه الهداية مأخوذة من الآية الأولى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154]، وقرئ: (أمْنَة) بالسكون أيضاً، والنعاس: مقدمات النوم، وهذه الأمنة التي حصل لكم بها الأمن سببها النعاس.قال: [ ثانياً: إهانة الله تعالى لأعدائه بحرمانهم مما أكرم به أولياءه وهم في مكان واحد ]، وقد ظهر هذا واضحاً جلياً، إذ إنهم كانوا كلهم في أحد في ذلك الوادي والمعركة دائرة، فأولياء الله أكرمهم بإنزال النعاس والأمنة، بينما الآخرون حرموا من ذلك، فقلوب تتمزق من الخوف والكرب والهم، وأهل اليقين نائمون لا يزعجهم شيء. وبالتالي لابد وأن تحصل هذا الكرامات لأولياء الله، وثقوا في هذا، فلا يمضي عليك زمان إلا وتحصل لك، إذ إن الله عز وجل يحب أولياءه ويكرمهم.وهنا سؤال يقول: من هم أولياء الله؟ والجواب: يقول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا [يونس:63]، الإيمان الصحيح الحق، وَكَانُوا [يونس:63] طول حياتهم، يَتَّقُونَ [يونس:63] مساخط الله بفعل ما أمر، وبترك ما نهى وزجر.سؤال آخر: هل للثالوث الأسود في باب الولاية شيء؟ نعم، فقد حوَّلوا القرآن ليُقرأ على الموتى، وجعلوا السنة تُقرأ للبركة لا للتعلم وأخذ الهداية، وقصروا أولياء الله في الموتى، فلو أنك قبل ستة قرون دخلت القاهرة المعزية، أو دمشق الشامية، أو بغداد، أو كراتشي، أو إندونيسيا، أو مراكش، أو الخرطوم في السودان، ثم قابلت أول شخص لقيته، فقلت له: يا أخي! لقد جئت من بلاد بعيدة، وأريد منك أن تدلني على ولي من أولياء هذه البلاد، فوالله لا يأخذ بيدك إلا إلى قبر، ولا يفهم أن في الخرطوم أو في القاهرة ولياً في الصفوف الأولى في المسجد، وهذه قبل سبعين سنة تقريباً، وأقسم لكم بالله لقد عاشت هذه الأمة قروناً لا تعرف ولاية الله إلا في الموتى، والذي فعل بها هذا هو الثالوث الأسود المكون من اليهود والمجوس والنصارى، فقد تعانقوا جميعاً لإطفاء نور الله تعالى، إذ إنهم عجوزا في الحروب فاحتالوا بالحيل، وعرفوا أن القرآن روح لا حياة كاملة بدونه، فعملوا على تحويله ليقرأ على الموتى، سواء في العواصم أو في البادية، وكذلك السنة لا تُقرأ إلا للبركة، فيجتمعون يقرءون كتاب البخاري أو الموطأ للبركة، لا لاستنباط الأحكام ومعرفة الهداية.إذاً: الولاية حرموا منها الأحياء، وذلك من أجل أن يزنيَ بعضهم بنساء بعض، وأن يسب ويشتم بعضهم بعضاً، وأن يأكلوا أموال بعضهم بعضاً، ووالله العظيم لو كنت تعرف أن هذا السيد ولي لله فإنك لا تستطيع أن تسبه أو تشتمه، بل لا تستطيع أن تفكر بالزنا بامرأته، وقد عرفناهم، إذ إن أحدهم إذا مر بقبر ولي فإنه يرتعد، ولذلك فالعدو الثالوث لكي يبيح الزنا والجرائم، ولكي يفسد المسلمين قالوا: الولاية محصورة في أهل المقابر فقط، في سيدي عبد القادر الجيلاني، ومولاي إدريس، والعيدروس، والبدوي، والجيلاني، أما ولي يمشي على الأرض فلا.والبرهنة على ما أقول: إن الزنا موجود في العالم الإسلامي، إذ إن المسلمين يزنون بنساء وببنات بعضهم البعض! وكذلك وجود الإجرام والتلصص والسرقة والسلب بين المسلمين، ولو كانوا يعتقدون أنهم أولياء لله ما استطاعوا أن يؤذوهم، لكن الأعداء مسحوا هذه القضية نهائياً، وتركوا الأمة كلها أعداء لبعضها البعض، والحمد لله أن عرفنا ذلك، وقد ذكرت لكم حادثة من ملايين الحوادث وهي: أني عندما كنت صبياً وجالساً مع شيوخ كبار حول المسجد، حدث أحدهم فقال: إذا زنا فلان فلا يمر بالشارع الفلاني وهو جنباً؛ احتراماً لسيدي علي! وهو ولي في القرية، فانظر كيف يزني بامرأة مؤمن من إخوانه، ثم يخاف أن يمر على قبر سيدي فلان وهو جنباً؟! فهل عرفتم ما فعل الثالوث الأسود؟ إي عرفنا، فهيا نغير وضعنا، فمن منكم يقول: يا شيخ كيف نغير هذا الوضع؟ هل يقوم زعيم فيقول: بالخلافة! متى توجد الخلافة؟! وآخر قد يقول: بالمال؟! ما عندنا أموال، إذ إن هذا يحتاج إلى بنوك أمريكا كلها، إذاً نغير هذا الوضع بأن نقبل على الله في صدق، نساء ورجالاً وأطفالاً، فنجلس في بيوت الله كجلستنا هذه، أهل القرية وأهل الحي، وذلك أنه إذا دقت الساعة السادسة فنتوضأ ونتطهر، ونلبس أحسن الثياب، ونحمل أطفالنا ونسائنا إلى بيوت الله تعالى، فنصلي المغرب كما صلينا، ونجتمع هكذا، النساء وراءنا دونهن ستاراً، والأطفال بين الرجال والنساء صفوف كالملائكة، فنتلقى الكتاب والحكمة، ليلة آية من كتاب الله، وأخرى حديثاً من أحاديث رسول الله، على أن يكون المربي عليماً حكيماً، ويأخذون في هذا النمو والكمال العقلي والطهارة الروحية والآداب العالية، وفي خلال أربعين يوماً فقط أو سنة، لا يبق في القرية أو الحي من يسب أخاه المؤمن، ولا يبق من يمد يده لسلب مال أخيه المؤمن، ولا يبق من يفكر بأن يفجر ببنت أو بابن أو بامرأة أخيه المؤمن، ولا يبق من يتلوى من الجوع وإخوانه شباع، ولا يمشي عارياً وهم مكسوون، ولا يبق من يظلم ويسكت عن ظلمه، بل يؤدب ويهذب، وتصبح القرية أو الحي كأنها في عهد أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.فما الذي يضير العالم الإسلامي لو أقبل على الله بهذه الطريقة؟ ما الذي يصيبهم؟ هل تتوقف الأعمال؟ لا والله ما تتوقف، إن اليهود والنصارى في العالم بأسره إذا دقت الساعة السادسة وقف دولاب العمل، سواء في فرنسا أو بريطانيا أو أمريكا أو اليابان، إذ إنهم اشتغلوا من طلوع الشمس إلى غروبها فيكفي، ثم يذهبون إلى دور السينما والمعازف ليروحوا على أنفسهم خمس أو أربع ساعات، ويعودون كالبهائم إلى بيوتهم، فهل نحن مثلهم؟ نحن إذا ذهبنا إلى بيوت ربنا نتلقى الكتاب والحكمة، تزكو قلوبنا وعقولنا وفهومنا وأرواحنا، ونعود في أسعد حال إلى بيوتنا. وأنا أعرف أن علماءنا لا يقبلون هذا في العالم الإسلامي، إذ إنهم سيستصعبون هذا الأمر! فأقول: هل نسلب الناس أموالهم ونطالبهم بأن يغتالوا ويقتلوا ويثيروا الفتن؟! ما الذي يكون؟ فقط أن نرجع إلى الله فنبكي بين يديه، ونطرح أمامه ليرفع ما بنا، وينزل الخير والرحمة علينا، ومع هذا كم سنة ونحن نبكي؟ إنه لا حل لنا إلا أن نتوب إلى الله. [ ثالثاً: تقرير مبدأ القضاء والقدر، وأن من كُتب موته في مكان لا بد وأن يموت فيه ]، فكم من إنسان في المدينة يريد أن يموت في المدينة فيموت في أمريكا، وكم من إنسان من إندونيسيا يموت في المدينة، ولذلك من كتب أن يموت في مكان ما فلن يموت إلا فيه، وهذا مظهر من مظاهر قدرة الله، وهو دليل ومنطق القضاء والقدر، وأخذنا هذه الهداية من قول الله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، ليموتوا هناك.[ رابعاً: أفعال الله تعالى لا تخلو أبداً من حكم عالية، فيجب التسليم لله تعالى والرضا بأفعاله في خلقه ]، سواء كانت نصراً أو هزيمة، غنى أو فقراً، ذلاً أو عزاً، إذ ما تم ذلك والله إلا لحكمة عالية؛ لأن الله حكيم عليم، وقد ضربت لكم مثلاً عل ذلك وهو استعمار الغرب لنا، إذ إنه تم بتدبير الله تعالى، وذنوبنا هي التي أوقعتنا في ذلك حتى نفيق ولا نرجع مرة ثانية إلى الذل والهوان. إذاً: فنحن ننتظر، فوالله إن لم يتدارك الله المسلمين في الشرق والغرب بتوبة صادقة لنزل بهم بلاء أعظم من بلاء الاستعمار، إذ إنهم يبيحون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، فهم معرضون عن الله تماماً، وكأن الله لا وجود له، وسوف ينزل البلاء على من لم يتب إلى الله ويرجع إليه، ولو عرفوا هذا لبكوا الليل وصرخوا.[ خامساً: الذنب يولد الذنب، والسيئة تتولد عنها سيئة، فلذا وجبت التوبة من الذنب على الفور ]، وهذه سنة الله تعالى، فإذا أذنبت ذنباً أو فعلت سيئة ولم تبادر إلى محوه فوالله لتذنب مرة أخرى، وهذه سنة الله تعالى، إذ إن السيئة تولد السيئة، وأخذنا هذا من قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، أي: ذنباً ولد ذنباً، وسيئة ولدت سيئة، فلهذا واجبنا أننا إذا أذنبنا نتوب على الفور، أما إذا لم نتب فسوف تتوالى السيئات حتى نغرق فيها والعياذ بالله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-10, 05:59 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (65)
الحلقة (206)
تفسير سورة آل عمران (69)


ينادي الله عز وجل في هذه الآيات عباده المؤمنين الصادقين في إيمانهم، فيناديهم لينهاهم عن الاتصاف بصفات الكافرين النفسية، الذين يقولون لإخوانهم في الكفر الذين يخرجون للتجارة أو الغزو ثم مات أحدهم أو قتل: لو أطاعونا ما ماتوا ولا قتلوا، وهذه النفسية يتولد عندهم من جرائها غم وحسرات، وما درى أولئك الجهال أن الله يحيي ويميت، ثم يبشر الله عباده المؤمنين بأن من قتل منهم في سبيل الله أو مات فإن مرجعه إلى الله الغفور الرحيم.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رغبة فيما بشرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).معاشر المستمعين والمستمعات! ما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:156-158].هيا نكرر تلاوة هذه الآيات الثلاث متأملين متدبرين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:156-158]، (مِتم)، و(مُتم) قراءتان سبعيتان، فبالكسرة حجازية، وبالضم كوفية.
نهي الله للمؤمنين أن يكونوا كالذين كفروا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:156]، هذا النداء موجه من الله لعباده المؤمنين، فهذا كلامه وهذا كتابه، ونحن أولياؤه وعبيده، فإذا ناداهم ربهم عز وجل فإنما يناديهم لواحدة من أربعة، وهنا ناداهم لينهاهم عما يسيء إليهم ويضر بهم، عما يؤذيهم ويشقيهم، وقد ناداهم بعنوان الإيمان؛ لأن الإيمان بمثابة الطاقة، بل بمثابة الروح الذي لا حياة بدونه، أو لا حياة حق بدون إيمان حق. ثم نهانا بقوله فقال: لا تَكُونُوا [آل عمران:156]، وهنا اللام ناهية، كَالَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:156]، من المنافقين واليهود والنصارى والمشركين والبوذيين والشيوعيين، لكن هنا لا زال السياق عن غزوة أحد وما ترتب عليها من تعاليم وهدايات، وبالتالي فالذين كفروا هنا هم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، فكشف الله الغطاء عنهم، وأعلمهم أنهم كافرون، وقد نهى الله المؤمنين أن يكونوا كالذين كفروا، إذ إنه ينبغي أن نتباين مع الكافرين وألا نكون مثلهم، لا في الرأي ولا في التفكير ولا في الزي ولا في أي شيء آخر، وإنما الفصال الكامل؛ لأنهم أنجاس ونحن أطهار؛ لأنهم أموات ونحن أحياء، لأنهم يقادون ونحن قادة، لأنهم يهتدون ونحن مهتدون وهادون، ففرق كبير بين هذا وذاك، وبالتالي كيف تريد أن تكون مثل إنسان ميت؟!
لطيفة في النهي عن التشبه بالكافرين
لطيفة: أرى أطفالنا في المدينة النبوية يلبسون أزياء كلها كأزياء أولاد الكفار، ولا أدري ما هو السبب؟! فقد كان أولادنا كالملائكة يلبسون الثوب الإيماني الرباني الأبيض، فاستبدلوه بثياب النصارى والمشركين والمجوس، فهل سألوا وأفتوهم بالجواز؟! كذلك الزي العسكري، فقد بكينا وصرخنا وندبنا وقلنا: يجب أن يتميز الجندي الرباني عن الجندي الشيطاني، وقد رأيت في هذه القضية رؤيا نبوية، وذلك لما أمر الزعيم عبد الناصر بتوحيد الجيوش العربية من أجل أن يقاتلوا اليهود، ونحن الآن في المملكة قد اضطررنا، إذ كيف نبقى مخالفين لجيوش العرب؟ فهيا نلبس لباسها من أجل الانتصار! والله لا انتصار، وهذه الأحداث منذ أربعين سنة أو ثلاثة وأربعين سنة، وقد رأيتني أمام باب السلام الموجود الآن، وبيني وبين الباب حفرة طويلة عريضة عند نهاية عتبة الباب، والأخرى بين يدي، وفي وسطها نعشان أو جنازتان، فخطر ببالي أن أحد النعشين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني لـأحمد الزهراني، وأحمد الزهراني كان شرطياً، فجلس على السرير فقلت: ما دام الشرطي حياً فالرسول من باب أولى، وفجأة انطمست الحفرة والرسول واقف، وأنا أقول: يا رسول الله! استغفر لي، يا رسول الله! استغفر لي، وأنا في حالة انفعالية لا أستطيع تصورها، فقال لي بصوت خافت: أرجو، أي: أنا، أو قال لي: اُرجُ هو، فإذا قال: اُرجُ هو، أي: أنه يرجو الاستغفار، وإذا قال لي: أنا أرجو، أي: أرجو أنا، ولحظة وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم جالساً على كرسي من حجر إلى باب السلام من الجهة الشرقية، وكأنه البدر، وبينما أنا واقف إذا بطفل كعبد الله يلبس بدلة كبدلة نجيب، ونجيب هو الذي قام بالثورة ضد الملك فاروق، وقد احتضنه عبد الناصر، ثم بعد ذلك أبعدوه، وبدلة نجيب عبارة عن بدلة عسكرية من يطنان فرنسي.والمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك الموقف أشار بيده الطاهرة هكذا وقال بالحرف الواحد: أبمثل هذا يبتغون العزة؟! وفعلاً ما أعزهم الله إلى الآن، إذ نحن أذلاء لليهود.وقد نفع الله بتلك الرؤيا -فقد كان الدرس بداخل المسجد- فقد حججنا ونزلنا المدينة في صفر، ثم جاء العيد ورجالات المدينة من الأعيان يلبسون أطفالهم تلك البدلة، ويأتون بهم إلى الحجرة الشريفة ليسلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما إن رأيت هذا حتى كدت أن أتمزق؛ لأننا كنا في بلد مستعمرة نرى أن من يلبس لبسة الكفار كافر، وما كان يخطر ببالي أن مؤمناً يتزيا بزي الكافر، فكيف يتحدون رسول الله ويأتون بأطفالهم ليغضبوه؟! وهل يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا؟ والله ما يرضى، والحمد لله فقد كان هناك خياط مختص يخيط مثل هذه الملابس، ثم أغلق محله وانتهت بعد فترة وجيزة.وأنا قلت هذا لأننا نسمع نداء من السماء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:156]، لبيك ربنا لبيك، لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:156]، قال أهل العلم: في كل شيء إلا ما لابد منه، فلا نأكل أكلهم من الخنزير والميتة، ولا نشرب كشربهم، ولا نتناول الشراب بأيدينا كما يتناولون، ولا ندخل نعالنا في أرجلنا كما يفعلون، إنها مباينة كاملة ومفاصلة تامة؛ لأنهم أموات أنجاس، ونحن أطهار أحياء، فلا عجب ولا غرابة.إذاً: إن شاء الله من هذه الليلة على الآباء أن يلبسوا أولادهم اللباس الأبيض كلباس الملائكة، ولا يلبسونهم هذه البرنيطة وهذا السروال كسروال المجوس، فهل هذا حتى نعلمهم العبث والتمرغ في التراب؟ لا؛ لأنه لما يكون الثوب نظيفاً فلا تسمح له أمه ولا أبوه أن يتمرغ به في التراب، لكن ما دام أنه سروال أسود كاليهودي فيعبث به كيفما شاء.وقد قلت من قبل: على المسلمين أن يحتفظوا بزيهم الإسلامي، فإذا انعقد مؤتمر الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، فإن المسلم يدخل بزيه الإسلامي، والبرانيط والأزياء الكافرة على الآخرين، فيراه البلجيكي أو البريطاني أو اليوناني فيقول: من هذا؟ فيردون عليه فيقولون: هذا مسلم، تريد أن تعرف اسأله، أو اذهب إلى الفندق واسأله، فتكون دعوة باللباس الإسلامي، لكن إن دخلوا كلهم بزي اليهود والنصارى، فمن يعرف هذا من هذا؟! بل لا تكون دعوة إلى الله تعالى، ولعلكم تذوقون هذه المرارة، وذلك لما يدخلوا هذه المؤتمرات أو غيرها فيجدون شخصيات متميزة، فيسألون عنهم فيعرفون أنهم مسلمون، فيضطرهم إلى أن يسألوا عن الإسلام، فيأتي فيتعلم الإسلام وتبين له الطريق الحق، ومن الجائز أن يهديه الله فيدخل في الإسلام، فكونك في زي إسلامي هذا أوجب عليك وألزم لك؛ لأنك لست مثلهم أبداً، إذ أنت حي وهم أموات، أنت طاهر وهم أنجاس، أنت صادق وهم كذبة، أنت شجاع وهم جبناء، وبوصفك المسلم الكامل الإسلام، وما هي دعاوى نقولها، بل المسلم الحق.وكذلك المؤمنات إذا تزيت إحداهن بزي كذا أو كذا، فأقول لهن: القاعدة عندنا: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، ولن تنحل هذه القاعدة أبداً، فلو يأتي علماء النفس من أجل أن يحلوها، أو ليجدوا أن الرسول ما وفق فيها وما أصاب، ما استطاعوا أبداً، بل والله لو اجتمعوا كلهم ما نقضوها؛ لأن (تشبه) على وزن تفعل، أي: أراد أن يكون مثل هذا، فلن يكون إلا مثله، تشبه أن يكون كـعنترة بن شداد، سوف يعمل ما استطاع من التمرين على الشجاعة حتى يكون مثله، أو رأى هابطاً مخنثاً وأراد أن يكون مثله، فيأخذ يمشي كمشيته، ويلبس كلبسه، وينطق كمنطقه، وفترة وإذا هو مثله، وإذا رأت المرأة عاهرة في مجلة أو جريدة أو شاهدتها في تلفاز وأرادت أن تتزيا بزيها، فلا تلبث أن تكون مثلها، فتفسد عقيدتها، ويمرض قلبها، وتصبح هابطة مثلها، إذ لو كانت تريد أن تتتشبه بـفاطمة أو بـعائشة أو بأمهات المؤمنين فإنها ستكون مثلهن، لكن ما دامت أنها أرادت أن تكون كهذه العاهرة في لباسها أو زيها، فلا تزال تتشبه بها حتى يموت قلبها، وتصبح من الساقطات والعياذ بالله، فهل فيكم من يرد عليّ في هذا؟ إننا لن نقول هذا على غير علم أبداً.إذاً: فهيا نتشبه بالصالحين فنكون مثلهم، فلا نحلق لحية، ولا ندخن عند باب المسجد، ولا نكذب، ولا نفجر، ولا نخلف الوعود، وعند ذلك نصبح صالحين، إذ ما معنى قول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]؟
معنى قوله تعالى: (إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزىً لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا)
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:156]، في كل شيء، وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ [آل عمران:156]، ليس من الأم والأب، ولا من الأسرة أو القبيلة، وإنما إخوانهم في الدين والعقيدة الكافرة، إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:156]، أي: خرجوا مسافرين للتجارة، أَوْ كَانُوا غُزًّى [آل عمران:156]، جمع غازٍ، أي: غزاة، ثم إذا مات المسافر في سفره، ومات الغازي في غزوه، فماذا يقول إخوانهم؟ آه! لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا [آل عمران:156]، أي: ما سافروا في سبيل الله ولا غزوا في سبل الله، مَا مَاتُوا [آل عمران:156]، وهذه عقيدة من لا يؤمن بالقضاء والقدر، عقيدة كافر بقضاء الله وقدره، عقيدة هابط لاصق بالأرض، وهذه العقيدة تورثهم الهم والحزن والكرب والبلاء الباطني النفسي، إذ إنهم يقولون: لو ما سافر ولدي ما مات! ما ونسوا قول الله تعالى: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، أي: الذين كتب الله عليهم القتل في هذا اليوم، إذ إنهم سيأتون إلى هذا المكان ولو كانوا في بيوتهم، وذلك لينفذ حكم الله تعالى، ويمضي قضاؤه وقدره فيهم، إذ الحياة ليست فوضى كلٌ يدبر برأسه ونفسه، إن الحياة بيد الله عز وجل، فهو الذي يدبرها، فلا يعز من يعز، ولا يذل من يذل إلا بتدبير الله وقضائه وحكمه، ولا يفتقر من يفتقر، ولا يستغني من يستغني، ولا يصح ولا يمرض إلا بتدبير الله عز وجل، وقد مضى هذا في كتاب المقادير باللحظة؛ فلا يقع في الكون شيء إلا بعلم الله وقضائه وقدره. قوله تعالى: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]، والموت يكون في السفر، والضرب يكون في الأرض، والقتل يكون في الجهاد أو في الحرب والقتال.
معنى قوله تعالى: (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم)
ثم علل تعالى لهذه النفسية فقال: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:156]، وهذا له وجهان -إذ القرآن حمال الوجوه- فالوجه الأول الظاهر من الآية: تأوههم وتململهم، إذ إنهم يقولون: لو كان كذا لكان كذا، فيكسبهم الهم والحزن والحسرة في أنفسهم، ووالله إنه لألم وحسرة وكرب عظيم في النفس، فلا يرتاح أبداً، فلهذا، قال: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:156]، والحسرة ألم نفسي تضيق به النفس.ثانياً: عندما لا نكون مثلهم في إيماننا وفي قدراتنا وفي طاقاتنا وفي صبرنا وفي جهادنا، فإنه لما نعلو ونسمو ونعز يكون ذلك هماً وكرباً وحزناً لهم، فهذان وجهان مشرقان في الآية يتحققان بها.
معنى قوله تعالى: (والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير)
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمران:156] لا سواه، وَاللَّهُ جل جلاله وعظم سلطانه، يُحْيِي من يحيي، وَيُمِيتُ من يميت، وبالتالي فلا محيي ولا مميت إلا الله عز وجل. ثم ختم الله الآية فقال: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران:156]، يا أيها المؤمنون! يا من دعيتم إلى ألا تكونوا كالذين كفروا في أزيائهم، في معتقداتهم، في آمالهم، في حياتهم كلها، اعلموا أن الله بما تعملون بصير، وهذا وعيد ووعد من الله تعالى، فإن استجبتم لما دعاكم إليه فأنتم في خير حال وأحسنه، وإن رفضتم فسوف ينزل بكم البلاء والشقاء؛ لأنه: بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: مطلع عليكم، فهكذا يربينا الله عز وجل، وقد تربينا أيام كنا نقرأ القرآن ونتدبره، لكن لما حولناه ليُقرأ على الموتى متنا كالأموات، وما عاد أحد منا يتدبر كلام الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون)
قال تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157]. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ [آل عمران:157]، وعزتنا وجلالنا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ [آل عمران:157]، أو (مِتم) بالكسر، وهما قراءتان سبعيتان ولغتان فصيحتان، لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا [آل عمران:157] (تجمعون) قراءة سبعية، خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157]، أي: خير مما يجمع المشركون والكافرون، وفي هذا ترغيب في الجهاد في سبيل الله، فارتفعوا أيها المؤمنون إلى مستواكم اللائق بكم، وعزتنا وجلالنا لئن قتلتم في سبيل الله أو مِتم في الطريق -لأن القتل يكون بالسيف والرمح، وقد يموت بدون ذلك وهو في طريقه- لَمَغْفِرَةٌ جواب: لئن، أي: مغفرة من الله تزيل كل أثر من نفوسكم، وَرَحْمَةٌ تغمركم وتدخلكم دار السلام خير مما يجمع الكفار من المليارات، بل ومن البنوك كلها.فهيا نموت في سبيل الله أو نقتل، فأما الموت في سبيل الله فممكن، إذ الحجاج والعمار لبيت الله قد يموتون في الطريق، أما الغزو فليس بعد حتى يعلنها صريحة إمام المسلمين، وحينئذ نتسابق إلى الجهاد، أما بدون إذن إمام المسلمين فلا؛ لأن الظروف غير ملائمة للقتال، فهناك معاهدات واتفاقيات بين الدول، كما أنه ليس هناك إعداد كامل لغزو بريطانيا أو اليونان؛ لأن الجهاد لا يكون إلا في ديار الكفار، أما الذين يطالبون بالجهاد في داخل بلاد المسلمين، وينادون: اقتلوا الحكام وعسكرهم! فهذه نظرية فاسدة وباطلة وخاطئة ومنكرة لا تحل، بل لا يوجد لها أثر في الإسلام، إذ إن الجهاد إما أن يغزونا جيش كافر الصلبان في أعناقهم، أو يدخل العدو ديارنا، وعند ذلك يعلن إمام المسلمين التعبئة العامة للنفير، وذلك حتى نجليه ونبعده عن ديارنا، وإما أننا قد تهيأنا واستعدينا وأصبحنا قادرين على غزو تلك البلاد، وحينئذ ترسو سفننا في سواحلها أو يصل الإعلان منا إلى تلك الدولة المجاورة لنا، فنخاطبهم بما علمنا الله ورسوله: يا أهل هذه الديار ادخلوا في الإسلام، ادخلوا في رحمة الله فتسعدوا وتكملوا، وتطيبوا وتطهروا، وتنتهي عندكم مظاهر الفقر والشقاء والعذاب، والخبث والخسران؛ لأن هذا الذي نخوفكم به نحن تنزهنا عنه، وما أصبح بيننا خبث ولا ظلم ولا فقر ولا شقاء، إذ طبقنا الإسلام فرحمنا الله به، فإن قالوا: لن ندخل في دينكم، قلنا لهم: إذاً اسمحوا لنا أن ندخل بلادكم فنعلم أفرادكم ونوجههم ونرشدهم وابقوا أنتم على دينكم، فإن قالوا: لا بأس، فهيا نعقد معاهدة مع أهل الذمة يكون بموجبها أن نحميهم، وأن نموت دونهم، وأن نقيم العدل والرحمة فيهم، وأن يدخل إخواننا بلادهم كالملائكة، فلا خيانة، ولا كذب، ولا أي مظاهر من مظاهر الباطل، وإنما يكون منا الصدق والعدل والرحمة والطهر والصفاء، وما هي إلا ليالٍ أو أيام وانجذب الناس إلى الإسلام ودخلوا فيه؛ لما يشاهدوا من آثار الكمال، وإن قالوا: لا، قلنا لهم: إذاً الحرب بيننا، فيستنفر الإمام المسلمين، ويعلن خوض المعركة، وعند ذلك ينصرنا الله عليهم، ودليل هذا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، بهذه الآية اتسعت رقعة الإسلام في خمسة وعشرين عاماً، فوصل الإسلام إلى الأندلس وإلى ما وراء نهر السند.فهل كان أصحاب رسول الله وأولادهم وأحفادهم من هذا النوع الذي نحن عليه؟ مستحيل، إذ كيف سينشرون الإسلام؟! والآن الكفار يضحكون ويتقززون من إسلامنا، ويلمزوننا بالأصوليين والمتطرفين، فقتلونا وذبحونا وحرقونا، وقد وجدوا فرصة في ذلك، وأنا خائف أن أوروبا تغضب غضبة ويزداد هذا التطرف بين بلاد المسلمين، فيقولون: يا إخواننا ما نريد أن نبقي هذا النوع عندنا، فيبعدون كل المؤمنين، وبعد ذلك هل أقمنا الدولة الإسلامية؟! لا والله، إذاً على الأقل الآن الإسلام ينتشر في أوروبا وأمريكا بواسطة الدعاة والكلمة الطيبة، وليس بالرصاصة والمسدس، فأين الوعي؟ وأين الإدراك؟ وأين الفهم؟ إن الجهاد في الإسلام يفتقر ضرورة إلى إمام المسلمين، فهو الذي يقود الحملات وينظم الجهاد والفيالق ليغزو الأعداء، لا أن يغزو ويقتل المسلمين، إذ إن هذا هو مذهب الخوارج والعياذ بالله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله )، فكيف تقتل كافراً ذمياً تحت رايتك؟ وهل يجيز الإسلام هذا؟ قال: لأنه خائن! أأنت الحاكم حتى تصدر حكمك بأنه خائن، لقد فهموا الإسلام بفهم باطل وفاتن.وبالتالي فلا تلمهم يا هذا؛ لأنهم ما جلسوا في حجور الصالحين ولا تربوا فيها، ولذلك لابد وأن نتربى في حجور الصالحين من صبانا أو صغرنا حتى نصبح أهلاً لقيادة البشر، ولإنقاذهم مما يزيغ. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا [آل عمران:157] (تجمعون)، خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157]، أي: هم، فيطهرك ويدخلك الجنة، إذ إن المغفرة معناها: محو الذنب، فإذا طهرت فسينزلك الجنة دار السلام، وقد تقدم قوله تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، فاغسل نفسك من الآن حتى تدخل الجنة بسلام، وتطهر من الآن فإنك إن مت طاهراً فلا يحول بينك وبين الجنة حائل أبداً، أما وأنت نجس فلا تدخل الجنة.
تفسير قوله تعالى: (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون)
قال تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:158]، سواء مات في الصحراء أو في البحر أو انتهى أمره كيف ما كان، فلابد وأن يحشر ويجمع بين يدي الله لفصل القضاء ولإدخاله الجنة أو النار، لكن قوله: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ [آل عمران:158] مطلقاً، أي: لا في سبيل الله ولا في غيره، إذ من مات أو قتل ليس معناه أنه ضاع وتلاشى في الحياة وما بقي له وجود، والله ليحشره الله حياً يسمع ويبصر ويتلقى الجزاء، فاطمئنوا إلى هذه، وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:158]، وتُجمعون بين يديه ليحكم ويفصل، فيدخل المحسنين الجنة، ويدخل المسيئين النار، وهذا عالم الشقاء، وهذا عالم النعيم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ معنى الآيات: ما زال السياق في أحداث غزوة أحد ونتائجها المختلفة، ففي هذه الآية ينادي الله المؤمنين الصادقين في إيمانهم بالله ورسوله، ووعد الله تعالى ووعيده، يناديهم لينهاهم عن الاتصاف بصفات الكافرين النفسية، ومن ذلك: قول الكافرين لإخوانهم في الكفر: إذا هم ضربوا في الأرض للتجارة أو لغزو فمات من مات منهم، أو قتل من قتل بقضاء الله وقدره، يقولون: لو كانوا عندنا، أي: ما فارقونا وبقوا في ديارنا ما ماتوا وما قتلوا، وهذا دال على نفسية الجهل ومرض الكفر، وحسب سنة الله تعالى فإن هذا القول منهم يتولد لهم عنه بإذنه تعالى غم نفسي وحسرات قلبية تمزقهم، وقد تؤدي بحياتهم، وما درى أولئك الكفرة الجهال أن الله يحيي ويميت، فلا السفر ولا القتال يميتان، ولا القعود في البيت جبناً وخوراً يحيي، هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمران:156]، وقوله تعالى في ختام هذه الآية: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران:156]، فيه وعد للمؤمنين إن انتهوا عما نهاهم عنه في الآية، وفيه وعيد إن لم ينتهوا فيجزيهم بالخير خيراً، وبالشر إلا أن يعفو شراً.أما الآية الثانية فإن الله تعالى يبشر عباده المؤمنين مخبراً إياهم بأنهم إن قتلوا في سبيل الله أو ماتوا فيه يغفر لهم ويرحمهم؛ وذلك خير مما يجمع الكفار من حطام الدنيا، ذلك الجمع للحطام الذي جعلهم يجبنون على القتال والخروج في سبيل الله، فقال تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157].وفي الآية الثالثة والأخيرة يؤكد تلك الخيرية التي تضمنتها الآية السابقة فيقول: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ [آل عمران:158]، في سبيلنا لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:158] حتماً، وثم يتم لكم جزاؤنا على استشهادكم وموتكم في سبيلنا، ولنعم ما تجزون به في جوار ربنا الكريم ].
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات:أولاً: حرمة التشبه بالكفار ظاهراً وباطناً ]؛ لأن النص القرآني بدأ بقوله: لا تكونوا.[ ثانياً: الندم يولد الحسرات، والحسرة غم وكرب عظيمان، والمؤمن يدفع ذلك بذكره القضاء والقدر، فلا ييأس على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه من حطام الدنيا ]، وهذا مبين في سورة الحديد، إذ قال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ [الحديد:21]، إلى أن يقول: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23]، فلا تحزن على ما فات، ولا تفرح وتبطر بما آتاك الله، وهذه ثمرة الإيمان بالقضاء والقدر.قال: [ ثالثاً: موتة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

ابو وليد البحيرى
2019-04-10, 06:03 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (66)
الحلقة (207)
تفسير سورة آل عمران (7)


وعد الله عباده المتقين بجنات النعيم، خالدين فيها أبداً، وأعد لهم فيها أزواجاً مطهرة، وقد بين الله صفات هؤلاء المتقين الذين استحقوا هذا الجزاء العظيم والنعيم المقيم، فذكر أنهم لا يفترون عن دعاء ربهم والتضرع إليه بصالح أعمالهم، ويلزمون الصبر والصدق، وينفقون في سبيل الله، ويلازمون الاستغفار بالأسحار.
تابع تفسير قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم؛ رجاء أن نظفر بذلك الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله الذي أهلنا لهذا الخير؛ إنه على كل شيء قدير.ما زلنا مع صفات الوارثين لدار السلام، وهنا أسأل الأبناء والإخوان والمؤمنات: هل للجنة ورثة؟ سبحان الله! إي والله للجنة ورثة. من هم ورثة الجنة؟ بنو هاشم؟! بنو تميم؟! بنو قينقاع؟! بنو من؟! البيض؟! السود؟! لا والله، فورثة الجنة هم المتقون. من مات حتى يرثوه؟ كل من دخل النار من الإنس والجن ترك مكانه في الجنة. ‏
الوارثون لدار السلام
إن المتقين هم الوارثون؛ لأن الجبار العزيز الغفار جل جلاله وعظم سلطانه أعد منازل الجنة ومنازل النار على قدر من يخلق من الإنس والجن، كل شيء عنده بمقدار، فأهل النار يرثون أهل الجنة في منازلهم في النار، وأهل الجنة يرثون أهل النار في منازلهم في الجنة دار الأبرار. ومن قال: من أين لك هذا يا شيخ، ما سمعنا بهذا الكلام، أقول له: هيا نقرأ جميعاً ونسمع إبراهيم وهو رافع كفيه ضارعاً بين يدي ربه يسأله قائلاً: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، والله تعالى يقول في سورة مريم: تِلْكَ الْجَنَّةُ [مريم:63] بعدما وصفها الوصف اللائق بها قال: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، تلك الجنة التي وصفت لكم، هذه نورثها من عبادنا مَنْ كَانَ تَقِيًّا لا شريفاً ثرياً ولا أبيض نقياً ولا ولا، بل من كان تقياً فقط وإن كان حبشياً أسوداً.
سر كون المتقين هم وحدهم ورثة دار السلام
ما السر؟ لم فقط التقي هو الوارث وغيره محروم؟ من يجيب يا معشر المؤمنين والمؤمنات؟ الجواب: وهو عند الأبناء على ظهر قلب؛ لأنهم أهل كتاب الله، وأما المحرومون من هذه المجالس فأنى لهم أن يعلموا ؟ المتقون هم أطهار النفوس، وأزكياء الأرواح؛ لأن التقي هو ذاك الذي يعمل بأوامر الله فتزكو نفسه وتطيب وتطهر، ويتقي مساخط الله ومحارم الله فيبتعد عما يدسي نفسه ويخبثها، فإذا مات على تلك الحال كان والله من الوارثين؛ لأن روحه زكية طاهرة شبيهة بأرواح الملائكة في صفائها وطهرها! هؤلاء الأطهار هم الذين ينزلهم الجبار بجواره في دار السلام، واسمعوا خبره: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]. لم يا رب؟ الأبرار لبرورهم والفجار لفجورهم. ما البرور؟ إنها طاعة الله ورسوله التي أنتجت زكاة الروح وطهارة النفس. وما الفجور؟ إنه فجور الفاجرين وخروجهم عن منهج الحق؛ فنفوسهم خبثت وتعفنت أصبحت أهلاً لأن تنزل الدركات السفلى! سبحان الله هذا في القرآن؟! إي نعم، كنا نعرف هذا أيام كنا نقرأ ونعمل به، أما عندما أصبح القرآن على الموتى أصبحنا لا نعرف هذا أبداً!
الفلاح والخسران مناط بتزكية النفس أو تدسيتها
هناك حكم إلهي صدر على البشرية (95%) من العالم الإسلامي ما عرف هذا الحكم و(1%) فقط هم الذين يعرفونه، إي ورب الكعبة، صدر حكم الله على البشرية جمعاء أن من زكى نفسه وطيبها وطهرها أفلح وفاز، ومن خبثها ودساها وعفنها خاب وخسر. وهذا الحكم ما رأينا الله عز وجل حلف أيمان متكررة بهذه السورة كما حلف على هذا الحكم، فلماذا يحلف الله؟ من أجلك يا ابن آدم؛ لتتلقى الخبر ونفسك مطمئنة، ومشاعرك وأحاسيسك هادئة، خبر عظيم يحتاج إلى أيمان عظيمة، يحلف من أجلنا؟ اسمعوا اليمين وتعلموا: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1] هذه واحدة وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [الشمس:2] الثانية وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا [الشمس:3] الثالثة وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:4-10]، انتهى الكلام. عرفتم أن الله يحلف أو لا؟ لم يحلف؟ من أجلنا؛ لأن طبعنا.. غرائزنا.. فطرنا إذا سمعنا الخبر وكان فوق قدرتنا لا نصدق، فيضطر من يخبرنا بأن يحلف ويؤكد الحلف حتى تهدأ النفوس. هل عرفتم هذه؟ والله إنها خير من خمسين ألف ريال، أقسم بالله لمن عرفها موقناً وفهمها خير له من أن يوضع في جيبه خمسون ألف ريال، ونحن ظفرنا بها مجاناً والحمد لله. وإن قلت: أفلح، ما معنى أفلح؟ صار فلاحاً أم كيف؟ الفلاح سمي فلاحاً لأنه يفلح الأرض، ويشقها ويدفن فيها البذور، هذا الفلاح، ومن أفلح هو ذاك الذي شق طريقه في صفوف أهل الموقف إلى دار السلام، فما عاقه عائق ولا وقف في وجهه واقف، وعلم حينئذ أنه فاز. هل فاز فلان ابن فلان بجائزة نوبل؟ لا لا. فاز بأن نجا من عالم الشقاء.. النار، وفاز وظفر بالجنة دار السلام.
حقيقة الفوز في الحياة الدنيا والآخرة
إليكم هذا البيان الإلهي من سورة آل عمران، قال تعالى واسمع: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، حكم علينا بالموت وحكم الله لا يتخلف أبداً، كقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] لا يتخلف، لم؟ لكمال قدرته. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، ما معنى وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ أيتها الشغيلة يا معشر العاملين! واصلوا العمل ولا تطالبوا بالجزاء هنا، إذ هذه الدار دار عمل، وليست دار جزاء: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ كاملة يَوْمَ الْقِيَامَةِ . يا فاسق يا فاجر يا كافر! واصل، وقد تعيش سعيداً آمناً شبع البطن مستور الجسم فلا تفهم أن هذا جزاء كفرك وفسقك وفجورك، فالجزاء ليس هنا، الجزاء يوم القيامة، وكم من بر تقي صالح رباني مريض طول عمره، فقير طول حياته، مكروب حزين دائماً وأبداً، فيقول القائل: أين آثار صيامه وصلاته ورباطه وجهاده؟ فنقول: الجزاء ليس هنا، الجزاء هناك، اسمع الحكم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أجورنا مقابل أعمالنا. لطيفة أخرى يفوز بها المتأهلون: قد يوجد كافر فاجر شقي من تعاسة إلى تعاسة، السجون، الآلام، الكروب.. وهو كافر رقم واحد، أو فاسق ممتاز، فهل هذا العذاب الدنيوي.. عذاب المرض والسجن والجوع والخوف هو جزاؤه؟ لا والله، وإنما هذا من شؤم المعصية، يظهر هذا البلاء من شؤم المعصية، كما أنك تجد البر التقي شبعان ريان آمناً، سعيداً طاهراً، فهل هذا جزاء جهاده وصيامه؟ لا، بل هذا من يمن وبركة العمل الصالح، للحسنات بركتها ويمنها، وللسيئات شؤمها ونحاستها، أما الجزاء هنا والله ما كان. كيف وقد أخبر تعالى بنفسه فقال: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ متى؟ يَوْمَ الْقِيَامَة واسمع بيان الفلاح فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] فالفوز ليس ربحك شاة أو بعيراً، ولا امرأة جميلة وولداً صالحاً ولا وظيفة شريفة، ولا.. ولا ولا، ما هذا بالفوز؟ الفوز أن تبعد عن عالم الشقاء وتعلم عالم السعادة لتخلد أبداً، وهو كائن لا محالة، فهيا مع الوارثين لدار السلام الجنة.
نعيم أهل الجنة
قال تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15]، خير من ذلكم الذي سمعتموه في الآيات قبل وهي: الأنعام والحرث والذهب والفضة والنساء والأولاد.. مظاهر الحياة الدنيا: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] هل يوجد ما هو خير من هذا؟ نهم، الجنة دار السلام؛ لأنها خالدة باقية، وليس فيها منغصات، لا حزن ولا موت ولا مرض ولا كبر ولا هم ولا.. ولا ولا، بل سعادة دائمة، أما سعادتك في الدنيا فيعقبها الكرب والحزن، وآخرها الموت. إذاً: قال تعالى: قُل يا رسولنا والمبلغ عنا صلى الله عليه وسلم: أَؤُنَبِّئُكُمْ أؤنبئكم بنبأ عظيم بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ الذي سمعتم، وهو أن لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:15]، هل بعد هذا النعيم من نعيم؟ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا . لماذا قال: خَالِدِينَ فِيهَا ؟ لأنهم إذا كانوا يعرفون أنهم سيرحلون ما يسعدون، أما هذه الحال فتساوي الدنيا وما فيها: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ، مطهرة من دماء الحيض والنفاس والبول والنخامة والنخاعة تمام الطهارة. هكذا خلقهم. قد عرفنا بالأمس أن أهل الجنة لا يبولون، أين يذهب الشراب ذو الألوان.. الخمر والعسل واللبن والماء العذب؟ يتحول إلى عرق فقط. قد يقول قائل: يا شيخ كيف يتحول إلى عرق؟ فأقول له: وأنت قل لي: كيف تعرق؟ عرقتك أمك؟ كيف يخرج العرق منك؟ أنت دلكته بيديك؟ يتحول الشراب كله إلى عرق، ورائحته أطيب من المسك الأذفر مليون مرة. وإذا كان الماء والشراب يتحول إلى عرق أمر معقول لأنه سائل، فما بال الزبدة واللحم ولحم الطير المشوي والفواكه، كيف تتحول هذه؟ هذه تتحول إلى جشاء يتجشاها - والعامة يقولون: يتقرع- كل الطعام يتحول إلى جشاء أبد الآبدين. هذه هي الجنة دار السلام، هذه دار الأبرار، هذه دار الأتقياء بنص هذا الحكم الإلهي: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ ماذا؟ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ .
رضوان الله عن العبد نعيم لا يعدله نعيم
قال الله: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّه بالأمس.. أبا جميل قلنا له: لو أنك تنزل قصراً من قصور الملوك والرؤساء والحكام ويخدمك النساء والرجال، وأنت في القصر، وكلما دخل صاحب القصر تراه غضبان، لا يكلمك، ولا ينظر إليك، دائماً بل كل ساعة تقول: الآن يقتلني أو يخرجني، فلا تسعد أبداً، فتجد رضاه خير من ذلك الطعام والشراب، لما يرضى عنك أنت آمن، لكنه إذا كان غاضباً فأنت خائف، وهذا هو معنى قول الله تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72] في آية التوبة، وهنا قال: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ على الحقيقة، يعرف التقي البر والفاجر الفاسق، سواء كنا مجتمعين مع وفد نصارى نجران أو مع اليهود معنا والمشركين والمؤمنين فالله بصير بالعباد، وإذا كان بصيراً بالعباد فكيف يكون الحكم والجزاء؟ بحسب علمه، فلا تفهم أنك تدخل مع أهل الجنة وتختبئ وأنت مسيحي، والله لا تدخلها، أو تكون مشركاً فتقول: أنا أدخل مع الموحدين. هذا لا ينفع؛ لأن الله بصير بالعباد، كيف لا وهو يخلقهم ويرزقهم. إلى هنا انتهى بنا الدرس أمس، والآن مع بقية الصفات.قال: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16].
صفات أهل التقوى
لو قلت يا سيد: من هم هؤلاء المتقون؟ نريد وصفاً لازماً لهم، أو صفات تكشف عن حقيقتهم؟ هل نحن منهم أم لا؟ فالله تعالى يجيبنا ولا يتركنا حيارى نتطلع للمعرفة، فلابد من وصف شافٍ وعرض سليم، فعدد صفاتهم في هذه الآية والتي بعدها فقال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِين َ وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:16-17].
الصفة الأولى: أنهم يدعون ربهم ويتضرعون إليه بإيمانهم وصالح أعمالهم
قوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16] هذا وصف لازم لهم طول حياتهم. إذاً: أول صفة: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أي: يا ربنا إِنَّنَا آمَنَّا بك وبرسولك وبكتابك ولقائك وبما أمرتنا أن نؤمن به فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا مقابل هذا الإيمان. وهنا عرفتم الوسيلة الشرعية التي تتوصلون بها إلى قضاء حوائجكم عند ربكم، وهي أن تكون إيماناً أو عملاً صالحاً، أما وسيلة بسيدي فلان وحق فلان وجاه فلان فوالله ما تصل بك إلى قضاء حاجتك لا بمغفرة ذنوبك ولا بوقايتك من عذاب ربك. ألا يوجد بين المستمعين -وهم وافدون على مسجد رسول الله- من يرد علينا هذه القضية؟ لا وسيلة تتوسل بها لتصل إلى غرضك وحاجتك عند الله إلا الإيمان الحق والعمل الصالح والتنزه عن الشرك والباطل من المعاصي والذنوب، أما قولك: اللهم إني أسألك بحق فلان.. بجاه فلان.. بـفاطمة الزهراء .. بـالحسن والحسين .. برسول الله.. كل هذا هراء وكلام باطل ودخان قاتل! فإن قلتم: بين لنا يا شيخ كيف هذا فكلنا لا نعرف إلا: (اللهم إني أسألك بحق فلان.. وجاه فلان)؟ الجواب وتأمل: لك على أخيك دين هو حقك، وتقول له: أعطني من حق فلان عليك؟ هل يرضى بهذا الكلام؟ إن لم تعطني فأعطني بحق فلان عليك! يقول الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان وهو ممن أدرك بعض الصحابة، يقول: هذا السؤال صاحبه يكفر؛ لأنه في موقف كأنما يقول: إن لم تعطني من فضلك يا رب فأعطني بحق فلان عليك. فمن هو هذا الذي له حق على الله بالقوة؟! هل يوجد عاقل يقول هذا الكلام؟ مخلوق مربوب بين يدي الله يصبح له حق يأخذه على الله بدون رضا الله؟!وهنا قد يقول قائل: الحقيقة أن هذا الكلام كفر يا شيخ، ولكن ما علمونا وما بينوا لنا، بل رموا بنا في ظلام هذه الحياة الدنيا، فلم تلومنا؟ فأقول له: الآن عرفنا، والله ما نسأل الله بحق فلان لو متنا جوعاً وعذبنا حتى الموت، فلا نكفر ونحن مؤمنون، أما أسألك بجاه نبيك.. بجاه فلان بجاه فلان، فهذه حيلة من حيل الشيطان إبليس! هذه الحيلة أرادها لنا أعداؤنا حتى لا يستجيب الله لنا فيعذبوننا ويستعمروننا ويفرقوننا ويعملون العجب ونحن ندعو وندعو فلا إجابة.قالوا: لنحرمهم من إجابة دعائهم بتقرير هذه الفكرة بينهم، فنحرمهم من أن يتوسلوا إلى الله بصيام أو صلاة أو صدقة أو جهاد أو رباط أو صلة رحم أو فعل خير، أو عكوف في مسجد، أو ذكر الله، أو تلاوة كتاب الله، كل هذا نحرمهم منه فلا يتوسلون به؛ لأنهم إذا توسلوا به نفع، واستجاب الله لهم. قال أعداؤنا: إذاً: نعطيهم فقط وسيلة لا تنفع: أسألك بجاه سيدي فلان، أعطني بجاه فلان. من فعل بنا هذا؟ إنه العدو، الثالوث الأسود المكون من ثلاث طوام: المجوس، اليهود، النصارى. لم تكون هذا الثالوث من هؤلاء؟ ما السبب؟ سلوا رجال السياسة عندكم، والله ما يعرفون كيف تكون هذا؟ والجواب: أما المجوس فما إن دخلت خيل الله ديارهم وسقط عرش كسرى وأخذ التاج ووضع على رأس سراقة بن جعشم وسراقة عفريت من عفاريت قريش قبل إسلامه، لما أعلنت قريش عن جائزة عظيمة لمن يرد لها محمداً حياً أو ميتاً بعد ما صدر الحكم عليه بالإعدام وفشلوا في تطبيقه وهاجر صلى الله عليه وسلم مع الصديق ، أعلنت قريش عن جائزة مائة بعير لمن يأتي برأس محمد أو يأتي به حي، فهذا البطل رضوان الله عليه قال: الآن أصبح أهل البلاد، فحمل سلاحه وركب فرسه وأخذ يركض ويتتبع الآثار حتى صار على بعد يومين أو ثلاثة -لأن المسافة عشرة أيام- فرأى رسول الله وأبا بكر والخريت -الدليل- الذي يقودهم في الطريق، فقال: الآن وصلت، فدفع بالفرس، فلما بقيت مسافة قريبة ساخت رجلا الفرس في الأرض وسقط، فقام وأخرج فرسه ومشى في الرمل أو في الحجارة فوقع -ثلاث مرات- فقال: الآن أتوب إلى الله، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( فكيف بك يا سراقة إذا وضع على رأسك تاج كسرى؟ ) الله أكبر! الرسول هذا مطارد من قومه ويعلن عن هذا الإعلان! أعظم دولة يومئذ هي فارس والروم الدولتان العظميان، وسراقة يبشر بأنه سيلبس تاج كسرى! أحلام هذه أم ماذا؟ وأسلم سراقة ومات رسول الله ومات الصديق وتولى عمر وقاد جحافل الجيش، فدخل بلاد كسرى وجيء بتاج كسرى إلى عمر فدعا سراقة وألبسه التاج وفاء بوعد رسول الله له، ودخلت كسرى في الإسلام وعمها النور الإلهي وانطفأت نور المجوس؛ لأن المجوس يعبدون النار، لا يعبدونها لذاتها وإنما لتشفع لهم عند خالقها.. عند الله وكذلك الخرافيون عندنا يعبدون سيدي عبد القادر لا لذاته وإنما ليشفع لهم.. وهكذا، وأصحاب قريش كانوا يعبدون الأصنام ويقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].إذاً: يوم ما سقط عرش كسرى ولاحت أنوار الإسلام تكون حزب يعمل في الظلام، حزب وطني كأيام الاستعمار، حزب وطني لضرب هذا الإسلام والقضاء عليه، وعودة الدولة الساسانية، وتمضي ألف وثلاثمائة وحوالي خمسة وتسعين سنة والمجوس يحتفلون بذكرى مرور ألفين وخمسمائة عام على الدولة الساسانية، آمنا بالله! بعيني هاتين قرأت في جريدة المغرب أيام كنا ندعو هناك في الصيف، وإذا إعلان: أن الشاه سلطان إيران، يعلن عن قيام ذكرى مرور ألفين وخمسمائة عام على الدولة الساسانية في القناصل والسفارات في العالم، وحضر رجالكم أيها المسلمون للاحتفالات. الاحتفال بماذا؟ بذكر أبي جهل ؟! أعوذ بالله! لو يحتفل المؤمنون بذكرى أبي جهل كفروا، يحتفلون بذكرى مرور ألفين وخمسمائة عام على الدولة الساسانية!وأول رصاصة أطلقها ذلك الحزب المظلم كانت في محراب رسول الله، كانت في جسم عمر رضي الله عنه، عندما قتله أبو لؤلؤة المجوسي وقد أوعز إليه ودفعه وبعثه إليه هذا الحزب المظلم. هذا الحزب يعمل في خفاء؛ لأن النور غشي تلك البلاد وظهر فيها الصلاح والصالحون والصالحات، لكنه يعمل على إحياء هذه الدولة، وإلى الآن يعملون. واليهود ما إن صدر أمر الله بإجلائهم من الجزيرة: ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) وصية من أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، حتى بدءوا يكيدون لهذا الدين، بنو قريظة ماتوا هنا في آخر المسجد ودفنوا في بئر وحفرة؛ لأنهم نقضوا العهد وتعاونوا مع الأحزاب، وبنو النير أجلوا وطردوا، بنو قينقاع من قبلهم التحقوا بأذرعان بالشام، ومن ثم بحث اليهود عمن يتعاونون معهم على ذبح الإسلام فوجدوا الحزب المجوسي، فتعانقوا مع بعضهم البعض، وكان همزة الوصل بينهم -وهم الآن ينفون هذا- كما قال أهل العلم: عبد الله بن سبأ الصنعاني اليماني اليهودي ، هو الذي ربط بين المجوس واليهود.وأما النصارى فما إن لاحت الأنوار ودخل الإسلام في الشام وتحول نحو الغرب واتجه نحو مصر وأفريقيا قالوا: هذه هي الطامة ولن نفلح بعد، ماذا نصنع؟ فبحثوا عمن يتعاونون معه فوجدوا المجوس واليهود، فكونوا شركة لضرب الإسلام، ومن ثم هم يعملون متعاونين إلى الآن في الخفاء.إذاً: فلما فشلوا في حروبهم وما استطاعوا وانهزموا، قالوا: لابد إذاً من العمل النافذ والمجدي، وهو أن نبحث عن سر صفاء أرواح هذه الأمة وطهارتها وقوتها وسلطانها وعدلها، ما هو؟ فقالوا: إنه القرآن، إي والله أصابوا القرآن؛ لأن القرآن بمثابة الروح للحياة، والله قرر ذلك في ثلاث آيات من كتابه؛ في التوبة وفي غافر، وفي الشورى فقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]. ما هذا الروح الذي أوحاه؟ القرآن والله، فبه تصفو الحياة مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، قالوا: العرب حيوا بالقرآن واهتدوا بالقرآن، فهيا نبعدهم، وحينئذ نركب على ظهورهم كالبغال والحمير، ونجحوا، فالقرآن حولوه إلى المقابر والمآتم وليالي الموت قروناً، وقد كانت أمي رحمة الله عليها تقول: يا رب اجعل ولدي -وأنا يتيم- إما حافظاً للقرآن وإما جزاراً، فالجزار يجيب لها اللحم؛ لأن اللحم كان عندنا من العام إلى العام، من الموسم إلى الموسم، وإذا كان يحفظ القرآن يقرأ على الميت ويجيب اللحمة ملفوفة في المنديل ويعطيها له؛ لأن اللحم يقسمونه قطعة قطعة، فالذي عنده زوجته وأمه تحب اللحم يجعلها في منديل ويأتي بها إلى أمه، ولكنها والحمد لله ماتت على التوحيد الخالص.والشاهد عندنا في هذا: أن القرآن روح لا حياة بدونه، ونور والله لا هداية بدونه، فالماشي في الظلام لا يهتدي إلى أغراضه وحاجاته، فكذلك الذي فقد الروح لا يحيا ولا يكمل ولا يسعد. وما زالت آثار هؤلاء الأعداء إلى الآن، ولكن خف الضغط، لكنهم الآن يحتالون ويبحثون من أين يدخلون، وهذا الدرس لو سمعه اليهود لو أمكنهم أن يشتروا بمليار دولار لاشتروه، ولا يسمع العرب والمسلمين هذا، لكن الله أبعدهم، اسمعوا ولا تبيعوه لليهود هاه، ولا تغركم الريالات!إذاً: قال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا [آل عمران:16]، متوسلين إلى الله بإيمانهم، فالإيمان ليس برخيص ولا هين، يدلك لذلك ملايين العلماء في أوروبا ما آمنوا، حللوا الذرة وعرفوا الكونيات كاملة وما آمنوا؛ لأن الإيمان هبة الله وعطيته. أغلى شيء في الحياة هو الإيمان -ومرة ثانية- ويدلك على ذلك: أن علماء فطاحلة في الكون.. في الحياة.. في كذا.. محرومون كفرة، لا يؤمنون بالله ولا بلقائه، وبرابرة جهال عوام يشهدون أن لا إله إلا الله ويموتون عليها، فالإيمان عطية الرحمن، هبة الله، فمن آمن فله الحق أن يتوسل بإيمانه، رب لقد آمنت بك وبرسولك، فاقض حاجتي هذه الليلة، ويفرح الجبار بكلامك، ولا تفهم أنه يغضب.واسمع إليهم يحكي عنهم: قالوا رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا وغيرنا ما آمن يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ واستجاب لهم الرحمن فهم في دار السلام. هذه صفة.
الصفة الثانية: ملازمة الصبر
قال أيضاً في بيان صفات المتقين الذين ورثوا دار السلام: الصَّابِرِينَ [آل عمران:17]. أهل الجنة جزعون أو صابرون؟ صابرون، وصفهم ربهم فقال: الصَّابِرِينَ وهذه الصيغة كلمة (أل) تدل على مكانة الوصف وعراقته، ففرق كبير بين (مؤمن) و(المؤمن) وبين (كافر) و(الكافر) بين (سارق) و(السارق) فرق كبير في لغة العرب، فـ(أل) تدل على عراقة الوصف ومكانته، فهم الصابرين بحق. والصبر: حبس النفس وهي كارهة في ثلاثة مواطن، هي: الأول: حبسها على طاعة الله ورسوله، لا تتخلف أبداً متى دريت.الموطن الثاني: حبس النفس بعيداً عن كل ما يلوثها من الشرك وضروب الذنوب والآثام والمعاصي، يحبسها بعيداً حتى لا تتلوث أبداً ولا تتلطخ.الموطن الثالث: حبسها عن المكاره، عند الابتلاء والامتحان بموت الولد والزوجة، بالمرض، بالرحلة والفراق، بأي شيء مما يختبر الله به أوليائه، فلا جزع ولا سخط، ولكن حمد الله والثناء عليه، والصبر الكامل، وكأنه لم يصب.وقد رأينا أحد الصالحين ولقبناه بأيوب الثاني، يدفن أولاده ونحن على القبر نبكي وهو يضحك يبتسم! صبر عجيب! لا جزع ولا سخط أبداً، رضي بقضاء الله وحكمه. إذاً: هذه الثلاثة المواطن حاول يا عبد الله أن تنجح فيها:الأول: أن تلتزم عبادة الله فلا تتخلى حتى عن ركعة الوتر، ولا تفارق العبادة. الثاني: أن تبتعد عن الزنا والربا والقمار والخيانة والغش والخداع وبغض المسلمين والكذب والنفاق، فهذه الأوساخ تبتعد عنها فقط. الموطن الثالث: إذا ابتلاك الله لا بأس أن تبذل دموعك وتريقها على وجهك، والرسول يضرب المثل وقد قدم له ولده إبراهيم وهو يموت في سكرات الموت، وحيده صلى الله عليه وسلم، فسالت الدموع من عينيه وقال: ( العين تدمع، والقلب يخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب )، إذ ما ابتلاك الله به إما ليرفعك درجات ما كنت لتصل إليها بأعمالك الأخرى، أو ليكفر عنك ذنوباً ما كانت تكفر لك، أو ليرفعك أو يطهرك. اللهم ارزقنا الصبر، واجعلنا من الصابرين.
الصفة الثالثة: ملازمة الصدق
ثالثاً: الصادقين. من منا الصادق؟ هذا الصادق، كلنا صادق، لكن الصدق وصف لازم لهم لا ينفك عنهم في كافة الظروف والأحوال، وهو غني كما هو فقير، هو صحيح كما هو مريض، هو خائف كما هو آمن، دائماً يصدق لا يعرف الكذب أبداً، ولو يخرج ما في جيبه أو ما في بطنه لا يكذب. من يقوى على هذه الصفة؟ إنهم الصادقون. من يرغب فيكم أن يفوز بها؟ ألسنا في حاجة إليها؟! يا من يرغب أن يصبح من الصادقين اسمع رسول الله يقول: ( عليكم بالصدق -أي: الزموه- فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة -إي والله- ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ). أبشر بالجائزة العظمى، ستصبح مع أبي بكر الصديق بالطلب.. بجهاد النفس، فاصدق إذا قلت، وإذا علمت، وإذا فكرت، لا يفارقك الصدق أبداً، واطلبه وتحراه واقصده، ولا تزال كذلك حتى تكتب في ديوان الصالحين صديقاً، فما فوق الصديقية درجة إلا النبوة، قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] منهم؟ قال: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ [النساء:69]، بعد النبيين مباشرة، والشهداء بعدهم، والصالحين بعد الكل ثم الصادقين.إذاً: الصادقين أقل درجة من الصديقين، فتلك تحتاج إلى الليالي الطوال، أما كونك صادقاً إذا قلت.. إذا علمت.. إذا أعطيت.. إذا سئلت.. إذا علمت. الصدق من السهولة بمكان لكن لازمه حتى يكون لك وصفاً فيقال: فلان من الصادقين.
الصفة الرابعة: القنوت والخضوع لله
رابعاً: وَالْقَانِتِينَ [آل عمران:17]. من هم القانتون؟ حتى النساء قانتات، فالقانت عبد يدعو الله عز وجل. والقنوت هو الدعاء، فالعبد إذا قام بين يدي الله في الصلاة يدعو ولا يذكر كلمة خارجة عن الصلاة، وقد كانوا يتكلمون في الصلاة فنزل منع ذلك في هذه الآية: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فالقنوت هو: الخضوع والخشوع لله عز وجل، والدعاء والضراعة بين يديه، أصحاب هذه الصفة هم أهل الجنة القانتين.
الصفة الخامسة: الإنفاق في سبيل الله
خامساً: وَالْمُنْفِقِين َ [آل عمران:17]. ينفقون ماذا؟ أوقاتهم في مشاهدة التلفاز والفيديو وألعاب الكرة والأضاحيك ومجالس الباطل وقصائد المشايخ.. هكذا؟لا والله، بل المنفقون لأموالهم في سبيل الله، فابدأ بنفسك ثم بزوجتك، ثم بولدك، ثم بمن تعول، وما فاض فاحمله إلى غير ذلك، فالمنفقون الإنفاق وصف لازم لهم لا يبرحون في حدود طاقتهم وما يقدرون عليه.
الصفة السادسة: الاستغفار بالأسحار
أخيراً: وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17]، الأسحار جمع سحر، والسحور أكلة السحر تسمى السحور، والسحور ثلث الليل الآخر، في هذا الوقت بالذات هؤلاء يستغفرون الله عز وجل: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:118]، نستغفر الله ونتوب إليه.. نستغفر الله ونتوب إليه، رب اغفر لي وتب علينا إنك التواب الرحيم.. ثلث ليل وهم يستغفرون في الصلاة وخارجها، فهذا الوصف لا زم لهم، في هذا الوقت الذي ينام فيه أصحاب البطالة ويسهرون حتى الثانية عشر أمام التلفاز والحكايات وقراءة المجلات والصحف ثم يصرعون ولا يستيقظون إلا مع طلوع الشمس، في هذا الوقت هؤلاء يلهجون بالاستغفار.واسم وا إلى هذه الجائزة العظيمة، يقول صلى الله عليه وسلم: ( إذا مضى ثلث الليل الأول نزل الرب جل جلاله وعظم سلطانه إلى سماء الدنيا ونادى: أنا الملك.. أنا الملك، هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وذلك حتى يطلع الفجر )، فيا ويح النائمين يومئذ، أو ساعئذ.والاستغفا من ألفاظه: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. ومن الاستغفار: رب ظلمتُ نفسي وإن لم تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين. ومن الاستغفار: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. استغفروا الله يغفر لكم، وصلى الله على نبينا محمد.

ابو وليد البحيرى
2019-04-10, 10:17 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (67)
الحلقة (208)
تفسير سورة آل عمران (70)



لقد وهب الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم الكمال الأخلاقي الذي هو قوام الأمر، فأنعم على عباده من المهاجرين والأنصار بالرحمة التي جعلها في قلب نبيه لهم، وهذه الرحمة تحمله صلى الله عليه وسلم على العفو عن مسيئهم، والاستغفار لهم، ومشاورتهم في كل أمر ذي بال، فلا ينفرون من حوله، ولا يهجرون مجلسه صلى الله عليه وسلم.
تفسير قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:159-160].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! يقول الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159]، فالقائل هو الله عز وجل، ووصلتنا كلماته من طريق وحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فأوحى إليه هذا القرآن من كلمة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، إلى آخر آية نزولاً: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، ودامت مدة الوحي ثلاثة وعشرين سنة، فختم الله هذا الكتاب وأكمل هذا الدين.وها نحن في بيت الله وفي مسجد رسول الله نتلو كتاب الله عز وجل، ونسمع كلام الله ونتدبره ونهتدي به إلى ما يكملنا ويسعدنا، وهذه نعمة في حد ذاتها، إذ إن بلايين البشر لا يؤمنون بالله ولا برسوله، ولا يعرفون كلام الله تعالى، ولا يسلكون مسالك أولياء الله وأنبيائه، فمن نحن وما نحن لولا فضل الله علينا؟! فالحمد لله على نعمة الإسلام.
لين النبي مع المؤمنين برحمة رب العالمين
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:159]، وأصل الكلام: فبرحمة من الله، وزيدت هذه الميم لتقوية الكلام والمعنى، تقول العرب: زيادة المبنى تدل على زيادة في المعنى، والتنكير هنا يدل على التعظيم، أي: رحمة عظيمة مصدرها من الله تعالى. لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159]، أي: لنت لهم يا رسولنا ولم تتشدد، وعفوت ولم تؤاخذ، وأصفحت ولم تؤنب، وهذه رحمة الله رحم بها أولئك الأصحاب الذين فروا منهزمين يوم أحد، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم شديداً قاسي القلب، لا عطف ولا لين عنده، لأنبهم ولقسا عليهم، فهربوا وشردوا وعادوا إلى الكفر والعياذ بالله، وبذلك يخسرون خسراناً أبدياً، لكنها الرحمة التي ألقاها في رسوله صلى الله عليه وسلم فغمره وغشاها بها، فلا شدة ولا غضاضة ولا غضب، ولا تألم ولا تحسر أمامهم، وكل هذا غرسه الله في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من أجل أوليائه وأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم، فكونهم زلت أقدامهم وهربوا خائفين شاردين من الموت، فإن هذا لا يسلبهم إيمانهم ولا حبهم لله تعالى، ولا جهادهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم.
الغلظة والقسوة سبب لنفور المدعوين
وَلَوْ كُنْتَ [آل عمران:159]، يا رسولنا فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ [آل عمران:159]، والفظ هو: الخشن في معاملاته، السيئ في أخلاقه، وحاشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك، بل كان رقيقاً في معاملته، فيعامل أصحابه بالرفق والعطف واللين. لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، أي: انصرفوا وتركوك وحدك، وهذا ممكن؛ لأن الذي أخبر بذلك هو الله عز وجل، إذ لو أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن غضبه كما نغضب، وأخذ في الشتم كما هو حالنا، فإنه لن يبق واحد إلا من شاء الله، ويلتحقون بـأبي سفيان، لكن الله أضفى على رسوله هذا الكمال الخلقي فما استطاعوا أن يبعدوا من ساحته، وهذا تدبير من الله عز وجل، وهذا رحمة بأوليائه المؤمنين وأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار.
عفو النبي عن أصحابه واستغفاره لهم ومشاورتهم في المسائل الهامة
إذاً: فبناء على هذا: فَاعْفُ عَنْهُمْ [آل عمران:159]، أي: لا تؤاخذ أحداً منهم، فقد أكسبناك هذا اللين وهذا العطف وهذه الشفقة وهذه الرحمة من أجلهم. ثم قال تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمران:159]، أي: استغفر لهم الله عز وجل؛ ليغفر لهم زلة فرارهم وانهزامهم أيضاً. وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، أي: لا تستهن ولا تبال بهم، وتقول: هؤلاء فروا منهزمين، هؤلاء عصوني، لا، وإنما اتخذ من أعيانهم ورجالاتهم وأولي الحل والعقد من تستشيرهم في أمور دنياك، وذلك كالجهاد ومتطلباته وما إلى ذلك. وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، أي: أمر ذو أهمية كالجهاد، وخوض المعارك، والإعداد لها، والمشي إليها فيما هو مهم.
معنى قوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله)
فَإِذَا عَزَمْتَ [آل عمران:159]، أي: بعد الشورى، وسماع آراء العقلاء، والعزم على أن تفعل فافعل، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، وامض ولا تفكر لا في هزيمة ولا في نصر، ولا خوف ولا جبن ولا خور ولا ضعف، وإنما لاحت في الأفق أن السير في هذا الطريق هو الحق فامض. فَإِذَا عَزَمْتَ [آل عمران:159]، أي: على القيام بأمر من أمور هذه الدعوة، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، أي: فوض أمرك إليه، فهو الذي يقضي بما يشاء ويحكم بما يريد، وما عليك إلا أن تعمل على تحقيق رضاه. ثم بين ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ [آل عمران:159]، وهذه عامة لنا أيضاً فنحن معهم، إذ إن من توكل على الله، فأمره الله بأمر ولاح في الأفق ما يخيف أو يرهب أو يكرب ويحزن، فمضى عبد متوكلاً عليه في حصول النتائج المرغوبة والمطلوبة، فإن الله يحبه، والذي أمره الله أو نهاه وأراد أن يفعل، فلاح له في الأفق ما يوعده وما يخوفه، فيقول: قد لا يقع هذا، قد ننكسر، قد ننهزم، ثم فشل، فهذا لا يحبه الله تعالى؛ لأنه ما توكل على الله تعالى، ولذلك فالمتوكل على الله هو ذاك الذي إذا أمره مولاه فإنه يمضي أمره وينفذه غير مبالٍ بما يترتب على ذلك من انكسار أو انتصار، وإنما همه أن يطيع ربه عز وجل، فيفوض أمره إلى الله، أي: أمر الانتصار أو الانكسار، ويفعل ما أمر به، وهذا العبد أو هذه الأمة يحبه الله عز وجل، وحبه ظاهر مادام أنه امتثل أمر الله، وذاك الامتثال أوجد له الطهر في النفس والزكاة في الروح، والله يحب الطيبين والطاهرين.
تفسير قوله تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم...)
قال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]يقول تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:160]، أي: إن ينصركم الله أيها المؤمنون وبينكم رسولكم، والخطاب عام، فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، فإن قيل: قد غلبونا اليهود؟ فالجواب: ما نصرنا الله، إذ لو نصرنا الله فلا يغلبنا اليهود ولا الصرب ولا روسيا ولا أمريكا. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، أي: لا يوجد غالب يغلبكم أبداً، وإنما يوجد الغالب الذي يغلب المؤمنين إذا تخلى الله عنهم ولم ينصرهم، وذلك عندما لا يأخذون ببيانه وهدايته، وما وضع لهم من منهج وطريق، فأعرضوا عنه والتفتوا إلى غيره، ورغبوا بشهواتهم ودنياهم، وعند ذلك لا يحبهم الله وينصرهم. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:160]، في أي ميدان من ميادين الحياة، فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، ومعنى هذا: عليكم بالله، فالتفوا حول كتابه، والتفوا حول بيانه وشرف هدايته، ولا تخافوا الأبيض ولا الأسود، ولا المشركين ولا الكافرين، فإن من يتوكل على الله ينصره، ومن نصره الله والله لا يغلبه غالب أبداً. وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ [آل عمران:160]، أي: الله، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160]؟ لا عبد القادر ولا سيدي البدوي.وقد شكا إلي أحد الأبناء فقال: بين للناس الجهل الذي يقع حول الحجرة الشريفة، إذ إنهم لا يحسنون الزيارة ولا السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: ماذا نصنع؟ قد بينا وقلنا: من أراد أن يزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت متطهراً ويصلي ركعتين في مسجده، ثم يقف على باب حجرته ويقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، صلى الله عليك وعلى آلك وأزواجك وذرياتك أجمعين، أو السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم يسلم على الشيخين ويمشي. لكن الأمة جاهلة، فهل كلمتي هذه بلغتهم ونفذوها؟ إننا نحتاج إلى تربية وتعليم في بيوتنا وفي بيوت ربنا، في قرانا ومدارسنا وأحيائنا، وذلك العام والعامين والثلاثة والعشرة حتى نفقه ونفهم ونعلم، ولا تكفي كلمة واحدة أبداً، ثم لو كنا بصراء فهانحن نسلم على رسول الله والله في كل صلاة، ونحن في أمريكا أو في اليابان أو في أي مكان، فإذا جلسنا بين يدي الله في الصلاة نقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فهل هناك سلام أعظم من هذا؟ هذا الذي علمنا رسول صلى الله عليه وسلم، وما كنا نعرف معرفة يقينية أنه يسمعنا إذا سلمنا عليه، لكن الآن نحن موقنون بذلك، فإذا كنت متطهراً بين يدي الله تصلي الفريضة أو النافلة، وقلت: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، والله لبلغته وسمعها عليه الصلاة والسلام.أما الذين يتمسحون ويتبركون ويقولون الباطل حول الحجرة الشريفة فكلهم جهال، ويزال جهلهم هذا بالعلم والتربية، وبالجلوس في مثل هذه المجالس النبوية.ولولا أن الله عز وجل أوجد هذه الحكومة الإسلامية -قد يغضب بعض الإخوان ويقول: الشيخ يمدح الحكومة-لرأيتم العجب حول هذه الحجرة من أنواع الشرك والباطل، ومع هذا يوجد عسكر وهيئة ويشكون من جهل الناس. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، أيها المجاهدون، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ [آل عمران:160] لمعصيته والخروج عن طاعته، وعدم الأخذ بأسباب النصر، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ [آل عمران:160] من أهل الأرض؟ والله لا أحد، وَعَلَى اللَّهِ [آل عمران:160]، لا على غيره وحده فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، ليعتمدوا على الله، وليفوضوا الأمر إليه، وليفعلوا ما أمر ويتركوا ما نهى، وليترتب على ذلك ما يترتب من ذل أو هون أو فقر أو نصر أو عزة أو سيادة أو غنى، إذ إن هذا يترك لله فقط، والمسلم يطبق أمره ويفوض أمر النجاح إليه سبحانه وتعالى. وَعَلَى اللَّهِ [آل عمران:160]، لا على غيره، لا على سواه، فَلْيَتَوَكَّلِ [آل عمران:160]، واللام للأمر، الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، و(ال) في (المؤمنون) تدل على عراقة الوصف ومتانته، ولم يقل: (فليتوكل مؤمنون)، وإنما قال: الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، أي: البالغون الكمال في إيمانهم، علماً ومعرفة واعتقاداً ويقيناً.فهيا أعيد عليكم قراءة هاتين الآيتين قبل أن نأخذ في الشرح من الكتاب، يقول تعالى واسمع: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:159-160]، وهذا بلاغ ثانٍ، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ معنى الآيات: ما زال السياق -سياق الحديث والكلام في طريق واحد- في الآداب والنتائج المترتبة على غزوة أحد، ففي هذه الآية يخبر تعالى عما وهب رسوله وأعطاه من الكمال الخلقي الذي هو قوام الأمر ] إذ وهبه الله من الكمال الخلقي الذي هو قوام الأمر، ولولا أخلاقه التي وهبه الله إياها لهرب الناس من حوله وما جالسوه ولا أخذوا عنه، ومعنى هذا أيها المربي اسلك مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أن تتعنتر وتنتقد وتطعن، فإن ذلك لا ينفع.قال: [فيقول: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:159] أي: فبرحمة ]؛ لأن الميم مزيدة، ونظير هذه الميم ما جاء في قوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ [المؤمنون:40]، إذ أصلها: عن قليل، وزيدت الميم لتقوية الكلام والمعنى بعد ذلك، وقوله تعالى: جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ [ص:11]، أي: جندٌ هنالك مهزومون، والقاعدة عند العرب تقول: زيادة المبنى تدل على زيادة في المعنى، وهذا كلام العرب الذي علمهم الله إياه وأنطقهم به وأنزل به كتابه.قال: [ يخبر تعالى عما وهب رسوله من الكمال الخلقي الذي هو قوام الأمر ]، إذ الأخلاق الفاضلة هي قوام الأمر، فإذا كانت أخلاق المرء سيئة في البيت، أو سيئة مع إخوانه، أو سيئة في السوق، فلا ينتظم الحال ولا يسعدون، إذ الخلق الكامل والأخلاق الكاملة هي التي تجمع ولا تفرق، وتوجد الحب والمودة، فهيا نتعلم الأخلاق الفاضلة.قال: [ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:159] أي: فبرحمة من عندنا رحمناهم بها، لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] ]، أي: لولا رحمتنا التي أضفيناها على عبيدنا من الأنصار والمهاجرين ما لنت لهم، وحينئذ يفرون عنك ويعودون إلى الكفر ويخسرون الدنيا والآخرة.قال: [ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا [آل عمران:159]، أي: قاسياً جافاً جافياً قاسي القلب غليظه، لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، أي: تفرقوا عنك -وعادوا إلى دين آبائهم وأجدادهم- وحرموا بذلك سعادة الدارين. وبناء على هذا فاعف عن مسيئهم الذي أساء، واستغفر لمذنبهم، وشاور ذي الرأي منهم، وإذا بدا لك رأي راجح المصلحة فاعزم على تنفيذه متوكلاً على ربك، فإنه يحب المتوكلين ]، وهذه تعاليم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، إذ الله يكلم رسوله بهذا الكلام ويعلمه هذا التعليم، فآمنا بالله وحده، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم عاش أربعين سنة لا يقرأ ولا يكتب، فهو أمي كما وصفه في التوراة والإنجيل، والأمي هو الذي ما فارق حجره أمه حتى يتعلم.قال: [ وإذا بدا لك رأي راجح المصلحة ] بعد الاستشارة، [ فاعزم على تنفيذه متوكلاً على ربك، فإنه يحب المتوكلين ]، ومن أحبه الله لم يخزه ويذله ويشقه، بل والله يكرمه ويعزه ويعلي شأنه.قال: [ والتوكل: هو الإقدام على فعل ما أمر الله تعالى به أو أذن فيه بعد إحضار الأسباب الضرورية له، وعدم التفكير فيما يترتب عليه ] أي: فيما يترتب على فعل هذا الأمر الذي أقدمت عليه، وأعددت الأسباب المطلوبة له.قال: [ بل يفوض أمر النتائج إليه تعالى ] فإذا أمرنا بالجهاد، فأعددنا عدتنا وخرجنا نحمل سلاحنا غير مفكرين بالنصر أو الهزيمة، ولا يخطر ذلك ببالنا أبداً، فقط نريد أن نطيع ربنا فيما أمرنا به، فإن النتائج إليه تعالى.قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية فقد تضمنت حقيقة كبرى يجب العلم بها والعمل دائماً بمقتضاها، وهي أن النصر بيد الله، والخِذلان كذلك، فلا يطلب نصر إلا منه تعالى، ولا يرهب خذلان إلا منه عز وجل ]، فالذين لا يؤمنون بالله، ولا يعرفون هداه كيف يطبقون هذا ويعرفونه؟ إذاً لابد من المعرفة والعلم أولاً، قال تعالى مبيناً ذلك: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19].قال: [ وطلب نصره هو إنفاذ أمره بعد إعداد الأسباب اللازمة له ]، أي: أن طلب النصر من الله يتم بإنفاذ الأمر الذي أمر به، وذلك بعد إعداد الأسباب اللازمة لذلك، قال تعالى: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:41]، فلا يخرجون بأيديهم فقط، بل لابد من السلاح والطعام، والذين ما استطاعوا رجعوا، فلابد من الأسباب للنصر، فيؤتى بالسبب بإذن الله وطاعة له تعالى.قال: [ وطلب نصره وإنفاذ أمره بعد إعداد الأسباب اللازمة له، وتحاشي خذلانه حتى يكون بطاعته والتوكل عليه، هذا ما دل عليه قوله تعالى في هذه الآية: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160] ].ما بال المسلمين لا يقاتلون الصرب؟ هل سمعتم بقوات تحركت من العالم الإسلامي؟ إذاً: كيف ينصرنا الله؟! قد علمنا أن النصر بيده، وأن الخذلان بيده، وأن نصره يطلب منه بإعداد العدة وأخذ الأسباب، لكن للأسف سكتنا وتركنا الأمر لأمريكا والأمم المتحدة، فهل سينتصر إخواننا؟ وهل عندما يخرجون عن سنة الله ينتصرون؟ سوف تسمعون الهزائم المرة، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، ينصرنا الله إذا أقبلنا عليه بعد الإيمان واليقين بأنه الناصر، واجتمعت كلمتنا، وحملنا راية لا إله إلا الله، وقادنا إمام المسلمين، ولا نخرج عن طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، فإن فسقنا يصيبنا ما أصاب رسول الله وأصحابه في أحد، فهذا هو النظام الإلهي، وهذه هي السنن التي لا تتبدل إلى يوم القيامة، فالطعام يشبع، والماء يروي، والحديد يقطع، أنها سنن لن تتبدل أبداً.إذاً: فسنة الله في النصر لعباده هو أن يطيعوه فيما أمر، ويعدوا العدة لما يطلب منهم، وعند ذلك يقاتلون فينتصرون، والواقع شاهد على ذلك.
هداية الآيات
قال المؤلف: [ من هداية الآيتين:أولاً: كمال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلقي ] وقد دلت على ذلك الآية الأولى، والذي كمله هو الله القائل: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:1-4]، فسبحان الله! إذا استعظم الله الشيء فمن يقدره؟ إذا كان العظيم الذي يقول للشيء: كن فيكون، ويقبض السموات السبع بيده، يستعظم الشيء، فكيف يكون هذا الشيء؟! والله لا أعظم من خلق الرسول صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وقد تجلت أخلاقه هنا في لينه وشفقته وعطفه ورحمته، وعدم قوله كلمة سوء لأصحابه، مع أنه قد كسرت رباعيته، وشج وجهه، ودخل المغفر في رأسه، ومات عمه، وبعد هذا لم يشتم أحداً ولم يسبه، ونحن تربينا على السب والشتم والتقبيح والتعيير! بل وجد منا من يطعن في العلماء ويتلذذون بذلك.أخي المسلم! لا يحل لك أن تطعن في مؤمن كناس أو فلاح أو دلال أو أعمى أو أعرج أو مريض أو مؤمن رائحته منتنة، كما لا يحل لك أن تقول في مؤمن آخر كلمة سوء، ونحن للأسف نتغنى بالأباطيل، فأين أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الرسول يُؤذى ويُرجم، ويعرف من فعل به ذلك، ومع ذلك يقول: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )، وما واجه واحداً منهم وقال له: أنت خذلتنا، أنت الشر، أنت السبب، أنت المحنة كلها، إذ لو واجه الناس بهذا لانفضوا من حوله وانصرفوا، فهيا نتخلق بأخلاق أبي القاسم، واستنبطنا هذا الكمال من قوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، فيكم من آذاه مؤمن وقال: اللهم اغفر له؟ أعطوني واحداً، قد يوجد بعضاً، لكن واحداً إلى مليون لا ينفع. [ ثانياً: فضل الصحابة رضوان الله عليهم وكرامتهم على ربهم سبحانه وتعالى ] وأخذنا هذا من قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، فالله يأمر قائده ورسوله بأن يشاور أصحابه، وهذا يدل على فضلهم، ولذلك إذا ذكر أصحاب رسول الله فيجب أن نذكرهم باحترام وإجلال وإكبار، وألا نذكر سوءاً فيهم ولا بينهم، إذ هؤلاء قد رفعهم الله تعالى، وأمر رسوله أن يستغفر لهم، وأن يعفو عنهم، وأن يشاورهم في الأمر، ونحن للأسف نسبهم وندعي أنهم قد أخطئوا، فلا حول ولا قوة إلا بالله! إن هذا من مظاهر الجهل، ومن ألف سنة وأمتنا هابطة، فهيا نخرج من هذه الفتنة، وذلك بالعودة إلى الكتاب والسنة، وأن نؤمن إيماناً يقيناً، وأن نلزم بيوت ربنا بنسائنا وأطفالنا ورجالنا من المغرب إلى العشاء، في كل قرانا ومدننا، فنتلقى الكتاب والحكمة طول الحياة، فذاك هو التعلم الحقيقي، أما التعليم في المدارس فقد فضحنا الله، إذ إننا لا نتعلم إلا للوظيفة! والذي لا يوظف يسب الحاكم والحكومة! ولذلك الذي ما يتعلم العلم ليحبه الله كيف يستفيد من هذا العلم؟ لا نعيبهم، بل نتركهم، فالفلاح في مزرعته، والتاجر في متجره، والعامل في مصنعه، فقط الوقت الذي أوروبا التي نجري وراءها ولعابنا يسيل، ونجتهد أن نكون مثلهم، إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، وأخذوا نساءهم وأطفالهم إلى دور السينما والمراقص واللهو إلى نصف الليل، ونحن ما نستطيع أن نذهب إلى بيت ربنا لنزكي أنفسنا ونطهر أرواحنا ونخرج من ظلمة الجهل الذي خيم علينا، فكيف نستطيع أن نخترق السماء وتنزل الجنة مع الأبرار؟! ومع هذا نسمع من يطعن وينتقد ويقول: ما هذا؟ كيف هذا؟ ماذا نقول؟ نكذب عليكم، والله لا طريق إلا هذا، والجهل معوق لصاحبه، إذ يفقده الإيمان بالله والثقة به، وإن كنا واهمين فاذكروا، لو يحصى الزنا والفجور في العالم الإسلامي لقلتم: خمت الدنيا وخبثت، وهذا يحصل من أهل الإيمان واليقين! أما الغش والخداع والكذب والسب والشتم والتعيير فلا تسأل، وسبب هذا كله الجهل بالله تعالى ومحابه ومساخطه. [ ثالثاً: تقرير مبدأ الشورى بين الحاكم وأهل الحل والعقد في الأمة ] يقول ابن عطية في تفسيره رحمه الله: الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وقد قيل: ما ندم من استشار، ومن أُعجب برأيه ضل، ورسول يقول صلى الله عليه وسلم: ( ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار، ولا عال من اقتصد )، وهذا الحديث يزن الدنيا كلها، إذ ما ندم أبداً من استشار، ولا خاب من استخار ربه، ولا عال وافتقر من اقتصد فيما أعطاه ربه. [ رابعاً: فضل العزيمة الصادقة مقرونة بالتوكل على الله تعالى ] أي: العزيمة الصادقة عند تنفيذ الأمر، ومع التوكل على الله بتفويض الأمر إليه، والذي يحصل بأمر الله مرحباً به لا خوف ولا تردد. [ خامساً: طلب النصر من غير الله خِذلان، والمنصور من نصره الله، والمخذول من خذله الله عز وجل ].فاللهم انصر عبادك المؤمنين الذين آمنوا بك وبلقائك وبذلوا ما استطاعوا أن يبذلوه من أجل نصرة دينك وعبادك المؤمنين، اللهم إن وِجدوا فانصرهم وكن لهم ولياً ونصيراً، آمين.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-10, 10:22 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (68)
الحلقة (209)
تفسير سورة آل عمران (71)


حرم الله سبحانه وتعالى الغلول، وهو أخذ شيء من الغنائم قبل تقسيمها، وذكر تعالى أن ذلك محرم على الأنبياء، ومفهوم ذلك أنه محرم على أتباعهم من المؤمنين، ومن غل شيئاً من الغنيمة يأتي به يوم القيامة يحمله حتى البقرة والشاة، ثم يحاسب عليه كغيره، ويجزى به كما تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر، ولا تظلم نفس شيئاً، لأن الله تبارك وتعالى غني عن ظلم عباده.
تفسير قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا يا ولينا ومتولي الصالحين.فما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام.. ونحن الآن مع أربع آيات، فهيا نتلو هذه الآيات تلاوة متدبر متفكر متأمل؛ عسى الله أن يشرح صدورنا وينور قلوبنا، وأن يرزقنا العلم الذي يرضيه عنا. آمين.قال سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَل) قراءة سبعية، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:161-164]. معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! يقول تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، ما الغُل؟ ما الإغلال؟ ما الغلول؟ فهذه مأخوذة من: غَلّه يغُلُّ إذا وضع الغُلَّ في عنقه، وشد يديه مع عقنه، ومنه الأغلال التي في الأعناق.والمراد هنا أن يأخذ من الغنيمة شيئاً خفية، بحيث لا يطلع عليه المجاهدون، ويأخذه لنفسه دونهم.
سبب نزول قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل...)
لا شك أن بعض المنافقين أشاعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ شيئاً من الغنيمة بدون إطلاع أصحابه المجاهدين، وسواء كان هذا شملة تمت في بدر أو في خيبر أو في أي مكان آخر، أو أن الذين هبطوا من جبل الرماة خافوا أن يكون الرسول يستأثر ببعض الغنيمة دونهم.فعلى كل حال أبطل الله هذا الزعم، وهذا الافتراء وهذا الظن، فحاشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغل، فقال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ [آل عمران:161] من الأنبياء أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، فكيف بسيد الأنبياء وخاتمهم؟! وهذه الصيغة صيغة النفي التي لا يمكن أن يكون أبداً، فليس من شأن نبي من أنبياء الله أن يغل، فكيف بخاتمهم وسيدهم وإمامهم؟!!
دلالة الآية على حرمة الغلول
قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَل وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، أيما شخص مع نبي من الأنبياء يجاهد، ثم لما وجدت الغنائم أخفى منها شيئاً، ولو خاتماً من حديد، ولو شملة، ولو شراك نعل، ولو.. ولو..، فلا يحل أبداً للمجاهدين أن يخفي أحدهم شيئاً من الغنيمة قبل قسمتها، ولهذا الإغلال أو الغُل أو الغَل من الغنيمة من كبائر الذنوب بالإجماع، إلا أنه لا تقطع يده كسارق، وأما الإثم فإنه عظيم، وحسبنا أن نسمع أن من غل يأتي يوم القيامة بما غل؛ فلو أغل شاة وأخفاها فوالله! ليبعث والشاة على ظهره ولها ثغاء ليفضح في العالمين، والذي أغل بعيراً يؤتى يوم القيامة البعير على عنقه وهو يصرخ والبعير له رغاء فضيحة له. وهكذا كل من غل شيئاً أخفاه وسرقه من الغنيمة يبعث يوم القيامة بهذه الفضيحة.كما صح أيضاً أن الغادر الذي يغدر ويخون يفضح يوم القيامة وتوضع راية على ظهره واسته؛ فضيحة له، ( يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء غدر به )، فلهذا المسلمون لا يغدرون ولا يسرقون ولا يخفون من الغنائم شيئاً.وأجمع أهل العلم أيضاً أن الوالي الذي يمثل إمام المسلمين إذا أخذ من ذلك المال -أي الغنائم- خفيةً يفضح به يوم القيامة.وقد صح: أن أحد العمال ذهب وجاء بمال بيت المال، فلما وصل إلى المدينة، قال: هذا لكم وهذا لي، أهداه إلي أهل البلاد، فوبخه الرسول صلى الله عليه وسلم شر توبيخ، وقال: هلا بقيت في بيتك أو في بستانك أو مع أهلك وجاءك هذا المال؟ ، ولهذا الهدايا إلى العمال لا تصح، لا تقدم هدية لوالٍ ومسئول عن أي عمل، وهو إن أخذه أخذه كما يؤخذ من الغلول.إذاً: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ [آل عمران:161] من نبي وغيره: يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، وقد سمعتم أنه يؤتى به على رءوس الناس يشاهدوا فضيحته، سواء كانت ناقة أو كانت عنزة أو كانت ثوب أو كانت غير ذلك.ثم قال تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، أي: يوفي الله تعالى يوم القيامة كل نفس ما كسبته من خير أو شر، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]؛ لأن الحاكم جل جلاله وعظم سلطانه ما هو في حاجة إلى أن يظلم أحداً، الملك كله له، والجنة جنته والنار ناره يدخل من يشاء في رحمته، فلا معنى لتصور الظلم أبداً يوم القيامة.فهذه الآية قررت حرمة الغلول في الإسلام، وهو أخذ شيء من الغنيمة خفية ليستأثر به دون إخوانه المجاهدين، ولا يحل لقائد المعركة ولا للأمير ولا للمجاهدين أن يخفوا شيئاً، كذلك ما يعطاه العمال أو الأولياء أو المسئولون بوصفه هدية وهو رشوة للحصول على أمرٍ ما فحكمه حكم الغلول بلا خلاف بين أهل الإسلام.
تفسير قوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخطٍ من الله...)
وقوله تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162]، فهذه تزيد ذلك المعنى توضيحاً. فمن الذي يتبع رضوان الله ويتبع الأسباب التي توجب له رضوان الله؟ أي: ذاك العبد الذي يستقيم على طاعة الله وطاعة رسوله، فيؤدي الواجبات ويبتعد كل البعد عن المحرمات، هذا هو طالب رضوان الله.هل يستوي مع من يطلب سخط الله بالخيانة والغدر والسرقة والكذب.. وما إلى ذلك؟ والله! ما يستويان. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ [آل عمران:162] ورجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ [آل عمران:162] أيضاً، سخط الله والمصير جنهم، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162] أي: جنهم، لا أسوأ مصير من جنهم يصير إليها العبد، ومعنى هذا: لا غدر، ولا خيانة ولا سرقة ولا.. ولا، يا من يريدون رضا الله ورضوانه.صورتان واضحتان: هذا أراد الله رضا الله فطلبه بإيمانه وتقواه، وبإيمانه وصالح أعماله، وبإيمانه وتجنبه ما يكره الله ويسخط الله، هذا طلب رضوان الله فساد به، والثاني طلب سخط الله بالغدر والكذب والشرك والمعاصي، فلا يستويان. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162]، إياه.
تفسير قوله تعالى: (هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون)
ثم قال تعالى موضحاً المصير: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163]، هم أهل الموقف السعداء كالأشقياء، طالبوا رضوان الله، كطالبو سخط الله، الكل في درجات متفاوتة، درجات أهل الجنة حسبنا أن نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنهم يتراءون منازلهم كما نتراءى الكواكب الغابرة في السماء )، وأهل النار دركات وعبر عنها بالدرجات للمناسبة، وإلا الهبوط دركات والصعود درجات دائماً وأبداً، وأما دركات أهل النار فقد قال تعالى في المنافقين: فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145].إذاً: يا طالبي رضوان الله بالإيمان وصالح الأعمال، والبعد عن الشرك والذنوب والآثام، إن درجاتكم متفاوتة تفاوتاً عظيماً، ويا طالبي سخط الله بالخيانة والغدر والسرقة والشرك والمعاصي، اعلموا أيضاً أن دركاتكم متفاوتة بحسب كثرة الذنوب وقلتها. فهذا حكم الله.
تفسير قوله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم)
ثم قال تعالى لعباده المؤمنين -ولعل هذا السياق حرك ضمائرهم-: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:164] فلله الحمد والمنة، و(مَنَّ) هنا ليس من المنِّ، هذا من المن بمعنى العطاء والإفضال والإحسان، والله له أن يمُنَّ علينا أليس كذلك، لكن مَنَّ الإنسان على الإنسان لا يصح، فيه أذى له، لكن الله إذا مَنَّ عليك؛ أعطيتك سمعك، بصرك، عقلك، أعطيتك كذا كذا، هذا الامتنان عظيم، والله أهله، لكن بالنسبة إلينا إذا أعطيت لأخيك شيئاً لا تمنه، فإنه يتأذى ويتألم، هنا المن بمعنى: الإفضال والإنعام والإحسان: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:164] كيف؟ قال: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164]، بعث فيهم رسولاً من أنفسهم عربي ومن جنسهم، إذ لو كان الرسول أعجمياً لما ارتاح العرب في قبول الدعوة، ولا نشطوا لها ولا نهضوا بها، لكن لما كانت لغتهم وكان النبي من جنسهم، ومن أشرفهم، ومن أعلاهم منزلة، ومن أفضلهم وأكرمهم بيتاً.. هذه كلها ساعدت على قبول الدعوة وحملها. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا [آل عمران:164] عظيماً جليلاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164]، ويصح أن تقول: من أنفسهم أي من جنسهم البشري ولا حرج، لكن السياق والامتنان، يدل على أنه من جنسهم العربي وهو عام، رسول الله من جنس البشر وليس من عالم الملائكة ولا عالم الجن، لكن هذا الامتنان هو الذي ساعدهم على النهوض بهذه الرسالة وحمل هذه الدعوة إلى العالم، شعروا بأنهم مسئولون.قال: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [آل عمران:164]، من صفاته أنه يتلو عليهم آياته، آيات من؟ آيات الله الذي مَنّ عليهم بإرساله، هذا أولاً. وَيُزَكِّيهِمْ [آل عمران:164] ثانياً، أي: يطهر أنفسهم وقلوبهم، ويطهر مشاعرهم وآدابهم وأخلاقهم ونفسياتهم، وكذلك فعل.كثيراً ما نقول: والله! ما اكتحلت عين الوجود بأفضل من أصحاب رسول الله في آدابهم وأخلاقهم وكمالاتهم؛ وذلك نتيجة تزكية الرسول لهم؛ زكاهم وطيبهم وطهرهم في أخلاقهم وآدابهم وكل سلوكهم، يشاهد ويقول: ( ما بال أقوام يفعلون كذا أو يقولون كذا )، وما زال كذلك حتى قبض وأصحابه من خيرة البشر كمالاً، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164]، فهذه المنة الكبيرة، يعلمهم الكتاب الذي هو القرآن، والحكمة التي هي السنة النبوية، وهي مبينة للقرآن شارحة ومفسرة له، وهذه الحكمة عامة تناولت الأكل والشرب واللباس والركوب والنزول والحرب والسلم.. وكل شئون الحياة؛ ما خلت منها حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.فما طلبت السنة في ميدان من ميادين الحياة إلا وجدت.وأخيراً قال: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ [آل عمران:164] نعم، وقد كانوا من قبل: لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، أي: قبل البعثة النبوية كيف كان العرب؟ كانوا وثنيين، منهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الأصنام والأحجار، وكانوا.. وكانوا كغيرهم، لكن الواقع أنهم كانوا في ضلال واضح بين لا يشك فيه عاقل، فأنقذهم الله عز وجل من هذا الضلال ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أنزله عليه من الكتاب والهدى، وما وفقه له وأعانه عليه من تعليمهم وتزكيتهم وتربيتهم حتى نموا وكملوا وأصبحوا أكمل الخلق.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
هذه الآيات الأربع نتأملها! وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، ليس من شأن نبي يغل، وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، لِم يأتي به؟ لينتفع به، يأتي به ليفضح به، والله يأتي الرجل وعليه البعير، يقول: يا رسول الله أعني، فيقول: لا، لقد بينت لك يا فلان.فهذا الذي طهر المجتمع، وأصبح مجتمع أمن كامل ليس فيه خيانة ولا غدر، ولولا هذا التعليم كيف يصبح هذا المجتمع أفضل مكان في العالم؟ بهذه التعاليم: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:161-162].الجواب: لا، هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163] بحسب جهادهم وصبرهم وصيامهم و.. و..، ما هم في مستوى واحد، درجات أو لا؟ درجة أبي بكر أعلى من درجات بقية الصحابة، مثلاً: دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران:163].فيجزيهم بحسب عملهم؛ لأن الله مطلع عليه، عليم به، كيف لا وهو خالقه وموجده. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164]، فلهذا الذين يجلسون للمعلمين يجب أن يقولوا لهم: زكوا أنفسنا، لا تعلمونا فقط، حلقة ثانية بعد التعليم، وهي تزكية النفس وتهذيب الأخلاق، وتصحيح الآداب: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
يقول المؤلف غفر الله لنا وله: [ معنى الآيات: الغل والغلول والإغلال بمعنى واحد، وهو أخذ المرء شيئاً من الغنائم قبل قسمتها وما دام السياق في غزوة أحد فالمناسبة قائمة بين الآيات السابقة وهذه، ففي الآية الأولى ينفي تعالى أن يكون من شأن الأنبياء، أو مما يتأتى صدوره عنهم: الإغلال، وضمن تلك أن أتباع الأنبياء يحرم عليهم أن يغلوا، إذا كان النبي لا يغل، فأتباعه لا يغلون، ولذا قرئ في السبع (أن يُغَل) بضم الياء وفتح الغين، يُغَل: أي: يفعله أتباعه بأخذهم من الغنائم بدون إذنه صلى الله عليه وسلم، هذا معنى قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل ذلك، فقال: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161].فأخبرهم تعالى أن من أغل شيئاً، يأتي به يوم القيامة يحمله حتى البقرة والشاة كما بُين ذلك في الحديث، قال: جاء في صحيح مسلم أن أبا هريرة قال: ( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره ثم قال: لا ألفين أحدكم -أي: لا أجد أحدكم- يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله! يا رسول الله! أعني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد بلغتك... )] ثم ذكر الفرس أيضاً والشاة والنرس والرقاع.. وهكذا. [ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل ذلك، فقال: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، فأخبرهم تعالى: أن من أغل شيئاً يأتي به يوم القيامة يحمله، حتى البقرة والشاة، كما بُين ذلك في الحديث، ثم يحاسب عليه كغيره، ويجزى به كما تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر ولا تظلم نفس شيئاً لغنى الرب تبارك وتعالى عن الظلم ولعدله تعالى، فهذا مضمون الآية الأولى.أما الثانية: قال: ينفي تعالى أن تكون حال المتبع لرضوان الله تعالى بالإيمان به ورسوله وطاعتهما بفعل الأمر واجتناب النهي كحال المتبع لسخط الله تعالى بتكذيبه تعالى وتكذيب رسوله ومعصيتهما بترك الواجبات وفعل المحرمات، فكانت جهنم مأواه، وبئس المصير جهنم، هذا معنى قوله تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162] ثم ذكر تعالى: أن كلاً من أهل الرضوان، وأصحاب السخط متفاوتون في درجاتهم عند الله، بحسب أثر أعمالهم في نفوسهم قوة وضعفاً، فقال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران:163]، فدل ذلك على عدالة العليم الحكيم سبحانه وتعالى. وهذا ما دلت عليه هذه الآية. أما قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، فقد تضمنت امتنان الله تعالى على المؤمنين من العرب ببعثه رسوله فيهم، يتلو عليهم آيات الله فيؤمنون ويكملون في إيمانهم ويزكيهم من أوضار الشرك وظلمة الكفر بما يهديهم به، ويدعوهم إليه من الإيمان وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق وسامي الآداب، ويعلمهم الكتاب المتضمن للشرائع والهدايات والحكمة التي هي فهم أسرار الكتاب والسنة.وتتجلى هذه النعمة أكثر لمن يذكر حال العرب في جاهليتهم قبل هذه النعمة العظيمة عليهم.وهذا معنى قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164] ].
هداية الآيات
هذه الآيات الأربع نسأل الله أن نكون قد فهمناها وتهيأنا للعمل بما فيها، فلها هدايات.قال: [من هداية الآيات: أولاً: تحريم الغلول، وأنه من كبائر الذنوب]. من أين أخذنا هذه الهداية؟ أنا أقول في السوق.. في البيت، الغلول حرام، لا يحل لمؤمن أن يغل، لقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، أصبحنا عالمين. [ثانياً: طلب رضوان الله واجب، وتجنب سخطه واجب كذلك، والأول يكون بماذا؟ ] فطلب رضوان الله بالدعاء وبالإيمان وصالح الأعمال، وتجنب سخط الله يكون بترك الشرك والمعاصي، من طلب رضوان الله وأراده، فباب الله مفتوح، يؤمن ويعمل الصالحات التي هي فعل الأوامر وترك المناهي، ويجتنب الشرك ويترك المعاصي ويتركهما. [ثالثاً: الإسلام أكبر نعمة]؛ لأن الله امتن على الناس به: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164]، [فالإسلام أكبر نعمة، وأجلها على المسلمين، فيجب شكرها بالعمل بالإسلام، والتقيد بشرائعه وأحكامه] فإن لم نعمل بالإسلام، ولم نتقيد بشرائعه، فكأننا ما شكرنا وكفرنا النعمة. [رابعاً: فضل العلم بالكتاب والسنة]؛ لقوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129].
الاجتماع على الكتاب والسنة سبب للعزة
معاشر المستمعين والمستمعات! فقد ارتفع شأن العرب وعلا، وسادوا وقادوا باجتماعهم بين يدي رسول الله، وتعلمهم الكتاب والحكمة، وتزكية أنفسهم، فإذا أراد العالم الإسلامي الآن في أي مكان كيف يصلون إلى ذلك المستوى الطاهر؟والله لا طريق إلا هذا.. أن يجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله، وأن المربي أو المعلم يعمل على تزكية نفوسهم وتهذيب أرواحهم وآدابهم وأخلاقهم، والدليل والبرهنة واضحة من يوم أن أعرض العالم الإسلامي، وعلى رأسه العرب بالذات، أهل الأمانة وأصحاب هذه الرسالة وأهل هذه المنة، منذ أن أعرضوا هبطوا، فمن يرفعهم؟ فحاولوا وجاءوا بالاشتراكية لترفعهم، فلم ترفعهم، ثم حاولوا وجاءوا بالديمقراطية وتبجحوا بها فلم ترفعهم أيضاً. ثم أيضاً حاولوا وجاءوا بالوطنية والإقليمية، العروبة، فهل رفعتهم؟ والله! ما رفعتهم، فما الذي يرفع من هبط إلى أن يعود إلى علياء الكمال إلا الكتاب والسنة، وهذا ما نقوله دائماً، أهل القرية يلتزمون باجتماعهم، بنسائهم وأطفالهم، كل ليلة في بيت ربهم، من المغرب إلى العشاء، وطول العام، أهل المدن كل حي من أحياء المدينة قليلة أو كثيرة يجتمعون اجتماعنا هذا، النساء وراء الستارة، والأطفال دونهم، والفحول أمامهم، والمعلم يعلم الكتاب والحكمة، هل هناك طريق سوى هذا؟ والله! ما وجدوا، أقسم بالله.فهذا هو الطريق الوحيد الذي يهذب النفوس، فإذا تهذبت النفوس قل، بل انتهى الغل والغش والحسد والسرقة، والخيانة والإسراف، والكبر والكذب، وكل مظاهر الهبوط تنتهي، أو ما تنتهي؟ والله لتنتهين، هذه سنة الله، الطعام يشبع والماء يروي، والحديد يقطع، والنار تحرق، واتباع الكتاب والسنة لا تهذب ولا تزكي ولا تؤدب؟! فهذا مستحيل.فعلى العلماء أن ينهضوا بهذا الواجب، يأتون إلى القرى ويصيحون في أهليها بمكبرات الصوت: تعالوا إلى المسجد، هاتوا أطفالكم ونساءكم يسمعن وهن وراء الستارة، ويلزموا القرية الشهرين والثلاثة والسنة، حتى يجتمع أهلها.. وهكذا فجأة وإذا بذلك الإقليم في العالم الإسلامي أصبح كأنه في عهد النبوة، الطهر والصفاء والنقاء والكمال، بأتم معناه، وهذه سنة الله التي لا تتخلف.هذا والله تعالى أسأل أن يوفق علماءنا للنهوض بهذا الواجب.

ابو وليد البحيرى
2019-04-10, 10:27 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (69)
الحلقة (210)
تفسير سورة آل عمران (72)


يوم بدر أعز الله عباده المؤمنين وشفى صدورهم بالنيل من عدوهم، فقتلوا سبعين من المشركين وأسروا مثلهم، فلم يتعرض المسلمون عندئذ للبلاء والامتحان، فلما كان يوم أحد قتل من المسلمين سبعون كما حصل لأعدائهم من قبل، ليبتليهم الله عز وجل ويتخذ منهم شهداء، وليبين لهم أن ما يصيبهم من الهزيمة والفشل إنما هو من عند أنفسهم، وما النصر إلا من عند الله، وليميز الله بذلك بين أهل الصدق والإيمان، وأهل الكفر والنفاق.
تفسير قوله تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ...)
الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ).معاشر المستمعين والمستمعات! هل تشاهدون السكينة؟ واضحة، فلو كنا في مقهى أو في منتدى أو في سوق أو في منزل فهل سنشاهد هذه السكينة؟ والله! ما توجد، الرحمة غشتنا وغطتنا، هل تشاهدون عذاباً ينال أحدنا؟ لا، الملائكة يحفون بالحلقة، ولكننا لا نشاهدهم؛ لضعف أبصارنا عن قوة أجسامهم فقط، وذكر الله تعالى لنا في الملكوت الأعلى.إذاً: أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لن يكون إلا كما أخبر -الحمد لله-، وهل تذكرون قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه، أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )؟ فزتم بهذه أو لا؟ وأعظم: ( أن من صلى المغرب وجلس ينتظر صلاة العشاء في بيت الله الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ما لم يحدث ).كيف نظفر بهذا الكمال لولا إفضال الله وإنعامه علينا، الحمد لله.وكم.. وكم من محرومين، ولا لشيء سوى أن العدو يصرف عباد الله عن ولاية الله؛ لأنه العدو الأول، وربنا قال لنا: اسمعوا هذا البيان: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، كيف نتخذ الشيطان عدواً؟ لا نستجيب لندائه، ولا نقبل على طلبه، ولا نعطي ما يطلب ويسأل، بل نقف معه موقف العدو مع عدوه، فلا سمع ولا طاعة ولا حب، ولا ولاء ولا شيء آخر، فهيا نطبق إن شاء الله. ما زلنا في تفسير سورة آل عمران عليهم السلام، والآيات الليلة أربع آيات، فهيا نتغنى بتلاوتها، فإنه يجوز التغني بالقرآن.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُم ْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:165-168].فعجب هذا الكلام، وما هذه الفصاحة وما هذا البيان؟! ومع هذا يقرءونه على الموتى، ولا يفقهون منه شيئاً، صُرفوا بكيد العدو.هذا الله جل جلاله، هذا الرحمن الرحيم، هذا منزل القرآن العظيم يخاطب أصحاب رسول الله والمؤمنين -الحمد لله-، فيقول: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165]، والمصيبة آخرها الموت، كل بلاء، كل ما يؤذي الإنسان في بدنه، في ماله، في عرضه مصيبة، ولكن نهاية المصيبة الموت.فهذه المصيبة التي يُذكر الله عز وجل بها المؤمنين هي ما قتل من المؤمنين في أحد، إذ استشهد سبعون على رأسهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أصبتم مثليها في بدر، إذ المسلمون في غزوة بدر قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، وهل يطلق على الأسرى قتلى؟ إي نعم؛ لأن الآسر لإنسان يصبح في قبضته إن شاء قتله وإن شاء تركه، فالآسر الذي يأسر غيره يصبح عنده الأسير كالميت. ما زلنا في تفسير سورة آل عمران عليهم السلام، والآيات الليلة أربع آيات، فهيا نتغنى بتلاوتها، فإنه يجوز التغني بالقرآن.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُم ْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:165-168].فعجب هذا الكلام، وما هذه الفصاحة وما هذا البيان؟! ومع هذا يقرءونه على الموتى، ولا يفقهون منه شيئاً، صُرفوا بكيد العدو.هذا الله جل جلاله، هذا الرحمن الرحيم، هذا منزل القرآن العظيم يخاطب أصحاب رسول الله والمؤمنين -الحمد لله-، فيقول: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165]، والمصيبة آخرها الموت، كل بلاء، كل ما يؤذي الإنسان في بدنه، في ماله، في عرضه مصيبة، ولكن نهاية المصيبة الموت.فهذه المصيبة التي يُذكر الله عز وجل بها المؤمنين هي ما قتل من المؤمنين في أحد، إذ استشهد سبعون على رأسهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أصبتم مثليها في بدر، إذ المسلمون في غزوة بدر قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، وهل يطلق على الأسرى قتلى؟ إي نعم؛ لأن الآسر لإنسان يصبح في قبضته إن شاء قتله وإن شاء تركه، فالآسر الذي يأسر غيره يصبح عنده الأسير كالميت.
إنكار الله تعالى على المؤمنين تضجرهم مما أصابهم يوم أحد
قال تعالى: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] كيف نصاب، وكيف نُقتل، وكيف ننهزم ونحن مؤمنون ونجاهد في سبيل الله، ومعنا رسول الله، فكيف هذا؟! تركهم الله ولم يجبهم عن سؤالهم، وقال لرسوله أجبهم أنت: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، تساءلوا: كيف هذا؟ كيف ننهزم، كيف نقتل، كيف وكيف، ونحن المؤمنون المجاهدون في سبيل الله، وفي حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأمر تعاليه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم، فقال له: قُلْ [آل عمران:165] أي: يا رسولنا، (هو) أي: الذي أصابكم مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، لا من عند الله، كيف من عند أنفسهم؟ هم الذين تركوا أنفسهم للعدو يذبحهم ويقتلهم؟الجواب: لأنكم عصيتم رسول الله، وخرجتم عن طاعته مغترين بإيمانكم وكونكم تجاهدون في سبيل الله، ونسيتم أن لله سنناً لا تتبدل، الرسول القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم لما أعد عدته وصفف رجاله، ووضع الرماة على جبل الرماة نصح لهم: ( لا تنزلوا من على الجبل )، ترون منا ما ترون من نصر أو هزيمة، لكن الشيطان زين لهم، وأن المشركين انهزموا ونساؤهم هاربات في الأودية، والمجاهدون يغنمون: انزلوا، فنزلوا، فخلا جبل الرماة، فاحتله قائد المشركين خالد بن الوليد ، وصب عليهم البلاء، ووقعوا بين فكي مقراض، السهام من هنا والسيوف من هنا، فكانت الهزيمة.إذاً: قل لهم يا رسولنا: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، والمسلمون اليوم لماذا لا يفكرون بهذا التفكير؟ هل الذي أصاب المسلمين من الفرقة والضعف والعجز كان نتيجة ذنوبهم أو كان قدراً مقدوراً؟الجواب: بذنوبهم، فما أطاعوا الله ورسوله، وهم متعرضون لبلاء لا يعلمه إلا الله، إلا أن يتداركهم الله بتوبة عاجلة، والتوبة في هذه الأيام أيسر ما تكون، فقد تقارب الزمان والمكان ويستطيع العالم الإسلامي أن يعقد مؤتمراً في المدينة في أقل من عشر ساعات، أما الزمان الأول كيف يأتي الولاة من أقصى الشرق والغرب؟ فقد كانوا يحتاجون إلى ستة أشهر، وكانوا يجتمعون مرة في الحج، فالآن الكلمة واحدة، إذا قال إمام المسلمين: الله أكبر، سمعها النساء والرجال في الشرق والغرب.والشاهد عندنا: يا عباد الله! يا إماء الله! احذروا الذنوب والمعاصي فإنها تجلب الخزي والعار، وتجلب الذل والدمار، وتجلب الفقر والبلاء، فلا يكفي أن تقولوا: يكفي أننا مؤمنون. فلا أنتم بأفضل من أصحاب رسول الله.قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]، أي: على فعل كل شيء يريد قدير، ومن فعله أنه ربط الأسباب بمسبباتها، فلما رفضتم هذا السبب وألغيتموه أصابكم الذي أصابكم.
تفسير قوله تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ...)
وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:166]، يذكرهم.. الجمعان: هو جمع الكفر وجمع الإيمان، فالتقى الجمعان في سفح جبل أحد، جمع المؤمنين وجمع المشركين، المؤمنون قائدهم رسول الله، والمشركون قائدهم أبو سفيان .وما أصابكم يوم التقى الجمعان من الجراحات والقتل والهروب فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166]، فما تم بغير إرادة الله وتعليمه وإذنه تم وفق سنن الله عز وجل. قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:166-167]، فهذا علم ظهور، أما علم الغيب فهو قد كتبه وعلمه قبل أن يخلق الكون، لكن ليظهر ذلك للعيان؛ ليعلم المؤمنين بحق وصدق، (ويعلم) أيضاً الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167]، أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وأبطنوا الكفر في قلوبهم، وهم جماعة ابن أبي ، وقد عادوا من الطريق وهم ثلاثمائة، فلولا هذه الحرب كيف يعرف المنافقون من المؤمنين؟ فالمؤمنون قبل الفتنة أيضاً لا علم بحالهم، فلو يبتلينا الله ببلية لا قدر الله، يظهر المؤمن الصادق من غير المؤمن الصادق، لكن أراد الله تطهير أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليحملوا رسالة الحق إلى العالم أجمع، أما نحن فلا وزن لنا ولا قيمة.
تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ...)
قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167] أي: ادفعوا المعرة عن أزواجكم وأولادكم وأموالكم، والقائل هو عبد الله بن حرام شهيد أحد والد جابر بن عبد الله ، فلما أدبر المنافقون عائدين على رأس ابن أبي قال لهم: تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:167]، وإن لم تقاتلوا في سبيل الله لنفاق أو لمرض قلوبكم ادفعوا عن أنفسكم وعن أولادكم وأزواجكم هذا الجيش العرمرم. فإذا انهزم المؤمنون في أحد فسوف يدخل المشركين المدينة ويفعلون الأعاجيب. فهذه كلمة حكيم، ولهذا دونها الله وسجلها، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.قال تعالى: أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُم ْ [آل عمران:167]، فهذه كلمة رئيس المنافقين ومن معه، وهذا المنطق يوجد في كل زمان ومكان: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُم ْ [آل عمران:167]، لكن ليس هناك قتالاً، فلستم أهلاً لأن تقاتلوا.قلنا لكم: ابقوا في المدينة وقاتلوا فيها، وأبيتم وخرجتم تريدون القتال لن تستطيعوا، العدو أكثر منكم ولا تقاتلوا، فلهذا لا نخرج نحن، نعود.لكن لو كان مؤمناً يقول هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم!قال تعالى: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا [آل عمران:167] أي: يقع بالفعل لخرجنا، ولكن ليس هناك قتالاً.قال تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] إي والله! القائلون هذا القول وعلى رأسهم ابن أبي : هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] إي والله!قال تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167] ويخفون ويجحدون، يظنون أن الله غير مطلع على قلوبهم، فيتبجحون بالكلام الفارغ، والله مطلع على ما في القلوب.
تفسير قوله تعالى: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ...)
قال تعالى في بيان حال المنافقين: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا [آل عمران:168]، قالوا لإخوانهم: لا تخرجوا، اتركوه يموت هو وأصحابه، لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، فهذا الكلام في ديارهم وفي مجالسهم في المدينة وفي يوم المعركة، فلان وفلان مات، قلنا له: ما تخرج، لا تقاتل، فأبى إلا أن يقاتل، إذاً فمات. لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168].فالله تعالى يقول لرسوله قل لهم -لا يرد الله عليهم هو وما هم أهل لذلك-: قُلْ [آل عمران:168] يا رسولنا: فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، أي: ادفعوا عن أنفسكم الموت لو كنتم صادقين، لكنهم كاذبون.فهذا المستوى الهابط سببه ضعف الإيمان وظلمة النفاق التي تغطي على القلب وتغطي على الحواس -نعوذ بالله من النفاق-، وهذا درس عجيب يقرأ على أهل المدينة، صالحيهم وفاسديهم، ويخلد هذا الذكر إلى يوم القيامة.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
نسمع بعد أن علمنا الآن.قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165] مصيبة عظيمة في الحقيقة قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران:165] كيف؟ قتلوا سبعين وأسروا سبعين في بدر، منذ سنتين قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] أي: كيف نصاب وكيف وكيف؟ الله ما يرد عليهم، قال لرسوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] الذي أصابكم من الخزي والانكسار والقتل من أنفسكم، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]. وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:166] أين التقى الجمعان؟ في أحد؟ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166] أولاً: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:166-167]؛ ليكشف الستار عن الغموض والخفايا؛ لأنه يربي أولياءه.قال: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُم ْ [آل عمران:167] أي: لخرجنا معكم إلى المعركة في أحد، لكن ما نعلم أن هناك قتالاً، فهم يكذبون، وإلا عزم الرسول وتصميمه لا يمكن أن يخرج ويعود ولا يقاتل، لكن النفاق والمرض: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:167] سبحان الله! وهذا كائن بين الناس، يتكلم بلسانه ويقول وفي قلبه غير الذي يقول، وكل إنسان يستطيع هذا، فالذين قالوا: لا نقاتل في هذا الوقت هم إلى الكفر أقرب إلى الإيمان.قال تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا [آل عمران:168] أي: قالوا لإخوانهم في النفاق، (وقعدوا)، ما خرجوا، ماذا قال لهم؟ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، هذا الكلام تم في بيوتهم، وهم يتعشون ويتغدون، لو أطعنا فلان وفلان ما يقتل، لكن ما أطاعنا، خرج منا ومشى مع هذا الرجل.إذاً: قال تعالى لرسوله: قل لهم: ادْرَءُوا [آل عمران:168] أي: ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، هل يستطيعون؟ إذا دقت الساعة وحل الأجل، في من يمنع الموت؟ مستحيل.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [معنى الآيات: ما زال السياق الكريم في أحداث غزوة أحد.ففي الآية الأولى: ينكر الله تعالى على المؤمنين قولهم بعد أن أصابتهم مصيبة القتل والجراحات والهزيمة: أَنَّى هَذَا [آل عمران:165]، أي: من أي وجه جاءت هذه المصيبة، ونحن مسلمون ونقاتل في سبيل الله ومع رسوله؟فقال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165] بأحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران:165] ببدر؛ لأن ما قتل من المؤمنين بأحد كان سبعين، وما قتل المشركين ببدر كان سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً]، وبينت لكم أن الأسير في حكم الميت، الآسر إن شاء قتل من أسره.قال: [وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]؛ وذلك بمعصيتكم لرسول الله؛ حيث خالف الرماة أمره، وبعدم صبركم إذ فررتم من المعركة تاركين القتال]، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153].[وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165] إشعار إعلام بأن الله تعالى أصابهم بما أصابهم به عقوبة لهم حيث لم يطيعوا رسوله ولم يصبروا على قتال أعدائه، هذا ما تضمنته الآية الأولى.أما الآيات الثلاث بعدها فقوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166]، يخبر تعالى المؤمنين: أن ما أصابهم يوم أحد عند التقاء جمع المؤمنين وجمع المشركين في ساحة المعركة كان بقضاء الله وتدبيره، وعلته إظهار المؤمنين على صورتهم الباطنية الحقة، وأنهم صادقون في إيمانهم؛ ولذا قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166]؛ علم انكشاف وظهور كما هو معلوم له في الغيب وباطن الأمور، هذا أولاً.وثانياً: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167]، فأظهروا الإيمان والولاء لله ولرسوله والمؤمنين ثم أبطنوا الكفر والعداء لله ورسوله والمؤمنين، فقال عنهم في الآيتين الثالثة والرابعة: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167]، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، وعصابته الذين رجعوا من الطريق قبل الوصول إلى ساحة المعركة ].فـعبد الله بن حرام والد جابر -هذا كم يوم أو سنة؟- جاء السيل في وادي أحد فجرفه فوجدوه ودمه يسيل كأنه الآن استشهد، الله أكبر، هذا عبد الله بن حرام .قال: [ وقد قال لهم عبد الله بن حرام والد جابر : تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:167]؛ رجاء ثواب الآخرة، وإن لم تريدوا ثواب الآخرة فادفعوا عن أنفسكم وأهليكم معرة جيش غازٍ يريد قتلكم، إذ وقوفكم معنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم، فأجابوا قائلين: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا [آل عمران:167] يتم لاتَّبَعْنَاكُم ْ [آل عمران:167] ].يتهمون الرسول بأنه ما يقاتل! تعلموا ما تسمعون من إخوانكم من عبارات من هذا النوع، هذا النوع الآن عام في البشرية، إلا من رحم الله، كيف تتم هذه الرحمة؟ تتم للذين تربوا في حجور الصالحين، لازموا بيوت الله في الليل والنهار، يتلقون الكتاب والحكمة، أما هذا الجهل العام لا ينتج عنه إلا الأباطيل والتراهات والأقاويل، وحسبكم أن تسمعوا إذاعات العالم، وتقرءوا صحف الدنيا.ماذا تسمعون؟! مجالسنا هذا كذا، هذا كذا، هذا به كذا، لو قال كذا، لا إله إلا الله! ولا لوم.قال: [ وقد قال لهم عبد الله بن حرام والد جابر : تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:167]؛ رجاء وطمع ثواب الآخرة، وإن لم تريدوا ثواب الآخرة فادفعوا عن أنفسكم وأهليكم معرة جيش غازٍ يريد قتلكم، إذ وقوفكم معنا في صفوفنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم، فأجابوا قائلين: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا [آل عمران:167] يتم لاتَّبَعْنَاكُم ْ [آل عمران:167].فأخبر تعالى عنهم بأنهم في هذه الحال: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] ]، في ذاك الموقف لما قالوا هذه الكلمة هم إلى الكفر أقرب إلى الإيمان، إذ لا يقول هذا إلا من هو كالكافر.قال: [ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167] ويخفون حتى من أنفسهم، يعلم أنهم يكتمون عداوة الله ورسوله والمؤمنين وإرادة السوء بالمؤمنين، وأن قلوبهم مع الكافرين الغازين، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قعدوا عن الجهاد في أحد، وقالوا لإخوانهم في النفاق لا في القرابة والنسب وهم في مجالسهم الخاصة، قالوا: لو أنهم قعدوا فلم يخرجوا كما لم نخرج نحن ما قتلوا، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم قائلاً: فَادْرَءُوا [آل عمران:168] أي: ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [آل عمران:168] إذا حضر أجلكم: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168] في دعواكم أنهم لو قعدوا ما قتلوا].سبحان الله العظيم! ما يرد الله على الهابطين، يوكل الرسول قل لهم، ما هم أهل لأن يعلمهم الله، لكن لو كانوا مع أولياء الله، الله يتولاهم.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: المصائب ثمرة الذنوب ]. ما من عبد أو أمة يذنب ذنباً إلا وسوف يلقى ثمرة، سواء ألم في نفسه أو مرض في جسمه، حاجة تصيبه، فهذه سنة الله عز وجل، فالرجل في المجلس يصفع أخاه صفعة ادفع وينظر، وتحصل الثمرة اللذيذة على الفور، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].كان الصالحون في الزمان الأول يقول أحدهم: إذا عثرت دابتي التي أركبها، أعرف أن هناك ذنباً فأبحث ماذا فعلت، وفيم قصرت؟ فلابد من ذنب، فأبحث وأفكر فأجد الذنب، ما الذنب هذا؟ ما يؤخذ به المرء ويعاقب، مأخوذ من ذنب الفرس، من ذنب الحمار، إذا هرب أمامك حمار من أين تأخذه، من ذنبه أو لا؟ والذنب ما يؤاخذ به المرء، فالذنوب هي معصية الله والرسول، فإذا أمرك سيدك ولويت رأسك وما فعلت أذنبت فانتظر الجزاء، وإذا نهاك سيدك أن لا تقل أو لا تفعل فأبيت إلا أن تقول أو تفعل أذنبت أيضاً، فانتظر الجزاء.. وهكذا.وفي الحديث: ( ما من مصيبة إلا بذنب )، فنستدل على هذه القاعدة بغزوة أحد، رجال ربانيون مؤمنون، على رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي و.. و.. ، يصابون بكارثة وهزيمة ما شاهدوها، رسولهم يشج رأسه، وتكسر رباعيته، والدماء تسيل؛ بسبب معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.ومن هنا: لِم استعمر العالم الإسلامي وأذل وأهين؟ لمعصيتهم.لماذا ذل المؤمنون في فلسطين، وهزموا أمام حفنة من اليهود؟ بمعاصيهم.لماذا المؤمنون في البوسنة والهرسك وغيرها يذوقون أشد العذاب وآلامه وأفظع الفظائع؟ فذنوبنا سببت لهم ذلك، وذنوبهم قبل ذنوبنا، ما ننسى هذه القاعدة ونقول: ما هي صحيحة، المصائب ثمرة الذنوب، فالذنب كالشجرة تغرسها ولابد وأن تأكل ثمرتها، إلا أن تعاجل بالتوبة قبل أن تنبت الشجرة لا تسقها بذنب آخر.[ ثانياً قال: كل الأحداث التي تتم في العالم سبق بها علم الله ]، لا يوجد حدث في الكون، ولو اقتلاع شجرة أو قطع أصبع، أو صفعة إنسان في خده، لا يوجد حادث في العالم إلا وقد سبق علم الله به، وهو الذي قدره، وهذا هو الإيمان بالقضاء والقدر. فالمؤمنون بالقضاء والقدر حقاً هم الذين لا يحجمون ولا يجبنون ولا يتخلفون لعملهم أن ما كتبه الله سوف يكون، والذين لا يؤمنون بالقضاء والقدر، أو آمنوا به وهم لا يعرفونه هم الذين يجبنون، فلا يستطيع أن يتصدق مخافة الفقر، ولا يستطيع أن يجاهد مخافة الموت، ولا يستطيع أن يقول كلمة حق خشية أن يصفع، ونسي أن ما كتبه الله سوف يكون.واستغل هذا أعداء الإسلام من غلاة اليهودية والنصرانية، وقالوا: مسلمون أخرهم إيمانهم بالقضاء القدر، وتبجحوا بها وكتبوا، فالإيمان بالقضاء والقدر هو الذي يكسب أهله الشجاعة والإقدام؛ لعلمهم أنه إن كتب الله موته الآن سوف يموت، لِم يتأخر إذاً عن المعركة وخوضها؟ فكل الأحداث التي تتم في العالم بكامله سبق بها علم الله، ولا تحدث إلا بإذنه، وقد بينا أن الذي يوسوس له الشيطان في قضية القضاء والقدر وما يعرف، ففي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كان الله ولم يكن شيء قبله، أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، فكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن )، فكل ما كان ويكون قد سبق أن كتب، ووالله لن يتأخر أبداً، ولن يتقدم، ولن يتأخر لا في الصفة ولا في الجسم، ولا في الكمية، ولا في.. فيقع كما هو.بيانها: قلنا لهم: إن المهندس المعماري يجلس على كرسيه، والطاولة بين يديه، وتقول له: أريد إن شاء فلة أو عمارة كذا، فيرسمها لك على ورقة، نوافذها لا تتغير، المفاتيح.. أسلاك الكهرباء.. كل ما فيها بين يديك في ورقة، فإن كنت قادراً على تنفيذ ذلك، يتم ذلك الذي كتبه في الورقة كما هو في الورقة.إذاً -ولله المثل الأعلى- فالله لما أراد أن يخلق الخلق كتب ما أراده على تلك الورقة ذلكم اللوح المحفوظ، ذلكم كتاب المقادير...في البقيع قالوا: إذاً ما فائدة العمل؟ قال: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له )، إن خلقك الله للجنة فسوف يوجد في نفسك الرغبة في طلبها والسعي للحصول عليها، وييسر لك أمر طلبها والحصول عليها.لطيفة! ورد: ( من سره -أي: أفرحه وأثلج صدره- أن ينسأ في أجله ويوسع في رزقه فليصل رحمه ).الجاهل والغافل يقول: كيف ينتقض ما كتب الله وقدر؟والجواب: معشر المستمعين والمستمعات! لما أراد أن يكتب كتب أن عمرك يا عبد الله سبعون سنة، ولكن سوف تبر بوالديك، وتصل أرحامك فزيدوه عشرين سنة وخلوها تسعين. يكتب هكذا: رزقك كان خمسين قنطاراً بيض، خمسين قنطار لحم، خمسين قنطار فول أو بصل، مدة العمر، وسوف يبر هذا بوالديه ويصل رحمه خلوها سبعين.. سبعين.. وهكذا.( من سره أن ينسأ له في أجله ويوسع له في رزقه، فليصل رحمه )، فإذا رأيتك تواصل الصلة علمت أنك زيد في عمرك وزيد في رزقك.قال: [ كل الأحداث التي تتم في العالم سبق بها علم الله، ولا تحدث إلا بإذنه ].ولطيفة أخرى.. والله لولا هذا النظام العجيب ما تبقى الحياة سنة واحدة، ويرتطم بعضها ببعض، لكن بدقة التنظيم ماضية.. آلاف السنين.فلو جمعت البشرية كلها كل إنسان له صورته الخاصة به وميزة يتميز بها، فأي علم أعظم من هذا، وأي حكمة أكثر؟ [ ثالثاً: قد يقول المرء قولاً أو يظن ظناً يصبح به على حافة هاوية الكفر ]، من أين أخذنا هذا؟ قد يقول المرء قولاً أو يظن ظناً يصبح به على حافة الكفر، وهذا دل عليه قوله تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167]، لما قالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُم ْ [آل عمران:167]، ففي هذه الحال هم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان.إذاً: قد يقول المرء كلمة يصبح فيها أقرب -والله- إلى الكفر منه إلى الإيمان، وهذا مشاهد. [رابعاً: الحذر لا يدفع القدر]؛ لقوله تعالى: قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، حذرتم أن لا تموتوا؟ والله تموتوا، ولكن كما تقدم أن الحذر لابد منه، أمر الله به، احذر عبد الله واستعمل سنن الله، واعلم أن ما قدره الله سوف يكون، فترتاح نفسك وتطيب، وتقدم ولا تحرج، ولا تخاف ولا تجبن.هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم دائماً بما ندرس ونسمع. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

ابو وليد البحيرى
2019-04-16, 05:26 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (70)
الحلقة (211)
تفسير سورة آل عمران (73)


يبشر الله سبحانه وتعالى رسوله ومن معه من المؤمنين بجزاء من قتل في سبيل الله في أحد وغيرها، وأنهم شهداء، والشهيد حي عند ربه يتنعم بطيب الرزق ولذيذ العيش، أرواحهم في حواصل طير خضر يأكلون من ثمار الجنة، ويأوون إلى قناديل معلقة بالعرش، وهم فرحون بما أكرمهم الله تعالى به، ويستبشرون بإخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم بأنهم إن لحقوا بهم فلن يخافوا ولن يحزنوا، لما ينتظرهم من النعيم والكرامة عند رب العالمين.
تفسير قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ...)
الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله على إنعامه، والحمد لله على إفضاله.اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، إنك ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.وهانحن مع هذه الآيات من سورة آل عمران عليهم السلام، فهيا نتغنى بهذه الآيات، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، فما كان عقيدة اعتقدناها، وما كان واجباً عزمنا على النهوض به، وما كان محرماً عزمنا على تركه والبعد عنه، وما كان أدباً تأدبنا به، وما كان خلقاً تخلقنا به، وهذه حصيلة الدرس وفائدة كتاب الله.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].هذا الخطاب معاشر المستمعين والمستمعات! وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:169]، قائل هذا الكلام الله سبحانه وتعالى الذي خلقنا، ورزقنا، ووهبنا عقولنا وأسماعنا وأبصارنا، وخلق كل شيء في دنيانا من أجلنا، فكيف لا نعرفه وكيف لا نحمده ولا نشكره؟!فالحمد لله على أننا عرفناه وآمنا به، وهانحن نسمع كلامه عز وجل ونتدبره، وبلايين من الإنس والجن ما آمنوا به ولا سمعوا كلامه، ولا عرفوا مراده عز وجل من خلق البشر وحياتهم، فأولئك هم شر الخليقة.فالمخلو ات من الكلاب والقردة والحيات والثعابين خيرٌ من الذين كفروا بالله ولقائه؛ لقوله تعالى في سورة البينة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، (البريئة) فعيلة بمعنى مفعولة، أي: شر الخليقة. فلو أن إنسان مريضاً في بيتك وكاد أن يموت ثم داويته وشفي، وتطعمه وتسقيه، وتكلأه وتخدمه، وتضع بين يديه كلما يحتاج إليه وهو لا يملك شيئاً، ثم لا يعترف بوجودك ولا يذكرك بخير، ولا يطيع لك أمراً، فستنظر إليه على أنه أشر من الخنازير، ولا تود أن تنظر إليه ولا تسمعه أبداً.والذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين الذين خلقهم الله ورزقهم وخلق الحياة من أجلهم، ثم يكفرون به ولا يذكرونه، ولا يحبونه ولا يطيعون له أمراً، وهؤلاء هم شر الخليقة، والذي ينكر هذا فلا عقل له.وهذا بيان الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ [البينة:6] أي: كفروا بالله ولقائه، وكفروا بالله ورسوله، وكفروا بالله وكتابه، فهؤلاء مصيرهم: فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ [البينة:6] البعداء هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] والبرية، والبريئة بمعنى واحد، فشر الخليقة الكافر بالله واليوم الآخر، فكيف تحبه؟ إذاً: الله جل جلاله وليسمح لنا أن نتكلم عنه، فلسنا أهل لأن نتكلم عن الله، فلولا منته وإحسانه ورحمته بنا ما ذكرنا حتى اسمه.بينا هذه القضية والغافلون غافلون، فقد عرفنا عجائز.. عجوز تكره أخرى لا تسمح لها أن تذكر اسمها، فإذا أبغض شخصاً شخصٌ آخر يقول: لا تذكر اسمي، أنا أجل من أن تذكر اسمي أنت، والله عز وجل أذن لنا في ذكره، فاذكروا الله ذكراً كثيراً، ونتحدث عنه، قال وأمر وأوجد، ونحن لا شيء، فجبريل عليه السلام رسول الوحي له ستمائة جناح، لما تجلى في الأفق سده، والرسول صلى الله عليه وسلم يشاهد.فهناك الملك الذي أخذ سدوم وعمورة من الأرض وقلبها وهي مدن، ونحن لا شيء، ومع هذا نعص الله ونكفر به والعياذ بالله! يقول تعالى لمصطفاه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، وأمة الرسول تابعة له، فيا أيها المؤمن! لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، فليسوا بأموات، وحرام أن تقول: أموات، فقد جاء في سورة البقرة قول الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154]، قل: شهيد ولا تقل: ميت.
السبيل الموصل إلى الله
وهذه الآية آخر ما نزل في حادثة أحد، فلما استشهد من استشهد وهم سبعون، أربعة من المهاجرين والباقون من الأنصار، قال تعالى لرسوله ولأصحابه المؤمنين: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، فالبحث هنا: ما هي سبيل الله التي ماتوا فيها؟ وما الطريق الذي يوصل إلى رضا الله فماتوا فيه؟الجواب: أنهم قاتلوا المشركين من أجل أن يعبد الله وحده، ومن أجل أن تسود شريعته، ويعلو سلطانه وينفذ حكمه، ومن أجل إصلاح البشرية وإسعادها، لا أن الله في حاجة إلى هذا، (في سبيل الله) الطريق الموصل إلى رضا الله، ومن رضيه الله أدخله الجنة وأسكنه بجواره.هنا نتكلم بكلمة سياسية -والجمع كثير-، وبعض الإخوان قالوا: لا. فالسياسة المحرمة هي القول الذي يسبب أذى إمام المسلمين، أو يسبب سقوط حكومته، أو يسبب إثارة فتنة بين مواطنيه أو محكوميه وهذا المحرم الممنوع، فالسياسية الممنوعة المحرمة هي التي تؤدي إلى إثارة فتنة ضد إمام المسلمين، أو ضد أمته ومن يسود من القوم، أو توجد بلاء ومرض وسوء، هذا حرام أن يقوله المؤمن، لا في المسجد ولا في بيته ولا حتى في الحمام.والآن والحمد لله أكثر من أربعين سنة ونحن نقول: اسمع يا عبد الله! الكلمة التي لا تستطيع أن تقولها في المسجد لا تقولها في البيت، والتي لا تقولها في البيت لا تقولها في غير البيت، ومعنى هذا: أننا نتكلم بما فيه رضا الله، وما كان فيه سخط وغضب الله لا ننطق به، ولو كنا مع أنفسنا وليس عندنا أحد.والمنطلق الذي انطلقنا منه هو قول الحبيب صلى الله عليه وسلم، أستاذ الحكمة ومعلمها: ( من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، فكلمة (سوء) تحدث المساءة في نفس إنسان فقط وليس في أمة، فحرام أن تقال؛ لأنه محرم علينا الأذى، فلا يحل لمؤمن أن يؤذي مؤمناً ولو بنظرة شزراً، ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله )، وهانحن نرى كيف تنهش الأعراض والسب والتعيير والشتم، وكيف.. وكيف..، وسببه: ما عرفوا، وما علموا، وما تربوا في حجور الصالحين، فكيف يكملون ويسعدون بدون ما تربية؟!أقول للجماعات الثائرة في البلاد الإسلامية التي تطالب بالحكم والجهاد: إياهم أن يفهموا أن ثورة على حاكم تتسبب في القتل والدماء أنه جهاد في سبيل الله، فهذا -والله- ما هو بجهاد في سبيل الله، فالجهاد عند أهل العلم هو القتال بين المسلمين والكافرين.فلا يفهم أن الجهاد يتم بين فئتين من المسلمين، فالجهاد الذي هو سبيل الله يتم بين المسلمين والكافرين، إما المسلمون يدعون الكافرين لإنقاذهم وإسعادهم، وإما الكافرون اعتدوا وظلموا وأرادوا تمزيق المسلمين وإسقاط وجودهم، وبدون هذا المفهوم فلا جهاد في سبيل الله.فلا يكون جهاد في سبيل الله إلا إذا كان تحت راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لإنقاذ البشرية من الكفر والضلال وما يسببه الهمج من الشر والخبث والفساد، أي: من أجل أن يعبد الله عز وجل، وهذا جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمدة عشر سنوات ضد الكفار، فجهاد أصحابه صلى الله عليه وسلم لما خرجوا من الجزيرة بعدما فتحت، وارتفعت راية لا إله إلا الله، قاتلوا الكفار والمشركين من المجوس.فالذين يموتون في المعركة الدائرة بين المسلمين والكفار فهؤلاء يسمون بالشهداء، ولا يقال عنهم: موتى، ولا أموات، ويدفنون في ثيابهم، ولا يغسلون ولا يصلى عليهم، ومن جرح في المعركة وما مات فيها يجري عليه ما يجري على باقي المسلمين، لكن الذين يسقطون في الميدان، أولاً: يجب أن تقول شهداء، وحرام أن تحسبهم أمواتاً، بل هم أحياء، ولا يغسلون ولا يكفنون، ويدفنون بثيابهم ودمائهم، فهؤلاء المجاهدون هم الذين سقطوا في معركة دائرة بين المسلمين وبين الكافرين، ما عدا ذلك لا يوجد شيء اسمه جهاد في سبيل الله.فعلْموا الذين يطالبون بالحكم والحاكمية وهم يورطون أنفسهم ويورطون المسلمين، بأن هذا المسلك باطل وحرام، وإن أرادوا الفوز بالجهاد فليبايعوا إماماً في إقليم ما ويرفع راية لا إله إلا الله، ويقيم دين الله، وإن شئتم زوروا بلاده، تتجلى أنوار الإسلام والإيمان، العدل والإخاء، والمودة والحب والولاء، والطهر والصفاء، فهذا الإمام إذا حمل الراية وقال: نزحف إلى اليونان، ثم إلى إيطاليا، فإذا تجاوزناها نزحف إلى بلغاريا.. وهكذا، فليس من جهاد في الإسلام إلا هذا.ومن تململ وقال: كيف نُحكم بغير الشريعة؟ نقول له: هل هناك حاكماً ألزمك بأن تسب الله والرسول، فهل ستسبه؟ وهل هناك حاكماً قال لك: لو أراك تصلي لذبحتك؟أو لو رآك صائماً لسقاك السم حتى تفطر.. وإذا وجدك في بيتك أخرجك أنت وامرأتك، اخرجا لا نرى الإسلام ولا الحجاب، فهل حصل هذا؟! إذاً: فأين يجب الجهاد؟!فكيف تريدون الجهاد وأخلاق الأمة هابطة، فهناك التلصص والخيانة والكذب، والزنا الفجور، والربا والسفور، وأنتم تفكرون بالجهاد! وفي قدرتكم أن تطهروا وتعالجوا وتصححوا، فمثلاً: تأتي إلى أخيك وتضمه إلى صدرك وتقول له: أسألك بالله! ألا تقول هذه الكلمة مرة وأنت مسلم، أسألك بالله! ألا تقف غداً هذا الموقف في معصية كهذه، وهذا هو الطريق حتى نكون على علم.قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:169]، فسبيل الله هو الطريق الموصلة إلى رضا الله، والطريق الموصلة إلى رضا الله هو أن يعبد الله بما شرع، إذ هذه العبادة سرها تزكية النفس وتطهيرها، ومن زكت نفسه وطابت وطهرت لا يليق به العالم السفلي، ولكن العالم العلوي وهو الجنة دار السلام.
فضل الشهداء
قال تعالى: بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] أي: يأكلون ويشربون. فقد روى أبو داود بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ) وورد: ( في حواصل طير خضر ) والحواصل: الجيوب جمع حصيلة أو حوصلة. ( ترد أنهار الجنة -أي: لتشرب- وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقامهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب، فقال الله سبحانه وتعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل: وَلا تَحْسَبَنَّ ... [آل عمران:169] الآية ).فالشهداء في أحد لما وجدوا الحياة السعيدة والطعام والشراب والأنوار والنعيم، قالوا: آه! من يبلغ عنا إخواننا في الدنيا أننا ما متنا، إننا أحياء نرزق في هذا النعيم المقيم، فقال الله: أنا أبلغ إخوانكم، فقال: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].قال: [مما ورد في فضل الشهداء: أن الله تعالى يغفر له كل ذنب أذنبه إلا الدين]، فهل الشهداء هم الذين سقطوا في مصر أو في الجزائر أو في العراق أو في الشام الذين يطالبون بالحاكمية؟! فالشهيد من وقع في معركة دائرة بين المسلمين والكافرين فقط، أما بين المسلمين فيما بينهم، فهذه الفتن وهذا البغي والعدوان والظلم والشر والفساد؛ نتيجة الجهل بالله وبمحابه ومساخطه.فالشهيد يغفر له كل ذنب إلا الدين، فأيما حق لإنسان عليك إن سقطت شهيداً فإنه لا يغفر لك، يطالب صاحبه يوم القيامة ويأخذ من حسناتك أو يضع من سيئاته عليك، فالدين يضاف إليه كل حق من حقوق المسلمين، فمثلاً: هذا صفعته، وهذا أخذت ماله، وهذا شتمته، فهذه الحقوق لا تغفر؛ لأن هؤلاء أولياء الله فكيف يتنازل الله عن أذى أوليائه وأنت واحد منهم؟ فلا بد وأن يأخذ كل ذي حق حقه، أما الذنوب دون الدين والحقوق ممحوة من أول دفعة.قال: [روى الترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له أول دفعة )] من دمه يخرج. ثانياً: [ ( ويرى مقعده من الجنة ) ] بمجرد ما تخرج روحه يشاهد مقعده من الجنة في قبره.ثالثاً: [ ( يجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر -يوم القيامة-، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه )]، فالذين ماتوا في فلسطين وفي كذا وكذا لا يأخذون شيئاً من هذا. فالآن إخواننا أيضاً ينتحرون، يلبس أحدهم حزام من متفجرات ويموت في سبيل الله!! فهل هذا سبيل الله؟! فسبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضوان الله، وهو أن يعبد الرحمن وحده ولا يعبد سواه، وأن تسود شريعته بين عباده لتزكو البشرية وتطيب وتطهر.فما زلت إلى الآن والله! أطالب إخواننا الفلسطينيين.. بما أن العرب تخلوا عنهم والمسلمون، لو بايعوا إماماً لهم صالحاً وانحازوا إلى مكان ما وأخذوا يتجمعون ويعبدون الله ويتربون على حب الله وطاعته عاماً بعد عام، وإذا بهم أولياء الله، لا غش ولا حسد، ولا كبر ولا جهل، ولا شرك ولا ظلم، ولا باطل، سبع سنين أصبحوا أولياء الله، وحملوا راية لا إله إلا الله محمد رسول الله من أجل أن يعبد الله وحده، وأن يتابع رسول الله وحده دون سواه، وقالوا: الله أكبر، والله! لهرب اليهود وشردوا، يحولهم الله إلى بهائم ويعبدون الله عز وجل، وستتسع دائرة البلاد وينشرون الهدى والرحمة والخير، وجهاد متواصل لإدخال البشرية في رحمة الله. وهذا هو الجهاد. فلو قال قائل: يا شيخ! بالغت، ما ندري كيف نفهم هذا؟ نقول له: انظر إلى الشاشة أمامك تشاهد، كم إقليم استقل لنا ومات فيه رجالنا ونساؤنا؟! نيف وأربعون من إندونيسيا إلى موريتانيا، فلو كانوا -كما نعلم الآن- وعرفوا الله وأرادوا أن يعبد، فلما تستقل البلاد تلوح أنوار الهداية الإلهية في البلاد، تقام الصلاة، تجبى الزكاة، يؤمر بالمعروف، ينهى عن المنكر، يطبق شرع الله كما هو، لكن لما ما أرادوا هذا، أرادوا السلطة والحكم والمال فقط، والله ما أقيمت الصلاة في بلد، فهل هذا جهاد؟ وما هي ثماره ونتائجه؟ فهل عُبِدَ الله؟ الجواب: لا، فقد عدنا من حيث بدأنا، فلا بد للجهاد من أن يكون من أجل أن يعبد الله وحده.إذاً قال: [الإجماع على أن شهيد المعركة بين الكفار والمسلمين ألا يغسل ولا يصلى عليه؛ لحديث البخاري : ( وادفنوهم بدمائهم ) يعني شهداء أحد ولم يغسلهم، والعلة في عدم غسلهم: أن دمائهم -تأتي- يوم القيامة - أزكى من الطيب وأطيب من ريح المسك-].إذاً: قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، فهذا إخبار الله عن شهداء أحد لما دخلوا الجنة وقالوا: ( آه! من يخبر عنا إخواننا بأننا في هذا النعيم المقيم حتى يواصلوا الجهاد والصبر ولا يكلوا ولا يملوا ولا يكبحوا جماح القتال، قال تعالى: أنا أبلغ إخوانكم )، واستجاب وفعل، وهذا هو البلاغ.
تفسير قوله تعالى: (فرحين بما آتاهم الله من فضله...)
قال تعالى: فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ [آل عمران:170]، آه! لو يلحق بنا أبناؤنا وإخواننا من المؤمنين، بمعنى: يصبروا على جهاد الكفار حتى يستشهدوا ويلحقوا بنا.قال: وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:170] إي نعم.
تفسير قوله تعالى: (يستبشرون بنعمة من الله وفضل...)
قال تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ [آل عمران:171] مرة ثانية بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:171] فأي نعمة أعظم من رضاه والجنة وما فيها؟ وأي فضل أعظم من ذاك النعيم المقيم؟أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنان وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش، وهكذا إلى يوم القيامة، فإذا جاء يوم القيامة والأجساد نبتت كالبقل في الأرض واكتمل الجسد ترسل الأرواح وتنزل، وكل روح لا تخطئ جسدها، وينفخ إسرافيل وإذا هم قيام ينظرون. وهنا يروي مالك بشرى وهي: ( أن نسمة المؤمن ) غير المجاهد..، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم -والموطأ قبل البخاري ومسلم أصح كتاب بعد كتاب الله، كيف لا وهو يروي عن أولاد الصحابة-: ( إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة ) أرواحنا أيها المؤمنون! لما تتم محنة القبر وفتنته ترفع إلى دار السلام وتبقى هناك في الجنة، تعلق في طير من الطيور يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه.إذاً: أرواح الشهداء أجل وأعظم من أرواحنا، وأرواحنا أيها المؤمنون نعم في هذه القناديل في شكل الطير وترعى وتعلق في أشجار الجنة، وتبقى هكذا حتى يبعثنا الله، أي: الأبدان، وتنزل الأرواح فتدخل في أجسادها.يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما نسمة المؤمن ) فالنسمة هي الروح، ولهذا إذا قال المؤذن: الصلاة على رجل وما عرفت هل الميت رجل أو امرأة، فماذا تقول؟ الجواب: تقول: اللهم إنها نسمتك بنت نسمتك، أنت خلقتها وأنت رزقتها.. إلى آخره، لا تسأل: هل هي ذكر أو أنثى، يكفي أن تقول: إنها نسمتك، ( إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة يأكل منه حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثون )، متى البعث هذا؟ لما تنتهي هذه الدورة، وهي أوشكت على النهاية.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: ما زال السياق في الحديث عن غزوة أحد، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْسَبَنَّ [آل عمران:169] أي: لا تظنن الذين استشهدوا من المؤمنين في أحد وغيرها أمواتاً لا يحسون ولا يتنعمون بطيب الرزق ولذيذ العيش، بل هم أحياء عند ربهم يرزقون، أرواحهم في حواصل طير خضر يأكلون من ثمار الجنة ويأوون إلى قناديل معلقة بالعرش. إنهم فرحون بما أكرمهم الله تعالى به، ويستبشرون بإخوانهم المؤمنين الذين خلفوهم في الدنيا على الإيمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم لم يخافوا ولم يحزنوا لأجل ما يصيرون إليه من نعيم الجنة وكرامة الله تعالى لهم فيها.إن الشهداء جميعاً مستبشرون، فرحون بما ينعم الله عليهم ويزيدهم، وبأنه تعالى لا يضيع أجر المؤمنين شهداء وغير شهداء، بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ] الحمد لله أننا معهم.وأخرى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ( ما من عبد يسأل الله الشهادة في سبيل الله في صدق إلا وألحقه الله بالشهداء أو أنزله منازل الشهداء ولو مات على فراشه ).وأخرى: عمر بن الخطاب في الروضة في الحجرة، فوالله! إنه بها، فـعمر رضي الله عنه يدعو بدعوة تعجبت منها بنته حفصة أم المؤمنين بعد وفاة الرسول، يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك، فتعجب حفصة كيف يتم هذا؟ فحدود الجهاد في الأفغان، وفي الهند، وفي الأندلس، وكيف تكون الشهادة في المدينة والموت في المدينة؟! فليس معقول يا أبتاه! يقول لها: اسكتي، ما ذلك على الله بعزيز، فيسأل في صدق أن يموت في سبيل الله وفي المدينة أيضاً، عجب هذا السؤال، واستجاب الرحمن الرحيم، فقد طعن عمر في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنه أبو لؤلؤة المجوسي لعنة الله عليه. إذاً: قتله كافر بين المسلمين والكافرين؛ لأن أبو لؤلؤة يمثل حزب وطني ظاهر يريد أن يسحق الإسلام وأهله، فتنقل وبيع وجاء عبد وهو يحمل هذه المهمة، ومات عمر في المدينة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أكون له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة )، ومعنى هذا أننا نتكلف ونعمل على أن نتحمل حتى نموت بالمدينة.والذي يريد أن يموت في المدينة فهل يغني فيها ويزمر؟ ويجلس أمام التلفاز والعواهر يرقصن أمامه وأمام بناته وامرأته، ويبيع الحشيش، ويبيع ملابس السوء، يغتاب وينمم، ويأكل الربا ويفجر، فهل هذا له رغبة في المدينة؟ فهذا المدينة تنفيه، ( المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ) فيا من لا تستطيع أن تطيب وتطهر في المدينة ارحل، امش إلى ينبع أو إلى جدة، فهذه مكان القدس والطهر، لا تستطيع أن تبقى هنا.اللهم اكتب لنا ولهم موتاً في سبيلك وفي مدينة رسولك.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-16, 05:31 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (71)
الحلقة (212)
تفسير سورة آل عمران (74)


بعد أن تمت أحداث أحد أخذ المسلمون الصابرون يلملمون جراحهم، وفي أثناء ذلك جاءهم الخبر أن المشركين عزموا على العودة للحاق بالمسلمين واستئصالهم، فما زاده صلوات الله وسلامه عليه ومن معه إلا إيماناً وتوكلاً على الله العزيز الحكيم، ثم نادى النبي في أصحابه للخروج لملاقاة المشركين، ولا يخرج معه إلا من خرج أول اليوم، فلما بلغ ذلك أبا سفيان ومن معه دب الرعب في قلوبهم، وخارت عزائمهم، وآثروا السلامة والاكتفاء بما حققوه، والعودة إلى مكة، وكفى الله المؤمنين لقاءهم.
تفسير قوله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، مع هذه الآيات المباركات. تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:172-175].معاشر المستمعين والمستمعات! هذا خبر من أخبار الله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172]، فالذين استجابوا لله والرسول -نسأل الله تعالى أن نكون منهم- هم كل من امتثل أوامر الله ففعلها واجتنب نواهي الله فتركها، وامتثل أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلها، واجتنب نواهي الرسول فتركها إلا ويدخل في هذه البشرى العظيمة، إلا أن هذه الآية نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا وقعة أحد، وهذه الاستجابة علمنا أن معركة أحد كانت يوم السبت وما كان المساء إلا ودخل الناس بيوتهم في مدينة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ومن الغد صباح الأحد يؤذن المؤذن: أنْ الجهاد.. الخروج إلى قتال أبي سفيان وجيشه، فإنهم قد عزموا العودة على قتالنا، والناس مثخنون بالجراحات، أتعاب لا تقادر، آلام لا تقدر، وما إن أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج المؤمنون ومنهم الجرحى، ومنهم كبار السن ومنهم ومنهم، إلا أن اثنين من بني الأشهل أخوان جريحان يحمل أحدهما الآخر فترة، ثم ينزله ويماشيه ويحمله وكذا إلى حمراء الأسد. الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [آل عمران:172] أي: أجابوا الأمر الذي طلب منهم، وهو الخروج إلى ملاحقة أبي سفيان وقتاله مع جيشه. مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172] والقَرح والقُرح: الجراحات وآلامها، والكروب والأحزان ومضارها على النفس. ‏
فضل الإحسان والتقوى
ثم قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172] ألا وهو الجنة دار السلام، لا أجر أعظم منها، وفي نفس الوقت: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا [آل عمران:172] منا أيضاً، أحسنوا عبادة الله، فأدوها على الوجه الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ثَمَّ زكت نفوسهم وطيبت أرواحهم، أحسنوا في سلوكهم الخاص والعام، أحسنوا إلى إخوانهم ولم يسيئوا إليهم، فلفظ الإحسان عام وهو كما علمنا من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ثلث الإسلام، إذ الإسلام: الإسلام والإيمان والإحسان.وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان الإحسان: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) أي: تعتقد أنه يراك، ومعنى هذا: أن العبد إذا أخذ يتوضأ أو يغتسل، أو أخذ يصلي، أو أخذ يطوف ويسعى، أو أخذ يعبد الله ويتلو كتابه، ويذكر ربه، ويعبده وكأنه يرى الله، فإن عجز عن هذا المقام السامي فليعلم نفسه أن الله مطلع عليه وأنه يراه، وفي هذه الحال ثقوا بأنه يحسن العبادة، ويتقنها، ويجودها، ويأتي بها على أفضل وجوهها ومن ثَمَّ تكون النتيجة زكاة الروح وطهارتها.
تفسير قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ...)

فضل أصحاب رسول الله على غيرهم
ثم قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173]، إذ بعث أبو سفيان رجالاً وواعدهم بأن يعطيهم قناطير الزبيب على أن يأتوا إلى معسكر رسول الله ويكونوا كالطابور الخامس وينفثوا وينفخوا الهزيمة، فـأبو سفيان قد عزم على عودته إليكم وقد تأسف كيف يقاتلكم ويرجع ولم يثنيكم ولم يقتلكم، وهو برجاله في طريقه إليكم؟ أشيعت هذه في صفوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث أبو سفيان من عبد قيس من نفث هذه الروح الخبيثة. كيف كان موقف أصحاب رسول الله؟ كما قال الله تعالى عنهم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173] جمعوا رجالهم وقواتهم. لَكُمْ [آل عمران:173] أي: لتدميركم وقتالكم. فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173] أي: ارهبوهم وخافوهم وانهزموا حتى لا تقتلوا. ما موقفهم؟ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران:173] هذا الطابور الخامس بدل ما يشتت كلمتهم وصفوفهم وينهاروا ازدادوا إيماناً بأن الله معهم، وأنهم أولياؤه وهو وليهم، وأنه هازم أعدائه ومكسر قواتهم فقوي إيمانهم أكثر مما كان.
فضل كلمة: (حسبنا الله ونعم الوكيل)
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، (حسبنا الله ونعم الوكيل) فهذه الكلمة قالها إبراهيم الخليل عليه السلام عندما وضع في المنجنيق ودفع به إلى أتون الجحيم، قبل أن يصل عرض له جبريل: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. أول من قالها في البشرية قالها إبراهيم، أما إليك فلا حاجة لي إليك، حسبي الله ونعم الوكيل.والمتصوف الهابطون والضلال قالوا: إبراهيم قال: حالي يغني عن سؤالي، يعني ما نسأل الله، هو أعرف بي، وانتشرت هذه الكلمة الهابطة فكممت المؤمنين من الدعاء، بمعنى: لا تدعوا ربكم، والدعاء هو الدين، و( الدعاء هو العبادة )، من ترك دعاء الله كفر، مات، والله عز وجل يبتليك ليسمع دعاءك، فإذا قلت: ما أدعو لأنه يعرف حالي، كيف أدعوه؟ فهذه كلمة وضعها الشيطان، ونشرها الجهال تحت عنوان التصوف وعلم التصوف. أما إبراهيم فقد قال: حسبي الله ونعم الوكيل، وبلغتنا هذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( أول كلمة قالها إبراهيم: حسبنا الله ونعم الوكيل )، وما إن قالها إبراهيم حتى صدر أمر الله السامي إلى النار المتأججة الملتهبة، فقال: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] قبل أن يصل إليها؛ لأن المسافة بعيدة، أججوا النار من أربعين يوماً، فما يستطيعون أن يأخذوا بيد إبراهيم ويدفعونه إليها، جعلوه في منجنيق من مسافة بعيدة، وهو في الطريق قال تعالى يخاطب ناره وهو خالقها ومالك أمرها: يَا نَارُ [الأنبياء:69] قالت: لبيك رب لبيك. كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، لو لم يقل تعالى: (وسلاماً) لمات إبراهيم من البرد، برد لا تتصور ثلج ولا غير ثلج، لكن قوله تعالى: وَسَلامًا [الأنبياء:69] والله ما أتت ولا أحرقت منه إلا الكتاف الذي في يديه ورجليه فقط، وخرج وجبينه تتصفد عرقاً، وودع، وقال: إني مهاجر إلى ربي سيهدين. فهذه الكلمة قالها إبراهيم وقالها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوها أنتم: حسبنا الله ونعم الوكيل، الذي يوكل إليه أمورنا ونتركها له هو الذي يحفظها، هو الذي يقوم بها؛ لأنه الولي الحميد.حسبنا: يكفينا الله كل ما يهمنا، ونعم الوكيل: نطرح أمورنا إليه ونوكله بها، الحمد لله.
تفسير قوله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوء ...)
وقوله تعالى: فَانْقَلَبُوا [آل عمران:174] (انقلبوا) هنا رجعوا، مشوا ووصلوا حمراء الأسد يومين ثلاثة ما جاء العدو قالوا: رحل، هرب أبو سفيان ورجاله، انقلبوا إلى المدينة راجعين. فَانْقَلَبُوا [آل عمران:174] مصحوبين بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:174] لا تقادر هذه النعمة ولا هذا الفضل. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174] لا في أبدانهم ولا في مالهم ولا في دينهم ولا في أعراضهم، عادوا بخير وعافية، كلمة سوء نكرة لتعم كل ما يسيء. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174] فأين الطابور الخامس الذي هدد؟ قال: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:174] اتبعوا ما يرضي الله وأطاعوا الله ورسوله، فكل طاعة لله والرسول هي طلب لرضا الله عز وجل، فكل من عصى الله والرسول طلب سخط الله -والعياذ بالله- واتبعه. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174].
تفسير قوله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه...)
ثم قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] فالشيطان يخوفكم بأوليائه، والشيطان إن كان جنياً من عالم الجن هو يوسوس للإنسان ويهزمه ويخوفه، وإن كان إنساناً فبالكلام كذاك الذي بعث به أبو سفيان . يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] أي: الشيطان يخوف أولياءه الكافرين والمشركين. فالشيطان أولياءه الكافرون ويخوف من أوليائه الكافرين، أبو سفيان وجيشه كفار، بعثوا هذا نعيم بن مسعود ، هذه القضية فيها كلام، بعثوا به ليقول لهم: إن أبا سفيان قد عزم العودة إليكم وقرر الرجوع إلى قتالكم، إذاً: الشيطان من الإنس خوف المؤمنين أولياءه أيضاً من الإنس وهم أبو سفيان ورجاله. (إنما ذلكم الشيطان يخوفكم أولياءه) حذف الضمير. فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، فبالفعل ما خافوا أبا سفيان ولا جيشه، بل خافوا الله عز وجل فلزموا طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. نعيد تلاوة الآيات بعد هذا التبيين: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا [آل عمران:172-174] أي: رجعوا من حمراء الأسد، بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174]، أي: اتبعوا رضوان الله في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات: ما زال السياق في أحداث غزوة أحد، وما لابسها من أمور وأحوال، والآيات الأربع كلها في المؤمنين الذين حضروا غزوة أحد يوم السبت، وخرجوا في طلب أبي سفيان يوم الأحد، وعلى رأسهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن يرفع معنويات أصحابه الذين كلُموا وهزموا يوم السبت بأحد] ومعنى (كلموا): جرحوا.[ وأن يرهب أعداءه، فأمر مؤذناً يؤذن -بأعلى صوته- بالخروج في طلب أبي سفيان وجيشه]، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أستاذ الحكمة ومعلمها، يتلقى معارفه من رب العالمين، ونحن مأمورون بالاقتداء به والائتساء، والله لو ائتسينا به ما ذللنا.قال: [ فاستجاب المؤمنون وخرجوا وإن منهم للمكلوم المجروح، وإن أخوين جريحين كان أحدهما يحمل أخاه على ظهره، فإذا تعب وضعه فمشى قليلاً، ثم حمله حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد]، وحمراء الأسد تقع وراء أبيار علي، والرجلان هم من بني الأشهل وما في ذلك شك.قال: [ وألقى الله تعالى الرعب في قلب أبي سفيان فارتحل هارباً إلى مكة، وقد حدث هنا أن معبداً الخزاعي ] وخزاعة حلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: [ إن معبداً الخزاعي مر بمعسكر أبي سفيان فسأله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ] أبو سفيان سأل: كيف عسكر محمد؟ [ فأخبره أنه خرج في طلبكم، وخرج معه جيش كبير، وكلهم تغيظ عليكم، أنصح لك - أبا سفيان - أن ترحل. قال: فهرب برجاله ] هذا الطابور النافع، وهذا تسخير الله عز وجل [ فهرب برجاله خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأقام الرسول صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد برجاله كذا ليلة، ثم عادوا لم يمسسهم سوء، وفيهم نزلت هذه الآيات الأربع. الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172] يريد في أحد، واستجابوا: لبوا نداء الرسول صلى الله عليه وسلم وخرجوا معه في ملاحقة أبي سفيان . لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172] ولكل من أحسن واتقى أجر عظيم، ألا ] فـ(ألو) بناتنا وأطفالنا يعرفونها، أما (ألا) لا يعرفونها؛ لأنهم ما يسمعون (ألا)، فلنصلح أحوال بيوتنا ونربي أولادنا وبناتنا على: (ألا فعلت كذا)، (ألا سمعت الله يقول كذا)؟ [ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172] ولكل من أحسن واتقى أجر عظيم، ألا وهو الجنة ] جعلنا الله من أهلها [ الآية الثانية: هي قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173] المراد من الناس القائلين هم: نفر من عبد القيس مروا بـأبي سفيان وهو عازم على العودة إلى المدينة لتصفية المؤمنين بها في نظره، فقال له أبو سفيان : أخبر محمداً وأصحابه أني ندمت على تركهم أحياء بعدما انتصرت عليهم، وإني جامع جيوشي وقادم عليهم، والمراد من الناس الذين جمعوا هم: أبو سفيان ، فلما بلغ هذا الخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه زادهم إيماناً فوق إيمانهم بنصر الله تعالى وولايته لهم، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، الذي يكفينا ما أهمنا ونفوض أمرنا إلى الله. قوله: فَانْقَلَبُوا [آل عمران:174] أي: رجعوا من حمراء الأسد؛ لأن أبا سفيان ألقى الله الرعب في قلبه فانهزم وهرب، رجعوا مع نبيهم صلى الله عليه وسلم سالمين في نعمة الإيمان والإسلام والنصر. وَفَضْلٍ [آل عمران:174] حيث أصابوا تجارة في طريق عودتهم. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174] أي: أذى. وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:174] بالاستجابة لما دعاهم الله ورسوله، وهو الخروج في سبيل الله لملاحقة أبي سفيان وجيشه.وقوله تعالى: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174] وما أفاضه على رسوله كاف في التدليل على الآية الرابعة. إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وذلك أن وفد عبد القيس آجره أبو سفيان بكذا حمل من الزبيب إن هو خوف المؤمنين منه، فبعثه كأنه طابور يخذل له المؤمنين إلا أن المؤمنين عرفوا أنها مكيدة، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] فنزلت الآية: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ [آل عمران:175] الناطق على لسان النفر من عبد القيس يخوف المؤمنين من أوليائه أبي سفيان وجمعه. فَلا تَخَافُوهُمْ [آل عمران:175] فنهاهم عن الخوف منهم وأمرهم أن يخافوه تعالى، فلا يجبنوا ويخرجوا إلى قتال أبي سفيان وكذلك فعلوا؛ لأنهم المؤمنون بحق رضي الله عنهم أجمعين].
هداية الآيات
كثيراً ما نعيد القول: كل آية تحمل هداية لمن آمن بها وفهمها وعزم على أن يعمل بما فيها، والله! لتهديه إلى ما فيه خيره وسعادته وكماله، يعني: أبسط ما يقول: ما من عبد يقرؤها إلا ويعطى على كل حرف عشر حسنات، بكل يسر وسهولة، والآية تهدي إلى صراط الله المستقيم، وتهدي إلى أن يعبد الله تعالى وحده بما شرع لعباده وبتلك العبادة يسعد العابدون ويكملون وينجون في الدنيا والآخرة، فآي القرآن ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، وكل آية تهدي.وهناك لطيفة: فالآية في لسان العرب: العلامة. فمثلاً إذا قلنا: يا عدنان! أين ولدك عبد العزيز؟ قال: في المنزل. قلت: ما آية ذلك؟ أي: ما علامة أنه في المنزل؟ فيقول: كذا وكذا. فالآية بمعنى العلامة.فكل آية علامة على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ وهذه الآية أنزلها الله سبحانه وتعالى، فطأطأت الدنيا رأسها وسلمت بأن هذا القرآن أنزله الله عز وجل. إذاً: فالله موجود، عليم، حكيم، رحيم، أمر ألا يعبد إلا هو وأخبر ألا يوجد إله سواه، فكل آية دالة على أنه لا إله إلا الله، والذي نزلت عليه من بين الناس من دون العالم بأسره مستحيل أن لا يكون رسول الله.إذاً كل آية تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ علامة على ذلك.قال: [ من هداية الآيات: أولاً: فضل الإحسان والتقوى وأنهما مفتاح كل خير]، فضل الإحسان والتقوى، فقد قرنهما الله عز وجل مع بعضهما البعض، والإحسان أن نتقن العبادة ونحسنها حتى تزكى أنفسنا، وأن نحسن في كل عمل نقوم به، حتى الخياط يجب أن يحسن خياطته، وحتى الطاهي للطعام يجب أن يحسن طهيه، وحتى مقلم أظفاره يجب أن يحسن قلمه.فالإحسان فريضة، ومن هنا رقى العالم الإسلامي وبلغ عنان السماء وهبطت البشرية كلها من باب الإحسان، ففي الجهاد، وفي الرباط، وفي القول، وفي القضاء، وفي الحكم، وفي العمل، وفي الفلاحة، وفي الزراعة، وفي السفر، وفي كل شيء، فتفوقت أمة الإسلام ثلاثة قرون، عرف العدو هذا فأهبطها بالكذبة. فمثلاً: عند الخياط تشتري ثوب خياطة سوق، يأتي المشتري ويقال له: هذه خياطة سوق، ويبيع له الثوب بعشرين ريال، والخياط يخيط بعشرين ريال فقط، فقيمة الخياطة عشرين والكتان مجاناً، يعني: أنه يعبث بالخياطة ويغش فيها حتى يلبسها الرجل يومين أو ثلاثة وتتمزق، وهذا لا يجوز وحرام عليه، ويجب أن يحسن هذه الخياطة حتى ولو باع الثوب ليهودي أو نصراني، وكذلك يجب الإحسان حتى في بناء العمارات وفي إصلاح السيارات، وحتى في كتاب الجوابات، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فسبب هبوطنا هو الجهل، أبعدونا أعدائنا عن نور الله فعشنا في الظلام أكثر من ألف سنة، فحسبنا الله ونعم الوكيل.قال: [فضل الإحسان والتقوى وأنهما مفتاح كل خير].فالتقوى حال تتقي بها غضب الله وسخطه وعذابه بأن تطيعه ولا تعصيه، فغضب الله يجلب العذاب والشقاء، فكل من أطاع الله ورسوله فيما يأمران به من أمور واجبة، وينهيان عنه من منهيات محرمة قد جعل بينها وبين غضب الله وقاية أفضل من وقاية الأسوار، فهذه إذاً هي التقوى.والتقوى أيضاً هي الخطوة الثانية في تحقيق ولاية الرحمن، يا من يرغب أن يصبح ولياً لله أفضل من عبد القادر والعيدروس ! آمن حق الإيمان واتقي الله وأنت ولي الرحمن؛ لقوله تعالى في بيان الأولياء: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].[ ثانياً: فضل أصحاب رسول الله على غيرهم، وكرامتهم على ربهم ]؛ لقوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ... [آل عمران:172] الآية.[ ثالثاً: فضل كلمة: (حسبنا الله ونعم الوكيل) ] فهذه أربع كلمات، لكن يجوز إطلاق الكلمة على قصيدة كاملة. (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالها إبراهيم من قبل، فصلى الله عليهما وسلم أجمعين. ونحن نقولها، فكل من أصابته مصيبة أو ارتبك في شيء يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، يفوض أمره إلى الله عز وجل، ويوكل الأمر إليه، والله لن يخيبه.قال: [رابعاً: بيان أن الشيطان -عليه لعائن الرحمن- يخوف المؤمنين من أوليائه ]، فلو عزم العرب على أن يضربوا اليهود -هذا من باب المستحيل- لكن من باب الفرض والتقدير أن العرب تحركوا قالوا: إلى متى ونحن أذلاء لليهود؟ والله ليأتي الشيطان بأوليائه من الشرق والغرب ويأخذون في تخويفهم، أنتم كذا، هؤلاء يملكون الهيدروجين، يملكون الذرة، وراءهم أمريكا والعالم حتى يهزمهم، فلو حصل هذا لخوف الشيطان العرب أولياءه من الكفار، انتبهوا ترموا أنفسكم في جحيم؛ لأن الشيطان ماكر، وما زال يخوف أولياءه، أي: يخوف المؤمنين من أوليائه الكافرين الفاسقين حتى لا يقاتلوهم.[ بيان أن الشيطان يخوف المؤمنين من أوليائه -إذاً- فعلى المؤمنين ألا يخافوا غير ربهم ]، فلو خافوا ربهم ما عصوه، ما عطلوا شرعه، وما أوقفوا شرائعه وعطلوها، فأين الخوف من الله؟ قال: [ فعلى المؤمنين ألا يخافوا غير ربهم تعالى في الحياة، فيطيعونه ويعبدونه ويتوكلون عليه، وهو حسبهم ونعم الوكيل لهم ] إي والله! فمن يوقظ المؤمنين ويحرك ضمائرهم، ومن يجمعهم على كلمة الحق؟!جاءني طلاب من الإمارات مساء اليوم وقالوا: ما تقول يا شيخ؟ وهذا يقول كذا؟ قلت: هذا نسميه بأعراض المرض، فالإنسان إذا مرض يظهر المرض في جسمه إما اصفرار في عينيه أو عجز عن النطق، أو فيه ضعف عن الحركة والمشي يدل على مرض، أمة الإسلام مريضة، فلهذا هي دويلات وأحزاب ومنظمات وجماعات تتطاحن فيما بينها البين، في حين أنهم أمة الإسلام فقط، فالمسلم يجب أن يقول: أنا مسلم فقط، لا مالكي ولا زيدي ولا حنفي ولا.. ولا عربي ولا..، لكن مسلم، مرني بأمر الله أطيعه، انهني بنهي الله أنتهي، وقد سبقت طرق صوفية، فالقرية الواحدة فيها عشر طرق، فهذا يقول: أنت من إخوان سيدي فلان، وأنت من إخوان سيدي فلان، فإلى الله الشكوى.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-16, 05:35 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (72)
الحلقة (213)
تفسير سورة آل عمران (75)


ما حدث يوم أحد من إصابة المؤمنين كشف عن أمور خطيرة، حيث ظهر النفاق مكشوفاً لا ستار له، فحصل من ذلك ألم شديد للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، فخاطبهم الله عز وجل بألا يحزنوا لمسارعة هؤلاء المنافقين في الكفر؛ لأنهم بهذا لا يضرون الله عز وجل ولا رسوله ولا المؤمنين شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم بانكشاف حالهم في الدنيا، وما ينتظرهم من العذاب الأليم في الآخرة.
تفسير قوله تعالى: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً ...)
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر جميعاً بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) فالحمد لله على إفضاله وإنعامه.ها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومع هذه الآيات الثلاث المباركات، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:176-178].معاشر المستمعين والمستمعات! هذه أخبار الله عز وجل وأخباره لا تحتمل إلا الصدق.قال تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176] فالمخبر هو الله، والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَلا يَحْزُنْكَ) قراءة سبعية، وقرأ ورش عن نافع : (يُحزنك) بضم الياء من أحزنه يحزنه، وفي كل القرآن اللهم إلا في آية واحدة قرأها كقراءة الجمهور: (يَحزنك) وهي قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُم ُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء:103]، وقرأ في كل القرآن: (يُحزِنك) بدل (يَحزُنك) وهما فعلان أحزنه وحزنه يحزنه، والحزن ألم نفسي، وغم يصيب النفس البشرية؛ لرؤية أو سماع المرء ما يسوءه ويكرهه. فإذا رأى الإنسان ما يكره وما يسوء أصابه الحزن، هم وغم باطن، سمع خبراً فيه إساءة حزن له وأحزنه.وهنا الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه يسلي نبيه صلى الله عليه وسلم ويخفف عنه آلامه، وأصحاب الرسول هم أتباع له في ذلك، ونحن أيضاً وكل مؤمن نستفيد من هذا. وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمران:176] وهم من المشركين كـأبي سفيان وجيشه، ومن المنافقين كـابن أبي ابن سلول وجماعته، وكاليهود المتواجدون في المدينة، الكل يسارعون في الكفر. أي: يا رسولنا! لا يحزنك هذا ولا تكرب ولا تغتم ولا تحزن؛ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:176] أي: لا يضروا الله لا في ذاته، ولا في علمه، ولا في حكمته، ولا في ملكوته، ولا في خلقه، أنى لهم أن يضروا الله؟ فلو يكفرون في كل يوم سبعين مرة ما يضر الله ذلك شيئاً، فمن هنا لا تحزن يا رسولنا ولا تكرب، وأنتم أيها المؤمنون لا يضركم كفر الكافرين ولا مسارعتهم إلى الكفر ولا دعواهم إليه؛ لأنهم لن يضروا الله شيئاً، ولو كفرت البشرية كلها فلن يتأذى الله بذلك. فقد كان ولم يكن شيء معه.وهذا يتسلى به من يكرب ويحزن لما يشاهد الكفر وأهله، ويشاهد الناس يسارعون إلى الكفر، ويجرون وراء الكافرين، ويدعون إلى الكفر، ويهيئون الناس لذلك؛ أهل الإيمان كرسول الله وأصحابه نعم يحزنون، فالله عز وجل يسري عنهم ويخفف وينفس، فيخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم ويقول: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمران:176] ويعلل لذلك بقوله: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:176] أي: من الضر، ومع هذا: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ [آل عمران:176] أي: عرف الله إصرارهم على الكفر، وعرف أزلاً وقديماً أنهم لا يريدون إلا الكفر.فمن هنا يريد الله ألا يجعل لهم نصيباً -وإن قل- في الآخرة، أي: يريد الله أن يحرمهم من نعيم دار السلام، فلهذا تركهم على كفرهم يسارعون فيه، ويدعون إليه في الليل والنهار ويقاتلون من أجله، فيريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الدار الآخرة، وحظ الآخرة هو الجنة دار النعيم، والآخرة يوم تنطوي هذه السماوات والأرضون ويتجلى عالمان آخران علوي وهو الجنة دار السلام، وسفلي وهو النار دار البوار، فإذا الله تعالى لم يرد أن يجعل لهم حظاً في الآخرة، أي: من نعيمها أصبحوا من أهل الجحيم والبوار في النار، وبعد: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176]؛ لأنهم كفروا ويسارعون بين الناس إلى إشاعة الكفر والدعوة إليه، كـابن أبي واليهود والمشركين.فالله تبارك وتعالى يخفف عن نفس رسول الله، وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176]، فلا يقادر قدره. ‏
صور من عذاب الجحيم
ومن صور العذاب العظيم ما يلحق أبا جهل يوم القيامة، فقد كان يجلس في بيته ويوضع بين يديه الزبدة البيضاء وهي زبدة الغنم، وعجوة المدينة وهي من أغلى أنواع التمور، فيأخذ يأكل ويقول لأولاده وفيهم عكرمة رضي الله عنه: تعالوا نتزقم، فهذا الزقوم الذي يهددنا به محمد ويخوفنا، فنزل فيه قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:40-44] أي: المغموس في الآثام من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، لم يقل: آثم، وإنما قال: أثيم. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:45-46]، المهل: وهو الزيت العكر الذي يغلي في آخر القدر. خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ [الدخان:47]، أي: الزبانية. وفي قراءة نافع (خذوه فاعتُلوه) بالضم. والعتل هو الدفع بقوة. إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الدخان:47] أي: إلى وسط الجحيم. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:48-49] أي: زيدوه عذاباً معنوياً ونفسياً، والعذاب المعنوي أشد ألماً على الكفار من العذاب المادي البدني. إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:50]، أي: تشكون وتضطربون. وهذه صورة من صور العذاب العظيم، فقد كان عرض أبي جهل في النار مائة وخمسة وثلاثين كيلو؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما بين كتفي الكافر في النار كما بين مكة وقديد )، والمسافة ما بين مكة وقديد مائة وخمسة وثلاثين كيلو، فهذا العرض، وأما طوله، فإن ضرس أبي جهل في النار كجبل أحد؛ ( إن ضرس الكافر في النار كجبل أحد )، وهذا يتلاءم مع عرضه المائة والخمسة والثلاثين كيلو.وأما العذاب المعنوي، فقد كان أبو جهل يتبجح في مكة ويقول: أنا العزيز الكريم، فقالوها له -أي: الزبانية-: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]؛ ليحرقوا قلبه، فقد كان يتطاول ويتكبر في الدنيا.إذاً: عذاب عظيم يصبون فوق رءوس الكفار الحميم فيصهر به ما في بطونهم.قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، أي: كلما نضجت الجلود تأتي بعدها جلود أخرى، لا فناء ولا موت -نعوذ بالله من عذاب النار-، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخطب في أمته ويقول لهم: ( تعوذوا من عذاب القبر وعذاب النار ).
تفسير قوله تعالى: (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ...)
ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ [آل عمران:177]، أي: اشتروا الكفر: أخذوه وأعطوا الثمن وهو الإيمان، فهؤلاء ارتدوا بعد إيمانهم، كالذين هربوا من المدينة والتحقوا بالكافرين. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ [آل عمران:177]، أي: أعطوا الإيمان وأخذوا الكفر، وهذا بيع وشراء ويفهمه العرب أكثر من غيرهم، كالذي أعطاه الدار وأخذ الدينار، يعني: باعوا إيمانهم بالكفر، واشتروا الكفر بالإيمان والمعنى واحد، وهؤلاء يتواجدون في كل زمان ومكان، فكم وكم ممن ينتسبون إلى الإسلام والإيمان وهم يخرجون أفراداً وجماعات! لا صلاة ولا صيام ولا ذكر الله، فهؤلاء يقول تعالى عنهم: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:177]، فلن يؤلمون الله بكونهم ارتدوا بعد إيمانهم، أو فسقوا بعد طاعتهم، أو فجروا بعد استقامتهم.وأخير ً: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:177] الأليم: المؤلم شديد الألم، والألم أيضاً يشعر به صاحبه ولا يطيقه ولا يقوى حتى على أن يصفه من شدته! وقوله تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176]؛ لأنهم سارعوا إلى الكفر وعجلوا، فعذابهم عظيم ما يقادر قدره، وهؤلاء اشتروا الكفر بعد أن عرفوا الإيمان ودخلوا فيه، ثم وارتدوا، فعذابهم أليم شديد.
تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ...)
قال الله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:178] سواء اليوم أو غداً أو إلى يوم القيامة، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:178] أي: كفروا بالله ولقائه، بالله ورسوله، بالله وكتابه، بالله وشرعه، بالله وصفاته، بالله وحقوقه الواجبة على عبيده، فهؤلاء: لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ [آل عمران:178] ونرخي الزمام، ونطيل العمر، ونوسع العيش، فإذا هم في عيش رغد وحياة سعيدة ينبغي ألا يحسبوا ولا يظنوا أنما هذا الإملاء خير لأنفسهم، فهذا ليس بخير لهم مطلقاً، بل هو شر لهم، وهؤلاء أيضاً علم الله في كتاب المقادير أنهم لا يتوبون ولا يرجعون، فزادهم في الرخاء والنعمة وطول العمر. قال تعالى: لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ [آل عمران:178]، أملى يملي: إذا أرخى الزمام وزاد في الأجل والعمر، إنما نملي لهم؛ لحكمة وهي: لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178]، والإثم: هو المهلك والموبق في أتون الجحيم. أملي لهم من أجل أن يزدادوا إثماً.قال تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، مهين: أشد من الأليم والعظيم، فتكسر أنوفهم ويذلون. ‏
أثر ابن مسعود: (ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له)
وهنا لطيفة قال: شاهده قول ابن مسعود رضي الله عنه - وهو عبد الله بن مسعود الهذلي ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلاه رقيقتان، ضعيف البنية، ولكن يزن الدنيا وما فيها، فوالله! لو وضع في كفة ميزان، ووضعت الصين واليابان وأمريكا والمشركون كلهم لرجحت كفة عبد الله بن مسعود ! يقول: (ما من أحد -صيغة العموم- بر ولا فاجر..) البر: صاحب الصالحات، المغموس في الخيرات، المسابق والمنافس في الصالحات.والفاج : الخارج عن حدود الله عز وجل، يقال: تفجر الأنبوب إذا خرج الماء منه، فالطريق المستقيم الموصل إلى دار السلام الذي سألنا الله، بل علمنا الله أن ندعوه في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، الذي يصل بنا إلى الجنة، فالصراط المستقيم: هذا واجب افعله، وهذا حرام اتركه، ثم امش فيه فقط.فهذه كلمة طيبة قلها تملقاً إلى الله، وهذه كلمة خبيثة اتركها واهجرها تملقاً إلى الله كذلك، فأنت ما بين الأمر والنهي ماش، فإن فجرت -والعياذ بالله- وخرجت، فتركت الواجب وفعلت الحرام فهذا هو الفجور! إذاً: (ما من أحد بر وفاجر إلا والموت خير له)، هذه الصعبة! فمن الآن ما بقي حزن ولا كرب، فإذا جاء ملك الموت زغردنا!قال: إن كان براً -أي: بار-، فقد قال الله تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198] من هذه الدنيا وأوساخها وأموالها وكل ما فيها، فهذا إخبار من الله، وما عند الله من ذلك النعيم المقيم في جواره خير لكل بار، فمن هنا لا ينبغي الخوف من الموت.قال: وإن كان فاجراً، فقد قال الله تعالى: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178] نرخي الزمام ونطيل العمر؛ لأجل أن يزدادوا إثماً فيعظم عذابهم وشقاؤهم الأبدي؛ لأنه لو أخذهم في أول مرة عذابه يكون أهون، فأهل الجنة يتفاوتون في نعيمها، وأهل النار يتفاوتون في عذابها وشقائها، فليسوا في مستوى واحد، وهاهو تعالى يعلل يقول: (إنما نملي لهم) في رغد العيش وطول العمر؛ ليزدادوا إثماً.فاستنبط من هذا البحر العلامة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما من أحد -يعني: من الناس- براً أو فاجر إلا والموت خير له)، فمن هنا المسلمون لا يحزنون ولا يكربون أبداً ولا يخافون من الموت، فقد كان إذا نودي: الله أكبر! حي على الجهاد يفرحون ويستبشرون، فـأبو دجانة كان أشد فرحاً.وعلل فقال: (إن كان براً فالله يقول: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، وإن كان فاجراً، فالله يقول: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178]) لا يموت الآن أفضل؛ حتى يزيد قنطاراً من المعاصي والذنوب.فإذا طابت النفس وطهرت تاقت إلى الملكوت الأعلى، مع أن فتناً كقطع الليل المظلم زاحفة زحفاً! فقد سمعت خبراً أن مجموعة من اللصوص أوقفوا سيارة بها نسوة ومعهن سائق لا سلاح معه، فأوقفوهن وقالوا: اخلعن الحلي التي معكن وإلا الموت، فنزعن الحلي، وقال لهن اللصوص: قولوا للشرطة: هؤلاء سعوديون ما وجدوا عملاً بطالون، فهم يفعلون هذا. فهل هؤلاء مؤمنون دخل الإيمان في قلوبهم؟ وهل عرفوا الله عز وجل، وعرفوا رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وهل عرفوا أن رسول الله كان يشد الحجر على بطنه حتى يتماثل ويمشي من شدة الجوع! ولم يقل لأحد: جعت يا فلان؟! فالذي يفعل هذا الفعل ليس بمؤمن. فلا نلومهم؛ لأنهم ما عرفوا الطريق إلى الله، وما عرفوا الله عز وجل معرفة أثمرت لهم حبه ولا الخوف منه، فيجب علينا أن نعالج الموقف قبل أن يعظم، وندعوهم إلى بيوت الرب لنزكي أنفسهم، ولنعلمهم علماً يزيد في طاقة نورهم، فيعرفون الخير والشر والحق والباطل والفضيلة والرذيلة، أما تركهم كالبهائم فسيسطون علينا ويفعلون العجب.فكل الذي تشكوه أمة الإسلام في الشرق والغرب لمن الجهل، فإن كان ظلماً أو فسقاً أو فجوراً أو مكابرة أو شركاً أو باطلاً فمرده إلى الجهل؛ لقول الله تعالى في محكم كتابه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، أي: إنما يخاف الله من عباده العلماء.فمثلاً نقول: ابحث في قريتكم عن أعلمكم بالله تجده أتقاكم لله، أو ابحث في جماعتك، أو في موكبك، أو في مركز عملك، والله! ستجد أعلمكم بالله أتقاكم له، وأفجركم أجهلكم.فلهذا يجب أن يتعلم المؤمنون والمؤمنات، وطريق التعليم الذي سلكناه منذ خمسين سنة ما نفع؛ لأننا أفسدناه بكلمة الوظيفة، فيأخذ الرجل طفله للمدرسة ولا يقول له: تعلم لتعرف الله، وتعبده فيعزك ويرفعك. ولكن يقول له: تعلم لتكون كذا وكذا. فهل رأيتم رجلاً أخذ طفله للمدرسة، وقال: تعلم لتعرف الله، لتحبه، لتكون من أوليائه؟!وزادوا الطين بلة مع البنات أيضاً، فالبنت أيضاً يقال لها: تعلمي للمستقبل. فهذه فتاة اشتكاها أبوها؛ لأنها عند أمها المطلقة، فدعاني لأتوسط في الخير لتذهب البنت مع أبيها إلى الطائف وهي في المدينة، وفجأة تقول البنت: مستقبلي يا بابا! مستقبلي يا بابا! أي: كيف تمنعني وأنا في المرحلة المتوسطة؟ في طريقي إلى الوظيفة، تمنعني أنت من التعلم؟! قلت لها بإلهام من الله: هذه أمك تسمع -أمها معها- من أمك هذه إلى فاطمة الزهراء أو إلى عائشة أم المؤمنين والله ما توظفت امرأة! وعشن ومتن سعيدات، وأنتِ فقط: مستقبلي يا بابا! إذا ما تعلمت للوظيفة وتوظفت ضاع مستقبلك!!فالذي نفخ هذه الروح الشيطانية المنتنة العفنة هو الثالوث الأسود: اليهود والمجوس والنصارى، فحولوا التعليم إلى مادي بحت، فقلنا: هيا نترك هذا التعليم ونترك طالبيه فليطلبوه للدنيا المحضة، لا يقولوا: الآخرة، بل للدنيا، حولوه إلى مصانع ومزارع و.. و.. وماديات، وحسبنا أن يجتمع أهل الحي في مسجدهم، أهل القرية في قريتهم بنسائهم ورجالهم وأطفالهم من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، وذلك كل ليلة وطول العام، بل وطول العمر يتعلمون الكتاب والحكمة، فإنها لا تمضي سنة إلا وتغيرت طباعهم، وتبدلت نفسياتهم، وأصبحوا ربانيين، فكيف إذا استمر أهل القرية والمدينة على هذا النمط من تلقي الكتاب والحكمة؟ سيصبحون كلهم كالشيخ ابن باز ، فهل سيبقى من يكذب، ويسرق، ويفجر، ويغش ويخدع؟ والله ما يبقى! فلا طريق غير هذا ولا وجود له، إما أن نسلك هذا المسلك، وإلا سوف نستقبل المستقبل بالويلات والمحن والمصائب، فلا طريق أيضاً للنجاة إلا هذا، أن يعرف الناس ربهم معرفة يقينية، توجد لهم حبه تعالى، وما يكره تعالى فيتملقونه بحب ما يحب، وكره ما يكره، فتأتي الولاية وحينئذ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يقول: من هم أولياؤك يا ربنا؟! فأجاب تعالى بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:64].حقق الإيمان وواصل التقوى وأنت ولي الله عز وجل، لا تخف إذا خاف الناس، ولا تحزن إذا حزن الناس، منفي عنك الخوف والحزن في الحياة الدنيا وفي البرزخ وفي يوم القيامة الدار الآخرة.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله ولكم، ورحمنا جميعاً: [معنى الآيات: ما زال السياق في أحداث غزوة أحد، ففي هذه الآيات الثلاث وقد كشفت الأحداث عن أمور خطيرة، حيث ظهر النفاق مكشوفاً لا ستار عليه، وحصل من ذلك ألم شديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. يخاطب الله تعالى رسوله قائلاً له: لا يحزنك مسارعة هؤلاء المنافقين في الكفر، وقال: في الكفر، ولم يقل: إلى الكفر، إشارة إلى أنهم ما خرجوا منه حتى يعودوا إليه -هذه لطيفة لغوية-، وقال: في الكفر، ولم يقل: إلى الكفر إشارة إلى أنهم ما خرجوا منه؛ لأن إسلامهم كان نفاقاً فقط. إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:176]، والله يريد ألا يجعل لهم نصيباً من نعيم الآخرة، فلذا تركهم في كفرهم، كلما خرجوا منه عادوا إليه، وحكم عليهم بالعذاب العظيم، فقال: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176]، وهذا ما تضمنته الآية الأولى.أما الآية الثانية فقد تضمنت حكم الله تعالى على الذين يرتدون بعد إيمانهم فيبيعون الإيمان بالكفر ويشترون الضلالة بالهدى؛ حكم عليهم بأنهم لن يضروا الله شيئاً من الضرر ولهم عذاب أليم، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:177]، والعذاب الأليم هو عذاب النار، إذ لا آلم ولا أشد إيجاعاً منه أبداً.وأما الآية الثالثة فقد تضمنت بطلان حسبان الكافرين أن الله تعالى عندما يمهلهم ويمد في أعمارهم، ولن يعاجلهم بالعذاب أن ذلك خير لهم، لا! بل هو شر لهم، إذ كلما تأخروا يوماً اكتسبوا فيه إثماً، فبقدر ما تطول حياتهم يعظم ذنبهم وتكثر آثامهم، وحينئذ يوبقون ويهلكون هلاكاً لا نظير له، قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، أي: ذو إهانة؛ لأنهم كانوا ذوي كبرٍ وعلوٍ في الأرض وفسادا، فلذا ناسب أن يكون في عذابهم إهانات لهم].
هداية الآيات
قال: [من هداية الآيات: أولاً: لا ينبغي للمؤمن أن يحزنه كفر كافر ولا فسق فاسق]، فلنربي أنفسنا على أن لا يحزننا كفر من يكفر، ولا فسق من يفسق لِم؟قال: [لأن ذلك لا يضر الله شيئاً، وسيجزي الله الكافرين والفاسقين بعدله ورحمته].إذاً: ادع إلى الله، وإن أبى الناس إلا الفسق والكفر فشأنهم، لا تحزن أنت أبداً، فلن يضروا الله شيئاً، وهمك أنت مولاك جل جلاله.[ثانياً: لا ينبغي للعبد أن يغره إمهال الله له، وعليه أن يبادر بالتوبة من كل ذنب، إذ ليس هناك إهمال، وإنما هو إمهال].فيا من زال جاثماً على كثير من كبائر الذنوب عجل، ولا تغتر بهذا الإمهال، فإنه إمهال وليس إهمالاً: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178].[ثالثاً: الموت للعبد خير من الحياة..]، سبحان الله! قال ابن مسعود : (ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له، إن كان براً فالله يقول: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، وإن كان فاجراً فالله يقول: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178]).إذاً: [الموت للعبد خير من الحياة براً كان أو فاجراًً؛ لأنه إذا كان صالحاً فالآخرة خير له من الدنيا قطعاً، وإن كان غير ذلك حتى لا يزداد إثماً فيوبق بكثرة ذنوبه ويهلك].هذا والله تعالى أسأل أن يجعلنا وإياكم ممن يحبون الدار الآخرة ويرغبون فيها، ويكرهون الدنيا ولا يحبونها.

ابو وليد البحيرى
2019-04-16, 05:39 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (73)
الحلقة (214)
تفسير سورة آل عمران (76)


إن الإيمان ليس كلمة مجردة يتلفظ بها الإنسان والله عز وجل من سنته في عباده أن يمحصهم بالأوامر والتكاليف والمصائب والحروب، حتى يتميز المؤمنون الصادقون عن المنافقين الكاذبين، ومن أبواب الاختبار والابتلاء التي يتعرض لها العباد ما يأمرهم الله عز وجل به من بذل المال من زكوات ونفقات وصدقات وغير ذلك، فالمؤمن الصادق يعلم أن المال مال الله وهو مستخلف فيه، فينفق المال طيبة به نفسه، وأما المنافق فيعتقد أن المال ماله فيبخل به ظناً منه أن الخير له في حفظ ماله، ولا يعلم أنه شر محظ يطوق به يوم القيامة جزاء وفاقاً.
بدعة الاحتفال بذكرى المولد النبوي
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب ربنا عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).الحمد لله على توفيقه وإفضاله وإنعامه. معاشر المؤمنين والمؤمنات! بين يدي الدرس، أسر إلي هذا الطالب اللبيب، وقال: إن الليلة ليلة المولد، فنريد كلمة قبل الدرس، فأجبته: بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.وبعد: فالليلة ليلة الثاني عشر من ربيع الأول، وهي الثلاثاء، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد يوم الإثنين، والشهور تزيد وتنقص، فهيا نحتفل بذكرى الحبيب صلى الله عليه وسلم. فيا أبنائي! يا إخوة الإسلام! يا مؤمنات! فوالله الذي لا إله غيره ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً نحتفل به في ذكراه! فهل نكذب على رسول الله؟ ونبتكر ونخترع عبادات وألوان من الطاعات؟ أعوذ بالله أن نقع في هذه الورطة! فلو نصمت دهراً طويلاً هل يقوم من يقول: افعلوا كذا وكذا؟ آالله أمر به؟ هل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم علمنا ذلك وأرشدنا إليه، ورغبنا فيه وحبذه إلينا؛ فننهض به ولو ننفق ما في جيوبنا؟ الجواب: والله! الذي لا إله غيره ما ترك لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيئاً، ولا ترك أصحابه ولا أولادهم ولا أحفادهم، ولا أئمة الإسلام الأربعة، ولا من بعدهم، ولا عرفوا شيئاً اسمه احتفال بالمولد النبوي.فهل نكذب ونبتدع؟! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، فهل يجوز لنا أن نقول: من أجلك يا رسول الله ابتدعنا بدعة؟! وهل عندنا وجه نواجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام؟! ولو انفتح باب الابتداع؛ لأصبحت نسبة الدين السليم الصحيح (1%) فكل عالم وكل مفكر وكل غني وكل ذي رغبة يبتدع، فأين الإسلام حينئذ، وبم يعبد الله؟! بم تزكى النفوس وتطهر من أجل النجاة من النار؟ معاشر المستمعين والمستمعات! غداً المولد النبوي، فماذا نصنع؟ وكم شاة نذبح؟! أو نذبح الدجاج؟! وإذا ذبحنا فلمن نقدم هذا الطعام؟! وكم ركعة نصلي؟! ننشد قصائد ما هي؟ فما الذي نفعل؟! الجواب: والله ما عندنا شيء، ما علينا إلا أن نذكره صلى الله عليه وسلم في كل أوقاتنا. وعورة أخرى نزيح الستار عنها من باب التعليم..فالذكري ات لا تكون إلا لأناس يموتون ولا يذكرون، ولهم فضائل ولهم كرامات، فلكي لا ينسوا من بين شعبهم أو أمتهم أو إخوانهم يقيمون له ذكرى سنوية! حتى يذكروه بخير، أما حبيبنا صلى الله عليه وسلم -نعوذ بالله أن ننساه سنة كاملة-، ونحن نسمع المؤذنون خمس مرات على المنارات: أشهد أن محمداً رسول الله، الإنس والجن والحيوان والكل يسمعون ويفهمون هذا.فلا نصلي ركعتين ولا العشرات من الركعات إلا ونسلم عليه وجهاً لوجه! بعدما نعظم الله بالتحيات اللائقة به، ونحن جالسون بين يديه تعالى نقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات، ثم نقول: السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، فهل ننسى هذا الذي نسلم عليه في كل يوم عشرات المرات؛ لتقام له ذكرى؟! آه! ماذا فعل بنا الثالوث.. فبدعة الاحتفال بالمولد النبوي عرفت في القرن الرابع، فقد مضت ثلاثة قرون ذهبية ليس فيها شيء اسمه مولد، ولما هبطنا حيث أبعدونا عن القرآن والسنة أوجدنا ذكرى المولد ائتساء بذكرى النصارى لعيسى عليه السلام، فهل نقتدي باليهود والنصارى أم نقتدي برسول الله؟! فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقم ذكرى لإبراهيم الخليل، ولا لإسماعيل، ولا لموسى الكليم، ولا لعيسى عليهم السلام. فما معنى ذكرى المولد؟! الجواب: إني أحمد الله على أن الله علمنا قبل أن نقع في هذه البدعة، وتركناها وابتعدنا عنها، فثلاثة أرباع الذين كانوا يساهمون في هذه البدعة قد انتهوا، وبقيت جماعات قليلة، نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم.فإن عدم الاحتفال بالمولد رسمياً أو غير رسمياً لن يضرنا في ديننا شيئاً، بل يرفعنا ويزيد في إيماننا -إن شاء الله-؛ لأننا تنزهنا عن البدع والضلالات.فما جعل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عيدين: عيد رمضان وعيد الأضحى، وعلمنا ماذا نقول، وماذا نفعل وكيف نصلي، ومن في نفسه شيء وما اطمأن يسأل أهل العلم، لكن لا يسأل الذين تعودوا على هذه البدعة، وأصبحوا يدعون إليها، ويحضون عليها! يسأل أهل العلم البصراء العارفين بالكتاب والسنة.
تفسير قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ...)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:179-180].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اسمعوا هذا الخبر الإلهي، يقول تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ [آل عمران:179] ليس من شأنه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [آل عمران:179] أي: بدون امتحان، ولا اختبار ولا حرب ولا سلم ولا تكليف، ما كان من شأنه أن يفعل هذا حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179].فقد قرئ: (يميِّز) قراءة حمزة، ويمِيز، مازه يميزه إذا ميزه واشتهر به. فليس من شأن الله -وهو العليم الحكيم- أن يترك المؤمنين يدعون الإيمان على ما هم عليه بدون امتحان واختبار؛ يميِّز به الخبيث من الطيب والكافر من المنافق، والصالح من الطالح.وهذا كمسح دموع المؤمنين في غزوة أحد -وهي آخر أحداثها-، فذكر الله تعالى لهم السبب الذي من أجله أوجد هذه الحرب ودارت، وحدث الذي حدث؛ وذلك من أجل أن يميز الله الخبيث من الطيب، ففي الطريق رجع ثلاثمائة نفر، فلو ما كانت هذه الوقعة لما تميز المنافق من المؤمن، فالمنافقون يقولون: أنهم مؤمنون، ويتبجحون ويقولون: نحن أفضل منكم. فالذين انهزموا وهربوا شاردين، كيف يظهر ذلك فيهم لولا وجود هذه المعركة والهزيمة؟! ‏
حكمة إظهار المؤمن الصادق من الكاذب
قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [آل عمران:179] أيها الأصحاب! حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179].وهذا عام، واقرءوا له: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2]، وهذا الحسبان باطل، فلو كان العبد ما يفتن في الإيمان ما اختبره الله عز وجل وابتلاه، ولا يملك هذا الاختبار والابتلاء إلا الجبار عز وجل.فهذا يبتليه بالفقر وفجأة يفقد كل شيء، ينظر: هل كان مؤمناً وبقي على إيمانه أم أصبح يسرق ويفجر؟! وهذا كان عزيزاً فيذله امتحاناً له، هل سيصبر ويرجع إلى الله ويثبت على قرع بابه أو ينتكس، وهذا الفقير يصب عليه المال، فينظر: هل سيصبح يشيش ويتبجح بالباطل أم سيأكل كما يأكل المؤمنون؟! وهكذا لا بد من الاختبار، وإلا كل سيقول: أنا مؤمن.
الحكمة من استئثار الله عز وجل واختصاصه بعلم الغيب دون خلقه
قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179]، فالله عز وجل أوجد وقعة أحد قبل أن يوجد العالم بكل خيوطها ونسيجها، وعلم ذلك وكتبه، لكن لم يطلع عليه أحد؛ لأنه للامتحان والاختبار. فقوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ [آل عمران:179] أي: ليس من شأنه جل جلاله أن يطلع أحداً من خلقه على الغيب، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:179] أي: يختار من يشاء ويخبره بالغيب ويطلعه عليه. فمن ادعى علم الغيب من غير الرسل فقد كفر، ووجب قتله بعد أن يستتاب ثلاثة أيام، فادعاء علم الغيب كفر بالله عز وجل؛ لأنه كذب الله عز وجل أبشع تكذيب.ولطيفة أخرى: إذا كان مولاك يخفي أموراً لصالح حياتك أيجوز لك أن تفتش عنها وتظهرها؟ فالله سبحانه وتعالى يخفي هذا لأجل أن تنتظم الحياة وتسير إلى نهايتها، وأنت تريد أن تطلع عليها؛ لتقف الحياة وما فيها؟! فلهذا كل من يدعي الغيب يلعن، ويدعى إلى المحكمة ويستتاب، فإن لم يتب يقتل ويموت على الكفر.والرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يطلعه الله على غيب فلن يعلمه؛ إذ قال: وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188] وهذا رسول الله. قال له: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188]، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بهذه الحادثة لما كسرت رباعيته وشج وجهه، ولم يقتل عمه حمزة . قال: وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]، ومع هذا عاشت أمة الإسلام قرون، وادعاء علم الغيب عجب عجاب، فالعجوز العمياء تدعي الغيب وتأخذ المال، والجاهل المركب بجهله يربط بين عودين أو خشبتين ويدعي الغيب، فيأخذ بمسمار ويفعل كذا، فلا إله إلا الله! كأننا لسنا بالمسلمين. وما كان هذا إلا بمؤامرة الثالوث الأسود، وما يبرح يحتال حتى يسوي بيننا وبينه إلى جهنم، ثم يزغردون ويولولون، أما أن يبقى المسلمين مرتفعين وأملهم في دار السلام أقوى فلا يريدون؛ فلهذا ينشرون الخبث بوسائط عجيبة، ويعملون ليلاً ونهاراً على نشره.
ثمن الجنة الإيمان والتقوى
إذاً: قوله تعالى مخاطباً المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179]، ولم يقل: ورسوله فقط؛ لأن الإيمان بالرسول فقط لا ينفع؛ ينفع الإيمان برسل الله عز وجل أجمعين، من لم يؤمن برسول فقط من مائة وأربعة وعشرين ألف نبي فليس بمؤمن، فقد كفر اليهود؛ لأنهم كذبوا بعيسى، وكفر النصارى؛ لأنهم كذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع أن اليهود آمنوا بكل الرسل إلا عيسى، والنصارى آمنوا بموسى وهارون وزكريا وعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179] ثم قال تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:179] فمجرد إيمان لا يكفي، وهذه آية تحقيق الولاية.فمن يريد أن يكون كـعبد القادر الجيلاني ؟! وكمولاي إدريس في المغرب؟! كـالعيدروس في حضرموت؟! لا نريد الولاية. إذاً: لا يوجد من هو طلق: ليس ولياً لله ولا ولياً للشيطان، فإما أن تكون ولياً لله أو أنت ولي للشيطان، فمن يقول: ما أنا بولي لله ولا للشيطان، فلا يعقل، إما أن توالي الله بالإيمان والتقوى، وإما أن توالي الشيطان بالكفر والطغيان والعصيان.لعل بعض -السامعين- ما زالوا يفهمون أن الولي ذاك الذي يظهر الله على يديه الكرامات، فإذا السماء صحو يرفع يديه: أمطري يا سماء! دقائق والأودية تسيل! وما زالوا أيضاً يفهمون أن الولي ذاك الذي يقول: العام الآتي ستلد امرأتك ولد وسمه باسمه! فهل أصحاب الكرامات هم الأولياء؟!فلا ولي ما زال حياً إلا إذا كان دجالاً يدعي الغيب ويكذب! أما ولياً بمعنى الكلمة لا يذكر إلا إذا كان ميتاً.وأكرر القول: فمن يذهب إلى كراتشي ويجيد لغة الكراتشيين، ويلتقي بأول من يلتقي به عنده نزوله من المطار يقول: أنا جئت من بلادنا لأزور ولياً من أولياء كراتشي، فوالله ما يأخذ بيده إلا إلى قبر، ولا يفهم أن كراتشي ذات المليون نسمة بينهم ولي في السوق ولا في المسجد!فمن قال: أولئك عجم، فهناك مثلاً في القاهرة، بلاد الأزهر والعلوم والمعارف، زر قرية من القرى، وقل: أنا قدمت إلى دياركم لأزور وأتبرك بولي من أولياء الله عندكم، فلن يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن القاهرة المعزية فيها ولي يبيع ويشتري! أو هو في السوق أو المسجد. وقل هذا حيث شئت، ولكن فقط الذين شهدوا هذه الدروس عرفوا، لو تلقى واحداً منهم والله ما يدلك على قبر. لطيفة: ما السر في أن أعداء الإسلام حصروا الولاية فقط في من مات؟ الجواب: السر أنهم فصلونا عن ولاية الله؛ ليزنوا بنسائنا وبناتنا؛ ليسلبوا ويسرقوا أموالنا؛ لينهشوا ويهتكوا أعراضنا؛ ليتكبروا علينا؛ ليحسدونا؛ ليشيع الظلم والخبث والشر بين المسلمين، وقد فعلوا ونجحوا.معشر المستمعين! فهذه بربرية، فالولي عندنا أيام الظلمة! والولي ما تستطيع أن تقول فيه كلمة، فلو تسب ولياً كفرت! من يستطيع أن يقول: سيدي عبد القادر كذا؟! تقديساً أكثر من تقديس الله! ينقلون المرضى إلى أضرحتهم، يعفرون وجوههم بترابهم، ويرحلون إليهم من المغرب إلى بغداد؛ لأجل زيارة الولي عبد القادر ، وينذرون لهم النذور، فهذه الشاة لسيدي عبد القادر ، تأليه كامل!! كيف تورطوا في هذه؟العدو الثالوث هو الذي حصر الولاية في من مات! والأحياء كلهم أعداء الله، افجر بنسائهم، كل أموالهم، سب اشتم -لعلي واهم- والله مجالس يجلسون يسبون ويشتمون ويعيرون: فلان وفلان، ما تركوا عالماً ولا حاكم ولا عبد صالح، موجة عارمة؛ لأنهم غير أولياء الله!فولي الله من يقوى على أن يمسه بسوء؟ والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، والحديث في صحيح البخاري، ( من آذى لي ولياً فقد آذنته ) أي: أعلنت الحرب عليه، عرف هذا أجدادنا وأسلافنا ولكن ما عرفوا من هو الولي؟الولي الذي قالوا: هذا ولي الله! وعبدوه، أما ولي في السوق يبيع ويشتري، في المزرعة يفلح ويزرع فليس هذا بولي!وقد قلت تقريراً لهذه الحقيقة: كنت جالساً مع شيوخ وأنا طفل صغير، تحدثوا. قالوا: فلان إذا زنى وعليه جنابة الزنا لا يمر بالشارع الفلاني حتى لا يمر بسيدي فلان! والله العظيم! يفجر بامرأة مؤمن، يفسد عرضه وحياته يلطخها، ولا يخاف الله عز وجل، ويخاف أن يمر بجنابته على ضريح وقبر سيدي فلان! فهذا هو الجهل المركب، وهذا هو الجهل الذي بذر بذرته الثالوث يوم أن صرفونا عن كتاب الله، وحولوه إلى المقابر.. صرفونا عن الحديث وحولوه إلى التبرك.. عمَّ الظلام وهبطت الأمة، واستعمرت واستغلت وتجاهلت ودخلت في البلاء وإلى الآن ترزح.
وجوب العودة إلى الكتاب والسنة لمحاربة الجهل
فما الحيلة إذاً لإنقاذ أمة الإسلام، فالجهاد كلمة باطلة مسمومة عبث، كيف تجاهد؟! بمن تجاهد؟! فهذا لا ينفع، فماذا نصنع؟الجواب: نسلم لربنا قلوبنا ووجوهنا. ما تستطيع. إذاً: كيف تجاهد؟! هيا نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، كيف نسلم قلوبنا ووجوهنا؟! هل نعطي الله وجوهنا وقلوبنا؟! نعم، فقلبك لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، ووجهك لا تقبل به على أحد، تسأل ولا تطلب ولا تأمل ولا ترجو إلا الله. والطريق سوف تموت هذه الدعوة، فلن ننساها ما دمنا نتكلم، وإني والله! لعلى علم، إن أراد المسلمون في أي مكان كانوا، سواء كانوا عرباً أو عجماً .. في الحضر أو في البدو.. إذا هم قالوا: هيا نسلم لله قلوبنا ووجوهنا، ثم إذا دقت الساعة السادسة مساء، عندما يقف العمل في العالم يتوضئون ويتطهرون، ويحملون أطفالهم ونساءهم إلى بيت ربهم، إلى المسجد الجامع الذي يتسع لكل أفراد الحي أو القرية، ولا يتخلف إلا مريض أو ممرض، أما الخوف قلا خوف، يحضرون حضورنا هذا، ويصلون المغرب، ثم يجلس لهم العالم بالله ومحابه ومساخطه، ليلة آية يتغنون بها ويحفظونها، ويفهمون مراد الله منها، ويعزمون على تطبيق ما أمروا به ودعوا إليه، ويعودون في قناعة وبنفوس مطمئنة هادئة، لا شرس ولا طمع ولا.. ولا.. قانعين يرددون تلك الآية، ويذكرون تلك الأحكام، وكلهم عزم على تطبيقها، ويرى الرجل امرأته تطبقها، وترى المرأة رجلها يطبقها.. وهكذا. غداً حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الكتاب والحكمة، وهكذا ليلة آية وأخرى حديث طول العام، فسيصبح أهل القرية علماء، وإذا علموا فلن يعصون الله، فهل رأيتم عالماً يفجر ويسرق ويكذب؟ فكل المنكر والباطل من الجهل والجهال، وحينئذ تصبح تلك البلاد كلها لله تعالى أولياء، وحينئذٍ إذا أرادوا أن يجاهدوا كلهم مستعدون، فهذا هو الطريق، ولو كان هناك طريق يأخذ بأمة الإسلام إلى أن تعود إلى قيادتها وسيادتها وطهارتها وكمالها فوالله! ما نجحده ولو تقطع رقابنا! ولكن لا وجود إلا هذا، فهذا امتحان كما جاء في الآية، (ليميِّز): هل نحن حقاً مسلمون أم لا؟ فكيف نعجز إذاً على أن نجتمع في بيت ربنا، ونبكي بين يديه طول العام؟ ومن قال: نعطل أعمالنا ونوقف متاجرنا ومقاهينا؟ قلنا له: هؤلاء الكفار إذا دقت الساعة السادسة في أوروبا أو في أمريكا أو في الصين يقف العمل، اقتدوا بالكفار! أو نحن ما نستطيع؟ لأن الشياطين لا تريد أن نسمو أو نرتفع أو نعلو، تريد أن نبقى مكبلين مقيدين.
شرطي تحقيق الولاية
قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]، فهذا الأجر العظيم لا يقدر قدره.أولاً: الطهر والصفاء والكمال والراحة والسعادة في الدنيا.وشيء آخر أعظم: جوار الله في الملكوت الأعلى، والخلد في دار السلام، وهذا الأجر العظيم، وهذا الجزاء مقابل إيمان وتقوى! أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63].فالذي لا يعرف محاب الله ولا مساخطه فلا يستطيع أن يتقي الله، ولا يعرف ما يحب الله من الاعتقاد والقول والعمل والصفة والذات لا يستطيع أيضاً أن يتقي الله، وكيف يتقيه وهو ما يعرف فيما يتقيه؟ فمستحيل أن يزني الزاني وهو يعرف الله رسوله ويعرف كيف يعبده. أدركنا رجل من أهل المدينة يبول في ثيابه في باب الرحمة، سيدي كامل، ويتمسحون به، هذا ولي الله، أعوذ بالله! الذي يبول على ثيابه ولا يصلي ولا يصوم فهل هذا ولي الله؟! ويدخن أيضاً ويعلمهم التدخين للبركة!فولاية الله تتحقق بشيئين اثنين لا ثالث لهما:أولهما: الإيمان الصحيح الذي إن عرضته على القرآن وقع عليه، أو أتيت عالماً بالقرآن قلت له: أعرض عليك إيماني هل صحيح أم لا؟ يقول: نعم، أنت المؤمن، لا دعوى: أنا مؤمن.ثانياً: التقوى، وهي خوف من الله يحملك على ألا تعصيه، لا بترك واجب ولا بفعل حرام، ولا يمكنك أن تعرف الواجبات وكيف تؤديها في أوقاتها وكمياتها وكيفياتها، وتعرف المحرمات وكيف تتقيها وأنت لا تعلم، فهذا مستحيل! فلهذا لن يكون جاهل ولياً لله مطلقاً.ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علمه، وهذه كلمة سليمة، يعني: إذا أرادك ولياً يعلمك بجعلك تبحث وتسأل العلماء وتحفظ ما تسمع وتطبق ما تتعلم؛ حتى تبلغ درجة الولاية. أما جاهل لا يعرف كيف يتبول ولا يعرف كيف يتنزه من البول فهل هو ولي الله؟! فإلى العلم.. مشغولون ما عندنا.. فهذا الاعتذار باطل، فقط من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء في مسجد الحي، فالكل يسكنون في أحياء، يتفقوا أهل الحي على أن يجلسوا بنسائهم وأطفالهم في جامعهم كل ليلة، ويطلبوا ويبحثوا عن عالماً ويأتوا به ويتعلمون منه، فلا يكلف هذا الارتحال والسفر، ولا يكلف أيضاً القراءة والكتابة.
تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله خيراً لهم ...)
ثم قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران:180] أي: من المال، وهذه الآية في الجهاد، والجهاد بالمال أولاً والنفس: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [التوبة:41].قال تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10] ما هي؟ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11].فقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ [آل عمران:180] أي: يظنن الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [آل عمران:180] ويمنعون الحقوق الواجبة في أموالهم من الزكاة والنفقات والصدقات أن هذا البخل خَيْرًا لَهُمْ [آل عمران:180]، لا والله! بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180]، أخبر بهذا الله العليم الحكيم، بل هو شر لهم وليس بخير؛ لأن المال يورث الطغيان، فإذا ما سلكت مسلك الرشد معه أطغاك، فكثير من الأغنياء لا يزكون، فقد كانوا يزكون أيام ما كانوا فقراء، عندما كانت الزكاة مائة ريال أو ألف ريال، فلما أصبحت زكاتهم مليوناً بخلوا ولم يزكوا. ‏
البخل بالمال شر ووبال على صاحبه
قال تعالى: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180] انظر. فقال: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180] والطوق يضع في العنق وهنا الطوق من جهنم، فالأموال تجمع وتلصق في العنق طوقاً، وأعظم من هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه -يعني: شدقيه-، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، أنا مالك، أنا كنزك، وقرأ صلى الله عليه وسلم: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180] ). وآية التوبة: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34] متى؟ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة:35] ويقولون لهم: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35].فلهذا القرية أو المدينة التي صلحت ما بقي فيها من يمنع الزكاة ويمنع الصدقة، لكن قبل الإسلام، وقبل ما القلب والوجه لله، وقبل الولاية والعلم لا يستطيعون، وما يقدرون، فسبحان الله العظيم! وأخيراً يقول تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:180] فلما لم تنفق يا عبد الله! هل هذا المال سيبقى لك إلى يوم القيامة؟! سيرثك الله، فالله يورث امرأتك وابنك، ويرث الكل.إذاً: فمن الخير ألا تمنع ما أوجب عليك، أده وأنت مرتاح النفس، وكانوا يجاهدون بالمال، والآن -الحمد لله- المال لا تحتاج إليه الحكومة، لكن لو شاء الله وقالوا: نريد أن نغزو العدو الفلاني! فهنا يمتحن المؤمنون بالمال. فهذا يخرج بنصف ماله، وهذا بربعه، وهذا يقول: ما عندنا، وهذه محنة لا بد منها؛ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ [الأنفال:37].قال تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180] أي: بأمورنا الظاهرة والباطنة كلها بين يدي الله، فهو خالقها وكاتبها في كتاب المقادير! وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-16, 05:43 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (74)
الحلقة (215)
تفسير سورة آل عمران (77)



الإيمان بالله عز وجل وتصديق رسوله هو سبيل العبد لدخول الجنة والفوز بالنعيم المقيم، وهذا الإيمان لا يكفي فيه النطق باللسان وإنما لابد من الإتيان بالدليل على صدقه واليقين به، وذلك بالصبر على البلاء، ومقاتلة الأعداء، والإنفاق في سبيل الله في السراء والضراء، فمن فعل ذلك فقد أثبت صدق إيمانه، واستحقاقه لعفو ربه ورضوانه، والفوز بنعيمه وجناته.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).وها نحن ما زلنا مع الآيتين الكريمتين واللتين شرعنا في تفسيرهما الليلة الماضية، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:179-180].
شرح الكلمات
مفردات هاتين الآيتين الكريمتين كما في التفسير. قال:[ شرح الكلمات. (ليذر) معناه: ليترك.(يمِيز) قال: بمعنى: يميِّز ويبين الفرق بين الشيء والآخر.(الخبيث من الناس): من خبثت نفسه بالشرك والمعاصي، وخبثت ضد طابت وطهرت.(الطيب من الناس): من طهرت نفسه بالإيمان والعمل الصالح].إذاً: النفس تخبث بالشرك والمعاصي، وتطيب وتطهر بالإيمان والعمل الصالح.[(الغيب): ما غاب فلم يدرك بالحواس، لا بالسمع ولا بالبصر ولا بغيرهما، ذاك هو الغيب ما غاب عنك فلم تدركه بحواسك. (يجتبي) أي: يختار ويصطفي وينتقي.(يبخلون) معناها: يمنعون ويظنون. والمنع والظن هو البخل.(يطوقون) أي: يجعل طوقاً في عنق أحدهم]. هذه هي المفردات.
معنى الآيات
وأما معنى الآيتين الكريمتين كما هما في الشرح المبين.قال: [ معنى الآيات: ما زال السياق في أحداث وقعة أحد -الوقعة والواقعة بمعنى واحد- وما لازمها -أي: تلك الواقعة- من ظروف وأحوال مرت بنا وعايشناها.فأخبر تعالى في هذه الآية الأولى أنه ليس من شأنه تعالى أن يترك المؤمنين على ما هم عليه، ففيهم المؤمن الصادق في إيمانه، وفيهم الكاذب فيه وهو المنافق، -المجتمع كان خليطاً في أيام الهجرة إلى المدينة- بل لا بد من الابتلاء والاختبار والامتحان بالتكاليف الشاقة، ومنها الجهاد والهجرة والصلاة والزكاة]، وهذه التكاليف فيها مشقة، ومشقة الجهاد واضحة، ومشقة الحج والهجرة أيضاً واضحة، ومشقة الصلاة في المحافظة على أوقاتها بتلك الدقة أيضاً مشقة.[وغير الشاقة من سائر العبادات حتى يميِّز المؤمن الصادق وهو الطيب الروح من المؤمن الكاذب، وهو المنافق الخبيث الروح].قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] وقد فعل. وأحداث وقعة أحد هي التي بينت. قال: [وذلك أن الله لم يكن من سنته في خلقه أن يطلعهم على الغيب، فيميِّز المؤمن من المنافق والبار من الفاجر، وإنما يبتلي بالتكاليف ويظهر بها المؤمن من الكافر، والصالح من الفاسد، أو ويظهر هو تعالى بها المؤمن من الكافر والصالح من الفاسد.إلا أنه تعالى قد يجتبي من رسله من يشاء، فيطلعه على الغيب، ويظهره على مواطن الأمور، وبناء على هذا: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179] حق الإيمان، فإنكم إذا آمنتم صادق الإيمان واتقيتم معاصي الرحمن كان لكم بذلك أعظم الأجر وهو الجنة دار الخلود، دار الحبور والسرور]، وهذا ما دلت عليه الآية الأولى [أما الآية الثانية فإن الله تعالى يخبر عن خطأ البخلاء الذين يملكون المال ويبخلون به، فيقول: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ [آل عمران:180] من المال الذي تفضل الله به عليهم أن بخلهم به خير لأنفسهم كما يظنون، بل هو -أي: البخل- شر لهم؛ وذلك لسببين: الأول: ما يلحقهم في الدنيا من معرة البخل، وآثاره السيئة على النفس.والثاني: أن الله تعالى سيعذبهم به، بحيث يجعله طوقاً من نار في أعناقهم، أو بصورة ثعبان فيطوقهم، ويقول لصاحبه: أنا مالك، أنا كنزك، أنا مالك، أنا كنزك -كما جاء في الحديث-؛ فعلى من يظن هذا الظن الباطل أن يعدل عنه، ويعلم أن الخير في الإنفاق لا في البخل، وأن ما يبخل به هو مال الله وسيرثه ويورثه غيره، ولم يجن البخلاء إلا المعرة في الدنيا والعذاب في الآخرة.قال تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]. إذاً: فاتقوه فيما آتاكم فآتوا زكاته وتطوعوا بالفضل الزائد؛ فإن ذلك خير لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون]. وهذا معنى الآيتين الكريمتين. وقبل بيان هداية الآيات، نتأمل قوله تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] وهو حق وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179] حتى تعرفوا المؤمن من المنافق، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:179] ويطلع من أراد منهم على غيب يعلمه، أما غير الرسل فلا حظ لهم في هذا الاختيار. والخلاصة: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179].ثانياً: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]، أي: الجنة دار الحبور والسرور.. اللهم اجعلنا من أهلها. وقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180]، وبين تعالى قال: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180].
هداية الآيات
وهاتان الآيتان الكريمتان تحملان هدايات ربانية.. اللهم عرفنا بها واجعلنا من المهتدين بها: قال: [من هداية الآيات: أولاً: من حكم التكليف إظهار المؤمن الصادق من المؤمن الكاذب]، فالتكليف له حكم وليست حكمة واحدة، لكن من حكمه أن يظهر المؤمن بحق والمؤمن المزيف الكاذب. فلولا التكليف الجزئي بفرضية الصلاة خمسة أوقات في أربع وعشرين ساعة وأن من تركها فقد كفر، ما عرفنا البار من الفاجر، والتقي من الآثم، وما عرفنا المؤمن من الكافر؛ لذلك فرض الله تعالى الصلاة ليميز المؤمن من الكافر.ولولا أن الله أيضاً فرض الزكاة، وفرض النفقات في أوقاتها ما عرفنا المبذال المنفاق المتصدق من البخيل، فلابد وأن يتميز البخيل من المنفق السخي. إذاً: من حكم التكليف الذي هو عبادة ألزمنا الله بها سواء بفعل ما نفعل أو بترك ما نترك. [ثانياً: استئثار الرب تعالى -أي: اختصاصه دون غيره- بعلم الغيب دون خلقه -اللهم- إلا ما يطلع عليه رسله لحكمة اقتضت ذلك].فالذي استأثر بالغيب واختص به هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، أما قال تعالى وقوله الحق: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179]، فليس من شأنه عز وجل أن يطلع أحداً من خلقه على الغيب إلا من يشاء، ولهذا -بالأمس- قررنا أن الذي يدعي علم الغيب كافر وطاغوت، ويجب قتله بعد استتابته ثلاثة أيام بإجماع الأمة.لطيفة: فلو كنت -يا عبد الله- اطلعت على غيب لاستحيت أن تطلع الناس عليه؛ لأن الله ستره وغطاه ولن يطلع عليه غيره؛ لتنتظم الحياة وتواصل مسيرتها إلى نهايتها، فلو كنا نطلع على الغيب لوقفت الحياة.فمثلاً: لو علموا الذين عزموا الليلة على السفر -وهم أكثر من مليوني شخص- أنه سيصيبهم مكروه لألغوا السفر. مثلاً: إن كان أباك أو أخاك أو محبك يكتم عنك شيئاً ويخفيه وفيه خيرٌ لك ولا يطلعك عليه، ستساعده على ستر ذلك وتغطيته إن كنت الرشيد الحكيم. وقد ادعى الغيب أناس.. وما زال هناك رجالاً ونساء بمئات الآلاف في العالم الإسلامي يدعون الغيب، ويأتون الناس إليهم ويقدمون لهم المال؛ ليطلعوهم على كذا وكذا، والسبب أنهم جهلة عاشوا في الظلام وماتوا فيه.[ثالثاً: ثمن الجنة] فيا من يريد أن يشتري داراً في الجنة! ويا من يرغب في بستان في الجنة! ويا من يرغب في دار في الملكوت الأعلى! أقبل على الله. إذاً: ثمن الجنة هو الإيمان وتقوى الرحمن؛ لقوله تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]، أي: هذا الأجر العظيم يكون في الملكوت الأعلى وهو الجنة دار السلام. إذاً: لطيفة أخرى: إن لم تكن ولياً لله فأنت ولي للشيطان عدو الله، فليس هناك وسط بين ذلك، فلا تقل: لست بولي الله ولا بولي الشيطان. فمستحيل هذا، إما أن توالي الله أو توالي الشيطان. يعني: إما أن تطيع الله فأنت وليه أو تطيع الشيطان فأنت وليه، فالشيطان يأمر وينهى، فمن استجاب له فهو وليه. فيا من يرغب في أن يصبح ولياً لله! آمن واتقي.. آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما يتم فيه، والقضاء والقدر وما يجري فيه، وبكل ما أمرك الله ورسوله أن تؤمن به. وهذا الإيمان وهو الثمن الأول للجنة. قال: [التقوى وهي أن تتعلم ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات والذوات، وتحب ما يحب وتفعله لله خالصاً، وتعرف ما يبغض الله ما يكره الله من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات والذوات وتكرهها وتتركها]، وهذا يعطيك صك بأنك ولي الله، وإذا شككت ارفع يديك في حاجة من حاجاتك واسأله قضاءها، تقضى بين يديك بإذن الله. والآية دلت على هذا: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:179]، والجنة يدخلها أولياء الرحمن.وقوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يسأل يقول: يا ربِّ! من أولياؤك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فيجيب تعالى بنفسه قائلاً: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، وكأن قائل يقول: ما هي علامات ذلك وإشاراته؟ الجواب: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، أي: بشرى الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له. أي: منامة صالحة تراها تدلك على أنك ولي الله، فإذا لم ترها أنت يراها عبد صالح لك ويقصها عليك، وقد يأتيك من بلد إلى بلد ليبلغكها، فلأن تذهب من المدينة إلى الصين بالنفقة والتعب والسهر لتعلم هذه البشرى، فإن تعبك ونفقتك ومالك لا تساوي شيئاً مقابل هذه البشرى، وأعطيناها ونحن في أمن ورخاء ولا نحفظها ولا نبالي، وغداً نسأل عنها؟ فلا ندري، هاه.. لا ندري.
الثالوث الأسود وجهوده في حرب الإسلام
ولطيفة سياسية اجتماعية نفسية: وهي أيضاً أغلى من خمسين ألف ريال، فلأن تعرفها وتضمرها في نفسك وتعمل بمقتضاها خير لك من أن تعطى شيكاً بخمسين ألف ريال وتذهب به إلى أوروبا تفجر أو تشتري به تلفاز وفيديو وترقص. وهذه من مكايد الثالوث الأسود وهم المجوس واليهود والنصارى، وسبب تحولهم إلى ثعبان أسود أن المجوس من يوم أن سقط عرش كسرى وأعطاه عمر سراقة بن جعشم وألبسه على رأسه؛ تمثيلاً لبشرى النبي صلى الله عليه وسلم، تكون حزب وطني يعمل في الظلام للانتقام من الإسلام، ودليل ذلك عمر بن الخطاب قتله أبو لؤلؤة المجوسي في محراب رسول الله.فاليهود ما إن أيسوا من حصول على خير في هذه الديار؛ لأنهم نزحوا من الشام على أمل أن النبي الخاتم نبي آخر الزمان إذا ظهر بين جبال فاران، وهاجر إلى المدينة ذات السبخة والنخيل، وهذه الصفات محفوظة عندهم في التوراة كما نحفظ نحن: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فمن الضرب والتعذيب الذي يتلقونه من الروم والرومان نزحت طائفة منهم؛ انتظاراً للنبوة وهروباً من التعذيب. إذ كان النصارى يقلون اليهودي في الزيت في قدر كبير يتسع لبعير، فيضعون فيه اليهودي وهم فرحون وصدورهم منشرحة؛ لاعتقادهم أن اليهود قتلوا وصلبوا إلههم، فهذا الفهم الهابط! انظر إلى أين تصل البشرية إذا فقدت نور الله عز وجل! فاليهود هم الذين صلبوا المسيح وقتلوه، فكيف إذاً المسيحي يرضى عن يهودي، وهو قد قتل وصلب إلهه؟! فلو أن شخصاً أراد أن يقتل نبيك فلن تنظر إليه.فلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يجتمع دينان في الجزيرة ) اغتاظ اليهود، وخافوا من أن يدخل اليهود كلهم في الإسلام، وخافوا من يفقدوا وجودهم، فأعلنوا الحرب على الإسلام وبدءوا، فقد حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.إذاً: فمن ثم بحثوا اليهود عمن يتعاونون معه، فوجدوا الحزب المجوسي، وحامل الراية الدعوة اليهودية عبد الله بن سبأ الصنعاني اليماني وهو من غلاة اليهود عربي اللسان؛ فاحتضن الحزب الوطني المجوسي، وما إن لاحت أنوار الإسلام في الغرب والشرق وانتهت إلى الأندلس حتى رفعت الصليبية رأسها؛ خوفاً من أن نور الإسلام سيغمر الدنيا، فبحثوا عمن يتعاونون فوجدوا اليهود والمجوس فتعانقوا، مع أنهم أعداء لبعضهم البعض وتعاونوا وتحابوا و.. و.. وإلى الآن في الظلام متعاونون على الإسلام؛ لأن الإسلام لا يريدونه؛ لأنه يسعد ويعز ويرفع إلى السماء ويُدخل الجنة، ولا طريق إلى ذلك إلا الإسلام. فهم يريدون الحفاظ على مناصب وكراسي وسمعة وشهرة، واستعباد لإخوانهم وأوطانهم؛ فيبغضونهم في الإسلام ويعفنونه ويشوهونه. وصورة سريعة: فقد ذكر الشيخ رشيد رضا في تفسيره المنار، عن شيخه الشيخ محمد عبده تغمدهما الله برحمته، يقول: كان الشيخ في باريس في فندق ولم يكن حينذاك حنفيات مياه في فرنسا، فطلب ماءً يتوضأ به في ساحة الفندق، ولما توضأ جاء طفل صغير وهو ابن لرئيسة الفندق جاء يحبو وأراد أن يمس الماء، فقالت له أمه بكلمة على لسانها: كخ كخ كخ، هذا توضأ به عربي وفيه جراثيم، الطفل صدق أمه، وقال: ماما جراثيم رآها في الماء. ومعنى عربي مسلم. وما زالت المرأة الأوروبية إلى الآن تخوف طفلها إذا عمل باطل، تقول: عربي عربي عربي عند الباب! فعملوا على تشويه الإسلام وقبحوه، وكم ضحكوا وسخروا عن تعدد الزوجات، فقد عدوها من الأباطيل، فهؤلاء مجانين وحمقى، فالله سبحانه وتعالى يشرع، وأنت الأحمق الجاهل تقول: لا، وتقول: أنا مؤمن، أين علمك؟! وأين فقهك؟! وأين بصيرتك؟! وهذا هو الثالوث الأسود، فمن كيده ومكره أيضاً لما عجز في ميادين المعارك والجهاد والدماء، قال: إذاً نبحث عن طريقة إطفاء هذا النور.. لا بقوة السلاح فلا نقوى عليه، فقد فشلوا في كل معركة طيلة ثلاثمائة سنة، قالوا: نبحث عن سبب هذه القوة، وعن سبب هذا النور وهذه الهداية، فوجدوا ذلك في اثنين:الأول: في القرآن الكريم، فما ارتفعت هذه الأمة ولا سامت ولا سادت إلا بنور القرآن، فاستطاعوا للأسف الشديد أن يحولوا القرآن إلى المقابر. أليس يقرأ القرآن الآن على الموتى؟! فيا أبناء الإسلام! ماذا تريدون من قراءة القرآن على الميت؟! هل تريدون من الميت أن يقوم يصلي، ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه؟! وهل تريدون منه أيضاً أن يقوم ويعترف بحقوق الناس؟! فما الذي يفيده إذاً؟ فقط توبخونه لم ما فعلت؟ ولم ما فعلت؟ وانتشرت الخطة وأصبح العالم الإسلامي عرب وعجم إذا مات الميت وشيع إلى القبر يجمعون أهل القرآن، وأهل القرآن لا يملكون شيئاً فلا وظيفة لهم ولا شيء... ضيعوا أوقاتهم في حفظ القرآن الكريم؛ لأجل هذا القوت لا أقل ولا أكثر، فيستدعونهم في بعض الأموات ليلة واحدة إذا كان فقير، ثلاث ليال.. سبع .. إلى واحد وعشرين إذا كان الهالك ذا ثروة وغنى ومال. فتجد عند باب المقبرة من يقرأ القرآن مقابل مبلغ من المال على قبر ما.وهذا هو حال القرآن فلا يجتمع عليه اثنان في ظل شجرة أو جدار أو في منزل؛ ليتدبرها ويتفهم مراد الله من كلامه لهم. فمن منا قال لأخيه: اقرأ علي شيئاً من القرآن لنتدبره؟!فرسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أنزل وكلف بتبيينه يقول لـعبد الله بن مسعود : ( يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيقول عبد الله : أعليك أنزل وعليك أقرأ يا رسول الله؟! فيقول: نعم، أحب أن أسمعه من غيري )، فأين أمة الإسلام؟! فقد قتلوها، أما استعمروها وأذلوها من اندونيسيا إلى موريتانيا؟ فلو كانت حية وذات علم وبصيرة فهل سيسودها الكفر ويحكمها؟! مستحيل. ( ويقرأ عليه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] إلى أن ينتهي إلى قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] وإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان الدمع وهو يقول: حسبك حسبك حسبك ). انتقل الشيخ الطيب العقبي من هذه الديار إلى الديار الجزائرية خريج هذا المسجد، وهو مؤسس جريدة القبلة وبعده أم القرى، وهذا الذي مسح تاريخه العرب؛ لأنهم يكرهون التوحيد، فكان يلقي دروساً كهذه، ومن ثم ونحن في القرية نقرأ القرآن جاء عامي يشتغل في الميناء لا يعرف الألف من الباء يجلسني وأنا طفل وكان يقول: اقرأ علي شيئاً من القرآن، ويغمض عينيه ويدلي رأسه وأنا أقرأ. فـالعقبي حدثهم بحديث رسول الله، هذا الوحيد الذي يطلب منا أن نقرأ عليه القرآن. فقد أعرضت هذه الأمة عن القرآن إعراضاً كاملاً وماتت. والثاني: الولاية، فولاية الله تعالى حصروها في الأموات لا في الأحياء، وقد قلت لكم وإلى الآن: لولا هذه الدعوة التي انتشرت من هذا المسجد.. فإذا ذهبت إلى القاهرة أو إلى دمشق أو إلى بغداد أو إلى كراتشي أو إلى اسطنبول أو إلى مراكش أو إلى تونس فأول من تلقاه في الطريق تقول له: أنا غريب جئت من بلادنا لأزور ولياً من أولياء الله في هذه المدينة، والله! ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن تلك العاصمة ذات المليونين والثلاثة فيها ولي حي. فقد حصروا الولاية في الأموات وسلبوها الأحياء؛ ليصبح المؤمن يزني بامرأة المؤمن -فوالله! إنهم ليزنون-. فلو كان يعرف أن هذا ولي الله فهل سيزني بامرأته؟! يفسد ما عليه ونحن نراه إذا مر بقبر الولي ترتعد فرائصه؟! كيف يزني بامرأة ولي؟! ولو عرف أنه ولي هل سيسلب ماله، ويحتال عليه ويأكل ماله بالغش أو بالكذب؟! والله ما كان، ولو اعتقد أنه ولي فلن يسبه ولا يشتمه؟ فهل سمعتم جماعة ينتقدون عبد القادر ويسبونه؟! مستحيل. مجالسنا كلها غيبة ونميمة وسب وشتم؛ لأنهم ما عرفوا من هم أولياء الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.وهذا من فعل الثالوث الأسود، وما زال يفعل العجائب، فهل كان يعقل بين العرب الجهال أن يسمح الفحل لامرأته أن تنظر إلى رجل وهو يرقص أمامها؟! فوالله ما نرضى أن يسمع أصوات نسائنا حتى العبد الصالح. فكيف إذاً بامرأتك وهذا المغني يرقص في التلفاز وأنت تضحك، فهذه الغيرة مسحها الثالوث. وهذا مجرد مثال فقط.يبعث أحدهم امرأته تشتغل في البنك الفلاني في الدار الفلانية وتصافح الموظفين، فهل هذا كان في بال إنسان آدمي؟ والآن واقع وما حصلنا عليه، ونبكي ليل نهار، آه لو أجد وظيفة لامرأتي. فعل هذا الثالوث الأسود، وما زال يفعل.
تابع قراءة في تفسير قوله تعالى: (وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال: [ثالثاً: ثمن الجنة الإيمان والتقوى وهما مفتاحا الولاية] بهما تدخل ولاية الله. رابعاً: [ البخل بالمال شر لصاحبه وليس بخير له كما يظن البخلاء ]، بالبخل بالمال وهو منع حقوق الله منه والحفاظ عليه، فصاحبه يظن أن هذا خير له وهو شر له، وقد قال تعالى: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180].قال: خامساً: [من أوتي مالاً ومنع حق الله فيه عذب به يوم القيامة]، دل على ذلك قوله تعالى: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180] وآية سورة التوبة، وهي قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34] متى؟ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة:35] ويقال لهم: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35]. هذه الآية -يا معاشر المؤمنين- هي التي جهزت غزاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى شرقوا وغربوا، فلم تكن هناك ميزانية ولا مال ولا ولا.. ولكن هذه الآية فقط يخرجون بأموالهم، فقد خرج أبا بكر بماله، وخرج عمر بنصف ماله.والحمد لله فقد خرجنا بنصف المال مرة من المرات، فقد كانت هناك دعوة للجهاد في الجزائر؛ لأنه قتال كفار فرنسا، وحكومتنا الرشيدة فتحت الأبواب وأصبحنا نجمع المال من باب السلام إلى باب المجيدي كل جمعة، ضريبة على الطلاب في مدارس الابتدائية والمتوسطة ريال على كل طالب. وعند الجمع كان عندنا أربعمائة ريال خرجنا بنصفها، وقلنا: نجرب، مائتين ريال، وكان يومها راتب الأستاذ في الابتدائية ثمانين ريال. والشاهد عندنا لتفهموا أنه ما كان عندهم بيوت ولا أموال، إذا نادى إمام المسلمين: الجهاد! المال! يخرجون من بيوتهم بأموالهم ويقرءون هذه الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35] . قال: [ وحديث البخاري -يقول صلى الله عليه وسلم-: ( من آتاه الله مالاً فلم يؤده زكاته مثل له شجاعاً أقرع ) ] والعياذ بالله، ثعبان شجاع أقرع؛ لأن الحية القرعاء كلها سم وسمها قاتل. قال: [ ( له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه -أي: شدقيه- ويقول له: أنا مالك أنا كنزك ) ] وهو يعذبه ملايين السنين، ثم قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية: [ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180] ]. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-16, 05:48 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (75)
الحلقة (216)
تفسير سورة آل عمران (78)

تاريخ يهود في إنكار الحق وبث الشبهات لا يخفى على ذي عقل، ومن ذلك أنهم زعموا أن الله فقير ومحتاج إلى عباده، وذلك أنه دعاهم إلى إقراضه سبحانه ووعدهم بمضاعفة أجرهم أضعافاً كثيرة، ومن ذلك أيضاً أنهم ادعوا كذباً وزوراً أن الله عهد إليهم في كتبهم السابقة ألا يؤمنوا لنبي حتى يأتي بقربان من صدقة فتنزل عليه نار من السماء فتحرقه، وقد أنزل الله في كتابه خبرهم وكذبهم وبين حالهم في تكذيبهم للرسل من قبل وقتلهم إياهم ظلماً وعتواً.
تفسير قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ) اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا، ولا ولي لنا سواك.ما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الأربع المباركات، نتلوها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:181-184].فهيا نتغنى بهذه الآيات متأملين متفكرين باحثين عن مدلولاتها ومعانيها؛ علنا أن نظفر بنور إلهي يغمر قلوبنا، وينور طريقنا، فلا ظلمة ولا خبث ولا شر ولا إثم. ‏
سبب نزول قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ...)
قال تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، أوحى الله جل جلاله هذا الكلام إلى رسوله النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الخبر لابد له من سبب اقتضى نزول هذا الخبر؛ فقد كان في المدينة (مدراس)، وبلغتنا العربية (مدرسة)، وبلغة اليهود (المدراس) يجتمعون فيه ويتعلمون الكتاب والحكمة التي عندهم، فذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليدعو معلمهم ومربيهم فنحاص إلى الإسلام، فبإسلام المدرس يسلم التلاميذ وينقادوا، ولما دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام رفض ولم يقبل، وتعلل واحتج بما جاء في الآيات، ولما قال: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] بمعنى: كيف يستقرضنا ويطلب المال، ونحن أغنياء وهو فقير؟! فـأبو بكر الصديق لم يتمالك نفسه حتى ضربه على وجهه ضربة شديدة، وذلك جزاؤه.وهنا ذكرت مرات فقلت: إذا كان الشخص مناوئاً ضد دعوة الحق وتنصر بمثل هذه الكلمة فلو كنا كـأبي بكر لا نتمالك فنضربه على خده حتى لا يعود لمثل هذا، ولكن لضعفنا يسب الرسول ويقال فيه كذا وكذا، ونحن لا نحرك ساكناً ولا نشتكي، فهذه القضية لا تحتاج إلى أن ترفع دعوى إلى محكمة.فلما قال هذا اليهودي كلمة خبث ووصف الله عز وجل بالفقر، ما كان من أبي بكر الصديق إلا أن ضربه على وجهه، فذهب اليهودي يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول: يبلغني أنه يوجد من غير أهل السنة والجماعة من يطعن في عائشة أو يسب أبا بكر ، فأقول: أنه وبمجرد ما يقول كلمة الكفر هذه اصفعه على خده حتى يتأدب، ولا أقول: اضربه بعصا أو اقتله -لا تنقلوا عني غير هذا-، ولكن كما فعل أبو بكر فقط، ما دام فاه بكلمة باطلة خبيثة أعطه صفعة حتى لا يعود ويقولها، وإلا فسوف يتجرأ ويسبهما في كل مناسبة. فقط تأديباً له حتى يحترم موقف أهل السنة كذلك، ولا يقول الباطل بينهم، وتأتي تشتكي إلي ماذا نفعل وماذا نقول؟ ولما اشتكى اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبا بكر فعلت؟ قال: نعم. فقبل أن يأتي بالجواب حتى نزلت هذه الآية الكريمة: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]؛ لأن اليهودي أنكر وقال: ما قلت: نحن أغنياء والله فقير، فكذبه الله وقال: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا [آل عمران:181]، ويسجل ويجزون به ساعة الجزاء. سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا [آل عمران:181] هذا أولاً، وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ [آل عمران:181] عند صب العذاب عليهم: ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181]، والحريق: النار الملتهبة لا الجمر. وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران:181-182] أي: هذا الجزاء بعذاب الحريق مقابل ما قدمته أيديكم من الكذب والباطل والإثم، وقتل الأنبياء، والكفر والخروج عن طاعة الله ورسوله.
تفسير قوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ... )
جاء فنحاص وعلماء كثيرون، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: نحن لا نستطيع أن نؤمن بك، ونتابعك على دينك؛ حتى تأتينا بقربان تأكله النار. والقربان: هو ما يتقرب به إلى الله؛ سواء نعجة وإلا بقرة تذبح وتوضع هناك وتأتي نار بيضاء من السماء فتأكلها أو ثياب أو أي شيء مما يتقرب به إلى الله عز وجل. وهذا كان في بني إسرائيل، فـيوشع بن نون لما خرج موسى ببني إسرائيل من أرض سيناء ورفضوا القتال وجبنوا وعاقبهم الله بأربعين سنة تيهان في صحراء سيناء، فلما انتهت وتوفي موسى وقبض هارون قادهم يوشع بن نون فتى موسى ونبأه الله عز وجل، وطالبوه بالآية فلما غزا وانتصر على العمالقة جمعوا الغنائم كلها وأتت نار من السماء فأحرقتها. إذاً فقال اليهود: لن نؤمن حتى تأتينا بقربان تأكله النار، قال الله لرسوله: قل لهم: قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ [آل عمران:183] أي: المعجزات وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183] وطالبتم به من القربان تأكله النار، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ [آل عمران:183]؟ فقد قتلوا يحيى وولده زكريا عليهما السلام، وقتلوا عيسى عليه السلام، وإن لم يقتلوه واقعاً قتلوه حكماً؛ لأن عيسى عليه السلام لما بلغه المؤامرة دخل إلى بيته وأغلق بابه، وإذا بمدير الشرطة برجاله يقرعون باب بيته فأبى الخروج، فدخل مدير الشرطة أولاً فألقى الله الشبه عليه، ورفع عيسى من روزنة البيت، فما كان منهم إلا أن ألقوا الحديد في يديه ورجليه وجروه على أنه عيسى بن مريم، وصلبوه في اليوم التالي، فهم يعتبرون قتلوه قضاء وشرعاً. لكن الله عز وجل رفع عيسى إليه في دار السلام، وسينزل عما قريب بالمنارة البيضاء بمسجد دمشق.والشاهد: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183]، وطالبتم به وهو القربان تأكله النار، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183] بدعواكم؟
تفسير قوله تعالى: (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك ....)
ثم قال لرسوله معزياً مسلياً: فَإِنْ كَذَّبُوكَ [آل عمران:184] يا رسولنا فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ [آل عمران:184] فليس واحد ولا عشرة ولا مائة، مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:184]. إذاً فلا تكرب ولا تحزن واصبر، وائتسي بمن قبلك.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
نعيد تلاوة الآيات:قال تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، أي: قال: إن الله فقير ونحن أغنياء هو فنحاص المعلم في المدراس، فقال تعالى: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا [آل عمران:181] أي: سيدون ويسجل؛ ليجزوا به، ونكتب قتلهم الأنبياء، فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا في بعض الأحيان يقتلون سبعين نبياً، وفي المساء أسواقهم عامرة كأسواقنا الليلة بالمدينة، وكأن شيئاً ما وقع بعدما قتلوا سبعين نبياً؛ لأن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرين ألف وأكثرهم من بني إسرائيل. قال تعالى: وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:181] وهل هناك حق يقتل به النبي؟ نعم. لكن حاشاهم أن يزنوا فيقتلوا، أو يقتلوا ظلماً وعدواناً فيقتلوا من غير حق، لكن تشديد وإكثار من التشنيع عليهم. قال تعالى: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181] أي: يقال لهم هذا عند دخولهم النار وهم فيها، فهذا العذاب الروحي أشد من العذاب البدني، ويقول لهم هذا الكلام ملائكة الله الزبانية بأمر من الله عز وجل، وينسب القول إليه عز وجل. قال تعالى: ذَلِكَ [آل عمران:182] أي: العذاب والهون والدون بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران:182] أي: بما قدمت أيديهم في الدنيا حين كانوا يأكلون الربا ويفجرون ويقتلون الأنبياء والعلماء. قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182]، حاشاه أن يظلم عبيده، فهو غني عنهم، فكيف يظلمهم؟! لطيفة: لا يتصور الظلم إلا من ضعيف، أما القوي القادر الغني لا يظلم. الظلم.. أن تجور وتظلم أخاك وتخطف قرص العيش من يده، فمثلاً: ما تجد أين تسكن تحتال وتطرد صاحب المسكن لتسكن.. أنت محتاج إلى وظيفة فتحتال وتغش وتبعد فلان عن وظيفته لتحتلها.. تريد أن تملك تقوم بثورة حتى تملك.فالظلم لا يتصور إلا من ضعيف، قوي.. غني لا يظلم. والله عز وجل بيده كل شيء، وإليه مصير كل شيء، وهو خالق كل شيء، فكيف يتصور منه الظلم؟! فلهذا نفى تعالى الظلم عنه في عشرات الآيات، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] أي: عبيده هو جل جلاله وعظم سلطانه. قال تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا [آل عمران:183] أي: في التوراة، أو في الإنجيل، أو على ألسنة الأنبياء وهم كاذبون: أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران:183]، ومن الجائز أن يكون هذا في كتبهم، فإذا ادعى أحد منهم النبوة يقولون: هات قربان نتقرب به إلى الله، ونرى السماء تنزل وتختطفه، أي: تنزل من السماء نار تحرق هذا القربان. وهكذا حكى الله تعالى قولهم لرسوله ولنا. الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران:183]، أي: فإن كنت أنت رسول الله كما تدعي وتقول وتطالبنا بالإيمان بك: ائتنا بقربان تأكله النار، وبذلك نؤمن، فوالله! لو أتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقربان وشاهدوا النار ما آمنوا به، فهم يريدون أن يسودوا العالم ويتطلعون إلى مملكة بني إسرائيل؛ لأن ما جاء به الرسول من الهدى والبينات أفضل مليون مرة من قربان تأكله النار، فلو شاهدوا القربان لقالوا: ما رأينا؛ لأنهم غير عازمين على الإيمان، عرفوا أنه رسول الله، وأن هذا دين الله، ولكن قالوا: إذا آمنا نذوب في الإسلام وتنعدم شخصيتنا ووجودنا! ومن شك في هذا.. كيف أذلوا ألف مليون مسلم وأقاموا دولة إسرائيل؟! فلو كانوا فقط يريدون الأكل والشرب أو اللباس أو المال، والله! ما يفعلون هذا، فهو متوفر لهم بالخديعة والكذب، لكن يريدون مملكة تسود العالم.. كلمة (من النيل إلى الفرات) مقدمة فقط، والآن مشوا خطوات وكادوا يملكون العالم، هم الآن يديرون دفة العالم. فهم الذين وضعوا الشيوعية، وهم الذين نسجوا خيوطها، وهم الذين أبطلوا الشيوعية، بلغوا مأربهم وانتهوا إلى حاجتهم وهي أن حولوا ثلاثة أرباع الصليبين المتعصبين إلى بلاشفة وملاحدة علمانيين لا يؤمنون بالله ولا بلقائه، وهؤلاء ما يخافونهم ويعدونهم كالبهائم يركبونها.فثلاثة أرباع النصارى الذين كانوا أرقاء القلوب تذرف عيونهم الدموع إذا ذكر الله يتصدقون، فإذا نظر أحدهم إلى اليهود يستغفر الله، فحالهم يقول: لا يجوز أن تفتح عينيك في يهودي، فهو قاتل إلهك وكيف ترضى عنه؟واستطاعوا بهذا السحر أن حولوا النصارى إلى رجال لهم، وأعوان يعملون معهم بعدما مسحوا قلوبهم من شيء اسمه: الله، والإيمان بلقاء الله. فما المخرج أن نسلم، فإذا أسلم العرب والمسلمون رحل بنو عمنا.. فهل نحن الآن غير مسلمين؟ إيه نعم، فالإسلام الحقيقي لا وجود له بالصورة العامة في العالم الإسلامي، فلو أسلمنا لقلنا: بايعناك يا إمام الحرمين والمسلمين، وأصبحت دولتنا واحدة في أربعة وعشرين ساعة، وتسلمنا الدستور الإسلامي وطبقناه من أقصى الشرق إلى أدناه. ماذا يكلفنا؟ يكلفنا فقط أن نؤمن بالله ولقائه، لا وطنية ولا قبلية ولا مال ولا دينار ولا درهم، آمنا بالله وأسلمنا قلوبنا ووجوهنا له، حينها نقول: نحن مسلمون. وعندنا برهنة وهذه البرهنة: أخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، فقال في صحيح مسلم وغيره: ( لتقاتلن اليهود ثم لتسلطن عليهم )، بينا وجه التسلط.. فلو أسلمنا في أربعة وعشرين ساعة سيوجد الله تعالى مؤامرة يهودية لأمريكا، فرجالها سيكتشفون أن اليهود أرادوا أن ينسفوا أمريكا كلها ويحولوها إلى مقبرة، إذاً ستثور أمريكا وتقول: اليهود، من وجد يهودي احرقه بالنار. وتقول للعرب والمسلمين: عليكم بهم، وهذا هو معنى التسليط، فقد حصل نظيره على عهد هتلر النازي الألماني فقد اكتشف مؤامرة يهودية ضد ألمانيا، فسلطه الله عليهم وقتل منهم حوالي ثلاثين ألفاً وأذلهم شر ذلة. يقول صلى الله عليه وسلم: ( ثم لتسلطن عليهم، فتقتلوهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله إلا شجر الغرقد، فإنه شجر اليهود ).
لطيفة
لطيفة: هي (يا مسلم) أينطق الله الشجر والحجر ليقولوا الكذب؟! فحاشا لله أن يكذب الشجر والحجر. فمن هنا نقول: انهزم العرب بين حفنة اليهود في حرب ذات مرة؛ لأنهم ليسوا بأولياء الله، فلو انتصروا بالعربية والقومية لانمسح الإسلام من ديارهم نهائياً، ولكن الله يأبى إلا أن يبقى الإسلام نور الله ليُدخل في رحمته من يشاء، فكل عام يموت آلاف من المسلمين والمسلمات الربانيين والربانيات، لكن لو انتصر العرب بكفرهم وعنادهم وقوميتهم ما أصبح من يقول: مسلم حتى يذل ويهان. فالله سبحانه وتعالى هو الذي حفظ لنا الإسلام، فلهذا يقول الشجر: يا مسلم! ولن يقولها إلا مسلم حقيقي أسلم قلبه لله، فلا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وأسلم وجهه فلا يرى إلا الله عز وجل. قال تعالى: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183]، الاستفهام هنا للإهانة والذل والمسكنة؛ لقوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [آل عمران:184] أي: اصبر يا رسولنا وتحمل كما تحمل من سبقك من الأنبياء والمرسلين.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ معاني الكلمات: عذاب الحريق هو عذاب النار المحرقة تحرق أجسادهم، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران:182] أي: ذلك العذاب بسبب ما قدمته أيديكم من الجرائم. عَهِدَ إِلَيْنَا [آل عمران:183]، أي: أمرنا ووصانا في كتابنا التوراة. أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ [آل عمران:183] أي: لا نتابعه على ما جاء به ولا نصدقه في نبوته.حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران:183]، القربان ما يتقرب به إلى الله من حيوان وغيره يوضع في مكان، فتنزل عليه نار بيضاء من السماء فتحرقه. بِالْبَيِّنَاتِ [آل عمران:183] أي: الآيات والمعجزات. وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183] أي: من القربان. فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ [آل عمران:183] الاستفهام للتوبيخ وممن قتلوا من الأنبياء زكريا ويحيى عليهما السلام. وَالزُّبُرِ [آل عمران:184] جمع زبور وهو الكتاب المزبور] زبر إذا كتب [ كصحف إبراهيم ]. [ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:184] الواضح البين كالتوراة والزبور والإنجيل].
معاني الآيات
قال: [معنى الآيات: لما نزل قول الله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245] ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المدراس واليهود به وهم يستمعون لأكبر علمائهم، وأجل أحبارهم فنحاص فدعاه أبو بكر إلى الإسلام، فقال فنحاص : إن رباً يستقرض نحن أغنى منه ] أي: نحن أغنى منه، فكيف نؤمن به؟! قال: [أينهانا صاحبك عن الربا ويقبله؟] أينهانا صاحبك محمد عن الربا ويقبله في قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]. [فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب اليهودي فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا أبا بكر فسأل الرسول أبا بكر قائلاً: ( وما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنه قال: إن الله فقير ونحن أغنياء )، فأنكر اليهودي قال: ما قلت، فأنزل الله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:181] أي: نكتبه أيضاً وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181] وقولنا ذلك بسبب ما قدمته أيديكم من الشر والفساد وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182]، فلم يكن جزاؤكم مجافياً للعدل ولا مباعداً له أبداً لتنزه الرب تبارك وتعالى عن الظلم لعباده]. قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181].والآية الثانية: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182]. الآية الثالثة وهي قوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا [آل عمران:183] -بماذا؟- أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183]، فقد تضمنت دعوى يهودية كاذبة باطلة لا صحة لها البتة والرد عليها، فالدعوى هي قولهم: إن الله قد أمرنا موصياً لنا أن لا نؤمن لرسول فنصدقه ونتابعه على ما جاء به؛ حتى يأتينا بقربان تأكله النار]. الذي قلته في يوشع بن نون كان مما فرض الله على بني إسرائيل أن الغنائم لا يقتسمونها كما نقتسمها نحن، أحلت لنا الغنائم، ولم تحل لنبي قبل نبينا وأمته، فقد كانوا يجمعون الغنائم أكوام من الثياب أو من الفضة فتأتي نار من السماء فتحرقها.أما كونهم عهد الله إليهم في التوراة وفي غيره أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتي بقربان تأكله النار، فهي كذبة من كذبهم ولا كان هذا. قال: [ والرد عليها فالدعوى هي قولهم: أن الله قد أمرنا موصياً لنا أن لا نؤمن لرسول فنصدقه ونتابعه على ما جاء به؛ حتى يأتينا بقربان تأكله النار، يريدون صدقة من حيوان أو غيره توضع أمامهم فتنزل عليها نار من السماء فتحرقها فذلك آية نبوته، وأنت يا محمد ما أتيتنا بذلك فلا نؤمن بك ولا نتابعك على دينك، وأما الرد فهو قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل يا رسولنا: قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ [آل عمران:183]، وهي المعجزات وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183] وهو قربان تأكله النار فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ [آل عمران:183] إذ قتلوا زكريا ويحيى وحاولوا قتل عيسى إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183] بدعواكم؟ وأما الآية الرابعة فإنها تحمل العزاء لرسولنا صلى الله عليه وسلم إذ يقول له ربه تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ [آل عمران:184] فلم يؤمنوا بك فلا تحزن ولا تأسى؛ لأنك لست وحدك الذي كذبت، فقد كذبت رسل كثر كرام جاءا أقوامهم بالبينات أي بالمعجزات وبالزبر والكتاب المنير كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم، وكذبتهم أممهم كما كذبك هؤلاء اليهود والمشركين معهم فاصبر ولا تحزن ]. ولهذا صبر صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين سنة، فقد قال: ( لا تفضلوني على يونس ) ويونس ذو النون كم صبر كم عام..؟ تركهم وخرج من بلادهم ما استطاع وعوتب ورد إليهم، فنبينا صلى الله عليه وسلم صبر ثلاثة وعشرين سنة وهو يعاني ويكابد، لكن الله معه يصبره ويسليه ويحمله على ذلك. الآن عرفنا معنى الآيات: قال تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، قالها فنحاص لـأبي بكر ، قال: ما نؤمن برب يحتاج إلينا وهو فقير ونحن أغنياء؛ نظراً إلى قول الله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245] لأن الرسول كان يعلن عن جمع المال للجهاد وهم أشحاء وبخلاء ما يريدون، قالوا: ربنا فقير ونحن أغنياء، كيف نؤمن به؟ قال تعالى: وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ [آل عمران:181-183] والله كذبة كذبوها تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:183-184] .
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: كفر اليهود وسوء أدبهم مع الله تعالى ومع أنبيائهم ومع الناس أجمعين] الآية في قوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] قررت أن اليهود كفار وأن أدبهم أسوأ أدب؛ لأنهم ما تأدبوا مع الله وقالوا: فقير ونحن أغنياء، وما تأدبوا مع الأنبياء فقاتلوهم، وقالوا فيهم ما قالوا، هذا باقٍ إلى يوم القيامة إلا من أسلم منهم نجا. [ثانياً: تقرير جريمة قتل اليهود للأنبياء وهي من أبشع الجرائم] وإن قيل: هؤلاء ما قتلوا على عهد الرسول، فلم يكن هنا نبي غيره.الجواب: كما علمتم، قتل أسلافهم وأجدادهم وآباؤهم ورضوا بذلك ولازموا طريقهم وما زالوا يدافعون عنها، فكلهم قتلة في قضاء الله وحكمه. في نهر الخير روى القرطبي عن الكلبي أن قوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران:183] نزلت رداً على كعب بن الأشرف ومالك بن الصيد ووهب بن يهوذا وفنحاص بن عزريا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أتزعم أن الله أرسلك إلينا وأنه أنزل علينا كتاباً عهد إلينا فيه: أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله؛ حتى يأتينا بقربان تأكله النار؛ فإن جئتنا به صدقناك، فأنزل الله تعالى هذه الآية كما تقدم. قال: [ثالثاً: بيان كذب اليهود في دعواهم أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا برسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار] إلا ما كان من الغنائم لما يجاهدون مع أنبيائهم ويغنمون فتأتي نار من السماء وتحرقها؛ لأنهم لو كانوا يستفيدون من الغنائم لقاتلوا كلهم لغير الله. لكن لما علم الله إيمان هذه الأمة وسلامة قلوبها وطهارة نياتها أذن لهم أن يغتنموا ويقتسموا الغنيمة؛ لقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41] وأرباع أخماس للمجاهدين صاحب الفرس له حظان، والماشي على رجليه له حظ واحد، والرسول أخبر قال: ( أعطيت خمساً لم يعطها نبي قبلي -منها-: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي قبلي، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) فأيما مؤمن أدركته الصلاة وجد المسجد والماء عنده، والتراب يتيمم ويصلي. قال: ( وأتيت الشفاعة العظمى يوم القيامة ) . قال: والخامسة: كان النبي يبعث إلى قومه.. ( وبعثت إلى الناس كافة ) إيه والله! فالحمد لله. قال: [ ثالثاً: بيان كذب اليهود في دعواهم أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا بالرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار. رابعاً: تعزية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر والثبات أمام ترهات اليهود وأباطيلهم ]. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-16, 05:52 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (76)
الحلقة (217)
تفسير سورة آل عمران (79)


جاء في هذه الآيات تسلية الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتعزيتهم بأن هذه الحياة بكل ما فيها من سرور وحزن، أو فرح أو ترح، أو نصر أو هزيمة؛ إنما هي متاع الغرور، وأن العبد المؤمن فيها لابد وأن يبتلى في نفسه وماله، ولابد أن يتعرض للأذى من أعداء الله ورسله، ثم بعد ذلك الكل ميتون، وإلى ربهم يوم القيامة منقلبون، فيوفي سبحانه وتعالى المؤمنين أجرهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم.
تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومع هاتين الآيتين الكريمتين، وهذه تلاوتهما فتأملوا يفتح الله علي وعليكم.يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:185-186].
دلالة قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) على حتمية الموت
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا حكم الله الصادر علينا: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، أي: تذوق مرارته وآلامه، فإن النفس عند مفارقة الجسد لا تتصور كيف حال هذا المريض، وحسبك أن تسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن يموت بعرق جبينه )، فإذا كان بين يديك أخوك أو أمك أو قريبك، وهو يعاني من سكرات الموت، ورأيت جبينه يتفصد بالعرق، فلقنه: لا إله إلا الله، ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ). كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، فهل هناك من عقّب على هذا الحكم، وأوقفه ولو في شخص واحد؟ طأطأت البشرية رأسها، وعرفت هذه الحقيقة التي أخبر بها الله عز وجل وطبقها ونزلها.حاول البلاشفة الحمر الملاحدة الشيوعيون طيلة ثمانية عشر عاماً وهم يبحثون عن كيفية الخلاص من الموت، وبعد ذلك فشلوا فشلاً ذريعاً، وأوقفوا مصانعهم وآلاتهم وأدواتهم التي كانوا يعملون بها على إيجاد الروح.وأخيراً قالوا: هذه الروح جاءت من الملكوت الأعلى، فلا مجال إلى إيجادها هنا.
دلالة قوله تعالى: (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) على أن الدنيا دار عمل لا دار جزاء
قال تعالى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185].. وهذه الآيات تحمل العزاء والتسلية والتكبير والتثبيت لجماعة المؤمنين، وعلى رأسهم سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن السياق ما زال مرتبط بأحداث واقعة أحد. وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، فهنا حقيقة -تأملوها وحدثوا بها- وهي: أن العبد مهما عمل في حياته فلن يتلقى جزاء كسبه فيها، سواء كان عمله صالحاً أو فاسداً، أو خيراً أو شراً، فالجزاء ليس في الحياة الدنيا، فهذه الدار -أي: الدنيا- كل ما يلقى فيها العبد لا يكفي أن يكون جزاء عمله، فكم من عبد صالح عاش عشرات السنين وهو فقير؛ فإن وجد الطعام ما وجد السيارة، وكم من فاسق فاجر يرفل في ثياب الحرير، وكم من بر صالح تقي يعيش في رغد من العيش وطيبه، وكم من فاجر كافر في أشد البلاء والشقاء؛ لأن الجزاء ليس اليوم في هذه الحياة، فالدنيا دار عمل فقط، والجزاء مسبق.فإذا فهمت هذه الحقيقة واستقرت في الأذهان اعلموا أن العمل الصالح والاعتقاد الصالح والأخلاق المهذبة والآداب السليمة لابد وأن ينال العبد بركتها، ويعيش طيب النفس طاهر القلب مستريح الضمير، ببركة أعماله الصالحة وعقيدته الطيبة الصالحة؛ ناله بركة إيمانه وصالح أعماله.وأن صاحب الفجور والفسق والكفور يناله شؤم كفره وفسقه وظلمه: هم، كرب، غم؛ شؤمه ذلك الظلم والفساد والشر الذي يعمله، فما يحصل من خير أو شر هو إما بركة العمل الصالح ويمنها، أو شؤم العمل الفاسد وأثره. الجزاء غداً ليس اليوم، فمثلاً: هل يستطيع من يشتغل معاومة -أي: من العام إلى العام- أن يطالب بأجرته قبل نهاية عمله؟ والذي يشتغل مشاهرة -أي: كل شهر- هل يستطيع أن يطالب بأجرته قبل نهاية شهره؟ وهل الذي يشتغل مياومة -أي: كل يوم- يستطيع أن يطالب بأجرته من الضحى، وما كمل عمل يومه؟.الجواب: لا. فليس معقول هذا. فكل البشرية عاملة كادحة، تتلقى جزاءها عند نهاية العمل، وينتهي العمل عندما تذوق الروح الموت، وتنفصل عن البدن فحينها يبدأ الجزاء، وأول مرحلة القبر، إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، ثم تنتقل إلى أحد العالمين؛ العلوي أو السفلي، في عليين أو سجين، وتبقى هكذا مرهونة محبوسة في نعيم أو شقاء إلى أن ينتهي العمل العام.فالعمل العام: كالمصنع الذي يعمل لمدة ألف سنة.. ولما ينتهي حينئذ يتلقون الجزاء، فالذين ماتوا ويموتون أرواحهم إن كانت طاهرة زكية في عليين، وإن كانت خبيثة عفنة في سجين، حتى تنتهي هذه الدورة، فلها بداية ولابد لها من نهاية، فإذا انتهت هذه الدورة ولاحت في الآفاق نهايتها: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الواقعة:1]، إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ [الزلزلة:1]، الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-2].. انتهت هذه الحياة بكل ما فيها، من أفلاكها وكواكبها وجبالها وأراضيها تتم حياة ثانية، وهي الحياة الآخرة التي لا نهاية لها.إذاً: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ [آل عمران:185]، فالذي يوفينا أجورنا كاملة يوم القيامة هو الله سبحانه وتعالى الذي استخدمنا في هذه الدنيا، ويوم القيامة هو اليوم الذي يقوم فيه الناس من قبورهم في الأرض قياماً؛ ليساقوا إلى ساحة فصل القضاء والحكم عليهم، إما بالزحزحة عن النار ودخول الجنة، وإما بالإهلاك في النار.يوم القيامة هو ذلك اليوم التي تقوم الناس فيه إلى رب العالمين؛ لأجل الحساب أولاً والجزاء ثانياً.
الفوز الحقيقي هو دخول الجنة والنجاة من النار
وبين تعالى بإيجاز عجيب واختصار لا نظير له، فقال: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185]، وهم قيام بين يدي الله، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185]، وكان على شفا عرصات القيامة: وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ [آل عمران:185] أعلن عن فوزه: فاز فلان ابن فلان.ومعنى: فَازَ [آل عمران:185]: نجا من مرهوبه، وظفر بمرغوبه. فالفائز في الامتحانات نجا من الرسوب وفاز بالشهادة.إذاً: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185] بعيداً: وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، أي: ظفر بمرغوبة ومحبوبه ومطلوبه، ونجا مما يخاف ويرهب من عذاب النار، فهذا هو الفوز.أما ربحك شاة أو بعيراً -أيها البدوي- ما هو بربح، أو فوزك بالظفر بالدكتوراة وشهادة جامعية والكرسي والمنصب فلا يعد هذا بفوز. أو فوزك بامرأة إذا كانت صالحة فلا بأس.الفوز الحقيقي أن يبعد العبد عن عالم الشقاء ويجد نفسه في عالم السعادة، وهو أن ينجو من النار وعذابها، وأن ينعم بالجنة ونعيمها وهذا هو الفوز. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185]، فالنار هي التي بين أيدينا ونشاهدها في الحطب والخشب، وهي تلتهب. فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذه النار وأوجدها وأوجد موادها؛ حتى لا يقول قائل: ما هي النار التي نُخَوف بها ونُهَدد؟!يقول الله تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80]، أي: الشجر الأخضر بالماء تخرج منه النار.فمثلاً: نيويورك علم على مدينة، واليابان علم على إقليم بكامله. والنار إذاً علم على عالم الشقاء، فنسبة عالم الشقاء إلى عالم السعادة حسبنا قوله صلى الله عليه وسلم وهو المخبر بالوحي الإلهي: ( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم -أي: في النهر في البحر- فلينظر بم ترجع إليه )، فمثلاً: الذي يغمس يده في البحر الأحمر ويخرجها، ويكون هناك كيماويون حذاق يجمعون ذاك الندى أو البلل، فكم يجدونه من مليمتر أو جرام؟!فما نسبة الجرام إلى البحر؟!( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع إليه أصبعه )، وللتوضيح: فالجنة دار السلام أقل من يعطى فيها منزلاً يعطى مثل الدنيا مرتين، أي: مثل هذا الكوكب كوكبين، وأما النار عالم الشقاء، فحسبك أن تعلم أن الكافر عرض جسده مائة وخمسة وثلاثين كيلو متر، أي: ما بين كتفيه، وضرسه كجبل أحد، فأي عالم هذا يتسع لهذه الخليقة كلها؟! أقول: ضع رأسك بين ركبتيك وغمض عينك وفكر أنك هابط بالطائرة أو بالسيارة هابط.. هابط.. هابط.. إلى أين.. إلى أين..؟ يكل عقلك، فأين وصلت؟ وللتوضيح أكثر.. فكر: نازل.. نازل.. نازل.. إلى أين قل لي، تجد حدود، حديد، مياه.. إلى أين تنتهي؟ يخبرنا العلام الخلاق أنها تنتهي إلى عالم الشقاء، ذاك العالم الذي سمعتم عن أهله: ( ما بين كتفي أحدهم كما بين مكة وقديد، وإن ضرس أحدهم في النار كجبل أحد )، أحاديث صحاح.أما أهل الجنة فإنهم ليتراءون منازلهم فوق بعضها البعض كما نتراءى الكواكب الغابرة في السماء.فاللهِ العليمِ الحكيمِ القويِ القدير، الذي لا يعجزه شيء، وآية ذلك: لو تقم يا بني وتنظر إلى إخوانك الحاضرين وتجدهم على شكل واحد: آدميون: العينان والأنف، والمنخران والشفتان، والأسنان والفم والعنق، وتنظر فهل ستجد اثنين لا يفرق بينهما، بحيث هذا يدخل الليلة على امرأته، ويقول: أنا زوجك، تقول: أنت هو، والثاني يدخل على الأخرى يقول: أنا زوجك، تقول: أنت هو.. فلولا العلم والقدرة والحكمة كيف سيتم هذا؟!فلو اجتمعت البشرية كلها على صعيد واحد، ما اختلط اثنان ولم يميز بينهما، فأي علم أعظم من هذا؟ وأية قدرة أعظم من هذا. لا إله إلا الله. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، يا من فقدوا أبناءهم وإخوانهم في أحد لا تحزنوا: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، أي: اعملوا وواصلوا العمل الليل والنهار؛ العمل الصالح الذي يزكي أنفسكم ويطهرها ويؤهلها لأن تتلقى الجزاء: رضوان الله والنعيم المقيم.إذاً: لا تتململ وتقول: أنا أصوم وأصلي وما أسب ولا أشتم وأنا دائماً في مرض، أو دائماً في فقر أو دائماً في حاجة، فهذا كلام باطل يمليه عليك الشيطان، بل قل: أنا عبد الله ووليه، إن شاء أمرضني، وإن شاء أصحني، وإن شاء أعطاني وإن شاء منعني، وهو يعمل هكذا بي؛ ليربني ويرفعني إلى مستوى أوليائه.
حقيقة الحياة الدنيا
وهذا الختام: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].. فالمتاع هو ما يتمتع به المسافر، والغرور أيضاً متاع ويغرك ويخدعك.فالدنيا هذه حالها؛ فلقد أغرت أمماً ولا أقول: أفراداً، فقد أوقعتهم في الهلاك والهاوية، غرتهم بزخرفها وزينتها، بطعامها وشرابها؛ غرتهم لأنهم انخدعوا لها، فجروا وراءها الليل والنهار يعملون على جمعها وإحصائها والتمتع بها، وما هي إلا سويعات: مات فلان!! انتهى ذلك الأمل وذلك الطلب والسعي المتواصل، ووجد نفسه في عالم غير هذا العالم، إما زحزحة عن النار ودخول الجنة، وإما الاستقرار في دار البوار والعياذ بالله تعالى.
تفسير قوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم...)
ثم وجه تعالى الخطاب إلينا -وإن كان أولاً إلى رسوله وأصحابه، ونحن أتباعهم كذلك- فقال: لَتُبْلَوُنَّ [آل عمران:186] فاللام واقعة للقسم، وعزة الله وجلاله: لَتُبْلَوُنَّ [آل عمران:186] أيها المؤمنون وأيتها المؤمنات! لتختبرن اختباراً ربانياً حقيقياً، فِي أَمْوَالِكُمْ [آل عمران:186]، أول ابتلاء.. حال الحول على مالك يجب أن تزكيه ولا تتردد فأنت ممتحن، فإذا وجبت نفقة في مالك يجب أن تخرجها ولا تتردد، فقد يصاب مالك بجوائح إن كان فلاحة، وإن كان مالك غنم تسبى وتؤخذ، وإن كان مالك نقوداً قد تسلب منك، فهذا ابتلاء، فلتصبر ولتشكر فأنت ممتحن.فالذي يعطى المال لا يعطاه لجمال وجهه ولا شرف نسبه وأصله، وما أعطيه إلا للامتحان والاختبار، فهل العبد يتقي الله فيه، ويقوم به كما أمره سيده ومولاه ومعطيه؟ أم يأخذه البطر والأشر والانتفاخ؛ فيسرف في الطعام والشراب والنكاح حتى يطغى والعياذ بالله؟!والذي يسلبه أيضاً بأي صورة من صور السلب؟ فهل يضجر ويسخط، أم يقول: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون؟ فهذا هو معنى الامتحان. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ [آل عمران:186] في أموالكم أولاً، وفي أنفسكم، وفي النفس: مثلاً بالمرض والصحة والعافية والخوف. فقد تبتلى بالجهاد في أيام الشدة.. وتبتلى بالصيام في أيام القيظ.. أو بالحج وتمشي على قدميك آلاف ومئات الآلاف من الأميال.. مبتلى في نفسك بالمرض، قد يبتلى المرء فإذا به فاقد بصره، فاقد يده ورجله؛ ملازم لفراشه، كيف حاله؟ هل يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم لك الحمد على ما أوليت، ولك الحمد على ما ابتليت، أنت سيدي ومولاي، حكمك حق وأنا عبدك؟أو يقول: آه ويصرخ ويضجر وينكر على الله عمله؟! لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186] أولاً.وثانياً: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186].هانحن الآن ما نسمع؛ لأننا ما وقفنا موقف أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، لو نتلاءم وتعود إلينا الحياة الربانية نصبح نسمع من اليهود والنصارى والمشركين والعالم بأسره النقد والسب والطعن وما هو فوق ذلك، وإلى الآن يوجد وإن كنا ما نشعر؛ يوجد من اليهود والنصارى وخاصة الكتاب وعلماء النفس وعلماء القانون وكذا الطعن في الإسلام و.. و.. و.. إلى أبعد حد، والذين يعايشونهم يسمعون كما أخبر الله: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [آل عمران:186] أي: من كل الكفار؛ لأن الكفار إما مشرك وإما كتابي. وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186]، فقد سمعها الرسول عليه الصلاة والسلام وأبي بكر رضي الله عنه، ألم يقولوا الكفار: لن نؤمن لك حتى تأتي بقربان؟ وَإِنْ تَصْبِرُوا [آل عمران:186] على ذلك الأذى، وعلى ذلك الابتلاء في النفس والمال، وما تسمعون من أعدائكم؛ أعداء لا إله إلا الله، وتتقوا الله عز وجل فلا تضيعوا واجب مما أوجب، ولا ترتكبوا حراماً مما حرم، وتتقوه في الأسباب التي أمر بإتيانها وإحضارها؛ أسباب الجهاد وما إلى ذلك، فَإِنَّ ذَلِكَ [آل عمران:186] أي: الصبر والتقوى من الأمور المعزوم بها الحتمية، لا على سبيل الانتداب والاستنان والفضل فقط، بل الصبر والتقوى مما عزم الله علينا القيام به، وفرضه وألزمنا به، فالصبر والتقوى من الأمور الواجبة الحتمية، ليست من فضائل الأعمال ومستحباتها ومندوباتها، الصبر على المكاره، وتقوى الله ملازمة باب الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله فيما يأمر وفيما ينهى، هذا ليس من المستحبات، بل هو من عزائم الأمور؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]، أي: من الأمور المعزوم بفعلها، والمفروض القيام بها.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات
قال: [ شرح الكلمات:قوله تعالى: ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] أي: ذائقة موت جسدها، أما هي فإنها لا تموت]. فالروح لا تموت فهي خالدة. إذاً: نذوق ألم خروج الروح من البدن، فالألم يكون في البدن، والجرح يؤلم الجسم، فكيف بخروج الروح؟ تذوق المرارة، ولهذا الرسول عانى منها، وهو في آخر ساعاته يقول: ( لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات )؛ لأن الروح سكنت هذا القصر سواء عامين أو عشرة أو وسبعين أو ومائة سنة، فمن الصعب خروجها بكل سهولة، فكل نفس ذائقة مرارة الموت وآلامه، وبمفارقة الروح للجسم يموت وتنقطع عنه الحياة.[ وقوله: تُوَفَّوْنَ [آل عمران:185] أي: تعطون جزاء أعمالكم خيراً أو شراً وافية لا نقص فيها أبداً ]. ولا حتى جرام واحد.[ قوله: زُحْزِحَ [آل عمران:185]: أي: نحي وأبعد.وقوله: فَازَ [آل عمران:185] أي: نجا من مرهوبه ومخوفه وهو النار، وظفر بمرغوبه ومحبوبه وهو الجنة.وقوله: مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]: المتاع: كل ما يستمتع به، والغرور: الخداع، فشبهت الدنيا بمتاع خادع غار صاحبه، لا يلبث أن يضمحل ويذهب.وقوله: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186] أي: لتختبرن في أموالكم بأداء الحقوق الواجبة فيها، أو بذهابها بسبب من الأسباب، وفي أنفسكم بالتكاليف الشاقة؛ كالجهاد والحج، أو المرض والموت والفقر.وقوله: أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:186] أي: اليهود والنصارى ] ما تتردد أبداً سواء تقرأ أو لا تقرأ.[ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [آل عمران:186] أي: العرب ]. والآن الصين واليابان والروس والهنادس والبوذا كلهم مشركون، كانوا العرب فقط، والآن الشرك عام.قال: [ وقوله: فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]: يريد أن الصبر والتقوى من الأمور الواجبة التي هي عزائم وليس فيها رخص ولا ترخيص بحال من الأحوال].
معنى الآيتين
[معنى الآيتين الكريمتين:قال: ما زال السياق في تعزية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه]، أي: لما أصابهم في معركة أحد، فقد استشهد سبعون رجلاً. قال: [ لقد جاء في الآية السابقة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما آلمه من تكذيب اليهود والمشركين له]، فمثلاً: لو قلت كلمة في إخوانك وكذبوك وأنكروا عليك تبيت في كرب، والرسول يحمل رسالة الله ويضحك اليهود ويقولون: لو كنت نبياً هات الدليل والبرهان على نبوتك، ائتنا بقربان تأكله النار، ما يكرب لهذا الرسول ويحزن، وهو مكلف بالبلاغ؟قال: [عما آلمه من تكذيب اليهود والمشركين له، وفي هذه الآية أعظم تسلية وعزاء، إذ أخبر تعالى فيها بأن كل نفس مهما علت أو سفلت ذائقة الموت لا محالة، وأن الدنيا ليست دار جزاء، وإنما هي دار كسب وعمل، ولذا قد يجرم فيها المجرمون ويظلم الظالمون، ولا ينالهم مكروه، وقد يحسن فيها المحسنون ويصلح المصلحون ولا ينالهم محبوب]. [وفي هذه تسلية عظيمة وأخرى أيضاً: العلم بأن الحياة الدنيا بكل ما فيها لا تعدو -لا تتجاوز- كونها متاع الغرور، أي: متاع زائل غارٌ ببهرجه وجمال منظره، ثم لا يلبث أن يذهب ويزول، وهذا ما دلت عليه الآية الأولى.أما الآية الثانية: ففيها يخبر تعالى رسوله والمؤمنين -ونحن معهم الحمد لله- بأنهم لا محالة مختبرون في أموالهم وفي أنفسهم؛ في أموالهم بالحوائج، وبالواجبات اللازمة فيها، وفي أنفسهم بالمرض والموت والتكاليف الشاقة؛ كالجهاد والحج والصيام، وإنهم لابد وأن يسمعوا من أهل الكتاب والمشركين أذى كبيراً، كما قال فنحاص : الله فقير ونحن أغنياء! أو كما قال النصارى: المسيح ابن الله ]، المسيح ابن الله؟! كيف يستسيغها مؤمن هذه؟ لو قال المسيح ابن الله لصفع على خده، كيف يكون المسيح ابن الله؟! الله خالق السماوات والأرض، خالق الملكوت يحتاج إلى زوجة وولد؟ أين يذهب بعقلك. فهذا يؤلم المؤمن.[ وكما قال المشركون: اللات والعزى ومناة الآلهة مع الله، ثم حثهم تعالى على الصبر والتقوى، فقال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:186]، فإن صبركم وتقواكم مما أوجب الله تعالى عليكم، وليس هو من باب الندب والاستحباب، بل هو من باب الفرض والإيجاب].
هداية الآيتين
قال: [هداية الآيتين الكريمتين] لقوله تعالى: هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة:185]، فكل آية تهديك إلى سبل السلام، وكل آية ترفرف وتلوح.. امش فالجنة أمامك.وأوضح هذا المعنى: لماذا سميت الآية آية؟ وآي القرآن ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، وكل آية تدل دلالة قطعية يقينية أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الطريق الموصل إلى قربى يجعل له علامات تدل عليه، وكل علامة دالة على هذا الطريق، كذلك كل آية تدل دلالة يقينية أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن آمن بهذا دخل في رحمة الله على علم. نقول: بسم الله الرحمن الرحيم: ق [ق:1]، فهل يوجد كلام بدون متكلم؟ مستحيل.إذاً: هذه الآية دالة على وجود الله الذي نطق بها وأنزلها، والذي نزلت عليه وتلقاها يكون رسولاً، فمستحيل أن يكون غير رسول، أيرسل إليه كلامه وينزله عليه ولا يكون رسوله؟ إذاً: فسدت العقول البشرية، ما أصلح شيء في الحقيقة، فكل آية أنزلها الله دالة على وجود الله وعلى علمه وقدرته وحكمته، والذي أنزل عليه لن يكون إلا رسوله ونبيه، فلهذا كل آية تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: [ من هداية الآيتين:أولاً: ليست الدار الدنيا بدار جزاء، وإنما هي دار عمل ]. ما آية ذلك؟ كم من مستقيم عاش فقيراً ومريضاً، فهل جزي بصلاته وصيامه؟ وكم من فاجر عاش غنياً، هل عوقب بكفره؟ والعكس وإن وجدنا أثراً للعمل الصالح، نقول: بركة العمل الصالح، وإن وجدنا شقاء أو عذاب مع الكفر والفسق نقول: هذا من شؤم معاصيه، وليس هو الجزاء، جزاؤه: مجرم يخلقه الخالق ويرزقه ويحييه ويخلق كل شيء في الأرض والسماء من أجله، ثم يكفر به ويسبه ولا يطيعه كم يجازى هذا؟فلا يكفي أن يجازى بمرض خمسين عام، ولا يكفي أن يجازى بأن يقتل ويصلب مرة أو ألف، فلهذا الجزاء في المستقبل في الدار الآخرة، حيث يعيش بليارات السنين بلا نهاية في العذاب، مقابل الجريمة العظمى وهي الكفر.نسألكم: لِمَ خلق الله هذه الأكوان؟! أليس من أجلنا؟ يا ابن آدم لقد خلقت كل شيء من أجلك، أيخلق لك هذه العوالم كلها من أجل أن تذكره وتشكره، فإذا بك تكفره وتجهله، فتكون كمن نسف السماوات، ودمر الأرضين، وخرب العوالم كلها، كم يكون جزاءه إذاً؟يعيش في عذاب أبدي. قال: [ أولاً: ليست الدار الدنيا بدار جزاء أبداً، وإنما هي دار عمل ]، وإن رئي فيها خير أو عذاب هو شؤم أو بركة ويمن فقط.[ ثانياً: تعريف الفوز الحق، وهو الزحزحة عن النار ودخول الجنة.ثالثاً: بيان حقيقة هذه الحياة، وأنها كمتاع خادع؛ لا يلبث أن يتلاشى ويضمحل ]. وهو كذلك مشاهد.[ رابعاً: الابتلاء ضروري، فيجب الصبر والتقوى، فإنهما من عزائم الأمور لا من رخصها ]. يا من يريد أن يقرع باب الجنة! اصبر على ما ابتلاك الله به، واتقيه فلا تخرج عن طاعته ونهايتك معلومة وهي الاستقرار في دار السلام.اللهم حقق لنا ذلك. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-16, 05:57 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (77)
الحلقة (218)
تفسير سورة آل عمران (8)


هذا الكون الفسيح بمخلوقاته وعوالمه ليس له إله إلا الله، وهذا ما شهد به الله عز وجل لنفسه، وما شهدت به ملائكته، وما شهد به أولوا العلم قاطبة، فهي أشرف شهادة على أشرف قضية، والمؤمن الحق لا يسعه إلا أن تواطئ شهادته شهادة الله وملائكته في هذه القضية، مدخراً لنفسه هذه الشهادة ليوم يلقى الله سبحانه وتعالى فيه.
تفسير قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط ....)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله الذي أهلنا لهذا الخير؛ إن ربنا لعلى كل شيء قدير.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، وهي من سورة آل عمران كما علمتم، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:18-20]. ‏
فضل شهادة أن لا إله إلا الله
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نقل القرطبي رواية عن الكلبي رحمهما الله: أن حبرين من أحبار اليهود جاءا من الشام لما بلغهم ظهور محمد والإسلام، فلما انتهيا إلى المدينة -طيبة ذات السبخة والنخيل- قالا: ما أشبه هذه بمدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان -حسب النعوت في التوراة والإنجيل- ودخلا المدينة ووقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فعرفاه معرفة يقينية ( فقالا: أنت محمد؟ قال: نعم. أنت أحمد؟ قال: نعم. قالوا: نسألك؟ فقال: سلاني؟ قالوا: نسألك عن أعظم شهادة في كتاب الله، فأنزل الله تعالى هذه الشهادة: (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))[آل عمران:18] ) فدل هذا على فضل هذه الشهادة.ثانياً: ما ورد في فضل هذه الشهادة، ونحن والحمد لله نعمل به، حتى إن التابعي الذي روى هذا الفضل قال لأحد طلبة العلم: إن تقم عندنا سنة نطلعك على هذه الفضيلة، تبقى سنة كاملة تطلب العلم عندنا ثم نزودك بها، وأغلب الطلبة الصغار كـعدنان وجماعته لا يقبلون هذا، ونحن -والحمد لله- كم فرحنا وكم سررنا بها وما تركناها مرة من يوم أن سمعناها؛ لأننا طماعون، هذه الفضيلة: ( أن من تلا هذه السورة وانتهى بتلاوته إلى هذه الآية: (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))[آل عمران:18] قال: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، فهي لي عند الله وديعة، يجاء به يوم القيامة، ويقول الله عز وجل: لقد عهد إلي عبدي وأنا أحق من يوفي بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة ). من قرأ هذه الآية أثناء قراءة السورة وانتهى إليها، قال: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة - أي: أتركها عنده وديعة- فهي لي عند الله وديعة، يردها إلي يوم القيامة. قال: يجاء بهذا الشاهد يوم القيامة، ويقول الله عز وجل: لقد عهد إلي عبدي وأنا أحق بمن يوفي بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة. فإن شاء الله تقولونها، ومن قال لكم: الحديث ضعيف؛ ليثبطكم فقولوا له: نحن طماعون. ما الذي يضرني أن أقول هذا؟ هل هذا ينتقص من ديني وإيماني؟ لا. بل يزيد في إيماني وديني. إذاً: نقول: وأنا أشهد بما شهد الله، وأستودعك اللهم هذه الشهادة، فهي لي عندك وديعة ردها إلي عند الحاجة إليها. أي مانع يمنع من قول من هذا؟!
معنى قوله تعالى: (شهد الله)
إذاً: هيا نتدارس هذه الآية، يقول الله: شَهِدَ اللَّهُ [آل عمران:18] بمعنى: علم، إذ الشهادة لا تكون إلا على علم، فلا تشهد على كذا أو كذا حتى تكون قد رأيت أو سمعت أو علمت بوسائط العلم، فحينئذ تشهد. وهنا كثيرون من أهل العلم يقولون: الإيمان المقلد صاحبه لا ينفعه، يقول: سمعت الناس يقولون فقلت. هذا ما يجدي ولا ينفع! كيف تشهد أن لا إله إلا الله؟ كيف عرفت أنه لا إله إلا الله؟ ما هي وسائل معرفتك؟ تقول: نظرت إلى الكون كله فوجدته مخلوقاً مربوباً مدبراً، وعلمت أن خالقه ومدبره اسمه الله، فعلمت أنه لا إله إلا الله! ما عثرنا على خالق ولا مدبر في هذا الكون يحيي ويميت.. يعطي ويمنع.. يضر وينفع.. يضع ويرفع.. يبسط ويقبض، بحثنا فما وجدنا فعلمنا أن الذي يدير هذا الكون هو الرب الحق، هو الإله الذي لا إله غيره، فأنا أشهد أنه لا إله إلا هو.إذاً: لا تقل: سمعت الناس يقولون لا إله إلا الله فقلت لا إله إلا الله. حقاً هذه لا تجدي ولا تنفع؛ لأنه بالإمكان أن تشكك وترجع عما تقول، لكن إذا شهدت شهادة علم ومعرفة وأيقنت أن الإله هو المعبود -من أله بمعنى عبد، والمألوه هو المعبود- وهو من يستحق العبادة فيعبد لا تتزحزح، فتشهد بأنه الذي وهبني حياتي، وأعطاني رزقي وكلأني وحفظني من العوائق ومن العاهات والآفات، ذاك إلهي ومعبودي، بحثتُ عن غير الله فما وجدت، كل الكائنات مربوبة مخلوقة تمضي وتموت، وتتعرض للمحن والفتن، فليس فيها من هو الله يعبد أبداً، فقلت: إذاً: أشهد أنه لا إله إلا الله، فهذه شهادة علم.
من شهد أن لا إله إلا الله فقد وافقت شهادته شهادة الله وملائكته وأولي العلم
وهناك لطيفة في الإمكان أن تعوها، وهي: أولاً: أنك عندما تشهد أن لا إله إلا الله فأنت تشهد بشهادة الله، فمادام الله عز وجل العليم الخبير الحكيم خالق كل شيء قد شهد بناء على علمه أنه لا يوجد إله إلا هو فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فأنت تشهد بشهادة الله.ثانياً: الملائكة الذين يحفون بنا، ويحوطون بالكون وهم يسكنون السموات والأرضين؛ هذه الملائكة كلها مجمعة على أنه (لا إله إلا الله)، فهل بعد شهادة هذا العالم النوراني الذي لا يعرف الكذب ولا يعرف المعصية أبداً شهادة؟ شهادتهم لا تثق فيها أنت ولا تشهد بها؟! نحن نشهد بشهادة الملائكة؛ لأنهم عرفوا الكون ظاهره وباطنه، وما وجدوا من يستحق أن يؤله ويعبد فآمنوا بأنه لا إله إلا الله، فنحن أيضاً نتابع الملائكة.ثالثاً: أولوا العلم.. أصحاب العلم، الرسل، الملائكة، العلماء -أي: العارفون بالله عز وجل- وهؤلاء -وهم بالبلايين- كلهم شهدوا أمام العالم أنه لا إله إلا الله، وأنت تشك مع هذا؟ عهدنا بك إذا شهد أخوك على شيء تقلده، وهذا التقليد حسن؛ لأنه تقليد للعليم الحكيم، والله شهد فأنا أشهد، فأنا لست بأعلم من الله بالكون. إذاً: أنا أشهد بما شهد الله به، وأستودعك اللهم هذه الشهادة، وأشهد بما شهدت به الملائكة ومنهم حملة العرش والكروبيون والموكلون بالأرحام.. بالجنة.. بالنار.. بالسماء.. بالأمطار.. بالكون كله، لو كان إله غير الله مع الله فيعرفونه ويعثرون عليه، ولكنه لا إله إلا الله.رابعاً: الأنبياء مائة وأربعة وعشرين ألف نبي، والرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، والعلماء من آدم والعارفون بربهم.. الكل يشهد أنه لا إله إلا الله وأنت تقول: أنا لا دري؟ أنا أشك؟ أهذا عقل؟! إن الذين ما استطاعوا أن يدركوا هذه الشهادة من النظر إلى الكون يقولون: مادام ربنا قد شهد أنه لا إله إلا هو فنحن بشهادة الله نشهد، وإنهم لفائزون! شهد الملائكة -وشهادة الملائكة فوق كل شهادة من الناس- وشهد الأنبياء والرسل، وشهد العلماء ولا نشهد بشهادتهم؟! إذاً: ما بقيت شهادة في الدنيا، القاضي لا يقضي بشيء أبداً، مع أن القاضي يقبل شهادة اثنين على أن فلان مات وقتلوه ويقتلهم! ويشهد اثنان على أن العمارة الفلانية لفلان فيقضي القاضي بشهادتهما وينقل العمارة للآخر، فكيف إذاً يشهد الله وملائكته والعلماء ولا تقبل شهادتهم وتبقى مرتاباً شاكاً؟!الحمد لله، إذا تلونا هذه الآية نقرر هذه الحقيقة، ونحن نشهد بما شهد الله به، ونستودع الله هذه الشهادة، فهي لنا عند الله وديعة يردها إلينا إن شاء عند الحاجة إليها!
استحالة وجود إله حق مع الله
يا معشر المستمعين والمستمعات! علمتم أنه يستحيل أن يوجد إله حق في العوالم العلوية والسفلية مع الله أبداً، مستحيل! وكل من عبد معبوداً وألهه فعبادته باطلة وهو كافر وكذاب ودجال، فلا يوجد إله أبداً إلا الله، ونحن نوقن بهذا ونقوله عن علم وبصيرة، فلا يخالجنا شك ولا يقع في نفوسنا ريب، ونقسم بالله ملايين الإقسامات أنه لا إله إلا الله.هنا تأملوا! هل الذي شهد أنه لا إله إلا الله يجب عليه أن يعبده أم لا؟ الذي اعترف أن هذه السيارة لإبراهيم بن سلمان نقول له: أعطه سيارته إذاً. فإذا قال: لا أعطيه! وقد اعترف أمام القاضي أن هذه السيارة سيارة فلان فإنه يحتاج إلى الصفع والتأديب. والذي يعلن في وضوح وصراحة ويشهد أنه لا معبود بحق إلا الله ولا يعبده موقفه هذا أسوأ من الذي قال: ما أعترف به أنه الله! فإذا قلت له: لا تجاهر. قال: أنا ما عرفت أنه لا إله إلا هو، فأنا أعبد معه عيسى أو عبد القادر ، والذي يقول: أنا أعرف أنه لا إله إلا هو ولكن لا أعبده هذا أسوأ وأقبح. فلهذا بمجرد ما يقول المرء: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله نقول له: اغتسل فوراً، اغتسل بالماء الطاهر أو الطهور، وصل إذا حضرت الصلاة، وبعد شهرين أو ثلاثة يأتي رمضان فتصوم رمضان، وبعد أربعة أشهر سوف تحج حجة إن استطعت، وإن كان لديك مال وحال عليه فأخرج زكاته، فإن قال: لا. لا أزكي، أو لا أصوم أو لا أحج فكلامه باطل وشهادته مردودة عليه.إذاً: من قال: (أشهد أن لا إله إلا الله) وجب عليه -أولاً- أن يعبد الله، إذ شهد أنه لا معبود إلا هو، فيقول بلسانه ما اعتقد بقلبه.إذاً: لا بد وأن يركع بين يديه سبحانه ويسجد.
صرف نوع من العبادة لغير الله ناقض لشهادة أن لا إله إلا الله
ثانياً: من شهد أن لا معبود إلا الله وعبده ثم عبد معه غيره بنوع من أنواع العبادة قل أو كثر فقد تناقض، فهو قال: أنا أشهد على علم أن لا معبود إلا الله، وها أنا أعبده، وهو في الوقت ذاته يعبد معه غيره بأي نوع من أنواع العبادة، فهذا تناقض، فكيف تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وتعبد سيدك فلان معه، فقد تناقضت.كان المفروض أن تقول: لا إله إلا الله وسيدي فلان! فنفهم عنك أنك تعتقد أن إبراهيم أو فلان يعبد، وأنت تعبده، وهذه العبادة باطلة وهو كفر، لكن فقط من حيث القضاء الشرعي إذا اعترف بأن لا معبود إلا الله، ثم عبد معه غيره فقد تناقض، نقض قوله الأول وأبطل كونه لا إله إلا الله، كان يقول: لا إله إلا الله وفلان معه! فإذا كان صادقاً في القول فلا يقول: لا معبود إلا الله ويعبده ويعبد معه غيره. والغالب أن من عرف أن لا إله إلا الله لا يعبد إلا الله، وإن وقع غير ذلك من بعض الناس فبسبب جهلهم بالعبادة التي فعلوها، والجهل بأنواع العبادات هو الذي يوقع الجاهلين في صرفها وعبادة غير الله بها.
ضابط العذر بالجهل في صرف نوع من العبادة لغير الله
هل يعذرون بجهلهم؟ يعذرون إذا وجدوا في بلد لا يوجد فيه من يعرف الله، وحيل بينهم وبين طلب العلم، أما أن يعيش الرجل سنوات عديدة ولا يعرف لم يعبد الله، ولا ما هي عبادة الله فلن ينجو من غضب الله وعذابه.ونمثل بالعبادة التي هي مخ العبادة وروح العبادة وهو الدعاء، السؤال والطلب، الدعاء هو السؤال والطلب: أعطني واكشف ضري، افعل كذا، هذا هو الدعاء، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة ) حصر العبادة كلها فيه، فما خرج منها شيء، كقوله: ( الحج عرفة )، فكل أعمال الحج اندرجت ودخلت في عرفة فإذا لم يقف الحاج بعرفة ما حج ولو طاف سبعين مرة، وكذلك الدعاء هو العبادة، وورد: (الدعاء مخ العبادة) وإن لم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالها صحابي أو تابعي فمرحباً بها!الدعاء مخ العبادة، فهل يعيش الإنسان بدون مخ؟ لا، إذاً: العبادة لا تنفع بدون دعاء، فالعبادة مخها الدعاء: أعطني، اكشف ضري، فرج عني، سبب كذا، هذا هو الدعاء، والذين يدعون مع الله غيره قد تناقضوا في شهادتهم.ولعل الأحداث ما شاهدوا هذا، لكن كبار السن يعرفون هذا، فقد عاشت أمتنا من آخر الشرق إلى آخر الغرب قبل ظهور هذه الدعوة الوهابية -كما يسمونها- والناس يعبدون الأولياء بعبادة فيها الرغبة والصدق أكثر من عبادة الله، إلا من نجى الله وسلم، فتجد واحداً في القرية، أو خمسة في المدينة، والباقون كلهم: يا رسول الله! يا فاطمة ! يا حسين ! يا عبد القادر ! يا عيدروس ! يا مولاي إدريس ! يا سيدي فلان! وأما الله فنسوه أبداً.تجد الرجل في يده المسبحة يسبح: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله! لا إله إلا الله، فيأخذه النعاس وتسقط المسبحة من يده فيقول: يا رسول الله! فهذا ما يعرف الله! قد يقول قائل: يا سيدي فلان! لعل الشيخ واهم؟ فهنا أقول لكم: إياكم أن يخطر ببالكم أن من يجلس هذا المجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يكذب على الناس، أو يقول بدون علم، انزعوا هذا من أذهانكم. وقد قلت لكم: ركبنا مرة إلى جنب أخينا وهو يقود السيارة فما إن خرجت عن الطريق قال: يا رسول الله! يا رسول الله! فقلت له: أين الله يا فلان؟! تعود على هذا، شب وشاب عليه. وأكثر من هذا نحلف بغير الله! والمؤمنة يهزها الطلق والوجع وهي تلد وقد وضعوا لها حبلاً في خشبة أيام لم يكن هناك طبيبات ولا أطباء، ويا أسعد تلك الأيام! يهزها الطلق: يا رب! يا رسول الله! يا ألله! يا سيدي فلان! يا سيدي فلان! فتذكر مرة الله ومرة الأولياء، ولو ماتت على تلك الحال ما شمت رائحة الجنة. هذه هي عبادة غير الله، دعاء وسؤال غير الله شرك وكفر وإبطال لشهادة لا إله إلا الله، فكيف تشهد أن لا إله إلا الله ثم تؤله معه فلاناً؟ سيقول: يا شيخ! أنا ما ألهته. فأقول له: دعاؤك، طلبك، سؤالك منه والله لهو التأليه إذا ما تعرف! لولا رغبتك وطمعك واعتقادك أنه يعطيك والله ما سألته! فليبلغ السامعون والسامعات الغافلين والغافلات أن من قال: يا فلان! يدعوه ويسأله فقد أشرك في عبادة الله، ونقض شهادة لا إله إلا الله! نعم. يجوز أن تقول: يا إبراهيم! يا عثمان! يا أخي يا أبتاه! يا خادم! إذا كان يراك وتراه ويسمع كلامك وتسمع كلامه، ويقدر على أن يعطيك ما تطلب، لو تقول: يا أعمى قدني! يضحك عليك الناس أم لا؟ تسأل أعمى أن يقودك في الشارع وهو أعمى! تقول لفقير مسلوخ: أعطنا ألف ريال. يضحك عليك الناس أم لا يضحكون؟ يضحكون إذ كيف تسأل من لا يملك؟!فلهذا إن دعوت حياً يراك ويسمع ويقدر على أن يعطيك ما تطلب جاز ذلك بإجماع المسلمين، وأذن الله فيه، يا فلان! من فضلك كأس ماء، هذا لا بأس، ولا نقول: هذا دعاء غير الله، فهذا أذن الله فيه، وهذا من التعاون: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2] لكن شخص لا تراه ولا يراك وبينك وبين بلاده عشرة آلاف كيلو متر ومات منذ ألف سنة وتناديه فلا، فهذا شرك. أسألكم بالله! كم ألف كيلو متر بين المغرب والعراق؟ عشرة آلاف كيلو، وبينك وبين عبد القادر ألف سنة، وتقول: يا سيدي عبد القادر ! يا راعي الحمراء، يا مولى بغداد ! المدد، تضحك على نفسك أم ماذا؟! أهو يسمع؟! والله يخبرك أن الميت لا يسمع وإن سمع فلا يستطيع أن يعطيك سؤلك، وقد بين تعالى هذا بياناً شافياً فقال: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14] والله ما يقف عبد القادر ولا سيدي إبراهيم ولا فاطمة ويقول: يا رب! سامحه، هذا كان يدعوني! والله ما من أحد إلا يتبرأ ممن كانوا يدعونه ويعبدونه. وضحت قضية السؤال والدعاء أم لا؟ الدعاء هو العبادة، فارفع يديك إلى الله في السوق بين الناس أو في أي مكان ولا يلومك إلا أحمق أو مجنون! رفعت كفيك إلى ذي العرش الذي يملك كل شيء، ويقدر على إعطاء كل شيء، فاسأله ولا تخف، أما أن تسأل من لا يراك ولا يسمعك وإن سمعك لا يقدر على أن يعطيك شيئاً فأنت بهلول تلعب وتعبث! وقد قلت لكم: شخص ليس عنده شيء فكيف تقول له: أعطني؟ أنت تضحك على نفسك! كالذي يقف على خربة دار مهدمة سقوفها طائحة، أبوابها منزوعة، فيقف أمام البيت فينادي: يا أهل الدار! إني فقير! يا أهل البيت إني محتاج. ليس في البيت أحد، فامش إلى بيت فيه أهله والطعام بين أيديهم واسألهم!
من شهد أن لا إله إلا الله وجب عليه أن يعبده
ثالثاً: الذي يشهد أن لا إله إلا الله بشهادة الله والملائكة وأولي العلم يجب أن يعبد الله، وإلا لا تغني عنه شهادته، بل يعتبر منافقاً.
من شهد أن لا إله إلا الله لا يسمح لنفسه أن يعبد مع الله غيره
رابعاً: أن لا يسمح لنفسه أن يعبد مع الله غيره أبداًً، لا من الملائكة ولا من الإنس ولا من الجن، لا من الأفاضل ولا من الأسافل، فلا يعترف بالعبادة إلا الله، والدعاء من أبرزها وأظهرها.
من شهد أن لا إله إلا الله لا يقر عبادة غير الله
خامساً: أن لا يقر عبادة غير الله، فإن كان يشهد أن لا إله إلا الله وعبد الله بتلك الشهادة وتبرأ من الشرك ولم يعبد غير الله ثم يسمح للآخرين أن يعبدوا غير الله فقد تناقض.لم إذاً تقول: لا إله إلا الله وأنت تراهم يعبدون غير الله وتبارك وتسكت؟! علمهم بأن هذا باطل، وأن هذا شرك، ولا يصح أبداً، فإن سكت وضحكت وقلت: لا بأس؛ فمعناه: أنك اعترفت بعبادة غير الله، وحينئذ تناقضت، وكان المفروض أن تقول: اللهم إلا فلاناً الذي يعبده الفلانيون. فنحن لا نقر النصارى على عبادتهم أبداً، ما أمرنا بقتلهم ولا قتالهم، ولكننا لا نعترف بأنهم على حق، وأنهم يعبدون غير الله، بل هم كفار من أهل النار.
معنى قوله تعالى: (قائماً بالقسط)
قال الله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18] القسط: العدل. إي والله! فعلى العدل قام أمر السماء والأرض، وإذا حل الجور أو الانحراف أو الميل فسدت الحياة. من القائم بالقسط؟ إنه الله، ولو تلاحظ -فقط- عدل الله في الكواكب كيف تستمر آلاف السنين فلا تسقط! عدله في عباده.. في رزقهم.. في تصحيحهم.. في تمريضهم.. في إعطائهم.. في منعهم.. في كل مظاهر الحياة، فهي تدل على عدالة الله عز وجل.
معنى قوله تعالى: (لا إله إلا هو)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18]، فلا نثبت إلهاً آخر غير الله.كثيراً ما نقول: هيا نحقق هذا القضية، فندخل مجمع روسيا العلمي أو جامعتهم أو وزارتهم وهم فلاسفة لا يؤمنون بالله، وهم جالسون بأقلامهم وآلاتهم،علماء، وكما كانوا يتباهون ويتفاخرون الآن ذلت أنوفهم وانكسرت وانتهت الشيوعية، ونقول: اسمعوا، لا إله إلا الله، انقضوها يا علماء! هذه جملة خبرية كأن تقول: فلان غائب، أو فلان موجود، فتثبت وجوده أو غيابه، فلما نقول: لا إله إلا الله انقضوها، فإنها تنقض بشيئين إن توفر أحدهما انتقضت وبطلت لا إله إلا الله.الشيء الأول: تنقض بوجود إله مع الله. ابحثوا عن إله مع الله! قالوا: عيسى. فقلنا: هذا عيسى بن مريم ولدته امرأة، ومضت آلاف السنين وهو غير موجود فكيف يوجد غيره؟الشيء الثاني: انقضوها بأن تثبتوا أنه لا إله بالمرة. وهذه أضحوكة وسخرية ولا يقولها إلا معتوه مسحور مجنون. قف في المجتمع، واسأل من يعاند وينكر وجود الله: أنت موجود أو غير موجود؟ فإن قال: أنا غير موجود. فهذا مجنون هذا! هذا الذي يقول: أنا غير موجود مجنون لا عقل له، فأبعدوه. ثم اسأل الآخر: أنت موجود أو غير موجود؟ فإن قال: كيف غير موجود؟ أنا موجود، أسمع وأبصر وأعي. تقول له: من أوجدك؟! فيقول: ها! فقل له: إذاً: الله هو الذي أوجدك! تحطمت الشيوعية وانتهت نهائياً، فمن ذا الذي يكون من العقلاء ويقول: أنا غير مخلوق؟! من يقول: أنا غير موجود؟ إن قال: مخلوق، فنقول له: ابحث عن خالقك من هو! وإن قال: موجود. نقول له: من أوجدك؟ اسأل، فيقول: اذهب إلى اليابان وأسأل العلماء: من أوجدني؟فنقول: تعال عندنا نعلمك من أوجدك إن كنت لا تعلم، ولكنهم بالفطر والغرائز الإلهية المغروزة سوف يقولون: الله حسب بلغته أحب أم كره.وحدثني أحد الإخوان وقد مات رحمة الله عليه، قال: كان يعيش في فرنسا وبدأت البلشفية الحمراء، وبدءوا يتمزقون ويدينون بـ(لا إله والحياة مادة)، دعونا من الكنيسة، وقد كانت له صديقة أو صاحبة مسيحية تدرس في الجامعة، وتقرر في نفسها أنه لا إله، لا عيسى ولا الروح، وتبلشفت، وهي تجادل على ذلك. قال: لما حملت وجاء الطلق وأرادت أن تلد ذهبت إليها في المستشفى -مستشفى الولادة- فوجدتها تصرخ: يا ألله، يا رب! فأخرج لها ألف فرانك وقال لها: هذا إلهك الأول، فلم لا تقولي: يا فرانك! يا فرانك! بل تقولي: يا ألله؟! قالت: اذهب عني. وهي كانت إذا جادلت تقول: الإله هو في جيبي.. الفرانك، دعونا من كلمة الله والدين هذه، فلما وقعت في محنة الولادة وهي إلى الموت أقرب من الحياة خرج لها هذا، فقالت: اذهب عني، الله هو الذي ينجيني ويخلصني.إذاً: الآن أقمنا شهادتنا على العلم، فنشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.إذاً: شهدنا الله بالوحدانية، فمحمد كيف عرفنا أنه الرسول؟! خصومه قالوا: ساحر. قالوا: كاهن. قالوا: مجنون. قالوا: عميل. قالوا: كذا. فكيف تقيم البرهنة على شهادتك أنه رسول الله؟ ماذا تصنع يا عبد الله؟! أقرب طريق وأيسره وأسهله أن تقول: هذا القرآن نزل عليه، فكيف ينزل عليه كتابه ويوحيه إليه بطريق الوحي ولا يكون رسولاً؟ مستحيل هذا! فحسبنا في شهادتنا أن محمداً رسول الله: أن الله عز وجل اصطفاه وانتخبه واختاره من بين بلايين البشر وأنزل عليه كتابه.هل هناك دليل أعظم من هذا؟ كيف يكون غير رسول الله والله أنزل عليه كتابه وأرسله وناداه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]، وطالب البشرية بالإيمان به؟! إن الذي ينكر رسالة محمد مجنون أحمق معتوه، أو نصاب محتال يريد أن يعيش على حساب جهل الناس وتضليلهم، فنبوته صلى الله عليه وسلم ثابتة أوضح من ثبوت الشمس! فهو صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، عاش أربعين سنة ما عرف كلمة وقال: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس:16]، بعد ما عاش أربعين سنة ما قال كلمة ولا ادعى كلمة، وبعد ذلك ينزل عليه الوحي الذي يحمل الهداية الإلهية للخلق أجمعين أبيضهم وأسودهم، وتقولون: ما هو رسول! كيف ما هو برسول؟ والله ما أنكر رسالته إلا الطماعون والماديون أحباء البغي والعدوان والتسلط من اليهود والنصارى.إذاً: شهد الله أنه لا إله إلا هو، ونحن نشهد بما شهد الله به، ونعلنها على المآذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا هو. أي: لا معبود في السماء ولا في الأرض بحق إلا هو فقط. ولو قيل لك: ما الدليل؟ فتقول: الدليل: أنه لا يوجد من خالق لذرة أبداً سوى الله، كم من مرة نقول: لو اجتمعت البشرية على أن تخلق ريشة فقط ما استطاعوا! لو اجتمعت البشرية على أن تخلق خفاشاً أو بقرة أو إنساناً والله ما فعلت! هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3] لا أبداً، إذاً: لا إله إلا الله.
معنى قوله تعالى: (وهو العزيز الحكيم)
قوله: الْعَزِيزُ [آل عمران:18] معناه: الغالب القاهر الذي لا يمانع في شيء أراده، فإذا أراد شيئاً لو تجتمع الخليقة كلها على أن تحول الله عن مراده والله ما استطاعت ولا تقدر إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] فهو على الفور يكون!إذاً: العزيز معناه: الغالب القاهر الذي لا يمانع فيما يريد، والذليل من أمثالنا يريد الشيء ولا يقدر عليه، يأخذ الشيء ويؤخذ منه بالقوة؛ لعدم عزته، أما الله العزيز الكامل العزة الحكيم فلا غالب له، ولا يمانع فيما أراد. الله حكيم أم لا؟ هو الحكيم سبحانه، وعندكم تسمون الطبيب بالحكيم، زمان كان الطبيب لا يعرف إلا بالحكيم؛ لأنه يعرف أين يضع الدواء في الداء! لو يعطيك الطبيب كأساً من الليمون ويقول: ضعه عند قدمك، فكيف يكون حكيماً؟ ليس بحكيم! لو أعطاك عسلاً وقال: العسل هذا غسل به وجهك، فهذا ينفع من داء البطن فهل يكون حكيماً؟ الحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه، ولا يخالفه أبداً، فالطبيب سمي حكيماً في لسان البشرية كلها لأنه يعرف الداء، ويضع الدواء على الداء؛ فيبرأ العبد بإذن الله. والله عز وجل هو الحكيم العليم، فكر في كل شيء تجد حكمة الله ظاهرة! من خالقنا؟ إنه الله! نحن أهل الحلقة ألف نسمة، هل يوجد أحدنا لا يميز عن أخيه إلى جنبه مع أن العينين والأنف والشفتين والفم والعنق والرأس والصدر والجسم هو هو لا نختلف عن بعضنا؟ أبداً!لكن انظر إلى أي واحد لا تستطيع أن توجد واحداً مثله لا يفرق بينهما. لا قدر الله! لو شاء الله لقال: كونوا كـعدنان، ونخرج كل واحد يذهب إلى بيت فلان أنا هو، كيف يعرفونه؟ البشرية كلها على صعيد واحد الآن لو تجتمع لا يلتبس اثنان ويختلطان أبداً! قولوا: آمنا بالله، فهذه نظائر الحكمة العجب، إذ لو اختلطنا وأصبحنا كالسيارات من تكون له مرأة خاصة به؟ من يكون له ولد؟ من يكون له بلد؟ من يكون له.. كل الناس سواء! لكن العليم الحكيم خلقنا على كثرة ما خلق فينا وكل له ميزاته وخواصه يتميز بها! من يقدر على هذا غير الله؟! حكيم أم لا؟ وانتقل من هذا إلى غيره والله ما وجدت فقيراً إلا لحكمة الله، ولا غنياً إلا لذاك، ولا صحيحاً ولا مريضاً ولا عالماً ولا جاهلاً إلا لحكمة ربانية اقتضت ذلك. إذاً: يسلم الأمر للحكيم ولا ينازع؟
بعض مظاهر منازعة الخلق لله في أمره
ولكنكم أنتم نازعتموه عز وجل وذلك بأمور: أولاً: الحكام المسلمون أبعدوا شرع الله وقدموا شرع غيره. ما هو موقفهم؟ أبعدوا الله أم لا؟ اتهموه بالنقص، ما عنده علم. يقولون: هذه الشرائع التي جاءت من أوروبا هي التي تحقق العدل والمساواة وتحقق كذا وكذا، أما شريعة الله هذه فقد أكل عليها الدهر وشرب. والله لهذا هو موقف من يحكم شرع غير الله، وهو يقول بلسان حاله: الله لا حكم عنده، وليس هو لها بأهل، ولذا شرعه ما يسعد ولا يكرم ولا يحقق هناء ولا سعادة. واضحة هذه أم لا؟ فيا ويلهم! ويا ويحهم يوم يسألون، لو عرف حاكم ما عرفتم هذه الليلة فسيدعي أنه جن وسيقول: انقلوني إلى المستشفى، أنا مجنون! هرباً بنفسه، لكن ما علموا، ما بلغهم، وما اتضح الأمر لهم، فقلد بعضهم بعضاً.ثانياً: المبتدعة الذين يبتدعون البدع ويقدمونها على أنها عبادات يعبد بها الله عز وجل، هؤلاء اتهموا الله بعدم الحكمة وبعدم العلم.
التعريف بالطريقة التيجانية وتحذير المسلمين منها
هذا يوحي إلي ويقول: هناك شخص بيننا متعصب للطريقة التجانية فبين لنا بعض الشيء عنها يا شيخ؟اسمعوا! إخواننا من الجن كانوا مورطين مثلنا اليوم، وقالوا: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11] وها نحن ما زلنا طرائق قدداً، هذا تجاني، هذا عثماني، هذا قرظي، هذا رحماني، هذا علوي، فلا إله إلا الله! كيف هذا؟ والله القرية الواحدة تجد فيها هؤلاء من إخوان عبد الرحمن، وهؤلاء من إخوان عبد القادر ، هؤلاء من إخوان سيدي عبد الحفيظ وهكذا! أي ظلم أعظم من هذا الظلم؟ الله يقنن ويشرع ما فيه السعادة والكمال والشياطين تنفخ في الصدور وعلى ألسنة أوليائها ويقننون ويشرعون للأمة ويمزقونها ويشتتونها! يا أخانا! يا تجاني! قل: أنا مسلم، وانزع كلمة تجاني أو تهلك وتحترق، فأنت تناهض محمداً في أمته، وإياك أن تقول: أنا تجاني. بل قل: أنا مسلم.أيام الهبوط كانوا يقولون: هذا سيدي فلان المالكي، المذهب التجاني، الطريقة، الـ: كذا، الـ كذا، نعم. الجهل وظلمته. من عرف التجانية؟ قد بينا للصالحين وأنقذهم الله بالآلاف وعشراتها ومئاتها، أولاً: سيدي أحمد التجاني هذا جزائري، عاش في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، فهو ليس من الصحابة، جاء بالطريقة التجانية، ورد يذكرون الله به في الصباح والمساء. لو أتى بهذا الورد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال حين يصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة كتب الله له مائة حسنة، وحط عنه مائة سيئة، وكأنما أعتق عشر رقاب ) عدل عشر رقاب، فلا بأس، أما أن يقول: هذا ورد الشيخ، ولا ينسب هذا إلى الله. وما يعطي هذا الورد؟ أكثر الطرق يعطون ورداً لا ينفع، ومن ذلك الذكر بلفظ: الله الله الله الله الله ساعتين أو ثلاث ساعات! أحدهم كان في باريس وكان له جيران نصارى جاء إخوانه من الشرق والغرب وأحيوا تلك الليلة على طرقتهم: الله، الله، الله، يضربون الخشب تحت أرجلهم، فتاهت الفرنسيات: ما هذا الذي حصل؟ اتصلت الشرطة: ما الذي حصل؟ قالوا: نحن نتعبد. تتعبدون هكذا؟! أبهذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وينتقلون من: (الله) إلى (هو هو هو هو)! ولا حول ولا قوة إلا بالله. ما هذه المحنة؟ إنه الجهل يا شيخ! من عيوب هذه الطريقة -وهي طريقة أحياناً تكون خيراً من كثير من الطرق، وفيها بعض الفضائل- من عيوبها: الصلاة الفاتحية، صلاة الفتح، وصيغتها: اللهم صل على محمد الفاتح لما أغلق، الخاتم لما سبق، ناصر الحق بحق، والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم. هذه الصلاة من حيث الصيغة هي معقولة مع ما فيها من المبالغة، لكن.. ما مصدرها؟ مصدرها عندهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج يقظة لا مناماً، وأعطاها الشيخ!وقال: إنها تعدل سبعين ختمة من القرآن! تقولها مرة كأنك ختمت القرآن سبعين مرة. هذه من وضع اليهود والنصارى؛ لصرفنا عن القرآن، فما دامت صلاة الفاتح مرة تعدل سبعين مرة من القرآن والله ما نقرأ القرآن! لم أقرأ عشرة أيام وأنا أقرأ حتى أختم ختمة؟ ومرة واحدة أصلي صلاة الفاتح بسبعين ختمة؟ ويعتقدون أنه الحق. هؤلاء كذبوا على الله، وكذبوا على رسول الله، وكذبوا على أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما مصير من يكذب على الله ورسوله والمؤمنين؟ هل الرسول يخرج يقظة ويعطي للشيخ الصلاة؟ هل يقول هذا ذو عقل ودين؟ لو كان الرسول يخرج لخرج لـفاطمة لما غضبت وحزنت! لو كان يخرج لم ما خرج يوم السقيفة -سقيفة بني ساعدة- لما اختلف الأصحاب فيمن يولون؟! لماذا ما جاء الرسول لما طوقت المدينة بالاشتراكيين والماديين، جاءوا من مصر والعراق ومن كل بلد، الطماعون الماديون، والصحابة ما استطاعوا أن يفعلوا شيئاً، يريدون أن ينقذوا دماء المؤمنين ولا كلمة واحدة، وفوضوا أمرهم إلى الله، انطبقت عليهم الجماهير المتكالبة على الدنيا؟ لم ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومزق ذلك الجمع؟! لم تقحموا بيت عثمان وذبحوه والمصحف بين يديه ولم يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لو كان الرسول يخرج لم ما يخرج في وقعة صفين؟ هذا من الكذب الفظيع، يكذبون على رسول الله، وتقبل الأمة وتمد أعناقها وتصدق، نعم كلام سيدي الشيخ، صلاة الفاتح.أنصح لأخي هذا أن يتبرأ من الآن من هذه الطريقة، فما عندنا إلا طريقة محمد صلى الله عليه وسلم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153] أي: الطرق فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] لا تجانية، لا قادرية، لا رحمانية، لا عيساوية، لا أباضية ولا زيدية، لا كذا أبداً، لا إسماعيلية، لا رافضية، ولا شيعية، ليس هناك إلا: (لا إله إلا الله، محمد رسول اللهـ، نعبد الله وحده من طريق رسوله بما بين وقنن من كلمة الله أكبر إلى أن نخرج الأموال من جيوبنا. ركض العدو ركضاً كبيراً وتمكن منا فمزقنا فكم من مذهب، وكم من طريقة، وكم من دولة ودويلات، وكم من حزب، حتى أهل الدين عندنا متحزبون! هذا كذا، وهذا كذا، وهذا كذا، أمراض ما شعرنا بعدها بالصحة أبداً!
الاجتماع على الكتاب والسنة هو طريق الفوز والنجاح
ما هو العلاج؟ تريدون العلاج والدواء الشافي؟ اسمعوا! ها هو إبراهيم وإسماعيل يبنيان الكعبة يناول إسماعيل إبراهيم الصخر والحجر وإبراهيم يضعها، وهما يتقاولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]. تعرفون التقاول؟ لما يشتغل العمال المؤمنين يأتون بقصائد وكلام للتخفيف عن أنفسهم، فإسماعيل وإبراهيم عليهما السلام كانا يقولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] وهما يبنيان، واستجاب الله هذه الدعوة، وبعث في أولاد إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم الناس الكتاب والحكمة، ويزكيهم، يهذب أرواحهم وآدابهم وأخلاقهم.إذاً: أيما أهل بلد أو قرية أو إقليم أو بيت يجتمعون على كتاب الله وسنة رسوله، فهذا هو التبيين، وهذا هو الطريق، فلا حزبية، ولا تجمعات، ولا تكتلات، ولا انتماءات، فإنها مظاهر المرض وأعراضه قطعاً، فأهل القرية كلهم مسلمون، إن كان فيهم نصراني أو يهودي فهو منزو في بيته لا علاقة له بهم، فإذا مالت الشمس إلى الغروب ودقت الساعة السادسة يتوضئون ويحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، فإن كان المسجد ضيقاً وسعوه ولو بالخيام، ولو بالحطب والخشب؛ حتى يتسع لأهل القرية فيجلسون من المغرب إلى العشاء بين الصلاتين يتعلمون ليلة آية من كتاب الله يحفظونها ويفهمون معناها، ويعزمون ويعتزمون على القيام بما تدعو إليه.وليلة أخرى حديثاً -أي: سنة- وهكذا يوماً آية ويوماً حديثاً، وتمر الأربعين يوماً والأربعة أشهر والعام؛ فيجدون أنفسهم مذهبهم واحد، ليس هناك مالكي ولا حنبلي ولا شافعي ولا زيدي ولا أباضي، فهم مسلمون، مذهبهم واحد.ثانياً: لما تتحد الكلمة هل يستطيعون أن يعيشوا في قريتهم شباعاً وإخوان لهم جياع؟ والله ما يستطيعون. هل يستطيعون أن يأمنوا وإخوانهم يظلمون بينهم ويعتدى عليهم؟ والله ما يستطيعون. كل ما في الأمر من مظاهر العجز والضعف والفقر والشر والخبث والفساد كلها تنقضي بنور الله، ووالله ليتحقق ما قلت متى أقبل أهل القرية وأهل الحي على الله في كتابه وهدي رسوله. ومن شك في هذا فسيقول: ممكن الطعام لا يشبع، وحتى الماء ما يروي، وتتأخر هذه السنن.فنقول له: كيف تتأخر هذه السنة؟ هل هناك طريق سوى هذا؟ والله لا طريق إلا هذا، نرضى أو نسخط، إن أردنا أن نعيش وأن نكمل وأن نفوز وأن نقود البشرية فعلينا أن نعود إلى منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، لا فرقة بيننا أبداً، بل قال الله وقال رسوله.وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-16, 06:02 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (78)
الحلقة (219)
تفسير سورة آل عمران (80)


أخذ الله عز وجل على علماء بني إسرائيل الميثاق على بيان الحق وعدم كتمانه، وهذا العهد والميثاق يتناول علماء المسلمين من باب أولى، فهم حملة الرسالة، وخلفاء المصطفى صلى الله عليه وسلم وورثته في تبليغ الدين، كما حذرهم سبحانه وتعالى من أن يطمعوا في ثناء الناس ومدحهم على ما يفعلون من المعروف والخير، فضلاً عن الفرح بمدحهم على ما لم يفعلوه، بل الواجب في حقهم طلب مرضاة الله والرغبة بما عنده سبحانه وتعالى.
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة الثلاثاء من يوم الإثنين ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ). اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.ما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومعنا ثلاث آيات مباركات، فهيا بنا نتغنى بها، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، من أجل أن نعلم فنعمل؛ لما فيه رضا الله عز وجل، وهو ما يزكي أنفسنا ويطهر أرواحنا؛ لنصبح أهلاً لجوار الله عز وجل في الملكوت الأعلى.قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:187-189].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!يقول تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:187]، الميثاق: هو العهد المؤكد باليمين والموثق به، وهو العهد بينك وبين آخر وتؤكده باليمين عليه أن تفعل أو لا تفعل.(وإذ) هنا في خطاب الحبيب صلى الله عليه وسلم، بمعنى: اذكر يا رسولنا لهم إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، والذين أوتوا الكتاب -أي: أعطوه-، و(الكتاب) هنا هو التوراة والإنجيل، ويدخل فيه كل من أوتي الكتاب من قبلنا أو منا، ونحن أوتينا أعظم كتاب وأجله، إذ نسخ كل ما سبقه من الكتب.فهذا الميثاق أخذه الله عز وجل وبينه بقوله: لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ [آل عمران:187]، واللام موقعه للقسم: وعزتنا وجلالنا، (لتبينن) ذلك العلم وذلك الهدى، وذلك النور الذي في كتابنا الذي أنزلناه إليكم. لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ [آل عمران:187] أبيضهم وأسودهم، مؤمنهم وكافرهم، إذ لفظ الناس عام ولا مخصص له. وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] وكتمان الشيء جحده وتغطيته وستره وعدم الاعتراف به، والمقصود به هو عهد الله وميثاقه.أقول: أخذ الله العهد على أهل الكتاب قبلنا، ونحن أيضاً مأخوذ عنا، فيجب على أهل القرآن أن لا يكتموا منه حرفاً واحداً، ويجب أن يبينوه للناس، ويبينوا لهم ما أحل الله فيه وما حرم، وما ألزم وأوجب وما نهى، وتوعد وأوعد. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:187] وهو: لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، فماذا فعلوا مع الأسف؟ قال تعالى مخبراً عنهم وهو العليم بهم: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187]، يقال: اجعل الشيء نصب عينيك، وارمه وراء ظهرك، كناية عن عدم الالتفات إليه والأخذ به ومعرفته، نبذوه وراء ظهورهم أولاً. ‏
معنى قوله تعالى: (واشتروا به ثمناً قليلاً...)
وثانياً: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:187]، فوجه الاشتراء بالقرآن أو التوراة الثمن القليل أنهم يفتون بغير الحق ليحصلوا على دراهم ودنانير مقابل الفتيا، يشترون به ثمناً قليلاً، يجحدون ما فيه من هداية الله؛ ليبقى أتباعهم على ما هم عليه، وهم رؤساؤهم وقادتهم وموجهوهم؛ ليعيشوا قادة وسادة لهم يأكلون على حساب دين الله تعالى.وهذا الذي حصل لأهل الكتاب حصل نظيره لأمة الإسلام، فمشايخ الطرق والتصوف جلهم إلا من رحم الله يجحدون إن كانوا عالمين، وإلا فأكثرهم لا علم لهم ولا بصيرة بدين الله، ويستغلون تلك الشخصية الدينية، وإذا بالناس مريدوهم -أعني مريديهم- يسوقون إليهم قطعان البقر والغنم، والعسل والزيت والسكر؛ من أجل أن يشفعوا لهم يوم القيامة وأن يستجيب الله لهم دعاءهم، وهكذا في العالم الإسلامي منذ أن تراجع مجدهم وعزهم في القرن الثالث وهذه حالهم، يفتون العلماء، ويفتون السلاطين والملوك والرؤساء بما يرفع من قيمة الملوك والرؤساء بين أفراد الشعب، فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، ويكتمون ذلك كتماناً، ويرمونه وراء ظهورهم؛ من أجل الحصول على المنصب وعلى المال، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:187]، وهذا حصل في العالم الإسلامي من القرن الثالث، وهذا النوع موجود من العلماء، وحصل عند أهل الكتاب، حسبهم أنهم إلى الآن يصرفونهم عن الإسلام، بما يكذبون ويدعون، ويفترون على الله وعلى رسوله الكذب، فالذي منع اليهود والنصارى من أن يدخلوا في الإسلام هم رؤساؤهم، يعيشوا على تلك الرياسة والناس تحت أقدامهم وأرجلهم، فهذا بيان الله عز وجل. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:187]، أي: اذكرهم بالذات لجماعة اليهود، فقد بين لهم الطريق، لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، فالبيان الشرح والتفصيل، وعدم الكتمان أيضاً بيان الحق في كل قضية من قضايا الأمة، فما كان منهم إلا أن نبذوه وراء ظهورهم، واعتاضوا عنه الخرافات والضلالات، وما دونوا وكتبوا وما ابتدءوا، وقالوا. وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:187]، ثمن الدنيا كله قليل، وإن كانت لهم رئاسة ومناصب وأموال وخدم و.. و.. هذا كله قليل بالنسبة إلى ما عند الله في الدار الآخرة.أقول: على علماء الإسلام أن لا يكتموا ما جاء في كتاب الله، وعلى لسان رسوله، وأن يبينوه ولا يخافون في الله لومة لائم، وليصبروا على الفقر إن افتقروا، وليصبروا على التعب إن تعبوا؛ لأنها أمانة الله، حتى لا يراهم الله عز وجل قد كتموه ولم يبينوه واستغلوا ذلك فأكلوا وشربوا على حساب كتمان دين الله وجحوده.فكل من علم وعرف ينبغي أن يبين ويوضح لإخوانه، ولامرأته ولأولاده، ولجيرانه؛ لأننا أشرف أهل الكتاب، وكتابنا أجل وأعظم.
تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ...)
ثم قال تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم أيضاً: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:188].معاشر المستمعين والمستمعات! هنا آداب وتعاليم.. فالآية وإن نزلت في جماعة، لكنها عامة، بمعنى: يا عبد الله! لا تفرح..نقول: الذي أتى علماً، معرفة، هدى، بيان، صلاة، زكاة، صدقة، جهاد، رباط.. هذا الفرح به هو البطر والأشر، والعلو والسمو، هذا لا يرضاه الله لعبده المؤمن.قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ [آل عمران:188]، بماذا؟ بِمَا أَتَوا [آل عمران:188]، أي: فعلوا؛ جهاد جاهدوا، أموال أنفقوها، علمٌ بينوا، ليلٌ قاموا، صيام صاموا، ويصبح ذلك الفرح تبجحاً لهم، وأشراً وبطراً، فهذا الموقف لا يرضاه الله لأوليائه، نعم نسر بالعمل الصالح ونجد برودته في قلوبنا، لكن لا نتبجح به ونعلن عنه لنصبح بين الناس سادة، أو أتقياء أو أولياء أو علماء.ونذكر أن رجلاً مدح أخاه في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: ( ويحك ) وفي رواية: ( ويلك لقد قصمت ظهر أخيك )، فالمؤمنون الصادقون والمؤمنات الصادقات إذا فعلوا خيراً لا يطلبون منه الشهرة والسمعة وأحاديث الناس، ولا يطلبون به التعالي والترفع عن غيرهم؛ لأنهم صاموا والغير ما صام، تصدقوا وغيرهم ما تصدق؛ لأن الرياء هو الشرك، فإذا أتيت يا عبد الله عملاً صالحاً احمد الله عز وجل، واسأله القبول، وابك بين يديه أن يديم هذا العمل ولا ينقطع عنك، لا أن تظهر في مظهر أنك وأنك فعلت، وأنك تفعل وتفعل. يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [المؤمنون:60-62]. سألت عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة.. فهمت عائشة رضي الله عنها أنهم يرتكبون الآثام والذنوب وقلوبهم خائفة، فأعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنهم يأتون الصالحات وهم خائفون أن لا تقبل منهم؛ لخشيتهم وتقواهم )، يفعلون الصالحات وهم خائفون أن لا تقبل، فليسوا أولئك الذين يرتكبون الذنوب وهم خائفون مشفقون، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] خائفة من الله من أن لا يقبل منهم ذلك العمل الصالح.فكيف إذاً بالذي يفعل العمل الصالح ويتبجح به، ويعلن عنه ويظهره، بل يحمل على أن يتكبر به وأن يرى الأفضلية له، هذا الخلق ما يرضاه الله؛ تورط فيه أهل الكتاب، فكانوا معاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، إذا فعلوه رأوا أنهم أفضل وأنهم أقدس وأطهر من غيرهم، حتى المنافقون وقعوا في هذه المحنة، فأدبهم الله عز وجل بهذا الكلام الموجه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا [آل عمران:188]، أي: ما فعلوا من الأفعال: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، فهذه زلة أخرى. الأولى: يفرحون بما أتوا، فيحملهم ذلك على البطر والأشر والفخر والمباهاة.وأخرى: ما يفعلون العبادة ولا العمل الصالح، ويبحون أن يحمدوا عليه، بواسطته يريدون أن يعلنوا للناس أنهم فعلوا وما فعلوا، من أجل أن يحصلوا على ذكر الخير، وعلى الثناء والحمد من الناس، فهذا نعوذ بالله تعالى منه.أولاً: معاشر المستمعين والمستمعات! لما يوفقك الله لعمل صالح لا تستعلم به وتذكره تطلب ثناء الناس، وتطلب الشرف عليهم والسمو، اترك هذا لله، بل افعله وأنت خائف أن لا يقبل منك: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، يأخذ ألف ريال وهو في حاجة إليها، ويضعها في جيب الفقير، وهو خائف أن لا تقبل منه، لا أن يقول: فعلنا وتصدقنا ونتصدق، وأعظم من هذه أنه ما يفعل ويريد أن يُحمد بين الناس وهو ما فعل، إما بالإعلانات في الجرائد، وإما بأحاديث الناس وإلا كذا وكذا؛ ليحصل على الثناء بدون ما فعل ولا قدم، كلا الخلقين مذموم، ولا ينبغي لمؤمن أن يتخلق به.يقول تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا [آل عمران:188]، أي: من الأعمال الصالحة: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، من جهة يتبجحون ويتطاولون ويثنون على أنفسهم: فعلنا وفعلنا وفعلنا من الصالحات هذا لا يصح، ومن جهة ثانية ما يفعلونه أموراً ويودون أن يحمدوا بين الناس ويثنى عليهم وأنهم فعلوا وفعلوا، وما فعلوا، كلاهما مذموم ولا يصح لمؤمن ولا مؤمنة.وقوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمران:188] يا رسولنا بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ [آل عمران:188]، ما بعدوا عنه أبداً ولا رحلوا من ساحته، بل هم فيه قائمون عليه: لا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ [آل عمران:188] هذا في الدنيا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:188] في الآخرة، الذين يراءون ويتبجحون ويريدون أن يسودوا على الناس بالكذب هؤلاء سوف ينزل بهم عذاب الله في دنياهم، وما يدخر لهم في الآخرة والعذاب الموجع الأليم.
تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السموات والأرض...)
قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:189] ما منا إلا مملوك لله، أنت ومالك وزوجتك وأولادك مملوك، البلاد كلها وملكها ورجالها كلها مملوك لله، لا يخرج شيء أبداً عن قبضة الله وملكه، فنرجع إذا أردنا الصواب إلى الله، نذل له ونخضع بين يديه، لا أن نتكبر ونترفع ونحن مقبوضون في قبضة الجبار جل جلاله وعظم سلطانه، لا يفيدنا التبجح، ولا التعالي، ولا التكبر، ولا السمو، ولا طلب الرفعة، فالله ما يفيد أبداً؛ لأن الملك لله عز وجل هذا أولاً. وثانياً: والله جل جلاله على كل شيء يريده قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.فعلى القلوب الواعية أن تفزع إلى الله عز وجل، وأن تطرح بين يديه، وأن تسلم الأمر له، ومن طلب رفعة فليطلبها في دار السلام في الدرجات العلى، أما الدنيا فلا خير في سموها ولا رفعتها، بل الخير في التطامن والتواضع، واللين والانكسار بين يدي الجبار، فهذه هداية هذا القرآن الكريم.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
لنستمع إلى الآيات المباركات: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:187-189].فالميثاق هو عهد مؤكد بيمين، أخذه الله على أهل الكتاب وأهل القرآن من باب أولى، فعلى أمة الإسلام أن لا تكتم الحق، وعليها أن تظهره، وتدعو البشرية كلها إلى أن تؤمن بالله ولقائه، وتعبد الله بما شرع؛ لتنجو وتسعد وتسلم، ولا يحل كتمان هذه الملة وجحودها، العلماء بصورة خاصة العارفين يجب أن لا يكتموا حلالاً أحله الله، ولا حراماً حرمه الله، فليبينوا.خلقان مذمومان: الأول التبجح والتطاول على الناس بالعمل الصالح، فهذا لا يليق بمؤمن ولا مؤمنة أبداً، بل نصوم ونصلي ونتصدق ونعبد الله، ونحن وجلون خائفون، لا أن نتخذ من ذلك تعالي وتكبر على الناس؛ ليقبلوا أيدينا وأرجلنا.ثالثاً: لا نحب أن نحمد بما لم نفعل أبداً، لو قيل: أنت تصدقت بكذا؟ نقول: لا ما تصدقتُ، قرأنا في الجريدة كذا، لا ليس أنا، هذا غيري، لا أن نوعد للناس يتمدحون بنا، ويقولون: فعلوا فعلوا، ونحن ما فعلنا. لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، ما فعلوا، ويريدون أن يحمدوا على ذلك، هذه الأخلاق الذميمة ما رضيها الله لعباده الصالحين.وأخيرا لنعلم أن لله كل ما في السماوات والأرض، فلا باب نقرعه إلا بابه، ولا هناك من نطرح بين يديه نسأله إلا هو، وليس هناك من نكل إليه أمرنا ونفوضه إلا إلى الله؛ بعلمنا اليقيني أن الله لا يعجزه شيء، اسأل مطلوبك من الله، اسأل خيري الدنيا والآخرة، فإن بيده كل شيء، وهو على كل شيء قدير، املأ قلبك بهذا النور يا عبد الله.هذا هو القرآن الكريم الذي حولوه إلى الموتى، وجعلوا دراسته محرمة، الذي يفسر القرآن فيصيب قد أخطأ، وإذا أخطأ كفر والعياذ بالله! فألجموا العلماء وكمموا أفواههم، لا تتكلم في القرآن، وتكلم بما شئت من قال فلان وقال فلان، حتى قال أحد علماء الأزهر؛ ذكر ذلك الشيخ رشيد رضا ، قال: من يقول: أنا أتعبد بالكتاب والسنة فقد تزندق! ما يفهم الكتاب والسنة أحد أبداً، خذ العلم من مؤلفات ومصنفات فقهاء الإسلام!والطريق نكررها ونبلغها، قف يا عبد الله! وانظر إلى هذه الحلقة التي يجب أن تكون يومياً في كل حي من أحياء العالم الإسلامي، في كل قرية من قرى العالم الإسلامي، إذا صلوا المغرب نساءً ورجالاً وأطفالاً، يجلسون جلوسنا هذا من المغرب إلى العشاء، يتعلمون الكتاب والحكمة، هذا هو طريق النجاة وسبيل الخلاص، بدون هذا فلا علم ولا عمل إلا ما شاء الله مما قل.العودة الحقيقية في العالم الإسلامي هي أن يوقنوا أن الجهل بالله ومحابه ومساخطه هو الذي قعد بالمسلمين هذا القعود الذي أصبحوا أذلاء محتاجين فقراء إلى غيرهم، فالعودة أن نعود إلى العلم؛ علم قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.أسألكم بالله يا عقلاء! إذا دقت الساعة السادسة مساءً أخذ الرجال يتطهرون والمؤمنات يتطهرن، وقصدوا بيت ربهم في حيهم أو قريتهم، لا يحتاجون إلى سيارة ولا إلى بعير يركبونه، المساجد حول بيوتهم، يجتمعون من المغرب إلى العشاء اجتماعنا هذا، أرأيتم السكينة علينا كيف هي؟ هل سمعتم لغطاً أو صوتاً؟ لو كنا نرى الملائكة والله لرأيناهم يحفون بنا، وقد ذكرنا الله في الملكوت الأعلى، فتحققت ولايتنا له؛ مثلنا يخزيهم الله؟! مثلنا يذلهم الله؟! والله ما كان ولن يكون، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، فتقوى الله عز وجل لابد لها من العلم الصحيح، ولابد من معرفة ما يحب ربنا من الاعتقادات والأقوال والأفعال، وكيف نقدم ذلك ونتعبد به ربنا، لابد من العلم، فلا ولاية بدون علم أبداً ومستحيل.وطريق العلم ليس معناه أننا نوقف دولاب العمل؛ لا مزرعة ولا مصنع ولا متجر ولا.. ولا..، كلنا في المساجد نتعلم، لا، فقط إذا دقت الساعة السادسة وقف العمل، كما هو في أوروبا واليابان والأمريكان والصين، إذا دقت الساعة السادسة وقف العمل، ويذهبون إلى المقاهي والملاهي والمراقص والمقاصف ودور السينما، والمؤمنون يذهبون إلى بيوت ربهم، بأطفالهم ونسائهم، يتلقون الكتاب والحكمة، يوماً بعد يوم، عام بعد آخر، ما يبقى جاهل ولا جاهلة، وإذا انتفى الجهل ينتفي به: السرقة، الغش، الشرك، النفاق، الخداع، الباطل، الظلم، الزنا، الفجور، كل ذلك يمحى محواً؛ لأنها سنة الله لا تتخلف.وأخيراً نقول: إذا شككت، فانظر أعلم أهل القرية تجده أتقى أهل القرية، لن تتأخر سنة الله عز وجل، يقول تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، عالمون بربهم، فأحبوه وخافوه، علموا محابه فقدموها له تملقاً إليه وتزلفاً، علموا مكارهه فتجنبوها وابتعدوا عنها، فتمت ولاية الله لهم، فأعزهم ولا أذلهم وأكرمهم ولا أهانهم.متى يعرف المسلمون هذا؟ فكيف نطالبهم بالجهاد والدمار، وهم ما استطاعوا أن يجلسوا ساعة في بيت ربهم يبكون بين يديه؛ لتتآلف القلوب والنفوس وتتلاقى الأرواح على نور الله وحبه وتقواه.فقد قالوا لي: يا شيخ! هذا الكلام الذي تقولوه ليس معقولاً، نريد أن ننزل للملكوت الأعلى، نخترق السبع الطباق وما نضحي بساعة من ليل أو نهار، ونقول: هذا غير معقول هذا مقبول؟ نريد أن نسود العالم وأن نطهر البشرية وأن نصبح أولياء الله، نعجز عن نحضر بيته ساعة أو ساعة ونصف اليوم والليلة، ولكن هذا قضاء الله وقدره.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
هذه الآيات الثلاث لها هدايات أيضاً، فننظر من أين نستنبط هذه الهدايات:قال: [ من هداية الآيات: أولاً: أخذ الله الميثاق على علماء أهل الكتاب ببيان الحق يتناول -أيضاً- علماء الإسلام ] كما بينا [ فإن عليهم أن يبينوا الحق ويجهروا به، ويحرم عليهم كتمانه أو تأويله إرضاء للناس ليحوزوا على مكسب دنيوي مالاً أو جاهاً أو سلطاناً ].[كتمانه أو تأويله] أي: بتفسيرات غير صالحة [إرضاء للناس] حتى يسودوا عليهم [ليحوزوا على مكسب دنيوي مالاً أو جاهاً أو سلطاناً].[ ثانياً: لا يجوز للمسلم أن يحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والمعروف، بل من الكمال أن لا يرغب المسلم في مدح الناس وثنائهم وهو فاعل لما يستوجب ذلك، فكيف بمن لم يفعل ثم يحب أن يحمد! بل بمن يفعل الشر والفساد ويحب أن يحمد عليه بالتصفيق له وكلمة يحيا الزعيم ].انتهت هذه وقد عشناها أكثر من أربعين سنة: يحيا الزعيم، يصفقون ويصفقون يحيا الزعيم، وهو ما فعل شيئاً بل دمر البلاد والعباد.كنا مرة في مؤتمر عربي حضره العرب حتى النساء إلا المصريات والسعوديات والعمانيات؛ لأن مصر مع تلك البلاد ما هم متفاهمين، فجلسنا وجاء الزعيم يخطب، خطب وإذا بالجالسين كلهم يقفون للتصفيق.. لا إله إلا الله، ما هذه الأمة! ( التصفيق للنساء، والتسبيح للرجال ) قولوا: الله أكبر.. الله أكبر، أما نصفق ونحن ثلاثة عبد المحسن والشيخ وآخر في أبها جالسين، فتساءلوا: لِم هؤلاء لم يصفقوا؟قلنا لهم: التصفيق للنساء، والتسبيح للرجال، والشاهد عندنا مظاهر الهبوط، هبطنا من علياء السماء إلى هذه الأرض، فمن يرفعنا؟ الكتاب والسنة، فبالله والرسول بهما ارتفعنا، ولما عاديناهما هبطنا، فكيف نعود؟ بالكتاب والسنة، حتى لا تبقى مذهبية ولا عنصرية ولا إقليمية ولا.. ولا.. مسلم، قال الله قال رسوله.قال: [ ثانياً: لا يجوز للمسلم أن يحب أن يحمد بما لم يفعل ] بل حتى إذا فعل ما يحب أن يحمد بين الناس ويشتهر.قال: [ بما لم يفعل من الخير والمعروف، بل من الكمال أن لا يرغب المسلم في مدح الناس وثنائهم وهو فاعل لما يستوجب ذلك، فكيف بمن لم يفعل ثم يحب أن يحمد! بل بمن يفعل الشر والفساد بالأمة ويحب أن يحمد عليه بالتصفيق له وكلمة: يحيا الزعيم.ثالثاً: ملك الله تعالى لكل شيء وقدرته على كل شيء توجب -ماذا؟- الخوف منه والرغبة إليه وأكثر الناس عن هذا غافلون، وبه جاهلون ].ملك الله تعالى لكل شيء، وقدرته على كل شيء، يوجب الخوف من الله والرغبة فيما عنده، وأكثر لا يخافون ولا يرغبون؛ للجهل.وصلى الله على نبينا محمد.

ابو وليد البحيرى
2019-04-16, 06:08 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (79)
الحلقة (220)
تفسير سورة آل عمران (81)


الآيات والعظات التي يبثها الله عز وجل في كل مكان إنما ينتفع بها أصحاب العقول النيرة والقلوب الحية، فيدفعهم ذلك للإيمان بالله واليقين بموعوده سبحانه، فيذكرونه سبحانه على كل حال؛ قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويدركون أن كل ما خلقه الله عز وجل وقدره فإنما هو لحكمة عظيمة؛ لأنه سبحانه منزه أن يكون شيء من أفعاله للهو والعبث الباطل، فقد خلق الخلق لعبادته وتقديسه، فمن آمن أفلح ونجا ودخل جنة المأوى، ومن كفر فإن مآله إلى نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.
تفسير قوله تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم اجعلنا من الفائزين بهذا الموعود على لسان رسولك صلى الله عليه وسلم.وما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، وهانحن مع هذه الآيات الست، فهيا نتغنى بتلاوتها، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما احتوته من الهداية الإلهية لعباده المؤمنين.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّ هُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:190-195]. ‏
دلالة المخلوق على وجود الخالق عز وجل
الآيات موضوعها واحد -وإن كانت طويلة- فهيا نتدبر قول ربنا جل ذكره: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] هذا خبر من أخبار الله تعالى مؤكد بكلمة (إن) فهيا نتدبر هذا الخبر.أولاً: والله! إنه لصدق وحق، وكيف لا والمخبر هو الله الذي خلق عقولنا وأفهامنا وطاقاتنا وقدراتنا على أن نفهم. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:190]، فالسماوات والأرض من مخلوقات الله عز وجل، فهل بلغنا أن خالقاً غير الله خلق؟!الجواب: ما ادعى كائن في العوالم كلها أنه خلق كوكباً واحداً، لا كواكب السماء وما فيها، فكيف نطأطئ رءوسنا ونقول: هاه.. لا ندري! لِمَ لا ندري؟! فلو سألنا: من خلق السماوات والأرض؟فسوف نجد من يخبرنا أن خالقهما الله.. اسمه الأعظم الله.. المعبود بحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، السماوات السبع أجرامها، أفلاكها، كواكبها، مسافاتها، مساحاتها.. هذا هو الخلق العظيم، هل يعقل أن شيئاً يوجد بلا موجد؟مثلاً: كأس فيه لبن موضوع على منضدة، فهل نستطيع أن نقنع أي إنسان أن هذا وجد من نفسه؟!مستحيل أن نقنع إنسي أو جني أن هذا كأس اللبن هكذا وجد بدون موجد. فكيف إذاً بهذه المخلوقات؟نقول: السماوات وهي سبع وما بين السماء والسماء مسافة خمسمائة عام، وسمك السماء وغلظها خمسمائة عام.فكوكب الشمس هذا المضيء الملتهب النهاري، قالوا عنه علماء الفلك: إنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة. فحرارتها تتدفق علينا ولن تنتهي وليس لها نهاية حتى قيام الساعة. وكوكب القمر قريب منا يكاد يلصق بأرضنا والمسافة لا تستطيع أن تعرفها. فالله سبحانه وتعالى وحده خالق هذه الكواكب كلها. إذاً: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:190] أولاً.
دلالة المخلوق على قدرة وعلم الخالق عز وجل
قال تعالى: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [آل عمران:190]، أي: الله سبحانه وتعالى وحده هو مصرف الليل والنهار، ولا بمقدور البشرية ولا طاقة لها على أن تأتي بالليل أو بالنهار.فهذا الاختلاف بوجود ليل ووجود نهار هو لصالح الخليقة، واختلاف الليل والنهار أولى من وجود نهار دائم، أو ليل دائم.إذاً: الخالق دل خلقه أولاً على وجوده، فهو موجود فوق عرشه بائن من خلقه.. الملكوت كله تحت قدمه، يدبر الكون كله. فهذا العظيم كيف نقيس عظمته بالعظمة، ونحن أعجز ما نكون أن نخلق ذبابة وهو خالق كل شيء؟!ففي خلق السموات والأرض، وفي اختلاف الليل والنهار آيات وعلامات دالة -أولاً- على وجود الله، و-ثانياً- دالة على وجود قدرته عز وجل قدرة لا يعجزها شيء، و-ثالثاً- دالة على علمه عز وجل قد أحاط بكل شيء، ورابعاً دالة على رحمته عز وجل التي وسعت كل شيء. فكيف إذاً لا نحبه ولا نرهبه ولا نخافه؟!فكيف إذاً لا نعبده بكامل معنى العبادة والطاعة؟!وأبشع من هذا أن نتجاهله، ولا نذكره ولا نلتفت إليه، ونعيش كالبهائم نأكل ونشرب وننكح، فأين يذهب بعقول البشر؟! إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ [آل عمران:190]، أي: لمن ينتفع بها، أما الأعمى الذي لا يرى أي علامة وضعت له في الطريق ترشده فلا ينتفع بها.مثلاً: إذا أردت القرية الفلانية تضع لها علامات.. كل مائة خطوة علامة؛ حتى يهتدي السائر إلى تلك القرية.
معنى قوله تعالى: (لأولي الألباب)
قال تعالى: لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، والألباب: جمع لب. لب وألباب، والمراد به هنا العقل، أو القدرة الباطنية التي بها يميز الإنسان بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الضار والنافع، وبين الموجود والمعدوم، فمن فقد تلك الطاقة الباطنية المعبر عنها بالقلب والعقل فوجوده كلا وجود له، ما يشاهد آية من الآيات أبداً.ودليل ذلك: فعلماء الفلك، وعلماء الطبيعة، وعلماء الذرة يدرسون ويحللون ويندهشون، ولم يستطيعوا أن يقولوا: آمنا بالله.. لا إله إلا الله، فهم يتعايشون مع الأفلاك والأجرام السماوية، ولم يسألوا: من خلق؟ لِمَ خلق؟ كيف هذا الخالق؟فلو سألوا لأجابهم أهل القرآن وبينوا لهم. فهم لم يسألوا لانطماس بصائرهم وعماها، ولفساد قلوبهم وعقولهم، والذي أفسد قلوبهم وعقولهم هو الشيطان عليه لعائن الرحمن، فلم يسمح لهم أن يفكروا ساعة فيمن خلق، يحللون ويركبون ويعللون ويهبطون ويطلعون، ولا يفكرون من خلق؟ أو لِمَ خلق؟ فالشيطان هو الذي كمم ألسنتهم وأعماهم، ولا يريدهم أن يسلموا لينجوا من عذاب الله؛ ألم نقرأ قوله وهو بين يدي الله يقسم: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ [ص:82]. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لمن؟ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] (أُولي) بمعنى أصحاب، أو ذوي الألباب.
تفسير قوله تعالى: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم)
قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، أي: الذين يذكرون الله بقلوبهم وألسنتهم في كل أحيانهم، اللهم إلا عندما يدخلون الحمام.فلهذا تقول الصديقة عائشة رضي الله عنها: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه ) دائماً يذكر الله، والذكر هنا بالقلب واللسان.الذين يذكرون الله حال كونهم قياماً، حال كونهم قاعدين، حال كونهم على جنوبهم.. هذا أولاً. ‏
الحكمة من التفكر في مخلوقات الله
وثانياً: وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] أي: ما السر في خلق السماوات؟ وما السر في خلق الأرض؟ وما السر في هذه المخلوقات؟حاشى لله أن يخلق هذا الخلق عبثاً، وحاشاه عز وجل أن يلهو أو يلعب، كيف يوجد هذه المخلوقات بلا فائدة، وبلا حكمة مقصودة؟! مستحيل.وتتجلى لهم الحقائق ويعرفون أنه خلق هذا الخلق لهذا الآدمي من أجل أن يذكره ويشكره.يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي، وفي القرآن الكريم: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، ما في السماوات وما في الأرض.فما أكرمنا على الله لو آمنا به وأحببناه ورهبناه، هذا الخلق كله من أجلنا، أما الله فهو غني غنىً مطلقاً ( كان الله ولم يكن شيئاً غيره .. ) فخلق هذه المخلوقات؛ لحكم عالية منها: أن يذكر ويشكر في هذه الأرض.فمن ذكر الله وشكره طول حياته أكرمه ورفعه إليه، وأنزله في جواره في الملكوت الأعلى، في الجنة دار السلام، ومن كفره وجحده وتنكر له، وعبث في الحياة، بالشرك والظلم والباطل جازاه الله سبحانه وتعالى جزاءً عادلاً، وهو أن يرمي به في عالم الشقاء المعبر عنه بالنار، لا يخرج منها أبداً، يظل في عذاب متواصل متنوع متلون العجب العجاب.وكثيراً ما نقول: قد يسأل السائل: أي رب! هذا المخلوق عصاك ثمانين سنة، إن طال عمره إلى ذلك أو زاد مائة سنة أو مائتين، فكيف تعذبه بليارات السنين؟!والجواب: أن هذا جريمته ليست أنه عصى الله ثمانين سنة أو مائة سنة، فجريمته أنه أنكر الكون كله.. أنكر السماوات والأرضين، والجنة والنار، والعوالم كلها، إذاً فجريمته لا تقدر بحساب حتى يعذب. فوجه أنه أنكر وجحد الكون كله؛ لأن الله خلق الكون من أجله، فإذا به يجهل الله ولا يؤمن به، فلا يذكره ولا يشكره، إذاً حكمه حكم من جنا جناية بتدمير العوالم كلها، فلهذا من العدل أن يعذب بلا حساب، يخلد خلوداً أبدياً في عالم الشقاء.فلو أن شخصاً قال لشخص: يعصي ربه مائة سنة، مائتين.. ألف سنة إن طال عمره، كيف يعذب ملايين السنين؟ أين عدل الله؟الجواب: فهذا المخلوق الذي ترك ذكر الله وشكره، وقد خلق لذكر الله وشكره، وخلق الله كل العوالم من أجله حتى الجنة والنار؛ من أجل أن يذكر الله ويشكر، فترك الذكر والشكر، إذاً جريمته كأنما نسف العوالم كلها؛ لأن الجنة، النار، السماوات، الأرضين، الأفلاك، كل هذه المخلوقات مخلوقة من أجل هذا الإنسان، وهو مخلوق من أجل أن يذكر ويشكر، فإذا ترك الذكر والشكر كأنما نسف العوالم كلها.فلهذا من يقول: كيف يعذب ألف سنة، مليون سنة، وهو عاش كافر أربعين عام أو خمسين عام فقط؟( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي )، فيجب أن نذكره قائمين وقاعدين وعلى جنوبنا، ونشكره بما يأمرنا أن نقوم به وننهر به؛ إذ ذكر الله وشكره طاعته بالجوارح واللسان.
دلالة الآية على وجوب الجمع بين ذكر الله والتفكر في مخلوقاته عز وجل
قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] اسمع يا عبد الله! لا بد من الذكر والفكر.. الذكر وحده وأنت لا تتفكر لا ينفع، كالذي يغني ولا يدري ما يغني.الفكر فقط واللسان ما يعبد الله ولا يمجده.. لا ينفع، فلا بد وأن تجمع بين الذكر والفكر، والآية دالة على ذلك، فالذي يذكر ولا يتفكر فلن يعرف عظمة الله، ولا جلاله، ولا كماله، ولا آلائه، ولا إنعامه، ولا رحمته، ولا قدرته، ولا علمه.. فهو كالميت.والذي يفكر فقط ولا يذكر من يعبد ما انتفع بفكره؛ إذ يوجد -كما قلنا- علماء الكون اقتنعوا بوجود الله، ثم شهواتهم وشياطينهم ما سخرتهم أن يسألوا أهل العلم من هو الله؟ كيف نعبده؟ كيف نتقرب إليه؟ ما هي رسله؟ ما هي كتبه؟ وهكذا.. ليعيشوا محرومين ويهلكوا محرومين.قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] من هم أولي الألباب؟ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، وهذا يتناول الصلاة؛ فصلاة الفريضة تؤديها قائماً، فإن مرضت فأدها قاعداً، فإن عجزت فأدها على جنبك، وسائر الأذكار في كل أوقاتك.قال: وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] لما في ذلك الخلق من عظائم القدرة والعلم والحكمة والرحمة، فيزداد حبهم في الله، وتزداد رهبتهم من الله، فيذوبون في عبادة الله، ويصبحون في طهرهم وصفائهم كالملائكة، ويقولون: ربنا يا ربنا، ينظر ويتفكر.
دلالة الآية على وجوب تنزيه الله سبحانه وتعالى
ثم يقول: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ [آل عمران:191] أي: منزه يا ربنا عن اللهو والعبث والباطل، فهؤلاء الذاكرون المتفكرون قالوا: (ربنا)، أي: يا ربنا، ولم يقولوا: (يا ربنا)؛ لقربهم من الله، وقرب الله منهم، فبالياء ينادى للبعيد، أما من هو معك وأنت معه عندما تقول: سبحان الله.. والحمد لله.. والله! إنك مع الله والله معك، ( أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه ).إذاً: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا [آل عمران:191] أي: الخلق في السماوات والأرض وما فيهما بَاطِلًا [آل عمران:191] أي: للهو واللعب، ولا لغرض ولا لهدف ولا لحكمة، حاشك، قالوا: سبحانك؛ تقديساً وتنزيهاً لك عن اللهو والعبث.إذاً: فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، (قنا) أي: احفظنا من عذاب النار، فقط ارفع رأسك إلى كوكب الشمس، فهذا الكوكب العجيب كله نار، وإن شككت وهذه الحرارة التي تدفقت علينا، سببها الشمس، وليس البحر أو جبال التب، فالشمس مملوءة بالنار.. فهي نار متقدة منذ أن خلقها الله عز وجل لا تنطفئ ولا تبرد، فلو كانت الشمس مفتقرة إلى الغازات وإلى الفحم حتى تشتعل لانتهت من قرون، فهي آية خلقها من أجلنا، لنستدفئ بها ونستنير بنورها، ونعرف بها الليل والنار والعام والعمر والآجال، ما خلقت عبثاً، ووراء ذلك حكم لا يعلمها إلا هو جل جلاله وعظم سلطانه.
تفسير قوله تعالى: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته...)
قال تعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، فقد سألوا الله أن يقيهم عذاب النار، ثم قالوا: يا (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته)، فلهذا نطلب منك يا ربنا ألا تدخلنا النار، وأن تقينا وتحفظنا من عذاب النار؛ لأن من تدخله النار أخزيته، والخزي معروف، والذل معروف، والخسارة معروفة. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192] فلا يستطيع أحد أن يخرج من النار.. أخزاه الله أسبوع، أو يوم.. ثم يجيء صاحب قدرة ينقذه ويخرجه؟! لا. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192] أي: ينصرونهم، فالظالمون لا يجدون من ينصرهم، وهنا الظلم بالمعنى الحقيقي الشرك والكفر بالله.فالشرك ظلم عظيم؛ ووجه ذلك مثلاً: فلان أخذ دابتي، وقال: ليست دابتك اصمت وإلا كسرت رأسك، فهذا يكون ظلمني. ومثال آخر: فلان يأتي إلى شاتي ويحلبها، ويقول: اصمت لن تشرب الحليب وحدك، فيكون ظلمه.. فلان أخرجني من غرفتي ونزل بها؛ لأنه قوي وأنا ضعيف، وهذا ظلم أيضاً.والذي يأخذ حق الله كيف يعبر عن ظلمه؟ فالذي اعتدى على فقير.. على مسكين.. على ظالم.. على قوي يكون ظلمه.والذي يأخذ حق الله ويعطيه لغير الله.. أعوذ بالله!وهذا لقمان الحكيم عليه السلام، وضع بين يديه طفله الصغير.. فضع أطفالك بين يديك ولقنهم الحكمة وعلمهم الكتاب، لقنهم الآداب السامية الرفيعة، الحياء، والصبر، والثبات، والآداب، والأخلاق.. فـلقمان وضع بين يديه طفله وأخذ يعظه: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].. ( لما نزلت سورة الأنعام وزفها سبعون ألف ملك؛ لعظمة ما فيها وسمع الأصحاب قول الله عز وجل فيها: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، قالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم؟ -فهذا قد يظلم أمته، وهذا قد يظلم أمه، وهذا قد يظلم امرأته.. لا بد أن يقع منا الظلم- فقال صلى الله عليه وسلم: ليس الأمر كما فهمتم، ألم تسمعوا قول لقمان الحكيم لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] ) فالظلم العظيم هو الشرك بالله، أيخلقك الله يا بني ويرزقك ويكلؤك ويحفظك ويمتعك بسمعك وبصرك، ويخلق كل شيء من أجلك: الظل، كالشمس، كالبرد، كالهواء.. ككل شيء من أجلك، ثم تتجاهله، وتسوي به آخر من مخلوقاته فتعبده معه! أعوذ بالله!صحابي يتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ( ما شاء الله وشئت يا رسول الله، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: قل: ما شاء الله وحده )، من أنا وما أنا تسويني بالله؟ قل: ( ما شاء الله وحده ).ففي الروضة كان المنافقون يؤذون المؤمنين لضعفهم وقلتهم في بداية الهجرة، فقال الأصحاب وهم في الروضة: ( هيا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق، فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم -لأن الجدار ستارة- فقال: إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله.. ) مع أنه يجوز أن نقول: هيا نستغيث بفلان؛ لأنه قوي وقادر وحي ومعنا، ومع هذا من الأدب لا نقول هذه الكلمة، فهذه لله، إذ يقول تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]، فكيف بالذين يستغيثون بالأموات؟! يا فاطمة ! يا حسين ! يا إدريس ! يا فلان! يا فلان! افعل وافعل. فوالله! كأنهم ما سمعوا به ولا عرفوه، فهذه زلة عظيمة، كم من مطيع طاعته مردودة عليه ما يحسنها، ما تنفعه.
معنى قوله تعالى: (وتوفنا مع الأبرار)
قال تعالى: وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193].إذاً يا شيخ تريدنا أن نتعلم؟! إي نعم. إذا لم تعرف كيف تتيمم ما تحسن ولا يصح تيممك، إذا لم تعرف كيف تسأل الله وتتملقه، فكيف ستسأله؟فكل العبادات ينبغي أن نكون عالمين بأسرارها وحكمها وعالمين بكيفيات أدائها، وهي ذات وقت معين وكمية محدودة.. وما إلى ذلك.إذاً تريد منا ألا يبقى جاهلاً؟ إي نعم. لن تتحقق ولاية الله لرجل أو امرأة بدون علم، فولاية الله تتحقق للعبد بشيئين هما: الإيمان والتقوى، والتقوى هي الطاعة، فالذي لا يعرف كيف يطيع الله فكيف سيطيعه؟ فلا بد من العلم.. يا شيخ ماذا نصنع.. الناس طاروا في السماء واخترقوا الكون ونحن نعود من جديد نطلب العلم في المساجد؟ هذه الكلمة يمليها العدو.فمنذ من ساعة صلاة الفجر.. واليهود والنصارى منذ الساعة الرابعة والنصف صباحاً أو الخامسة والنصف، أو السادسة والنصف، أو السابعة والنصف.. ثلاث ساعات وهم نائمون، ويقومون الثامنة، أنتم من الرابعة والنصف وأنتم في المصانع، في المزارع، في المعامل.. تعملون وتنتجون إلى قبل الظهر، وجاء وقت العصر إلى غروب الشمس وأنتم في العمل، فقط إذا مالت الشمس من الغروب أوقفوا العمل، لا دكان مفتوح ولا مقهى ولا مصنع ولا متجر ولا مزرعة ولا آلة ولا ولا.. فهيا إلى بيت الله. الله أكبر، ولله بيت اسمه الجامع، الذي يجمع أهل القرية أو الحي.. بنسائنا وأطفالنا، النساء وراء الستائر، والأولاد كالملائكة صفوفاً يسمعون الهدى ويتعلمونه، والفحول أمامهم ونتعلم العلم الذي تتحقق به تقوانا لله وبه تتحقق ولايتنا، ويومئذ لا خوف علينا ولا حزن.ما نريد أن نرقى هذا الرقي ونكمل هذا الكمال، ضعنا فقط.قال تعالى: وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193]، فكيف تسأل الله شيئاً ولا تطلبه أنت بيديك؟ لازم الأبرار، لا تفارقهم، انزل بحيهم، عش في إقليمهم وفي مدينتهم حتى تموت بينهم، أما تبعد عن الأبرار وتعيش مع الفجار وتقول: وتوفني مع الأبرار؟!! يجب أن تلازم الأبرار ولا تفارقهم، فأينما كانوا هاجر إليهم.
تفسير قوله تعالى: (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ...)
قال تعالى: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:194] أي: ربنا أعطنا ما وعدتنا على رسلك، من النصر، والعز، والكمال، والكرامة، والطهر، والصفاء.. ولا خوف ولا حزن. وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:194] أي: أعطنا ما وعدتنا على رسلك الآن في دنيانا، ولا تخزنا يوم القيامة بتعذيبنا بالنار؛ إذ قالوا: مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:194] أي: الوعد، وحاشاه أن يخلف الميعاد وهو القوي القدير.
تفسير قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم...)
وما زالوا يسألون الله: ربنا.. ربنا.. حتى استجاب لهم؛ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمران:195] فليست دعوة واحدة في ساعة، فهذه دعوة طول حياتهم: ربنا وآتنا ما وعدتنا.. رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:193-194]. فَاسْتَجَابَ [آل عمران:195] هنا الفاء للترتيب والسببية فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمران:195] فقال: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195] فالرجل من المرأة، والمرأة من الرجل، فلا فرق بينهما في الجزاء يوم القيامة. قال تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ [آل عمران:195] أي: أيها المؤمنون الصادقون الأبرار، ذكراً كان أو أنثى بعضكم من بعض، فلا فرق بين الرجل والمرأة في الجزاء والتنعيم يوم القيامة.ثم قال تعالى: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا [آل عمران:195] أي: الذين هاجروا ديارهم وبلادهم، وتركوا أموالهم وذراريهم أيضاً، أبوا أن يقيموا في دار الكفر.. أبو أن يعيشوا في دار لا يعبدون فيها الله.. لا يستطيعون أن يهللوا ويكبروا.. وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [آل عمران:195] أي: بالضغط والتنكيل والتعذيب كما فعل المشركون في مكة بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين. وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي [آل عمران:195]، وأنواع الأذى لا تسأل عنها! وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا [آل عمران:195] أي: هؤلاء كلهم: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّ هُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:195].معاشر المستمعين والمستمعات: هذه الآيات العشر كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ في الثلث الآخر من الليل للتهجد يرفع رأسه إلى السماء ويقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:190-191] إلى آخر الآيات: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].فهذا عبد الله بن عباس في الصحيحين يقول: ( نمت عند خالتي ميمونة وتوسدت عرض الوسادة حتى إذا كان الثلث الآخر من الليل قام الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شن معلق، فتوضأ، ثم رفع رأسه إلى السماء وتلا هذه الآيات ).وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-21, 03:14 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (80)
الحلقة (221)
تفسير سورة آل عمران (82)

وعد الله عز وجل عباده المؤمنين إذا اتقوه سبحانه بفعل ما أمر به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، وعدهم سبحانه بأن يدخلهم جناته التي أعدها للمتقين، ومن وصف هذه الجنات أنها تجري الأنهار تحت أشجارها وبين قصورها ومنازلها، وهذا الوعد يشمل حتى من كانوا من أهل الكتاب، فآمنوا بالله سبحانه، وما أنزل إليهم من قبل عن طريق أنبيائهم، ثم آمنوا بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، حيث وعدهم الله عز وجل بالأجر العظيم في الآخرة.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، الحمد لله أن أهلنا الله لهذا الخير الكثير، اللهم لك الحمد ولك الشكر.وهانحن مع هذه الآيات الست والتي ابتدأنا دراستها في آخر يوم من أيام دراسة القرآن.هيا نتلو هذه الآيات متبركين بتلاوتها، طالبين المثوبة عليها، راجين فهمها والنور التي تحمله؛ ليكون في قلوبنا.سبق أن قلت -للسامعين والسامعات-: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام آخر الليل للتهجد يتلو هذه الآيات العشر )، ورغبتكم في تلاوتها، والله أسأل ألا يحرم منها سامع ولا سامعة.وذكرنا حديث عبد الله بن عباس في الصحيحين: ( نام ليلة عند خالته أم المؤمنين ميمونة رضي الله تعالى عنها وأرضاها؛ من أجل أن يرقب صلاة رسول الله في الليل كيف يصلي؟ وكم يصلي؟ ومتى يقوم يصلي؟ وعبد الله بن عباس لم يبلغ الحلم بعد )، ما زال غلاماً صبياً.وبالفعل ما إن استيقظ الرسول في جحر الليل حتى رفع طرفه إلى السماء، وتلا هذه الآيات العشر: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [آل عمران:190] إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] ختام السورة الكريمة.يتلو صلى الله عليه وسلم هذه الآيات بالذات وكل ليلة؛ لما تحمله من أنوار الهداية الإلهية، فهيا نتلوها، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما تهدي إليه.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّ هُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:190-195]. قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ [آل عمران:190] لمن؟ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، فمن لا لب له لا نصيب له في هذه الآيات.واللب: القلب الحي الذي يعي ويفهم، ويتصل ويراسل ويتلقى لكامل حياته، وهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] ويقولون: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّ هُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:190-195]، اللهم اجعلنا منهم.. اللهم اجعلنا منهم.فهؤلاء يعيشون مع الله عز وجل، ولا يعيشيون مع الطبول والمزامير، ورقص العواهر.فبأصابع الثالوث تحولت بيوت أكثر المؤمنين إلى مباءات الشياطين، فرحلت الملائكة الأطهار، والرسول الحكيم المعلم والمبلغ صلى الله عليه وسلم يقول في وضوح وصراحة: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، والصورة معلقة في الجدار لغاية ومهمة، لستر النافذة وما فيها، فيقول: ( يا عائشة ! أزيلي عني قرامك فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، والذي يجلس وعاهر تغني أمامه وامرأته تشاهد، وبناته عوانس يشاهدن، وأولاده بالغون في سن المراهقة ويشاهدون، كيف يجوز هذا؟! أقسم بالله! لو أجبر مؤمن على هذا لوجب أن يهاجر، ولا حل له المقام هناك، ولكن من جبرنا؟ فقط اتبعنا الهوى وجرينا وراء وساوس الشياطين.قرأنا اليوم في صحيفة معروفة تقول: إحصائيات في أمريكا في السنة الواحدة نصف مليون فتاة تغتصب، ويزنى بها وتفجر. وهذا الذي ضبط بواسطة الشرطة ورجال الدرك، نصف مليون امرأة تغتصب وتضرب.فهل يجوز الاقتداء بهم، والائتساء بحياتهم، والتنزل بباطلهم؟!وإن قالوا لكم: يجوز فإلى أين سنصل؟ فهل سنصبح كالملائكة في الطهر والصفاء؟! أو كأولئك الأسلاف الأطهار، نعيش على الحق والعدل والفضيلة والطهر والصفاء؟! والله! ما كان شيء من هذا إلا الانتكاس والهبوط حتى نصبح أرذل الناس وأخسهم.فبدل ما يقرأ في البيت كتاب الله وتتلى فيه آياته، والأم تبكي والأب يمسح دموعه، والابن يقرأ، أو الأب يقرأ والأولاد يبكون، والبيت كله نور ورحمة، فتمتلئ قلوبهم بالنور فلا شره ولا طمع ولا تكالب على أوساخ الدنيا وقاذوراتها.. يحول إلى مباءة للفساد، الأضاحيك والسخرية، والشره والطمع، وعدم الشبع؛ لأنهم فتحوا أبواب الفتنة لأنفسهم، فاللهم لك الحمد أنك ما أكرهت مؤمناً ولا مؤمنة، ولا سلطت عليهم أن يكرهوهم، ولكن مدوا أعناقهم للشياطين وأصبحوا يمتثلون أوامرهم ويطبقون ما يأمرونهم به ويفعلون.أقول: إذا قال قائل: ماذا هناك؟ لماذا هذا الجمود وهذا الركود وهذه اليبوسة؟ لم ما نرقص كما يرقصون؟ لم ما نشاهد كما يشهدون؟نقول: نتحداكم، إن كانت هذه المناظر والمظاهر تنتج خيراً تقدموا.. فلو أن شخصاً قوت عائلته مرتبط بهذا التلفاز في بيته، نقول: يطلب قوته. ولو أن شخصاً بنظره هذا يزيد بصره وتقوى حدته ويصبح ذا عينين.. نقول: لا بأس حتى يرى المنكر ويرى المعروف، ولو كان هذا يزيد في الطاقة البدنية ليصوم ويقوم ويرابط نقول: له ذلك.ما الذي ينتجه؟ إلا أن نغضب الله ورسوله والملائكة. أعوذ بالله.. أعوذ بالله! فأي مؤمن يرضى بهذا؟ فوالله! لا وجود له.ذكرت: أنه في الشهر الواحد (عشرة آلاف جريمة) ترتكب في فرنسا.. فنجري وراء ماذا؟ ونقلد من؟
دلالة المخلوق على وجود الخالق وقدرته وعلمه عز وجل
فهيا نتدبر الخبر الإلهي: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ [آل عمران:190] جمع آية، بمعنى: العلامة الدالة على شيء حق وصدق، فإيجاد هذه السماوات السبع وهذه الأرضين وما في الكل من هذه المخلوقات أوجدها الله سبحانه وتعالى.إذاً تعرفوا على الله واسألوا عنه وأحبوه لجلاله وكماله، وخافوه لقدرته وعظمته، فإن في هذه المخلوقات آيات أكثر وضوحاً من الشمس دالة على وجود الرب الخالق، وعلى قدرة لا يعجزها شيء، وعلى علم أحاط بكل شيء، وعلى حكمة لا تفارق شيئاً، وعلى رحمة لا يخلو منها شيء، فكيف لا نعرف الله؟! وقوله تعالى: لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] وهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا [آل عمران:191]. (أولي الألباب) أي: أولي القلوب الحية، فالقلوب منها منتكس لا يعي ولا يفهم، ومنه يتلقى ويأخذ ويعطي، كالجهاز المادي للإرسال والتلقي، وإذا فسد مات.فهذه القلوب التي أصحابها يشاهدون الآيات في الكون فيعظمون الله ويبكون بين يديه، ويلجئون إليه، ويعتصمون بهذا الرب العظيم؛ لأنهم أصحاب قلوب حية، عرف هذا العدو فقال: لأفسدن قلوبهم، حتى أتركهم كالبهائم ينزو بعضهم على بعض. فأفسدوا القلوب بالدعاوى والأباطيل والتحسين والتزيين والصور و.. و..، حتى هبطوا بهذه البشرية إلى مستوى البهائم، فنصف مليون امرأة يفجر بها بالقوة وتغتصب، أبعد هذا نقول شيئاً؟!فعن السرقة والتلصص والقتل والإجرام، والكذب والخيانة، وخلف الوعد لا تسأل.. هبطوا إلى الأرض، وهذا من فعل اليهود، فالمسيحية كانت راقية، وكان أهلها يخافون الله ويبكون من خشيته، ويحبون في الله، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:82-83].فاليهود هم الذين أفسدوا النصارى.. فثلاثة أرباع النصارى هم بلاشفة حمر ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا بلقائه؛ فلهذا يرتكبون هذه الجرائم.فجاء حاكم فرنسي إلى قريتنا حين كنت صغيراً في السن وامرأته والله! على وجهها النقاب الخفيف كالذي على نسائكم. الجيش المكون من المستعمرات.. العسكري المسلم على رأسه طربوش أخضر حفاظاً على دينه، والله العظيم! والعسكري الكافر برنيطة على رأسه، ولا ألزموا ولا أجبروا المسلمين أن يتزيوا بزيهم. فقد كانوا يفهمون معنى الدين، لكن اليهود هم الذين مسخوهم؛ من أجل أن يعلو فوقهم ويسودوا ديارهم وأرواحهم؛ ومن أجل أن تعود مملكة بني إسرائيل.فمن الليلة أرجو من السامعين والسامعات ألا يبيت أحداً والتلفاز في بيته، فالليلة يقرأ القرآن في البيت ويتلى كتاب الله وتجتمع الأسرة: أسمعنا يا أبتِ شيئاً من القرآن، أو أسمعيني يا أماه أو يا أختاه.يقرأ القرآن في البيت ويسمعون؟! الله أكبر. فلا مزامير ولا أغاني ولا رقص ولا.. ولا..؟ فهم إذاً مسلمون، أسلموا لله قلوبهم ووجوههم، فلا يحبون إلا ما أحب الله ولا يكرهون إلا ما يكره الله.قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وإيجادهما وفي أجزائهما ومكونات وجودهما آيات وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ؛ لحكم عالية ولقدرة عظيمة، سبحانك ما خلقت هذا باطلاً! الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191].. إذاً كيف يجلسون أمام تلفاز ويسمعون مغنية؟! (يذكرون) بصيغة المضارع دائماً وأبداً، (قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) إذاً: كيف يوجد الباطل في بيوتهم أو مجالسهم؟! الذين يذكرن الله بقلوبهم وألسنتهم أو بقلوبهم مرة، وبألسنتهم وقلوبهم مرة أخرى على كل أوقاتهم قائمين كانوا أو قاعدين، أو نائمين على جنوبهم، موصولون بالملكوت الأعلى، فهل هذا مستحيل؟! فلم يستطع أحدنا أن يخلو مع ذكر الله ساعة، بل دقائق إما بقلبه ولسانه أو بقلبه أو بلسانه، وإن كانت الآية تدل على الصلاة عند الحاجة إليها إذا عجز، يصلي قاعداً أو جالساً، لكن ليست في هذا، فهذا عام، يذكرون الله قياماً في كل أوقاتهم.وهذه الصديقة عائشة تقول: ( كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحايينه )، وهذا شأن المؤمنين، تمشي معه تتحدث وتذكر الله عز وجل.. تجلسون تذكروا الله عز وجل.. تتناولون الطعام والشراب تذكرون الله.. تفترقون تذكرون الله..
وجوب الجمع بين ذكر الله والتفكر في مخلوقاته عز وجل
قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] ليسوا كالبهائم.. فهؤلاء يتفكرون بقلوبهم وعقولهم في خلق السماوات والأرض، فهذه الأجرام، وهذه الأفلاك، وهذه الأنوار، وهذه الأمطار، وهذه الكائنات.. من أوجدها؟ لم أوجدها؟فيزداد إيمانهم ويرتفع منسوبه إلى درجة اليقين وإلى عين اليقين، إلى علم اليقين حتى يصبحوا موقنون وكأنهم مع الله، ويقولون بعد التفكر وبعد النظر: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا [آل عمران:191] أي: لهواً ولعباً، باطل بلا فائدة، وبلا نتيجة، وبلا مقصود حاشى لله عز وجل. قالوا: سُبْحَانَكَ [آل عمران:191] تنزيهاً لك وتقديساً عن كل ما هو نقص وأنت العلي الكبير.(سبحانك) أي: ننزهك يا ربنا عن العيب والنقص والعجز، واللهو واللعب والباطل، أن تخلق هذه العظائم في المخلوقات لا لشيء إلا لمجرد اللهو واللعب! حاشاك. ننزهك ونقدسك.ثم قالوا له: فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، فبناءً على إيماننا ويقيننا وعلى عظمتك وجلالك وعلى إنعامك ورحمتك وإفضالك (قنا عذاب النار) لا تعذبنا به.آمنوا بالعالم الثاني ذو الشقين: علوي هو دار السلام، وفيه النعيم المقيم، وسفلي هو دار البوار والجحيم وفيه شقاء وعذاب أليم.آمنوا فقالوا: فقنا عذاب النار.فهم مع الله، فلا جلسوا ولا سكتوا إلا وهم يذكرون الله، فقالوا: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ [آل عمران:192]، فلو قيل: لم يقيكم عذاب النار؟ لم تسألونه أن يحفظكم وأن يبعدكم عن عذاب النار؟قالوا: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، فالعاقل لا يرضى بالخزي، والحي الذي يعي ويفهم ويصير وهو من أصحاب الألباب لا يرضى بالخزي. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192]، هذا كلام من عندهم يذكر الله لنا.. و(ما للظالمين) بالشرك والكفر والإجرام، والذنوب والآثام؛ لأن الظالم هو الذي يضع الأشياء في غير موضعها.فالظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فالذي يعبد غير الله بالاستغاثة والنداء والتقرب إلى هذا المخلوق، ووضع العبادة في غير موضعها، وأخذها من الله وهو المستحق لها؛ لأنه الخالق المدبر الحكيم، وأعطاها لـعبد القادر الجيلاني أو عيسى ابن مريم يكون هذا ظالم. ومثله بيت المؤمن.. فبدلاً من أن يذكر فيه الله ويتلى فيه كتابه، ويتحدث فيه عن الدار الآخرة وكمالها وجمالها، يأتي بعاهرة ترقص، ومغني يغني، وكافر يلوي رأسه ويتبجح، ونساء المؤمنات يشاهدنه! أعوذ بالله! لقد عاش المسلم قروناً ما يسمح لامرأته أن تفتح عينيها في رجل ينظر إليها، والحجاب ضرب حتى لا ترى المرأة، فكيف إذاً نأتي بشر الخلق وتعايش معهم وتضحك بأضاحيكهم؟!على كل فهذا حال ومكر اليهود فقد مددنا أعناقنا؛ لأننا ما قرأنا هذه الآيات ولا اجتمعنا عليها ولا سألنا ما معناها. رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران:192-193] قالوها صراحة ودعاهم رسول الله إلى الإيمان، وأنبياء الله، وأولياء الله، وكتب الله، وأعظمها القرآن الكريم: سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا [آل عمران:193] (أن) تفسيرية. أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ [آل عمران:193] أي: بخالقكم ورازقكم ومولاكم فَآمَنَّا [آل عمران:193]، فبناءً على هذا: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193] فهؤلاء يتحدثون مع الله عز وجل، بلا حجاب ولا فاصل، وقصه الله علينا كما هو بالحرف الواحد، وهذا هو الإيمان اليقيني. فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا [آل عمران:193] الذنوب: جمع ذنب، الخطيئة التي يؤخذ بها العبد، كما يؤخذ الحيوان من ذنبه، والسيئات ما أساء بقول أو عمل إلى نفسي أو إلى غيري. فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا امحها.. استرها وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا أي: امحها ولا تذكرها لنا؛ حتى نتهيأ لدخول الجنة.ومطلب آخر: وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193]، فالذي يذهب إلى نيويورك أو إلى باريس أو إلى لندن فقط للترفه والحياة الطيبة -كما يقولون- فهذا لا يريد أن يموت مع الأبرار، بل يريد أن يموت مع الفجار والكفار، فلهذا لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينزل بين الكافرين وأن يقيم بينهم، إلا من ضرورة وهي كالتالي:أولاً: أن يكون سفيراً، يحمل رسالة لدولة الإسلام يبلغها، أو يكون تاجراً يأخذ بضائع أو يفرغ بضائع ويعود، أو يكون طالب علم فقده في دياره، وحاجة المسلمين إليه تلح وتطالب، أو يكون مرابطاً يجاهد، وقد بينا ذلك في رسالة: (إعلام الأنام بحكم الهجرة في الإسلام) وقلنا: نحن ننادي الرابطة، ما تسمع هذه الرابطة، يا رابطة! اربطي بحق، كوني لجنة عليا يشارك فيها كل إقليم.. كل بلد إسلامي..
تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ...)
قال تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [آل عمران:198]، (لكن) استدراكية، الذين اتقوا خالقهم، الرب الخالق، الرب الرازق، الرب المدبر، الرب المحيي، المميت، المعطي، المالك لكل شيء. اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [آل عمران:198]، أي: أتقوه بطاعته، وطاعة رسله، فالله يتقى بطاعته وطاعة رسله؛ لأن الله عز وجل يأمرهم، والرسول يبين لهم سبل السلام وطرق النجاة، والسمو والعلو بما يفعلون وبما يأتون، وبما ينهضون ويقومون به.فلا تفهموا من أن طاعة الله وطاعة الرسول إن شئتم صليتم وإن شئتم لا، وإن خشعتم أو لم تخشعوا، وإن شئتم زكيتم وإن شئتم لا، وإن شئتم طهرتم أنفسكم أو لوثتموها، فالله! ما هذا بالذي نتقي به الله عز وجل. نتقي الله بطاعته الكاملة وطاعة رسوله؛ لأن الرسول يبين ويشرح ويعلم ويبين المقادير ويبين الظروف وما إلى ذلك، فلابد من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.والاستغناء بالكتاب عن السنة يكون صاحبه كافر وضال وهالك، ومستحيل أن ينجو بالقرآن دون رسول الله؛ يقول الله عز وجل للرسول: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فالصلاة ذكرها تعالى بكتابه. فما هي الصلاة؟! وكيف نركع؟ وكيف نسجد؟ وما أوقاتها؟ فالقرآن مجمل والرسول صلى الله عليه وسلم يبين، فجبريل عليه السلام نزل من السماء وصلى برسول الله حول الكعبة أربعة وعشرين ساعة وهو يعلمه الصلاة وكيفيتها وأوقاتها، فطاعة الله وطاعة الرسول بهما يتقى غضب الجبار، وبهما يتقى سخط الله، وإذا اتقينا غضب الله وسخطه فزنا برضاه وبحبه، فإذا رضي عنا وأحبنا أسعدنا، وأكرمنا، وأعزنا، ورفعنا.هذا التعقيب العظيم: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، فالحال التي تتقي بها غضب الله وسخطه وما ينتج عنهما من عذابه تكون بطاعة الله، وطاعة رسوله. فنطيع الله في كل ما أمر عبده أن يعتقده، ويعقده في قلبه، ولو يمزق، ولو يصلب، ولو يحرق ما يبدل ذلك المعتقد ولا يتخلى عنه.وطاعة الله في ما أمر به من الكلم الطيب، فتقول الكلمة التي أمر الله أن تقولها، ولو بكى الناس كلهم أو ضحكوا، وطاعة الله في الأعمال والأفعال التي نقوم بها: من الصلاة، إلى الرباط والجهاد، وكل فافعل فهنا الطاعة، وطاعة الرسول من طاعة الله، فليس هناك فرق: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].ثم هذه العبادات، وهذه الأنظمة، وهذه الشرائع، هي سلم الرقي والسعادة في الدنيا والآخرة، فليست مجرد عبادات وخرافات وتأويل، فهذه أنظمة دقيقة من شأنها أن تعز وترفع المتقين.من آثارها: أن يسود أهل القرية المسلمة حب، وإخاء ومودة فيما بينهم، وأن يسودهم أمن وطهر وصفاء، فليست مجرد كلمة طاعة وتنفيذ الشريعة. لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [آل عمران:198]، كما علمنا: لَهُمْ جَنَّاتٌ [آل عمران:198]، الأولون: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:197]، وهم الكفار، الفجار، الفساق، الذين ما انتظموا في سلك رضا الله وحبه.أما الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ [آل عمران:198]، (جَنَّاتٌ) فوق السماوات التي إذا رفعنا رءوسنا رأينا سمواً وعلواً، ونشاهد كواكب، ونشاهد شمساً وقمراً، وهذا كله من صنع الله عز وجل. فكوكب الشمس أكبر من كوكب الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فمن ملأه ناراً؟ وما هي الغازات التي تحترق فيه؟طأطئ رأسك وقل: آمنت بالله.وفوق هذه السماء سماء أخرى.. سبع سماوات، ومن ثم تجد الجنات، ووصف هذه الجنات خالقها، وصانعها، ومعدها لأوليائه، وهو الذي وصفها بأدق وصف، يقول الله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:48]، فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50]، فِيهِمَا فَاكِهَةٌ [الرحمن:68]، فيهما.. فيهما.. وصف دقيق، حتى الحور العين: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72].إذاً: وعندنا شي آخر، وهو أن الرائد الأول محمد صلى الله عليه وسلم والله! لقد وطئها بقدميه الشريفتين، وشاهد حورها وقصورها وأنهارها، وقائده ورائده جبريل عليه السلام، ما عندنا خيالات أو أوهام كما يقول الهابطون والساقطون.يقول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، فمن كان يحلم بهذا أو يفهم أن شخصاً من مكة يصل إلى بيت المقدس في دقائق؟! وكيف يتم هذا؟!إسراء الله برسوله؟ ومن بيت المقدس إلى: سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:14-15].إذاً: هو عاد ووصفها كما شاهدها، فهذه الجنات عرفنا أن آخر من يدخل الجنة يعطى مثل الدنيا مرتين، كوكبين.. قولوا اللهم اجعلنا من أهلها، ومعنى هذا: اللهم اجعلنا من المتقين، فإن استجاب الله لنا، وقال: أنتم من أهلها، والله ليتوب علينا، ويقودنا إلى التوبة حتى نتقيه، فسنن الله لا تتبدل.يقول الله تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:198]، أي: أربعة أنهار، وصفهم الله سبحانه وتعالى في سورة محمد، إذ قال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]. فِيهَا أَنْهَارٌ [محمد:15]، أنهار: جمع نهر، وهذه الأنهار الأربعة هي بلايين، ولكن هذه أصناف الأنهار.أولاً: مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15].ثانياً: مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد:15]؛ لأن اللبن إذا بات في غير الثلاجة يصبح حامض.ثالثاً: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ [محمد:15]، حتى ما تقول: خمر متعفنة كخمر الدنيا. لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]، تجري بين القصور وتحت الأشجار، أبشروا إن متتم على لا إله إلا الله.قال: خَالِدِينَ فِيهَا [آل عمران:198]، الخلود: البقاء والدوام، انطوت العوالم ولم يبق إلا عالم علوي هو الجنة، وعالم سفلي هو جهنم، فقط، ولا فناء أبداً لا للعالم العلوي ولا للسفلي وهكذا أراد الجبار.قال: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:198]، (النزل): الضيافة، فالآن يسمون الفندق النزل، وأصل النزل ما يعد للضيف، من طعام وشراب وفراش حتى يغادر، فالضيف تعد له نزله، وتهيئ له الفراش والطعام والشراب وما يحتاج إليه فهذا هو النزول، وتسمية الفنادق بـ(النزل) لا بأس به، لكن بالمقابل، وحتى نزل الجنة بالمقابل وهو الإيمان والعمل الصالح، وبالتقوى المكونة من إيمان وعمل صالح. نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:198]، إذاً: يعجز الواصفون عن وصفه، ما تستطيع أن تقدره أو تقنن؛ لأنه من عند الجبار عز وجل. وأخيراً يقول: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، وما عند الله فوق النزول هذا خير للأبرار. والأبرار: جمع بار، أو بر، وهو المطيع لله والرسول، الصادق في طاعته، المخلص فيها، الذي كثرت خيراته، وحسناته فأصبحت كالبر في ساحتها واتساعها؛ لأن البر ضد البحر. والأبرار كثرت صالحاتهم وحسناتهم وبذلوا ما لم يبذل غيرهم من الخيرات والصالحات فوصفوا بالبرور فكانوا الأبرار. أما المتقي فهو الذي يطيع الله في الأمر والنهي فله نزل عند ربه، لكن هذا اتسع نطاق بره وخيره، والمتقي هو الذي أطاع الله ورسوله فلم يعصيهما في واجب أوجباه ولا في محرم حرماه، وقد تكون حسناته قليلة. والبر البار: الذي يطعم الفقراء، المساكين، يكسو العراة، يداوي الجرحى، يبذل، يبذل.. يبذل الليل والنهار، زيادة على الواجبات، ولهذا: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، فأنت كن براً بحسب قدرتك.
تفسير قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ...)
وهنا حادثة حدثت.. فلما توفي النجاشي ملك الحبشة رحمة الله عليه، وكان إماماً في النصرانية وقائداً لها، وشاء الله أن يهاجر إلى الحبشة المهاجرون وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب ومجموعة معه، وقرءوا عليه سورة الكهف فبكى، ودخل في الإسلام، وبعثت قريش برجالها ليتسلموا الشاردين أو الفارين؛ فمنعهم وردهم خائبين.إذاً: مضت أعوام والرسول بالمدينة وتوفي أصحمة ملك الحبشة، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين إلى مسجد الغمامة، فكان ساحة وصحراء، وصلى عليه صلاة الغائب، فالمنافقون والمرضى قالوا: ما هذا يصلي على هذا الحبشي؟! مسيحي مات في بلاده، ما هذه الصلاة؟! فهذا طعن في اتجاه النبي صلى الله عليه وسلم.. وهذا المرض موجود في كل زمان ومكان، والذين لا أخلاق فاضلة لهم لابد أن يقعون في هذا، فأنزل الله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:199]، (وإن) لتوكيد الخبر.. أي: اليهود والنصارى، لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [آل عمران:199]، أي: أيها المؤمنون وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران:199] أي: من التوراة والإنجيل، خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:199]، فدخل فيها عبد الله بن سلام ، ودخل فيها كل من أسلم من أهل الكتاب، وإن نزلت في النجاشي؛ لأن القرآن عام.فالآن لك أن تقول: ما من يهودي أو نصراني يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدخل في الإسلام فيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويبعد عما حرم الله إلا كان من هؤلاء الوارثين للجنة، فلا فرق بين عربي وعجمي، أبيض، أسود، كلها أول وآخر، كلها لا قيمة لها، وإنما من زكى نفسه، وطيبها، وطهرها، وأصبحت كأرواح الملائكة أصبح أهلاً لأن يرفعه إليه، وينزله بجواره في دار السلام، ومن خبّث نفسه ولوثها وعفنها فأصبحت كأرواح الشياطين ولو كان ابن النبي أو أباه ما دخل دار السلام.والحقيقة هذه يتجاهلها المغرضون والمبطلون، وينسون أن آزر والد إبراهيم الخليل في جهنم، ونسوا أن امرأتا: نوح ولوط، خانتا نبيين رسولين، وغشتهما وخدعتهما هما في جهنم، وفوق هذا كأنكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في طريقه في مكة إلى المدينة، قال لأصحابه: ( أذن لي أن أزور قبر أمي، فمر بها ووقف يبكي فسألوه، فقال: استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنت في أن أستغفر لها فلم يأذن لي فبكوا جميعاً )، تستغفر لشخص مات نفسه خبيثة منتنة، من يدخله دار السلام؟ونزل القرآن: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، الهابطون يقولون: هذا شيء آخر، أم الرسول في الجنة.أما الشيعة والروافض قالوا: أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، وعبد المطلب وأبو طالب .الشاهد عندنا: هذا شأن من يعرض عن كتاب الله ولم يدرسه ولم يجتمع عليه، وما أصابنا من ضعف وشر وخبث وظلم وفساد وهبوط نتيجة جهلنا بكتاب الله. أبعدونا كل البعد فأصبحنا نقرأ على الأموات.وأبرهن ونقول: كم من مرة نكون جالسين في المسجد فيمر بنا شخص حافظ القرآن، فنقول له: من فضلك اقرأ علي شيء من القرآن!!أو نقول: نحن عملة موظفون في دائرة، إذا استرحنا فهل نقول: أيكم يسمعنا شيء من القرآن؟ كيف إذاً نقرأ القرآن ونفهم مراد الله منه وما فيه من تعاليم وهدى؟وفوق ذلك من الحجج والبراهين، لقد خمت ديار المسلمين بالخبث والظلم والشر والفساد والإجرام نتيجة بعدهم عن نور الله وهدايته، ما أقبلوا على الله في صدق، وبعدوا عن بيوت الله وكتاب الله، وما يوجد من تعليم ومدارس لا تجزي؛ لأنهم ما أرادوا بها وجه الله، والبرهنة عندنا كثير في هذه المسائل.فمتى نعود؟ الباب مفتوح، فقط نصدق الله في أننا مؤمنون، ونأخذ بحزم أنفسنا، فإذا دقت الساعة السادسة مساءً يقف دولاب العمل، فلا دكان، ولا متجر، ولا مقهى، ولا مصنع، ولا مزرعة، ولا عمل، ولا سيارة.. الكل يقف.ويأخذ أهل الحي من أحياء المدينة أو أهل القرية يتطهرون ويغيرون لباسهم، ويأخذون نساءهم وأطفالهم، إلى بيت ربهم، والرب ينظر إليهم، انظر كيف أقبلوا علي، تركوا دنياهم وتخلوا عنها وجاءوا يستمطرون رحماتي ويطلبون رضاي، وما لدي وما عندي، فيجلسون جلوسنا هذا بعد صلاة المغرب، فليلة آية من كتاب الله يتغنون بها، فتحفظ وتحشى في الصدور، للصغير والكبير، للمرأة والرجل، ويفهم مراد الله منها والمطلوب، والعزم على العمل إن كان واجب فعلنا، وإن كان محرماً، تركنا واجتنبنا.والليل الآتية حديثاً من أحاديث الرسول يحفظ حفظاً حقيقاً، ويشرح ويفهم المؤمنون والمؤمنات ويطبقون العمل؛ ما يمضي عليهم سنة إلا وهم كأصحاب رسول الله كالملائكة. ولن تجد أي جريمة في القرية.أما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فكل الجرائم والموبقات من الجهل وظلمته في النفس، فليست من العلم ومعرفة الله، وهل هذا يشقينا ويتعسنا، ويوقف العمل؟قلنا: الذين تقتدون بهم اليهود والنصارى.. ادخل باريس، ادخل برلين أو لندن، فالساعة السادسة يقف العمل، ونحن يقف العمل، وإلى أين يذهبون بأطفالهم ونسائهم؟ إلى المقاصف، إلى المراقص، إلى دور السينما، إلى اللهو وإلى الباطل.ونحن ماذا ما نصنع؟ فكم سنة ونحن نبكي هذا البكاء؟ ما استطاع أهل قرية ولا حاكم يشرح هذا القانون ويلزم به؛ لتعود هذه الأمة إلى مسارها الأول، بلا تكلفة، ولو طبق هذا لاستغنت الأمة عن نصف الميزانية، وأقسم بالله على ذلك، والذي راتبه عشرة آلاف والله! لاتسعته وفاضت عنه، وأنفقها في سبيل الله، لما يدخل النور في القلوب، أما مع الظلمة والهوى، والشهوة والتكالب على الدنيا لن يكفينا شيء، فالآن السرقات والجرائم والتلصص، ولنصبح عالم هذه الأمة بالإيمان الحق والإسلام الصحيح، وهذا يأتي من طريق الإقبال على الله وتعلم الهدى، ولن يأتي بما نحن عليه.معاشر المستمعين! بلغوا هذه الدعوة؛ حتى نسمع من القرية الفلانية أصبحوا يجتمعون كلهم من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء كل ليلة ونزورهم، وبعد عام نسأل: كم جريمة ارتبكت؟ ولا جريمة. وكم من فقير يبكي جوعاً؟ ولا فقيراً.وكم من عارٍ يمشي بالناس بالعارية؟لأن هذا هدى الله ونور الله، مستحيل أن يتخلف.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-21, 03:21 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (81)
الحلقة (222)
تفسير سورة آل عمران (83)


إن عباد الله المؤمنين لم يؤتوا شيئاً خيراً من الصبر، فحياة العبد المؤمن في كل تفاصيلها بحاجة إلى الصبر؛ فصبر على طاعة الله سبحانه، وصبر عن معاصي الله، وصبر على المحن والبلاء، ثم مصابرة أعداء الله والرباط في سبيل الله؛ طمعاً بما عند الله عز وجل لعباده المجاهدين في سبيله، والباذلين أنفسهم وأموالهم في مرضاته، لذلك فقد كان آخر هذه السورة دعوة الله عز وجل لعباده إلى الصبر والمصابرة والتقوى؛ لأن ذلك هو سبيل الفوز والنجاح والفلاح.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:معشر الأبناء والإخوان المستمعين! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذا النداء الإلهي، من خاتمة سورة آل عمران، وهو قول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، فهذه خاتمة سورة آل عمران ذات المائتي آية، وختمت بهذه الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]. ‏
خصوصية مناداة الله سبحانه وتعالى بـ(يا أيها الذين آمنوا) للمؤمنين دون غيرهم
إن من إكرام الله تعالى لنا، أن نادانا بعنوان الإيمان في كتابه العزيز، نحو تسعة وثمانين نداء، إذ النداءات تسعون، أحد النداءات: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، والمنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمطلوب والعمل نحن المؤمنين، إذا طلقتم النساء، فبين لنا كيف نطلق، وكيف يعتد نساؤنا، وكيف نراجع وكيف.. إلى آخر ما جاء في أحكام الطلاق والعِدد.إذاً: ما السر بندائنا بعنوان الإيمان؟ علم المستمعون والمستمعات: أنه الحياة، المؤمن حي، والحي خلاف الميت، فالحي يسمع النداء ويجيب، إذا أمر وكان قادراً على الفعل فعل، وإذا نهي وزجر ازدجر وترك، وإذا عُلم علم، وإذا حذر حذر، وإذا بشر فرح واستبشر؛ وذلك لكمال حياته.ومن هنا قررنا أن غير المؤمنين أموات، والبرهنة القاطعة هي أننا لا نكلفهم وهم في ذمتنا وتحت رايتنا، ولا نكلفهم بصيام ولا صلاة، ولا حج ولا عمرة ولا جهاد؛ لأنهم بمنزلة الأموات، فإذا نفخت فيهم روح الإيمان، وقال أحدهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، سرت الروح في جسمه، العين تبصر، الأذن تسمع، اللسان ينطق، اليد تأخذ وتعطي، والرجل تمشي؛ وذلك لكمال حياته.فمن هنا نادانا مولانا تسعين نداءً، استولت هذه النداءات على كل متطلبات حياتنا نحن المسلمين، حياة السعادة والكمال، ومع الأسف ما عرف هذا المسلمون، ولا دروا ما به وما فيه، وها نحن مع هذا النداء، وهو آية واحدة، فلنتدبر ما يحتوي عليه هذا النداء.
معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:200]، يا من آمنتم بالله رباً لا رب غيره، أي: خالقاً رازقاً مالكاً مدبراً لا رب غيره، وآمنتم بالله إلهاً، أي: معبوداً لا معبود يستحق العبادة سواه؛ لأن الذي لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يعطي ولا يمنع، ولا يضر ولا ينفع، دعاؤه والانحناء بين يديه، وتقبيل رجله، والركوع له عبث، لا يصح أبداً. فدعاء من لا وجود له، ودعاء من لا يسمع دعاءٌ غير معقول ولا مشروع، ولا يصح عقلاً، وكذلك دعاء من لا يقدر على إعطائك ما تطلب لا يجوز، ويكون دعاءك عبثاً، ودعاء من لا يقدر على إنقاذك وتخليصك من محنتك لا يجوز. فإذا مررت أمام منزل خرب وليس فيه سكان، ورأيت فقيراً ينادي: يا أهل البيت أطعموني، يا أهل الدار إني جائع، ظمآن، أنقذوني، ستقول لهذا الفقير المنادي: يا عبد الله! البيت خرب ليس فيه أحد، ولو تبيت طول الليل تنادي لن يسمعك أحد، اذهب إلى البيت الذي فيه أهله يسمعون ندائك ويعرفون حاجتك، ويقدرون على إنقاذك وإعطائك.ومن صور هذا النداء في حياتنا، نداء الذين يقفون أمام الأضرحة والقباب وقبور الصالحين وينادون ويستغيثون ويطلبون، حالهم كحال هذا الفقير الذي أمام بيت خرب ليس فيه سكان وهو ينادي ويطلب، فلا فرق بينهما؛ لأن الميت لا يسمع.مثلاً: لو فرضنا أنه سمعك عبد القادر أو فلان أو فلان.. في قبره فلن يمد يده لك بالعطاء، ولن يقدم لك كلمة ينصحك بها. فسؤاله إذاً لعب وعبث، ومع هذا ما زال بعض المسلمون إلى الآن يستغيثون ويدعون وينادون أمواتاً، غير أحياء؛ بسبب الجهل وظلمته، فلم يعلمهم أحد، ولم يجلسوا بين يدي أحد من العلماء يعرفهم بربهم حتى يعرفوه حق معرفته. فماذا ترجو منهم؟ فلابد من هذا التخبط والجهل والضلال، فمن أراد إنقاذهم فليعمل على جمعهم بين يديه وتربيتهم، وبعد ذلك يتأكد أنهم لا يدعون غير الله، ولا يستغيثون بسواه أبداً؛ علموا.يا من آمنتم بالله رباً وإلهاً! وآمنتم بالقرآن كتاباً يحمل الهدى والنور! فاستنارت قلوبكم وعرفتم الطريق إلى ربكم، من خلال ما حواه هذا الكتاب المنير، هذا النور الإلهي، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8].يا من آمنتم بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً! مرسل إليكم ليعلمكم ويبين لكم الطريق، ويهديكم إلى سبل نجاتكم وسلامتكم.
من أنواع الصبر: الصبر على طاعة الله ورسوله
يا من آمنتم بلقاء الله والوقوف بين يديه، وسؤالكم عن الذرة من الخير أو الشر، والجزاء العادل في تلك الساعة؛ أنتم الأحياء بسبب هذا الإيمان يأمركم مولاكم بالصبر، اصْبِرُوا [آل عمران:200]، صبر يصبر صبراً على شيء تحمل، ولم يفرط ولن يفرط، وقد علمتم أن للصبر ثلاثة مواطن: - صبر على طاعة الله ورسوله في الرخاء والشدة، في اليسر والعسر، في الغنى والفقر، في الحرب والسلم، بحيث لا تسمح لنفسك بأن تعصي الله ورسوله بترك واجب أوجباه، وعلمت أن هذا الأمر واجب الفعل ويحرم تركه؛ لأنه يزكيك ويهيئك لسعادتك، تركه يرديك ويشقيك، فالنفس تتململ وتتضجر إذا لم تحملها على أن تصبر. فلابد إذاً من أن تصبر وتأمر نفسك بالصبر على طاعة الله بفعل ما أمر به وأوجبه من العقائد والأقوال والأفعال والصفات والذوات، حبسها على الصلاة لا تفارقها، حبسها على بر الوالدين لا تعقهما، حبسها على ملازمة ذكر الله ما تتركه، جاهد والزمها ذلك هذا موطن، صبر دون معاصي الله والرسول، فالمعصية لا تقربها.والمعاصي: ما حرم الله ورسوله من زنا، من ربا، من عقوق الوالدين، من الغيبة، من النميمة، من الخيانة، من الغش، من الخداع، من الكبر، من العجب، أنواع المحرمات.فعبد الله المؤمن مأمور أن يحبس نفسه دون تلك المعاصي، ولا يأذن لها ولا يسمح لها أن تقرب معصية من تلك المعاصي، فكما تحبس طفلك في البيت حتى لا يخرج، وكما تحبس دابتك حتى لا تهرب كذلك تحبس نفسك؛ حتى لا تعدو إلى تلك المعصية فتقارفها، فحبس النفس دون معاصي الله ورسوله تتململ النفس وتتضجر وتدفعك وتحاول أن.. وأنت كالأسد لا تبال بتخبطها وحيرتها وشهواتها وأهوائها.ولا تقل: هذا متعذر، فالفعل قد تعجز عنه، أما الترك ففي الترك راحة، فلو أمرت أن تشرب محرماً هذا فعل صعب، فلن تستطيع أن تشرب سم، لكن كون قيل لك: لا تشرب، أي كلفة في لا تشرب؟ في الترك راحة يقينية، لكن الفعل قد يحتاج إلى جهد وبذل طاقة.وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، فقال: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )، أي: ما أطقتم وقدرتم على فعله، وما عجزتم عنه فليس عليكم شيء، ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه )، معنى: (اجتنبه): لا تُقبل عليه، اجعلوه جانبك، لا تُقبل عليه بوجهك لتأتي وتفعله، اجعله جانب من جوانب الحياة. ولم يقل: وما نهيتك عنه فاجتنبوا ما استطعتم، فلن يقول هذا عاقل؛ لأن الترك فيه راحة. فلما تجلس مع إخوانك، هل ستشعر بالإعياء والتعب والمشقة إذا ما اغتبت فلان، وقلت: فلان صفته كذا.. وسلوكه كذا.. كذا.. كذا..؟ نعم ستجد المشقة حين تلزم الصمت، أما أن تترك ففي الترك راحة.( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه )، والله عز وجل يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وبيان ذلك: دعينا إلى الجهاد، فالمريض والأعرج والأعمى لا يجب أن يخرجوا للجهاد؛ لقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61]، وهذا في الجهاد فقط.وفي الإنفاق: فصاحب المليون ينفق الألف، وصاحب الألف ينفق الريال، والذي لا ريال له لا يجب عليه شيء؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].وهذه الصلاة عماد الدين، معراج السمو والرقي إلى لملكوت الأعلى، فإذا كنت قادراً على أن تصلي قائماً صليت قائماً، فإن مرضت صليت قاعداً، فإن عجزت عن القعود صليت على جنبك، وبهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنها الصلاة مناجاة الرحمن عز وجل.هناك كلمة؛ عسى الله أن ينفع بها -وإن لم أنتفع أنا بها- فمن منا يدخل في الصلاة يعلم ويشعر -حقيقة- أنه يتكلم مع الله، ويجد لذة كما يتكلم مع فلان؟! هذه ألهمتها وأنا أبكي، ومن ثم عرفنا ما علة هذا الجفاف، فلما تتكلم مع شخص، كيف حالك وأنت تتكلم معه؟ فهل يكون قلبك هنا أو هناك، ويخطر ببالك شيء وأنت مقبل تطالبه: يا فلان لا تقعد هنا، يا فلان لم ما جئت؟!فالذي يصلي ولا يشعر بهذا الشعور وأنه يتكلم.. والله يسمعه وبين يديه، ما يجد فائدة في صلاته، ولا لذة لها ولا قيمة، وهذا الذي أصابنا وما شعرنا به. كيف أنا أتكلم معه ولا أشعر أنه يسمعني ولا أتأدب معه في مكالمته؟!كلنا نصلي وكأن الله غائب عنا، وإن كنا نعلم أن الله نصب وجهه لنا، لكن ليس شعور حقيقي بأننا نتلذذ بالكلام معه عز وجل، ولا نفرح ونسر أننا نتكلم معه عز وجل. قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران:199]، خشع: أي: ذل وانكسر واضطرب، وتحرك جسمه وارتعد؛ لأنه بين يدي الجبار، بين يدي الواحد القهار، فهل عاملنا الله بهذا الخشوع؟ فلهذا فقدنا سر هذه الصلاة، وأصبح الجفاف واليبوسة كأننا ما نصلي، كالذي يأكل وكأنه ما أكل، شرب وكأنه ما شرب.قال تعالى: خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:199]، أي: لا يبيع دينه بدنياه، ولا يبيع آخرته بحياته ودنياه، ما يبيع الآخرة بالدنيا، سواء كان يفتي بالباطل من أجل أن يأخذ ثمن على فتاواه، أو يزين للناس الباطل والحرام؛ من أجل أن يرضوا عنه ويوافقوه على ما يريد، كمن يقبل على دنياه فيستحل محارم الله عز وجل، اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً؛ لأن آيات الله أحكامه وقوانينه وشرعه.
من أنواع الصبر: الصبر على الابتلاء
من مواطن الصبر: أن تجاهد نفسك وأن تحبسها على طاعة الله ورسوله بفعل الأمر، فلا تتهاون في فريضة ولا واجب أوجبه الله ورسوله، وإن فشلت وعصيت الله وما صبرت فلست بصابر، احبس نفسك عن معاصي الله ورسوله ولا تسمح لها أن تقول كلمة سوء، أو تنظر نظرة سوء، أو تأكل لقمة حرام، وبذلك تكون قد أطعت الله وتهيأ للجزاء بعد ذلك.ومن مواطن الصبر على الابتلاء، إذ ما منا أحد إلا ويبتلى طال الزمان أو قصر، يقول تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، أي: اختباراً، وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، حسبانهم باطل.الصبر هنا: على البلاء، فإن كان فقراً اصبر عليه، ولا تمد يدك إلى مال أخيك، أو مال عدوك، لكونك فقيراً أو محتاجاً، تسرق وتغصب وتسلب وتأخذ، ما صبرت، ابتليت بالمرض، لا يسمع الله منك كلمة تدل على عدم رضاك بالله وما ابتلاك به، لا تقل: إلا الحمد لله، سواء اشتد الألم أو عظم أو خف وهان، أنت ذاك عبد الله، فلتكن نفسك راضية مطمئنة بما ابتلاك الله به، ولا مانع أن تتناول الأدوية المأذون فيها، المشروعة، متوكلاً على الله، وأنت تعلم أن الشفاء بيد الله، إن شاء شفاك، وإن شاء لم يفعل، هو العليم الحكيم، لكن تسخط وتصرخ وتقول: و.. و.. هذا الضجر والسخط يتنافى مع الصبر على البلاء.قد تبتلى بموت أعز عزيز لديك، فلا يسمع الله منك كلمة تسخط، ولا تضجر ولا تململ، ولكن قل: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله، فهذه هي الكلمة التي لا تفارق المؤمن، وهو يعلم أن السخط والتضجر لا يفيدانه شيئاً، ولا يغنيان عنه من الله شيئاً، الأمر الذي ينتفع به ويكتسب الخير، هو أن يفوض الأمر لله، ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون، فالذي صبر في هذه المواطن الثلاثة أصبح أكمل الناس.صبر على الطاعة ما رأيته يعصي الله، لا بفعل.. لا بترك ولا بفعل.صبر على البلاء كيف ما كان، فقراً أو مرضاً أو موتاً أو غربة أو تعباً أو مشقة أو عمل دائماً كلمة: الحمد لله لا تفارقه.وهذه ميزة لهذه الأمة منذ أن كانت تعرف هذه الأمة في الكتب الأولى في الإنجيل والتوراة، تعرف بأمة الحمد، فلو سألت يهودياً أو نصرانياً، فقيراً أو مريضاً: كيف حالك؟ فلا يعرف كلمة (الحمد لله) ولا يسمع بها. ولو سألت مؤمناً وإن كان عامياً: كيف حالك؟ يقول لك: الحمد لله، فلا تفارقه، فالحمد والثناء والجمال لله عز وجل.اللهم ثبتنا على الصبر.
الفرق بين الصبر والمصابرة
قال تعالى: وَصَابِرُوا [آل عمران:200]، فالصبر غير المصابرة، والمصابرة أن يكون عدوك أمامك، والسيف في يده، وأنت أمامه والسيف في يدك، وأنت تتمايل تتحين الفرصة لضربه وهو كذلك، فإن أنت صابرته غلبته، وإن ما صابرته فشلت وغلبك في الصبر وقتلك.ويرى: أن عنترة بن شداد العبسي المعروف عند العرب والعجم شاعت شهرته وطار صيته في العالم في بطولته، ما بارزه ولا قاتله بطل إلا هزمه، فسألوه يوماً: ما سر هذه البطولة وهذا الانتصار؟ قال لهم: كل ما في الأمر أنني أصابره حتى ينهزم. لا أقل ولا أكثر، كلما أشعر بالضعف أتقوى بالصبر، وهو كل ما يشعر بالضعف يتقوى ثم ينهزم أضربه.فهذا عنترة بن شداد العبسي مضرب المثل في البطولة، فسألوه: كيف تنتصر دائماً؟ قال: ما هناك شيء أتفضل به على غيري، عضلاتي، بنيتي، بدني كغيري، أضعف من كثير من الذين يقاتلهم، كل ما في الأمر: أنني أصابرهم كلما يحاول نحاول نحاول.. نصبر فينهزم قبلي، لما يضعف أضربه وأنتصر عليه، هذه حقيقة.وقوله تعالى: وَصَابِرُوا [آل عمران:200]، هنا: المصابرة في وجه العدو، وأعداؤنا هم: الشهوة العارمة، والنفس الأمارة بالسوء، والدنيا بزخارفها وألوان متعها، وأبو مرة إبليس عليه لعائن الله أكبر هذه الأعداء، يقول تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ [فاطر:6]، أي: اجعلوه عدواً حقيقاً.(وَصَابِر ُوا)، هذه في حال السلم، لسنا في صراع بين المشركين والمؤمنين، فليس هناك حرب بيننا وبين الكافرين، ولكن هنا نصابر الشهوات العارمة، ونهزمها، وما تدفعنا وتهزمنا لأن نرتكب الخبث والمعصية والجريمة، نصابر الدنيا الغرارة، الخداعة بزخارفها، لا تعمينا ولا تصمنا ونعرف حقيقتها وزوالها وخبثها، ولا نبالي بها، ولا نعصي الجبار من أجلها، ولكن نعصي النفس الأمارة بالسوء، كل ما تزين لك قبيحاً شينه في وجهها، وكل ما تميلك إلى كذا مل إلى كذا وتخل عنها حتى تمد عنقها وتستسلم، جاهد، صابر.إذا الشيطان زين لك كلمة وحسنها لا تقلها، وحسن لك لقمة لا تلقمها ولا تبتلعها فهو عدوك، فهنا الميدان ميدان مصابرة، ومصابرة الميدان الجهاد ضد الأعداء، وهم الكفار فكلهم أعداء الإسلام والمسلمين، أهل الكتاب والمجوس، والمشركين والملاحدة والبلاشفة وكل الدنيا، فكيف نصابرهم؟ أولاً: إذا أعلنت الحرب ودخلت قواتنا أو رجالنا الميدان لا ننهزم، ولا نعطيهم ظهرونا، ولا نوليهم أدبارنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، لم يقل: لا تعطوهم ظهوركم، ولكن جاء بكلمة ما يطيقها الحر، فلا تعطوهم أدباركم، وتفرون أمامهم وتعطوهم ظهوركم. فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال:15-16]، اللهم إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16]؛ تحقيقاً لمبدأ (وَصَابِرُوا)، فكيف تنهزم أمامهم وأنت ترغب في الاستشهاد والموت، وأنت تريد السماء، والملكوت الأعلى والدار الآخرة، وهذا الحيوان الميت أمامك، كيف تنهزم أمامه؟!وهنا من ذكريات التاريخ لطيفة، مسجل عند الأوروبيين أيام بداية العثمانية، حاملة راية الإسلام وهي تفتح في شرق أوروبا وتغلغلت إلى البوسنة والهرسك -كما تقولون-، يقولون: كان الجندي العثماني يربط نفسه مع المدفع، ويضرب.. ويضرب .. حتى تنفد الطلقات، فيأتي العدو فيقتله وجهاً لوجه، ولا يعطيه دبره؛ عملاً بقول الله تعالى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، حتى أصبح يضرب بهم المثل في القوة، أتاتورك القوة التركية، أيام كان الإسلام يعمر قلوبهم وفاضت أنواره على كل أحاسيسهم ومشاعرهم، عرف هذه العدو فكاد لنا ولهم، فأهبطهم إلى الأرض، وأفقدهم الإيمان، وأفقدهم المعرفة بالله، وهو كما تشاهدون.(وَصَابِ رُوا): حرام عليك أن تنهزم، فالمسلم ما ينهزم، أمره الله أن يصابر عدوه حتى يستشهد أو يقتل عدوه، هذا في كل ساحات المعركة، (وَصَابِرُوا) عدوكم تغلبوه بالصبر، فتغلبوه في الحرب.
فضل الرباط في سبيل الله
قال تعالى: وَرَابِطُوا [آل عمران:200]، المرابطة هي: أن ثغورنا في حدود ديارنا سواء الضيقة أو الواسعة، يجب أن نرابط فيها، وكان المؤمن لا يأخذ أجراً من السلطان، يقول لأم أولاده: أعدي لي طعام شهر، سويق أو التمر أو الخبز الجاف وفراشه على ظهره ويمشي إلى الثغر، يبيت راكعاً ساجداً يدعو الله، ويعيش على ذلك الشغف من العيش، ويظل لمدة شهر وهو يحرس ديار الإيمان والإسلام، ثم يعود.وكم من تراهم ذاهبين وراجعين لا أجرة ولا وسام ولا شرف، فقط في سبيل الله، ويتخرجون ربانيين الذي ينقطع إلى الله في الليل والنهار، في مكان لا زخرف فيه ولا طعام ولا شرب، لمدة أربعين يوماً يصبح ولي الله.هذا الرباط الآن انتهى، لكن حل محله الثغور، جمع ثغرة، الثكنات جمع ثكنة، فمع من نتكلم؟ مع ثلاثة وأربعين دولة. من قسم المسلمين؟ فكيف دولة الإسلام تصبح نيفاً وأربعين دولة؟! أأذن الله في هذا؟ أهذا يسعدنا؟! أهذا يعزنا؟! أهذا يحفظ ديننا؟! والله ما كان في الكل.فالثالوث الأسود هو الذي فرقنا وشتتنا، حين مددنا أعناقنا واستجبنا له، الجهل هو جهلنا أولاً، واليوم كنت أسمعكم القانون تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر، إياك أن تقول قال الله، فحرموا أمة الإسلام من كتاب ربها، وإذا لم تهتد أمة الإسلام كتاب الله وسنة رسوله، فإلى ما ستهتدي؟ فلا توجد الهداية والنور إلا في القرآن الكريم.فتأمروا على القرآن الكريم وحولوه إلى الموتى، فكنت لا تسمع القرآن يقرأ إلا في بيت الميت فقط، حتى أصبحت العاهر البغي إذا ماتت في دار البغي أو البغاء، يؤتى بأهل القرآن ويقرءون ويأخذون الطعام والفلوس. فهل هذه هي أمة الإسلام؟ وإن عجبت وقلت: كيف؟الجواب عندنا بسرعة: فقد استعمرتنا أوروبا وأذلتنا كيف حكمنا الكفر وسادنا؟! فهل نحن ربانيون أولياء الله؟! لا والله! ما كان هذا، وأماتونا بهذا السحر العجيب.اللطيفة: ذكر الشيخ رشيد رضا في المنار عند قوله تعالى: يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:199]، قال شيخ من كبار علماء الأزهر، سمتاً واستقامة وصلاحاً وعلماً أعلن في مجلس الأزهر، قال: الذي يدعي أنه يعبد الله بالكتاب والسنة زنديق. فلا يتعبد الله إلا بالفقه وما دونه علماء الإسلام الفقهاء، أما الذي يدعي أنه يعبد الله بالكتاب والسنة زنديق، في أعظم مجلس في العالم الإسلامي. رد عليه الشيخ، قال: الذي يدعي أنه لا يعمل بالكتاب والسنة زنديق، وقلنا: والله! زنديق؛ تأييد للنظرية الأولى تفسير القرآن خطأ، صوابه خطأ وخطأه كفر، ما تقول: قال الله وقال رسوله، قال سيدي فلان، قال شيخنا، قال كذا.. فأماتوا الأمة، وقطعوها عن الروح والنور، وماتت كما علمتم وشاهدتم.(وَرَابِ طُوا)، الآن نقول: يجب على هذه الدويلات أن تجتمع وأن تبايع إماماً واحداً، وأن تكون الدويلات ولايات، والمسئولون فيها إن كانوا صلحاء يكونون ولاة، وإمام المسلمين واحد، وحدود المسلمين شرقاً وغرباً هي ديارهم، ثم في تلك الحدود تقام الثكنات، ويرابط رجال الإيمان والإسلام.فالآن لا يوجد سيف ورمح، بل يوجد الصواريخ الممتازة، والطائرات النفاثة، الهياجة، السلاح المدمر، ذاك الذي يكون في حدود ديار العالم الإسلامي، ويجب أن نكون أكثر منهم عتاداً وسلاحاً، وما اشتريناه اليوم نصنعه غداً، ويجب وإلا ما أطعنا الله في قوله: (ورابطوا)، فأي رباط هذا؟ فلو تريد أوروبا أن تحتل أي دولة إسلامية لاحتلتها خلال أربعة وعشرين ساعة، فالأمة مفرقة وممزقة، وتمزقت عقيدتها وسلوكها وآدابها ولا يلام أحد على آخر، تدبير الله فقط.فيجب أن نعلم أننا عصاة فاسقون عن أمر الله، إذا لم نصبر، إذا لم نصابر، إذا لم نرابط فهذه أوامر الله.
الصبر والمصابرة وتقوى الله عز وجل سبيل الفلاح
وأخيراً قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:200]، وبعد ذلك: لتفلحوا في الدنيا بالعز والكمال والسعادة والطهر والصفاء، وفي الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار. وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:200]، كيف نتقي الله عز وجل وهو العلي الأعلى وأنت العظيم، فلا قدرة لنا على أن نتقي غضب الله وعذابه، فتقوى الله بمحبته ومخافته، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يطعم ويسقي، ويحفظ ويكلأ وخلق كل شيء من أجلنا، وبيده سبحانه كل شيء، فهو الذي يسلب الحياة والمال. فاتقي الله يا عبد الله! بأن تحبه وتخافه، فلا تخرج عن طاعته.فالذي لا يعرف محاب الله، ولا كيف يؤديها لله، ولا يعرف مساخط الله يستحيل أن يكون من المتقين، فلابد من العلم، فإذا لم تعرف ما يحب الله من الاعتقاد والقول والعمل، والصفات والذوات، إذا لم تعرف ما يكره الله ويغضب من أجله من السلوك، من النيات، من الأقوال من الأعمال، فكيف إذاً ستتقي الله عز وجل؟لابد إذاً من العلم، قولوا: يكفي ما نحن عليه، أين آثار العلم؟ نعود من حيث بدأنا إن أردنا أن نعود، قف يا عبد الله! وانظر إلى هذا المجلس، من صلاة المغرب إلى أذان العشاء ورجالنا، ونساؤنا وأطفالنا مصغين يستمعون، كل ليلة وطول العام في كل قرية في كل حي في العالم الإسلامي، هذا والله طريق العلم والحصول عليه.أهل القرية ينتدب بعضهم بعضاً هيا نعود إلى الله عز وجل، إلى متى ونحن في هذا العار والخزي والبوار؟!يا معشر إخواننا! لا يتخلف من غد أحد عن المسجد، حان وقت الساعة السادسة أخذ المسلمون يحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، في كل حي وفي كل قرية، في المملكة، في الجمهورية.. لا تجد شخص إلا وهو في بيت ربه يتعلم الكتاب والحكمة، فهل سيبقى جاهل أو جاهلة؟بدون قلم ولا كتاب، عرفوا وإذا عرفوا يرضون بأن تأكلهم النار، ويحل بهم الخزي والعار؟ والله! ما يرضون من عرف ما يقبل التلوث بحال من الأحوال، ومن ثم لا زنا، ولا خيانة، ولا كذب، ولا سرقة، ولا عجب، ولا سخرية، بل صفاء، وطهر كامل، ما شاء الله، آمنا بالله، ما دفعنا شيئاً. وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:200]، نتقي الله عز وجل بمعرفة ما يغضبه وما يسخطه، وما يرضيه ويحببه، معرفة علمية ونأخذ بالعمل، وبذلك نصل إلى مستوى: (أني اتقيت عذاب الله وسخطه).
معنى قوله تعالى: (لعلكم تفلحون)
ومن ثم الختم الأخير: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، (لعل) أي: ليعدكم إلى الفلاح، فالفلاح في الدنيا انتصار، عز وكمال، أمن ورخاء، طهر وصفاء.وفي الآخرة: البعد عن عالم الشقاء، النار -والعياذ بالله-، ودخول الجنة دار الأبرار، قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-21, 03:27 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (82)
الحلقة (223)
تفسير سورة آل عمران (9)


الدين هو ما يدين به العبد ربه، وما يخضع به له، ويعمل بمقتضاه وموجبه، وهذا الدين محصور حصراً كاملاً في الإسلام، فلا يوجد في يهودية ولا نصرانية ولا صابئة ولا بوذية ولا غيرها، فدين الإسلام هو دين الأنبياء من آدم إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ابتغى ديناً سواه لم يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، فالحمد لله الذي أهلنا لهذا الخير، وربنا على كل شيء قدير.وها نحن مع قول ربنا عز وجل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:19-20].
فضل شهادة أن لا إله إلا الله
هل تذكرون الغنيمة الباردة التي غنمناها بالأمس؟ هل انتفعتم بها؟ إنها رواية ( من تلا هذه الآية أثناء تلاوته للسورة وهي قول الله عز وجل: (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))[آل عمران:18]. وقال: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، فهي لي عندك يا رب وديعة، يؤتى به يوم القيامة، ويقول الجبار عز وجل: إن لعبدي علي عهد، وأنا أحق من يوفي بالعهد، أدخلوه الجنة ).
اختلاف أهل العلم في صحة إيمان المقلد في الشهادة
تذكرون أيضاً: أن الذي يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله بدون علم، فقط يقلد الناس.. سمع أهل القرية يقولون: لا إله إلا الله فقال: لا إله إلا الله، تعلمون أن أهل العلم مختلفون في صحة إيمانه؛ لأن الشاهد -كما هي حال البشر- لا يشهد على وقوع شيء أو على عدمه إلا بعلم حصل عليه من طريق سمعه وبصره وعقله ووعيه.أما أن يقول: أشهد أن كذا وكذا ولم يعلم ذلك فهذا لا تقبل شهادته.
من شهد أن لا إله إلا الله فقد واطأت شهادته شهادة الله وملائكته وأولي العلم من عباده
ما الذي فزنا به أمس في هذا الباب؟ إذا سئلت: كيف عرفت أنه لا إله إلا الله وبم تشهد؟ تقول: أنا أشهد بشهادة الله وملائكته وأولي العلم من عباده، فإذا كان هؤلاء يكذبون أو يخطئون كنت أنا كذلك، ومستحيل أن يشهد الله بدون علم، ولو علم الله في العوالم الظاهرة والباطنة أن هناك إلهاً لأخبر عنه، ولكنه شهد أنه لا إله إلا هو.والملائكة وهم يطوفون بالعوالم ويسبحون فيها لو كان هناك من يستحق أن يعبد مع الله فيؤله لعرفوه؛ لكنهم شهدوا أنه لا إله إلا الله.والأنبياء والرسل يوحي الله إليهم ويكلمهم وينزل كتبه عليهم، وأتباعهم من أهل العلم الكل شهدوا على علم أنه لا يوجد إله إلا الله. فهذه تكفي وتسد حاجته، وترفعه إلى مستوى كأنه فتش العالم وما وجد إلهاً إلا الله، فقد شهد بشهادة الله أنه لا إله إلا هو، وبشهادة الملائكة أيضاً وأولو العلم.
فضل أهل العلم
هنا لطيفة أخرى فيها بيان فضيلة أهل العلم، ويكفي في الدلالة على فضلهم أن الله قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، ما فصل حتى بـ ( ثم ) ولا شك أن العلماء ورثة الأنبياء. من وارث محمد صلى الله عليه وسلم؟ الرسول ليس عنده نخيل ولا بغال ولا غنم، ما ترك شيئا من متاع الدنيا، ولكنه ترك علمه فمن أخذه فقد أخذه بحظ وافر، العلماء سواء كانوا بيضاً أو سوداًً، حمراً أو صفراً، عجماً أو عرباً هم ورثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فما خلفه رسول الله هم ينشرونه ويعلمونه ويبلغونه غيرهم.إذاً: هيا نتعلم حتى نكون من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم!
العلم طريق الفوز والنجاة
قد يقول قائل: هذا أمر صعب يا شيخ، لا نستطيعه. فأقول: لم ما نستطيع؟ نترك مزارعنا، مصانعنا، وظائفنا، أعمالنا ثم ننقطع لنطلب العلم حتى نكون علماء وترفع درجاتنا في عليين. أهذا أمر صعب؟! لقد فتح الله علينا باباً والله لمن أيسر الأبواب وأسهلها، ولأحق بتحقيق هذا الهدف السامي من مدارسكم وجامعاتكم وكلياتكم، وهو ما سمعناه وقررناه وبذلناه ببكاء ودموع وهو أن أهل القرية إذا دقت الساعة السادسة مساءً توضئوا وتطهروا لبسوا أحسن ثيابهم وجاءوا بنسائهم وأطفالهم إلى بيت ربهم وهو المسجد الجامع الذي بنوه لأداء الصلاة فيه، فإن ضاق وسعوه وإن اتسع فبها ونعمت، فيجتمعون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء اجتماعنا هذا، والنساء وراء الستار، ويتعلمون ليلة آية من كتاب الله، من ستة آلاف ومائتين وأربعين آية! وليلة بعدها يتعلمون حديثاً يبين الهداية الإلهية من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحفظونه في المجلس ويفهمون مراد رسولهم في المجلس، وكلهم عزم وإرادة أن يعملوا بمقتضاه.وكذا أهل المدن، المدينة ذات مناطق، المنطقة السابعة والثامنة والعاشرة، أو مدينة فيها ثلاث مناطق، فأهل كل حي يوسعون جامعهم حتى يتسع لكل أفرادهم وإن كانوا ألفاً أو ألفين أو ثلاثة! يوسعونه، ثم إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا دولاب العمل، أغلقوا المتجر، أوقفوا المصنع، تركوا المزرعة، ويتوضئون ويتطهرون، ويحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، ويصلون المغرب، ويجلس لهم عالم بالكتاب والحكمة فيعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم نيابة عن رسولهم صلى الله عليه وسلم، ليلة آية يقرءون، يتغنون بها، يحفظونها رجالاً ونساء وأطفالاً، ثم تشرح لهم، ويبين مراد الله منها، وتوضع أيديهم على المطلوب، وإن كانت في العقيدة عقدوها في قلوبهم، وإن كان أدباً تأدبوا به، وإن كان واجباً عرفوه وعزموا على النهوض به، وإن كان حراماً هجروه وتركوه، وليلة حديثاً، وطول العام! بل وطول الحياة. هل يبقى بعد هذا جاهل أو جاهلة؟ ماذا تقولون؟ والله ما يبقى، كلهم علماء! وبعد: فما هي المظاهر التي ستتجلى في ذلك المجتمع؟ أولاً: لا خبث، لا ظلمة، لا شر، لا فساد، ولكن خير وطهر وصدق، وعدل ورحمة وبركة، وحسبهم أنهم أصبحوا أولياء الله! لو رفعوا أكفهم إلى الله على أن يزيل الجبال لأزالها! والآن من يرد على الشيخ؟ ما نستطيع؟! الذين اقتدينا بهم وسرنا في ركابهم وقلدناهم -وهم المستعمرون الأوروبيون- إذا دقت الساعة السادسة عندهم وقف العمل، انتهى، يحملون نساءهم وأطفالهم إلى دور السينماء، ودور الرقص والعبث واللهو والباطل، ويمكثون الساعات العديدة من الليل، ونحن لا هؤلاء ولا هؤلاء! نعجز عن أن نذهب إلى بيت ربنا، فنتعلم الكتاب والحكمة، نعد أنفسنا للسعادة والكمال، ونهيئ أنفسنا لأن نرقى السماوات وننزل بديار الأبرار.لا مانع إلا أن نكون مسحورين، ولعل اليهود سحرونا حتى نبقى هابطين مثلهم، لا سعادة ولا كمال! جائز أن يسحرون بالكلام.. بالأدوية التي نستوردها من عندهم.هيا نحل هذا المشكلة؟ الخبث الآن في العالم الإسلامي عالم الطهر تعفنت الأجواء منه، الظلم، الحسد، البغي، الشر، الفساد، كأننا لسنا أولئك المؤمنين، فلا إله إلا الله، لا كاشف لها إلا الله، ونحن نتعرض للفتن يومياً، وما وقعت في بلد إلا وستنتقل إلى آخر! والعلاج بأيدينا. لا نقوى على أن نتعلم كلام الله وكلام رسوله ونقوى على أن نتكلم البذاء وسوء المنطق والألفاظ الخبيثة، والأغاني؟ أغاني العواهر نعرفها ونحفظها؟! فلتبكوا يا معشر المؤمنين! الزموا باب الله فإن الله لا يحرمكم الولوج والدخول فيه، قل: أنا مسلم، ولا تنتمي إلى فرقة ولا حزب ولا جماعة ولا حكومة، أنا مسلم! واقرع باب الله، اسأل أهل العلم كيف تعبد ربك، واعبده واصبر، وإن عم البلاء يجعل الله لك مخرجاً.
تفسير قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام...)
هيا بنا الآن نعود إلى دراسة هذه الآية الكريمة، فاسمع هذا الخبر: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] هذا خبر ، والمخبر به هو الله جل جلاله. كيف حصلنا على خبر الله؟ بكتابه. أين كتابه؟ القرآن العظيم. ولا عقل لمن يقول: ليس بكتاب الله! فلو اجتمعت البشرية أن ترد هذا الكتاب ما استطاعت فهو كتاب الله العظيم الحكيم العزيز، الكتاب الذي حوى علوم الأولين والآخرين، علوم الملكوت الأعلى، مفصل ما فيه تفصيلاً، فضلاً عن ملكوت الأرض وما دونه. هذا الكلام كلام من؟ كلام الله، ما أخس الكافر وما أحطه! كيف يكفر بالله وكتابه بين يديه وكلامه يسمعه بأذنيه؟ من أين يأتي الكفر؟! لا إله إلا الله! ‏
تعجب الرب سبحانه من كفر الكافر مع ما يتلى عليه من آيات
يقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100] لبيك اللهم لبيك! إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] ما أطاعهم أحد إلا كفر، ثم التعجب، يقول: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] العجب من أين يأتي الكفر؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100] خاصة من اليهود والنصارى الأساتذة، المعلمين، الخبراء، المستشارين، مع عامة اليهود والنصارى من فلاحين وسوقة إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] والله العظيم! ثم يقول: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] كيف تكفرون ومعكم هذه المناعة؟ ما هذه المناعة؟ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] فإذا المسلمون في أي جزء من الأرض كانوا يعيشون على هذا المبدأ، على كتاب الله وسنة ورسوله، والله ما تسرب إليهم كفر، ولا عرفوا الكفر، ولا انتهت مسيرتهم إليه بحال من الأحوال، وما إن يعرضوا عن كتاب الله وسنة ورسوله ويهجروهما هجراناً كاملاً فلا يعرفون منهما القليل ولا الكثير إلا صاروا عرضة والله للردة والكفر! معاشر المستمعين! هذا قرآن فاسمعوه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] من اليهود والنصارى يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] ثم يأتي التعجب: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] كيف يصل إليكم الكفر ويدخل في قلوبكم والحال أنكم تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101].أين توجد المناعة يا عبد الله المسلم؟! توجد في الكتاب والسنة. أين توجد المناعة والحصانة حتى لا نتورط في الكفر بعد الإيمان؟الحصانة أن يتلى علينا كتاب الله، وأن يكون بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يشرح لنا مسالك الحياة، ويعلمنا كيف نأكل، كيف نشرب، كيف ندخل الخلاء، كيف نقاتل، كيف نبيع، كيف نشتري، فتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم لا تفارقنا حتى في إخراج أرجلنا من المسجد أو إدخالها فيه، فإن هجرنا كتاب الله وما أصبحنا نسمعه ولا نريده وأبعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحنا نأكل ونبيع ونشتري كما نشاء فلا بد إذن من الوقوع في الكفر ما دام هناك فريق متميز مهمته: كفروهم!يرحمكم الله! فهمتم هذه البربرية أم لا؟ كيف نخلص؟ هل نمد أعناقنا حتى تنزل الصاعقة؟ إلى متى؟ أين العلماء؟ لو أن العلماء كلهم بكوا كما بكينا نحن والله لقد أصبحنا على حال من الكمال.هل منا من يقول: هذا الشيخ وهمي يعمل بالأوهام إذ كيف تدخل أمة المساجد وتتعلم بنسائها ورجالها؟ فأقول له: وكيف دخلوا السينما والملاهي والأباطيل؟!
إن الدين عند الله الإسلام
قال الله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] الدين: ما يدين به العبد للرب، وما يخضع به له، ويعمل بمقتضاه وموجبه، والذي يجزى به، كالمداينة يعطي اليوم ويأخذ غداً. هذا الدين محصور حصراً كاملاً في الإسلام، لا يوجد في يهودية ولا نصرانية ولا صابئة ولا بوذا ولا أية ملة، الدين الحق هو الإسلام، وهو دين آدم فمن بعده إلى اليوم، وما من نبي ولا رسول إلا ويدين لله بالإسلام. قال الله عن نوح عليه السلام: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:71-72]. أي: أمرني ربي أن أكون من المسلمين.وهذا يوسف الصديق ابن الصديق يقول فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101].والشاهد عندنا: أنه ما من نبي ولا رسول ولا عبد صالح إلا ودان لله بالإسلام، فلا دين إلا الإسلام، فكل الألقاب التي تطلق على العبادات نصرانية أو يهودية أو كذا كلها أباطيل وترهات: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] الذي هو إسلام القلب والوجه للرب تعالى. أسلمت لفلان حقه: أي: أعطيته. أسلمت وجهي لله: أي: أصبحت لا أرى إلا الله! من أجله أحيا ومن أجله أموت. أسلمت قلبي له: لا يتقلب قلبي إلا في طلب مرضاة الرب. هذا هو الإسلام.
كفر من ابتغى سوى الإسلام ديناً
يقول تعالى في هذه السورة: وَمَنْ يَبْتَغِ [آل عمران:85] أي: يطلب غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].وعندنا سر من أسرار هذا العلم الإلهي، أهل الحلقة يعرفونه، لماذا النصراني يعبد الله، واليهودي يعبد الله، والبوذي يزعم أنه يعبد الله، ثم لا يدخلهم الله جنته؟ لم؟! بل يبذلون أرواحهم في سبيل ذلك فضلاً عن أموالهم؟ الجواب: القضية قضية زكاة النفس وطهارتها، فالعبادات التي يشرعها الله ولا ينسخها، بل يقرها ويبقي عليها، هذه العبادة هي التي من شأنها أن تزكي النفس وتطهرها، أما أن يشرع فلان أو فلان أو فلان ويخترع ما شاء من أقوال أو أعمال أو حركات؛ فوالله ما تزكي النفس، ولن تطهرها، فلا تزكو نفس الآدمي إلا على عبادة وضعها الله وقننها شرعها من أجل تزكية النفس وتطهيرها، فاليهودية والنصرانية أولاً: هاتان الشريعتان نسخهما الله، وأبطل مفعولهما.ثانياً: نسبة الحق إلى البدعة عند هؤلاء لا تزيد على خمسة في المائة، وخمسة وتسعون كلها أباطيل وترهات، وضعها رجالهم، ومن أراد أن يتأكد فهذا الإنجيل حولوه إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً! فما هي نسبة الحق فيه؟ ولما عوتبوا ولوموا وضحك عليهم وسخر منهم من قبل اليهود اجتمعوا في روما أو في قسطنطينية وجعلوها خمسة أناجيل: يوحنا، مرقُس، لوقا، متى ، برنابا. كيف يصير كتاباً وحداً خمسة كتب؟ نحن نعرف أن زيادة حرف واحد محرمة، وهذا القرآن بين أيدينا ألف وأربعمائة سنة والله لا حرف يزيد أو ينقص، فكيف يصبح الكتاب المقدس عندهم خمسة كتب؟ معنى ذلك: أن كلام الله خمس وأربعة أخماس كلها أباطيل وكذب! والشاهد عندنا: إِنَّ الدِّينَ [آل عمران:19] المنجي المسعد الرافع المكمل للآدمي هو الإسلام فقط.لما تسمع الله يقول: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]تقول: إن الدين عندنا الإسلام، ولو قال: (إن الدين عندنا الإسلام) لقال المشركون: هذا محمد وجماعته، لا، بل قال الله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) فهو منزل من عند الله، الكتاب الكريم منزل من عند الله.
معنى الإسلام
ما هو الإسلام؟ الإسلام: أن تسلم وجهك وقلبك لله، فلا تلتفت إلا إليه، ولا تأمل إلا فيه، ولا ترجو إلا إياه، ولا تطرح بين يدي مخلوق وإنما بين يديه سبحانه، فكلك لله، وعندئذ تكون أنت المسلم الحق! كيف يكون العبد كله لله؟ إي نعم! يجامع امرأته لله، يطعم دابته من أجل الله، يطلق امرأته من أجل الله، كل عمله لله، لأننا عبيده، موقوفون عليه، فأنت تطلق ظلماً وعدواناً وأنت فاسق وفاجر وحرام عليك أن تؤذي أمة الله، لكن إذا ارتكبت ما يستوجب الطلاق طلقت، وعرفت أنها لا تسعد إلا بطلاقها؛ طلقها، فطلاقك هذا عبادة تعبدت الله تعالى بها.وعندنا آية من ستة آلاف آية ومائتين، وهي آية الوقفية على الله، لتعرف أنك وقف على الله، فكل غلالك ودخلك لله عز وجل، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].لو نادى الآن مناد: من يسلم؟ فكل واحد يريد أن يكون أول من يقول: أنا أسلمت لله، فهل عرفتم أننا وقف لله أم لا؟!لما تزرع ازرع لله، ولما تحصد احصد من أجل الله، ولما تأكل الخبز واللحم كل من أجل الله؛ لأنك أنت عبد الله.ورضي الله عن أبي هريرة السدوسي اليمني إذ قال: إني أحتسب نومتي وقومتي لله.أي: أنام من أجل الله، وأستيقظ من أجل الله فضلاً عن باقي حياتي، فالنوم واليقظة لله عز وجل، يريد أن ينام حتى يقوم آخر الليل أو يشهد صلاة الجماعة، فينام لله، ولما يستيقظ يستيقظ لله ليجيب منادي الله يناديني أن حي على الصلاة. هل عرف المسلمون هذا؟ ما عرفوا.كيف يعرفونه؟ من أين يأتيهم وقد هجروا مصدر العلم والمعرفة؟ من أين يأتيهم وقد تركوا آيات الله وأبعدوا رسول الله؟ ما دام هذا حالهم فلا بد وأن يقع هذا الظلام.إذاً: ينبغي أن لا ننسى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] فلا يفارقنا كلام الله أبداً، يتلى علينا يومياً، ورسول الله لا يفارقنا، وإن فارقنا بذاته فهو لا يفارقنا بأنوار هدايته، نأكل كما يأكل، نلبس كما يلبس، نشرب كما يشرب، نجاهد كما يجاهد.. كل حياتنا مستمدة من تلك الأنوار المحمدية؛ وبذلك تكون العصمة، أما أن نهجر الكتاب والسنة ونريد أن نبقى مؤمنين فهذا ليس بمعقول. يقول الله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] فمن أراد أن يعبد الله فليعبده بشرائع الإسلام، بها يدين لله ويذل ويخضع، يفعل الأمر، ويترك النهي خوفاً من الله عز وجل، وحباً فيه، وشوقاً إلى لقائه.ومن يعبد الله بدون الإسلام بأية عبادة أو بدعة فوالله إنه لفي ضلال.
قواعد الإسلام التي بني عليها
هل تعرفون أن الإسلام مبني على قواعد أم لا؟ الجواب: نعم قواعد الإسلام خمس، علمنا إياها جبريل سيد الملائكة، السفير بين الله وبين رسله. من جبريل هذا؟ وما هي الصورة التي تجلى فيها لرسولنا؟.أولاً: دخل عليه في غار حراء -غار حراء موجود في جبال مكة- والرسول منقطع يتبتل إلى ربه وقد توخمت البلاد واتخمت بالباطل والكفر والشرك، فمل النظر إليهم والجلوس معهم، فأخذ ينقطع الشهر والشهرين في ذلك الغار، ففاجأه جبريل في صورة عظيمة وأول نور بدأ في كلمة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1].وقد أخبرتنا بذلك خديجة رضي الله عنها كما أخبرها صلى الله عليه وسلم، لما عاد ترجف بوادره قال: ( أجلسني بين يديه، وقال: محمد! اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ ) يعني: لا أعرف القراءة، ماذا أقرأ. قال: ( فيضمني أو يغطني ثم يرسلني ويقول: اقرأ، أقول: ما أنا بقارئ، ثلاث مرات يضمني إلى صدره كما تضم الأم الحنون الرءوم طفلها؛ لينشرح صدره ويتسع لما يلقى إليه، ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5] وفارقه ) .فجأة وهو في جياد -المستشفى المعروف باسم: مستشفى جياد- جنوب المسجد الحرام، وإذا به يناديه: يا محمد! أنا جبريل وأنت رسول الله! ينظر وإذا بجبريل قد سد الأفق كله، إذ له ستمائة جناح، فلا إله إلا الله، ستمائة جناح؟ نعم، وهل للملائكة أجنحة؟ إي نعم، أخبر خالقهم بذلك: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1] فجبريل ذو ستمائة جناح. ثانياً: في أمسية والرسول صلى الله عليه وسلم جالس وأمامه أصحابه يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وإذا بجبريل يدخل في صورة دحية بن خليفة الكلبي ، وكان من أجمل الأنصار ويشق الحلقة، ويجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسة من لم يجلسها بين يدي عالم لن يتعلم!جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، ليتلقى بجامع قواه، عجب! ثم قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلهام بوحي من الله: ( الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت! ) فعجب الأصحاب. قالوا: ( فعجبنا له يسأله ويصدقه ) كيف يقول: صدقت؟ إذاً: هو عالم قبل الآن. وسأله عن الإيمان فأبان أركانه، وسأله عن الإحسان فصححه، وسأله عن الساعة متى تقوم فقال: ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: أخبرني عن أماراتها ) فأعطاه أمارة قائمة الآن. ما هذه الأمارة؟ الأمارة: العلامة ما هي الإمارة، حيث الأمير بالكسر والعامة يقولون: الأمارة، الإمارة التي فيها الأمير يأمر وينهى، أما الأمارة فهي العلامة ( أخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان )، أيهم عمارته تتجاوز الأخرى، هذا ما كان لا في أوروبا ولا في غيرها، فقد كانوا في الأكواخ في أوروبا، ما كان الناس إلا رعاة بقر أو غنم وإبل، وإذا بهم يتطاولون في البنيان، هذه العمارة عشرين طابقاً ، فيزيد هو طابقاً ليجعلها واحداً وعشرين حتى تكون أعلى، وصدق رسول الله.إذاً: الساعة قريبة؟ والله لقريبة، وهذه أماراتها لاحت في الأفق من زمان أكثر من مائة سنة أو مائة وخمسين ( أن ترى الحفاة العراة ) العالة الفقراء ( رعاء الشاة يتطاولون في البنيان )، أيهم بنايتهم أطول وأعلى.عرفه بالإسلام فقال: ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام إن استطعت إلى ذلك سبيلاً. قال: صدقت ).إذاً: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:19] ماذا؟ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، الإسلام هذا مبني على كم خمس قواعد لو سقطت قاعدة سقط البناء، فمن هنا من ترك قاعدة من هذه القواعد وهو قادر على إتيانها كفر وخرج من الإسلام وما أصبح بمسلم. وتبقى أمور أخرى كالطلاء والزخرفة فهذا شيء آخر، أما هذه فقواعد، ترك الصلاة كفر، منع الزكاة كفر، ومن قال: لا أصوم وسخر من الصيام كفر، ومن قال: لا أحج البيت ولا ألعب هذه الألاعيب التي تأتونها كفر.. وهكذا إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].
سبب اختلاف الذين أوتوا الكتاب
ثم قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19]، وهذه حقيقة تاريخية.. حقيقة علمية.. حقيقة قل ما شئت فيها فهي ثابتة ثبوت الليل والنهار، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ [آل عمران:19] وسبب تفرقتهم هو البغي والحسد بينهم! والحروب التي دارت بين اليهود يقشعر لهولها الجلد، من أجل اختلافهم في دينهم! ولو تعرفون عن اختلاف النصارى وما دار بينهم من حروب أحرقوا فيها بيوت بعضهم بعض وفعلوا الأعاجيب لاندهشتم. والمسلمون تفرقوا وإلا لا؟ اختلفوا وإلا لا؟ فهذه سنة الله عز وجل في البشرية، كانت أمة واحدة على لا إله إلا الله لا تعبد إلا الله، فأنشأ العدو الشيطان إبليس مبدأ الشرك بالله عز وجل وزينه للناس، والقضية عندنا معلومة من الضرورات إذ جاءت في كتاب الله وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قبل نوح عليه السلام ما كانت أمة الإسلام إلا أمة واحدة، ثم كان بينهم رجال صالحون من خيرة الرجال يعبدون الله معهم، فلما ماتوا بنوا على قبورهم أضرحة من أجل التبرك والزيارة، ومضت فترة من الزمان وضعوا لهم تماثيل، كل واحد له تمثال من أجل التبرك بهم والانتفاع برؤيتهم ليزدادوا حباً في الله ورغبة فيما عند الله، فجاء جيل فعبدوهم مع الله، واسمعوا ما قالوه لنبيهم نوح عليه السلام: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح:23]، هذا زعيمهم يقول، لا تتركن آلهتكم التي يقول نوح اتركوها ولا تعبدوها وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا رجالاً صالحين، ولما ماتوا بنوا على قبورهم مرحلة أولى من أجل التبرك بهم وزيارتهم وضعوا لهم تماثيل: هذا يعوق، هذا نسر، هذا سواع، هذا ود، من أجل رؤيتهم وليزدادوا حباً في الله ورغبة في عبادته، وجاء جيل آخر فقال: هؤلاء آلهة فعبدوهم، فلما عبدوهم وجاء العلم اختلفوا، لما جاء العلم يحمله رسول الله زال ذلك الاتفاق واختلفوا، فمنهم الكافر ومنهم المؤمن، منهم الموحد ومنهم المشرك. هذه قاعدة.إذاً: العلم الرباني حامل الهداية يجب على البشرية حيثما كانت ألا تخرج عنه ولا تعادي أهله ولا تناوئهم وتحاربهم فتتفرق الأمة وتختلف. هذه قاعدة ربانية.يكون أهل قرية أمرهم واحد -مثلاً- على خرافة وضلالة، فلما جاء العلم قال الله وقال رسوله يختلفون وإلا والمفروض أننا لا نختلف أبداً بل نتفق على عبادة الله وعلى شرعه ودينه، لكن الذي يحملهم على الخلاف هو حب الذات.. حب الرئاسة.. المنصب.. المال، وهذا الذي حدث في بني إسرائيل، والآن الآيات في اليهود والنصارى إذ هم أهل الكتاب.أيضاً: وفد نجران الذي جاء عرفوا يقيناً أن محمداً رسول الله، وما منعهم أن يقبلوا هذا إلا الحفاظ على مناصبهم في الكنيسة، فأبوا أن يفوتوا فرصة سعادتهم في دنياهم فرفضوا، واليهود على علم يقيني بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وعندنا مثل واضح كالشمس:كان غلام صغير يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، يأتيه بماء وضوئه ويحمل نعله، فمرض هذا الولد فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعوده ويزوره، فدخل عليه فوجده على فراش الموت ووالده إلى جنبه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( يا غلام! قل لا إله إلا الله ) فنظر الغلام إلى أبيه يريد أن يقولها فيكفهر وجه أبيه ويغضب ويسكت، يا فلان قل لا إله إلا الله، وفي المرة الثالثة قال اليهودي لولده: أطع أبا القاسم، فقال الولد: لا إله إلا الله محمد رسول الله وفاضت روحه فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدار وهو يقول: ( الحمد لله الذي أخرجه بي من النار ). ( الحمد لله الذي أخرجه بي ) أي: بسببي ( من النار ) وإلا كان من أهلها. هذا اليهودي الذي قال: أطع أبا القاسم كان على علم، والآن خمسة وسبعين في المائة من رجالات الكنيسة بعد هذا التفتح وهذه المواصلات وهذه العلوم وهذه الصحف وهذه الكتب يعرفون أن الإسلام هو دين الله، ولكن الحفاظ على مراكزهم ووجودهم بين أممهم جعلهم لا يعترفون به، ولا عجب إذ من المسلمين من يعرف الحق معرفة يقينية ويرفضه ولا يقبله؛ حفاظاً على حاله وموقعه، ولا عجب.إذاً: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:19] من اليهود والنصارى وغيرهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ [آل عمران:19] بسبب بالبغي.. العدوان.. الحسد.. الظلم، كم وكم، الآن تدخل قرية تريد أن تنشئ فيها جماعة ربانية صالحة في المسجد فتجد من يناهضك ويأتي بكلام غير كلامك، ولا تتفقون ولا تجتمعون؛ لأن البغي والحسد من فطر الإنسان، فإذا لم يذب في ذات الله ويتخلى عن أوساخ هذه الحياة فلا بد وأن يحسدك وأن يبغضك لأجل الدنيا.
جزاء من يكفر بآيات الله
قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:19] سواء كان عالماً أو جاهلاً، ومن يكفر بآيات الله الحاملة لشرائعه وأحكامه وهدايته، وقد تكون الآيات معجزات أيضاً، من يكفر بآيات الله التنزيلية الحاملة للشرائع والأحكام أو المعجزات المقررة لنبوة النبي ورسالة الرسول فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19] فسوف ينزل بهم نقمه ويجزيهم بأسوأ الجزاء وأقبحه، ولا يطول ذلك، فإنه تعالى سريع الحساب، وهذه جملة معللة للجملة المحذوفة، والمحذوفة فوق ما تتصور، يكفر بآيات الله، الجواب: يمزق.. يحرق، ماذا؟ ما تتصور، لكن قوله: فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19] يدل على هذا المعنى.(يكفر بآيات الله) ينكرها.. يجحدها.. يعرض عنها، لا يسمع.. لا يقرأ.. لا يعمل، هذا هو الكفران، الجحود والإعراض، وهذا هو الجزاء، سواء كان أبيض أو أسود، من أية جهة كان في العالمو(من) من ألفاظ العموم، من يكفر بآيات الله التي حواها كتابه وشاهدها الناس من رسوله، فإن العقاب عظيم وشديد لا يقادر قدره، وسوف ينزل أيضاً والله سريع الحساب.
تفسير قوله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله...)
قال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20]. فَإِنْ حَاجُّوكَ أي: يا رسولنا. من الذين يحاجونه؟ وفد نجران، ونجران بلدة في المملكة وراء مكة جنوباً تسمى نجران، كانت فيها النصرانية واليهودية أيضاً. إذاً: جاء وفدهم المكون من ستين فارساً، جاء ليحاج الرسول في شأن عيسى، يريدون أن يثبتوا بنوة عيسى لله. خرافة! ستون راكباً يأتون على الخيل وهم يعيشون على هذه الخرافة، من أجل أن يأكلوا ويشربوا ويسودوا العوام ويتحكمون بهم!هل هناك عاقل يقول: الله عنده ولد؟ من امرأته إذاً؟ الله الذي يخلق كل شيء يحتاج إلى زوجة؟! كيف هذا؟ هؤلاء يعلمون يقنياً أن الله منزه عن الصاحبة والولد، ولكنهم يريدون أن يأكلوا ويشربوا ويضحكوا على عوامهم، فجاءوا يجادلون حتى لا تبطل مناصبهم، فهزمهم الله شر هزيمة.قال الله لرسوله: اتركهم فإن حاجوك لا تحاجهم أنت: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران:20] واتركهم يتخبطون، فليسوا أهلاً لأن يحاجوا، ولما دعوا للمباهلة فشلوا وهربوا.إذاً: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ [آل عمران:20] أنت أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران:20] كذلك، واتركهم. إذ كنت تعرف أن هذا الشخص عالم وعارف ولكن منعه الاعتراف بالعلم والمعرفة أغراضه الدنيوية الهابطة، فهذا ما يجادل ولا يحاج، بل يحاج الذي ما عرف، فتبين له الطريق، أما شخص يعرف أنك رسول الله ولا يريد فلم تقض معه الساعة والساعات؟ ليس هناك حاجة إلى هذا.إذاً: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران:20] أيضاً أسلموا وجوههم لله، وأنتم افعلوا ما شئتم، كونوا ما شئتم أن تكونوا. فَإِنْ حَاجُّوكَ [آل عمران:20] في ماذا؟ في الله.. في التوحيد.. في الإسلام.. في الرسالة.. في كل شئون الدين، فلا تجادلهم؛ لأنهم على علم ليسوا جهالاً، والله إنهم ليعرفون أنه رسول الله، وأن الإسلام هو دين الله، وأن المسيحية والنصرانية عبث بها، وأن الله نسخها وأبطلها، ولكن البغي والحسد والمنافع التي يعيشون عليها تمنعهم من الاعتراف. وهذا وللأسف إلى الآن موجود حتى بين المسلمين، فكم من صاحب بدعة يعرف أنها بدعة، لكنها خولته تكريماً بين رجاله واحتراماً لهم أو مكنته من وظيفة مرموقة فلا يتنازل عن بدعته. فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران:20] إن شاء الله نحن منهم، إي والله، نسلم وجوهنا لله، لا نعرف إلا الله عز وجل، لا هم لنا ولا هدف ولا غاية إلا أن يرضى الله عنا ويحبنا، فإذا قال: صوموا صمنا، وإذا قال: أفطروا أفطرنا، وإذا قال: أنصتوا أنصتنا، وإذا قال: تكلموا تكلمنا، فوالله ما نتحرك حركة إلا بإذنه، وهذا يتطلب منا معرفة، لا بد من معرفة أوامر الله ورسوله ونواهيهما.قال: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ [آل عمران:20]العرب، الذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى والصابئة، والأميون هم: المشركون. قل لهم ماذا يا رسولنا؟ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ [آل عمران:20] اسألهم: أَأَسْلَمْتُمْ [آل عمران:20]أم لا؟ هذا هو الحد الفاصل، وبعد هذا ما بقي شيء. أأسلمتم أم لا، فأنا ومن تبعني قد أسلمنا وجوهنا لله، وأنتم اكشفوا النقاب عن وجوهكم. أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا [آل عمران:20] إلى طريق السعادة وسبل الكمال في الدارين وَإِنْ تَوَلَّوْا [آل عمران:20] ورجعوا إلى الوراء معرضين عنك وعن كلامك ودعوتك فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آل عمران:20] وقد بلغت، فهنيئاً لك رسول الله! لا تحزن ولا تكرب أبداً ولو ما أسلم ولا واحد، إذ عليك البلاغ، فهذه مهمتك التي تجزى بها وتؤاخذ عليها إن قصرت فيها، وقد بلغت فلا شيء عليك وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20] سوف يجزيهم الجزاء العادل إما فقراً وهواناً وذلاً في الدنيا، وإما تمزقاً واحتراقاً وتلاشياً في الدار الآخرة، وبذلك استراحت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب النجرانيون إلى بيوتهم في كرب وحزن.وصلى الله على نبينا محمد.

ابو وليد البحيرى
2019-04-21, 03:32 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (83)
الحلقة (224)
تفسير سورة آل عمران (51)


بين الله عز وجل في كتابه حال أهل الكتاب، وأن منهم المؤمن ومنهم الكافر، ومنهم الصالح ومنهم الفاسد، فأثنى سبحانه وتعالى على صالحيهم، ذاكراً عنهم أنهم يقرءون آيات الله أثناء صلاتهم بالليل، وأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في فعل ما يرضي الله عز وجل عنهم، ويجتنبون ما نهاهم عنه سبحانه، وأن ما يفعلونه من الخير لن يجحدوه، وإنما يجازون عليه يوم القيامة.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليلتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل -القرآن العظيم- وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الكريمات، والسورة كما علمتم هي سورة آل عمران عليهم السلام، وتلاوة الآيات المباركات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران:113-115].
شرح الكلمات
قال: [ قوله تعالى: لَيْسُوا سَوَاءً [آل عمران:113] أي: غير متساوين ]، ليسوا على مستوى واحد، من هم؟ أهل الكتاب من اليهود والنصارى[ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113] جماعة قائمة ثابتة على الإيمان والعمل الصالح.وقوله: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:113]: أي: يقرءون القرآن ] إذ آيات الله هي كتابه وهؤلاء دخلوا في الإسلام وأعلنوا إسلامهم وأصبحوا أهلاً لأن يثني الجبار تعالى عليهم.[ وقوله: آنَاءَ اللَّيْلِ [آل عمران:113] أي: ساعات الليل، والآناء جمع أنى أو إنى ] بمعنى: الوقت، ومنه قوله تعالى في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53] أي: وقته؛ لأن الطمَّاعين والراغبين في شم رائحة النبوة، إذا قال: الغداء عندنا غداً يأتون من الضحى! فيؤذون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فلا تأتوا إلا وقت وضع السفرة والإقبال على الأكل، والشاهد عندنا: الآناء، وهي جمع إنى أو أنى، يعني: ساعات الليل. [ وقوله: وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113]أي: يصلون ]. وذُكِر السجود وأريد به الصلاة لأنه أعظم أجزائها، إذ إن أعظم أجزاء الصلاة هو السجود، أما القيام فكل الناس يقومون، وأما الركوع فالآن يركعون لإخوانهم وعظمائهم، أما أن يعفر وجهه في التراب فهذا لن يفعله إلا مؤمن، وعليه فأطلق لفظ السجود وأريد به الصلاة لأنه أعظم أجزائها، وإن كنا نحن الآن نسجد على الفرش والزرابي، وكان المؤمنون الأوائل يسجدون هنا على التراب والحصا، ويضطر أحدهم إلى أن يُبعد الحصا بيده مرةً ولا بأس، ويخرجون وسيماهم في وجوههم من أثر السجود، ولا بأس أن نسجد على الزرابي المبثوثة، لكن فقط يجب أن نحمد الله عزوجل، وأن نشكره على ذلك. [ وقوله: وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [آل عمران:114] أي: يبتدرونها خشية الفوات ]، فإذا دعا داعي الخير أسرعوا، وإذا نادى منادي: حي على الجهاد، بادروا، وإذا نادى منادي: ابذلوا الصدقات، بادروا، فالمهم أنهم يبتدرون لقوة إيمانهم، َيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [آل عمران:114]. [ وقوله: فَلَنْ يُكْفَرُوهُ [آل عمران:115] أي: فلن يجحدوه ]، ما يجحدون ذلك الخير الذي يسارعون إليه، بل يثابون عليه ويجزون به، ولذلك قال: [ بل يعترف لهم به ويجزون به وافياً ]؛ لأن الله شكور حليم، والشكور: ما يكفر حقوق الناس ولا أعمالهم الصالحة، بل يذكرها ويسجلها ويثيبهم عليها.فهل تذكرون هذه المعاني في هذه الآيات الكريمات: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران:113-115]، وما دام عليماً بهم فسوف يجزيهم.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات:
من أهل الكتاب من يعبدون الله ويتلون آياته
بعد أن ذكر تعالى حال أهل الكتاب، وأنهم فريقان: مؤمن صالح، وكافر فاسد -في الآيات السابقة- ذكر هنا في هذا الآيات الثلاث: أن أهل الكتاب ليسوا سواء، أي: غير متساوين في الحال -والمآل أيضاً- وأثنى على أهل الصلاح منهم، فقال جل ذكره: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113] أي: على الإيمان الحق، والدين الصحيح ]، مِن أقام العود إذا قوَّمه، فما مالوا ولا انحرفوا في عقائدهم وفي عباداتهم، وإنما قائمين على الحق والدين الصحيح، ثم قال: [ وهم الذين أسلموا ] قلوبهم ووجوههم لله رب العالمين، إذ شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأحبوا الله ورسوله والمؤمنين، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المكر، ويكفي ما ذَكر تعالى في صفاتهم.قال: [ وهم الذين أسلموا ] أي: دخلوا في الإسلام، قال: [ يتلون آيات الله: يقرأونها في صلاتهم، آناء الليل، أي: ساعات الليل، وذلك في صلاة العشاء وقيام الليل وهم يسجدون ].وأهل الكتاب ما كانوا يصلون صلاة العشاء قط، ولا كانوا يتهجدون ولا يعبدون الله بالليل، ويشهد لهذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تأخر يوماً عن صلاة العشاء، فتململ الناس فخرج إليهم وأعلمهم: ( أنهم يصلون صلاة لا يصليها غيرهم في العالمين )، وهي صلاة العشاء، وفيها من الوعد ما تعلمون، فقال عليه الصلاة والسلام: ( من صلى البردين دخل الجنة )، والبردان: صلاة العصر وصلاة الصبح، فمن صلاهما صلاة حقيقة في وقتها، بأركانها، بخشوعها، وواضب عليها حتى مات، قطعاً دخل الجنة، وقال عليه الصلاة والسلام: ( من صلى العشاء فكأنما قام نصف الليل )، فالذي يصلي العشاء في وقتها مع جماعة المسلمين -يصليها صلاة تُقبل- فكأنما قام نصف الليل، وقال: ( ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله )؛ لأن العشاء وقتها يمكن لكل مؤمن أن يصليها، فما زال وقت النوم لم يدخل بعد، بينما لو نام على فراشه، فلا يوقظه إلا إيمان ورجاء في الله، ورغبة في الملكوت الأعلى. فوا أسفاه! واحسرتاه! ماذا أصاب المسلمين؟ من هم الذين يشهدون صلاة الصبح؟ ولا نسبة خمسين في المائة، بل ولا خمسة وثمانين، والعلة معروفة، إذ فتح عليهم اليهود باب اللهو والباطل، فانشغلوا بسماع الأغاني ومشاهدة الأفلام المختلفة والمتنوعة، يسهرون إلى نصف الليل، بل إلى ما وراء نصف الليل، فأنى لهم أن يقوموا آخر الليل؟! وفرح بهذا خصوم الإسلام، والمسلمون نائمون، ويعجبون إذا قيل: ما فائدة هذا التلفاز؟ ما فائدة هذا الفيديو في بيتك؟ ما فائدة هذا الدش أو الصحن الهوائي؟ أسألك بالله، علمنا، قل أي شيء، كم قررنا والله شاهد.واسألوا صاحب هذا الدش، اسألوه بالله، هل يكتسب منه ريالاً واحداً في الليلة؟ هل يُعطون أموالاً سرية من أجل شرائها؟! والجواب: والله لا، هل يستفيد منه رقة قلبه، وازدياد إيمانه، وقوة بصيرتة؟! والله ما هو إلا العكس، هل يستفيد منه طاقة بدنية، فيقوى بدنه على العمل غداً في مزرعته أو دكانه أو في مصنعه؟! والله ما يزيده إلا انهزاماً وضعفاً، هل يزيده حباً في الله، ورغبة في الملكوت الأعلى، والشوق إلى مواكب النبيين والصديقين؟ والله ما يفعل هذا، ولا يبعث على هذا أبداً، إذاً: فما هي النتيجة؟النتيجة : أن يَغضب الملائكة فيخرجون من البيت، ويتركون البيت للشياطين، فإذا استولت الشياطين على البيت فكيف يفعلون بقلوب أهلها؟ يُقسونها، يصرفونها عن الله وذكره، وهذا الكلام مكرر ومعاد، فلم لا يبلغهم؟ أيام كنا مسلمين إذا حدث حادث، قبل أن نقدم عليه نأتي أهل العلم ونسأل: هل هذا يجوز لنا نحن المسلمين أن نقوله أو نفعله؟ فإن قال أهل العلم: هذا حرام، تركناه وأعرضنا عنه، ونصحنا كل مؤمن ومؤمنة حتى لا يفعله، لكن الآن كأن مستوانا العلمي ارتفع! وأصبح الناس كلهم علماء! وأصبحوا في غير حاجة إلى أن يسألوا!وهنا أقول: من هم الذين قال الله فيهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]؟ بنو الأصفر؟ الأحباش؟ أشراف بنو تميم؟ إذاً فمن هم؟ تتجافى جنوبهم، أي: تتباعد أكتافهم عن المضاجع، إذ إنهم يقومون الليل، فهل الذي يقوم الليل يسهر مع زوجته وأولاده أمام عاهرة تغني وترقص؟! والله ما كان ولن يكون، بل أقول: هل يمتلئ المسجد في صلاة الفجر؟! لا والله، ولذلك لا نشك أننا تحت النظارة، فاليهود يراقبوننا ليل نهار متى نهبط ليركبوا على ظهورنا، ويتخذوننا بهائم، ويعلنون عن مملكة بني إسرائيل، وهذا الكلام قد سمعتموه مني، وأنا أحلف لكم على ذلك، فهم لا يريدون للبشرية أبداً أن ترفع رأسها، إذ يستحيل مع ذلك أن تكون لهم دولة بين الناس وهم حثالة وحفنة في العالم، فلا بد من إفساد البشرية، وقد نجحوا -كما بينت من قبل- في نشر مذهب الإلحاد، مذهب البلشفية الحمراء الشيوعية، وأصبحت الصليبية -التي كانت تعلو بآدابها وأخلاقها وسموها- كالبهائم لا يؤمنون بالله ولا بلقائه، وقد حذرت وقلت: لم يبق أكثر من ربع النصارى يعتقد في المسيح أنه كذا وكذا، وثلاثة أرباع بلاشفة حمر لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومن ثم استطاعوا أن يركبوا على ظهورهم، وأن يستولوا على قلوبهم وأموالهم، فعز اليهود وارتفعت قيمتهم، وعلا كعبهم في العالم، فهم المالكون المتصرفون في البنوك والأموال، ووصلوا إلى هذا لما كفَّروا الصليبيين ومحوا النصرانية من قلوبهم، والمسلمون هبط بهم من أفسد قلوبهم وأخلاقهم وعقولهم، وهم بنو عمنا من اليهود! وآية ذلك: أنه كيف أمكنهم أن يعلنوا عن دولة بني إسرائيل في قلب الإسلام والمسلمين؟! حلم هذا أم ماذا؟! وإلى الآن لم يعلنوا عن مملكتهم، وإنما أعلنوا عن دولة إسرائيل.وقد ذكرت لكم أن أحد الأبناء سمع بأذنه أيام موشي ديان وهو يحاضرهم في البرلمان اليهودي من عشرين سنة، فلما أُعجبوا ببيانه قالوا: أنت الملك، أنت الملك، قال: اسكتوا ولا تذكروا هذا؛ فإنه لم يحن الوقت لذلك، ويوم أن يملكوا من النيل إلى الفرات -وهو قريب إن بقينا هكذا- يعلنون عن مملكة بني إسرائيل، إذ إنهم يعملون بالسحر وبكل الأساليب على ألا تجتمع كلمة المؤمنين أبداً، ولا يُقبلون على الله بحال من الأحوال، وهذا هو الواقع.وبالتالي فهؤلاء هم اليهود، فأين وضعهم الله؟ لمَ؟ لأنهم أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، وأقبلوا على الله، وأقاموا دين الله بحق واستقاموا عليه، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وأقاموا الصلاة، وسارعوا في الخيرات، وكما قلت غير ما مرة واسمعوا: البشرية كلها عبيد الله، لا فرق عند الله بين أبيض وأسود، ولا عربي ولا عجمي، وإنما كلهم عبيد لله، وبالتالي فمن آمن واستقام رفعه، ومن كفر واعوج وانحط وهبط إلى الأرض وضعه في الأسفل، وهذا المدح الآن هو لمجموعة من بني إسرائيل كما سيأتي بعض أسمائهم.قال: [ وهذا ثناء عليهم بالسجود، إذ هو أعظم مظاهر الخضوع لله تعالى، كما أثنى تعالى عليهم بالإيمان الصادق والأمر بالمعروف، وهو الدعوة إلى عبادة الله بعد الإيمان به، والإسلام الظاهر والباطن له، وينهون عن المنكر وهو الشرك بعبادة الله تعالى، والكفر به وبرسوله، فقال عز وجل: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [آل عمران:114] أي: يبادرون إليها قبل فواتها، والخيرات: هي كل قول، كل عمل صالح من سائر القربات، وشهد تعالى لهم بالصلاح فقال: وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:114] ].وقد سبق أن قلنا: هم عبد الله بن سلام وأخوه وفلان وامرأته، أي: مجموعة من بني إسرائيل في المدينة النبوية، أقبلوا على الله وأسلموا، فأنزلهم الله هذه المنازل ليرغب اليهود والنصارى في الطريق إلى السلامة والنجاة، ولكن يدخل الله في رحمته من يشاء، فمن استجاب وأجاب دعوة الله نجا، ولذلك دخل في الإسلام من النصارى ملايين البشر.
الله عز وجل لا يضيع أجر الصالحين من أهل الكتاب
قال: [ وأخيراً: أن ما يفعلونه من الصالحات، وما يأتونه من الخيرات، لن يُجحدوه، بل يعترف لهم به، ويُجزون عليه أتم الجزاء؛ لأنهم متقون، والله عليم بالمتقين، فلن يضيِّع أجرهم أبداً ]، اللهم اجعلنا منهم.إذاً: فمن هم المتقون؟ الذين اتقوا غضب الله وعذابه وسخطه، بمَ؟ بالجيوش الجرارة؟! بالحصون القوية والأسوار العالية؟! أم بماذا؟ الجواب: يُتقى الله بالخوف منه الحامل للعبد على أن يطيعه ولا يعصيه، يُتقى الله بطاعته وطاعة رسوله، إذ إن من أطاع الله وأطاع رسوله جعل بينه وبين العذاب وقاية من أعظم الوقايات، وليست وقاية فقط، وإنما بعد الوقاية فاز وظفر بالمقام السامي، والدرجات العالية، والجوار الكريم في الملكوت الأعلى.إن تقوى الله عز وجل تتكرر في القرآن وأهل الإسلام غافلون عنها، فسلهم بم يتقى الله؟ لا يجيبوك أحد، ولذلك يُتقى الله بالإيمان به وبطاعته وطاعة رسوله، وسر هذه التقوى -أهل الحلقة على علم نساء ورجالاً، والمحرمون منها لا يعرفون- أنها تزكي النفس البشرية وتطيبها وتطهرها، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، فإذا زكت النفس -أي: طابت وطهرت- وأصبحت كأنفس الملائكة وأرواحهم، يقبلها الله في الملكوت الأعلى وينزلها في الفراديس العلى.وإن كانت الأنفس خبيثة منتنة متعفنة كأنفس الشياطين وأرواح الكافرين، فمستحيل في قضاء الله وحكمه أن يقبلها في جواره، وآية واضحة حفظها النساء والرجال لن تُنسى أبداً، فاسمع هذا البيان يا عبد الله، يقول تعالى في سورة الأعراف المكية: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41]، هذا بيان ملك الملوك، بيان رب العالمين، بيان خالق الجنة والنار، وخالق الإنس والجن وسائر المخلوقات، بيان رافع السموات، فمن يرد على الله؟! إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:40]، الذين كذبوا بهذه الشريعة يعبدون الله بها؟! معقول هذا الكلام؟! إن ذلك مستحيل، وإذا ما كذب ولكن استكبر، فقال: أنا مؤمن بأنه كلام الله، لكن لا نستطيع أن نقوم من آخر الليل، ما نستطيع أن نعطي أموالاً للفقراء والمساكين فنبقى مثلهم، ما نريد أن نخرج إلى الجهاد فنموت، فهل هذا استكبار أم لا؟ وقد ضربت لهذا مثلاً وتكرر ذكره، فنسيه الناسون، وهذا المثل هو:لو أن مريضين على فراش الموت أتى إليهما الطبيب، فتقدم إلى أحدهما فقال له: استعمل هذا الدواء ملعقة بعد الأكل وملعقة قبل النوم، فقال: أنا لا أؤمن بهذا الكلام، اذهب عني، لا أصدق هذا الكلام! ثم مات، والثاني تقدم إليه الطبيب فقال: يا أخانا، يا مريض، إن مرضك كذا، فاستعمل هذا الدواء ملعقة في الليل وملعقة في الصباح، فقال: جزاك الله خيراً، ولكن نفسي ما هي قابلة له، وأنا مصدق بما تقول، فتركه الطبيب فمات، وبالتالي ما الفرق بين المكذب والمستكبر؟الأول قال: أنا لا أصدق أن هذا الدواء يشفيني، وأن هذا الدواء ينفعني! فهو مكذب، والثاني شكر الطبيب على ذلك، لكنه قال: أن ما عندي شهية ولا رغبة في هذا الدواء، فهلكا معاً لأنهما لم يستعملا الدواء، فهل فهمتم معنى قول ربنا: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40]؟ ما استعملوا أدوات التزكية للنفس البشرية وتطهيرها، وهؤلاء حكم الله فيهم: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40]، وهل للسماء من أبواب؟إي ورب الكعبة، والباب كالمدخل، لكن ليس شرطاً أن يكون كباب غرفتك، فأبواب السماء لا تفتح لهم أبداً، وذلك لما تُؤخذ أرواحهم فيعرج بها موكبٌ من ملائكة العذاب، فيستأذنون -والله- فلا يؤذن لهم، فيعودون بها إلى الدركات السفلى، والدركات السفلى إن أردت لها تصويراً قريباً فأغمض عينيك وضع رأسك بين ركبتيك وفكر وقل: اهبط، اهبط، اهبط، إلى أين؟ عجزت يا عبد الله فلا تعرف، تلك هي الدركات السفلى ثَّم سجين، إلى يوم القيامة وهو في عذابها، إذاً لا تفتح لهم أبواب السماء لأن أنفسهم خبيثة عفنة منتنة رائحتها كريهة، لا يقبلها أهل الملكوت الأعلى.ثم قال تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ [الأعراف:40]، يا عرب، تعرفون الجمل؟ إنه البعير الأروق، تعرفون سم الخياط؟ سلوا العجائز، إنه عين الإبرة، أي: ثقبها، فهل من المعقول أن يدخل بعير في عين إبرة؟! والله لو تجتمع البشرية كلها مستحيل أن يدخل بعير في عين الإبرة، وبالتالي فمستحيل في حق ذي النفس الخبيثة أن يدخل دار السلام، وهذا حكم الله، فهل نبكي أو نصرخ؟وانظر إلى التعليل: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، من هم المجرمون؟ أصحاب الحشيشة عندنا، السرق، اللصوص، والمجرمون واحدهم مجرم، وهو اسم فاعل من أجرم يجرم إجراماً، فكل مفسد مجرم، والمراد هنا الإجرام على النفس البشرية التي كانت كأرواح الملائكة، كأرواح الأطفال، فأجرم عليها وصب عليها يومياً أطناناً من القاذورات والأوساخ، من كلمات الشرك والكفر والكذب، وجرائم السرقة والتلصص حتى اسودت وأنتنت وعفنت، فهل أجرم عليها أو لا؟ثم ماذا؟ قال لهم: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [الأعراف:41]، أي: فراش، ففراشهم الجمر والنار، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41] أي: بطانيات يتغطون بها، فغطاؤهم وفراشهم النار.ثم قال تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]، من هم الظالمون؟ الذين يضعون الأمور في غير مواضعها، فبدل أن يعبدوا الله عبدوا الشيطان، بدل أن يفعلوا الخير فعلوا الشر، بدل أن يعتقدوا الحق اعتقدوا الباطل، بدل أن يستقيموا اعوجوا، فاسودت نفوسهم، وأنتنت وتعفنت أرواحهم، فهذا جزاؤهم، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41].فهل عرف المؤمنون والمؤمنات هذا؟ وهل عرفتم تقوى الله عز وجل؟ إذاً فهيا نتقيه بطاعته وطاعة رسوله، فأولاً: يجب أن نعرف أوامر الله التي نطيعه فيها، وكيفية فعلها أمامه ليقبلها، ويجب أن نعرف أوامر رسوله كم هي؟ وما هي؟ وما أوقاتها؟ وما ظروفها؟ وكيف نؤدِّيها؟ ثم يجب أن نعرف محارم الله ومناهيه ومساخطه لنتقيها ونجتنبها، ونبحث عن الوسائل التي تساعدنا على تركها واجتنابها، فإن لم نرد أن نعلم هذا والله ما نتقيه، إذ إنه مستحيل ذلك، فالذي لا يعرف أوامر الله ولا نواهيه كيف يعبده؟! والذي لا يعرف أوامر رسوله ونواهيه كيف يطيعه؟!وللأسف فقد عرف هذا بنو عمنا من اليهود عليهم لعائن الله، فقالوا: إذاً جهلوا المسلمين -باستثناء هذه البقعة المباركة- فتجد نسبة تعليم البنت في مدارسنا في العالم الإسلامي لا تزيد على حصة في الأسبوع أو حصتين، وبالتالي كيف يعرف الناس ربهم؟ وكيف يعبد الناس ربهم؟ لقد شغلوا بناتنا وبنينا بالعلوم الطائشة التائهة الهائمة الضائعة التي لو أسلمنا قلوبنا لله لتعلمناها في أسابيع لا في عشرين سنة، ونحن نصرخ ونقول: الباطل، الباطل، بل ما زلت أقول: لو كنا صادقين فإن في إمكاننا أن نختار من البنات سبعين بنتاً أو ثمانين، وفي خلال أربعة أسابيع يتخرجن ممرضات، ولا يحتاج إلى ندرسهن عشرين سنة حتى يتخرجن ممرضات، وهذا مثال حي، لكن حتى لا نعرف الله ولا نعرف كيف نطيعه وضعوا هذه المناهج والبرامج التعليمية، فأصبح المسلمون يتخرجون بشهادات لو سألتهم عن الله ما يعرفون! ولو سألتهم بمَ يتقى الله فلا يعرفون أيضاً.ولذلك إذا جهل المسلمون ربهم ومحابه ومكارهه فكيف يعبدونه؟! كيف يطيعونه؟! ثم أين مظاهر التقوى وقد خمت الدنيا بالخبث والشر والظلم والفساد في كل بلاد العالم وبالأخص بلاد المسلمين؟ وسبب ذلك أننا ما علمناهم أن يطلبوا العلم لمعرفة الله وما يحب وما يكره، بل دلوني على فحل منكم أيها الفحول يأخذ طفله إلى المدرسة ويقول له: أي بني، تعلم كيف تعبد الله، تعلم ما يحب الله لتفعله، وتعرف إلى ما يكره الله لتتركه، وتنازلنا هذا مع الرجال والذكور، ثم جاء تعليم البنات، فمن منكم من قال: يا بنيتي تعلمي كيف تعبدين الله، كيف تتقربين إلى الله لتظفري بالنزول بجواره، إن هذه الدنيا فانية وزائلة؟ لو قال هذا لقالت: اتركني في بيتي مع أمي أتعلم كيف أعبد الله.مع أننا في خير وعافية، لكنها لا تدوم؛ لأننا نزحف إلى باب الخراب والدمار، ووالله -لا قدر الله- لأن تسقط هذه الراية، ويحكم هذه البلاد غير أهل سعود لرأيتم العجب، بل لاندهشتم، وذلك أن ظواهرنا كشفت عن بواطننا، وعرفنا إلى أين نحن نسير، وهذا هو واقعنا، لكن لطف الله وإحسانه باق معنا، ونحن نسأل الله عز وجل أن يكثر الصالحين والصالحات في هذه البلاد؛ لأن زوال النعمة إذا كثر الخبث، والعدو والله يعرف هذا قبلنا، فهم يرصدوننا لعلمهم بما عندنا، ولذا خرج رسول الله في ليلة من الليالي وهو يضرب كفيه متحسراً ويقول: ( ويل للعرب من شر قد اقترب )، في تألم وتحسر، فتقول إحدى نسائه: ( أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث )، فهل عرفنا نحن هذا؟ لو عرفناه ما سمحنا للخبث أن يظهر بيننا، لا في قرانا ولا في مدننا، لكن العدو عرف هذا فأخذ ينشر الخبث بالحيل وبالمجلات وبالجرائد وبالإذاعة وبالسحر، بل وبكل الوسائل المتنوعة والمختلفة، حتى إذا كثر الخبث هبطنا كما هبط كل العالم الإسلامي.
هداية الآيات
ومرة أخيرة أسمعكم الآيات لنقف على نتائجها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران:113-115].أما أهل الشرك فلا تسأل، واسأل عمن دخلوا في رحمة الله، واذكر الصديق والفاروق وأصحاب رسول الله، واذكر ملايين الربانيين الصالحين من العرب والعجم الذين أصبحوا أولياء الله وأهل تقواه.قال [ من هداية الآيات:أولاً: فضل الثبات على الحق والقيام على الطاعات ]. أي: أن هذه الآيات دلت على فضيلة الثبات على الحق والقيام على الطاعات، وعدم التحول أو النزول عنها.[ثانياً: فضل تلاوة القرآن الكريم في صلاة الليل ] والحمد لله نصلي العشاء ونقوم آخر الليل، فإن قال قائل: يا شيخ ما نستطيع! أقول: كان آباؤكم وأجدادكم يقومون الليل، بل ويطول عليهم فينامون ثم يقومون يصلون؛ لأن الليل عندهم من صلاة العشاء بتعاليم رسول الله: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم -نهى المؤمنين والمؤمنات- عن النوم قبل صلاة العشاء )، فيكره لأي مؤمن أن ينام قبل صلاة العشاء؛ لأنه إذا نام قد لا يستيقظ، ( ونهى عن الحديث بعدها )، أي: أن الحديث بعد صلاة العشاء ممنوع.لكن قد يقول قائل: يا شيخ! كل أعمالنا وأشغالنا في الليل! أقول: ماذا أصابنا؟ هل هبطنا؟! عندما نقول: هيا نتوب إلى الله فنجمع نساءنا وأطفالنا في بيت ربنا من المغرب إلى العشاء، فإذا صلينا ذهبنا إلى بيوتنا ونفوسنا مشرقة وآمالنا سامية، قالوا: كيف ننام بعد صلاة العشاء؟! إذاً: وكيف تتطلعون إلى السماء؟! أي: كيف تصبحون أولياء الله؟ [ثالثاً: فضل الإيمان والدعوة إلى الإسلام ] في الشرق والغرب.[ رابعاً: فضل المسابقة في الخيرات والمبادرة إلى الصالحات.خامساً: فضيلة الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه، وفي الصحيحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ) ]. وتكملة الحديث: ( وعبد مملوك -لزيد أو عمرو- يؤدي واجبه مع سيده ويعبد ربه بكامل العبادة فله أجران، ورجل له أمة فأدبها ورباها وأطعمها وغذَّاها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران )، اللهم اجعلنا منهم.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-21, 03:44 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (1)
الحلقة (225)
تفسير سورة النساء (1)


تقوى الله عز وجل هو سبيل الرشاد، فهو الذي يحمل العبد على طاعة الله عز وجل، وفعل ما أمر به من العبادات، وترك ما نهى عنه سبحانه من المعاصي والسيئات، إذ هو سبحانه المستحق لذلك فهو خالق الأكوان ومدبرها، وهو موجد الإنسان من نفس واحدة سبحانه وتعالى، وخلق منها زوجها، وبث منهما ذرية من الرجال والنساء، فاستحق سبحانه توحيده في ربوبيته وألوهيته.
تعليق على مؤتمر يطالب بحقوق المرأة
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فالله تعلى نسأل أن يحقق لنا هذا المأمول على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.وقد انتهى بنا الدرس إلى فاتحة سورة النساء، وهي السورة الرابعة من كتاب الله عز وجل، الأولى كانت الفاتحة، والثانية كانت البقرة، والثالثة كانت آل عمران عليهم السلام، والرابعة سورة النساء.وقبل الشروع في دراسة هذه الآية المباركة، بلغنا أن مؤتمراً مصرياً انعقد في العالم -ولا أدري في أي بلد انعقد- بالصين وإلا بالشين، في الشرق أو الغرب لا فرق بين هذا وذاك، كل ما نريد أن نقوله وتسمعونه أيها الصالحون! ويا أيتها الصالحات! أننا نخطّئ هؤلاء الذين اجتمعوا من الشرق والغرب ليطالبوا بحقوق النساء، نقول لهم: النساء مخلوقات وأنتم مخلوقون؟ فإن قالوا: لا، اعتبرناهم معاتيه مجانين سفهاء لا قيمة لهم؛ لأن الذي ينكر حقيقة كهذه لا يخاطب ولا يتكلم معه، فإن قالوا: نحن مخلوقون، ولا نشك أبداً في أننا مخلوقون، نقول لهم: من خالقكم؟ فإن قالوا: لا ندري، إلى الآن لا تدرون من خالقكم؟! أين كنتم تعيشون فإما أن تسألوا عن خالقكم؛ لتعرفوه وتعرفوا جماله وكماله، وتطلبوه الرضا، وإما أن تتجاهلوه ولا تريدون معرفته، قلنا: السر في هذا لتعيشوا كالبهائم وأنتم حقاً والله لشر من البهائم، وهذا الخالق للعوالم كلها للإنس والجن يحكم عليكم بأنكم شر الخليقة؛ إذ قال تعالى في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، البرية ، معناها: الخليقة، إذ البارئ: هو الخالق، والمبرور: المخلوق، والبرية: المخلوقة، هذا حكم الله عليكم أيها الكافرون من أهل الكتاب ومن غيركم، أنكم في قضائه وحكمه شر الخليقة.فهم إذاً: شر من القردة والخنازير؛ فضلاً عن الكلاب والذئاب والحيات والثعابين.وإن قالوا: لم نكون شر الخليقة؟ قلنا لهم: هيا نتعقل ونفهم، الذي يكفر ويجحد خالقه، وهو الذي أطعمه وسقاه وحفظه وكلأه إلى نهاية أمره يتجاهله ويعاديه ويعلن الحرب عليه، هل هذا فيه شيء من الخير؟ هذا الذي يعيش ستين سنة ما يسأل عن ربه وخالقه، ولا يتعرف إليه، ولا يطلب وده، ولا يسأل كيف يتزلف ويتقرب إليه، وتأتيه رسل الله تحمل الهداية والبيانات فيحاربها ويخرج عن طاعتها ليصر فقط على فسقه وفجوره وخروجه عن طاعة ربه.ومن الأمثلة القريبة: أرأيتك لو كان لك خادم في بيتك تطعمه تسقيه تكسوه تكلأه تحفظه تحميه تناديه وهو لا يعترف لك بشيء، لا يفتح عينيه فيك، ولا ينظر إليك، ولا يقول فيك إلا أسوء القول، وليس يوماً ولا أسبوعاً ولا عاماً بل طوال حياته، كيف تنظر إلى هذا المخلوق، ماذا تقول فيه؟ تحكم عليه أن يعذب أشد العذاب وأشره وأبشعه، أليس كذلك؟إذاً: فهؤلاء التائهون في صحارى الحياة يريدون أن يحققوا ماذا؟ حقوق النساء.نسأل مرة ثانية: هل النساء مخلوقات؟ إي نعم، لهن خالق؟ ما اسمه؟ الله، أين يوجد؟ فوق سماواته، فوق عرشه، هل أنزل كتاباً فيه تعاليم خاصة بالنساء؟ إي نعم، هل عرفتم هذه الحقوق النسوية التي في كتاب ربهن أو ما عرفتموها؟ ما عرفناها -أعوذ بالله- ثم ترضون بهذا الهبوط؟ لماذا لا تؤمنون به وبكتابه وبرسوله؟ وتطبقون حقوق النساء التي وهبها الخالق لهن ووضعها العليم الحكيم؛ لإسعاد النساء وإكرامهن في الدنيا والأخرى، تجهلون الله وتجهلون شرائعه وحقوق النساء في كتاب الله وشرعه وتريدون أن تطالبوا بحقوق النساء، أنتم صبية، أطفال صغار تلعبون؟ أم مجانين لا عقول لكم؟لو صحوا ساعة من سكرتهم لقالوا: نريد أن نطبق حقوق النساء التي شرعها لهن مولاهم وخالقهم، وأنتم هضمتم النساء حقوقهن، واستهنتم بها، وسخرتم منها؛ فنحن جئنا لنطالب بتحقيق تلك الحقوق التي أثبتها الخالق لهن، لقلنا: إي نعم، أما وأنتم ما عرفتم الخالق، ولا عرفتم الحق من الباطل، ولا الخير من الشر، ولا الصلاح من الفساد، وتعقدون مؤتمراً عالمياً للمطالبة بحقوق النساء؟!أسألكم بالله أيها العقلاء! أسخرية هذه واستهزاء أم ماذا؟ أضياع هذا أم ماذا؟وهذا كتاب الله.. من قال: لا. يرفع يده، هل هو كتابك أنت أو جدك الذي كتبه؟ وإن قال: ما أدري ، ما تدري إلى الآن؟ ادر وتعلم، واسمع التحدي الإلهي.قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]؛ ليساعدوكم على الإتيان بسورة فقط من مثل هذا القرآن، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، لن هذه زمخشرية طلبة العلم يعرفونها، تفيد النفي المؤبد، ومضى على هذا الخبر الإلهي والتحدي الرباني ألفاً وأربعمائة سنة وخمسة عشر عاماً، هل استطاع أحد أو جماعة أو أمة أن يأتوا بمثل القرآن أو أن تأتي بسورة منه، تقول: زنوها بالقرآن وانظروا هل هي تساويه أو هي فوقه أو دونه؟من ألجم البشرية ومنعها من أن تتكلم أو تحاول؟ الذي يملكها، إذ قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا ، متى نزل هذا الخبر؟ منذ ألف وأربعمائة وخمسة عشر عاماً، من الأمثلة التي نقرر بها المعنى: هل تستطيع اليابان أو غيرها أن تحدث آلة من الآلات وتقول: أتحدى مصانع البشرية أن تنتج مثل هذه لمدة سبعين سنة؟مصانع أمريكا المتفوقة، هل تستطيع أن تنتج آلة أو شيئاً وتقول: أتحدى العالم لمدة مائة سنة أن ينتجوا مثل هذه؟ مستحيل.والله تحدى وإلا لا؟ كم عام؟ إلى ما لا نهاية؛ إذ قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا .إذاً: من يبلغ أهل هذا المؤتمر بأن الأصابع التي جمعتهم وحركتهم؛ فهم يرقصون بكلامهم، هي أصابع بني عمنا اليهود، بنو عمنا؟ نعم. نحن أبناء إسماعيل وهم أبناء يعقوب، أبناء العمومة -لا تغضب- هي التي جمعتهم؛ لا تقولوا ولا تفعلوا، من باب أنهم يريدون أن تسود المرأة في العالم، فإذا سادت المرأة وهبط الرجل انقلب الوضع وساءت الحياة، وانقلبت أوضاعها وأصبحت البشرية كالبهائم، وحينئذ يتحقق الأمل الأعظم لبني إسرائيل في إعادة مملكة بني إسرائيل، ونواتها في قلب العالم الإسلامي، دولة إسرائيل، متى يسوسون البشرية كلها ويحكمونها كما حكمها سليمان؟ يوم ما تنمسخ البشرية وتصبح كالبهائم تركب وتساق حيث شاء صاحبها، يومئذٍ يحكمون ويسوسون.فهذه كلها من صنائعهم، والحمد لله أن فينا بقية من بقايا الإيمان والصبر والعلم والمعرفة.نكتفي بهذا القدر ونعود إلى درسنا من كتاب ربنا، لكن هل يبلغهم هذا الكلام؟ أين إذاعة لندن التي تنقل كل شيء إلا مثل هذا الكلام ما ينقل، ما سمعناها تقول مثل هذا، ونحن هنا نتكلم كلام حق كهذا ما ينقل أبداً؛ لأنهم يهود، وأصابع اليهود هي هي.
بين يدي سورة النساء
هذه السورة -سورة النساء- لو لم يكن للنساء شأن عند الله ما ينزل سورة من كلامه خاصة بهن، وهي سورة مدنية اللهم إلا آية، وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58]، فالرسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح طلب المفتاح من ناظر البيت، وهو عثمان بن طلحة رضي الله عنه، ودخل الكعبة وأخرج التماثيل، ومسح صورة إبراهيم وغيرها أيضاً، وأخرج الأنصاب والأصنام ورمى بها، ثم رد المفتاح لصاحبه، وقرأ قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فبعض المسلمين قالوا: هي نزلت هنا، والبعض قالوا: نزلت من قبل ولكن الرسول تمثلها وقرأها؛ ليبين أن عليه أن يعطي المفتاح لـعثمان بن طلحة ، ولا يضر أن نقول نزلت هنا أو بالمدينة، أما السورة فكلها مدنية؛ لأنها تتعلق بالأحكام الشخصية، وخاصة بالنساء.إذاً: للنساء شأن عظيم أم لا؟ هل عرفه الملاحدة والعلمانيون والكافرون والخرافيون والجهلاء؟ ما عرفوه، محجوبون عن المعرفة بالشهوات والأهواء، ودفع الشياطين لهم إلى الهلاك في الدارين.وآياتها مائة وستة وسبعون آية، وآيات آل عمران مائتين، أي: أطول من النساء. والقرآن كم آيته؟ ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، كل آية تدل دلالة عقلية منطقية على وجود الله إلهاً ورباً عليماً حكيماً، وعلى أن محمداً رسوله، وخاتم أنبيائه ما تحتاج إلى ستة آلاف ومائتين وأربعين، آية واحدة تصرخ بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.وما معنى الآية يا معشر الزوار والزائرات؟!معنى الآية في لغة العرب التي نزل بها القرآن: العلامة الدالة على الشيء، دلني على بيت (إبراهيم بن عثمان) أعطني آية؟ أقول له: العمود الفلاني الأخضر الذي بينه وبين الباب كذا متر، تلك الآية والعلامة، وكل آية في القرآن علامة على وجود الله رباً وإلهاً عليماً حكيماً، وعلى أن محمد بن عبد الله رسول الله ونبيه، وكيف تدل هذه الدلالة؟ أولاً: هذه الآية من أنزلها؟ من تكلم بها؟ إنه الله جل وعلا، إذاً: هل يوجد كلام بدون متكلم؟ أيعقل هذا؟كما أن هذه الآية تحمل النور والهداية؛ لأن هذا المتكلم عليم حكيم رحيم، وهي أيضاً دالة على وجود من أنزلها وأوحى بها.والذي نزلت إليه دون البشر كلهم، ما يكون رسوله؟ كيف ذلك؟ مستحيل ألا يكون رسوله وقد أنزل عليه الآيات ليبلغها، كل آية تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيمبسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].هذه آية واحدة، من يحفظ هذه الآية ويصلي بها النوافل والفرائض؟ ‏
معنى قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم)
أولاً: هذا النداء الإلهي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، هذا نداء من؟ نداء الله رب العالمين، منزل الكتاب، ومرسل الرسول، هذا هو الله هو الذي وجه هذا النداء إلى الناس كافة مؤمنهم وكافرهم؛ لأن لفظ الناس هو بمعنى البشر، والناس مأخوذ: من ناس ينوس إذا تحرك فهو ناس، وأدخلت عليه (ال) فأصبح الناس. يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، لبيك اللهم لبيك، مر نمتثل، انه نجتنب، مستعدون لطاعتك يا خالقنا يا رازقنا يا حافظنا يا من إليه مصيرنا، ناداهم ليأمرهم وإلا لا؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، اتقوا خالقكم سيدكم مالك أمركم موجد حياتكم .. هذا هو الرب وإلا لا، اتقوا ربكم ، أو تقول: لا.. لا.. لا رب لنا؟! سبحان الله! من أوجدكم؟ من أوجد هذه الأرض لكم؟ من رفع السماء فوقكم؟ من هيأ لكم هذه الأرض لتعيش على سطحها؟ ما نريد أن نعرف إذاً: أنتم خنازير يا بشر! ما تريدون أن تعرفوا ربكم حتى لا تعبدوه، ولا تطيعوه، إذاً: شر البرية هم الكفار، أو لا؟ من شر الخليقة؟ الكفار من عرب وعجم، من أهل الكتاب والمشركين، ما نحن الذين قضينا هذا القضاء بل هذا حكم الله العليم، ولكننا عرفنا كيف أصبحوا شر الخليقة؛ لأنهم جحدوا خالقهم ولم يعترفوا به، يغمرهم بالنعم، ويسقيهم ويحفظهم، ما نعترف به؛ حتى لا يسجدوا له سجدة، هؤلاء هم .شر الخليقة الذي يجحد خالقه حتى لا يعبده فقط. اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1].لو قال قائل: نتقيه بم؟ هل نحن خائفون منه؟ هل يقوى على تعذيبنا وإبادتنا وتجويعنا وتسليط الأمراض والأوبئة علينا؟ الجواب: نعم، أنتم في قبضته وتعيشون في كنفه، وبيده حياتكم ومماتكم، غناكم وفقركم، صحتكم ومرضكم، عزكم وذلكم، سعادتكم وشقاؤكم في هذا العالم المؤقت، وفي العالم الأبدي المخلد، كيف لا تتقونه؟! أما تخافون أن يغضب أو يسخط فيحيل سعادتكم إلى شقاء، ووجدوكم إلى فناء.حينئذٍ يقول: بم نتقيه؟ نقيم أسواراً عالية على قرانا ومدننا؟ ما تنفع، نوجد سراديب تحت الأرض ونهرب إليها؟ ما ينفع، نجهز جيوشاً جرارة تدفع عنا خطره؟ والله ما تنفع، يتقى الله بماذا؟فقط بطاعته، وطاعة رسوله، طاعته إذا قال: قم! قم، قال: اجلس! اجلس، قال: اسكت! لا تتكلم، قال: انطق! انطق، هذه هي الطاعة، قال: اشرب! باسم الله أشرب، قال: لا تشرب سم ... إلخ.هذه هي طاعة الله عز وجل، وبها يتقى عذابه وسخطه وبلاه، طاعته وطاعة رسوله، وطاعة رسوله من طاعة الله، وأوامر الله ونواهيه ما نعرفها بدون رسوله، فهو الذي يبين لنا ويشرح أو يفسر، هو الذي يتلقى البيان من الله: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]. ولذا أمر الرسول من أمر الله، وطاعة الرسول من طاعة الله، إذ قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء:1]، ونحن منهم: اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، اتقوا غضبه وسخطه وما ينتج عنهما من بلاء وشقاء وخسران أبدي.. اتقوه بطاعته فيما أمر به فعلاً، وفيما نهى عنه تركاً، فقط، وهذا إجمال كبير، ما هي أوامر الله؟ أوامر الله كثيرة، ونواهيه أكثر، فلا بد وأن نعرف، فالذي لا يعرف أوامر الله كيف يطيعه؟! والذي لا يعرف نواهيه كيف يطيعه؟! ومن لم يطع الله شقي وخسر، تعرفون الخسران الحقيقي؟جاء في كتابه في آيتين: قل يا رسولنا المبلغ عنا: إِنَّ الْخَاسِرِينَ ، بحق: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] ، إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الشورى:45]، ما هو فقد بالشاة والبعير في أيامنا الأولى، ولا فقد الوظيفة والمنصب في أيامنا هذه.تريدون صورة؟يؤتى بالرجل فيوضع في صندوق من حديد ويطبق عليه ويلقى في عالم الشقاء، فوالله لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر ولا يأكل ولا يشرب ولا يموت بلايين السنين، لا يعرف أباً ولا أماً ولا إخوة ولا.. ولا.. في شقاء أبدي هذا نوع من العذاب.إذاً: هذا هو الخسران أم فقدك ابناً أو زوجة ماتت؟!
كيفية معرفة محاب الله ومساخطه
يجب أن يعرف المؤمن والمؤمنة محاب الله ومكارهه، وكيف يؤدون المحاب، وكيف يجتنبون المنهيات، وإلا فلا فائدة في إسلامهم، ولن ينتفعوا، مثلاً: قلت لك يا عبد الله! إن مركوباً يحملك إلى قريتك أو على بلدك اطلبه واركب هل تسأل عن هذا المركوب ما هو؟ هل تقول: أين يوجد؟ وإذا قلت: لا تعرف كيف تركب ما تسأل كيف تركب؟ قطعاً هذا لا بد ضروري.فإذا آمنا بوجوب تقوى الله للنجاة والخلاص من عذاب الدنيا والآخرة، يجب أن نعرف محاب الله ومساخطه، إذا أمر بما يحب ونهى عما يكره.وهنا نجد أنفسنا يجب أن نطلب العلم، ولما كان القرآن ينزل، والشرائع تتوالى، والناس في مكة فرض الله عليهم الهجرة لأنهم لا يمكنهم أن يعبدوا الله، والقرآن ينزل في المدينة، والأحكام تتوالى يوماً بعد يوم، يجب أن تهاجروا، هذه وحدها كافية.أسألكم بالله: هل المسلمون وهم ألف مليون يوجد منهم عشرة في المائة عرفوا ما يحب الله وما يكره؟ممكن، لكن العشرة هذه في المائة تنفع؟ تنفع أنفسها، تلك العشرة تنجو والتسعون إلى الهاوية.تريد منا يا شيخ أن نعود إلى تعلم العلم بعد بلوغنا سن الأربعين والخمسين سنة؟! ما هناك أبداً مانع، بل يجب أن تتعلم ولو كنت تموت بعد ساعة من الآن، وطريق التعلم عندنا لا تحتاج فيه أبداً إلى المدارس والكليات والجامعات، وسيارات الإركاب والأموال تنفق بالملايين، لا أبداً، هذا نحتاج إليها في الصناعات، والمواد الدنيوية، أما كوننا نعرف ما يحب سيدنا وما يكره فهذا ما يحتاج إلى هذا أبداً.كيف يا شيخ إذاً؟ نعيد القول: إذا دقت الساعة السادسة مساءً يجب على أهل القرية المسلمة أن يوقفوا العمل.. صاحب المسحاة يرمي مسحاته، صاحب المنجل يلقي منجله... صاحب المطرقة الحداد يلقيها، صاحب المتجر يغلقه، ويتوضئون ويأتون المسجد الإلهي بنسائهم وأطفالهم، ولا يتخلف إلا من كان مريضاً أو ممرضاً فقط، أما الحيض من نسائنا فإلى جنب حائط المسجد ومكبر الصوت عندهن ويتعلمن.نصلي المغرب كما صلينا ونجتمع كما اجتمعنا، ويجلس لنا المربي وندرس كتاب الله، ليلة آية كهذه وأخرى حديثاً، ونتعلم مراد الله وما يطلب منا وكيف نتملقه ونتزلف إليه، والله ما نلبث إلا يسيراً إلا ومن في القرية كلهم يعرف محاب الله ولا مكارهه، كل ليلة نتعلم مكروهاً أو محبوباً لله، ونعزم على التنفيذ والتطبيق، عام كامل وإذا بأهل القرية كلهم علماء عارفون عابدون أطهار أصفياء.وإن سألتني وقلت: أعطني صورة لهذه القرية، نقول: اسمع! لا يبقى فيها من يخون إخوانه ولا يغشهم ولا يفسد عليهم نسائهم ولا ببناتهم ولا يأكل أموالهم ولا يهينهم ولا يسبهم ولا يشتمهم ولا يكرههم أبداً، كيف هذا؟ نعم. العلم نور الله إذا ملأ القلب وفاضت تلك الأنوار على الشوارع؛ فلا العين تنظر ما حرم الله، ولا الأذن تسمع ما حرم الله، ولا اليد تأخذ وتعطي ما نهى الله، ولا الفرج يأتي ما حرم الله؛ لأن الأنوار تشع منها.وإن قلت: هذا ما هو معقول؟ الآن في قريتكم أعلمكم بالله أتقاكم لله، ابحث عن رجل العلم في قريتك هل تجده فاجراً؟ لصاً؟ فتاناً؟ مغتاباً؟ والله ما كان؛ لأنه علم عرف.. عرفتم هذا وإلا لا؟أهل المدن كذلك، كل حي من الأحياء فيه مسجد عظيم يتسع لنساء الحي ورجالهم، إذا دقت الساعة السادسة وقف العمل وأقبلوا على بيت ربهم يستمطرون رحماته، يبكون بين يديه، فضلاً أن يتعلموا الهدى والنور الذي يغمرهم، وحينئذٍ عام واحد والله إن ميزانية الدولة لتنقص إلى النصف، الشره والتكالب على الدنيا ينتهي، يكثر المال، أهل القرية ما يبقى بينهم جائع أبداً، ولا يمد يده أو يحتال عليهم ليأكل أموالهم لأنه في غنى، وتستغني الدولة بنصف الأمن ورجاله، بل بثلاثة أرباعه، لم؟ كل مواطن هو حارس للأمن.. هل هذا معقول؟ والله لهو الحق، كيف تقول هذا يا شيخ؟ نقول: دولة رسول الله عشر سنين في المدينة كم من زاني زنا وقتل؟ واحد أو اثنين، كم من سارق حصل؟ لا أحد، كم بوليس للرسول؟ والله لا أحد، قولوا: الرسول أنوار النبوة.دولة أبي بكر ثلاث سنوات من سرق في المدينة؟ من زنا؟ من فجر في مكة وغيرها؟ دولة عمر ثلاثة عشر عاماً، كان عندهم بوليس وشرط؟ والله ما عندهم، أبعد هذا تشك يا عبد الله!ما نستطيع يا شيخ نترك أعمالنا، ونقبل على بيت الله نجلس فيه مع النساء والأطفال.. ما نستطيع هذا، إذاً تتوقف الحياة، نقول لهم: أنتم تقتدون بالغرب أم لا؟ في كل شيء حتى في اللقمة تتناولها بيدك اليسرى، تقتدون بهم أم لا؟ إي نعم، إذا دقت الساعة السادسة وأنت في باريس أو برلين أو لندن أو نيويورك يقف العمل.في جبل طارق ركبنا الطائرة من طنجا؛ لنلقي كلمة مع العصر، والمسافة ربع ساعة، وإذا بأحد إخواننا الذين دعوننا يقول لأخيه: عجل بإعداد العشاء، لم؟ قال: لأنها الساعة السادسة ما يبقى مطعم ولا دكان ولا.. لم؟ قال: النظام. الله أكبر! لم؟ قال: الناس يستريحون، يذهبون إلى المسارح والمسابح، ويذهبون المقاصف والمراقص ودور السينما يروحون على أنفسهم، هذا واقع وإلا لا؟ إي ورب الكعبة.ولم نحن ما نستطيع أن نغلق أبواب العمل ونقدم على ربنا نسأله رضاه ونعمه علينا؟ مسحورون أظن، نعم.جهلتنا العصابة اليهودية وساقتنا كالبهائم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.حادثة معينة أقولها لمن يبلغ هذا الكلام؛ لأننا سمعنا من يسخر من هذا الكلام سمعتم؟ يقول: كيف نأتي كلنا إلى المسجد ونترك العمل.الآن أنتم تشتغلون عمالاً في الخارج، وأولادكم بالفجور والباطل والشر في دياركم، لو كانوا معكم كلهم من يفجر في الخارج؟ من يتلصص ويجرم؟ هذه وحدها كافية لو كنا نعقل.علمت يقيناً: أن الشيوعية الحمراء في بعض البلاد.. هنا في حضرموت أو في عدن حدثني الأبناء يومها، يوم الفتنة قال لي: والله ليجمعون أهل القرية نساء وأطفال ورجال بالقوة في القرية ويلقنونهم تعاليم الشيوعية ومبادئها من بعد العصر إلى بعد العشاء كل ليلة، يعلمونهم مبادئهم وإيمانهم بمعتقدهم، في من يلومهم؟ لا، يريدون أن يحولوا هذا الشعب إلى ما يريدونه، ووقع هذا في مصر وكل المستعمرات يومئٍذ، لا بد من جمع الناس بالقوة وتعليمهم الكفر والإلحاد، وإلا كيف يعيشون معهم، فعلوا هذا أو ما فعلوا؟ والله فعلوا، وهذا أبو عبد العزيز يحلف لكم: لقد كان السلطان عبد العزيز تغمده الله برحمته على هذا المنهج، يجمع أهل البادية في القرى ويلزمهم بأن يجتمعوا بعد المغرب وبعد الصبح؛ ليتعلموا العقيدة، فما هي إلا سنوات والتوحيد يلوح في آفاق هذا البلاد، وأصبح العوام موحدين أفضل من علمائكم في دياركم من طريق الكلمة فقط. عرفتم قيمة هذا الاجتماع وإلا لا؟كيف يجمع تلك الأمة يطهرها؟ يبدأ بالمدارس يعلم أولادها، يجمعهم لصلاة الصبح والإمام يقرأ قائمة: فلان فلان فلان، إذا علم أن شخصاً ما حضر يمشي إلى بيته: لِمَ لم تحضر؟ إن كان مريضاً عادوه، إن كان غائباً عذروه، إن كان الشيطان سخر منه يؤدبه، فلا يتخلف رجل عن صلاة الصبح.ويعلمونهم التوحيد وهم عوام لا يعرفون الألف من الباء، وأصبحوا موحدين. هذا أؤكد به هذه الدعوة للعالم الإسلامي إذا أرادوا أن يسعدوا أن يجتمعوا بعد المغرب في مساجدهم بنسائهم وأطفالهم ويتعلمون الكتاب والحكمة، قال الله وقال رسوله وكلهم عزم وصدق في أن يعمل، والله ما هي إلا سنة وقد تغير العالم الإسلامي تماماً، وأصبحوا لو يرفعون أكفهم إلى الله ما ردها خائبة.وهذا لا يمنع أن ينشطوا في الصناعات والماديات طول النهار، بل يزيدهم قوة، أليس كذلك؟نكتفي بهذا القدر، ونعود للآية غداً إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله.

ابو وليد البحيرى
2019-04-21, 03:49 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (2)
الحلقة (226)
تفسير سورة النساء (10)


فرق الله عز وجل في إرث الكلالة بين الإخوة من أم والإخوة الأشقاء والإخوة من أب، ففي الأول إن كان الأخ واحداً فيرث السدس، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، أما الإخوة الأشقاء أو من أب فقسمتهم مختلفة، فإن كان له أخت فهي ترث النصف، وإن كانتا اثنتين فتشتركان في الثلثين، وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كان الميت امرأة ولها أخ فهو يرث مالها كله.
تفسير قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة من ليالي التفسير ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى آيتي المواريث، وقد درسنا أكثرها، ولم تبق إلا آية واحدة، وهي من خاتمة سورة النساء، ندرسها ونعود من جديد لتقرير ما سبق أن علمناه.
سبب نزول قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ...)
هذه الآية الأخيرة تسمى آية الصيف؛ لأن الآيتين التي قبلها نزلتا في الشتاء، وهذه الآية نزلت في الصيف في شدة الحر، فتعرف بآية الصيف، وذكر لنزولها أسباب أصحها -والله أعلم- ما يلي:أن جابر بن عبد الله بن حرام رضي الله عنه صاحب رسول الله مرض مرضاً شديداً، ولكن لم يتوف فيه، فزاره النبي صلى الله عليه وسلم فوجده مغمى عليه، فتوضأ صلى الله عليه وسلم ثم صب عليه من فضل وضوئه فأفاق، فلما أفاق قال: ( يا رسول الله! كيف أقضي في مالي؟ )، وكان له تسع أخوات من أبيه وأمه، ولهذا ما حضر وقعة من الوقائع؛ لأن أباه استخلفه لرعاية أخواته؛ فلما سأل لم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت هذه الآية ، والآية بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَسْتَفْتُونَكَ [النساء:176] من هم؟ أصحابه يطلبون الفتيا: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ [النساء:176]، أما أنا فلا علم لي، حولهم على الله عز وجل: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176]، هذه التي أتعبت عمر تعباً شديداً، ومن كثرة إلحاحه وسؤاله قال فيه الرسول هكذا في صبره: ( أما تكفيك آية الصيف يا عمر )، وبقي مرتاباً شاكاً إلى يوم وفاته، وكتبها، وكان يستخير الله طوال حياته، فلما لم يتضح له شيء أعلن ذلك ومحيت الورقة وأقر ما أقره أبو بكر رضي الله عنه.
كيفية تقسيم الكلالة
قال الله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176]، بيانه: إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ [النساء:176]، هلك بمعنى مات، وأخيراً أصبحت كلمة هلك يطلقونها على ما لا يحمد حاله ولا موته، والقرآن ذكر هلك بمعنى مات.قال: إِنْ امْرُؤٌ [النساء:176]، وكلمة امرؤ يراد بها الذكر أو الأنثى: هَلَكَ [النساء:176] أباً أو أماً: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:176] ولا والد، ما يحتاج إلى ذكر؛ لأنه تقدمت الآيات: وَلَهُ أُخْتٌ [النساء:176]، مات سعيد ولم يترك أباً ولا أماً وترك أخته، ترثه أو لا؟ هذه أخت شقيقة أو من أب، أما آية الكلالة في الأخوات من الأم تقدمت، فإن كان ليس له ولد فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ [النساء:176]، ترث نصف ما ترك أخوها، كما ترث نصف ما ترك أبوها لو مات، وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء:176]، يرثها كلها أو النصف أو الربع؟ كلها، هي لا ترث إلا النصف ولا تزيد عليه، وهو أكثر ما ترثه دائماً، وهو يرث الكل: وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء:176] فإن كان لها ولد يرثها، والأخ ما له شيء لأنه محجوب بالولد، لكن إذا كانت له بنت أنثى فلها النصف والباقي للأخ بالتعصيب إن لم يكن لها ولد.ثم قال تعالى: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ [النساء:176]، هلك هالك وترك أختين، كذا أو لا؟ عبد الله بن حرام ترك تسعاً: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [النساء:176]، لهما الثلثان مما ترك والثلث الباقي للعاصب. وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً [النساء:176]، مثل جابر له أخوات وهو ذكر، لو كان له أخ آخر قالوا: إخوة رجالاً ونساء.قال: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً [النساء:176] كيف يرثون أخاهم الذي مات؟ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:176]، البنت تأخذ ريالاً والذكر يأخذ ريالين: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء:176] كي لا تضلوا وتخطئوا في القسمة وتأكلوا أموالكم بالباطل، أو يورث هذا عداوة بينكم أو حسداً أو ما إلى ذلك، يبين لكم كراهة أن تضلوا: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176] فسلموا له القضاء والحكم، أعدل العادلين .. أرحم الراحمين؛ بكل شيء عليم، بالبواطن والظواهر والمستقبل والآتي، فلهذا إذا حكم الله احمد الله، افرح وزغرد أعني النساء، أما الرجال ما يزغردون.إذاً: يقول الله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ [النساء:176] في ماذا؟ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176]، عرفنا الكلالة؟ أن لا يكون له والد ولا أب ولا أم، لا جد ولا أم ولا جدة، وإنما يرثه من يحيطون به من إخوانه، إن كانوا لأم هذه كلالة تقدمت، وإن كانوا لأب أو لأب وأم فهي هذه بالذات، فهو بين تعالى: إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:176]، ذكر أو أنثى لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ [النساء:176]، ماذا ترث الأخت من أخيها الذي مات أو أختها؟ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا [النساء:176] بشرط: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء:176]، إذا كان لها ولد ما بقي لها شيء، هذا أخ، حاشية من الإكليل، الولد أولى: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ [النساء:176] أو أكثر أخوات، لو مات جابر وترك تسع أخوات ماذا لهن؟ الثلثان فقط، والثلث يبحثون عن عصبة، فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [النساء:176]، هذا في حال أخ واحد أخت وحدها ولا يوجد ثاني، وفي حال اثنتين أو أكثر؟ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً [النساء:176] أكثر من اثنين، رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:176]، تقسم هذه التركة بينهم إن مات أخوهم وترك هذا المال، للذكر مثل حظ الأنثيين، قد تكون بنتاً ومعها ولدان ذكران، أو ثلاث بنات ومعهم ذكر القسمة: للذكر مثل حظ الأنثيين كما تقدم في النسب، عرفتم أن هذه الآية تسمى آية الصيف أو لا؟ وعرفتم أن عمر تردد فيها طويلاً، ولكن الله بينها على لسان رسوله فأقرها.مرة ثالثة نقول: هلك هالك وما ترك له ولد ولا أب ولا أم ولا ولد ولد، وإنما ترك أخاه أو أخته، إن كانت أخت فلها النصف، وهو إن ماتت؟ كلها، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء:176]، فإن كان لها ولد فلا حظ له نهائياً لأنه محجوب، فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ [النساء:176]، هلك هالك وترك أختين فقط، وليس له أب ولا أم؛ لأنها كلالة، فما الحكم؟ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ [النساء:176]، والثلث الباقي للعم .. لابن العم .. للعصبة: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً [النساء:176] خليط أخوات وإخوان، فماذا يصنعون؟ يقتسمون تركة أخيهم للذكر مثل حظ الأنثيين: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ [النساء:176] لكيلا تضلوا، وضل في القضية أخطأ الطريق فيها كما ضل في الطريق، أراد الشام فمشى إلى اليمن.وتأملوا الآية: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا [النساء:176] بشرط: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].القرآن فيه اختصار كبير، لو كان فيه تطويل لا يحفظ ولا يحمل، فلهذا بدل أن يقول: كراهة أن تضلوا أو لكيلا تضلوا، نفهم من السياق: يبين لنا حتى نضل يعني؟ في عاقل يقول هذا؟ يقول: أبين لكم لتضلوا! هذا كلام يقوله عقلاء؟ إذاً: يبين لكم حتى لا تضلوا، لكيلا تضلوا، أو ما فهتم هذه البربرية؟!القرآ فيه إيجاز واختصار، أولاً: لأنه يحفظ في الصدور، عندكم كتاب كالقرآن محفوظ في الصدر؟ ما هو معقول أبداً، وينبغي أن يحفظ من قبل الرجال والنساء.ثانياً: لو كان يوسع فيه يخسر معناه ، لو يشرح بكلام الله تطول قراءته ويصعب على الناس حتى فهمه.فالله عز وجل أنزله مختصراً ووكل بيانه إلى رسول الله، والرسول بين كل ما نحتاج إليه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]. يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].هنا ما ذكر الدين والوصية، لماذا؟ ذكرت في أول السورة، لم التكرار؟ هنا ذكر الوصية والدين؟ لا، ذكر هناك مرتين فلا حاجة لتعاد؛ لأن تلك الآيات نزلت قبل هذه الآية .. أول السورة ينزل قبل آخرها.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات المواريث
أولاً: عرفنا أن الإرث يكون بثلاثة أسباب، سبب معدوم؛ لأننا وضعنا السيوف قلنا: يكفي لا جهاد بعد اليوم، من أين يأتي إذاً الأرقاء والعبيد حتى نرثهم؟ إذاً: بقي النسب والمصاهرة، وهذا هو الإنسان، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [الفرقان:54]، لا يخرج الإنسان عن النسب والمصاهرة، هذا أبي، هذا أبو زوجتي.نصف الآية الأولى في النسب اسمع، يقول تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، لماذا يرث الولد أباه؟ نسباً؛ لأنه منه انحدر، وهو منسوب إليه، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، مات رجل وترك أولاداً -بنين وبنات- كيف تقسمون التركة؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، إن كان هناك دين أو وصية ماذا تفعلون؟أولاً: الدين، مرده إلى أصحابه.ثانياً: تنفذ الوصية على شرط ألا يكون فيها جور، لا في الوصية ولا في الدين كما سيأتي: غَيْرَ مُضَارٍّ [النساء:12]، قد يوجد شخص يحسد الورثة فيسجل عليه أكثر من تركته ديوناً حتى يحرمهم، أو يريد أن يحرمهم أيضاً فيوصي بالثلث لفلان وفلان ولو كانوا فقراء، وما يريد الأجر يريد أن لا يرث فلان وفلان، هذا المرض يوجد أو لا؟ فإن عالجه صاحبه شفي بإذن الله، ولكن أين الأطباء وأين الدواء؟ موجود، ولكن المريض ما يقبل، ما يريد أن يعالج، يريد أن يبقى بمرضه.إذاً: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، هذه الخطوة الأولى أو لا؟ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11]، مات الرجل وترك بنتين فأكثر كيف تقسمون؟ قال: فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11]، والثلث الباقي للعصبة أو لبيت المال: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11]، مات وترك بنتاً واحدة فلها النصف، والأبوان في الصور الثلاثة، وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:11]، ولأبويه: أي: أم الهالك وأباه.إذاً: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ [النساء:11] بشرط: إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11]، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فقط. مات الرجل ما ترك ابناً ولا بنت ولا ولا، ولكن ترك أباه وأمه فقط، كيف تقسمون؟ كما قسم الله، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11]، وسكت عن الثلثين الباقيين لأن المعنى واضح،وأنه من حق الأب، قلت لكم: الكلام فيه اختصار؛ لأنه كلام ذي العرش.إذاً: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، الأم هنا حجبت من الثلث إلى السدس؛ لأن الصورة: مات وترك أمه وأباه أو لا؟ فقط، كيف أعطاهم الله؟ أعطى للأم الثلث والباقي للأب الثلثان الباقيان، فإن فرضنا أنه أيضاً ترك ولداً واحداً فلا يؤثر، ما يحجب الولد الواحد أمه، تبقى بثلثها، لكن إن ترك ولدين فأكثر حجبت من الثلث إلى السدس.قال وقوله الحق: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11]، هذا عدد أو لا؟ جمع أخ: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، لو قال: فإن كان له أخ؟ نقول: حجبت الأم، لكن قال: إخوة فقط، الواحد ما يؤثر، الأخ الواحد ما يمنع الأم من الثلث تبقى آخذة الثلث.ثم قال تعالى: مِنْ بَعْدِ [النساء:11]، يعني: تأخذون في هذه القسمة متى؟ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ [النساء:11] تطبقونها فقد أوصى بها أَوْ دَيْنٍ [النساء:11] كان له، فإذا فرغتم من الوصية والدين حينئذ قسموا التركة على النحو الذي بين الله تعالى.نعود من جديد يقول تعالى جل جلاله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] بماذا؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، صورته: أن يموت رجل ويترك أولاداً من بنين وبنات، والقسمة تكون كالتالي: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فإن كن نساء كلهن فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11] اثنتين فما فوق، فلهن ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11]، وإن كانت واحدة فقط ما ترك إلا بنتاً واحدة فلها النصف: وَلِأَبَوَيْهِ [النساء:11] أبوي الميت، لكل واحد منهما السدس في الأولى والثانية والثالثة، دائماً ماداموا موجودين إن كان له ولد: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11]؛ لأن الولد يرث أباه والجد له السدس: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] لهذا الميت وورثه أبواه فقط فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11] والثلثان الباقيان للأب، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11]، هذا الميت له إخوة وما ترك أولاداً، فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، حجبت من الثلث إلى السدس بوجود الإخوة، والإخوة لا يرثون لأن أبهم موجود، فقط حجبت من الثلث إلى السدس؛ لأن الإخوة كثيرون وأبوهم يتحمل نفقاتهم، فإن كان أخ واحد ما يعتبر شيئاً، ويبقى لها الثلث. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، هذا هو ما يعرف بالمصاهرة أو إرث المصاهرة، ولكم معاشر المؤمنين المستمعين وغير المستمعين نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12]، ليس شرطاً أن يكون عندك أربع زوجات أو ثلاثة حتى ترث النصف، وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12] أيما رجل ماتت زوجته وكان لها أولاداً منه أو من غيره لا يأخذ إلا الربع، فإن لم يكن لها ولد فله النصف: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12] هذا القيد، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، هذا ما فيه شك ولا خلاف وأوضح ما يكون.نعود إلى السيدات: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، وهنا قلنا: الإجماع على أن الزوجة إن ورثت الثمن وكان معها ضراتها الكل يأخذن الثمن، الزوجة الواحدة لها الربع، فإن كانت معها ضرة أو ضرتان أو ثلاثة أو أربعة الكل الربع؛ فهن شركاء في الربع، أو شركاء في الثمن.واللطيفة التي عرفناها: أن الأصل أن الرجل يتزوج امرأة واحدة، ولا يتزوج ثانية إلا لحاجة، إلا لضرورة؛ لأن الإسلام قنن ووضع قوانين الاقتصاد؛ فحينئذ هذه التي جاءت من بعد تؤذي الأولى وتقاسمها في ربعها أو ثمنها، والذي يرجح أننا قلنا: آدم كم تزوج؟ لماذا ما صنع الله له اثنتين أو ثلاثاً؟ واحدة، واشتراط العدل كافٍ لأولي البصيرة، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3] لا يحل غيرها، فهذا العدل أنتم تتحققون وجوده معنا كلنا؟ ولا 1% يستطيع أن يعدل،لم؟ أما هو يظلم الناس، يأخذ أعراضهم وأموالهم ويسب ويشتم، هذا يعدل هذا، هذا يعرف يعدل؟ لكن إذا أراد الإحسان امرأة ولية من أولياء الله توفي زوجها وبقيت أرملة يتفق مع أسرته ويأتون بها لتعيش آمنة صالحة كما كان، الأرض للجميع أو لا؟ مثلاً: ما استطاع وما قدر على أن يصبر على وقاع امرأته، كلما تحيض يحيض، كلما تلد كم شهر وهو هائج، قال: أنا أخاف أن أعصي ربي وأدخل النار، تزوج، اخطب فتاة صالحة مؤمنة طاهرة على شرط أن تطلبها صالحة طيبة طاهرة إن كنت طيباً أنت وطاهراً؛ لأن الله يقول: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26]، ولما تتزوجا يجب أن تعدل بينها وبين ضرتها الأولى في الابتسامة في الكلمة في الفراش في الطعام في الريال في كل شيء؛ فإن كنت غير قادر تأكلك النار، إن زينت وفجرت هلكت، وإن ظلمت وجرت أيضاً هلكت، إذاً: ما علينا إلا أن نعدل ونحسن ونستمسك بحبل الله فإننا لن نسقط أبداً.اسمع إرث المصاهرة: الزوج والزوجة: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12] بشرط أو بدون شرط؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12] ماذا؟ الربع، الزوج لا يشاركه أحد لا في النصف ولا في الربع أليس كذلك؟ ولكن الزوجة: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12].الآن الجزء الأخير من الآية الكريمة وهو ما يعرف بورثة الكلالة، قال تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء:12]، ما معنى يورث كلالة؟ يرثه كلالته لا أباه ولا أمه ولا ولده؛ يرثه إخوته من أمه فقط؛ لأن الكلالة في آخر السورة بيناها، إخوان له أشقاء لأب، هؤلاء إخوة لأم فقط، وإليكم البيان، قال تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ [النساء:12]، أي ليس الشرط للرجل ، بل المرأة تورث كلالة أيضاً: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [النساء:12] من أم: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:12]، أي: من اثنتين وثلاثة فأكثر فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12] فقط.آية الكلالة في آخره: ثم هلك هالك وترك إخوة وأخوات يقتسمون الذكر مثل حظ الأنثيين، وهنا كلالة خاصة مع الإخوة للام.يقول تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ [النساء:12]، أي: وإن وجد رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء:12]، لا نسباً ولا صهراً، أو امرأة كذلك وَلَهُ أَخٌ [النساء:12] أي: من أمه أَوْ أُخْتٌ [النساء:12] من أمه، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12] إن كان أخ واحد له السدس، إن كانت أخت واحدة لها السدس، فإن كانوا أكثر من اثنين فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12]، فإن بقي شيء يرثه العصبة؛ الأخ لأب أو الشقيق.
مراجعة لمسألة الحمارية أو الحجرية أو المشتركة
تقدمت مسألة الحمارية أو الحجرية، وهي:هلكت امرأة وتركت زوجها وأمها وأخاها كيف القسمة، للزوج كم؟النصف، وللأم السدس.قال: [وهنا ما يعرف بالحجرية أو الحمارية أو المشتركة، وهي أن تموت امرأة، وتترك زوجها صاحب النصف، وأمها، وإخوة لأمها، وأخاً لأبيها أو إخوة]. الزوج له النصف، والأم ترث السدس لوجود إخوة له متعددين، الأم لها السدس، وبعد النصف والسدس بقي الإخوة للأم لهم الباقي، وهو السدس؛ لأنهم تعددوا، والذي للأب أو الشقيق لم يبق له شيء، هذا الشقيق اشتكى إلى القاضي، وقال: يا سيادة القاضي، افرض أن أبانا حماراً أليست أمنا واحدة فكيف أنا أحرم؟!الزوج أخذ النصف، الأم أخذت السدس، منعها من الثلث الإخوة، الإخوة للأم لهم الثلث. هذه الكلالة. إذاً: ماذا بقي؟ ما بقي شيء، قال: اذهب فليس لك شيء فقد حجبت؛ لأن الإخوة للأم لهم الثلث تعددوا، الثلث والنصف والسدس ما بقي شيء للإخوة لأب. هذه تعرف عند الفقهاء بالحمارية، إذ قالوا: افرض أن أبانا حماراً أو حجراً، أليست أمنا واحدة كيف نحرم؟ قال: هذا الذي أعطاكم الله.نعود إلى آية الكلالة التي ذكرناها: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176]، هنا الكلالة إخوة لأم وأب أو لأب، وليست كالأولى الإخوة لأم فقط: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ [النساء:176] ماذا ترث؟ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ [النساء:176]. إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء:176]، فإن كان الولد لا حظ له، فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ [النساء:176] من تركة أخيهما؛ لأن النسوة إذا تعددين لا يرثن أكثر من ثلثين ، وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].
مسائل في المواريث
نسأل:مسألة: هلك هالك وترك أولاداً، كيف تقسم هذه التركة؟للذكر مثل حظ الأنثيين.مسألة:ه لك هالك وترك بنات ولا ولد معهما كيف؟لهما ثلثا ما ترك، وإن ترك هذا الهالك ابنة واحدة فقط، فلها النصف؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11]، وللأبوين الأم والأب مع هؤلاء الوارثين لكل واحد منهما السدس.وإن فرضنا أن الولد لم يكن له سوى أباه وأمه، كيف تقسم التركة؟السدس للأم والباقي للأب بالعصبة والفرضية؛ لقول الله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11]، وإن هلك هالك وترك إخوة وأمه وأباه كيف تقسمون التركة؟ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] والباقي للأب والإخوة محجوبون.فإن ترك أخاً واحداً فلأمه الثلث والباقي للأب. هلك هالك عن امرأتين، وترك أولاداً منهما أو من غيرهما، ماذا للزوجتين؟شركاء في الثمن، وإن هلكت هالكة وتركت زوجها وبنتها؟للزوج الربع، فهو محجوب من النصف بهذه البنت أو هذا الابن، وإن هلك هو وما ترك ولداً ولا ولد ولد؟لها الربع.أما كلالة الإخوة للأم فصورتها: أن يهلك مؤمن ولم يترك ولداً ولا ولد ولد ولا أب ولا جد، لا من الأصول ولا من الفروع، ثم ترك إخوة لأمه؛فإن ترك أخاً واحداً لأمه يأخذ السدس. وإن ترك إخوة متعددين فهم شركاء في الثلث وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:12].نكتفي بهذا القدر. اللهم صل على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-21, 03:53 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (3)
الحلقة (227)
تفسير سورة النساء (11)


حد الله عز وجل لعباده حدوداً وألزمهم بحفظها، وبنى على أساسها الجزاء في الآخرة، فمن حفظ هذه الحدود وتوقف عندها فقد وعده الله عز وجل بأن يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، خالداً فيها لا يمسه نصب ولا مخمصة، وأما من تجاوز حدود الله وتعداها فقد توعده الله عز وجل بالخلود في نار جهنم، وحيداً فريداً يتقلب في العذاب المقيم.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الإثنين من يوم الأحد؛ ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلك الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).حقق اللهم لنا رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك!وها نحن مع سورة النساء، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآية أو إلى هاتين الآيتين المباركتين.قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:13-14].لو تحفظ يا عبد الله هاتين الآيتين وتصلي بهما كل الصلوات فإنها تربطك بالله وطاعته.معشر المستمعين! تِلْكَ [النساء:13] هذا اسم إشارة، هل مر شيء في السورة فأشار تعالى إليه؟ أي نعم.أولاً: أمرنا بتقواه.ثانياً: أمرنا بصلة الأرحام.
الأمر بالإحسان إلى اليتيمة من النساء وحفظها في نفسها ومالها
ثالثاً: أمر من تحته يتيمة جميلة ذات مال، لا يغرنه مالها وجمالها فيتزوجها ثم يقصر في حقوقها؛ لكونها يتيمة في حجره، فليتزوج غيرها من النساء إن شاء اثنتين أو ثلاث أو أربع، وليترك هذه اليتيمة مصونة في مالها وعقيدتها، نعم أيضاً لما أذن في تعدد الزوجات قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3] فقط، هذا حد من حدود الله، إذا كنت غير واثق في نفسك وعلمك ومالك وقدرتك وأخلاقك أن تعدل بين الاثنتين أو الثلاث أو الأربع فاكتف بواحدة. هذا أمر الله، فَوَاحِدَةً [النساء:3]، أي: فانكحوا واحدة فقط.ثم يا من تزوجتم من المؤمنات لا تحرموهن مهورهن ولا تقصروا في تلك النحلة فإن الله فرضها فرضاً، فلا يحل لمؤمن أن يأكل مهر امرأته، ولو قرشاً واحداً بدون رضاها، فإن رضيت بأن تعطيه ثلثه أو نصفه لها ذلك، أما بدون رضاها فلا يحل لك أن تأخذ من مهرها ديناراً واحداً من مليون دينار، ومن أبى فقد تعدى حدود الله وهلك: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4].
كيفية التعامل مع السفيه الذي له مال
ومن الأحكام المشار إليها بهذا الاسم: أن أموالنا سواء كانت صامتة أو ناطقة هي قيام حياتنا وأعمالنا، يحرم أن نسرف فيها وأن نبذرها وأن ننفقها في معصية الله، وإن وجدنا من لا يحسن التصرف فيها كامرأة أو ابن أو أخٍ نحن نفرض عليه الحجر؛ طاعة لله إذ قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5]، لم يبق في المجتمعات البشرية.. لا لا، أستغفر الله، في المجتمعات الإسلامية من ينفق ماله في غير رضا الله.نعم. لو آمنا حق الإيمان ورزقنا اليقين فيه، والله ما أنفق مؤمن ريالاً واحداً في غير مرضاة الله، وانتهى التبذير والإسراف والبذخ، وحينئذ ماذا نفعل بهذه الأموال؟ ننقلها إلى البشرية؛ سلاحاً وجهاداً لندخلها في رحمة الله. وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5]؛ لأن الإسلام ما جاء بالعنف ولا بالشدة ولا يجيز السب ولا الشتم ولا السخرية ولا الاحتقار ولا الازدراء أبداً، ( الكلمة الطيبة صدقة )، من وضع هذا القانون؟ الرسول عليه الصلاة والسلام، وهكذا: ( ولو أن تلق أخاك بوجه طلق )، ما عندك ما تتصدق به يا عبد الله الق إخوانك في أنهجهم وفي طرقاتهم وفي مجالسهم ووجهك طلق ما فيه تعبيس ولا تقطيب ولا اسوداد ولا ولا... تلك صدقة، ( ولو أن تلق أخاك بوجه طلق ).ومن تلك الأحكام التي أشار تعالى إليها بقوله: (تلك) هو أن لليتامى على أوليائهم وأوصيائهم ومن تولوا أمرهم أن يدربوهم على حسن التصرف في المال، فإذا بلغوا امتحنوهم، فإذا وجدوهم قادرين على التصرف؛ لا إسراف ولا بخل ولا ولا، أعطوهم أموالهم وكتبوا صكاً بينهم وأشهدوا على ذلك: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، جلس هذا المال تحت يديك عشر سنين، خمس عشرة سنة، مات الوالد وترك الابن رضيعاً أنت وليه يا أخاه، إذا بلغ الخامسة عشر أو الثامنة عشر امتحنه، فإذا وجدته يحسن التصرف أعطه عشر ريالات، وقل له: اشتر لنا فاكهة، يذهب إلى السوق ويعود، إن استطاع أن يأتي بفاكهة لا بأس بها وتتسع للأسرة، فقد أحسن التصرف، وإذا أخذ المال وجاءك بحبحبة واحدة فهذا لم يحسن التصرف.إذاً: فَإِنْ آنَسْتُمْ [النساء:6]، أي: أبصرتم بأبصاركم رشداً، ادفعوا إليهم أموالهم، على أن تشهدوا على دفعها حتى لا يتألموا في المستقبل ويقولون: آه! عمنا أكل أموالنا، أو أخونا أكل أموالنا.ولطيفة أخرى: يا أيها الأوصياء! يا من تحتهم يتامى هم أولياؤهم! إياكم، احذروا، أن تأكلوا أموال اليتامى.. إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6].ما معنى البدار؟ المبادرة، يقول: يا إبراهيم! عجل هات الشاة الفلانية، أي شاة؟ شاة ابن أخيك أو ابن عمك، اجمع من النخلة الفلانية تمراً؛ لأن عمك عما قريب يأخذ ماله، ما بقيت إلا أشهراً أو هذه السنة.. هذه المبادرة، إما بالإسراف، بدل ما يذبح شاة يذبح اثنتين، بدل ما يشتري سجادة يشتري خمساً؛ لأن مال اليتيم غداً يأخذه، هذا الإسراف، والبدار والمبادرة: التعجيل؛ لأن الزمان الذي يتولى فيه الولد حقه قرب، ما بقي إلا سنة أو سنتين، علم هذا من نفوس بشريته؛ لأنه هو الذي خلقهم وطبع طبائعهم، لو كان هذا لا يوجد، والله ما أنزل الله فيه قرآناً، ولكن علمه وهو خالقه. وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6]، خشية أن يكبروا ويأخذوا أموالهم، فما داموا تحت ولايتكم صغاراً عجلوا، وقد حصل هذا وشاهدناه ورأيناه في الناس.
شرع الله الميراث للمرأة والصغير كما شرعه للرجل
ومن هذه الأحكام الشرعية: أن الله عز وجل ورث المرأة وورث اليتيم والصغير، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء، ولا الأطفال الصغار؛ بحجة: أن المرأة لا تركب فرساً، ولا تدفع خوفاً، ولا تحمل كلاً، والطفل كذلك. إذاً: الوارث منه هو؟ الرجل، الشاب الكبير، فأبطل الله هذا بقوله: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7]، وعمتنا أم كحة هي السبب في نزول هذه الآية، مات زوجها وترك بنتاً ، فجاء أخو الزوج قال: أعطينا كل شيء، قالت:لم؟ هذه بنته.فذهبت أم كحة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: انتظري حتى ينزل وحي في هذه القضية، فما زالت كذلك حتى نزلت هذه الآية: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7].
تحريم أكل مال اليتيم
وجاءت الأحكام وتوالت، ومن أجلها أكل مال اليتامى، انتبهو! إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].ومن تلك الأحكام قبل هذه، إذا حضرت مريضاً وقلت له: أوص، إياك أن تقبل وصية جائرة، أو ترشده إلى جور في وصيته، واذكر أنك عما قريب تكون على مثل فراشه، وتخاف على أولادك الصغار أن يجور الموصي عليهم. هذه آداب راقية وسامية، كفاك أدباً في نفسك اجتناب ما تكره من غير، هل لكم أن تحفظوا هذه؟ كفاك أدباً في نفسك أن تجتنب ما تكره من غير: الذي تكره من غيرك، اجتنبه أنت، فتصبح من أكمل الناس أدباً، فإذا كنت لا ترضى أن يجار على أولادك في الوصية لا ترضى أيضاً أن يجار على أولاد الآخرين في الوصية.
كيفية تقسيم الميراث وفئات الورثة
وآخر تلك الأحكام: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فبين تعالى أسباب الميراث، وقد علمنا أنه من النسب، والمصاهرة، والموالاة. المصاهرة: الزوج والزوجة. وأما النسب: من الأب وابن الابن إلى الأخ إلى العم إلى غير ذلك.. وقد درسنا هذه الآيات دراسة وافية، ووضعنا لها أسئلة، ووضعنا للأسئلة جائزة، ولا إخال أحداً منا يجيب إجابة صحيحة عنها إلا وقد علم الفرائض، وعرف ما ينبغي أن يعرف فيها كل مؤمن.الآن نذكركم بنفس الآيات بالأسئلة:أولاً: ما هي أسباب الإرث؟النسب، والمصاهرة، والولاء، أو في سبب رابع؟ ما في، أسباب ميراث الورثة ثلاثة: النسب، والمصاهرة والولاء، والولاء فرغنا منه، ما دمنا أغمدنا سيوفنا في أقربتها، وانتهى الجهاد، من أين يأتي الولاء والعبيد؟ إلا إذا أحيانا الله مرة ثانية بعد هذه الموتة، أما النسب والمصاهرة فالحياة قائمة عليهما.ثانياً: هلك هالك وترك أولاداً بنين وبنات، فما نصيب كل واحد منهم، وما دليل ذلك من آيات المواريث؟ للذكر مثل حظ الأنثيين، والدليل من القرآن: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11].ثالثاً: هلك هالك وترك نساءً فوق الواحدة، اثنتين فأكثر فما نصيب كل واحدة منهن، وما دليل ذلك من آيات المواريث؟لهما الثلثان والدليل فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ [النساء:11]..السؤال الرابع: هلك هالك وترك بنتاً واحدة، فما نصيبها من تركة أبيها، وما دليل ذلك من الآية؟نصيبها النصف، والدليل: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11].خامساً: هلك هالك -بمعنى: مات ميت- وترك أولاً واحداً فأكثر، ووالديه، فما نصيب الوالدين من تلك التركة، وما دليل ذلك من آيات المواريث؟نصيبهم ا السدس، الأم لها السدس والأب له السدس، والباقي للأولاد، والدليل: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:11].السؤال السادس: هلك هالك ولم يترك إلا أبويه، أمه وأباه، فما نصيب كل من الأبوين من تلك التركة، وما دليل ذلك؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11]، والباقي للعاصب وهو الأب.سابعاً: هلك هالك وترك أماً وأباً وإخوة، فما نصيب كل من الورثة، وما دليل ذلك من آية المواريث؟ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، والباقي للأب يرثه؛ لأنه هو الذي ينفق على الأولاد.ثامناً: هلك هالك وترك أباً، وأماً وولداً واحداً، فما نصيب كل من الورثة، وما دليل ذلك من آية المواريث؟لأمه الثلث والباقي للأب، ولو تعدد الإخوة الأم ترث السدس، وإن لم يتعدد الإخوة وكان واحداً فالأم ترث الثلث.إذاً: الأم والأب يرثا السدس، والباقي للولد؛ لأنه عاصب.تاسعاً: بم يبدأ في قسمة التركة، وما دليل ذلك من آية المواريث؟بالدين ، في الآية تقدمت الوصية، وتأخر الدين، لكن عملياً الدين قبل الوصية، ما سر هذا؟لأن الوصية لا تجد من يدافع عنها، أما الدين فله صاحب يطالب به، ويشتكي إلى الحاكم؛ فلهذا قدمت الوصية للإشارة إلى أنه يجب المحافظة عليها، لأن أهلها قد يكونوا معدومين ما وجدوا بعد، وأما صاحب الدين فهو يرفع صوته ويصرخ مطالباً به.عاشراً: هلكت هالكة، وتركت زوجها ولم تترك ولداً، فما نصيب هذا الزوج من التركة، وما دليل ذلك؟للزوجة النصف، والدليل: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12].الحادية عشرة: هلك هالك وترك زوجة وأولاداً، فما نصيب الزوجة، وما دليل ذلك من الآية؟للزوجة الثمن.الثانية عشرة: هلكت هالكة وتركت زوجها وأولاداً، فما نصيب الزوج؟الربع، والدليل: فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ [النساء:12]..الثالثة عشر: هلك هالك أو هالكة، ولم يترك والداً ولا ولداً، وإنما ترك.. أو تركت أخاً لأم أو إخوة لأم، فما نصيب الواحد، وما نصيب الأكثر من واحد، وما دليل ذلك؟هذه تسمى بالكلالة؛ فإن كان أخاً واحداً أو أختاً واحدة فله أو لها السدس، وإن كانوا أكثر فهم شركاء في الثلث.هذه هي الكلالة، هلكت هالكة ولها إخوة فقط، لا أب ولا أم ولا ولد ولا.. إنما أخ لأمه، فله السدس، وأخوين أو ثلاثة لهم الثلث والباقي للعصبة، ما الدليل من الآية الكريم؟ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12].الرابعة: الكلالة في نهاية سورة النساء، يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ [النساء:176] وتسمى أيضاً بآية الصيف؛ لأنها نزلت في الصيف.تلاوتها: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].الخامسة عشر: هلك هالك وليس له ولد ولا والد، وترك أختاً له فقط فما نصيب هذه الأخت من أخيها؟النصف، ودليل ذلك، قال الله: فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا [النساء:176]، بكاملها.السادسة عشر: هلكت هالكة وتركت أخاها، وليس لها والد ولا ولد فما نصيب أخيها منها، وما الدليل؟يرثها كلها، هو العاصب.السابعة عشر: هلك هالك: ولم يترك ولداً ولا والداً، وإنما ترك أختين، فما نصيب هاتين الأختين من أخيهما؟ وما دليل ذلك؟الثلثان.وأخ راً: هلك هالك ولم يترك ولداً ولا والداً، وإنما ترك إخوة له رجالاً ونساء خليط فما نصيبهم؟للذكر مثل حظ الأنثيين، والآية الكريم: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].هذه الأسئلة توجد عند الأستاذ عدنان ، من أراد أن يشارك يأخذ الأسئلة ويجيب عنها في بيته، يضع التفسير بين يديه، يضع القرآن، فإن نجح أخذ جائزة، وإن لم ينجح دعونا له بالأجر والمثوبة.
تفسير قوله تعالى: (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ...)
قال الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [النساء:13].
أنواع الحدود في الإسلام
الحدود: جمع حد، والناس يعرفون الحدود بين الممالك، بين بستان وبستان، بين منزل ومنزل، الحدود: ما يوضع حداً لا يجوز تجاوزه، أبداً. وحدود الله عز وجل: هي ما فرض على عباده أن يقوموا به، وما حرم على عباده أن يرتكبوه ويستعملوه.كلمة عامة، الحدود: جمع حد، وهو ما حده الله ونهى عن تجاوزه، أو نهى عن تركه وإهماله، فيدخل في ذلك الفرض الواجب ويدخل المحرم والمكروه.الواجب ت التي أوجبها الله هل يجوز إهمالها وتركها؟ الجواب: لا، يجب القيام بها والنهوض بها.ما حرمه الله ونهى عنه يجوز تعاطيه وفعله؟ الجواب: لا هذه حدود الله، من أراد السلامة، والنجاة من خلد النار والعذاب فهيا لا يتعد حدود الله عز وجل.ثم هناك حدود يجب أن نعرفها، وهي التي تقام على فاعليها:أولها: حد الردة، الذي يرتد عن الإسلام، ويخرج عنه ولو بكلمة واحدة، ولو بتكذيبه بحكم واحد وإنكاره، هذا يستتاب ثلاثة أيام، فإن لم يتب يقتل كفراً، هذا حد من حدود الله، أيما إنسان بالغ عاقل، مجنون لا قيمة له، طفل صغير لا يقام عليه الحد، بالغ عاقل يكذب الله أو رسوله أو يكذب بالله أو يكذب برسوله في أية قضية معلومة بالضرورة يستتاب، فإن تاب وقال: آمنت بالله؛ نجا، وإن أصر أعدم حداً ردة لا خلاف فيه.ثانياً: حد قتل النفس، الذي يقتل نفساً عمداً وعدواناً، ليس بصبي صغير ولا بمجنون، بل عاقل رشيد يقدم على إزهاق الروح ولو كانت روح ابنه، فهذا القتل يعد حداً من حدود الله، وهو حرمة دماء الناس، فلما قتل عمداً وعدواناً هذا الحد تجاوزه يعدم، إذا لم يرض أهل الميت بالعفو أو بالدية يقتل بما قتل. هذا حد القتل.أما القتل الخطأ: فلا حد فيه، فيه ما يكفر به الذنب كفارة بينها الله تعالى.أما العمد العدوان، فهذا الفاعل إما أن يقطع رأسه، وإما أني يعفوا أهل الميت، أو يقبلون دية من الديات.فيما سبق كان اليهود لا يقبلون أبداً عفو لا ودية، من قتل يقتل؛ لشرهم وشراستهم وقبح سلوكهم، شدد الله عليهم، فمن قتل يقتل.جاء النصارى أتباع المسيح بالادعاء، وعاشوا على طابع الرحمة والرقة واللين، ورفع الله عنهم القصاص والدية، عليهم بالعفو فقط.جاءت أمة الإسلام الخاتمة للبشرية كلها، القاتل عمداً وعدواناً، إما أن يعفوا أهل الدم، وإما أن يأخذوا دية، وإما أن يسلم فيقتل. هذا حد القتال.هناك حد الزنا، وهو أبشع من القتل:أولاً: إذا زنا الرجل منا، البالغ سن الرشد فإن كان بكراً ما تزوج، ولا عرف النساء، وزنا، هذا حده أنه يجلد مائة جلدة، ويغرب عاماً ينقلونه من الرياض إلى الخبر، من المدينة إلى تبوك، هذا التغريب من حكمة الشريعة الإسلامية؛ لأنه إذا جلد أمام المسجد ويمشي أمام الناس، كلهم يقولون: هذا هو الذي جلدوه، لم جلدوه؟ قال: زنا، فتجول كلمة الزنا في أفواه الناس وعقولهم فتسبب بلاء، يجب محوها نهائياً، جلد عند باب السلام يغرب؛ لينسى وتنسى الجريمة، بعد عام يسمح له بالعودة إن أراد أن يعود، أما يجلد ويبقى يمشي كل من يقول: هذا هو، ما هو هذا؟ هذا زنا، ذكر الناس بالزنا أو لا؟ وهذه الكلمة متى جالت في خوطر البشر أهلكتهم.حد الزنا: إن كان صاحبه ثيباً ليس ببكر، تزوج وعرف الزواج ما هو، هذا حده أن يرجم حتى يموت، لا يطهره إلا ذاك، رجلاً كان أو امرأة، يحفر له حفرة ويلقى فيها مكتوف اليدين، ويأتي المؤمنون بالحجارة، ارم حتى يغطوه.. بهذا يخرج من ذنبه كيوم ولدته أمه.حد القذف: الذي يقذف مؤمناً بحجر؟ لا، يقذفه بكلمة قبيحة، يا زاني، يا فاعل كذا! أو فلان زنا، أو فلان لاط، هذه الكلمة إذا قذف بها مؤمناً ورماها فيه، يجب أن يجلد ثمانين جلدة، حتى لا يعاود مثل هذا الكلام؛ لأن فيه إشاعة للفاحشة، الذي يرمي مؤمناً أو مؤمنة في جلسة أو في مكان ما، ويقول: يا من تفعل، أو يا فاعل كذا، إما أن يأتي بأربعة شهود يشهدون على أن الفاحشة فعلت، وهيهات هيهات أن يأتي بها، أو يجلد ثمانين جلدة، ويصبح فاسقاً لا تقبل له شهادة، هذا معنى تطهير المجتمع الرباني؛ حتى كلمة السوء ما تقال، ولا يسمعها مؤمن ولا مؤمنة، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور:4-5] الآية.حد آخر: حد اللعان: وهو أن الرجل يقول: امرأتي زنت. وهنا رمى هذه المؤمنة وحطمها وقضى على كرامتها وكرامة أسرتها، إما أن يأتي بأربعة شهود يشهدون، وإلا يلاعن، يشهد أربع شهادات أنه رآها، والخامسة يقول: غضب الله علي إن كنت كاذباً، ويؤتى بها هي فإن برأت نفسها، وقالت: ما فعلت أبداً، إن قالت: فعلت، حينئذٍ انتهينا أقيم الحد عليها، ونجا الرجل الزوج، وإن قالت: لا ما فعلت، تشهد أربع شهادات أنها ما فعلت، والخامسة تقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ويفرق بينهما تفريقاً أبدياً، لن تعود له ولو بملء الأرض ذهباً، لا تصلح له ولا يصلح لها.حد السرقة: من سرق مالاً يقدر بربع دينار، هذا الذي عليه الجمهور، أما قلم كهذا أخذه من جيبي فلا تقطع يده فيه.إذاً: السارق: الذي يأخذ مال الغير سرقة في خفاء، يكسره بابه، يكسر سيارته، وهو نائم يأخذ من جيبه، وهو يمشي معه، جماعتنا يطوفون بالبيت ويسرقون في الحج، هذا حد من حدود الله لقول الله تعالى، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، وبهذا يسود الأمن. الله الله.. قبل هذا التعسف والانجراف، سكنا بالمدينة في بيوت بلا أبواب، بايعوا الذهب والله يسدلون على دكاكينهم ستائر من قماش ويمشي.لما حصل وكثرت الأموال، وجاء إخواننا من كل جهة وطمعنا، واختلط الحابل بالنابل، ومع هذا لو لا أن الحدود تقام، يا ويحكم! لقد كانوا ينزعون أخشاب البيت ويبيعونها في السوق، في المدينة، بل ينزع الباب ويبيعه، لكن دولة القرآن التي تقيم الحدود يتحقق بها الأمن، والله ما يتحقق بأية واسطة لا بالشرط ولا بالسحر ولا بالهيدروجين.إذا : هذا حد أو لا؟ حدود يجب على المؤمنين أن يعرفوها، ولا يجوز تجاهلها، واللفظ العام ما قلته لكم: كل فريضة فرضها الله حداً لا يجوز أن تتجاوزها، انهض بها وأدها، كل ما حرم الله يجب ألا تغشاه ولا تفعله، فإن أنت أطعت الله تسمع جزاءك يا بني، وأبشر والله عز وجل لا يحرمنا ما وعدنا.
مصير الواقف عند حدود الله الطائع له ولرسوله
قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:13]، فيما أمرا به فعلاً، وفيما نهيا عنه تركاً، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:13]، الجزاء: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ [النساء:13]؛ جمع جنة، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [النساء:13]، من تحت قصورها، خَالِدِينَ فِيهَا [النساء:13] أبداً: خلوداً مؤبداً يخرجون إلى أين؟ ما بقي إلا دار السلام ودار البوار، فدار الجنة ما يخرج منها إنسان ليدخل النار مستحيل، أين يذهب؟ لا وجود للذهاب؛ فهو إذاً خلود أبدي إلى ما لا نهاية، خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:13]، ما قال: وهذا الفوز العظيم، بل :(وذلك)، من منكم يفسر لنا: الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:13]؟الفوز العظيم: هو دخول الجنة، والزحزحة من النار ودخول الجنة.إذاً: الشاهد عندنا قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، هذا الفوز العظيم، من منكم يعرف علة هذا الفوز؟ ما سبب هذا الفوز؟قال: الإخوان، زكاة النفس، إي والله، طاعة الله وطاعة رسوله بفعل الأمر وترك النهي هي التي تنتج زكاة النفس وطهارتها، ألست مأموراً بعبادات أو لا؟ فإن أنت عملتها حسب ما بين رسول الله أنتجت لك زكاة نفسك وطهارتها، حرم الله ما يخبث النفس ويلوثها ويدسيها من الكذب إلى النظرة الشزراء فاجتبت ذلك وابتعدت عنه، فاحتفظت بزكاة نفسك وطهارتها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].
مصير من يتعدى حدود الله ويخالف أمره ونهيه
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:13]، محمداً صلى الله عليه وسلم، يُدْخِلْهُ [النساء:13]، جزاء، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:13-14]، ما يقف عند الحدود، ينتهكها ويتجاوزها، لا ينهض بالواجبات، نفسه منتنة خبيثة .. الذي يعصي الله ورسوله نفسه تزكو على أي شيء؟ ما استعمل مواد التزكية، بل استعمل العكس مواد التخبيث والتلويث. إذاً: هذا أين ينزله الله؟ في الملكوت الأعلى وهو خبيث؟ ما يجوز، كثيراً ما نقول: لو يدخل علينا الآن رجلاً ملطخاً بالدماء والقيوح والأبوال والقاذورات تسمحون له أن يجلس بينكم؟والله ما تسمحون، فدار السلام، ودار الأبرار كيف يدخلها بالنفس الخبيثة، والروح المنتنة العفنة؟ هيهات هيهات.. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ [النساء:14]، الجزاء، يُدْخِلْهُ [النساء:14]، ماذا؟ نَارًا خَالِدًا فِيهَا [النساء:14]، ما قال: خالدين فيها كأهل الجنة، لم؟ لأن أهل الجنة يخلدون فيها ما يستوحشون اللقاءات، الصباح والمساء دائماً، الصدور منشرحة والنعيم متوالي، هؤلاء خالدين فيها أو لا؟ جماعات، أما أصحاب النار يدخل أحدهم ما يرى أحداً مليون سنة، والله ما يعرف أباً ولا أماً ولا.. غربة ما له فيه أحد، كأنه وحده في ذلك العالم، آه! لو عرفنا هذا لبكينا طول ليلنا، وإن لم نبك على الأقل ما تسجل علينا في اليوم عشر خطايا، وعشرين سيئة، يجب أن نعرف فيما نطيع الله وفيما نطيع رسوله، أي: نعرف الواجبات ونعرف المحرمات، تلك هي حدود الله، وعدنا من حيث بدأنا، العلم، من لم يعلم لا يمكنه أن يزكي نفسه، وليس أبداً أهلاً لدار السلام، من يحلل هذه النظرية؟ولهذا قالوا: ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علمه، تريد أن تكون ولياً لله في صدق؟ تعلم كيف تطيع الله وفيما تطيعه، تعلم المعاصي التي يكرهها الله، اسأل أهل العلم وتعلم ليل نهاراً؛ حتى تعرف بم تعبد ربك، وكيف تعبده، فإذا أقبلت على تلك العبادة، أنت مقبل على تزكية نفسك وتطهيرها، وتشعر بذلك حقاً؛ لأنك تصبح لا تطمئن نفسك ولا ترضى إلا إذا كنت في الصالحات مغموراً وفي الخيرات، وإذا كنت في جو قاتم، في معاصي ما تطيقها ولا تطمئن إليها، واقرءوا: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ [الفجر:27]، يجلس جلسة كهذه عام كامل ما يتألم، جلسة فيها شتم أو سب أو باطل ما يطيقها، نفسه ما تقدر، وهذا كله يتطلب منا أن نعلم ونعمل، وهذا طريق السعادة.وصلى الله على نبينا محمد.

ابو وليد البحيرى
2019-04-21, 03:57 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (4)
الحلقة (228)
تفسير سورة النساء (12)


الزنا إثم عظيم وجرم جسيم، وقد حذر الله عز وجل عباده من الوقوع فيه، وفرض جزاءً رادعاً لمن وقع فيه، فإن كان الزاني بكراً لم يسبق له الزواج جلد مائة جلدة وغرب عاماً، والمرأة تغرب إن أمنت الفتنة منها وعليها، وأما إن كان الزاني محصناً فإنه يرجم حتى الموت.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل. ‏
معنى قوله تعالى: (تلك حدود الله ...)
انتهى بنا الدرس إلى هاتين الآيتين الكريمتين، ونعود بالذاكرة إلى الآيتين اللتين درسناهما سابقاً وهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:13-14].فقد علمنا أن الله تعالى قد حد حدوداً، ونهانا عن تعديها، وتوعد من تعداها بما سمعتم: يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:14].والرسول الكريم يقول: ( إن الله تعالى قد فرض فرائض فلا تتركوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وترك أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ).ومن ثم علمنا: أن حدود الله وفرائضه بمعنى واحد، أمر ونهي: ما أمر الله باعتقاده، أو قوله أو فعله، هذا فرض واجب يجب أن يطاع الله فيه، وهو حد أيضاً لا يجوز إهماله وتركه، وما حرمه تعالى ونهانا عنه وتوعدنا بالعذاب عليه يجب ألا نتجاوزه، وألا نتعداه بل نقف عنده.إذاً: فقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [النساء:13]، اشتملت على الأوامر والنواهي من أول السورة.إذاً: وواعدنا الوعد الكريم، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:13]، في أي شيء؟ في تلك الحدود، فلا يتعداها، لا يهمل واجباً أوجبه الله، ولا يغش ذنباً حرمه الله، ومن وفق لهذه الطاعة فوعد الله الصادق أنه: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا [النساء:13]، يخلد فيها ولا يخرج منها، وهذا لعمر الله، الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:13] وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:14]، بأن يتعدى الحدود، ويهمل الفرائض والواجبات، هذا عقابه وعيد شديد، إذ قال تعالى: يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:14]، العذاب الأليم للأبدان، والعذاب المهين للأرواح، وعذاب الأرواح أشد على العبد من عذاب الجسم، والعذاب المهين يكون بالسخرية به والاستهزاء، بخلاف العذاب بالإحراق أو بتقطيع الجسم أو ما إلى ذلك.
أهمية طلب العلم لبلوغ الحياة
علمتم وزادكم الله علماً: أنه ليس بإمكان الآدمي إذا آمن وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأعلنها بصراحة ووضوح، لا يتأتى له أن يطيع الله ورسوله إلا بمعرفة فيم يطيع الله وفيم يعصيه، وفكروا! لا يتأتى لإنسان آمن وأراد أن يطيع الله ورسوله؛ ليكمل ويسعد في الدنيا والآخرة، لا يتأتى له ذلك إلا بالعلم، أي: بمعرفة ما يحب الله وما يكره الله، هل هناك من يشك في هذه الحقيقة من الأبناء؟لا، لا يتأتى ولا يتهيأ ولا يسهل على إنسان أن يطيع الله ورسوله وهو لم يؤمن بهما، وهذا قد آمن، ولا يستطيع أن يطيع الله ورسوله وقد آمن بهما، ولم يعرف أوامر الله ونواهيه، فوجدنا أنفسنا مضطرين اضطراراً إلى التعلم، إلى طلب العلم، سواء كان في ديارنا أو خارجها، في بلاد العرب أو العجم، اطلبوا العلم ولو في الصين، رددها السلف الصالح رحمهم الله تعالى.معشر المستمعين! هل أنتم على بصيرة في هذه القضية؟ بمعنى: أنه يمكن للعبد أن يطيع الله ورسوله، فينهض بالواجبات ويبتعد عن المحرمات بدون أن يعرف: ما هو الواجب وما هو الحرام؟ أيمكن هذا؟!لا، إذاً: طلب العلم هو الأول، قبل أن تقوم تغتسل اسأل كيف تغتسل، قبل أن تتناول لقمة الطعام اسأل كيف يتناولها المسلمون، وحسبنا من ذلك قول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، أليس هذا أمراً؟بلى. فَاسْأَلُوا [النحل:43]، نسأل من؟ أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل:43]، ما الذكر؟ القرآن، إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فكل من لا يعلم كيف يغتسل يجب أن يسأل كيف يغتسل، كل من لا يعرف الكلمات التي يبغضها الله ولا يرضى بها إلا ووجب أن يسأل أهل العلم: ما هي الكلمات التي يكرهها الله، والأفعال والصفات كذلك؟ ولا تقولن: إن الأمر ثقيل، هونه على نفسك؛ لأنك تريد أن تخترق السماوات السبع، وتنزل في الفردوس الأعلى، لو طلب منك عمل جهد بدن ومال، كم تبذل لتصبح في دار السلام؟ أو ما فهمتم هذه البربرية؟ إذا كان الأمل، الهدف، الغاية من هذا السمو والكمال والعلو والارتفاع، فما تبذله أنت من ساعات أو دقائق تسأل وتعمل ما هو بشيء أبداً.وهنا عندكم وزادكم الله علماً: هل تعرفون أن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمرا به ونهيا عنه من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات الذوات، هذه الطاعة تكسبنا سعادة الدنيا، والكمال فيها قبل الآخرة، ولنا آيتان كريمتان:الأولى يقول تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النحل:97]، الإيمان شرط أولي أو لا؟ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ [النحل:97]، فلعزتنا وجلالنا فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، هيا نبحث عن الحياة الطيبة، أين؟ في السويد.. في الدنمرك.. في بريطانيا.. في إيطاليا.. دلونا على إقليم نجد به الحياة الطيبة التي طابت وطهرت، وما أصبحت تشم فيها رائحة الخبث، بها أمن وسلام، إخاء ومودة وولاء، أهل الإقليم كأنهم أسرة واجدة، تعيش أربعين سنة لا تشاهد معصية ترتكب أمامك.والآية الثانية يقول تعالى من سورة النور: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور:55]، أيها العرب، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55]، ماذا يفعل بهم؟ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهم وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55]، سمعتم ما تنتج طاعة الله وطاعة رسوله؟ تنتج حياة الطهر والصفاء، وتنتج حياة السيادة والقيادة والملك في الأرض، لا تظنوها مقصورة على النتائج الطيبة بعد هذه الحياة، كما أن معصية الله ورسوله تكسب أهلها الذل والخبث والتأخر والهبوط، والبلاء والشر فوق ما تتصور، لم؟ إنها تمضي مضي السنن الإلهية، هل الطعام يشبع أو لا؟ الماء يروي أو لا؟ الحديد يقطع أو لا؟ النار تحرق أو لا؟ الجواب: نعم.. نعم.. نعم.. أتتبدل هذه؟ سيأتي يوم تأكل الطعام ولا ما تشبع، هل يمكن أن تقف هذه السنة؟ أسيأتي يوم على النار لا تحرق، ادخل فيها وتمرغ ما تحرتق؟ أيمكن هذا؟!فكذلك طاعة الله وطاعة رسوله وهي الالتزام التام بهذه القواعد والتعاليم من شأنها أن تسعد وتكمل ولا تتخلف أبداً، ومعصيتهما بترك ما أوجبا وفعل ما حرما لن تتأخر سنة الله، بهم الذل والتخلف والعار والخبث والدمار والحياة السيئة الخبيثة، وقد شاهدناه، فلا نحتاج إلى برهنة ولا إلى دليل.الآن أعيد عليكم تلاوة الآيتين ونودعهما: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:13-14].
مبلغات الوصول إلى الله تعالى
معشر المستمعين والمستمعات! عرفتم الطريق إلى الله؟ما هي المساعدات يا أبا عبد العزيز التي تساعدنا على تحقيق هذه الطاعة لله ورسوله؟أولاً: ذكر الله عز وجل، ذكر الله تعالى بالقلب أولاً وباللسان ثانياً، هذه من أكبر المساعدات على طاعة الله ورسوله، أما الغفلة، والنسيان، والإعراض عن ذكر الله فمن مقتضيات الخروج عن طاعة الله ورسوله، ولك أن تحلف بالله على هذا، ما يستطيع ذاكر لربه بقلبه ولسانه أن يغشى ذنباً من الذنوب، ولا أن يقع ولا جريمة من الجرائم: الزنا، الربا، القتل، السب، الشر، الفساد إلا بعد أن ينسى الله تعالى، في تلك اللحظات أو الدقائق وقد استولى عليه الشيطان والشهوة يقع في تلك المعصية، أما وهو يذكر الله، وأنه بين يديه يعلم رقابته له، وعلمه به ما يستطيع أن يعصي الله تعالى، ماذا ترون في هذا المساعد، ولهذا أمرنا الله تعالى بالذكر الكثير، لم؟ من أجل أن يحفظنا لنبقى أهلاً لرضاه ودخول جنته، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، فالذي يجلس في مجلس ربع ساعة، نصف ساعة ما يذكر الله، لن يفارق المجلس إلا وقد قارف ذنباً من الذنوب.ثانياً: ذكر الموت والدار الآخرة، فالذي يعيش سبعة أيام ما يذكر الموت ولا يفكر به، ما يسلم، لا بد وأن يقع ذكر الموت، وهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول لنا موجهاً مرشداً: ( أكثروا من ذكر هادم اللذات )، ذكر الموت، نقرأ له قول الله تعالى: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46]، قراءة سبعية، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ [ص:46]، ما هذه الخالصة؟ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46]، ذكر صفوة الرسل والأنبياء، ثم ختم الحديث عنهم بقوله: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ [ص:46-47]، وهذا رسول الله في الليل ينام ويخرج في الظلام، ليقف على البقيع ويسلم على أهله، ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] الآخرة، فأهل الغفلة هم الهالكون.ثالثاً من المساعدات المقويات: مجالس الصالحين، والبعد عن مجالس الفاسدين، يجب أن تكون مجالسنا طاهرة، نقية، صالحة، ليس لمظاهر الخبث ولا الظلم ولا الشر ولا الحسد ولا الكبر أبداً لا يظهر فيها ذلك، كلها ابتسامات وكلمات طيبات، هذه تساعدك على طاعة الله ورسوله.والعكس ماذا نرى يا أرباب التلفزيونات والصحون الهوائية؟ تعالوا نتحاسب؛ لنر نتائج هذه المظاهر والمناظر عندكم، هاتوا؟ قلت غير ما مرة: إذا كنت تحب الله ورسوله كيف ترضى بأن يخرج الملائكة من بيتك، وينزل بها الشياطين؟ دلني عن فهمك، عن وعيك، عن بصيرتك، كيف ترضى بهذا الموقف، أو كذبت رسول الله؟ أما قال: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، فأبعد المؤمنون الكلام من دورهم، ورموها في حظائرهم ومع مواشيهم، ما يرضى المؤمن أن يخرج الملائكة من بيته، فتتبعهم الخيرات والبركات، ويحل الشر والخبث والفساد. يا شيخ أنت ما تعرف السياسة، لا بد من تلفاز، ولا بد من آلة واسعة نطلع إلى ما يجري من أحداث في العالم.. تفضل أنت قد سمعت ورأيت وشاهدت المصائب والمحن و.. و.. في العالم بكامله ماذا فعلت أو ماذا تفعل؟ حتى أنك لا تقول: يارب قنا من هذا البلاء ما تعرفها وتنساها، ماذا تستفيد؟أزيدكم: الصحف ذات العشرين صفحة يومياً تضع بين يديك: البلاد، الرياض، الجزيرة، المسلمون، كذا.. وتقضي الساعة والساعتين وتخرج منها صفر اليدين، ولا شيء، أضعت الوقت فقط، من يقول: أنا اكتسبت من وراء ذلك مالاً، وبه أعيش وأعيش أسرتي؟ لا أحد.إذاً: عرفتم مجالس الصالحين يجب أن تكون في بيوتنا، بيت المسلم غير بيت الكافر والله العظيم، بيت المسلم مملوء بذكر الله. الله.. الله.. كان أحدهم إذا مر بأزقة المدينة يسمع في البيوت دوياً كدوي النحل طول الليل من التهجد وقراءة كتاب الله، جاءت فترة -والعياذ بالله- كنا إذا مررنا بأزقة المدينة لا نسمع إلا العواهر يغنين من أم كلثوم إلى الأطرش إلى كذا، وهبطنا.. هبطنا.. هبطنا.. بهذه الأذن، إذاعة لندن تقول: إن فلاناً في المدينة المنورة يطلب الأغنية الفلانية. بأذني أسمع، ويطلبها ليهديها إلى صديقة فلان، ومرت بنا فترة عشرين، ثلاثين سنة، عشنا في كرب، كيف ننمسخ هذا الانمساخ؟ وشاء الله بالبكاء والدعاء وانتهت تلك الفتنة، الآن تمشي في أزقة المدينة في دكاكينها ما تسمع أغنية، كنا إذا كانا راكبين إلى العمرة أو الحج، نتحرق نتألم فينا من يقول: ما نسوق إلا بالأغاني؟ الآن الحمد لله، تمر بين يديك وعليك مائة سيارة ما فيها سيارة تغني.هذا سببه دعوة الله، أقبلنا على أن نسمع الهدى ففهمنا عن ربنا، فتخلينا عن الغناء، والأباطيل، جاءت فتنة هذه الأدشاش، ها نحن نبكي، وسوف يأتي يوم تنتهي. إن شاء الله ما واصلنا الدموع والبكاء، حسبك أن تقول: إن بيتاً ترى فيه عاهرة تغني وتمسك بيديها ورأسها، وفي من يقبلها ومسها بين نسائك وبناتك وأولادك. هذا يعقل أن يكون في بيت مؤمن؟ أسألكم بالله؟ المؤمن كالمؤمنة مأمور بأمر الله أن يغض بصره، ويطأطئ رأسه، كيف يفتح عينيه في عاهرة تغني في بيته؟وخلاصة القول: إن هناك مساعدات على مواصلة طاعة الله ورسوله، وهناك مقويات للخروج عن طاعة الله ورسوله. هذا هو الواقع، فاطلب المساعدات وتجنب المفسدات.
تفسير قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ...)
يقول الله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15]، قراءة سبعية، وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنّ َ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15].الآية الثانية: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:16]. الآيتان مدنيتان، ونزلتا قبل نزول آيات سورة النور. وَاللَّاتِي [النساء:15]، التي: هذا اسم إشارة لواحدة أثنى، جمعتاها قل: اللاتي، اللائي جمع، مقابل الذي في المذكر والذين. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15]، الفاحشة هنا: القبيحة وهي الزنا، سمي فاحشة لقبحه ودماره وآثاره السيئة؛ فهو يدمر النفس، ويقضي على النسب، ويدمر الأسرة، ويقلب الإنسان إلى حيوان. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ [النساء:15]، أيها المؤمنون! ماذا تفعلون معهن؟ قال: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً [النساء:15]، رجال منكم، لا نساء، ما قال: أربعة من النسوة، (أَرْبَعَةً)، لأن المرأة لا تطيق مناظر كهذه، ذات حياء، وعفة ولين، فلهذا ما نشهدها على رجل إلا في قضية الدين فقط، أما في القصاص والحدود ما تحضر، ما تقوى على هذه المناظر.(أَرْبَع َةً)، أي: من رجالكم، (مِنْكُمْ)، يشهدون أنهم رأوا الفرج بالفرج كالمرود في المكحلة، أربعة، فَإِنْ شَهِدُوا [النساء:15]، فماذا تصنعون بهؤلاء النسوة، فَأَمْسِكُوهُنّ َ فِي الْبُيُوتِ [النساء:15]، السجن والبعد عن الرجال، إلى متى؟ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ [النساء:15]، يجيء الموت ويوفيها أيامها ولياليها، ومرحباً به، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، مخرجاً وطريقاً ننتظر أمر الله ماذا يصنع، وكذلك كان، هكذا كانوا في عهد الإسلام الأول، وقد يكون موروثاً من الجاهلية، إذا زنت المرأة، وثبت الزنا ماذا يصنعون؟ المرأة تحبس والرجل ما يحبس؛ لأنه شغال وعامل، فلاح، أو تاجر، احبسوها هي؛ إذ لو لا المرأة ما زنى الرجل.ثم قال تعالى في الآية الثانية: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16]، أيها المسلمون المؤمنون، وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16]، في الأول ما ذكر الرجال، وهل يقع زنى بدون رجال؟ ما يقع، وهنا ذكر الرجال، وهل يقع أيضاً زنى بدون نساء؟ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا [النساء:16]، أي: الفاحشة منكم، فَآذُوهُمَا [النساء:16]، بالسب، بالتعيير، بالشتم، بالصيحة في وجوههم، فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:16].
علاقة الآية بحكم اللواط، وبعد العرب عنه
والآية قد تتحمل معنى اللواط، وذكر كثير من المفسرين هذا مثل جلال الدين السيوطي ، لكن الذي نعرف ونقوله: بأن الجمهور على أن هذا ليس في اللواط أبداً، ونحن على يقين؛ لأن اللواط ما كان يعرف في هذه الديار أبداً، ولما حدث أن أعجمياً لاط في البحرين اضطرب أصحاب رسول الله في الحكم عليه، منهم من قال: يرمى من أعلى مكان إلى الأرض ثم يرجم بالحجارة، أي: نفعل به ما فعل الله بقوم لوط.وقد ذكرت لكم أن أحد أئمة الأمويين وهو يخطب الناس على المنبر في مسجد دمشق واسمه عبد الملك : أقسم بالله على أنه لولا أن الله تعالى أخبرنا عن قوم لوط ما كان يخطر ببالنا أن الذكر ينزو على الذكر.وأزيدكم أيضاً فضيلة عندهم: ما كان يوجد في ديارنا هذه، ديار الطهر بغلة، ولا بغل، حمار، فرس، وأول بغلة دخلت هي بغلة المقوقس المصري أهداها لرسول الله مع مارية القبطية وسميت: الدلدل، أول بغلة، لماذا؟ لأنهم يتأففون: كيف ينزو الحمار على الفرس؟ ما يقبلون هذا أبداً؛ لأن البغل يتولد من الحمار والفرس.. أبوه الحمار وأمه الفرس، كيف يتم؟ لا بد من إنزاء وحمل الحمار على أن ينزو على الفرس، هذا لا يقبلونه.إذاً: فكيف يخطر ببالهم أن ينزو الذكر على الذكر؟ هذا من باب أولى ما يكون أبداً.والحمد لله أقل بلاد العالم في هذه الفاحشة بلاد المسلمين، إذا يوجد أندية للواط في فرسنا، وفي العالم يوجد نادي العراة، إلا أن البلاد الإسلامية البلد الذي يكثر فيه الإيمان والصالحون تقل فيه هذه الفاحشة، والذي يكثر فيه الخبث والشر والفساد تظهر فيه.
حكم البكر والثيب إذا زنيا
إذاً: نقول: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16]، أي: الفاحشة، بدون إقامة الحجة عليهم، ما هناك شهود أربعة، فماذا نصنع؟ قال: فَآذُوهُمَا [النساء:16]، بالسب، بالشتم، بالتعيير، بالضرب غير المبرح.. حتى يتوبا.واستمر ذلك فترة من الزمن، حتى جيء بزان وزانية من اليهود، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أبعدوهما عني، أبعدوهما أبعدوهما.. الثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ). ونزلت آية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة، نكالاً من الله والله عليكم حكيم)، وتليت الآية ونسخت، وبقي حكمها طبقه رسول الله، وطبقه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي .(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة)، هذه الآية نسخت إي والله، نسخ اللفظ والحكم طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء باليهوديين فسألهما: ماذا عندكم؟ أستحلفكما بالله ألم يكن عندكم رجم الزاني والزانية؟ قالوا: نعم، لكن لما سقطت دولتنا وما بقي لنا دولة ولا سلطان تركنا هذا، فأمر الرسول برجم اليهودية واليهودي.إذاً: وأما البكر غير الثيب، لأن الآية الأولى في الثيب، والثانية: (وَاللَّذَانِ) في البكر، قال تعالى: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:1-2]، الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور:2]، أي: غير المحصنين، غير الثيبين، يعني: البكرين اللذان ما عرفا النكاح ولا الزواج، وهما بالغان قطعاً، مكلفون، فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، والرسول سن سنة: غربوهما عاماً، يجلد مائة جلدة ويغرب سنة كاملة، ينقل من إقليم إلى إقليم، من بلد إلى بلد، وبينت لكم علة ذلك، وهي: حتى لا تنتشر الفاحشة بحديث الناس، سبحان الله! إذا أصبح الناس يتكلمون عن فاحشة، والله تقع، ما يسلمون منها إلا إذا اختبأت مناظرها ومظاهر الحديث عنها، فمن هنا عرف العدو هذا ويأتيكم بالمجلات والجرائد التي فيها صور الخلاعة والداعرات، ثم في التلفاز وشاشاته؛ لأجل إثارة الغريزة وبعث الناس على أن يتكالبوا ويهلكوا ويفسدوا.
حكم تغريب الزاني والزانية
لو أننا جلدنا شاباً عند باب السلام، وتركناه يغدوا ويروح، وكل من رآه يقول: هذا جلدوه، لماذا؟ لأنه زنى، ويأخذ الحديث، وهذا والله ليثير الغرائز، ويبعث على إتيان الفاحشة؛ لأن الله عليم حكيم، غربوهما سنة كاملة؛ حتى تنسى هذه الفاحشة.إذاً: واستقر حكم الله إلى اليوم، الزاني والزانية إذا كانا محصنين، أي: سبق أن تزوجا، وطلقا، أو مات الزوج أو الزوجة، فما الحكم؟ الرجم حتى الموت: (فارجموهما ألبتة). فإن كانا غير محصنين بكرين، فالحكم: الجلد مائة جلدة والتغريب عام.يبقى: هل المرأة تغرب؟ إذا كنا نستطيع أن نغربها ولا تؤذى ولا تؤذي غربناها، مثلاً: عمها في الشام، أخوها في الأردن نبعث بها إليه، أما إذا ما عندنا، أين نحفظها؟ ما يجوز تغريبها، تبقى عند أبيها، الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ [النور:2].مرة ثانية:هاتان الآيتان منسوخ حكمهما، وعلى هذا أئمة المسلمين وجماهيرهم، أما الأقوال الشاذة كثيرة ولا يسلم منها قول. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنّ َ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15] وقد جعل الله السبيل وهو الرجم. وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ من غير المحصنين فَآذُوهُمَا [النساء:16] الأذية تكون بالسب، بالتعيير، بالتقبيح.. حتى يندم ويستغفر ويتوب، نسخت هذه أو لا؟ نسختها آية النور فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]. وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [النساء:16] اتركوه إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:16]، ولهذا أرشد عباده المؤمنين إلى الرأفة والرحمة بإخوانهم إذا زلت أقدامهم وارتكبوا هذه الفاحشة، إن الله كان تواباً وما زال، رحيماً بأوليائه وصالحي عباده.مرة ثانية:هاتان الآيتان نسختا، والآية الأولى نسخت آية المحصنات بآية (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله)، نسخ اللفظ وبقي الحكم، طبقه رسول الله، طبقه أبو بكر ، طبقه أصحابه.. من جلد الغامدية؟ أليس على عهد الرسول وهو الذي جلدها؟ وماعز من جلده؟ قطعاً هو الرسول صلى الله عليه وسلم.وأما غير المحصنين البكرين، وهذا على شرط البلوغ أيضاً، لا بد وأنه بلغ سن التكليف.الشاهد عندنا: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا [النساء:16] انتهى هذا الحكم، ما يكفي الأذية بالصفع أو بالضرب بعصا، يخوفه! لا، يحضران ويجلدان أمام المسلمين مائة جلدة بعصا من جريد النخل، ما يرفع يده ولا يخفضها، تطهيراً لهما وتعذيباً، لما يفرغ الجالد لهما على الفور يكتب مثلاً فلان ينقل إلى البلد الفلاني، يغرب سنة. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ [النساء:15] ما المراد بالفاحشة هنا؟ وأين الرجال هنا؟ قال: النساء ما ترتكب الفاحشة إلا مع رجل.والغريب أن بعض المفسرين يقولون: والسحاق يدخل في هذه، ما نتكلم عن السحاق؛ لأن أكثر السامعين ما يعرفونه، لا سيما المؤمنات، والجواب الصحيح: أن الآيتان منسوختان: الأولى في المحصنين والمحصنات، والثانية في الأبكار فقط، الأولى نسخت بآية (الشيخ والشيخة إذا زنيا)، والثانية نسخت بآية فاتحة النور، فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2] وتبقى الآيتان تتليان ويتقرب بتلاوتهما إلى الله عز وجل، ونحمد الله على أن أتانا بحكم فاصل، فطرد هذا الخبث من بيننا ومن ديارنا.نكتفي بهذا، وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-21, 04:01 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (5)
الحلقة (229)
تفسير سورة النساء (13)


التوبة هي الرجوع إلى الحق بعد الإعراض عنه، بفعل الطاعات التي كان يتركها العبد، وترك المعاصي التي كان يأتيها، والندم على ما سلف منه، ولا تكون التوبة لمن سوّف فيها حتى بغته الموت، وبلغت الروح الحلقوم فإذا به يقول: تبت الآن، ولا من أدركته الساعة وقامت القيامة وهو عاكف على المعاصي والموبقات، فمثل هذا لا توبة له، وأعد الله له يوم القيامة عذاباً أليماً.
حكم النقاب وصفته الصحيحة
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع، وصلى الله عليه وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).اللهم حقق لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك!معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!جاءني مؤمن وقال: يا شيخ! بيّن لنا الوجه الصحيح في النقاب، لقد تأذينا بالنظر إلى النساء من ذوات النقاب، ويلح علي، ماذا عساي أن أقول؟نقول: النقاب حقيقته أن تستر المؤمنة التي ما قعدت عن الحيض والنكاح والزواج وجهها، هذه تجعل على وجهها شيئاً يسترها من أنفها إلى عنقها، وتبقي عينيها أو إحداهما هذا هو النقاب، انتقب ينتقب انتقاباً. هذا النقاب مفروض مشروع لا تخرج امرأة ممن لم يقعدن عن النكاح إلا منتقبة إذا خرجت لقضاء حاجتها.الآن ما دمتم تشعرون بفتنة النقاب لقد أراحكم الله منها، والنقاب كانت المرأة تضعه؛ لأنها لو وضعت على وجهها شيئاً من الصوف فلن ترى شيئاً أبداً، مضطرة إلى أن تستر وجهها وتبقي عينيها؛ لأن النقاب كان من الصوف أو من الكتان القديم الثقيل، الآن انتهينا منه، بعض المؤمنات يوزعن هذا النقاب أو هذه الخمر مجاناً في المسجد، بريال بريالين تشتري خرقة سوداء خفيفة تضعها على رأسها وتمشي، وإذا ابتعدت عن الرجال نزعته، ما تربطها في رأسها ولا تشدها عليها، خرقة سوداء خفيفة إذا خرجت إلى الشارع لأمر استدعى ذلك وضعتها على وجهها وقضت حاجتها وعادت إلى بيتها، انتهينا من النقاب، من يبلغ هذا؟كل ذي امرأة منا أيها الحاضرون يعلمها زوجها هذا، وعلى المؤمنات اللائي يسمعن هذا الكلام أن يبلغ بعضهن بعضاً، ولتواصل تلك المؤمنة التي كانت توزع هذه الخمر مجاناً في داخل المسجد، ولسان في حاجة الآن إلى النقاب، وتبدو العينان ظاهرتان فيفتن أصحاب الشهوات.
حكم التلفظ بالنية
آخر يقول لي: التلفظ بالنية في الفريضة وفي النافلة، لا بد وأن تقول: نويت صلاة المغرب كذا: الله أكبر، وبقي مصراً على هذا.الجواب.. الجواب، وقد علمتموه وسمعتم به، وعرفتموه: أن النية من أعمال القلوب، ما هي من أعمال الجوارح، النية أن تعزم على فعل ما أردت فعله، فإن كانت صلاة تعزم على أدائها، وأنت تذكر أنها فريضة الله عليك وهذا وقتها، إن كانت المغرب في المغرب، وإن كانت العشاء في العشاء، أو الصبح في الصبح. ليس شرطاً أن تقول: نويت صلاة الظهر أربع ركعات حاضراً غير مسافر، هذا لا ينبغي بل منكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات وترك شيئاً تحتاجه الأمة إلا وبينه، حتى الخراء كما قال أبو هريرة ، وما يعلمهم كيف يدخلون في الصلاة؟ هذا منشؤه الوسواس، وإذا رأى العالم ما المصاب، من هو مصاب بالوسواس، يريد أن يدفعه عنه، فيقول له: قل نويت صلاة الظهر، عرفتم؟ لدفع الوسواس فقط، ومن أراد أن ينظر فليشاهد العوام في الصفوف وهم يقولون، يحاول أن يضبط النية ما تنضبط ثلاث أربع مرات! وسواس.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
درسنا فيما سبق آيتين وهما:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنّ َ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15] هذه معلمة الآن لديكم علماً واضحاً، إن لم تكونوا نسيتم.الثانية: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:16] هذه آية أمس.قبل الانتقال للآيتين بعد ذلك أريد أن أسأل، ومن أراد أن يجيب: هل ما تضمنت هاتان الآيتان من حكم نسخ أو لم ينسخ؟أقول: الآيتان ما تحملانه من حكم نسخ، أما الآيتان فيتقرب بتلاوتهما إلى الله عز وجل، بل إنكار واحدة منها يخرج العبد من الملة، الذي نسخ الحكم، والحكم الأول ما هو؟ كانوا إذا زنت المرأة يحبسونها، والرجل ما يحبسونه؛ لأنه شغال ويعمل كما يزعمون. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ التي هي أقبح الفواحش وهي الزنا مِنْ نِسَائِكُمْ يا معشر المؤمنين فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء:15] فإن شهدوا أنها زنت تسجن، أين تسجن؟ في البيت ما عندنا سجون ولا بيت مال، تحبس، حتى يفرج الله، إما أن تموت أو ينزل حكم الله في ذلك، وهذا واضح وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنّ َ فِي الْبُيُوتِ إلى متى؟ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]. وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] هناك ذكر النساء وترك الرجل، وهنا ذكر الرجل وغلبه على النساء، وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] من غير الثيبين، هؤلاء الأبكار الشبان والشابات قبل الزواج وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا أي: الفاحشة مِنْكُمْ ماذا تفعلون؟ فَآذُوهُمَا [النساء:16] الأذية تكون بماذا؟ بالشتم، بالسب، بالصفع على خده.. هكذا تكون الأذية، ما يجلد، فَإِنْ تَابَا عن هذه الفاحشة وَأَصْلَحَا [النساء:16] أصلحا ما علق بنفوسهما من الآثام، أصلحا فساد قلبيهما بالتوبة والعمل الصالح فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [النساء:16] اتركوهما إلى أن يحكم الله إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:16] وهذه مظاهر توبته ورحمته، هذه الآيتين منسوخة بآية: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] وزاد رسول الله باسم الله: تغريب عام.وأما المحصنين والمحصنات فماذا قال فيهم أبو القاسم؟ ( الثيب بالثيب جلد مائة، والرجم بالحجارة ) وذلك بعد نزول هاتين الآيتين بفترة، وإذا بالرسول يقول: ( خذوا عني.. خذوا عني )، ما بقي حبس ولا سجن ( خذوا عني.. خذوا عني، الثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة ) ونزلت سورة النور، وبينت أن الزاني والزانية من غير المحصنين اجلدوهما مائة جلدة، والتغريب سنة للرجال أو للذكور دون الإناث، لم؟ لأن المرأة إذا غربناها ممكن تتأذى، كيف نبعث بها إلى بلاد ما عندها فيه أحد؟ تبقى في بيتها، والمرأة أيضاً ما لها ضرر؛ لأنها في بيت أهلها، لكن الرجل والذكر يمشي في الشوارع، يدخل المسجد، يقال: من هذا؟ هذا الذي جلدناه بالأمس، لم جلدوه؟ زنى، التحدث بالزنا يحمل النفس البشرية على طلبه.أوما فهمتم هذه؟لماذا نغربه ونبعده من البلد سنة كاملة؟حتى ما يذكر لفظ الفاحشة، وأنتم أيها المسلمون اليوم الأغاني من أولها إلى آخرها وهي دعوة واضحة وصريحة إلى الفحش والباطل، مع أن الكلمة ممنوع النطق بها ولا يحل أبداً؛ خشية أن تتأثر النفوس الضعيفة، وتظهر الفاحشة، وتهلك الأمة، وتهبط من عليائها، فلهذا تتحدث مع أولادك سبعين سنة لا تذكر كلمة الفاحشة، ولا تنطق بها، ولا يحل لمؤمن أبداً أن يذكر كلمة الفاحشة لغير الضرورة الداعية إلى ذلك.إذاً: الحمد لله عرفنا هذا الحكم الجليل الخالد بخلود الأمة الإسلامية، وهو: أن الزاني والزانية إذا كانا محصنين ،أي: ثيبين، تزوجا سواء طلقا أو مات الزوج .. إلى غير ذلك، ثبت له عقد نكاح وخلوة. هذا الثيب، هذا المحصن إذا زنى يجلد مائة ويرجم بالحجارة حتى يموت، هذا الذي يطهره، أما رجم ماعز في مدينة رسوله والغامدية؟نقول: دائماً مطالبة لإخواننا الغامديين هذه امرأة واحدة سجلت تاريخكم، وكل أهل الإسلام يعرفونه بسبب هذه المؤمنة الغامدية .والأبكار الذين ما عرفوا الزواج ولا عقد لهم ولا بنو ولا دخلوا ولا طلقوا - بشرط أن يكونوا بالغين- إذا حدثت منهم هذه الجريمة، بم نحكم عليهم؟ بجلد مائة جلدة وتغريب عام، والمرأة ما قلنا تغرب خشية أن يحدث الفساد أكثر، ثم ما هناك حاجة إلى تغريبها، ليست كالشباب كلما يراه واحد يقول: هذا جلدناه لأنه زنى، فيذكر الناس بالفاحشة، نريد أن تموت هذه الكلمة ولا تذكر.
تفسير قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ...)
والآن مع الآيتين بعد هذه، إليكم تلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:17-18].
معنى قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة)
يقول الله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] أولاً التوبة ما هي؟التوبة: الرجوع إلى الحق بعد الإعراض عنه، التوبة فعل الواجب الذي تركته يا عبد الله، التوبة هي أن تتخلى عما حرم الله بعد أن لامسته ولامسته، الرجعة هي التوبة، من تاب يتوب فلان إذا رجع إلى أمره أو بلده أو عمله، فهو تائب. إِنَّمَا التَّوْبَةُ [النساء:17] بصيغة الحصر إِنَّمَا التَّوْبَةُ [النساء:17] مقصورة، التوبة التي هي على الله، وهل هناك من يوجب على الله شيئاً؟ لا أبداً، مستحيل؛ إذ الخلق كلهم ملكه وفي يده من يكون أقوى من الله حتى يوجب عليه أمراً؟ لا أحد؛ إذ لا إله إلا الله، وإنما هو يتبرع، ويعد وينجز ما وعد، فيجعل لك حقاً على نفسه يا عبده.ووعد الله لا يتخلف لمن عمل سوءاً بجهالة ثم تاب من قريب يقبل الله توبته ويتوب عليه. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17]. ما السوء هذا؟ السوء ما يسوء إليك أو يسوء إلى غيرك، فقد تعمل سوءاً تؤذي غيرك به، وتؤذي نفسك أيضاً.ما الذي يسوؤنا؟ ترك الأحكام الشرعية تسوء، ترك الصلاة، منع الزكاة، عقوق الوالدين، ترك الغسل من الجنابة، السب للمؤمنين، الشتم، قتلهم، سفك دمائهم.. ماذا نقول؟ كل معصية تسوء، وتحدث المساءة والسيئة في نفسك، بعد ما كانت النفس نقية طاهرة تصبح عفنة منتنة.أعيد القول: فأقول: السيئات: كل من ترك واجباً أوجبه الله، أو فعل منهياً نهى الله عنه إلا والله لهو السوء، ويحدث ذلك سوء غُرمة وعفناً في نفس العبد، ولا يزول ذلك إلا التوبة الصادقة. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17] أولاً: بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، أما من يقول: أنت نبي الله ولعنة الله عليك، هذا لا يتاب عليه، من يعلم أن هذه الصلاة فريضة الله وتركها فقد كفر ..يسخر ويتركها؟ هذا ما هو أهل لأن يتوب الله عليه، التوبة التي هي حق على الله أوجبها على نفسه لأوليائه المؤمنين: أن يفعل المعصية بنوع من الجهالة، إما جهلاً: بأن هذا واجب أو بأن هذا حرام، يحدث مؤمن يصلي يزكي، ما يعرف هذا العمل حلال أو حرام فيفعله بدون إذن، هذا نوع من الجهالة، كأن يقول: الله يغفر لي، والله يتوب علي، أو إن شاء الله أتوب. هذا فيه نوع من الجهالة وعدم البصيرة والعلم، وإلا ما يفعل المؤمن معصية على عمد، ويقول: سيغفرها الله لي، دعني أفعلها والله غفور رحيم.من أنواع الجهالة أيضاً: أن العدو إبليس يثير شهوته ويدفعه، وفي تلك الحال نسي الله ونسي المعصية ونسي الإثم، حتى وقع فيها، أو لشدة الغضب يلعن يسب، وبعدها يتراجع.هذه أنواع الجهالات؛ لأن الله تعالى قال: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، أما مع العلم وعدم الغضب، وعدم غريزة دافعة، وهو على بصيرة، ويتعدى حدود الله؛ مثل هذا لا يتاب عليه، وقد عرفنا كثيرين ممن فسقوا على علم، وحاربوا هذا الدين ما ماتوا إلا على كفرهم وضلالهم.إنما التوبة على الله واجبة أوجبها على نفسه تبرعاً منه وإحساناً لأوليائه لمن؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17].
معنى قوله تعالى: (ثم يتوبون من قريب)
يقول الله تعالى بعد ذلك: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17].إذاً: ثانياً: يتوبون من قريب.إياكم أن تفوتكم هذه المعلومة: أولاً: يقدم على الجريمة بجهالة، ثانياً: أن يتوب من قريب، بمجرد ما تذهب تلك الصورة كأنما أفاق من نومه: أستغفر الله وأتوب إليه.. أستغفر الله وأتوب إليه، على الفور يمحى ذلك الأثر يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] من القائل؟ الله أو لا؟ فلهذا يقول أهل ملة الإسلام: التوبة تجب على الفور، ولن تجد من يقول: يجوز أن يؤخر توبته إلى يوم الجمعة وهو في يوم الخميس، أو يؤخر توبته إلى أن يعتمر، أو حتى يعود إلى أهله، والله ما يوجد إجماع، التوبة على الفور.زلت القدم سقط أفاق وقام ومشى، وما سر ذلك؟ سر ذلك أن المرء رجل أو امرأة إذا فعل المعصية من كبائر الذنوب بترك واجب أو فعل حرام، ثم واصل ذلك يوماً بعد يوم، شهراً بعد آخر، عاماً بعد عام، قد تأتي ساعة إذا قلت له تب إلى الله يسخر منك، وهذا مجرب ومشاهد، الذي يستمر على معصية يوماً بعد يوم بعد يوم وتصبح طبعاً من طباعه وسجية من سجاياه، وخليقة من أخلاقه، ويصعب عليه أن يتركه، هذا توجيه العليم الحكيم.لم يقول: يتوبون من قريب؟ من بعيد قد لا يتوب الله عليهم؛ لأن الخطايا تحوط بنفوسهم، ثم لا يبقى مجال للتوبة منها، واسمع البيان النبوي الشريف، يقول: ( إن العبد إذا أذنب ذنباً ) أي: عمل وقال ما يؤاخذ به من ذنبه ويعاقب، وقع على قلبه نكتة سوداء، فإن تاب على الفور واستغفر وندم صقل ومسح، وإن لم يتب وزاد الذنب الثاني إلى جنب الأول وما تاب، وزاد الثالث والرابع.. يتغطى القلب بذلكم الران الذي قال الله تعالى فيه: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] انتهى أمرهم، وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81] إذا أحاطت الخطايا بالقلب ما بقي مجال لأن يقبل الحق أو يسمع صوته، أو يتوب إلى ربه ويقلع عن معصيته، انتهى أمره.والمثال الذي كررناه لو كنا نذكر: المرض، يبتدر أحدنا -واللهم عافنا- فإن عاجل العلاج وذهب إلى الطبيب بإذن الله تعالى يشفى، فإن استمر على عدم العلاج؛ فإن المرض ينخر في جسمه وترتفع نسبته، ويأتي إلى الطبيب فيقول له: مع الأسف فات الحال، ما بقي مجال لعلاجك أيضاً، انتشر هذا الداء.وهذا أمر معلوم في العالم بأسره، يقول: آه! لم يبق للدواء مجال، انتشر الداء في هذا الجسم، كالسرطان وغيره عافانا الله وإياكم منه، هذه مادية أو لا؟ محسوسة، فالذي يعتاد جريمة، وآسف أن أقول: إنها اللواط، هذه ثبت عند أولي البصائر أن من تعاطاها لا يقوى على أن يتوب منها، وأقرب ما عندنا بالمشاهدة الدخان والشيشة والحشيش، الذي يتعاطاها في العام الأول يمكن أن يتوب، والذي يستمر خمسين عاماً وهو يشيش ما يتوب، إن فرضنا أن واحداً في العرب ما ينفع، هذه القضية معروفة بحسب سجايا البشر وطباعهم، الذي يتعود فقط الكذب يصعب عليه أن يتوب منه، ما يستريح حتى يكذب، الذي يعتاد خلف الوعد ويتمرن عليه، يصبح مهما كان يتلذذ بخلف الوعد.خلاصة القول معاشر المستمعين والمستمعات: إننا نتطهر، نتطيب، نتزكى من أجل أن نرقى إلى الملكوت الأعلى، فلا تلوموننا، لا تقولوا: اليابان، والصين، والأمريكان.. هذا لأولئك الذين يريدون أن ينتقلوا من عالم الأرض إلى عالم السماء، فلا بد إذاً من الطهارة الكاملة حتى يصبحوا كالملائكة في طهارة أرواحهم، فلا لوم ولا عتاب، الكلمة الباطلة حرام تحمل إثماً ودماراً للنفس، النظرة المحرمة كذلك، إخراج اللسان تخرج من مؤمن يهبط بروحك ويلوثها فضلاً عن كبائر الذنوب والآثام.كل ما في الأمر أنك تستعين بربك على مجاهدة هواك وشهوتك ودنياك وعدوك إبليس، مستعيناً بالله، فإن زلت القدم ووقعت على المعصية إياك أن تبيت عليها، على الفور قم وأنت تصرخ: أستغفر الله.. أستغفر الله وأتوب إليه.أذكركم بحادثة التمار، أين أبو عبد العزيز؟ أنت تعرف التمارين، التمار عندنا بائع التمر في السوق، جاءت مؤمنة تشتري تمراً لأولادها؛ لأن زوجها في غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم.دخلت السوق ما عندها من يشتري لها الطعام، فجاءت متحزبة مستترة، وأخرجت يدها فيها الدرهم، ما عندها قفاز ما تملكه، ما إن رأى التمار بياض اليد حتى دفعته الشهوة دفعاً فأكب على كفها يقبله، ما إن جذبت يدها وقالت: أما تتقي الله؟ حتى أخذته الرعدة، وانتفض ومشى من هذا السوق والله وهو يحثو التراب على رأسه، ويبكي ويصرخ ويستغفر الله، ثم عاد فجاء المغرب فدخل الرسول في الروضة، أولاً تكلم عمر فزجره، وانتظر حتى صلى النبي صلى الله عليه وسلم المغرب، فبكى على مصيبته، فقال: هل حضرت الصلاة معنا؟ قال: نعم، قال: إن الحسنات يذهبن السيئات.عرفتم كيف تكون التوبة؟ فقد شعوره، مشى في الشوارع يصرخ ويحثو التراب على رأسه، أما أن يباشر العبد الذنب ويعاوده ويعاوده.. ويأتي في فصوله وأوقاته، هذا قل من يتوب من هذا النوع، لقد بلغنا -إن صح كلام إخواننا- أن من هذا النوع من يقولون: لا إله إلا الله وهو يغني، يذكرون له لا إله إلا الله وهو يغني في أغنية عاهرة حتى مات على ذلك.الآن عزمنا إن شاء الله على التوبة؟ نعم يا شيخ من قبل، لكن ازددنا عزماً لا أقل ولا أكثر إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] ما معنى على الله؟ أوجبها على نفسه لنا، ولكن من هم الذين أوجب على نفسه التوبة لهم؟ الذين يعملون السوء بجهالة، ما هو علماً وعمداً وتحد لهذا الدين وهذه الأمة، هؤلاء لن يتاب عليهم وما تابوا، نوع من الجهالة ما عرفوا الحكم غمض الشيطان عينيه، كذا قال أتوب، قال كذا .. قال العالم الفلاني يعمل في كذا وكذا، يجد سحائب دخان تغشيه فيفعل الجريمة. ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] كم نسبة القرب، بعد يوم.. يومين.. عشرة؟ الله أعلم، كل ما في الأمر أن من واصل جريمة ومشى وراءه اليوم بعد اليوم، إن طالت المدة العام والأعوام قل من يتوب ويرجع، وقد حذرنا الله من هذا، فقال المسلمون: التوبة واجبة على الفور، ما فيه حتى ينتهي رمضان، ما فيه حتى أتزوج، ما فيه حتى نعود إلى بلادنا، لا وجود لهذا، زلت القدم فعلت السوء .. أستغفر الله وأتوب إليه.هل عرفتم أركان التوبة؟أولاً: الإقلاع، أن يقلع عن الذنب على الفور، هذا أولاً.ثانياً: الندم الذي يحصل به ألم، ما هو ندم كأنما فاتك غداء أو عشاء، ندم كأنما مات ولدك أو أباك.ثالثاً: التصميم والعزم ألا نعود لهذا الذنب وإن حرقنا وإن صلبنا وإن قطعنا.إذاً شروط التوبة هي: أولاً: ترك الذنب والإقلاع عنه والبعد عنه.ثانياً: الندم المؤلم، وإن من أصحاب التوبة من أذنب منذ خمسين سنة، وكلما ذكر ذلك الذنب استغفر الله وتاب إليه، واقرءوا لذلك من سورة (ق) يا أهل القرآن: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق:32] ما معنى أواب؟ تواب، رجاع، ما معنى حفيظ؟ ما ينسى ذنبه، كلما ذكر ذلك الذنب: أستغفر الله.. أستغفر الله، وإن كان تاب منه من أربعين عام أو خمسين سنة، هذا الأواب الحفيظ، تريدون أن تكونوا أوابين حافظين؟ باسم الله، باب الله مفتوح، ما منا معصوم، فإذا زلت القدم في يوم من الأيام وقلت معصية أو فعلتها كلما ذكرت تقول: أستغفر الله.. أستغفر الله وأتوب إليه. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] لا يستطيع أحد أن يحدد لك القرب بعام عامين بعشرين، كل ما يجب أن تعلم: أن العبد إذا استمر على ذنب قد يأتي وقت ما يستطيع تركه، ويموت عليه، هذا واضح، ومثاله المرض.
معنى قوله تعالى: (فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً)
ثم قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:17] أبشروا هذا خبر الله؛ فأولئك التائبون من قريب العاملون للسوء بجهالة هؤلاء يتوب الله عليهم، أي يقبل توبتهم ويهديهم إليها ويوفقهم إلى طلبها وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17] انتبه! لو كان ما يعلم، يعلم توبة إبراهيم وعثمان ما يدريها، يعلم توبة من كبيرة وذنوب وأخرى ما يدريها، ما يصلح لنا هذا ما نستفيد؟ لكنه عليم بالبواطن والظواهر والماضي والآتي والحاضر، لا يخفى عليه من الكون شيء، عليم بالخواطر والنيات فضلاً عن الحركات والسكنات.حكيم، تعرفون الحكيم؟ ذاك الذي يضع الشيء في موضعه، فعبد رغب فيه وهابه وخاف منه وقرع بابه: تب علي، حاشاه تعالى أن يقول: اذهب لا نتوب عليك.
معنى قوله تعالى: (وليست التوبة للذين يموتون وهم كفار ...)
اسمع نهاية البيان: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ [النساء:18] هذا النفي ككلام العوام، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18] لا توبة لهم، لا يقبلها الله ولا يوفقون لها، ولا يتوبون.وتعرفون الزعيم فرعون الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] ما كأنه تجول في العوالم، قال: ما وجدت إلهاً إلا أنا، كذب لعنة الله عليه، أخذه الله نكال الآخرة والأولى، فرعون لما خرج موسى ببني إسرائيل من البحر، ودخل فرعون برجاله وجيوشه، وأطبق الله عليهم البحر، فلما نجا موسى وبنو إسرائيل أطبق الله البحر على الزعيم فرعون وبقي على فرسه، فلما وصل الماء وغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90] آمنت وما عرف لا إله إلا الله؛ لأنه كان يكرهها، فلهذا بحث كيف يقول، فقال: آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل، من هو؟ فرد الرحمن عليه بقوله: آلآنَ [يونس:91] هذا وقت التوبة؟ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91] من المفسدين: أصحاب السيئات، شارب الخمر مفسد أو لا؟ الزاني مفسد أو لا؟ الذي يشرك بربه أصناماً وأحجاراً وقبوراً مفسد أو لا؟ وهكذا. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لا بروحك لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:92] إي والله يا رب، كثير من الناس عن آيات الله لغافلون، ما يفكرون فيها! وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [النساء:18] جمع سيئة، ما يشير إلى النفس بالسيئة والظلمة والخبث والعياذ بالله، حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [النساء:18] شاهد ملك الموت، شاهد أعوانه، حشرجت قَالَ إِنِّي تُبْتُ [النساء:18] انتهى أمر التوبة. قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18] هذه التوبة مردودة.ثانية أخرى: الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:18] يهود، نصارى، بوذى، مجوس مشركون عندما يأتي ملك الموت ويشاهد يعلن عن توبته، عرفتم؟ ما من يهودي ولا نصراني يموت إلا ويعرف الحق عند موته، واقرءوا آية النساء: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] يعرف أن عيسى عبد الله ورسوله، ما هو ابن زنا ولا ساحر، والنصارى يعرفون أنه عبد الله ورسوله، ما هو بإله ولا ابن الله، لكن هل ينفع الآن التوبة؟ أُوْلَئِكَ البعداء أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:18] يبتدئهم من ساعة معالجة إخراج أنفسهم من أجسادهم، ويستمر العذاب للأرواح إلى أن تقوم الساعة، ويخلق الله الأرواح من جديد، ويدخل بها ويواصلون عذاباً أبدياً لا ينتهي، والعياذ بالله.الحمد لله أننا مؤمنون.. الحمد لله أننا مؤمنون.. الحمد لله أننا مؤمنون.إن ملايين البشر من الصين والشرق والغرب آيسون يأساً كاملاً لا يرون ربهم ولا يسعدون بلقاه، ولا ينعمون في جنات عدن ودار السلام، فلهذا لو نحمد الله طول الليل والنهار، على نعمة أننا مسلمون في إمكاننا أن نتوب.معاشر المستمعين أعيد تلاوة الآيتين، قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:17-18].وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-21, 04:05 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (6)
الحلقة (230)
تفسير سورة النساء (14)


وجه الشرع الحكيم إلى حسن المعاملة بين الأزواج، وشدد على الزوج في معاملته لزوجته لأنه صاحب القوامة عليها، وهو الغالب عليها في جميع الأحوال، فحرم الله عليه فعل الجاهلية من توريث النساء لورثة الميت من الرجال، كما حرم عليه سبحانه أن يضيق على امرأته ويؤذيها ليضطرها إلى افتداء نفسها منه بالمهر، وإذا أحب أن يتزوج عليها أو يطلقها فلا يحل له أن يأخذ شيئاً من مالها قليلاً أم كثيراً.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ...)
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين- من يوم الأحد ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم يا رب العالمين!ما زلنا مع سورة النساء، وها نحن مع ثلاث آيات، هيا نتلوها، ونتدبرها، ونتفكر فيها، ثم نشرحها ونضع أيدينا على المطلوب منها، وكلنا عزم وتصميم -والله العظيم- على أن نطبق هذا، والذي لا يريد هذا لا مقام له بيننا.يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا * وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:19-21].آمنا بالله، هذا قرآن أم ماذا؟هذا القرآن يقرأ على الموتى، كيف يعقل هذا؟ ونجادل، أنزل هذا ليقرأ على الموتى؟ هذا دستور ما اكتحلت عين الوجود بمثله قط، هذا سبيل العزة والكرامة والسلامة والنجاة والنعيم المقيم في دار السلام، ما يقرأ على الموتى، أمثل هذا يهجر ويترك ويهمل؟ إن أمرنا عجب، وحالنا تنبئ عن حالنا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا * وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:19-21].صدق إخواننا الجن عندما قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1] والله عجب، أو لا؟
معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً)
أولاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:19] بم؟ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، وبالقرآن هادياً ونوراً، بعبارة موجزة: يا أيها الأحياء! أما الأموات فلا ينادون، أتنادون الميت؟ يسمع؟ يجيب؟ هذا عبث إذا نادينا ميتاً.إذاً ما معنى هذا يا شيخ؟معناه أن الإيمان الصحيح، الإيمان الحق الذي إن عرضته على القرآن وافق وصدق عليه، هذا الإيمان بمثابة الروح سواء بسواء، صاحبه حي وفاقده ميت، ماذا ترون؟ تشكون؟لا والله. هذا الروح إن أصابه ضعف أو نقص أو مرض صاحبه يتجلى ذلك في سلوكه، في منطقه، في حركته، في حياته مريض، فإن فقده مات؛ فلا بد من أن يكون الإيمان سليماً صحيحاً إن عرضته على القرآن وافق عليه، إن عرضته على أهل القرآن وافقوا، فإن قالوا: إيمانك ناقص، إيمانك ضعيف فاسد، عالج قبل أن تنتهي.الآن نادى الله الأحياء أو الأموات؟نادى الأحياء. يا من آمنتم اليوم وبالأمس كنتم كفرة أمواتاً تتخبطون في ظلمات الحياة والجهل، أما وقد آمنتم وحييتم اسمعوا ما يقول المولى تعالى لكم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19] هذا جزء من هذه الأحكام الأربعة.هذا الحمد لله نجونا منه، وإن بقيت آثاره في ظلمات الجهل والجهلة في الشرق والغرب، لكنها نادرة.حقيقة هذا: أن العرب في الجاهلية قبل نزول هذا الكتاب، قبل بعثة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، كان الرجل يرث امرأة أبيه، فالرجل إذا تزوج أباه وأنجبت له المرأة أولاداً، أو لم تنجب، فهذا ابن الرجل من غيرها يرث امرأة أبيه كما تورث الأموال والعروض، إن شاء زوجها وأخذ مهراً، وإن شاء أبقاها، وإن شاء تزوجها، بمعنى أنه ورثها كسائر الأموال، وانتشرت أيضاً هذه العادة الجاهلية حتى الأخ يرث أيضاً امرأة أخيه إذا كانت ليس لها ولد فهو أحق بها، إن شاء زوجها، وإن شاء استخدمها أو طلب منها مالاً وأطلقها.فأبطل الله هذه العادة الجاهلية وهذا القانون الجاهلي الذي أوحاه الشيطان وأملاه على أهل الشرك والكفر.اسمع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19] هذا كره أو لا؟ بالقوة، بالهراوة آتي لامرأة أبي: أنا أزوجك وآخذ المهر، هذا أولاً.
معنى قوله تعالى: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ...)
وثانياً: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19] العضل مأخوذ من العضلات، والداء العضال ما ينفك صاحبه منه، بمعنى: لا يحل للرجل الذي تحته زوجة أن يؤذيها ويضايقها ويؤلمها، حتى تفتدي منه بالمهر الذي دفعه أو بأكثر منه أو أقل، هذا قد يوجد عند الغافلين والجاهلين، ما تعجبه زليخة دميمة الوجه، سليطة اللسان، فقير أهلها، فماذا يصنع؟ يأخذ في مضايقتها والضغط عليها، يعبس، يقطب، ما يبتسم في وجهها، ما.. ما.. حتى تمل الحياة معه ... تريدين الطلاق؟ أعطيني كذا وأطلقك، وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19].قال: (لتذهبوا ببعض)؛ إذ من الجائز ألا تعطيه كل ما أخذ، لكن حتى البعض ما يجوز، ولا ريالاً واحداً.. حرام، وليس فقط كل المهر، أنت استبحت فرجها بذاك الريال كيف تأخذ منه وتسترده؟ بأي حق؟ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19] وقرئ مبيَّنة واضحة، فإذا أتت المرأة بفاحشة أعلى الفواحش الزنا، وكالزنا السحاق، تعرفون السحاق؟ المرأة تعلو المرأة وتتلذذ بالاتصال بها، هذا يعرف بالسحاق، وهو محرم كالزنا.إذاً فاحشة أعلاها الزنا والسحاق، ودون ذلك سلاطة اللسان، انتبهتم؟ أذية الزوج، المكر به، الاتصالات بغيره، فإذا ثبت عندك يقيناً أنها ارتكبت الفاحشة الكبرى أو دونها، ما أصبحت أهلاً للبقاء في بيتك، في هذه الحال لك أن تضايقها فإن تبرمت وتململت فقل لها: أعطني كذا وأطلق سراحك.واضع هذا القانون هو رب النساء والرجال، الرجال عبيده والنساء إماؤه، فهو أرحم بهم والله من أنفسهم، فلا يشرع لهم إلا ما فيه خيرهم وصيانتهم، فلا دخل لنا في هذا، لا تقل: لم؟ انتبه. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19] وهذه هي قضية الخلع.الخلع: أن يخلع الرجل المرأة وتخلعه بعد أن كانت مرتبطة به. الخلع إذا هذه المرأة ما أطاقت البقاء في هذا البيت، كرهت هذا الفحل، أصبحت ما تطيقه، هو ما آذاها، ولكن خلقها، نفسها، تطلعها.. خرجت مرة على النافذة شاهدت رجلاً أبيض قالت: نريد مثله، ما نريد هذا الشخص، والشيطان يملي، وهذا هو السر أو من أسرار منع النساء من الشوارع والطرقات، ولكن الأموات لا يفهمون هذا؛ لأن المرأة إذا كانت تتبرج بوجهها وتمشي في الشوارع، وزوجها دميم الخلقة أعمش، ترجع البيت كارهة له، وتبدأ تتطلع: لم أنا محبوسة مع هذا العفن، والرجل كذلك زوجته أم أولاده مستورة محجوبة، لا يرى من النساء إلا هي، كأنها حوراء، فلما يخرج إلى الشوارع والدكاكين والأعمال والأسواق يشاهد الحسناوات الجميلات.. إيه، أنا ماذا أصابني، لماذا أنا مربوط مع هذه الحية؟ فيأخذ في المكر والتضليل والطلاق والخداع، إن لم يكن للطلاق إلا هذا السر والله لكفى؛ لأنه دعامة المجتمع والخلق والدين.وهل فهم الناس هذا؟ ما فهموا؛ لأنهم يسمعون فقط عن الموتى من اليهود والنصارى يقبحون لهم الحجاب وتعدد الزوجات و.. و.. ويمدون أعناقهم؛ لأنهم جهلة، ما عرفوا الطريق إلى الله بعد.ولا لوم، من علمهم؟ هل قرعوا أبواب العلماء وطلبوا العلم؟ لا. إذاً ما نرجو لهم؟ هذه المحن وهذه الإحن، وهذا السقوط والهبوط.كيف نأخذ عن الأموات قوانين وشرائع وآداب وأخلاق؟ أموات، تأخذ عن الميت أنت؟ الأعمى فقط لو تمشي وراءه يضلك.وهذا أبو القاسم بالأمس كان في فرنسا وأطلعني على حادثة، وهي: أن البلديات الكبرى في فرنسا في مدنها يتنافسون في الحصول على عقد النكاح بين الذكر والذكر، وهذا بالنسبة لبريطانيا ماض، أهذه أمة حية هذه؟ هذه أمة نأخذ عنها العلم والمعرفة؟ نثق فيما تقول وما تملي علينا؟آه.. ماذا أصابنا؟ أعرضنا عن كتاب الله هجرناه وسيقول الرسول: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30] ولم يهجره قرأه ليقرأ على الموتى.
معنى قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف ...)
ثالثاً: يقول تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] أين الذين يتبجحون بحقوق المرأة، ألا لعنة الله عليهم، أموات شر من القردة والخنازير، بقضاء الرب تعالى وحكمه عليهم، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] من قال هذا؟ خالق الخلق.. شر الخليقة! ونمشي وراءهم ونستمع إلى تعاليمهم، ونأخذ بها ونطبقها.وعاشروه أيها الفحول، عاشروا أزواجكم بالمعروف، المعروف: العدل، القسمة الحقة، الصبر، الحلم، الابتسامة الطيبة، الكلمة الرحيمة، المعاملة الحسنة.. هذه أختك قبل كل شيء، وأختك مرة أخرى في دينك وإسلامك، ثم أم أولادك وزوجتك، كيف تؤذيها؟ والله يسبونهن ويشتمونهن ويعيرونهن، ويقبحون لهن.. لعلي واهم؟والضرب والطلاق كأنها حيوانات، أبهذا نزل القرآن؟ ما معنى هذا الأمر؟ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] ضد المنكر، العدل والرحمة والإخاء والتعاون والمودة، ما تصبح المرأة كأنها سجينة في بيتك، لا تلقاها إلا بوجه قطب مقطب! وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ [النساء:19] لدمامة الوجه، لمرض، لعدم قدرة، لجهالة، وكرهتها اصبر على ذلك ولا تنزعج أبداً، واصبر في يوم من الأيام تصبح أحسن النساء وأكملهن.قال تعالى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19] عامة هذه، كم من إنسان يكره وظيفته، وإذا به بعد أعوام يتبين له أنها أحسن وظيفة، كم من إنسان يكره تجارة بدأها وما يصبر ويصبر وتصبح أحسن حال، كم من إنسان تكون له زوجة ويتضايق وكذا ويصبر، وإذا بها أحسن ما يكون من النساء، هذا وعد الله أو لا؟ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19] ممكن هذا رجل لما كانت الوظيفة وافية والمال متوفراً كان يتعنتر عليها، ويريد أن يطلقها، ثم يلهم الصبر فيصبر فيزول ذلك الغنى ويصبح في حالة ناقصة، فيجد تلك المرأة تؤانسه وتواسيه وتحسن إليه، وتحول شقاءه إلى راحة ونقمته إلى نعمة، أو تلد له أولاداً ويجد في الأيام عضداً له وساعداً ويقول: أبي اجلس وأنا أعمل، وأنت اعبد الله فقط.ومعنى هذا: ليس من شأننا أن كل من يكره من امرأته شيئاً يطلق، ويضايق حتى يطلقها ويأخذ منها، والرسول الحبيب يقول: ( لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر ) لا يكره مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً -رفع صوتها- يرضى منها خلق آخر، كره منها التبذير، قد يفرح بالعمل والنشاط اليومي، ( لا يفرك مؤمن مؤمنة ) أي لا يبغضها ولا يغضب عليها، لم؟ قال: ( إن كره منها خلقاً ) من أخلاقها مثلاً ( رضي منها بخلق آخر ) هذه تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم مشتقة من قول الله تعالى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]. مرة ثانية: أولاً: هذا النداء الإلهي الكريم لعباده المؤمنين، نادانا به ليحرم علينا إرث نسائنا، كيف إرث نسائنا حرام؟ لا. هذا نزل والجهل حاكم وسائد، وهو: أن الرجل إذا مات والده أو مات أخاه، أو مات ابنه، يرث امرأته، كيف يرثها؟ يستخدمها، يبيعها، يتزوجها.. هذا محاه الإسلام وانتهى، ولن يعود. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19].ثانياً: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19] لا تضايق المؤمنة مضايقة حتى تمل من وجودك وتطالب بالطلاق وتقول: لا أطلقك حتى تعطيني كذا وكذا، انتبهتم لهذه أو لا؟يقول تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19].اللهم إلا أن يأتين بفاحشة مبينة واضحة مبينة كاشفة للستار، ما فيها جدال ولا شك، في هذه الحال لك أن تطلقها وتأخذ منها ما شئت من مالها، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19] أعلاها الزنا والسحاق، ودون ذلك الاتصال بالرجال كذا كذا.. خيانات منكرة.ثالثاً: قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] أي: عاشروا نساءكم أيها الرجال بالمعروف لا بالمنكر، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ [النساء:19] لأمر ما: ذمامة في الوجه، قصر في الذات، عجم في اللسان، صوت صليط ومرفوع فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19] اصبر على هذه المؤمنة، لا تطلقها ولا تفارقها، اصبر على مرضها، اصبر على لسانها، شيئاً فشيئاً عسى أن يتحول ذلك إلى خير كثير.
تفسير قوله تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ...)
يقول تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ [النساء:20].تزوجت زليخة ثم بدا لك أن تطلقها وتتزوج غيرها، ما دام المال متوفراً وأنت في خير أردت أن تستبدلها، ماذا تصنع؟ تضايقها؟ تضغط عليها حتى تملك وتقول: اتركني وأعطيك كذا؟ لا لا.. لا يحل أبداً، فقط تقول: إن شئتِ بقيتِ في بيتك وأريد أن أتزوج، تأذنين؟ البيت بيتك وأنت أنت وأنا أخوك، ولكن أردت أن أتزوج.في هذه الحال إذا قالت: طلقني، وتزوج، طلقها ولا تأخذ من مهرها شيئاً ولو كننت قد مهرتها قنطاراً لا تأخذ منه جراماً واحداً، وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ [النساء:20] بالهاء محذوفة لأن الأصل زوج بدون هاء، لماذا؟ لأنها أصبحت بك زوج، وبها أصبحت أنت زوج، فأنتما جنس واحد، عجب!هل أن ترضى أن تضر جسمك؟ هذا نصفي، لا إله إلا الله.ما كنت زوجاً أنت والله إلا بها، ولا كانت هي زوجة إلا بك، أنتما شيء واحد، كيف إذاً تؤذيها أو تؤذيك؟ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النساء:20] التعبير بالقنطار فيه ما يفهم أنه يجوز رفع المهور إلى القناطير، انتبهتم؟ مائة كيلو فضة، لكن ليس هذا هو المطلوب، من باب إن أعطيت قنطاراً، ما فيه أن نعطي قنطاراً، على فرض إن أعطيتها قنطاراً لا تأخذ منه جراماً واحداً، أعطها مهرها كاملاً وسرحها وطلقها. وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا [النساء:20]، وهنا لا ننسى أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في المهر القليل: ( أكثر النساء بركة أقلهن مهوراً )، ( أيسرهن مئونة )، كلما كان المهر قليلاً كانت العاقبة أحسن، كلما كان المهر أكثر كانت العاقبة أسوأ، وهذا واقع ملموس ما يختلف، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النساء:20].ثم قال: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:20].هذا الاستفهام للإنكار: (أتأخذونه بهتاناً) كيف بهتاناً؟ لأنك بهتها: هاه أنت تتصلين بفلان، أنا شاهدتك كذا، أنا سمعت شريط في كذا، يكذب عليها يبهتها، ماذا تصنع هي؟ هيا اذهبي عني أعطيني كذا، هذا بهتان وإثم مبين، أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:20]. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ [النساء:21].دلوني. وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [النساء:21].أفضى الرجل إلى المرأة والمرأة إلى الرجل كالجسم الواحد، كتلة واحدة من اللحم، أمع هذا الالتصاق وهذا الالتحام تكذب عليها وتفتري وتتهمها بالفاحشة الباطلة من أجل أن تطلقها وتأخذ منها شيئاً من مهرها؟! آمنا بالله، القائل هذا هو خالق العقول وإلا لا، وغارز الغرائز وإلا لا؟ إذاً فلا يخطر ببالك أن يكون شيئاً من هذا غير واقع. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21].أخذ الأزواج من أزواجهن العهد والميثاق وهو العقد، ما هو عقد بالمحكمة وإلا لا؟ ومن جملة العقد: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، زوجني يا فلان ابنتك فلانة، تقول: زوجتكها على مهر قدره كذا إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، إما أن تمسكها بالمعروف الذي أمر الله، وإما أن تسرحها بإحسان، ما هو بالسب والشتم والتعيير، أو بالتهم وأخذ المال، فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، تسريح من الراحة وإلا لا؟ إن كنت تعبت منها، أو تعبت منك استريحا .. استرح أنت وتستريح هي. إذاً: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا [النساء:21] هذا العقد وإلا لا؟ من مواد العقد: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] وافقت على هذا أنت ووقعت، لم تخون إذاً؟
المهر حق للمرأة بكامله بمجرد الدخول بها والإفضاء إليها
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21].معاشر المستمعين! هيا نتلو الآيات بالتأني بدون تجويد، بعض طلبة العلم يقولون: هذا الشيخ ما يجود، نحن نريد أن نفهم كلام الله عز وجل بدون غنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:19] يدخل في هذا اليهود والنصارى والمجوس؟ لا. بل المقصود فقط المؤمنون الأحياء الذين شرفهم الله بالإيمان فناداهم فزادهم في شرفهم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:19] نقول: لبيك اللهم لبيك، مر نفعل وانه ننته. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19].امرأة أبيك إذا مات والدك تعتد في بيتها، وإذا انتهت عدتها تأخذ مالها إن كان لها مال، تأخذ بقية مهر إن كان لها بقية، تأخذ حصتها من الإرث، ترث الزوج لأنها زوجته. بهذا أمرنا الله عز وجل، أما أن تحبسها وتقول: أنت زوجة أخي ومات أو أبي أنا أزوجك وآخذ المال الذي دفعه أبي، لا هذا عصر الظلمات، ظلمات الجهل وإلا لا؟ إن ظلماتنا اليوم والله لأعظم من تلك الظلمات، أبعد أن يعقدوا للذكر على الذكر في المحكمة بقي شيء؟ مسخ وسوف تنزل بهم، أين الله؟ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14]، وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ [الرعد:31]، ولعل حرباً ذرية تقضي على وجودهم، موجودة الذرة وإلا لا؟ محتفظون بها وإلا لا؟ لأمر أراده الله، علمنا الله إذا كثر الخبث وهبطت ينسفها الله. وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19].ماذا فهمتم من هذه الجملة؟ ما معنى: (ولا تعضلوهن)؟ العضل ما هو؟ الحبس: لا تخرجي ولا أطلقك حتى تعطيني ما في يديك ورجليك من الذهب، أو حتى تتنازلي عن بقية المهر، يجوز هذا؟ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19]، اللهم إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19] لا غبار عليها ولا شك، فهنا تعاقب بأن تسترد بعض المهر والمهر كامل ويطلقها؛ لأنها ارتكبت فاحشة ما يبقيها الزوج في بيته، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19] أي: ظاهرة واضحة.ثم قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19].أيها الفحول! أيها الرجال! عاشروا النساء المؤمنات بالمعروف، عاشرها وهي تعاشرك، ولو كانت لفظة أخرى ما تدل على المعاشرة بين اثنين، هي تعاشرك وأنت تعاشرها وتتم العشرة والسلامة بينكما، وَعَاشِرُوهُنَّ [النساء:19] بماذا؟ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، المعروف ما عرفه الله من الحق.. من العدل.. من الإحسان، بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ [النساء:19].لأمر ما اصبر، اصبر ما تطلق، اذكر الله، حاول أن تصلح مما رأيت من المكروه كذا وإلا لا؟ لم؟ عسى أن تكره شيئاً وفيه خير لك، إذا كنت لا تعلم الغيب.ومعنى هذا: أن الله عز وجل يدعو عباده المؤمنين من أمثالنا إذا شاهدوا شيئاً في المرأة أن يصبروا، لا يعالج بالطلاق: أنت طالق اذهبي، قد يطلق وهو لا يجد مثلها ويندم، إذاً: ما دام كره منها خلقاً في أخلاقها ما يرضيه ، لكلمة الرسول الخالدة: ( لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر )، وقد بينا إذا صبر عليها قد يرزقه الله منها أولاداً يسعدونه طول حياته ويدخلونه الجنة بدعائهم وصلاتهم وحجهم واعتمارهم، صبر، هذا الذي أراد أن يطلق لما شعر بالغنى والمال قد يسلب منه في يوم من الأيام ويصبح فقيراً وتحتضنه هي وتتحمل معه، قد يمرض ويلصق بالأرض فيجدها هي التي تعالجه وهي التي تمرضه، هذا تعليم سيدنا ومولانا الذي يحبنا فيشرع لنا هذه الهداية، ومع الأسف جهلناها وعدلنا عنها.ثم قال تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ [النساء:20].على فرض. وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ [النساء:20].هذا يقع وإلا لا؟ فماذا تصنع؟ وَآتَيْتُمْ [النساء:20].الزوجة التي أردت أن تطلقها وأن تأتي بأخرى، آتيتها قنطاراً من الذهب أو الفضة فاحذر أن تأخذ منه شيئاً، أردت أن أتزوج ما رضيت بالزوجة: اذهبي إلى أهلك وخذي بضاعتك.. سلعتك.. دينك.. أموالك، وأستودعك الله وأنا أتزوج، حسن هذا. أما التقبيح والتعيير والشتم والتعالي والدفع.. و... و...، هذا لا يتم أبداً.إذاً: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ [النساء:20] أعطيتم، إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النساء:20] وإن قلَّ.ثم يقول: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:20].وأنتم أولياء الله وعباده الصالحون، كيف تكذبون عليها وتبهتوها بالأقوال الباطلة: فعلت كذا وعملت كذا، من أجل أن تختلع منك؟ كيف تفعلون هذا؟ ما يليق بك. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ [النساء:21].سبحان الله العظيم! وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ [النساء:21] دلونا بينوا لنا. وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [النساء:21].تعرفون الإفضاء وإلا لا؟ الرجل يلبس امرأته وتلبسه: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187]، هذه التي تلصق بك وتلصق بها وتصبحا جسماً واحداً، هذه تؤذيها؟ يمشي معك إنسان في سفر فقط ويخدمك تحبه طوال حياتك وما تؤذيه، فكيف بالتي تلصق بها وتلصق بك أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [النساء:21]؟ هذا أولاً. وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21].كيف تنقضون المواثيق وتحلون العقود، أيجوز هذا وأنتم الأحياء المؤمنون؟ نسيت لما قال القاضي: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، لو قال لك: لا. أنا حر، هل يعقد لك العاقد؟ ما يعقد، فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229].أسمعكم الآيات مرة أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] أي: النساء، وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، وكم من إنسان أبغض زوجته أو غاظته شهرين.. ثلاثة.. عام وعاد الصفا والحب والولاء، كم وكم، والقائل هو الله: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]. وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النساء:20] واضح هذا البيان وإلا لا؟ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:20-21] هل يجوز نقض الميثاق والعقد المربوط بالأيمان كالحبل؟ كيف تحلوه؟ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة:177]، وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد:20].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات:أولاً: إبطال قانون الجاهلية القائم على أن ابن الزوج يرث امرأة أبيه ].هذا فهمناه من الآية وإلا لا؟ أولها ماذا؟ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19].[ ثانياً: حرمة العضل من أجل الافتداء بالمهر وغيره ].العضل حرام وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19] العضل من أجل ماذا؟ يعضلها لتفتدي منه بالمهر أو غيره وهذا حرام، أليست اللام ناهية: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ [النساء:19].[ ثالثاً: الترغيب في الصبر ].هل في الآية الترغيب في الصبر؟ ما هو؟ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19] معناه: اصبر على هذه المؤمنة لقبح في وجهها أو لسلاطة لسانها أو لكذا شيئاً فشيئاً، ويجعل الله في ذلك خيراً كثيراً، نتيجة الصبر وإلا لا؟ من صبر ظفر.[ رابعاً: جواز أخذ الفدية من الزوجة بالمهر أو أكثر أو أقل إن هي أتت بفاحشة ظاهرة لا شك فيها كالزنا أو النشوز ].والترفع عن الزوج وكراهيته، وتقول له: لا أريد أن أبقى معك، حاول جاهد ما استطاع، أعطينا النفقة وخذي روحك، من أين أخذنا هذا؟ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19] سبحان الله![ خامساً: جواز غلاء المهر؛ فقد يبلغ القنطار غير أن التيسير فيه أكثر بركة ].من أين أخذنا جواز؟ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا [النساء:20]لما كان عمر يخطب يوم الجمعة فدعا إلى التيسير في المهور، قال: لا ينبغي أن تزيدوا على أربعمائة درهم، لما نزل قالت سيدة من النساء: أيعطينا الله وتمنعنا يا عمر ؟ أما قال الله: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا [النساء:20]؟ فعاد إلى المنبر وقال: صدقت امرأة وأخطأ عمر، كل الناس أعلم منك يا عمر ، وحصل هذا عندنا في حكومتنا القرآنية منذ حوالي ثلاثين سنة أرادوا أن يحددوا المهر -أظن- بأربعمائة ريال، وشجع ذلك طلبة العلم وكذا، وبعد نظر أهل العلم قالوا: أين يذهب بعقولنا أيعطيهن الله ونمنعهن؟ عمر على جلالته كذب نفسه وخطأها وفتحوا الباب، وإلا كادوا يجعلونه في المحكمة.قال: [خامساً: جواز غلاء المهر فقد يبلغ القنطار غير أن التيسير فيه أبرك]، المهر أكثره قنطار وأقله ربع دينار، وهذا الذي عليه جمهور الفقهاء؛ لأن ربع دينار تقطع فيه يد السارق، انتبهت؟ وبذلك ما يفتض الفرج إلا بمثله، ربع دينار.[ سادساً: وجوب مراعاة العهود والوفاء بها ]. من أين أخذنا هذا من الآية؟من قوله: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229].وصل اللهم على نبيك محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-24, 09:58 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (7)
الحلقة (231)
تفسير سورة النساء (15)


كان العرب في الجاهلية إذا طلق أحدهم امرأته أو مات عنها فإن لابنه أن يتزوجها، فلما جاء الإسلام طهر المجتمع من مثل هذه الممارسات الشنيعة، فحرم على الرجل أن يتزوج بزوجة أبيه، سواء دخل بها الأب أو لم يدخل، ومن تزوج بامرأة أبيه قبل الإسلام فيلزمه تركها بمجرد دخوله في الإسلام، وبلوغ هذا الأمر الإلهي إليه.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها واللتان قبلها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع، قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، الحمد لله الذي وفقنا لهذا وجعلنا من أهله.وها نحن مع سورة النساء، وشاء الله أن نجتمع مع أحد المستمعين فسألته فأجاب عن درس أمس إجابة علمية كافية فسررت بذلك وأحمد الله عليه، فهل أنتم كذلك؟لأن الآيات آيات وأحكام ولا بد من معرفتها، هيا أقرأ عليكم شرحها في الكتاب وبعد ذلك أطرح الأسئلة باختصار لننتقل إلى الآيات التالية.
حرمة فعل أهل الجاهلية المتمثل في توريث النساء لأهل الميت من الرجال
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمنا الله وإياكم قال: [ تضمنت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19] ].تذكرون هذا المعنى؟ يا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً! أيها الأحياء اسمعوا! لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19] وهل المرأة تورث كالرجل؟ الجواب: نعم، كانوا في الجاهلية إذا مات الأب ابنه يتصرف في زوجته التي ليست أماً له، إن شاء تزوجها، وإن شاء أخذ مهراً من زوجها الجديد.. إن شاء.. إن شاء، يتصرف فيها تصرف المملوكة؛ فجاء القرآن الكريم، جاءت أنوار الله لهداية عباده فنزلت هذه الآية فلم يبق مجال لابن الأب أن يتحكم في زوجة أبيه إذا ماتت، بل هذه الزوجة تعتد في بيت زوجها أربعة أشهر وعشر ليالي وهي تطعم وتشرب وتنام آمنة، وترث من زوجها الثمن لأن له ولد، وإن كان لها بقية صداق تأخذه كاملاً قبل أن تقسم التركة، وبطلت عادت الجاهلية والحمد لله، هذا معنى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19].قال: [ تضمنت هذه الآية إبطال ما كان شائعاً بين الناس قبل الإسلام من الظلم اللاحق بالنساء، فقد كان الرجل إذا مات والده عن زوجته ورثها أكبر أولاده من غيرها، فإن شاء زوجها وأخذ مهرها، وإن شاء استبقاها حتى تعطيه ما يطلب منها من مال ].ظلمة الكفر والجهل.[ فأنزل الله تعالى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19]، فبطل ذلك الحكم الجاهلي بهذه الآية الكريمة، وأصبحت المرأة إذا مات زوجها اعتدت في بيت زوجها، فإذا انقضت عدتها ذهبت حيث شاءت، ولها مالها وما ورثته من زوجها أيضاً.
حرمة عضل المرأة لحملها على افتداء نفسها بمهرها أو بعضه
وقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19] ].هذه الآية الثانية، فهمتم بالأمس معناها؟قال: [ فهذا حكم آخر ].غير الأول.[ فهذا حكم آخر وهو ].أي: هذا الحكم.[ أنه يحرم على الزوج ].الفحل.[ إذا كره زوجته ].يحرم عليه.[ أن يضايقها ويضارَّها حتى تفتدي منه ببعض مهرها، إذ من معاني العضل المضايقة والمضارة، هذا ما لم ترتكب الزوجة فاحشة الزنا أو تترفع عن الزوج، وتتمرد عليه، وتبخسه حقه في الطاعة والمعاشرة بالمعروف، أما إن أتت بفاحشة مبينة لا شك فيها أو نشزت نشوزاً بيناً؛ فحينئذ للزوج أن يضايقها حتى تفتدي منه بمهرها أو بأكثر حتى يطلقها؛ وذلك لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19] ].كأن سامعة سمعت الدرس بالأمس شكت اليوم قائلة: أنا محسنة لزوجي وهو دائماً معبس مقطب مكشر لا سلام ولا كلام، ماذا أصنع معه؟ لم يعمل هذا العمل؟ نحن مأمورون بالابتسامة في وجه الفقير والمسكين، في وجه أيما مؤمن يمر بك تبتسم، وأنت زوجتك وأم أولادك تتعالى وتتكبر وتتنزه من أن تسلم عليها، أو تبتسم في وجهها، أو تكلمها بكلمة ترحمها بها، أيجوز هذا؟ وقالت: أذكره بقول الله تعالى: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] ويسخر مني ويدعي أنه مؤمن، وأظن جاهد في الأفغان هذا، إلى من نشكو؟ ما علة هذا؟ الجهل الذي ما يتربى في حجور الصالحين، تقول للمؤمن: أنا أربي أولاده وهو يعاكسهم، كل يا فلان بيمينك، يقول له: كل بيسارك، عيب كل بيمينك الشياطين يأكلون بشمالك، يقول: دعيه يأكل بشماله، وهكذا.هيا نخرج من هذه المحنة، والله لا خروج إلا بالعودة وإلى أن نجتمع في بيوت ربنا كل ليلة نتعلم الكتاب والحكمة ونزكي أنفسنا ونهذب أخلاقنا يوماً بعد يوم، أما أن نعيش في الشوارع والدكاكين والملاهي والملاعب وتريد منا أن نكمل هذا الكمال مستحيل، غير ممكن أبداً.عرف هذا عدونا الثالوث الأسود: المجوس واليهود والنصارى، فصرفونا عن القرآن وأبعدونا عن السنة وربطونا بمؤلفات فقهية، وظنوا أننا بهذا نصبح ربانيين، وقد نجحوا، وهبطنا من علياء السماء إلى الأرض، وأذلنا الله لهم، وهانحن نتملقهم حتى في البرانيط أولادنا نلبسهم برانيط في المسجد النبوي.ونحن الآن نشعر كالبهائم، أماتونا، متنا وإلا لا؟ ما هي الروح يا عباد الله يا أهل القرآن؟ قولوا ما الروح؟ القرآن، من هجر القرآن وتركه وجهله وأصبح يقرأ على الموتى حي هذا؟ بل ميت.إذاً: قال: (وقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19]، فهذا حكم آخر) غير الأول وهو (أنه يحرم على الزوج) المؤمن (إذا كره زوجته) لدمامة وجهها.. لسوء خلقها.. لسلاطة لسانها.. لأمر ما، لا يحل له (أن يضايقها ويضارها حتى تفتدي منه ببعض مهرها، إذ من معاني العضل المضايقة والمضارة، هذا ما لم ترتكب الزوجة فاحشة الزنا)، أما قال: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ [النساء:19]؟ (ما لم ترتكب الزوجة فاحشة الزنا) أو السحاق كما عرفتم، (أو تترفع عن الزوج، وتتمرد عليه، وتبخسه حقه في الطاعة والمعاشرة بالمعروف، أما إن أتت بفاحشة مبيِنة) مبيَنة قراءتان، (لا شك فيها أو نشزت نشوزاً بيناً) واضحاً (فحينئذ للزوج أن يضايقها حتى تفتدي منه) بالمهر الذي دفعه أو أقل أو أكثر، هذه أحكام الله، هل ترقى البشرية إلى مثله؟ والله ما تصل، قال: (وذلك لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19]).قال: [ ثم أمر تعالى عباده المؤمنين ].ونحن منهم، بماذا أمرهم؟قال: [ بمعاشرة الزوجات بالمعروف وهو العدل والإحسان ].ما هو مجرد عدل فقط، العدل والإحسان، والإحسان يتجلى في الكلمة الطيبة، والمعاملة الحسنة، والمؤانسة، وحب ما تحب المرأة من طعام أو شراب، وكره ما تكره؛ لتتلاءم الأجساد وتصبح كالجسد الواحد، ونعم لم سمي الزوج زوجاً؟ زوجته المرأة أصبح زوجاً وإلا كان فرداً، وهي سميت زوجة لم؟ لأن الرجل زوجها أصبحت زوجة، إذاً هما جسم واحد، كيف تؤذي جسمك أنت؟ كالذي يأخذ حربة ويطعن في جسمه.قال: [ وإن فرض أن أحداً منكم ].يا معشر الفحول![ كره زوجته وهي لم تأت بفاحشة مبينة ].ماذا عليه؟قال: [ فليصبر عليها ولا يطلقها؛ فلعل الله تعالى يجعل في بقائها في عصمته خيراً كثيراً له نتيجة الصبر عليها وتقوى الله تعالى فيها وفي غيرها، فقد يرزق منها ولداً ينفعه، وقد يذهب من نفسه ذلك الكره ويحل محله الحب والمودة ].وحديث المصطفى بالأمس: ( لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر )، لعل المستمعون لم يفهموه؟يا عبد الله! إذا كرهت من زوجتك خلقاً لا تأخذ في ضربها وأذيتها، أو من أول يوم اذهبي عني وتطلقها؛ لأنك تملك ما تتزوج به، دعوة ربك إليك أن تصبر ولا تستعجل، فإنك إن كرهت منها خلقاً يرضيك منها خلقاً آخر ما دامت برة تقية مؤمنة، كون لونها .. أو ما أعجبتك اصبر عليها؛ فإن عاقبة الصبر مضمونة -والحمد لله- حسنى والخير كله، قد تعقب لك ولداً تعيش كل حياتك على نفقته وعلى كفالته.هذا توجيه الله أو توجيه الناس؟هذا توجيه الله، وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، [ وإن فرض أن أحداً منا كره زوجته وهي لم تأت بفاحشة مبينة فليصبر عليها ولا يطلقها فلعل الله يجعل في بقائها في عصمته خيراً كثيراً له نتيجة الصبر عليها، وتقوى الله تعالى فيها وفي غيرها، فقد يرزق منها ولداً ينفعه، وقد يذهب من نفسه ذلك الكره ويحل محله الحب والمودة ]، وكم وكم حصل هذا.[ والمراد أن الله تعالى أرشد المؤمن إن كره زوجته أن يصبر ولا يطلق؛ لما في ذلك من العاقبة الحسنة؛ لأن الطلاق بغير موجب غير صالح ولا مرغوب للشارع، وكم من أمر يكرهه العبد ويصبر عليه فيجعل الله تعالى فيه الخير الكثير .هذا ما تضمنته الآية الأولى ].
تحريم أخذ شيء من مهر المرأة عند رغبة الزوج في طلاقها والزواج من غيرها
قال: [ أما الآيتان بعدها فقد تضمنتا ].أولاً.[ تحريم أخذ شيء من مهر المرأة إذا طلقها الزوج لا لإتيانها بفاحشة ولا لنشوزها، ولكن لرغبة منه في طلاقها ليتزوج غيرها، في هذه الحال لا يحل له أن يضارّها لتفتدي منه بشيء ولو قلَّ، ولو كان قد أمهرها قنطاراً فلا يحل أن يأخذ منه فلساً -واحداً- فضلاً عن دينار أو درهم ].لأن بعض الماديين: الجهلة ما تعجبه المرأة يأخذ في مضايقتها.. وو، اضغط شدد كذا حتى تمل، فتقول له: طلقني وخذ ما أعطيتني، هل يحل هذا؟ والله ما يجوز ولا فلس واحد، يجوز إذا هي كرهتك وما أحبتك وترفعت عنك وما أرادتك وأصبحت تتصل بفلانة وفلان، في هذه الحال لك أن تضايقها وتقول: تعطيني كذا وأطلقك، هي الراغبة في الطلاق، وهذه هي المخالعة التي تقدمت في سورة البقرة.قال: [ هذا معنى قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا [النساء:20] أي: ظلماً بغير حق وكذباً وافتراء وإثماً ].مبيَناً أو مبيِناً.[ أي: ذنباً عظيماً ].هذا التوبيخ من الله عز وجل والإنكار: ] أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا [النساء:20] أي: ظلماً بغير حق وكذباً وافتراء وإثماً مبيناً، أي: ذنباً عظيماً].[ ثم قال تعالى منكراً على من يفعل ذلك: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ [النساء:21] أي: بأي وجه يحل لكم ذلك؟ والحال أنه قد أفضى بعضهم إلى بعض أي: بالجماع، إذ ما استحل الزوج فرجها إلا بذلك المهر؛ فكيف إذاً يسترده، أو شيئاً منه بهتاناً وإثماً مبيناً؟ فقال تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [النساء:21]؟ وقوله تعالى: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21] يعني: عقد النكاح فهو عهد مؤكد يقول: الزوج نكحتها على مبدأ: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، فأين التسريح بإحسان إذا كان يضايقها حتى تتنازل عن مهرها أو عن شيء منه؟ هذا ما أنكره تعالى بقوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ [النساء:21] إذ هو استفهام إنكاري ].وتعجبي أيضاً، كيف يتم هذا؟ سمعتم هذا الشرح، اسمعوا الآيات المشروحة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا * وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:19-21].إن شاء الله استقرت هذه الأحكام في أذهان الأبناء والمستمعين ونطبق وإلا لا؟ أو ما في حاجة؟ يا ويل الذي يذهب الليلة إلى بيته ويسب ويشتم هذه المؤمنة أو يتكبر عليها.
هداية الآيات
أما هداية هذه الآيات فهي ست هدايات أذكركم بها:[ أولاً: إبطال قانون الجاهلية القائم على أن ابن الزوج يرث امرأة أبيه ].بطل وإلا لا؟ هل بلغكم قانون الجاهلية في فرنسا وبريطانيا، ما سمعتم لي، ما قلناه أمس، نعيد هذا من أجل أن تعرفوا أن الكافرين هابطين بهائم أوسخ من القردة والخنازير، هذا كلام الله، حتى لا تعشقوهم ولا تحبوهم.. ولا ولا، في فرنسا وبريطانيا يصح عقد نكاح رجل على رجل، مسيو على مسيو، مستر على مستر، أي هبوط أعظم من هذا؟! أمثال هؤلاء نقتدي بهم، يجب أن نعاكسهم في كل شيء حتى نبعد من ساحتهم وظلمتهم وضلالهم، يا شيخ هذا الكلام من يسمعه؟ ألف مليون مسلم يسمعون هذا الكلام.أزيد وإلا لا؟ لماذا تلبسون أولادكم البرانيط في المسجد النبوي؟ يمر بي الرجل معه ثلاثة أولاد بالبرانيط يتلذذ بها، كان محمد يلبس البرانيط أو الحسن والحسين ؟ والتلفاز والفيديو في بيوت المؤمنين لا يا شيخ ما هو معقول أبداً، هذا يوجد في بيوت الكافرين؛ لأنهم لا حلال ولا حرام، ولا إيمان ولا لقاء الله ولا رجاء الدار الآخرة، حيوانات تأكل وتنكح فقط لا هم لها إلا هذا، كيف يوجد في بيوت المؤمنين؟! يتعلم الناس والرجال ماذا؟ العهر والسقوط والهبوط والتلصص والجرائم والأغاني، هذا شأن المؤمنين؟ والله ما هو بشأنهم، المؤمنون بيوتهم يذكر فيها اسم الله، يتلى فيها كتاب الله، لا أن تصبح موبآت للشياطين يدخلون ويخرجون الليل والنهار، هل فهمتم؟أو ... هذه رجعية.. هذا تخلف.. هذه الكلمات يلقيها الشيطان في صدور أوليائه، تعال إذا كنت منطقياً عليماً واعياً نتناقش نبين لك، من منكم يرفع رأسه ويده؟نسأل: ما هي المكاسب الحقيقية التي من أجلها نشتري التلفاز ونسهر عليه ونراقب أوقاته وننتفع به، دلونا؟ تعطون أموالاً شهرية أو سنوية على ذلك؟ الجواب: الآن لا، لكن ممكن لو يسمع جماعة لندن وإسرائيل يجعلون جوائز: الذي يستخدم هذا الفيديو أو التلفاز كل سنة تأتيه بطاقة شيك فيه عشرة ريال، مستعدون لكن ما هم في حاجة إلى هذا بالأغاني فقط سلبونا وهبطوا بنا، هل صاحب التلفاز مع أسرته تتأدب تلك الأسرة وتحتشم المرأة وتصبح لا تتكلم بكلمة عالية ولا تكشف عن وجهها.. ولا ولا؟ الجواب: لا أبداً، يكتشفون مهناً صناعية يتفوقون فيها؟ الجواب: لا، والله لا فائدة البتة، والحكيم القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، كيف نحصل على هذه الحكمة؟ ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، إذا ما أنت في حاجة إلى أن تشرب لا تشرب، ما أنت في حاجة إلى أن تأكل ما تأكل، ما أنت في حاجة إلى أن تنام لا تنم، ما أنت في حاجة إلى أن تكسب كذا ما تكسب، خذ دائماً ما أنت في حاجة إليه، من حسن إسلام المرء أن يترك ما لا يعنيه، لا يكسبه خيراً ولا يدفع عنه ضراً وشراً.قال: (إبطال قانون الجاهلية القائم على) ماذا؟ (أن ابن الزوج يرث امرأة أبيه) وحتى امرأة أخيه أيضاً.[ ثانياً: حرمة العضل من أجل الافتداء بالمهر وغيره ].يفعله الجهال هذا وإلا لا؟ يضايقون المؤمنة حتى تصرخ: هذا ما أعطيتني واتركني.[ثالثاً: الترغيب في الصبر ].من يرغبنا في الصبر؟ الله، عندك مؤمنة تقية ذميمة ما هي بجميلة قصيرة ما أحببتها اصبر عليها، هذه المؤمنة تقية أصلي إلى جنبها أو قدامها أعلمها .. تحبها تصبح كأنها حوراء.قال: [ رابعاً: جواز أخذ الفدية من الزوجة بالمهر أو أكثر أو أقل إن هي أتت بفاحشة ظاهرة ].تتصل بفلان وفلان أو ارتكبتها وشاهدتها أنت؛ لأنك ما تستطيع أن تشكوها بدون أربعة شهود، أو ترفعت تكبرت أهانتك أذلتك وأنت الفحل وأنت رب البيت، إذا كان من هذا خذ منها ما شئت وطلقها؛ لأنها تريد أن تطلق، رغبت في غيرك.قال: [ جواز أخذ الفدية من الزوجة بالمهر أو أكثر أو أقل إني هي أتت بفاحشة ظاهرة لا شك فيها كالزنا أو النشوز ].النشوز العلو والارتفاع، تتكبر عنه وتهينه وتعبس في وجهه، وقد تضحك عليه وخاصة إذا كانت جامعية وهو بدوي مثلي يا ويله، وخاصة إذا كان راتبها عشرة آلاف وهو صعلوك يا ويحه إن لم تكن ربانية تربت في حجور الصالحين سوف تركب هذا معه.قال: [ خامساً: جواز غلاء المهر فقد يبلغ القنطار ].لقوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا [النساء:20].[ غير أن التيسير فيه أكثر بركة ].وأكثر خيراً، دعانا الرسول إلى التيسير.قال: [ سادساً: وجوب مراعاة العهود والوفاء بها ].ماذا في الآية؟ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، هو العقد القائم على أساس: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] لا بأذى الحمد لله.
تفسير قوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ...)
قال تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:22].النكاح هنا الزواج. وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22].ما معنى: سلف؟ مر، السلف الصالح من هم؟ الذين مضوا. إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]. وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]، تعرفون المقت ما هو؟ أشد البغض، المقت والعياذ بالله، هذه اللام لام النهي (لا تنكحوا) وهذا الكلام معطوف على النداء: (يا أيها الذين آمنوا) لا يحل لكم كذا وكذا ولا تنكحوا، هذه الآية تابعة لما سبق. وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:22].كان الرجل يتزوج امرأة أبيه، عرفتم؟ إذا طلق أباه امرأة ما أعجبته ما لائمته يتزوجها ابنه، أو يموت الأب وتبقى المرأة يتزوجها ابنه، وهنا سبب في نزول هذه الآية:روي: أن صحابياً يقال له: أبو قيس ، توفي وكان من صالحي الأنصار بالمدينة، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه -ما هي أمه لكنها امرأة أبيه- لعلها تتزوجه ويتزوج بها.قال: فقالت له: إني أعدك ولداً، كيف؟ قالت: ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله. حكيمة هذه وإلا لا؟ يا ليتنا مثلها، أولاً قالت له: أي قيس أنا أعدك ولداً، كيف تقول: أتزوجك؟ ثم قالت له: آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، لو كنا في ذلك المستوى من يوم ما ظهر الفيديو والتلفاز لا يقدم عليه مؤمن حتى يسأل أهل العلم، والله العظيم، فيكم من سأل؟ لم ما نسأل: أيحل لنا أن نأتي الأمر بدون علم، وهل يجوز أو لا يجوز؟ والله ما يحل، حتى اللقمة ما تأكلها حتى تعرف يجوز هذا أو لا يجوز، لكن لما غطونا بسحائب الجهل ما أصبحنا نميز ولا نعرف، هذه المؤمنة خطبها ابن زوجها قالت له: أعدك ولداً ولكن آتي رسول الله وأسأل إذا أذن لنا لا بأس، والله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].قالت: فأستأمره. آتي رسول الله فأطلب أمره، قال: فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22].ولنعلم أن امرأة الأب لا يحل نكاحها، وامرأة أب الأب كذلك، سلسلة أعلى ما كان، (آباؤكم) يدخل فيه: الأب والجد وأبو الجد.. وهكذا، أي نعم، وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22]، وهنا إذا عقد الأب على الزوجة وما دخل بها وما بنى بها يحرم أن يتزوجها الابن؛ لأنها زوجة أبيه بالعقد، ليس شرطاً أن يخلو بها ويدخل عليها أبداً، إذا تم العقد لا يحل له أن يتزوجها، بل إذا علمت أن أباك يخطب لفلانة لا يحل لك أن تخطبها أنت أو تتزوجها، أو يحل؟ حتى المؤمن مع المؤمن إذا علمت أن زيداً يخطب في بنت فلان لا يحل لك أن تخطبها أنت حتى يفترقا، وتتيقن أنهما افترقا، لماذا هذا؟ ليبقى المجتمع متكاتفاً متعاوناً متحاباً متآخياً؛ لأنه يحمل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، والإنس والجن .. الكل عدو لها، كيف تبقى مرفوعة إذا لم تتضافر الجهود والقلوب والأموال. وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22].ما معنى: سلف؟ مضى في الجاهلية أم قيس هي السبب في نزول هذه الآية، ابن زوجها خطبها لأنه كان شائعاً بينهم أنه يتزوج امرأة أبيه أليس كذلك؟ لكن نور الإيمان الجديد أثر فيها وقالت: أعدك ولداً، ولكني أستأذن رسول الله وأستأمره، على الفور مشت إلى رسول الله وقصت عليه القصة، وما زالت جالسة حتى نزل القرآن، وامرأة الأب كامرأة الجد على حد سواء وإن علا.قال: [ ما زال السياق الكريم في بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالإرث والنكاح وعشرة النساء.وفي هاتين الآيتين ذكر تعالى محرمات النكاح من النسب والرضاع والمصاهرة، فبدأ بتحريم امرأة الأب وإن علا، فقال: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22]، ولم يقل ]. ولا تنكحوا من نكح آباؤكم، المفروض يقول من للعاقل.قال: [ ولم يقل من ].وقال: (ما).[ ليشمل التحريم منكوحة الأب والطريقة التي كانت متبعة عندهم في الجاهلية ].يشمل النكاح والوسائل التي يتوصل بها إليه.المفروض يقول: ولا تنكحوا من نكح آباؤكم وإلا لا؟ من للعاقل، الله قال: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22] ليشمل الهيئات والصفات على عمومها، فيدخل الخطبة فيها.. وو، وما إلى ذلك، سبحان الله العظيم![ولم يقل: من ليشمل التحريم منكوحة الأب والطريقة التي كانت متبعة عندهم في الجاهلية، ولذا قال: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] في الجاهلية فإنه معفو عنه بالإسلام بعد التخلي عنه وعدم القيام عليه ].قوله: (إلا ما قد سلف) لا تفهم منه أن الذي تزوج من قبل يبقي عليها؛ لأنه تزوجها في أيام الجاهلية، لا على الفور يخلي سبيلها وتخرج منه ولا يصح أبداً أن يبقيها، يحتج بأن يقول: نحن تزوجنا قبل نزول الآية، فلهذا قال: مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22] على أية صورة قديمة أو حديثة.(ولم يقل: من ليشمل التحريم منكوحة الأب والطريقة التي كانت متبعة عندهم في الجاهلية؛ ولذا قال: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] في الجاهلية فإنه معفو عنه بالإسلام) الصحابة جُلهم عبدوا الأصنام عشرين سنة وثلاثين سنة، فهل يؤاخذون بذلك؟ الإسلام يجب ما قبله، أي: يقطع، الإسلام يجب ما قبله، فمن عاش مشركاً يهودياً ثمانين سنة مائة سنة ودخل في الإسلام لم يخاطب بشيء مما مضى ولا يسأل عنه ولا يعاقب به أبداً، والتوبة أيضاً تجب ما قبلها، التوبة النصوح التي صاحبها لا يعود إلى الذنب كما لا يعود اللبن في الضرع، صاحب هذه التوبة لا يذكر ذنوبه الماضية انتهت، لكن إذا كان ما زال يميل أو يتردد ما تنفع؛ لأنه قال: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] قالت العلماء: التوبة النصوح هي التي لا يعاود المؤمن الذنب فيها ولا يرجع إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع، يمكن يعود الحليب إلى ضرع المرأة بالإبرة؟ ما ينفع، لبن البقرة أو الشاة يمكن لطبيب يرجعه أيضاً؟ والله ما يستطيع مستحيل، فالتوبة النصوح هي هذه.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-24, 10:02 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (8)
الحلقة (232)
تفسير سورة النساء (16)


النساء المحرمات على الرجل أما أن يكن محرمات تحريماً أبدياً؛ كالأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، فهؤلاء حرمهن النسب، ومنهن من تحرم تحريماً أبدياً بسبب الرضاع؛ كأمه التي أرضعته، وسائر النساء اللاتي يرتبط بهن ارتباطاً مناظراً لما في النسب، والربائب من بنات الأزواج المدخول بهن محرمات أبداً، وكذلك زوجات الأبناء، أما ما عدا ذلك فمن النساء من تحرم على الرجل تحريماً مؤقتاً كأخت الزوجة ما دامت عنده، وكذلك خالتها وعمتها، والمحصنة من النساء ما دامت تحت زوج.
تفسير قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ...)
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث قبلها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع وصلى الله عليه ألفاً وسلم قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، الحمد لله الذي وفقنا لهذا الخير وجعلنا من أهله.وأعيد إلى أذهان المستمعين وبخاصة الذين قلما يشهدون هذه الأنوار، أذكرهم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).وأخرى: أن الملائكة تصلي على من صلى المغرب وجلس ينتظر صلاة العشاء، تصلي عليه بلفظ: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه! حتى يصلي العشاء وينصرف ما لم يحدث، أي: ينتقض وضوءه وينصرف.وأعظم من ذلك كله: أن طلب العلم فريضة، وليس من باب المستحبات، إن تعلمنا لشريعة الله فريضة فرضها الله علينا، على كل من أراد الله به خيراً ساقه حيث يحب ويرضى.وها نحن مع سورة النساء ومع أحكامها المتعلقة بالنساء، بالأمس شرحنا آية واحدة وفهمناها وأكثرنا حفظها، وهي قوله سبحانه وتعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22].هذه الآية نص في تحريم نكاح ما نكح الآباء والأجداد مهما علو وارتفعوا، حرم الله نكاح امرأة الأب وامرأة الجد وأب الجد.. وهكذا مهما علو، وكانوا في الجاهلية ينكحون نساء آبائهم، إذا مات الأب تزوج الابن بامرأته التي ليست أماً له، وانتهت هذه الفاحشة، وانتهى هذا المقت، وحل الإيمان بالمؤمنين وهداية الرحمن ورضاه عنهم، والحمد لله.والآن مع الآية الباقية -وهي طويلة- إليكم تلاوتها فتأملوها:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُم ُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:23].أولاً: المحرمات ثلاثة أنواع:أولاً: محرمات النسب، والثاني: محرمات الرضاعة، والثالث: محرمات المصاهرة.والإرث تقدم في هذا؛ فهيا مع محرمات النسب، قال تعالى: حُرِّمَتْ [النساء:23].ولم يقل: حَرمتُ عليكم. من أجل الاختصار؛ ليحفظ كلام الله ولا ينسى.
المحرمات بالنسب
أولاً: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23].الأمهات جمع أمهة، وعدل عنها للتخفيف قالوا: أم، فتجمع أم على أمات وعلى أمهات، وأم الشيء من يرجع إليها ويعود إليها لسلطانها لقدرتها، من ذلك أم القرى مكة، والمراد من الأم تلك المرأة التي ولدتها فأصبحت أمك لأنها ولدتك، وأمها التي ولدتها أيضاً أمك؛ لولاها ما كانت أمك ولا كنت أنت، وهكذا وإن علت علونا، (أمهاتكم) وهذا بداية بالأصول، الأم أصل وإلا لا؟ أصل.ثانياً: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [النساء:23].وهذا أصول أيضاً سفلية، والبنات جمع بنت، الذكر ابن والأنثى بنت، وجمع البنت بنات، فالرجل يحرم عليه أن يتزوج أمه وجدته.. وهكذا، ويحرم عليه أن يتزوج بنته أو بنت بنته.. مهما نزلنا إذ الكل بناته (وبناتكم).ثالثاً: وَأَخَوَاتُكُمْ [النساء:23].هنا الفروع، الأخوات جمع أخت والذكر أخ، إذاً والأصل أخوون؛ ولهذا يقال: أخوان وإخوان، ولا عبرة بهذا العبرة بأن نحفظ ونفهم، الأخوات محرمات، أختك محرمة، وبنتها محرمة، وبنت بنتها.. وهكذا مهما نزلنا، وسواء كانت أختك من أبيك فقط أو من أمك فقط أو منهما معاً شقيقة، لا تحل لك أختك سواء كانت من الأم فقط أو من الأب فقط أو منهما معاً، وبنتها مهما نزلت، (وأخواتكم).رابعا : وَعَمَّاتُكُمْ [النساء:23].الفروع الآن، العمات جمع عمة، والعمة أخت الأب من أبيه ومن أمه، أخت أبيك هي عمتك، لا تقل: هذه أخت أبي من أمه فقط أو من أبيه فقط مطلقاً، العمات جمع عمة أخت الأب من الأم من الأب منهما معاً، عمات جمع عمة، تحرم عليك عمتك، وبنتها لا تحرم بالإجماع.خامساً: وَخَالاتُكُمْ [النساء:23].جمع خالة وهي أخت الأم، بنتها بنت خالتك ليست محرمة وإنما هي الخالة نفسها محرمة، سواء خالة من أب أو من أم أو منهما معاً النسبة موجودة مرتبطة بأمك من أبيها من أمها منهما معاً.سادساً: وَبَنَاتُ الأَخِ [النساء:23].بنت أخيك، لك أخ تزوج وأنجب بنتاً أنت تعتبر عمها، فلا يصح للمرء أن يتزوج ابنة أخيه لأنه عمها، فالعم لا يتزوج بنت الأخ.سابعاً: وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [النساء:23].أختك زليخة تزوجت ولها بنت اسمها عفريتة هل يجوز أن تتزوجها؟ الجواب: لا؛ لأنها بنت أختك.الآن هؤلاء سبعة حرمن بالنسب، أولاً: أمهاتكم، ثانياً: بناتكم، ثالثاً: أخواتكم، رابعاً: عماتكم، خامساً: خالاتكم، سادساً: بنات الأخ، سابعاً: بنات الأخت، هؤلاء المحرمات بالنسب لا بالمصاهرة ولا بالرضاعة، محرمات بالنسب، سلسلة الظهر وفقراته؛ لأنك تنسب إليهم وينسبون إليك.
المحرمات بالرضاعة
ثم سبعة أخر محرمات بالرضاعة إليكموها:أولاً: وَأُمَّهَاتُكُم ُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23].فمن أرضعته امرأة، وكان الرضاع خمس رضعات لا يحل له أن يتزوجها؛ لأنها أمه.وهنا مسألة قد يستفيدها الفقهاء أو الأذكياء من أهل المجلس:اختلف من عهد الصحابة إلى الأئمة في عدد الرضعات المحرمة:فذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله إلى أن الرضعة الواحدة تحرم، ورواية كذلك لـأحمد ، وهذا خلاف بين الأئمة سبقهم إليه الصحابة، قالوا: العبرة بأن هذا اللبن يتكون منه هذا الجسم ويصبح من دمه ولحمه، لكن عارض هذا حديث صحيح: ( لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان )، وفي لفظ: ( لا المصة ولا المصتان )، والقضية سهلة لأن أملج أدخل الضرع في فمه ما حصل شيء امتص قليلاً وصارت إلى حلقة، بخلاف رضع وتغذى وشبع، أما الإملاج إدخال حلمة الضرع في الفم ومص يمتصها ما تكون شيئاً.. ما يتغذى، أليس كذلك؟والمسلك الذي ينبغي أن نسلكه -إن وفقنا الله- هو ما يلي: وهو الجمع بين هذه المذاهب حتى لا تتعصب لمذهب، العبرة بأن يطاع الله ورسوله، فنقول: إذا رضع وتغذى باللبن وشبع مرة مرتين ثلاثة أربعة خمسة فهو ابن لهذه المرضعة ولزوجها، ثم إن جاءنا من يقول: إن ولدي رضع من امرأة رضعتين أو ثلاثة فقط أو مرة واحدة نسأل: هل يريد أن يتزوج ابنتها أو تزوجها؟ فإن قال: يريد أن نزوجه إياها نقول: لا لا، لا تزوجوه، ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )، كلمة الهادي صلى الله عليه وسلم، ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )، وإن قال: يا شيخ تزوجت ولها أولاد، نقول: كم رضعة؟ قال: مرتين أو ثلاثة، نقول: لا بأس أبقي على هذا الزواج ولا حرج، هذا المسلك من خير المسالك، لكن يحرمه المتمذهبون الذي لا يرى إلا مذهبه، ما يستطيع أبداً أن يقول هذا، إن كان ممن يمنع منع، وإن كان ممن يجيز أجاز.أقول: يقول الله تبارك وتعالى: وَأُمَّهَاتُكُم ُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23] كم الرضاع؟ ما هو الرضاع؟ معروف أن يمتص الغلام وهو في سن الرضاع لم يبلغ العامين، فهذا الرضاع يجعله ابناً لهذه المرأة وابناً لزوجها؛ لأن اللبن له بجماعه تكون هذا الحليب، وإلا فالمرأة إذا لم تتزوج لم يكن معها لبن.إذاً: وحديث النسخ: ( كان النهي ثلاثاً ثم نسخن بخمس )، من جانب من يؤيد ومن جانب من لا يؤيد، وكما علمتم بالنسبة إلى المذاهب الأربعة مذاهب أهل السنة والجماعة ما وراءها لا نلتفت إليه، ما هم بأهل لهداية الله، وقد شقوا عصا الطاعة للمسلمين، نقول: ما دام من يقول: لا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات، ومنهم من يقول: الرضعة الواحدة إذا تغذى بها الطفل أصبح ابناً وأصبحت المرأة أمه والأب، لما جاء في الحديث الصحيح: ( لا المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان )، فهم منه أن الذي مص هذا يتغذى؟ هذا يشبع يعني؟ أملجت ثديها في فمه ما يحصل غذاء، فلا بد إذاً من تغذية تصبح دماً له ولحماً فيصبح ابناً حقيقة.إذاً: فما المخرج إن كنتم غير متعصبين لمذاهبكم؟ في الحلقة هنا ما عندنا إلا قال الله وقال رسوله، ونعرف قول الله وقول رسوله من طريق أئمتنا وهداتنا، فنحن نجلهم ونكبرهم ولا نعد حتى خدماً لهم، بل نعالهم مثلنا، وعندما يختلفون ننظر في عوامل الاختلاف، ونسلك مسلكاً عليه طابع الرحمة المحمدية، بل الرحمة الإلهية.فمن هنا أقول: إذا قال لك قائل: ابني يرضع من امرأة وأردت أن أزوجه هذه البنت؟ فنقول: اترك هذا. ما دام رضع مرة واحدة فقط نقول: اترك. ماذا يكلفك أن لا يتزوج ابنك؟ النساء كثيرات: ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) وتستريح. لم تبق في كرب دائماً؟وإن قال: يا شيخ! زوجناه وولد ماذا نصنع؟ إن قلنا له: كم رضع؟ قال: رضع خمس رضعات. نقول له: الآن يجب أن تفصلها عنه وتفصله عنها، هذه أخته. والأولاد يا شيخ؟ أولادهما يرثانهما ويرثون منهم، أما الاجتماع انتهى، هذه أخته. وإن قال: رضعة أو رضعتين أو ثلاثة لسنا متأكدين؛ نقول: ما دمتم غير متأكدين أنها خمس رضعات خلها مع زوجها وغض الطرف وهي زوجته وليست بأخته.هل فهمتم هذه الهمجية أو لا؟ هذا أحسن مسلك، ينجو منه من على منهج سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، ما يتعصب لمذهبه الحنبلي ولا لمذهب الأحناف ولا المالكية ولا الشافعية، وإنما يبحث عما يرضي الله تعالى ويوافق منهج رسوله صلى الله عليه وسلم.قال تعالى: وَأُمَّهَاتُكُم ُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23] أولاً.ثانياً: وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، إذا رضع مؤمن من امرأة فجميع بناتها أخوات له، وجميع بنات زوجها من امرأة أخرى أخوات له: يراهن، يجلس إليهن، لا تستر أخته وجهها عنه ولا.. ولا.. أخته كأخته لأمه وأبيه مطلقاً ولو كن سبعين أختاً.إذا رضع الطفل في سن الرضاع -أي: في الحولين- أما بعد الحولين فلا قيمة له، ولا نلتفت إلى الخلاف؛ لأن العبرة بلبن يتغذى منه الجسم ويكثر لحمه وعظمه منه، أما من تجاوز الحولين وأصبح يجري فلا قيمة لهذا الرضاع.إذاً: وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، هذه المرأة التي رضعها أصبحت أمه، أمها وأم أمها داخلة معها وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ [النساء:23] أو لا؟ محرمة. أختها خالة له، أخت أبيه الذي رضع عمته، وهكذا، ينزل هذا الرضيع منزلة الابن الحق، فلا يصح لهذا الذي رضع من امرأة أن يتزوج بنتاً من بناتها ولا بنتاً من بنات بناتها ولا من عمتها ولا من خالتها.. أبداً.وأخوه من الرضاع إن كان له بنت يتزوج بنت أخيه؟ لا يصح أبداً، فتفهموا هذه. وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23] لأن الحديث الذي يعطي هذه القاعدة: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) قاعدة عامة. كل ما حرم بالنسب يحرم بالرضاع، فلهذا لما يورد علينا العوام أسئلة نرتبك فيها، نقول: خذ القاعدة، هذا الولد الرضيع أعطه حكم الولد من النسب، لا يحل لهذا الرضيع أن يتزوج أخته من الرضاع، ولا بنت أخيه من الرضاع، ولا أخت أبيه من الرضاع، ولا أخت أمه من الرضاع، كالابن الأصل، والذي ما رضع لا علاقة له بهذا.تأملوا هذه! الذي رضع من امرأة -بنتاً كان أو ابناً- جميع بناتها وبنات أبي زوجها من امرأة أخرى أخوات له؛ لأنها أم كالأم الأصلية جميع بناتها جميع أخواتها جميع عماتها لا يحل له، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، والآية سواءً بسواء.ابنان هذا رضع من هذه المرأة وهذا لم يرضع، كذا أو لا؟ هذا الذي رضع لا يحل له أن يتزوج من أم التي رضعها ولا من نساء أبيه ولا.. ولا، وهذا الذي ما رضع لا علاقة له، يتزوج أخت أخيه من الرضاع ما هو من النسب.إذاً: فهن سبعة، من النسب سبعة، كذلك الرضاع سبعة: وَأُمَّهَاتُكُم ُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23].
أحكام الزواج بالربائب
ثم بعد النسب والرضاع ذكر المصاهرة، فقال تعالى: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ [النساء:23]، أي: ومما حرم الله عليكم أمهات نسائكم، فلا يصح أبداً لمؤمن تزوج امرأة أن يتزوج أمها أو جدتها أبداً، لماذا؟ العليم الحكيم هو الذي منع لما يترتب عليه من القطيعة والشر والفساد ما لا يخطر بالبال، يجب أن نوقن أن ما حرمه الله لن يخلو من أذى وضرر أبداً، ما يرضاه الله لأوليائه.ومن هنا من اعتدى وتعدى هذه الحدود تمزق وتلاشى وهلك، إما لجهله فارتكب، وإلا لتمرده فارتكب. أضرب لكم مثلاً: طبيب يقدم دواء، وأنت تعلم أنه طبيب، هل ترى أن هذا الدواء يضرك وهو يريد نفعك؟ الجواب: لا. منعك من أكل كذا أو شرب كذا، هل تراه أراد النكاية بك وتعذيبك؟ بل أراد نفعك لاعتقادك أنه عليم وحكيم يضع الشيء في موضعه، والطبيب قد يمكر وقد يغش، لكن الله العليم الحكيم الرءوف الرحيم، وهو يشرع لعباده وأوليائه مستحيل أن يشرع لهم ما يضرهم أبداً، أو يحرم عليهم ما ينفعهم، والله ما كان ولن يكون؛ لغناء الله واستغنائه عن خلقه، ما هو في حاجة إلى أن يزور أو يقول أو يشرع غير الحق، فلهذا إذا قال الله طأطئ رأسك وقل: آمنت بالله، آمنت بالله.قلت هذا حتى لا تسألوا عن الأسباب التي جعلها الله ليحرم بها هذه.قال: وَأُمَّهَاتُكُم ُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23].ثانياً: السبعة من المصاهرة: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ [النساء:23] أم امرأتك كجدتها لا تحل. وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23] مسألة بعينها ما هي؟ ربيبتك وهي بنت زوجتك، كانت زوجتك تربها، وأنت أيضاً تربها وتربيها، هذه الربيبة وهي بنت الزوجة.امرأة تزوجت ومات زوجها وعندها بنت، وكبرت وأصبحت أهلاً للزواج، فإذا تزوجت أمها هل يجوز أن تتزوج هذه البنت بعدما تموت أمها أو بعدما تطلقها؟ الجواب: لا، هذه بنت زوجتك كبنتك فكيف تتزوجها؟ وَرَبَائِبُكُمُ [النساء:23] جمع ربيبة. اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23] هذا القيد ما هو بشرط. انتبهتم؟ قد تتربى الربيبة عند أبيها، فأمها مطلقة من عشرين سنة؛ فليس شرطاً أن تكون متربية في حجرك أنت، تزوجت أمها وهي صغيرة بنت عامين ثلاثة أربعة وتربت بلغت الخامسة عشر في حجرك، هذا القيد لا، وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]، والدخول هنا الوطء، الدخول هنا عليها في فراشها في غرفتها، لكن القرآن لسمو معانيه وكرامته ما يعبر بعبارة قد يستحي الأب أن يقولها بين يدي أولاده، قال: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]، هذه امرأة وهذه بنتها، تزوجت أنت الأم أو لا؟ هل يجوز أن تتزوج البنت؟لا. وإن أنت عقدت على أمها فقط ما دخلت، ثم عدلت عنها لكبر سنها وأردت أن تتزوج ابنتها، يجوز أو لا يجوز؟مرة ثانية. امرأة حسناء خطبتها وتزوجت بها، ثم تبين لك أن لها بنتاً في الخامسة عشرة أو العشرين من عمرها، قلت: نطلق أمها ونتزوجها، أو ماتت أمها؛ هل يجوز أن تتزوج الربيبة هذه؟ هنا دخلت بالأم أو لا؟ فإن أنت خطبت الأم وعقدت عليها، ثم بدا لك أن تتزوج ابنتها ما كنت تدري، قالوا: لها بنت أيضاً، هل يجوز أن يطلق تلك الأم ويتزوج بنتها أو لا يجوز؟ يجوز؛ لأنه ما دخل بها، لو دخل بها ما صح.مرة ثانية: تأملوا! أنت خطبت البنت وأمها موجودة، وعقدت عليها ولم تبن، هل يجوز أن تطلقها وتتزوج أمها؟ الجواب: لا، ما بنيت بالبنت، قال: وإن لم تبن بها؛ لأن الأم لا تكرب ولا تحزن إن أنت تزوجت ابنتها. هيا نراجع القضية من جديد: يقول الله تعالى فيما حرم علينا: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23].تأملوا! حرم الله تبارك وتعالى علينا الربيبة وهي بنت الزوجة، بقيد أو بدون قيد؟بقيد، وهو: الدخول؛ فإذا دخل بالأم لا يصح أن يتزوج الربيبة وهي البنت، فإن لم يدخل بالأم يجوز أن يتزوج بابنتها، لم؟ لأن الأم تفرح، تتنازل عن حاجتها من أجل ابنتها بالفطرة أو لا؟ خطبتها وعقدت عليها وما بنيت بها وأردت أن تطلقها وقلت لها: زوجيني ابنتكِ، فهل تحزن الأم؟ والله ما تحزن بل تفرح، تقدم وتؤثر ابنتها على نفسها، بخلاف العكس، وهو: إن أنت خطبت البنت وعقدت عليها ولم تدخل بها، هل يجوز أن تتزوج أمها؟ الجواب: لا، أمها تكرب وتحزن وما تقبل، كيف تركت ابنتي وتريدني أنا؟ بالفطرة ما تقبل.هذا معنى قوله جل جلاله وعظم سلطانه في محرمات نكاح المصاهرة: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23].
معنى قوله تعالى: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم)
قال تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23].الحلائل: جمع حليلة، والحليلة هي زوجة الابن؛ لأن الابن تحللها وحل معها، فكيف يجوز أن تتزوج امرأة ابنك، حرمها الله تحريماً كاملاً: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، أما ابن بالتبني لا قيمة له، أن يكون من صلبك، والابن من الرضاع من الصلب، ما هو تكون من مائه؟ يحرم، فلا يحل لمؤمن أن يتزوج امرأة ابنه؛ لقوله تعالى فيما حرم: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، إذا كان ليس من صلبه بالتبني فقط ما يمنع، ما هو بابن له.وهنا مسألة عويصة: هل ابن الزنا ابن؟زنى الرجل -وأغواه الشيطان- بامرأة وأنجبت ولداً، كبر هذا الولد وهو يعرف أنه ابنه من الزنا وتزوج وطلق، هل يجوز أن تتزوج امرأته؟ الإمام الشافعي يقول: نعم، نكاح فاسد ولا بنوة ولا أبوة، والجمهور لا، ما دمت تعرف أن هذا ابنك من مائك، وإن كان الوقاع محرماً فهو ابنك ولا تتزوج ابنته؛ لأنه من صلبك: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23] هذا من صلبك، من ظهرك، من مائك، وهذا الذي عليه الجمهور والذي نقول به؛ لأن كلمة: مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23] ما يدخل فيه هذا؟ نعم يدخل، من صلبه، المني خرج من ظهره. وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، وامرأة ابنك من الرضاعة تحرم أو لا تحرم؟ تحرم، لم؟ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23] كيف أصبح ابنك؟ لأنه شرب من اللبن الذي تكون منك أنت ، ابنك من الرضاع ابن.. امرأته تعتبر محرمة عليك كامرأة ابنك من النسب سواءً بسواء، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ). العمة، الخالة، الأم، بنت، الأخ، بنت.. وهكذا مطلقاً، امرأة الابن، كذلك امرأة الابن من الرضاع محرمة. وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23].
معنى قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف)
قال تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23]، أي: تتزوج زليخة وتضيف إليها هندية وهي أختها، إما من أبيها أو من أمها أو شقيقة مطلقاً، فتجمع بينهما في وقت واحد، هذا لا يحل.أما إذا تزوج زليخة وماتت أو طلقتها تنتهي العدة وتزوج أختها، ما جمعت، لكن لابد من مراعاة انقضاء العدة، انتبهوا.ومن هنا يلغز، ويقال: متى يعتد الرجل؟ أعوذ بالله! الرجل عليه عدة، والمرأة هذه؟ قال: نعم، ما يسمى بالعدة يسمى بالتربص، ينتظر حتى تنتهي العدة، وإذا انتهت عقد على أختها وتزوجها.إذاً: وَأَنْ [النساء:23] أي: وإن مما حرم الله عليكم وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23]، سواء شقيقتين من أب من أم مطلقاً، الجمع بينهما حرام.هذه ظاهرة: الأخت مع أختها ما تبغضها إذا لم يوجد سبب البغض والعداء بينهما، كيف تتسبب فيها أنت؟ لا تريدها، ماتت أو طلقت أو كذا ما بقي شيء يؤلم، بل هي تقول: تفضل خذ أختي أنا كنت أحترمك وأحبك كذا خذ أختي، كما أحسنت إلي أحسن إليك، مثلاً. وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23] ما معنى سلف؟مر من زمان أيام الجاهلية؛ إذ كانوا قبل نزول هذه الشرائع والأحكام كان يتزوج الرجل امرأة أخيه، يتزوج امرأة أبيه، يجمعون بين الأختين، الرضاع لا يعرفون له قيمة، لكن ذهبت الجاهلية وظلمتها بعد أن أنار الله البلاد بهذه الأنوار أولاً: نور الإيمان، لو كانوا لا إيمان لهم ما يقبلون هذا التشريع، يسخرون منها ، لكن لما آمنوا حيوا وتمت حياتهم وأصبحوا يفرحون بما يبين ويُشرح لهم، كحالكم أنتم أيها المؤمنون. إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23] معفو عنه، لكن الذين تحتهم اثنتان ونزلت الآية أيقولوا: هذا شيء مضى؟ على الفور يباعدها، كجاهل ما يعرف لما تبين له أن هذا حرام على الفور يتخلى عنه، جاهل ما كان يظن أن السجائر حرام، ثم حضر الحلقة وسمع وعرف أنها محرمة على الفور يمزق تلك العلبة من السجائر ويغفر له ما مضى ولا حرج، لكن إن أصر يا ويله؛ لأن الله قال: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:23]؛ (غفوراً) لعباده (رحيماً) بهم، أي: بعباده المؤمنين، فمن كان تحته أختان وبلغته الآية على الفور يختار واحدة ويترك واحدة، التحقي بأبيكِ خذي حقكِ، ولا يحل أن يبقيهما ساعة واحدة، ما يقول: حتى يطلع النهار، بمجرد ما يبلغه الخبر يفارق، نعم.مسألة: يقول: زوجة ابن الربيب، نحن تكلمنا على الربيبة أو لا؟ أما الربيب وهو ابن زوجته، هذا لو كانت له زوجة ومات أو طلقها يجوز أن يتزوجها زوج أمه، ما هو بابنه، فالله تعالى ذكر ربائب النساء ما له علاقة.مما ينبغي التنبيه إليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، إذا تحتك امرأة ولها خالة لا يجوز أن تجمع بينهما، أو لها عمة لا يجوز أن تجمع بينهما كما سيأتي.إذاً قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [النساء:23] نعم. هذا النسب سبعة. وَأُمَّهَاتُكُم ُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23] سبعة كذا أو لا؟ثالثاً: الصهر والأصهار: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23] أي: لا حرمة ولا تضييق. وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23] وابن الزنا، من أصلابكم. وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:23].اسمعوا هداية الآيات علكم تتأكدون من صحة ما فهمتم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيتين:أولاً: تحريم مناكح الجاهلية إلا ما وافق الإسلام منها، وخاصة أزواج الآباء، فزوجة الأب محرمة على الابن، ولو لم يدخل بها الأب وطلقها أو مات عنها ]، وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22].[ ثانياً: بيان المحرمات من النسب وهن سبع: الأمهات، البنات، الأخوات، العمات، الخالات، بنات الأخ، بنات الأخت.ثالثاً: بيان المحرمات من الرضاع وهن: المحرمات من النسب ]، واحدة بواحدة.[ فالرضيع يحرم عليه أمه المرضع له وبناتها وعماته وخالاته وبنات أخيه وبنات أخته ]، مطلقاً كالأول.[ رابعاً: بيان المحرمات من المصاهرة، وهن سبع أيضاً: زوجة الأب بنى بها أو لم يبن، أم امرأته بنى بابنتها أو لم يبن، بنت امرأته وهي الربيبة إذا دخل بأمها -بالشرط هذا- وامرأة الولد من الصلب ]، وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ [النساء:23].[ بنى بها الولد أو لم يبن، وكذا ابنه من الرضاع ] لما بينا.قال: [ وأخت امرأته ما دامت أختها تحته لم يفارقها بطلاق أو بوفاة.والمحصنات من النساء، أي: المتزوجات قبل طلاقهن أو وفاة أزواجهن وانقضاء عددهن ].هذه ما ذكرناها؛ لأنها في آية أخرى بداية آية ثانية: وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24].هذه معناها: أيما امرأة تحت زوج ما طلقها ولا مات لا يحل لأحد أن يتزوجها بحال من الأحوال، امرأة محصنة محصَّنة بزوج تحته لا يحل أن يخطبها امرؤ أو يحتال عليها أو يتزوجها أبداً، ويستثنى من هذا كما سيأتي المحصنة في بلاد الكفر، إذا أعلنت الحرب بيننا وبين دولة كافرة، فسبينا النساء والأطفال، فهذه المرأة قد يكون زوجها ما مات، هل تعود إليه؟ غير ممكن، مسبية تباع، ففي هذه الحال صلة الكفر مانعة لها، لو أسلم زوجها لعادت إليه وجوباً، لكن مادام كافراً الإسلام يقطع بين الكفر والإيمان ويفصل بينهما، قال تعالى: وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24]، يعني: الإماء المملوكات، منها هذه زوجها إيطالي ووقعت في الحرب أسيرة، تحل للمسلم الذي ملكها بالجهاد.مسألة: هل يجمع بين أختين من الرضاع؟ما يحرم من النسب يحرم من الرضاع، قاعدة عامة.وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-24, 10:07 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (9)
الحلقة (233)
تفسير سورة النساء (17)


أحل الله عز وجل لعباده العلاقات الزوجية، فأحل للرجل أن يتزوج ما شاء من النساء إلا أن تكون ممن يربطه بهن نسب الدم، أو يرتبط بها بعلاقة مصاهرة، أو تكون من بنات زوجاته أو زوجات أبنائه، وأما ما عدا ذلك فله أن يتزوج أي امرأة أجنبية ليست بذات زوج، ولها عليه أن يعطيها مهرها، وإن تراضوا على شيء من بعد المهر فلا جناح عليهم فيه.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).اللهم حقق لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك!وها نحن مع سورة النساء وهي رابعة السور: الفاتحة والبقرة وآل عمران والنساء، والليلة ندرس هذه الآية الكريمة، ثم نرجع لأذكر المستمعين والمستمعات لما حفظناه وفهمناه من المناكح المباحة والمحرمة.الآية الكريمة تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:24]. وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24]، هذا تابع للآيات السابقة، المحرمات من المناكح آخرهن المحصنات من النساء. وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] من الإماء. كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24] هذه فريضة الله فرضها وكتبها علينا. وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] فقط لا تنسوا ما بين لكم من المحرمات، وما وراء ذلك فكله حلال. وَأُحِلَّ [النساء:24] وقراءة سبعية: (وأحَلَّ) لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:24]. وَالْمُحْصَنَات ُ [النساء:24] جمع محصنة هي التي تزوجت فحصنت زوجها حتى لا يزني، وحصنها زوجها فبنى عليها سوراً حتى لا تزني، فالمراد من المحصنات هنا: المتزوجات. هل يجوز لعبد أن يخطب امرأة تحت زوج؟ ما قال بهذا أحد أبداً، ما دامت متزوجة فهي محصنة بهذا الزواج فلا يحل أبداً التزوج بها حتى يطلقها زوجها وتنتهي عدتها، أو يموت عنها وتنتهي عدتها، ولا يحل خطبتها أثناء العدة لا عدة الطلاق ولا الوفاة.هذه نهاية المحرمات وهن: المحرمات بالنسب سبع، والمحرمات من الرضاع سبع؛ لحديث لرسول في هذا الباب: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ).وأما المحرمات بالمصاهرة فهن أولاً: زوجة الأب؛ لقوله: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22]، فإذا تزوج الرجل بامرأة ومات عنها أو طلقها، لا يحل لابنه أن يتزوجها، ولا لابن ابنه أن يتزوجها، ولا لجده أن يتزوجها.ثانياً: إذا نكح الرجل امرأة لا يحل أن ينكح ابنتها من رجل آخر وهي الربيبة، قال تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]، إذا تزوج الرجل امرأة وبنى بها ودخل عليها، ثم ماتت، أو طلقها، أو ما طلق ولا ماتت، لا يحل أن يتزوج ابنتها من رجل آخر أبداً؛ لقوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23].امرأة خطبتها يا فحل ولها بنت أجمل منها وأحسن، فخطبت الأم، ثم بدا لك أن تتركها، بل عقدت عليها بالقاضي، وقبل البناء والدخول قيل لك: إن لها ابنة حوراء، كيف تأخذ هذه الكبيرة وتترك الصغيرة؟ فقلت: إذاً إنها طالق. واخطب ابنتها وتزوجها، لم؟ لأن الأم ذات البنت تحب لابنتها أكثر مما تحبه لنفسها. تعرفون الأمومة وحنانها أو لا؟ ما تحزن ولا تكرب، لو طلقها وتزوج امرأة أخرى نعم، لها أن تكرب وتحزن، أليس كذلك؟ لكن إذا تزوج ابنتها تزغرد وتفرح، هذا التشريع تشريع من؟ تشريع العليم الحكيم: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23].وإذا أنت خطبت الصغرى -أي: البنت- بنيت أو لم تبن لا يحل أن تتزوج أمها، لم؟ لأن أمها كربت وحزنت وتألمت كيف يخطب ابنتها ولما يتزوجها، ثم يريد أن يتزوجني أنا؟ ما ترضى. سبحان الله العظيم! من شرع هذا التشريع؟ آمنا بالله، والله لا يقدر عليه إلا الله.إذاً اللطيفة: أن الأم إذا خطبتها وعقدت عليها ولم تبن بها لا بأس أن تطلقها وتتزوج ابنتها، وأما البنت إذا خطبتها وعقدت عليها بنيت أو لم تبن لا تحل أمها، والله يقول: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ [النساء:23]، أصبحت أمها أو لا؟ومن المحرمات بالمصاهرة: زوجة الابن: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، هذا القيد من أصلابكم.ثالثاً: وَحَلائِلُ [النساء:23] جمع حليلة. من هذه الحليلة؟ التي تحللها ابنك وتزوجها، فهي حليلة. إذا مات ابنك عن امرأة تتزوجها؟ أعوذ بالله. إذا طلق امرأته تتزوجها؟ أعوذ بالله. إذا عقد عليها فقط وما بنى بها تتزوجها؟ ما في. وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23] لا بالتبني، وتقول: هذا ابني، فالتبني انتهى أمره، يطلق الذي تبنيته امرأة وتتزوجها أنت، وهذا الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما طلق أبو أسامة زيد بن حارثة لما طلق زينب المخزومية بنت عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر الله الرسول أن يتزوجها، بل عقد له في الملكوت الأعلى عليها، ليبطل عادة التبني: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37]، لم؟ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37].فقوله: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ [النساء:23] احترازاً من أولاد التبني؛ إذ أبناء التبني لا قيمة لهم.أما امرأتك لو أرضعت ولداً أصبح ابنك وابن امرأتك وأخاً لأولادك؛ إذا تزوج هذا امرأة وطلقها؛ قبل البناء أو بعده هل يحل لك أن تتزوجها؟أبداً. هذا ابنك، تربى على لبنك ودمك، وماؤك امتزج به، كيف تحل لك امرأته؟فقوله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23] هذا القيد مقيد بماذا؟ بأبناء التبني، أما أبناء الرضاعة فهم كالأبناء.رابعاً: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23] حرم الله تعالى على المؤمن أن يتزوج أختين ويجمع بينهما، زينب وخديجة بنتان أختان تزوج هذه ورغب في الثانية فزوجوه أختها، يجوز هذا؟ حرام، لكن إذا ماتت الأخت أو تطلقت له أن يتزوج أختها؛ لأن الله تعالى قال: وَأَنْ تَجْمَعُوا [النساء:23]، والجمع بينهما في البيت، في الفراش، في العقد، أن تجمعوا بين الأختين. أما إذا ماتت الأخ يتزوج أختها، تطلقت وانتهت عدتها يتزوج أختها إذا رضي وليها وهي، ما هو بالعصا.والنبي صلى الله عليه وسلم أضاف إلى هذا -وهو مأذون له بالتشريع- حرم الجمع أيضاً بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، لا تجمع امرأتين واحدة منهما عمة للثانية أو خالة لها، كالجمع بين الأختين ممنوع الجمع بين المرأة وخالتها ممنوع، لم؟ لما يترتب عليه من العقوق، هذه عمتها قد تحسدها، قد تبغضها، أليس كذلك؟ قد تعمل على أذاها، تتضايق منها، إذاً: قطعت صلة الرحم.الحمد لله أن أنعم الله علينا بهذه الشريعة وحرمها بلايين البشر، ولكن نأسف أننا جاهلون بها، ما عندنا علم بها أبداً، هجرنا كتاب الله وجعلناه وراء ظهورنا واشتغلنا بالأغاني والطبول والمزامير.إذاً: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23] الذي مضى في الجاهلية نسخه الله وانتهينا منه. إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:23].وأخيراً: وَالْمُحْصَنَات ُ [النساء:24]، هذه معطوفة على ما سبق. كم هي؟ سبع أيضاً.إذاً: سبع بالنسب، وسبع بالرضاع، وسبع بالمصاهرة. الحمد لله، نضع لكم أسئلة وإن نجحتم فزتم بالجوائز أما موضوع المواريث فقد نجح فيه عدد كبير، وأمس المسئول عدنان وضع قائمة بالأسماء، وقال: اختر، يعني: قرعة، ما هو أوراق مكتوبة، فأخذت خمسة، وسوف يعلن عن أسمائهم ويتهيئون للجائزة. ما هي جائزة حلوى وبقلاوة ولا طعام، جائزة علم، أما الحلوى تحدث في نفسك مرارة.
تفسير قوله تعالى: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ...)

معنى قوله تعالى: (والمحصنات من النساء)
يقول الله تعالى: وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24]، ما المراد بالمحصنات من النساء في هذه الكلمة؟المتزوجا ت، والرجل المحصن هو المتزوج، وإن ماتت زوجته يبقى محصناً، المرأة متزوجة محصنة وإن مات زوجها أو طلقت.ولهذا لابد من وقفة هنا: عندنا النساء والرجال صنفان: ثيبات وأبكار، أو محصنون وغير محصنين، فالثيب هي المرأة تتزوج وتطلق أو تبقى مع زوجها أو يموت زوجها، تزوجت وبنى بها الفحل وخلا بها أصبحت ثيباً، أي: محصنة، لو زنت ترجم. الرجل تزوج، طلق، ماتت زوجته، شأنه، تزوج عقد أو دخل على امرأة وعرف باطنها أصبح محصناً، ماتت زوجته، طلقت، شأنه، هو الآن محصن وثيب.أما البكر فهو من لم يتزوج ولم يبن بزوجة.فائدة هذا: أن البكر إذا زنى يجلد مائة جلدة ويغرب سنة؛ لأنه بكر، والبكر من النساء أيضاً، إذا زنت فتاة ما تزوجت ولا عرفت الزواج وضبط أنها زنت أو هي رفعت أمرها إلى المسئولين لتطهر، تجلد كم؟ مائة جلدة، وهل تغرب عام كالرجل أو لا؟ ينظر؛ إذا عندها أقارب في الرياض مثلاً، وهي زنت في المدينة تبعث إلى أقاربها إلى عند خالتها هناك أو عمتها من المحارم وتبعد من المدينة سنة. هذا مثال.فإن لم يكن لها من يحميها وتنزل عنده كيف يجوز تغريبها؟ لا يصح أبداً، أما الفحل لابد وأن يغرب، الإبعاد سنة كاملة وهو في الصحارى أو في الجبال.إذاً: المحصن والمحصنة إذا زنيا ما هو الحكم؟ الرجم بالحجارة، وغير المحصنين من الأبكار من رجال أو نساء ما الحكم؟ جلد مائة وتغريب عام للرجال للذكور، وللنساء إن أمكن.الآن قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَات ُ [النساء:24] هذه الجملة معطوفة على ما حرم من المصاهرة أو لا؟قال: وَالْمُحْصَنَات ُ [النساء:24] جمع محصنة وهي التي تزوجت، وهي تحت زوجها، فلا يحل لمؤمن أن يخطبها بالتلفون، أقول: هذا الآن يفعلون، وتأتينا الشكاوى والدموع، يبغضها في زوجها ويذكر لها عيوبه و.. و.. من أجل أن تطلق ليتزوجها، هذا نوع من الهابطين اللاصقين بالأرض، ما عرفوا الله ولا آمنوا الإيمان الصحيح، أموات، فما دامت متزوجة وزوجها عصمته في يدها فلا يحل أبداً بحال من الأحوال أن تخطبها وتفصلها عن زوجها بالحيل وإلا بالهراوة لتتزوجها، حرام هذا. محرمة كالمحرمات بالمصاهرة.
معنى قوله تعالى: (إلا ما ملكت أيمانكم)
وقوله: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24]، هذه عندنا معركة جهادية خضناها مع إيطاليا أو أسبانيا وانتصرنا، وأخذنا السبايا من النساء والأولاد، لم نأخذ السبايا؟ لأنهن قد مات عائلوهم وكافلوهم وتدمروا، من يعيش هؤلاء الأطفال وهؤلاء الأرامل؟ نأخذهم لنربيهم، فيؤمنوا ويسلموا ويكملوا ويسعدوا، لا نجمعهم ونصب عليهم البنزين ونحرقهم كما يفعل اليهود والنصارى والمشركون، ما يفهمون هذا ولا بلغوه ولا عرفوه، أرامل من النساء والأطفال من لهم؟ فيجمعون ويوزعهم قائد المعركة على المجاهدين، تعرفون المجاهدين أو لا؟ مجاهد واحد يزن الدنيا بما فيها، لولا إيمانه، لولا يقينه، لولا رغبته في الله والدار الآخرة ما يقدم نفسه ضحية، فهو من أكمل الناس إيماناً وصدقاً، أمانة وثقة وطمأنينة، فيوزع عليهم ذاك العدد يأخذون في تربيتهم وتعليمهم وهدايتهم، ما يمضي زمن سنة سنتين وهم مسلمون يهللون ويكبرون ويعبدون الله عز وجل.هنا من الجائز أن تكون واحدة من هؤلاء النسوة زوجها ما زال حياً .. لما خضنا المعركة وأخذنا الأسرى قد توجد امرأة أو عدد من النسوة أزواجهن أحياء، ما قتلوا في المعركة، شردوا وهربوا، هذه محصنة أو غير محصنة؟ محصنة، زوجها موجود وهي متزوجة، هل يجوز لك أن تتزوجها؟أقول: هذه نص تعالى عليها بقوله: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24]، فإنها بمجرد أن وقعت في أيدينا أسيرة من جملة السبايا انقطع الزواج الذي كان بينها وبين زوجها، لاسيما وقد أسلمت وزوجها كافر، فلا تحل له، فهذه الأمة الزواج بها له شروط ستأتي في الآية بعد هذه، هذا فقط من باب التعميم، المحصنات محرمات لا يخطبن ولا يتزوج بهن، أليس كذلك؟ أي: المتزوجات، اللهم إلا في حالة وهي: أن تكون حرب إلهية وأسرنا نساء وأطفالاً ورجالاً، فهؤلاء يسمون مملوكات باليمين، يجوز التسري بهن بلا خلاف، لكن النكاح اشترط الله له شروطاً ستأتي، التزوج بها، أي: بالأمة المملوكة بشرطين اثنين كما في الآية الآتية.الآن فهمتم معنى قول ربنا تعالى: وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] استثناء أو لا؟ فهذه التي زوجها كافر ووقعت أسيرة في المعركة وأخذناها يجوز التزوج بها، ليست من المحرمات كالواحدة والعشرين السابقات.
معنى قوله تعالى: (كتاب الله عليكم)
ثم قوله تعالى: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24] هذا التحريم كتبه الله كتابة، وهو أعظم من كلمة فريضة، قنن وشرع وكتب؛ لأن المكتوب دائماً يحترم أكثر أو لا؟ الصكوك في المحكمة مكتوبة أو لا؟ لم؟ تأكيد لذلك العقد فقط، ما يستطيع يتهرب منه وقد كتبه، وهذا سر قوله: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24]، إياكم أن تخرجوا إذاً عن طاعته فتحلون ما حرم أو تحرمون ما أحل.
معنى قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم ...)
ثم قال تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ [النساء:24] وفي قراءة سبعية: (وأَحَلَّ لكم) من هو؟ الله. وأحل لكم، أي: الله عز وجل الذي كتب عليكم مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، ما وراء الواحدة والعشرين، ألسن سبع بالنسب وسبع بالرضاع وسبع بالمصاهرة؟ ما وراء ذلك بعد الواحد والعشرين تزوج ما شئت، ولكن بالشروط اللازمة. وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24].ثم قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا [النساء:24] أي: بأن تبتغوا بأموالكم، والأموال أولاً: المهور. المهور جمع مهر، جمع صدُقة، صدقة، نحلة، كما تقدم في السورة. فريضة، إذاً: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء:24]، قفوا هنا: حال كونكم محصنين أي: متزوجين، غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء:24] أي: غير زناة وزانين.تبتغوا بأموالكم ما وراء ذلك أو لا؟ تتزوج بالمال أو بدونه؟ بالمال حال كونكم محصنين، أي: متزوجين، الإحصان الزواج أو لا؟ بالمهر والشهود والعقد؟ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء:24]، ما تبغي بمالك النكاح بالعهر والزنا والسفاح، وتقول: رب قال: بالأموال؛ فقد أغلق تعالى أبواب دور البغاء والزنا مطلقاً.تأملوا: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ [النساء:24] التي هي أموالكم ما هو تسرق وتتزوج، أو تغتصب وتتزوج بها. بِأَمْوَالِكُمْ [النساء:24] حال كونكم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء:24] أي: حال كونكم متزوجين بالمرأة، لا زاني بها وتعطيها ألف ريال أو مائة.أعيد اللفظة القرآنية: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء:24]، ما معنى غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء:24]؟ غير زانين، غير زناة.
معنى قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة)
ثم قال تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ [النساء:24] أي: التي دخلت عليها. فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النساء:24]، المراد من الأجور هنا: المهور، وسمي المهر أجراً؛ لأنه مقابل عطاء، ومقابل عمل، وهو النكاح. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ [النساء:24]، فما الواجب؟ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النساء:24]، ليس سنة ولا مستحباً، بل يجب، ولهذا بالإجماع المهر واجب. ثم إذا دفع المهر قبل البناء له ذلك، إذا أجله له ذلك، فإن لم يذكر وتشاغلوا عنه ونسوا ما حددوا شيئاً، فالمرأة لها مهر المثل، نسأل عن مثيلاتها في النسب، في الشرف، في كذا وتعطى مثل ذلك، ثم هذا المهر إذا دخل بها -أي: استمتع- فهو مهر كامل، فريضة الله. وإن لم يدخل بها، ثم طلقها فلها نصف المهر فقط، إن سماه، تزوج بعشرة آلاف، ثم لم يشأ الله النكاح فطلق، كم يسترد؟ خمسة آلاف، وإن لم يسم لها وطلق فما حظها؟ المتعة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، ما في عدة، لم العدة؟ متى؟ فَمَتِّعُوهُنَّ [الأحزاب:49]، في الحقيقة علم كهذا يحتاج إلى وقت، نحن نحشر هذه النعم مع بعضها البعض، مسألة كهذه وحدها كافية.أقول: ماذا تقولون في المهر؟فريضة الله بنص كلامه.إذاً: إذا كنت قد استمعت بمن تزوجت بها وفرضت لها عشرون ألفاً وبنيت بها، خلوت بها مسستها، ثم طلقت كم لها؟المهر كاملاً، فإن شاء الله وطلقتها قبل البناء كم لها؟ النصف. وإن عقدت وما سميت شيئاً لا ألف ولا عشرة فلها المتعة، ما المتعة هذه؟ بحسبك، إذا كان راتبك ألف ريال ماذا تمتعها؟ مائة ريال مثلاً، وإذا راتبك عشرة آلاف متعها بألف، لا بد من مراعاة حال الزوج، إما أن يشتري لها بغلة، أو يشتري لها خادمة، أو يشتري لها سواراً من ذهب، المهم يفرحها، يمتعها؛ لأنه طلقها وهي غير مسئولة عن هذا، كذا أو لا؟إذاً: ما دام ما بنى بها ولا سمى لها مهراً يمتِعها أو يمتِّعها بما يكون حقيقة متعة: سرير، فراش ... بحسب الأحوال. الآن أحسن سيارة، ما في بغلة، لكن السيارة من يسوقها لها؟ إذاً: ما يحتاج، أحسن خادمة.إذاً: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ [النساء:24]، أعطوهن أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النساء:24].
معنى قوله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة)
قال تعالى: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ [النساء:24]، فرضتم لها عشرون ألفاً، ثم بعد ذلك تنازلت عن عشرة؟ لا بأس، قلت لها: يا أختاه! أنا في كرب، أنا كذا، تصدقي علينا بشيء، قالت: أعطيناك خمسة عشر ألفاً، يجوز أو لا؟ يجوز، برضاها. وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:24] بعد أن تدفع الفريضة وتعترف بها بعد ذلك لا جناح لا إثم عليكم ولا تضييق فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ [النساء:24].وتقدم في أول السورة: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4]، أم أولادك في المستقبل، زوجتك الليلة قالت: أعطيناك كذا لا بأس.
حكم نكاح المتعة
هذه الآية التي تشبث بها وتمسك الروافض الشيعة، وقالوا: نكاح المتعة في القرآن، ما هو؟ قالوا: لأن الله تعالى قال وقوله الحق: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النساء:24] انتبهتم؟أولاً: هؤلاء المساكين المضللين، أعيد القول لعل بعضاً منهم بيننا.نقول: الذين صرفوهم بأبشع الحيل يريدون منهم أن يستقلوا عن العالم الإسلامي، فمن هنا ما من عبادة من العبادات في الإسلام إلا ووضعوا لها ما يفارق جماعة المسلمين؛ من الوضوء إلى الزواج. الزكاة اثنين ونصف في المائة وهم عشرين في المائة، لم هذا؟ قد يعللون لظروفنا وكذا وكذا، والواقع من أجل أن لا يجتمعوا مع إخوانهم المسلمين.الوضوء نزل به القرآن أو لا؟ توضأ الرسول عشر سنين في المدينة وهو يغسل رجليه، وهم قالوا: لا، (وامسحوا بأرجلكم)، العين تصب ماؤها، ويغسل أعضاءها، والرجل يمسحها فقط. لم؟ قالوا: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فوالله ما أراد المسئولون إلا أن يخرجوهم عن جماعة المسلمين، وتتبعنا هذا في كل العبادات، حتى في الإحرام، لم ما يركبون السيارة عليها سقف؟ حتى يتميزوا، وهذه هي الحيل التي تجمع ولا تفرق، يريدون أن يكونوا أمة مستقلة لها منهجها وطريقها.فبالمنا بة النكاح نكاح المتعة أذن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً لظرف من الظروف، ثم أعلن تحريمه في حجة الوداع، إذ وضع القواعد والأسس لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.ثانياً: أجمع أصحاب رسول الله وعلى رأسهم أولئك الأقمار، وأجمعت أمة الإسلام على تحريم نكاح المتعة؛ لأن نكاح المتعة قريب جداً من الزنا؛ فالزناة الذين يزنون في دور البغاء يدخل على الزوجة ويعطيها الألف حسب ما هو مكتوب على الباب الليلة بألف أو بعشرة، ويقضي شهوته ويخرج، فالذي يتزوج زواج المتعة يتفق مع أبي البنت: نعطيكم كذا نريد نقضي حاجتي بها سبعة أيام، ثلاثة، خمسة عشر يوماً، وبنتكم لكم، أليس هذا هو الزنا بعينه؟ أي فرق؟ في فرق؟ البغي في دارها ما هي كاتبة على الباب: الليلة بألف ريال؟ أستغفر الله، حتى لا يقال: هذا موجود في المملكة، يعني: في دور البغاء في العالم، كان موجود في بلاد العرب وهم مستعمرات.إذاً: قد يبقى سبعة أيام، ثمانية، عشرة أيام، فنكاح المتعة إذا كان إلى أجل شهر، خمسة عشر يوم وبعد ذلك يتركها له.أنا ما وجدت فرقاً بين النكاح بالمتعة والزنا، ما الفرق بينهما؟ هناك فرق؟ كل ما في الأمر أن والدها -وهو ديوث- يرضى بهذا ويزوج ابنته لسبعة أيام ثمانية ليأخذ الفلوس، هذا فيه خير هذا؟ثم النكاح ليس قضاء لذة وقضاء شهوة بهيمية، النكاح مشروع من أجل أن يعبد الله تعالى، من أجل الإنجاب والولادة للبنين والبنات يبلغن ويعبدن الله عز وجل، من أجل إيجاد بيوتات وأُنْس، وحب كامل، أُسر تعيش متعاونة متحابة، فإذا كنا ننجب في الشوارع ونرمي في الأولاد في كل مكان تتكون ماذا؟ مجتمعات صالحة؟ أسر طاهرة؟ لا. بل تتكون أمة الهبوط والسقوط كالبهائم.أجمع أهل السنة والجماعة -الذين أوصانا رسول الله باتباعهم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ )- على أن نكاح المتعة حرام.من مظاهر الحرمة: هل ترث المنكوحة بالمتعة؟ ما ترث. والمتزوج بها ترث أو لا؟ ترث، فدل هذا على أنه ليس بنكاح شرعي أبداً، ما فيه إرث ولا توارث بينهما، وهنا قبل أن يحين الوقت أصبحت ترد أسئلة: فلان ذهب إلى كذا ليدرس وما أطاق -كما يقولون- وما صبر، فيريد أن يتزوج بفتاة مدة ما وهو في هذه المدرسة لمدة عام أو عامين، ويعقد عليها ويتزوجها، فقال أهل العلم: إذا كان كما تقولون بالمهر والشهود وما تذكر أنك تريد أن تطلقها، ولا هي تذكر أنها تطلق منك فالعقد صحيح، أركانه ثابتة: الولي، المهر، الشهود، الصيغة.فاستغل هؤلاء الشبان هذه الفتيا، وأنا أقول لهم: تعالوا نتحاكم إلى ضمائرنا، أنت يا أبا عبد الله . أسألك بالذي لا إله غيره! لو تعلم أن شاباً خطب ابنتك، وهو عازم فقط أن يفتض بكارتها أسبوعين ثلاثة ويطلق، أسألك بالله! أتحبه؟ أتقوى على أن تنظر إلى وجهه؟ أتعده إنسان هذا كامل؟أقول هذا لما أعلمه من نفسي، ولا إخال الفحول المؤمنين إلا هكذا، كيف يغشني ويخدعني ويقول: زوجني وأنا كذا وكذا وأسرتكم كذا، وهو عازم على أن يطلقها بعد أيام وليالي؟ خداع أو لا؟ غش أو لا؟ ( من غش فليس منا ).فإذا كان يضمر أنه سيطلق هذا النكاح باطل، وإن صح من ظاهر نصوصه، لكن هذا غش ومكر وخداع لا يجوز بين المؤمنين ولا يصح أبداً.معاشر المستمعين والمستمعين! ( الدعاء هو العبادة )، هذه كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أراد أن يتعبد فليدع الله ليلاً نهاراً، والله لو ترى أخاك رافعاً كفيه في النهار في السوق احمد الله عز وجل، هذا يعبد الله هذا، ما عرف غير الله. وبينا صورة ذلك وشرحناها هكذا، اقرأ عني الشيخ فقير مد كفيه، الشيخ مؤمن بأن الله يراه، وأن الله يسمعه وأن الله قادر على أن يعطيه، الشيخ فهم أنه لا يوجد من يعطي ولا يقضي حاجته لا في الإنس ولا في الجن، فلهذا ما قال هكذا ولا هكذا ولا يا فلان، ما قال إلا هكذا: يا الله! آية من آيات التوحيد هذه، والله يخبر عنه الرسول يقول: ( يستحي أن يرد كفيه بعدما رفعهما صفرين ).وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-24, 10:11 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (10)
الحلقة (234)
تفسير سورة النساء (18)


شرع الله عز وجل الزواج سكناً للنفس واستجابة للفطرة البشرية التي أنشأها سبحانه وتعالى في عباده، وقد جعل لهذا الزواج ضوابط وقواعد، فلا يتزوج الرجل ممن يربطه بهن علاقة نسب أو مصاهرة من النساء، ولا يتزوج إلا من كانت خالية من الزوج من الأجنبيات، وإن لم يستطع أن يتزوج الحرائر فله أن يتزوج من ملك اليمين، وإن استطاع الصبر على العزوبة حتى يتيسر له الزواج من حرة فهو خير له.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).الحمد لله الذي أهلنا لهذا الخير وجعلنا من أهله.ها نحن مع سورة النساء، ومع الآيتين اللتين درسنا الأولى منهما الليلة البارحة، والليلة مع الآية الثانية منهما، فهيا نتلو هاتين الآيتين ونتأمل ألفاظهما ومعانيهما وما أودع الله من الحِكَم والحُكم فيهما.قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النساء:24-25].ما تعودنا على فهم كلام الله، نعاني صعوبة، إي نعم. في الآية الأولى عرفتم أن الله تعالى ختم المحرمات الإحدى وعشرين بهذه المحرمة، وهي المحصنات من النساء، المحرمات بالنسب سبع، وبالرضاع سبع، وبالأصهار سبع أو بالمصاهرة، هذه إحدى وعشرين محرمة.والمحصنات هذه الخاتمة لأولئك المحرمات، وَالْمُحْصَنَات ُ [النساء:24]: جمع محصنة من النساء، يعني بالمحصنات هنا: المتزوجات، فمن كانت تحت زوج مؤمناً أو كافراً، مجوسياً أو مشركاً لا يحل لمؤمن أن يتزوجها وهي تحت رجل قد أحصنها وأحصنته.واستثنى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] هذه القضية خاصة بالجهاد الإسلامي الإيماني، إذا جاهدنا أمة لندخلها في رحمة الله، وننقذها من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة، ونصرنا الله عليها، ومات الكثير من رجالها، وأخذنا السبايا من النساء والأطفال، هل يجوز لنا أن نتزوج واحدة من أولئك الأسرى؟ يجوز، بشرط أن تسلم إذا لم تكن كتابية؛ لأن نكاح المشركات ممنوع ومحرم، وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221] فبما أن زوجها من الجائز أن يكون قد مات. ثانياً: ما أصبح له أمل أن تعود إليه أو لها أمل أن يرجع إليها، ففي هذه الحال تبقى هذه المؤمنة وقد أسلمت يجوز للمؤمن أن يتزوجها وإن كانت تحت زوج؛ لأن عصمة الزوج تمزقت بموته في الغالب بالإسلام، أسلمت وهو كافر فلا تحل له، فهذا الذي تحمله هذه الآية من الهداية وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24] عام اللهم إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] الأيمان جمع يمين، وكيف تحصل على مرأة باليمين؟ في حرب الجهاد لا في حرب الدنيا والمال والاستعلاء والتطاول، لا يقصد القرآن هذا، يقصد حاربنا أمة كافرة من أجل هدايتها ورحمتها وإنقاذها وإدخالها رضوان الله؛ فإن سقط رجالها وماتوا تحت سيوفنا أو مدافعنا ماذا نصنع بالنساء والأطفال؟ نسبيهم ونوزعهم ليدخلوا في رحمة الله؛ لأننا دعاة الله وهداته لعباده. هذه التي ما ندري زوجها مات أو قتل أو ما قتل، ما أصبح هناك أمل أن ترجع إليه، أسلمت وهو كافر يجوز تزوجها وإلا لا؟ بلى فقد أذن الله، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24] فيه كل المحرمات كتبها الله علينا كتاباً وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] دون الواحدة والعشرين كله حلال اللهم إلا بقيود، من تلك المحللات ولا تحل: المرأة إذا طلقها زوجها ثلاث طلقات وبانت منه، هل تحل له؟ هذه ما هي موجودة لا في المصاهرة ولا في النسب .. لها حكم خاص هذه؟ تلاعب بدين الله طلق وراجع طلق وراجع يجب أن يعاقب بعد الثالثة لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وفي هذا إهانة له وكسر لأنفه، هذا الذي ما عرف الطريق، فإذا طلقها ذاك الزوج أو مات عنها يجوز أن يتزوجها.فقوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] أن تدفعوا بأموالكم وهي المهور مُحْصِنِينَ [النساء:24] حال كونكم تريدون الإحصان لا الزنا، وهذا يتم بالعقد والمهر والشروط والصيغة مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء:24] والسفاح هو سيلان الدم والمني الزنا، فما استمتعتم به منهن فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النساء:24] لازمة. التي عقد عليها ودخل عليها لها مهر كامل، وإن لم يبن بها فلها نصف المهر، وإن لم يسم ولم يبن فلها متعة.ثم قال تعالى: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:24] أي: لا حرج ولا إثم ولا تضييق فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، ما الفريضة هذه؟ المهر المفروضز إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:24] انتبه يا عبد الله! هذا تشريع وتقنين عليم ما هو مجرد عالم، عليم بالظواهر والبواطن الماضي والمستقبل على حد سواء، حكيم فيما يضع ويشرع ويقنن، إياك أن تفكر أن في هذه الأحكام خطأ أو زور أو عدم صلاح انتبه فتسقط. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا [النساء:24] لو كان جاهلاً يتخبط كالجهال ما نقبل حكمه هذا، لو كان غير حكيم أحمق مثلنا يضع الشيء في غير موضعه ما يقبل حكمه، لكن الخطاب هذا للعقلاء، أعلمهم أنه عليم حكيم ليطأطئ رءوسهم، ويسلموا لله عز وجل أحكامه، فلا تناقش أبداً، ولا يحاول التبديل أو التغير فيها أحد.
تفسير قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم ...)
قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [النساء:25] والطول من طالت يده إذا وصل إلى القمة في رأس النخلة ووصل إلى البعيد من الأمور. ‏
شروط نكاح الإماء
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25] ما عنده مال.. ما عنده بيت صالح جميل ليتزوج حرة، عنده خيمة أو ما شابه، ماذا يصنع؟ أذن الله تعالى له أن ينكح المحصنات المؤمنات مما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات بهذه الشروط.من لم يستطع منكم طولاً أيها الرجال، أي: قدرة على أن يتزوج لا مال له، الحرائر ما يقبلن مسكنه ما يقبلن طعامه لفقره. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ [النساء:25] أي: يتزوج المحصنات المؤمنات، المحصنات هنا العفيفات المعروفات بالعفة لا العواهر والبغيات، الإحصان هنا العفة والطهر. الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25] هذا قيد ضروري فإذاً فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:25] فليتزوج مما ملكت الأيمان، أي: من الإماء المملوكات لفلان وفلان أو فلان، بشروط: من فتياتكم المؤمنات، وعبر عن الأمة بالفتاة تكريماً لها وإعلاءً لشأنها لأنها مؤمنة ما أهانها، قال: فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25] فإن كانت كافرة لا يصح الزواج بها لا للعاجز ولا للقادر. ثم قال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ [النساء:25] أنت ما أنت مسئول على أن تشق قلبها، قالت: أنا مؤمنة تغتسل وتصلي، ما تقول: ربي اشترط الإيمان وأنا ما أدري لعلها ما هي مؤمنة، هذا الوسواس اطرده، لأن الله قال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ [النساء:25] قال الناس: مؤمنة، وعرفت بين الناس أنها مؤمنة، ما تحاول أن تستخرج ما في قلبها ما تقدر عليه، خلِ هذا لله ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ) أنتم الفحول وهن أيضاً كلاكما إيمانكم يعلمه الله. ثم ما زاد قال: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [النساء:25] مؤمنون ومؤمنات كجسم واحد، وإن كانت أمة مملوكة لإبراهيم أو عثمان، أليست مؤمنة؟ أليست أمة الله؟ أليست أختك في لا إله إلا الله؟إذاً: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) لا توسوسوا وتأخذوا في البحث والاستقصاء. إذاً فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ [النساء:25] تتزوج الأمة بإذن مالكها، أليس لها مالك؟ بلى. أما أن تعقد عليها وتخطبها وتهربها عن مولاها هذا لا يصح، مالكها كأبي البنت المؤمنة الحرة تخطبها منه وتقول: زوجني خادمتك مولاتك فلانة فَانكِحُوهُنَّ [النساء:25] أي: تزوجوهن بإذن أهلهن أولاً وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:25] ما المعروف؟ الذي جرت بها العادة، إذا العادة ألف ريال تعطيها ألفاً لا تعطيها مائة ريال، إذا العادة عشرون ألفاً أعطها كذلك، حسب عادة أهل البلاد في هذا المهر. وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:25] لم سمي المهر أجراً؟ لأنه مقابل عمل، أما تطبخ لك وتربي أولادك وتكنس بيتك، كل هذا أليس عملاً؟ ما تأخذ أجرة، والجماع نفسه هو المقصود وله أجرة أيضاً، قضت حاجتك. وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ [النساء:25] أي: حال كونهم محصنات، أي: عفيفات ما هي معروفة بالزنا والدعارة مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [النساء:25] ومسافحات جمع مسافحة، وهي التي تسيل ماءها وماء الرجال في كل مكان، وهنا الآية تذكر حال العرب في الجاهلية وهو أن الحرة عندهم لا تزني، وإن اضطرت إلى الزنا وزنت لا تعلن عن زناها تتخذ صديقاً لها رفيقاً خليلاً يأتيها في الليل أو تأتيه في النهار لا على أنها بغي وبابها مفتوح للبغاء، اتخذت صديقاً وهذا الآن في العالم كافة معروف، الكرام في الألمان الطلياني يتخذ صديقة ويفجر بها ما هو زوج ما هي في دار البغاء. غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [النساء:25] المسافحات المعلنات عن الزنا وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25] أصدقاء الزنا السري، وتذكرون كلمة هند بنت حرب امرأة أبي سفيان لما كان يبايع النساء عند الكعبة.. عند الصفا فقالت هند : أو تزني الحرة يا رسول الله؟ كيف نبايعك على أن لا زنا؟ وهل الحرة تزني؟ أنقر هذا فينا ونبايع على هذا؟ لكن الله عز وجل أنزل آيته قيمة لاعتراض هند يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ [الممتحنة:12] الآية. إذاً الزواني في بلاد العرب أولاً إيماء وإلا حرائر؟إماء، هؤلاء الإماء يعلقن على بيوتهن رايات حمراء، خرق تسميها راية عند الباب فمن جاء لينام عندها ويبيت عندها ويفجر بها معروفة، وهي أمة تباع وتشترى ليست حرة، ويندر وجود من تتخذ خليلاً خدناً يأتيها في السرية لا إعلاناً ولا يعرف عنها أحد، فالله عز وجل هنا يعلمنا ويقول فَانكِحُوهُنَّ [النساء:25] أي: الإماء يا من لم تجدوا طولاً وما صبرتم على العزوبة وخفتم على أنفسكم أنكحوهن بإذن أهلهن أولاً، وآتوهن أجورهن بالمعروف ثانياً حال كونهن (محصنات) أي: عفيفات (غير مسافحات) أي: معلنات الزنا (ولا متخذات أخدان) في السرية.يقول تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [النساء:25] قدرة أن ينكح المحصنات المؤمنات، ما عنده قدرة على الحرائر ماذا يصنع؟ فمما ملكت أيمانكم أيها المؤمنون من فتياتكم المؤمنات، أما أمة كافرة لا لا لا، لا تتزوجها. مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [النساء:25] ما قيمة هذه الجملة، هذه تذهب الوساوس والخواطر السيئة والشكوك والأوهام، ما دامت قد عرفت بأنها مؤمنة يكفي وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [النساء:25] أنت وإياها من عبيد الله عز وجل. إذاً: فانكحوهن، إذا ما استطعتم الطول فانكحوا هؤلاء الإماء مما ملكت اليمين، انكحوهن بإذن أهلهن، ما المراد من الأهل هنا؟ المالكون لهن. ثانياً: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:25] ما المراد من الأجور هذه؟ المهور بالمعروف السائد بينكم.قال: حال كونهن محصنات أي عفيفات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25] إذ كن الإماء يتخذن أخداناً وأصدقاء ورفاقاً يزنون بهن، وكن بعضهن تعلق راية على سطحها ليأتيها الفاجر -وأكثر من يأتيها العبيد أيضاً- لما جاء الإسلام مسح هذه الأباطيل مسحاً كاملاً، وأنتم تعرفون أن حد الزاني والزانية غير المحصنين جلد مائة وتغريب عاماً، وأما المحصن من ثبت أن تزوج وعرف الزواج سواء طلق أو ماتت زوجته وهي كذلك فجلد مائة والرجم بالحجارة حتى الموت، من أهل العلم من يجمع بين الرجم والجلد كـعلي بن أبي طالب .
حكم الإماء والعبيد إذا وقعوا في الزنا
إذاً وقوله تعالى: فَإِذَا أُحْصِنَّ [النساء:25] أي: تزوجن، الآن الأمة تزوجناها وأصبحت محصنة فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ [النساء:25] تزوجت فلاناً وزنت، قال: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، الموت ما ينصف أو ينصف الموت؟ فما الذي ينصف؟ الجلد والتغريب، اجلدوها خمسين جدلة وغربوها ستة أشهر، فإذا أحصن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ [النساء:25] وجوباً نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25] الحرة المحصنة حدها ماذا؟ (الشيخ والشيخة إذا زنيا ارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) قرآن كان يقرأ فنسخ اللفظ وبقي الحكم وقد رجم رسول الله الغامدية وماعز . إذاً: فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب حتى العبد أيضاً، العبد إذا زنا يرجم؟ لا، وإن تزوج يجلد خمسين جلدة ويغرب ستة أشهر.
حكم الزواج بالإماء
قال تعالى: ذَلِكَ [النساء:25] الحكم لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25] والذي ما خاف من العنت والمرض والمشقة والألم ما يتزوج مملوكة. أذن الله لنا في الزواج بالمؤمنات من الفتيات لأننا عاجزون ما عندنا قدرة على أن نتزوج الحرة، ومع هذا يقول تعالى: ذلكم الحكم الذي علمتموه لمن خشي العنت منكم والمشقة وما أطاق يصبر على العزوبة، خائف على نفسه أن يمرض، أذن له مولاه أن يتزوج أمة بعشرين ريالاً مثلاً. ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء:25] هنا قضت هذه الجملة الأخيرة قضاءً مبرماً، بدعة التمتع لم يبق مجال لعاقل أن يتكلم ويقول: هل يجوز التمتع أو لا؟ مع هذه الآية الكريمة، ذلك الذي أبحناه لكم أيها العاجزون عن قدرة النكاح بالحرائر لعجزكم المادي والبدني أذنا لكم في الفتيات المؤمنات العفيفات غير المسافحات ولا متخذات أخدان، هذا لمن خشي العنت، والعنت المشقة الزائدة، ما أطاق العزوبة. إذاً وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء:25] خير مم؟ من الزواج بالإماء، من خيرنا؟ العليم الحكيم وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء:25] من أن تتزوج أمة لا تقدرك ولا تعرفك، ويملكها فلان. ما هو بأمر هين هذا عند الأحرار المؤمنين، مع هذا يجوز التمتع، هذه أمة بمهر و... و...، وقال: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء:25] . قال لي أحد الأحباء سمع من يقول من العلماء: إذا كان إنسان في أوروبا أو أمريكا أو بلاد كافرة، لا بأس أن يأخذ عجوزاً أو كذا ويتزوجها مؤقتاً؟ قلت له: يا محب هذا لا يصح، ما عندنا غش ولا خداع أبداً، أنت انو بالزواج بها الاستمتاع وصيانة نفسك وحفظ دينك وعرضك، قد تموت أنت قبلها، قد تموت هي، وإن قلت: كيف؟ انو أنك إذا مشت معك إلا بلادك تمشي معك ائت بها زوجتك، وإن قالت: ما نمشي طلقني طلقتها على الوجه الشرعي. أما أن تقول: أنا أقضي بها هذه الأيام وبعد ذلك أطلقها غششتها وخدعتها وكذبت عليها ويا ويحك، والله يقول: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء:25]، مع الزواج الشرعي فكيف مع الزواج الباطل والخداع والغش؟ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النساء:25] ، هنا (غفور رحيم) لأن الله يعلم ضعف الإنسان وحاجته وما هو فيه؛ فإذا زلت القدم يغفر الله لمن تاب ويرحم.
ملخص لما جاء في تفسير الآية
أعيد عليكم التلاوة فتأملوا! وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25] كذا وإلا لا؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [النساء:25] هذه الرحمة الإلهية مفهومة وإلا لا؟ ما توسوس الله أعلم بإيمانك أنت وإيمانها هي، المهم قالوا مؤمنة وقالت مؤمنة. فَانكِحُوهُنَّ [النساء:25] هذه الفاء متعلقة بما سبق فبناءً على ذلك فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ [النساء:25] يتزوج الأمة بدون ما يستأذن مولاها؟ لا صحة هذا أبداً، بإذن مالكها. ثانياً: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:25] العادة أن الآن المرأة تأخذ مهراً خمسون ألف ريال؛ لأنها هذه حرة، والعادة أن الأمة تأخذ من خمسة آلاف لألف، المهم تعطيها المهر كما هو سائد بينكم، لا تمتهنه أو تنتقص حقها. والنكاح بإذن الأهل هل هو خاص بالإماء؟ وهل يجوز أن تخطب بنت فلان وما تخطبها من أبيها؟ هذا فيه قتل كيف يقع هذا، يعني الحرة تتزوجها بدون إذن أهلها غير معقول، حتى إذا ما عندها أهل، القاضي هو أهلها، ما فيه قاضي تختار أحسن رجل في القبيلة يتولى نكاحها.قال: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:25] على شرط أن تكون هذه الأمة عفيفة محصنة محفوظة ما عرفت الزنا ولا تعرفه مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [النساء:25] ما تأتي بها من دور البغاء، هذه لا خير فيها أبداً وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25] إذا عرفت أن لها صواحب أو أصحاب بالليل ما يصح هذا أبداً. لا بد وأن تكون الأمة معروفة بالعفة والطهر والصلاح حتى تتزوجها أنت ولي الله وعبده. فَإِذَا أُحْصِنَّ [النساء:25] ما معنى أحصن هنا؟ تزوجن، ما تقدم المحصنات بمعنى المتزوجات؟ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة وزنت بعد الزواج بها فما الحكم؟ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب. المحصنة المؤمنة الحرة كم عذابها؟ مائة جلدة إذا كانت غير محصنة غير متزوجة إذاً هذه خمسون جلدة، السيد كذلك السيد يقتل عندنا عند الحرائر فالأمة ما تقتل لأن القتل لا ينصف، ما نقتلها نصف القتل والله يقول: نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25] أجمعت الأمة على أن المراد من هذا الجلد. والذي يملك أمة غير متزوجة أو يملك خادماً عنده وزنى يجلده بنفسه هو ما يحتاج إلى المحكمة، هو يقيم عليه الحد، أما هذه المتزوجة فلها حد علني ليتأدب غيرها.ثم ختم تعالى هذا بقوله: ذَلِكَ [النساء:25] الذي عرفتم لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25] ما أطاق العزوبة، ما قدر مضى عام عامان ما استطاع، ماذا يصنع؟ أو الرافضي يقول: يتمتع، والله يقول: يتزوج مملوكة مؤمنة عفيفة، لو كان التمتع يجوز هذا موطنه هنا في هذه اللفظة، لكن قال: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا [النساء:25] مع الآلام والأتعاب النفسية أيها العزاب خير من أن تتزوجوا أمة، الله أكبر!
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال: من هداية الآيتين: [أولاً: تحريم المرأة المتزوجة حتى يفارقها زوجها بطلاق أو موت وحتى تنقضي عدتها].من أين أخذنا هذا؟ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24] أول الآية هذا تابع للواحد وعشرين. [ثانياً: جواز نكاح المملوكة باليمين وإن كان زوجها حياً في دار الحرب إذا أسلمت؛ لأن الإسلام فصل بينهما]. أولاً ما حرم نكاح المتزوجة، وهنا استثنى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24].إذاً: [جواز نكاح المملوكة باليمين وإن كان زوجها حياً في دار الحرب] ما هو في دار الإسلام، قال: [إذا أسلمت] أما إذا هي مشركة ما يتزوجها [لأن الإسلام فصل] بين زوجها الأول وإلا لا؟ الإسلام فاصل لو يصحو إنسان حرمت عليه المؤمنة هذه ولا تبقى معه، لو ترتد المؤمنة يبعدها المؤمن وإلا لا؟ ما يتزوج من مشركة كافرة. [ثالثاً: وجوب المهور]، أما عبر عنها بالفريضة، [وجوب المهور وجواز إعطاء المرأة من مهرها لزوجها شيئاً] قلَّ أو كثر، من أين أخذنا هذا؟ وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ [النساء:24] . [رابعاً: جواز التزوج بالمملوكات لمن خاف العنت، وهو عدم القدرة على الزواج من الحرائر].من أين أخذنا هذا؟ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25] [خامساً: وجوب إقامة الحد على من زنت من الإماء إن أحصن بالزواج والإسلام].وجوب إقامة الحد على من زنت من الإماء، أما الحرائر فما نتكلم هذا معروف بالضرورة، الإماء إن أحصن بالزواج، تزوجت وزنت بالزواج والإسلام، أي: أمة كافرة إذا زنت ما نقيم عليها حد، الحد يطهر الذنوب والكافرة لو غسلتها ما تطهر. مرة أخرى: [وجوب إقامة الحد على من زنت من الإماء إن أحصن بالزواج والإسلام. سادساً: الصبر على العزوبة خير من الزواج بالإماء لإرشاد الله تعالى إلى ذلك].أما قال: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء:25]، أين زواج المتعة إذاً؟ مسألة: الكتابية إن زنت إذا كانت يهودية أو نصرانية دينها يأمر بذلك، رجم الرسول يهودي ويهودية في المدينة حكم فيهم شرعهم.
أوقات النهي عن الصلاة
هذا فلان جاءني يشكو ويقول: هؤلاء يحضرون العلم والدرس ويدعون العلم والشمس تغرب الثانية عشرة بالساعة العربية تغرب وهم يصلون، نهيناهم ما قبلوا، أين علمهم وأين فهمهم وأين بصيرتهم؟! نسألك بالله إلا تعلمهم. احفظوا: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما تلميذ رسول الله إذا صلى الرغيبة -الصبح- في بيته يأتي يرفع رجلاً ويضعها، كان مريضاً، من أجل ألا يدخل المسجد والصلاة ما قامت حتى لا يقعد فيضطر أن يصلي ركعتين، فهمتم هذه وإلا لا؟ما فهمتم. عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يخبر عن نفسه ورآه أصحابه إذا صلى الرغيبة في البيت، ما تعرفون الرغيبة؟ ركعتين قبل صلاة الصبح سميتا رغيبة؛ لأن الرسول رغب فيها بقوله: ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ) ، أي ترغيب أعظم من هذا؟ خشية أن يدخل المسجد والصلاة ما قامت ماذا يصنع؟ صلى انتهره فلان، ما صلى قوموه قالوا: كيف ما تصلي، ماذا يصنع؟ يأتي يرفع رجلاً ويضعها لما يصل باب المسجد قد قامت الصلاة تخلص منها، فهمتم هذه وإلا لا؟ هذه خطوة أولى لنحيط بالقضية ونكون على علم وبصيرة. ثانياً: النهي عن صلاة النافلة في خمسة أوقات قررها أبو القاسم وبينها صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، ومن طلوعها إلى ارتفاعها قيد رمح وقتان مزدوجان. ثانياً: إذا وقفت الشمس في كبد السماء قبل أن تزول لا صلاة نافلة. ثالثاً: من بعد العصر إلى غروب الشمس كم وقت؟ أربعة، العصر من أوله إلى أن تأخذ في الاصفرار له وقت، وعندما تصفر وتهبط إلى الأرض وقت ثاني، خمسة أوقات، هذه الأوقات لا تصلى فيها النافلة، تريد أن تتقرب إلى الله هذا الوقت ما تتقرب فيه بالصلاة، اقرأ فيه القرآن، صل على النبي سبح الله اذكر الله، ميادين الطاعة موجودة.يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) ، وهما تحية المسجد، هذا اللفظ عام ( إذا دخل أحدكم المسجد ) للفقيه أن يقول: في غير أوقات النهي، هذا القيد صالح وإلا لا؟ الرسول حكيم قال: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين في الأوقات التي تباح فيها الصلاة. فلهذا قالوا: هذه الأوقات الخمسة لا يصلى فيها صلاة لا نافلة اللهم إلا الفريضة خشية أن يموت وما صلاها. رابعاً: يقول صلى الله عليه وسلم ( لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها ) انتبهتم؟ ( لا تتحروا ) أي: تطلبوا طلوع الشمس أو غروبها وتصلي؛ فإن هذا الوقت بالذات الشيطان يحمل الشمس على قرنه للفتنة، ولقد رأيت في مدينة من مدن الهند من يعبد الشمس، ونحن مجموعة نتفرج عليه، والشمس تغرب وهو واقف لا يتحرك فيه شيء، ما إن سقطت الشمس أخذ يسعى مسافة ما بين الصفا والمروة، شريعة جاهلية، مأخوذ من الإسلام هذا السعي. الشاهد عندنا وخلاصة القول: تحية المسجد إذا الشمس ما مالت للغروب، أو بدأ أو كان يبدو رأس هذا الغروب لك أن تصلي تحية المسجد بلا تحرج، لكن عندما يأخذ رأسها في الهبوط في الوقت الذي يعبدها عبادها، أو تأخذ في الظهور، هذا الوقت أطع رسول الله؛ إذ قال: ( لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها بصلاة ) . فمن هنا معاشر المستمعين نقول لإخواننا: إذا جاء من وقف يصلي لا تجذبه وتقول: اقعد. ومن قعد ما صلى لا تقل له: قم صل؛ فإن من لم يصل طاعة لرسول الله، والله لمأجور وعائد بالحسنات، ومن صلى خوفاً من نهي الرسول فصلى طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله مأجور، إذاً ما بيننا آثم أبداً فقط نحتاج إلى نية.من ما صلى خائف الرسول قال: لا يجلس حتى يصلي كيف؟ فصلى وإن كان الوقت وقت نهي فإنه أطاع رسول الله وإلا لا؟ يؤجر أو لا يؤجر، والذي ما صلى لا لكونه تعبان أو شبعان أو نعسان خليني أستريح، لا، ما صلى خائف من النهي فجلس وما صلى والله مأجور، أخذ أجره كالذي صلى. لو فهمنا هذا كنا جماعة واحدة. وبعض الناس ما يجلس ولا يصلي يبقى هذا شأنه، أما كان ابن عمر يأتي يحبو خطوة بخطوة كذلك يفعل هذا أو يأخذ المصحف في يده يقرأ أي مانع؟ ما هو واقف لأجل الله واقف حتى ما يصلي مع غروب الشمس شأنه. وهناك وقت آخر، إذا كان الإمام على المنبر يخطب الناس يوم الجمعة، الجمهور على أن من دخل لا يصلي يجلس لحديث: ( اجلس فقد آذيت )، وبعض أهل العلم والأئمة يقول: تحية المسجد يصليها خفيفة لأن الرسول قال لذاك الذي جاء وجلس والرسول يخطب، قال: ( قم فصل ) فمن هنا قلنا لإخواننا من قام يصلي لا تجذبه أبداً تقول: اقعد، ومن جلس لا تقل قم صل إن كنت فقهياً فهذا هو الطريق، فهمتم هذا وإلا لا؟ فقط نصلي لوجه الله ونترك الصلاة لوجه الله لا بد وأننا نتقرب إلى الله عز وجل. وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-24, 10:15 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (11)
الحلقة (235)
تفسير سورة النساء (19)


يبين الله عز وجل لعباده المؤمنين أنه إنما أراد من تبيين الحلال والحرام في المناكح وغيرها أن يرجع بالمؤمنين من حياة الخبث والفساد التي كانوا يعيشونها قبل الإسلام، إلى حياة الطهر والصلاح في ظل تشريع عادل رحيم، بينما الذين يتبعون الشهوات من أهل الفحش والانحراف ومن اليهود والنصارى فإنهم يريدون من المؤمنين أن ينحرفوا مثلهم، فينغمسوا في الملذات والشهوات البهيمية حتى يصبحوا مثلهم، فلا يفضلونهم بشيء، ولا يستحقون بعد ذلك قيادة البشرية وهداية الأمم.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم ...) من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث المباركات من سورة النساء، وقبل الشروع في دراستها أذكركم ونفسي بالآية التي سبق أن درسناها ليلة البارحة، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النساء:25].
هداية الآيات
لا بأس أن نعود إلى هداية الآية لنتأكد من صحة ما في أذهاننا ونفوسنا.قال: [أولاً تحريم المرأة المتزوجة حتى يفارقها زوجها بالحياة أو بالموت]، أية آية تدل على هذا الحكم؟ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24] . [ثانياً: جواز نكاح المملوكة باليمين، وإن كان زوجها حياً في دار الحرب إذا أسلمت] من أين أخذنا هذا؟ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] . [ثالثاً: وجوب المهور وجواز إعطاء المرأة من مهرها لزوجها ما شاءت] من أين أخذنا هذا؟ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:25] . [رابعاً:جواز التزوج من المملوكات لمن خاف العنت وهو عدم للقدرة على الزواج من الحرائر] أي آية هذه؟ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25] . [خامساً: وجوب إقامة الحد على من زنت من الإماء إن أحصن بالزواج والإسلام]، من أين أخذنا هذا؟ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ [النساء:25] .[سادساً: الصبر على العزوبة خير من الزواج بالإماء لإرشاد الله تعالى إلى ذلك]، الصبر على العزوبة خير من الزواج بالإماء، إذاً: هل يوجد مكان لنكاح المتعة مع هذا التحديد؟ دعانا الله إلى الصبر؛ فكيف إذاً بنكاح المتعة الذي هو نكاح خداع وغش وإفساد في الأرض.
تفسير قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ...)
والآن مع هذه الآيات الثلاث، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:26-28].روى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (ثمان آيات نزلت في سورة النساء -التي ندرسها- هن خير للأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ).ثمان آيات منها هذه الآيات الثلاث يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:26-28].والآية الرابعة: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31] . وخامس الآيات: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] . وسادس الآيات: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110] . وسابع الآيات: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116] . وثامن الآيات: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:152] . هذه ثمان آيات قال فيها ابن عباس : (هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت)، لعله واهم؟ والله لهي خير لنا مما طلعت عليه الشمس وغربت، هذه الآيات تطهرنا وتعزنا وترفعنا إلى الملكوت الأعلى، وما بين الشرق والغرب من مال ماذا نفعل به؟ ماذا يجدينا؟ أغلب الأحوال أنه يدمرنا ويقضي على كمالنا وسعادتنا.
معنى قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم)
قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ [النساء:26] بما بين لنا من أحكام تقدمت وشرائع، وإلى آخر ما بين لنا من الصبر على العزوبة ولا نكاح الفتيات المؤمنات المملوكات. وكأن سائلاً يسأل يقول: يا رب! لم شرعت هذا الذي شرعت؟فيأتي الجواب: من أجل أنه يريد أن يبين لكم طريق السلامة والسعادة والكمال؛ لأن المناكح المحرمة لو تغشى وترتكب لفسد المجتمع نهائياً، فقط لو مشينا وراء دعاة الزنا من الزناة لتحطمنا وقضي علينا.أقول مرة ثانية: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء:26] يريد الله أن يبين لكم، هذا جواب سؤال أولاً بين لنا أنه من لا يستطيع العدل لا يجمع بين النساء، من لم يستطع أن يحسن إلى يتيمة لا يتزوجها ويتزوج غيرها، الأموال إذا كانت لدى السفهاء يجب أن يحجر عليهم ولا يمكنون منها، وعلى الأولياء والأوصياء أن يحفظوها ويرزقوهم فيها لا منها، ثم بين تعالى المواريث، وما يرث الرجل من أبيه، الرجل من أخيه، الرجل من أمه بالتفصيل، ثم بين لنا المناكح المحرمة بالنسب وبالرضاع وبالمصاهرة .. كل هذا لماذا؟ ليبين لكم ما به تكملون وتسعدون بعد أن تطيبوا وتطهروا وتتأهلوا للنزول في الملكوت الأعلى، قولوا: الحمد لله. الحمد لله. الحمد لله. اليوم تم علينا ولا نقول: الحمد لله، هو يقول: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء:26] أولاً وَيَهْدِيَكُمْ [النساء:26] يريد أن يهديكم سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [النساء:26] وهم المواكب الذين عرفنا عنهم وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]. وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ [النساء:26] جمع سنة، وهي الطريقة المسلوكة الرابحة البينة التي تنتهي بصاحبها إلى رضوان الله والنزول في جواره في الملكوت الأعلى، من هؤلاء الذين سبقونا؟ النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، هذه الآية كقوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى:13] الآية.فمنهجنا هذا الرباني الإسلامي الذي هدانا الله إليه نهجه الأنبياء والمرسلون، أوما تعتزون وتفرحون بهذا؟ لو ما كان يثلج الصدر ويفرح النفس والله ما يذكره الله تعالى، يريد أن يثلج صدورنا ويسرها، يمتن علينا لنقول: الحمد لله. يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء:26] أولاً وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [النساء:26] ثانياً وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:26] أما كنا في جاهلية جهلاء، الزنا والعهر والباطل والشر، والرجل ينكح امرأة أبيه .. كما تقدم. أراد أن يرجع بنا إلى الصواب، أراد أن يرجع بنا إلى ما يزكي نفوسنا ويطهرها حتى تتأهل لحب الله ورضاه، ما أراد أن يبقينا على الجاهلية وما فيها من ظلام وخبث وشر وفساد، الحمد لله.
معنى قوله تعالى: (والله عليم حكيم)
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء:26] هذا المشرع لو كان ناقص العلم، قصير الدراية والباع فيه، قد نقبل له شيئاً ولا نقبل الآخر، أو يقع في نفوسنا شك في صحة وسلامة ونفع ما بين وشرع. لو كان عليماً ولكن لا حكمة له يضع الشيء في غير موضعه وهو يدري أو لا يدري، ما كان في هذا التشريع أيضاً ما يجعلنا نتردد أو نقبل البعض ونرد البعض أو نخاف الهراوة والعذاب، ولكن نفوسنا غير مطمئنة إلى ما شرع لنا، نرى كأنه خطأ لكننا ملزمون بهذا. لكن هذا الختم الأخير بقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء:26] بحث العلماء عن حكم تحريم المناكح من النسب.. الرضاع.. المصاهرة، ووقفوا على أشياء، ونحن لعجزنا حسبنا حكمة واحدة: علمنا اليقيني أن الله تعالى ما يشرع لنا إلا ما فيه خيرنا وكمالنا يكفينا، تعرف أو لا تعرف، علمنا اليقيني أن ما يشرعه الله لنا لنعتقده أو نقوله أو نعمل به لن يكون أبداً إلا في صالحنا، فلسنا في حاجة إلى أن نبحث عن شيء آخر. لماذا؟ لأنه حكيم وإلا لا؟ حكيم.
تفسير قوله تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم ...)
قال الله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ [النساء:27] الله أكبر وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27] الحمد لله.. الحمد لله، والله لو ينشرح الصدر وتلوح الأنوار للعبد ما يفتر وهو يقول: الحمد لله. الحمد لله. الله يريد هذا؟ الله يريد لنا كذا، الله يريد لنا كذا؟من نحن وما نحن حتى رب الجلال والكمال القيوم الذي يملك كل شيء يريد لنا، والفضيلة تعود إلى فضيلة الإيمان، لو ما آمنا به رباً وإلهاً وبنبيه رسولاً ونبياً، وبكتابه ولقائه والله ما كنا أهلاً لأن يقول: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27]، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء:26]، لكن لما آمنا حيينا وأصبحنا أهلاً للكمال، وأهلاً لأن نقوم بما يأمرنا به، وننتهي عما ينهانا عنه؛ لوجود حياة كاملة. أما لو كنا كافرين يتنزه أن يخاطبنا ويكلمنا، عرفتم سر الإيمان؟ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27] لتعودوا إلى منهج الربانيين والصالحين، الحلال حلال والحرام حرام والطيب طيب والخبيث خبيث والنافع نافع والضار ضار .. بيانات إلهية نعرف بها هذا، ولولا ذلك لكنا كالبهائم التي لا تبحث سوى عن النزو على بعضها والأكل والشرب؛ كبهائم البشر الظلمة قائمة من عشرات الوزارات، وكل تلك الوزارات والقوانين طالعة هابطة من أجل أن يأكلوا ويشربوا وينكحوا فقط، وإن قلت: ويكتسوا الكسوة لا بد منها لأن البرد يقتلهم، ومع هذا نزعوها وفتحوا أندية العري، من باب النادي يخلع أحدهم ثيابه ويدخل كالحيوان.قولوا: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27]، من هؤلاء؟ ويريدوا عكس ما يريد الله عز وجل، الله يريد أن يطهرنا ويطيبنا ليرفعنا وهم يريدون أن نخبث وأن نتعفن لننزل إليهم ونمشي معهم إلى جهنم، هذه من كتاب الله وإلا مزيدة هذه الجملة؟! وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ [النساء:27] عرفتم الشهوات؟ الزنا.. اللواط.. الخمر.. العري.. الفساد.. هذا له ناس يعيشون عليه ويريدون من المؤمنين أن ينغمسوا فيه حتى يتساووا ويصبحوا على صورة واحدة.هذا جائز أن يكون في المدينة من اليهود، وأن يكون من المنافقين، وأن يكون من المجوس، والآن نحن على علم، وإن شئتم حلفت لكم بالله على أن اليهود والنصارى والمجوس والكافرين والملاحدة والمشركين .. الكل لا يريد أن يبقى هذا النور، يريدوننا أن نحلق وجوهنا ونكشف نساءنا ونأكل الربا ونتعاطى الزنا والخمر والضياع فقط، لا يريدون صياماً ولا صلاة ولا طهراً. يرد على الله؟! أما قال تعالى: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ [النساء:27] يعبدون فروجهم يريدون ماذا لنا؟ أن نميل ونسقط إليهم ونصبح مثلهم، هل نفسياتهم تبدلت بعد ألف وأربعمائة سنة؟ والله ما تغيرت، بل ازدادت. قد يوجد عوام في اليهود والنصارى والمشركين ما لهم فكرة ولا بصيرة، لكن جل أغلب مسئوليهم والعالمين منهم والعارفين ما يريدون أن يبقى شيئاً اسمه طهر أو صفاء وهم منغمسون في الرذالة والفساد والشر، هذا كلام الله، ما ذكرنا، نمد أعناقنا لهم ليذبحوننا؟ أم ماذا نصنع؟ لو أخذنا بمبدأ واحد، اسمع! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من تشبه بقوم فهو منهم ) أغلق الباب الآن، الآن يجن جنونهم، يصبحون ما يجدون مسلماً يتشبه بهم، ماذا أصاب الدنيا؟ ( من تشبه بقوم فهو منهم ) من هنا بدءوا هم يعملون ما استطاعوا من جهد على أن نتشبه بهم في القضاء.. في الحكم.. في السياسة.. في الاجتماع.. في المال.. في الزي.. في الدراسة.. في كل شيء أن نكون مثلهم، أترون هناك غير هذا؟ هذا هو.مرة في فرنسا جلست إلى اثنين يتكلمون؛ أحدهم يعيب على السعودي أيش الحجاب هذا الباقي إلى الآن والمرأة مغمورة وكذا وكذا، قال له أخوه: لا، بالتدريج شيئاً فشيئاً ما هو دفعة واحدة، والله بهذه العبارة، وعنده عشرين سنة أو أكثر، تأكدتم من صحة ما قلت وإلا لا؟يكفينا أن الله يقول: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ [النساء:27] الشرائع الإلهية؟! يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا [النساء:27] وتسقطوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27] حتى لا ترتفع رءوسكم ولا تعودوا إلى سلامتكم ونجاتكم. قولوا: آمنا بالله، كيف نخرج يا شيخ من هذه الفتنة؟ ما الطريق؟ والمسلمون من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب متورطون ساقطون آكلون من هذه المجازر؟ ماذا نصنع؟ ما الجواب؟ نستسلم؟ أو نقول: النجاة النجاة أيها المستمعون ويا أيتها المستمعات! الدنيا هذه إلى هبوط والفتنة عائمة، كل واحد منا يطلب نجاة نفسه، هيا نطلب نجاة نفوسنا نتزيا بزي نبينا نأكل أكله، ونشرب شربه، ونعبد الله كما يعبده، ونصبر على ذلك حتى تنتهي حياتنا لأن إلجاء الأمة بكاملها استحالة.إذاً: كل واحد يطلب النجاة لنفسه، لم ما تقول الخلافة؟ إذا وجد الخليفة أو لم يوجد لا بد من استقامة الأمة على الإيمان، أن تدعا دعوة حقيقية إلى أن تؤمن بربها وتقبل على الله عز وجل، ثم تصبح أهلاً إذا أمرت أن تمتثل وإذا نهيت أن تنتهي، أما أمة متكالبة على الدنيا وأوساخها هابطة إلى الحضيض فيها، ألفت كل باطل ومنكر تريد أن تهديها بالرشاش والعصا مستحيل.أيها المستمعون! الشيخ منفعل ولا يعرف الانفعال إلا في الدرس هل فهمتم هذه؟ نعود من حيث بدأنا!إذا أراد أهل قرية فقط لا أقول أهل إقليم ولا مملكة ولا جمهورية، إذا أراد أهل قرية أن ينجوا ويكملوا ويسعدوا يؤمنوا ويحققوا إيمانهم وليسوا تحت سلطان روسيا أو الشيوعية كما فعلت في بلاد العرب انتهت. الآن الحرية كاملة اعبد الله حيث شئت، أهل القرية يؤمنون الإيمان الصحيح ويعملون بهذه الهداية الإلهية والتوصيات الربانية، ولينظروا حالهم سنة واحدة يصبحون بالنسبة إلى ظلمة الأمة كأنهم كوكب يضيء في السماء، ما ضرهم التقليد والتبعية والشهوات تمحي ولم يبق منها مظهر. لم ما جربنا هذا؟ قرية واحدة فقط إذا مالت الشمس إلى الغروب دقت الساعة السادسة يغسلون أيديهم من أعمالهم ويتوضئون ويأتون إلى بيت ربهم بنسائهم وأطفالهم يصلون المغرب ويجلسون كجلوسنا هذا، ويجلس لهم عالم بالكتاب والحكمة لا بالفلسفة ولا بالشيطنة، يتعلمون ليلة آية وأخرى حديثاً، وما علموا إلا وعملوا به، يوماً بعد يوم وعلمهم ينمو وأعمالهم تنمو، ما تمضي سنة إلا وهم أشباه أصحاب رسول الله. تدخل القرية لا تجد امرأة كاشفة عن محاسنها، بله لا تجدها في الشارع تمشي، والآن لا في الليل ولا في النهار؛ لأن الليل كله مصابيح أيضاً، كان نساء أصحاب رسول الله يخرجن بالليل متلفعات بمروطهن، في الليل والله العظيم ما يعرفن من الغلس. ونحن الآن الليل ما بقي ليل كله نهار، إذاً ما يشكو إليك واحد في القرية أنه شتمه فلان أو نال منه بسوء بكلمة أو بغيرها، أو تحدث أن فاحشة ارتكبت في هذه القرية أبداً، أن تجد من يكره أخاه أو يسبه أو يشتمه، هذا هو الطريق، ولا يكلفنا دينار ولا درهم، والله ليوفرن المال أقسم بالله؛ لأن الإقبال على الله في صدق، وانفتاح هذا الباب يقضي على شيء اسمه الشهوات والأطماع والملذات الفانية، ويصبح القليل يكفي صاحبه، والكثير يفيض عليه ويبحث عمن يعطيه إياه. وأخرى هذه القرية يضعون صندوقاً من حديد في المحراب ويقول المربي لهم: معشر الأبناء والإخوان أيتها المؤمنات من زاد على قوته ريال أو عشرة يودعه في هذا الصندوق، والمسجد ما يخلو من الركع والسجد ليلاً أو نهار عرفتم؟ ستة أشهر يمتلئ الصندوق من أراد أن يستلف فليستلف، من أراد أن يستقرض فليستقرض، وقد ينمى في مزرعة إلى جنبهم أو في مصنع إلى جنبهم ويفيض المال ولا ربا ولا زنا ولا قمار ولا تكالب أبداً. هل هذا يفتقر إلى خليفة أو دولة؟ لا، والله ما يفتقر إلا إلى إيمان حقيقي صادق، يصبح صاحب هذا الإيمان عبداً حقاً لله يحب ما يحب الله، ويكره ما يكره الله. وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ [النساء:27] يريدون ماذا؟ أَنْ تَمِيلُوا [النساء:27] تعرفون الميلان وإلا لا؟ مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27] ما هو مجرد ميل، ما تقوموا بعد ذلك أبداً ولا ترفعوا رءوسكم بلا إله إلا الله.
تفسير قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً)
قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ [النساء:28] أيضاً لا إله إلا الله، حقاً هذه الآيات يجب أن تحب، يجب أن نحمد الله كلما قرأناها، كيف هذا؟ ثلاث أسطر فيها ثلاث مرات يريد الله بكم كذا؟! يريد كذا؟! يا رب لك الحمد. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء:28] كل ما يشق عليكم ويضنيكم ويرهقكم ما يريده لكم، فالذي ما استطاع أن يصبر على غريزته أذن له أن يتزوج المملوكة، لو ما شاء لما شرع ولما أذن، ولكن الرحمة التي تقتضي هذا، والشفقة علينا والإحسان إلينا؛ لأننا أولياؤه وعبيده. وهذا ظهر في مظاهر الشريعة: الذي ما يستطيع أن يتوضأ يتيمم، الذي ما يستطيع أن يصلي قائماً يصلي قاعداً، أليس كذلك؟ الذي ما استطاع أن يجاهد ينوي بقلبه فقط لو كان صحيحاً لجاهد يعطى أجر الجهاد .. وهكذا. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28] الهواء يميله إلى الشرق والغرب ويستخفه، فإذا تأدب بهذه الآداب الإلهية كمل.ولنقرأ مرة أخرى يا معاشر المستمعين والمستمعات! بلغوا علماء النفس والاجتماع والسياسة، وعلموهم أن الإنسان خلقه الله عز وجل وركب أعضاءه ووهبه عقله، هذا الإنسان بطبعه إذا استغنى طغى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7].كان يبيع عند باب المسجد وكان يتلطف إخوانه إذا أصبح ذا رتبة ووظيفة يتكبر عليهم، بل يضربهم برجله إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6] بمجرد أن يرى نفسه استغنى عن غيره، أيام كان فقيراً ما يستطيع أن يتكبر، هذه صفة. الثانية قال تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21] والله كما قلت يا رب، والحياة كلها شاهدة، إذا مسه الخير يمنعه، وإذا مسه الشر يصرخ ويجزع! هذا طبعه.وقال تعالى: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] الإنسان هو الظلم والجهل. وقال تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34] هذا الإنسان العام أبيض.. أسود.. عربي.. عجمي، فإذا هو نقل إلى المستشفى الرباني وعولج فجأة يصبح ليس ذاك الشخص، إذا مسه الخير والله ما يمنع بل يعطي، وإذا مسه الشر والله ما يجزع، وإن استغنى والله ما تكبر ولا طغى بل تنازل وتواضع .. وهكذا. فالبشرية المحرومة من هذه الملة المحمدية، هذا الإيمان وهذه الهدايات الربانية حالها كما علمتم: الطغيان.. الكفر.. الشهوات.. الباطل.. الشر، وإياك أن تطمع في خير منها.واضح هذا المعنى وإلا لا؟ هيا نؤمن، ما نستطيع يا شيخ، ما نقدر، لم؟ الإيمان يحملك أن تحمل أطنان الحديد على رأسك؟ أو أن تخرج من بيتك وتبيت في الشارع؟ لا. فقط أن تعرف أنك عبد الله، وأنك بين يدي الله، يجب أن تعرف ما يحب وما يكره، وأن تتملقه بفعل ما يحب وترك ما يكره، هذه حال تستدعيك أن تجلس بين يدي العلماء وتتعلم كتاب الله وحكمة رسوله؛ وبذلك تكمل وتنجو وتسعد، أيام كانت الشيوعية نعم قد تعذر بعض البلاد؛ إذ كانوا يكفرونهم بالقوة، أما الآن لا أبداً، حتى في روسيا اعبد الله.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معاشر المستمعين! أعيد الآيات المباركات ثلاثة آيات من ثمانية في هذه السورة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت. قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:26-28].فهمتم معنى الآيات؟ إليكم شرحها في الكتاب: ‏
معنى الآيات
قال: [معنى الآيات:لما حرم تعالى ما حرم من المناكح وأباح ما أباح منها علل لذلك بقوله: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء:26]، أي: بما شرع؛ ليبين ما هو نافع لكم مما هو ضار بكم، فتأخذوا النافع وتتركوا الضار.كما يريد أن يهديكم طرائق الصالحين من قبلكم من أنبياء ومؤمنين وصالحين لتسلكوها فتكملوا وتسعدوا في الحياتين.كما يريد بما بين لكم أن (يتوب عليكم) أي: يرجع بكم من ضلال الجاهلية إلى هداية الإسلام فتعيشوا على الطهر والصلاح. وهو تعالى عليم بما ينفعكم ويضركم، حكيم في تدبيره لكم، واشكروه بلزوم طاعته والبعد عن معصيته. هذا ما تضمنته الآية الأولى. أما الآية الثانية: فقد تضمنت الإخبار بأن الله تعالى يريد بما يبينه من الحلال والحرام في المناكح وغيرها أن يرجع بالمؤمنين من حياة الخبث والفساد التي كانوا يعيشونها قبل الإسلام إلى حياة الطهر والصلاح في ظل تشريع عادل رحيم، وأن الذين يتبعون الشهوات من الزناة واليهود والنصارى وسائر المنحرفين عن سنن الهدى فإنهم يريدون من المؤمنين أن ينحرفوا مثلهم فينغمسوا في الملاذ والشهوات البهيمية حتى يصبحوا مثلهم لا فضل لهم عليهم وحينئذ لا حق لهم في قيادتهم أو هدايتهم]. أصبحنا مثلهم.[هذا معنى الآية الثانية.أما الثالثة: فقد أخبر تعالى أنه بإباحته للمؤمنين العاجزين عن نكاح الحرائر .. نكاح الفتيات المؤمنات يريد بذلك التخفيف والتيسير على المؤمنين رحمة بهم وشفقة عليهم؛ لما يعلم تعالى من ضعف الإنسان وعدم صبره عن النساء بما غرز فيهم من غريزة الميل إلى أنثاه لحفظ النوع ولحكم عالية؛ فقال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28] ].فهمتم الآيات؟ احمدوا الله عز وجل.
هداية الآيات
هداية هذه الآيات الثلاث في خمسة أرقام: [أولاً: منة الله تعالى علينا في تعليمه الأحكام لنا لتطمئن نفوسنا ويأتي العمل بشرح صدورنا وطيب خواطرنا. ثانياً: منة الله على المؤمنين بهدايتهم إلى طرق الصالحين وسبيل المفلحين ممن كانوا قبلهم. ثالثاً: منته تعالى بتطهير المؤمنين من الأخباث وضلال الجاهليات. رابعاً: الكشف عن نفسية الإنسان؛ إذ الزناة يرغبون في كون الناس كلهم زناة، والمنحرفون يودون أن ينحرف الناس مثلهم وهكذا كل منغمس في خبث أو شر أو فساد يود أن يكون كل الناس مثله، كما أن الطاهر الصالح يود أن يطهر ويصلح كل الناس. خامساً: ضعف الإنسان أمام غرائزه لاسيما غريزة الجنس].وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-24, 10:20 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (12)
الحلقة (236)
تفسير سورة النساء (2)



خلق الله عز وجل آدم عليه السلام وأكرمه بإسجاد الملائكة المقربين له، وخلق له زوجاً من نفسه، ورزقه منها ذرية كثيرة من الرجال والنساء، فاستحق سبحانه أن يتقى، بفعل أمره وصرف العبادات له سبحانه، وبترك نهيه واجتناب معاصيه، فهو سبحانه الرقيب على خلقه، المحيط بهم والمدبر لأحوالهم، العالم بما يصلحهم وما تقوم به حياتهم.
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة)
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآية الكريمة من فاتحة سورة النساء، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
التقوى .. معناها والطرق المؤدية إليها
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!هذا نداء الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه، هذا نداء الخالق الرازق المدبر، مالك الكل، والذي بيده كل شيء، وإليه مصير ومرجع كل شيء، ينادينا نحن .. أبيضنا وأحمرنا .. موجودنا ومن سبق ومن يأتي ويلحق، فهو نداء عام ولا معنى لتخصيصه بأهل مكة، فالسورة مدنية وليست مكية، ولا معنى لتخصيصه بأولاد قحطان ولا أولاد عدنان كل هذا تكبر، وإنما هذا نداء عام يشمل كل إنسان؛ إذ كل إنسان عليه أن يتقي ربه، وهل هناك جنس من البشر لا يلزمهم تقوى الله؟ أو هناك أجناس فوق تقوى الله؟الجواب: كل مربوب مخلوق لله يجب أن يتقي الله، حتى وإن رضي بالخذلان والخسران والشقاء الأبدي ولوى رأسه، ويقول: لا أتقي.ولا تفهمن يا عبد الله! ولا تفهمين يا أمة الله! أن الله إذا أمر بأن يعبد بأن يطاع بأن يتقى أن هذا لصالحه، لحاجته إلى ذلك، تعالى الله عن ذلك كله، واسمعوا نداءه الكريم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].إذاً: فما سر تكليفنا؟الجواب هو: أن نكمل ونسعد .. من أجل كمالنا وسعادتنا وضع الله هذه القوانين، وشرع هذه التشريعات لا لينتفع هو بها؛ فإنه غني، ولكن هي طريق سعادتنا وكمالنا.ومن الآداب البشرية، والأخلاق الإنسانية: أن الذي يملكك ويملك ما تملك، والذي مصيرك إليه أحببت أم كرهت، والذي لو يتركك لحظة لتمزقت وتلاشيت، هذا الذي يغذوك بالطعام والشراب، أليس من المنطق والعقل والذوق والفهم أن تحبه، وتفرح بأمره إذا أمرك، وينشرح صدرك إذا نهاك؟فإن قلنا هذا هو الصحيح؛ فما سبب إعراض البشرية عنه؟الجواب: الجهل، ما عرفوا الله، ما عرفوه حتى يحبوه ويرغبوه، هم في حاجة إلى من يعرفهم بالله، والله عز وجل ما من أمة إلا وبعث فيها نذيراً بشيراً هادياً معلماً، ولكن الشياطين أولاد إبليس وهو على رأسهم - أبو مرة - هم الذين عزموا على أن لا يسعد آدمي، وأن لا ينجو من عذاب الله الأبدي إنسان، فهم الذين يصرفون البشرية أفرادها وجماعاتها عن سبيل سعادتها وكمالها، فيرمونه في أودية الضلال والجهل، يعرف عن الدنيا كثيراً، ولا يعرف عن الآخرة إلا قليلاً، يعرف كيف يتأدب مع أبيه وأمه، ولا يعرف كيف يتأدب مع مالك أمره وخالقه وواهبه حياته. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، أكرر القول: وهو أن تقوى الله عز وجل لا تتم بغير طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بفعل ما أمر بفعله على سبيل الإيجاب والإلزام، وبترك ما نهيا عنه مما هو محرم، ومكروه لله مبغوض.أما أن نتقي الله بالجرأة على المعاصي، بالفساد في الأرض، بالهروب في رءوس الجبال، بالجيوش الجرارة ... لا يعقل أن نتقي غضب الله وعذابه بهذه الماديات أبداً؛ لأن الله كما جاء عنه في سورة الزمر قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، إي والله ما قدرناك حق قدرك، ولا نستطيع ذلك، ولا نقدر عليه، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].ويقول يومها: أنا الملك أين الملوك؟ العوالم كلها في يده، فلهذا كيف نقدر الله؟ لو نذوب حباً فيه أو خوفاً منه فنتحول إلى دماء تسيل ما أدينا حقه، ولكن من رحمته ولطفه وإحسانه لم يكلفنا بما لا نطيق: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، إلا القدر الذي نتسع له، ونقوى على قوله أو فعله.إذاً: معاشر المستمعين والمستمعات! هل عرفتم بم يتقى الله؟ يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله فقط، والطاعة تكون بالأمر والنهي، ما أمرك بفعله أو اعتقاده أو قوله أو التزيي به فافعل، وما نهاك عنه من ذلك فاترك تنجو وتسلم.وعندي سؤال: أين الأذكياء الأبرار؟قل يا شيخ: كلنا بر وذكي! هل يتأتى لرجل أو امرأة أن يتقي الله بفعل ما أمر وترك ما نهى وهو لم يعرف أوامر الله ولا نواهيه، ماذا تقولون؟الجواب على لسانكم نبلغه: لا يتأتى أبداً لرجل ولا امرأة أن يطيع الله فيما أمر وفيما نهى، بأن يفعل المأمور ويترك المنهي إلا إذا علم أوامر الله ما هي، ونواهيه كذلك، ومن هنا وجدتنا أمام واقع، وهو: يجب أن نتعلم. فإن قيل لنا: إن بالصين رجلاً يعرف كل محاب الله ومساخطه؛ فيجب أن نرحل إليه، على أقدامنا أو على سفننا أو طائراتنا، لم هذا يا شيخ؟ لأننا ما نستطيع أن نقي أنفسنا ونحفظها من العذاب إذا أراده بدون ما نطيع الله، فهل نرضى أن نتمزق ونتلاشى ونخفي كل شيء حتى أنفسنا؟ ما نرضى بهذا.الحمد لله، كتاب الله في صدورنا .. في سطورنا، العالمون به متواجدون هنا وهناك، العالمون بالمحاب والمكاره .. في كل قرية فيها من يعلم وفي كل حي، وأما من لم يتعلم فالشيطان هو الذي كممه وألجمه وقاده بعيداً عن طلب العلم، وإلا اسمع هداية الله، يقول تعالى في آيتين اثنتين من كتابه العزيز: الأولى من سورة الأنبياء، والثانية من سورة النحل، يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، من هم أهل الذكر؟ أهل القرآن، والسنة شارحة ومبينة.إذاً: ما بقي عذر لرجل ولا امرأة، أردت أن تتكلم وتتحدث اقرع باب العالم، وقل له: ما الذي يجوز لي أن أقوله في حديثي؟ وما الذي لا يسمح لي بقوله إذا تحدثت؟ يقول لك: يسمح أن تقول الخير، كلما رأيت شيئاً فيه خير قل فيه، وينهاك ويمنعك عن كل قول فيه أذى وشر.وهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، من يحفظ هذا الحديث؟ ما نستطيع يا شيخ؟ لم أغاني العواهر نحفظها؟!( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، متى؟ طول حياته، جالسه واجلس معه وتنقل لن تسمع منه كلمة سوء، ولكن تسمع كلمة الخير، لم؟ أخذ بتعليم رسول الله، واليوم الآخر إما خسران أبدي أو سعادة أبدية، من كان يؤمن حق الإيمان والله ما يقول إلا خيراً، ما هناك خير ما يتكلم، ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل )، إن أراد أن يقول ( خيراً أو ليصمت ).إن شاء الله أخذنا هذه اللؤلؤة الغالية والجوهرة النفيسة، ما ننساها! ولعلنا نجربكم نجلس جلسة ونرى أنفسنا من يتكلم بالخير ومن يصمت عن الشر، هيا فقط نراقب الله، إن مولانا عز وجل والله ليسمع كل كلمة نقولها، ويسألنا عنها، فمن هنا نراقب الله، لا نراقب غيره، إذا كانت الكلمة نافعة فيها خير للحاضر والماضي والغائب قلناها، وإن كانت تحمل شؤماً وسوءاً وأذى تركناها متنزهين عنها. فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، هذا أمر الله، اسمع يا عبد الله! أنت ما درست ولا تعلمت، عليك أن لا تقول ولا تعمل ولا تشتري ولا تبيع ولا تتزوج ولا تطلق حتى تأتي عالماً بالكتاب وتسأله، فما يقول لك افعله. تفعله، وما يقول لك عنه: اتركه!تتركه، وبهذا تعلو وترتفع ولا تلبث طويلاً إلا وقد عرفت محاب الله ومكارهه، وطبقتها وفعلتها، واضح هذا المعنى؟ لا بد من العلم وإلا لا؟ لا بد من العلم، لم؟ لأن العلم معناه معرفة ما يحب مالكنا وما يكره، والذي يحبه تكون له هيئات خاصة، أزمنة معينة، كميات محدودة يجب أن نعرفها وإلا لا؟ عرفنا الصلاة لكن ما هي أوقاتها؟ كيف تصلي؟ لا بد من معرفة هذا وإلا لا؟ وهذا كله يفرض علينا أن نتعلم، وأن نسأل أهل العلم، وإذا علمنا سمونا وارتفعنا وفزنا بولاية الله.
معنى كلمة الرب وصفاته عز وجل
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، لو سئلت عن كلمة ربكم ما معناها؟ قل: مالكنا، سيدنا، الرب المالك وإلا لا؟ من رب السيارة البيضاء؟ فلان، أي: مالكها، الخالق خالقنا هو ربنا، ورب كل شيء، وخالق كل شيء، ومالك كل شيء، ما صفاته؟ صفاته: العليم الحكيم اللطيف الخبير القوي العزيز الجبار القهار الغفار الحكيم، مائة اسم إلا اسم، وكل اسم يحمل صفة من صفات الجلال والكمال.تريد أن تعرف الله إجمالاً؟ ذا القدرة الذي أوجد هذه العوالم هو الله .. الذي وهبك عقلك وسمعك وبصرك ولسانك، هذا الواهب، هذا المعطي، هذا المحسن اسمه: الله.وبيّن تعالى فقال: الَّذِي خَلَقَكُمْ [النساء:1]، أيها المخلوقون! ومن قال: لا. لا. أنا ما خلقني خالق، يرفع يده، ويخرج إلى الشارع ينادي: أنا غير مخلوق، أنا ما خلقني خالق. يضحك عليه النساء والرجال والأطفال والبهائم. مجنون هذا! قال: إنه غير مخلوق!إذاً: ربكم من هو؟ الذي خلقكم.
معنى قوله تعالى: (الذي خلقكم من نفس واحدة)
قال الله تعالى: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1]، هذا علم سامي ورفيع وعالي، وتخبط فيه العلماء وتاهوا متاهات لا أراكموها الله. خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1]، هذا رسول الله يجلس بين أصحابه ثلاثاً وعشرين سنة وهو يعلم، ما يقول لهم: هذه النفس هي أم عدنان أو أم قحطان ، هذه النفس إن لم تكن آدم فمن هي؟ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1]، والله إنها لآدم، آدم من آدم هذا؟ هذا أبو البشر، عندنا علم به أكثر من علمنا بالناس الذين معنا وبين أيدينا، والذي بين لنا هذا خالقه: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]، أي نعم، أربعين سنة وآم طيناً مجندلاً، كيف صنعه الله؟ صنعه بيديه، ويدا الرب إياك أن تسمح لنفسك أن تشبهها بالأيدي وتقول: كأيدي فلان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، مستحيل أن يكون الخالق كمخلوقه.ولهذا تفكر في آيات الله في الكون وفي الخلائق لكن لا تتفكر في ذات الله؛ فإنك تتمزق وتهلك، أنى لك أن تدرك ذات الله، ما أنت؟ ومن أنت؟ أنت في نفسك ما أدركت نفسك ما هي، فكيف تعرف ذات الله؟! إذاً: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1]، هي آدم، واقرءوا آيات الله: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن:14]، أين أصحاب الفخار يا شيخ سليمان ؟ ماتوا. الآن النايل وإلا ما يسمونه يصنعون منه، الفخار طين أحمر ممتاز يوقد عليه النار ويدفأ حتى يتحول ويصبح له صلصلة وصوت، ونحن في الحقيقة شبيهون بالفخار.وآدم قيل له: آدم لأدمته، وهي حمرة بين سواد وبياض، مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن:14].إذاً: ولما صنعه كان طوله ستون ذراعاً، ثلاثون متراً، من أخبر بهذا؟لو أخبرت الدنيا كلها بدون رسول الله ما صدقنا؛ ما عندهم علم، لكن أخبر بهذا رسول الله الذي يتلقى المعارف والعلوم مباشرة من الله عز وجل.ثم بعد أربعين سنة نفخ فيه من روحه؛ فحيي فعطس، فقالت الملائكة له: يرحمك الله، وألهمه الله أن يقول: الحمد لله.وتقول الأخبار الصادقة: أنه لما سرت به الروح قبل أن تكتمل في بدنه كاملاً حاول أن يقوم، فلهذا قيل فيه: عجول، وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11]، اهدأ حتى تتم الروح في كل جسدك، هذا آدم لما خلقه تعالى أمر الملائكة أن تسجد له،لم أمرهم أن يبجلوه ويعظموه ويعلو من شأنه؟ لأن له شأناً عظيماً، هذا سيخرج منه مليارات الآدميين يعبدون الله عز وجل، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر:30]، تأكيد مرتين، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر:31].هل تعرفون أو تدرون ما علة عدم سجوده؟ إنها الكبر، أصفح عن ذلك فقال: قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]، يستفهم منكراً، أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]، كيف أسجد له؟ أنا مخلوق من النار وشرارها، وهذا من طين، فاستكبر، وقاس قياساً فاسداً، ليس بسليم ولا صحيح، لم؟ أيهما أفضل: الطين أم النار؟ يا عباد الله! يا تجار! ماذا تقولون؟أما الطين فينبت البر والبطيخ والتمر، والنار تنبت ماذا؟ بل تحرق الأجسام والمواد؛ فهل تقاس النار على التراب؟ كيف نقول النار أفضل من الطين؟! قالوا: قاس وفسد قياسه. الكبر منعه من أن يسجد لآدم.وسجود الملائكة لآدم لا تفهموا منه أنه سجود عبادة، وأن الله قال لهم: اعبدوه. تعالى الله عن ذلك، بل قال لهم: حيوه بالسجود؛ فسجودهم لآدم طاعة لله، عبادة لله، وإجلال وتعظيم لآدم عليه السلام.
من شرط قبول العبادات الإتيان بها على وجهها الشرعي دون زيادة أو نقصان
وأضرب لكم صورة مثل هذه خذوها: إذا طاف أحدنا ببيت ربنا في مكة سبعاً، هل يزيد واحداً أو ينقص واحداً؟ إن زاد متعمداً أو نقص بطل طوافه.إسماعيل قف! ما معنى بطلان طوافه؟مداخلة: أي: لا يزكي النفس.الشيخ: ما شاء الله، أبشر.فهمتم هذه المسألة؟ ملايين الفقهاء ما يفقهونها، بطلان طوافه معناه: أنه لا يزكي نفسه، لا يوجد له تلك المادة النورانية، المعبر عنها بالحسنات، التي تزكو على النفس البشرية، إذ هذا الطواف لله ينتج هذه المادة النورانية؛ فإذا فسد بطل ما أنتج، أعد طوافك يا شيخ! كذا تقول له وإلا لا؟ أنا طفت، أعد طوافك باطل، أنت طفت ثمانية أشواط زدت شوطاً متعمداً ما ينفع هذا، كالذي يصلي المغرب أربع ركعات، أيش فيه؟ لماذا ما نصلي أربعاً لله تعالى؟ ماذا يقول الفقيه؟ صلاتك باطلة أعدها! لم؟ باطلة.ونحن نقول: لا تزكي نفسك، ما ولدت لك النور المطلوب الذي نعبر عنه بالحسنات، أعد! فهمتم هذه؟أنا أعني ضيوفنا، أما أهل الحلقة فزادهم الله نوراً، امتحنّاهم نجحوا، هذا إسماعيل .لما نطوف وننهي الطواف سبعة أشواط ماذا نفعل؟ نصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم، لا بد وإلا لا؟ إذ قال تعالى وقوله الحق: وَاتَّخِذُوا ، وفي قراءة سبعية: واتخَذوا من مقام إبراهيم مصلى [البقرة:125]، وهي قراءة نافع بصيغة الماضي، وَاتَّخِذُوا [البقرة:125]، يا عباد الله! مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، مقام إبراهيم ما هذا المقام؟ المكان الذي قام فيه أو عليه أو دونه إنه الحجر، الصخرة التي قدمت جميلاً لله فاعترف الله بجميلها فكافأها بأحسن المكافئة؛ فلهذا اعلم أن الله لا يضيع المعروف عنده.هذا المقام حجر من جبل أبي قبيس لما كان الخليل يبني البيت مع ولده إسماعيل وليس معهما ثالث إلا الله في ذلك الوادي الأمين.إذاً: إسماعيل يعطي الصخرة أو الحجرة وإبراهيم يضعها، ويضع الطين فوقها، ويضع الثانية وهكذا، فلما ارتفع البناء إسماعيل ما يستطيع يعطي إبراهيم بيده الحجرة، فقال له: ابحث لنا عن صخرة نقوم عليها ونواصل البناء، فجيء بهذه الصخرة والتي تسمى: مقام إبراهيم، مقام اسم مكان الموضع إذ كان يقوم عليها ويواصل البناء، فلما انتهى البناء بقيت الصخرة بين الباب والركن الشامي لاصقة مع الجدار، وتمضي القرون والأيام وتأتي السيول فتزحزحها وتبعدها فكانت في مكانها الذي هو الآن.هذا الحجر لما ساعد على بناء البيت عرف الله له ذلك فجعل أفضل عبادة تؤدى عنده: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، تصلون فيه لله، الصلاة لله، والشرف لمن؟ للحجر.
سجود الملائكة لآدم تكريماً له ورفض إبليس لذلك
إذاً: آدم أبو البشر أسجد الله له الملائكة، السجود لمن؟ لله، والتعظيم لآدم عليه السلام، إبليس - عليه لعائن الله - قبل أن يبلس ما زال في صفوف الجن، وعالم الجن وعالم الملائكة متحدان تقريباً، لم؟ لأن عالم الملائكة مادة خلقه النور، وعالم الجن مادة خلقه النار، هل بين النور والنار تجانس أم لا؟إي والله، إلا أن النور بارد والنار حارة ودافئة، من علمنا هذا العلم؟ أهذا يقال بالعقل؟ بالفلسفة؟ من أين هذا؟ قولوا؟ قال الله وقال رسوله! ما عندنا علم نثق فيه ونجاهر به وكلنا يقين إلا ما كان من قال الله وقال رسوله؛ إذ الحبيب صلى الله عليه وسلم قال: إن الله خلق آدم من طين، وخلق الجان من نار، وخلق الملائكة من نور، وعلم هذا أصحابه.إذاً: فإبليس أبى أن يسجد فأبلسه الله، ما معنى أبلسه؟ معناه: أيأسه من الخير، وقطع كل أمل أن يكون فيه خير أو يلقى خيراً، كأنه مسحه مسحاً من مادة الخير، فهو مبلس، وطرده من الجنة دار السلام، ما أصبح أهلاً لأن يدخلها.ومع هذا استطاع أن يتصل بآدم وحواء من طريق اللاسلكيات؛ إذ ما منا يا أرباب القلوب إلا وعنده جهاز للتلقي والإرسال، وإن كنا بالآلات ما نكتسبه، كالملائكة معنا لكن لا بالآلة ولا بالسحر نستطيع أن نلمس ملكاً الآن وهو والله معنا، فهذا الجهاز يتلقى به العبد والرسل، فآدم له قلبه وإلا لا؟ وحواء امرأته كذلك؛ فوسوس لهما الشيطان: هل أدلكما على شجرة إذا أكلتما منها خلدتما؟ فزين لهما أكل الشجرة وقد نهاهما الله تعالى عنها، أذن لهما أن يأكلا من كل ما في الجنة إلا هذه الشجرة: وَلا تَقْرَبَا [البقرة:35] فاستطاع العدو الماكر الحسود أن يوقعهما.وما إن أكلا منها حتى انكشفت سوءتهما، كانا عراة، لا إله إلا الله! آمنا بالله! اسمع. لولا أن الله تعالى غرز فيهما وعلمهما العورة ما عرفا العورة، العورة كالوجه، هل هناك من يستحي من وجهه؟لا. كذا وإلا لا؟ إذاً فالقبل والدبر ما الفرق بينها وبين الأنف العين والرجل؟ لا شيء، إلا أن الله جعل هذا الأمر وأوجده. فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [طه:121]، إذاً لستما بأهل للبقاء في هذه الدار اهبطوا، ومرة أخرى تعودون إن شاء الله، أما هذه المرة فلا، واهبطوا مع عدوكم. هذا آدم.
معنى قوله تعالى: (وخلق منها زوجها ...)
قال الله تعالى: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1].كلمة الزوج تطلق على الزوج الرجل، وعلى الزوج المرأة، إلا أن الفقهاء -ونحن إن شاء الله منهم- نقول للرجل زوج وللمرأة زوجة، حتى يفهم من لا يفهم، لو تقول له: هذا زوجك؟ تقول: نعم، تقول له: هذه زوجك؟ كيف زوجي؟ هذه زوجتي ويجادلك.إذاً: فالزوج ما زاوج فرداً، إصبع واحد وأزاوجه بآخر، العمود هذا زوج وإلا فرد؟ بهذا الآخر أصبح زوجاً، هذا زوج وهذا زوج، فالرجل زوج والمرأة زوج أيضاً، من باب رفع اللبس والتوضيح قل: زوجة. بهاء التأنيث، الفطرة تقول هذا وتعرفه، ما قال: وخلق منها زوجتها أو زوجته، قال: زوجها.من تلك النفس نفس آدم خلق منها زوجها وهي حواء، من علمنا أنها حواء؟ لولا أن الرسول أخبر لا نصدق يهودي ولا صليبي ولا فلسفي ولا كاذب، نحن الآن موقنون أن اسمها حواء أم البشر، كيف خلقها الله؟ قرأنا للمتخبطين من الفلاسفة والشاطحين، أنهم قالوا: ممكن خلقها من طين كما خلق آدم، لم هذا كله؟ لم هذه الحيرة؟ والرسول المبلغ المعلم الذي يوحى إليه ويكلم يقول: ( لقد خلق الله حواء من ضلع آدم الأيسر )، قال لها: كوني واخرجي فكانت، نظر وإذا بامرأة إلى جنبه، أو هذا أمر يعجز الله؟ آمنا بالله، أما قال: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] على الفور؟ الذي خلق العوالم كلها أيعجزه أن يقول لامرأة كوني فكانت.والرسول يقول: ( إن النساء خلقن من ضلع أعوج، فإذا ذهبت تقومه كسرته )، اتركه كما هو أحسن على عوجه، هذه التعليمة المحمدية عند العلماء والعارفين ما يقع بينه وبين أزواجه من نزاع ولا خصومة ولا سب ولا شتم ولا طلاق ولا أذى، عارف أنها عوجاء وإلا لا؟ ما يستطيع يقومها إلا بالكلمة الطيبة والابتسامة والكلمة الهادئة، حتى تلين وتستقيم، أما افعلي كذا، كما هو واقعنا .. الطلاق .. علي الطلاق .. بالطلاق .. بالثلاث .. أنت حرام .. أنت كذا، لا إله إلا الله! كيف يجوز هذا؟ من علم الناس؟ ما العلة يا أهل الدرس؟ الجهل ما عرفوا، ما ربوا في حجور الصالحين، الولد يسمع أباه يلعن امرأته، ويسمعه وهو يقول: بالحرام ويفعل، حينها يتعلم الولد ذلك أيضاً.حواء عليها ألف سلام هبطت إلى الأرض، وآدم كذلك هبط لكن في مكان آخر، والتقيا بعرفة، وهذا أحسن ما تقول في تسمية عرفات بعرفة، تعارفا هناك، الأخبار تقول: حواء نزلت بالهند، وجاءت تمشي والعالم ما فيه إلا هي، إذاً وتعارفت مع زوجها في عرفة، والبيت لمن بني؟ لهما؛ لما حصل ما حصل من الشوق والوحشة، كانا في أنس .. كانا عند الله في الملكوت الأعلى، كيف يعيشان في هذه الغربة البعيدة، والأوضاع المتنافية؟ فبنى الله لآدم بواسطة ملائكته بيتاً إذا احتاج إلى ربه يقرع بابه ويأتيه ويطلب حاجته، يطوف به ويستأنس ويجده حامياً وأنساً؛ لأنه بين يدي بيت ربه. هذا سر بناء البيت، وإلى الآن من منكم يجد الوحشة إذا طاف بالبيت؟ إذا كنت تطوف ذاكراً في البيت تنسى كل شيء، إلا إذا كان العدو ملازمك شيء ثاني. وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا [النساء:1].بث نشر، والبث النشر. رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1].ثم بعد ذلك كل رجل مع امرأة أنجب، وانتشرت البشرية، فآدم كان يزوج بنته التي ولدت له هذا العام بابنه الذي ولد قبلها، وكانت حواء أيضاً أكثر ما تلد توأمين، وأذن له أن يزوج من ولد في هذا العام بالبطن الثاني في العام الثاني، ففي فترة من الزمن انتشر كثير من الرجال والنساء، وبعد ذلك أصبح أيضاً الرجال والنساء يتناسلون ويتوالدون.فقوله: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا [النساء:1] أي: من آدم وحواء، ومنهما أي: من الذكر والأنثى بعد ذلك إلى أمي وأبي، وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1].إذاً: وَاتَّقُوا اللَّهَ [النساء:1].مرة ثانية، هذا بيت القصيد، لما عرفنا بجلاله وكماله وإفضاله وإنعامه وإحسانه قال إذاً: وَاتَّقُوا اللَّهَ [النساء:1]، أول قال: اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1] كذا وإلا لا؟ والآن عرفناه باسمه.
معنى قوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ...)
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ [النساء:1].تساءلون الأصل تتساءلون، يسأل بعضكم بعضاً بالله، أسألك بالله يا فلان إلا أن تعطيني كذا، أسألك بالله إذا ما جئتنا، كان العرب في هذه الديار يعيشون على هذه المسألة، إيمانهم بالله وهم جهال، وفي جاهلية ومع هذا هؤلاء أحفاد إسماعيل كانوا يتساءلون بالله، أسألك بالذي بنى هذا البيت، أو بالذي، خلقك أو بالذي رفع السماء أن تعطيني كذا وكذا، ما داموا يتساءلون به يعرفونه وإلا لا؟ لم لا يتقونه؟ كيف يتقونه؟يعبدونه وحده ويتخلون عن عبادة الأصنام والأوثان والأحجار، يؤمنون بوحيه على رسوله بكتابه وما أنزل فيه، يؤمنون بلقائه، اتقوه بعبادته دون عبادة سواه، أنتم تتساءلون به ولا تعبدونه أو تعبدون معه آلهة أخرى؟والسؤال الآن: هل يجوز لنا أن نتساءل بغير الله؟ أسألك بجاه سيدي رسول الله أن تعطيني كذا. يجوز؟ والله ما يجوز، أسألك بالملح الذي بيننا. وهذه مقولة العامة عندنا، يعني: أكل في بيته طعاماً.الجواب: لا يصح لمؤمن ولا مؤمنة أن يسأل بغير الله تعالى، عرفتم؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ [النساء:1] أي: يسأل بعضكم بعضاً حاجته بالله عز وجل، كأن تقول: أسألك بالله إذا ما حملتني أو أعطيتني، أما أن نسأل الله بنبي أو ملك أو سيد أو شريف أو غني أو وزير، هذا الباب مغلق ولا ينفتح، أغلق عندما قلت: لا إله إلا الله، لا معبود إلا الله.واتقوا الأرحام أيضاً، نتقي الله بم؟ بطاعته، وألا نتعدى حدوده، وأن نقف عند أمره ونهيه.والأرحام نتقيها بعدم قطعها، بعدم أذاها، بعدم هجرانها، بعدم إضاعة حقوقها، وهذا معناه: أن المجتمع الرباني الإيماني كما يعبد الله ليكمل ويسعد يجب أن يتواصل ولا ينقطع، لاسيما مع الأرحام، من أرحامك؟ كل من تجمعك به رحم واحدة فهو رحمك، سواء كان من المحارم أو من غيرها، ومن قرأ: (والأرحامِ) قراءة باطلة، تقول: (والله الذي تساءلون به والأرحامِ) إذ يتساءلون بالأرحام: والرحم التي بيننا وبينك. خطأ، قراءة لا تقبل، فالأرحام مفعول به منصوب مثل الله: اتقوا الله الذي تساءلون به واتقوا الأرحام، نتقيها لا نتعدى حدود الله فيها، نصل ولا نقطع، نبر ولا نؤذي.. وهكذا.وأخيراً قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].لا تفهموا أنكم أحرار منطلقون في فيافي الحياة، بل اعلموا أن الله عليكم ينظر إليكم من فوق، رقيب عليكم، فيعرف حركاتنا وسكناتنا، بل ويعرف ميول نفوسنا وقلوبنا.إذاً: فلنتق الله في هذا الأمر .. نتقي الله بفعل ما أمر وترك ما نهى، ونتقي أرحامنا فلا نقطعها ولا نبترها ولا نعادي ولا نجفو أبداً؛ فإن الله رقيب ويجزي الموفين بعهودهم القائمين بحدود الله، كما يجزي الآخرين الأولون بالنعيم والآخرين بالعذاب.هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع، آمين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-24, 10:24 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (13)
الحلقة (237)
تفسير سورة النساء (20)


قدر المؤمن عند الله كبير وحرمته عظيمة، لذلك فقد حرم الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، فلا يغرر بعضهم ببعض، ولا يغش بعضهم بعضاً، ولا يزيد بعضهم على بعض، إلا ما كان تجارة عن تراض منهم، كما حرم عليهم قتل بعضهم؛ لأن دم المؤمن عند الله عظيم، ومن يقتل مؤمناً عدواناً وظلماً فسيصلى ناراً تلظى، جزاء ظلمه وعدوانه.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ...)
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).حقق اللهم لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك!وها نحن مع سورة النساء، وهي رابعة السور القرآنية الكريمة، وها نحن مع هاتين الآيتين الكريمتين، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29-30].
فضل الإيمان على أهله
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أليس هذا نداء من نداءات الرحمن؟ بلى. نادى فيه المؤمنين والمؤمنات، لماذا ما ذكر المؤمنات؟ لأنهن ضمن الفحول والرجال، فليس هناك حاجة إلى ذكرهن مع الرجال.وقبل كل شيء المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:29] لبيك اللهم لبيك! مر نفعل، انه ننتهي، علم نعلم، بشر نفرح، حذر نرهب ونخف، هذا استعداد من المؤمنين لأنهم أحياء؛ ولهذا ناداهم لينهاهم، لو كانوا أمواتاً ككل الكافرين من المجوس واليهود والنصارى والمشركين والبوذيين؛ ما هم بأهل لأن يناديهم الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه، وما هم بأهل لأن يستجيبوا له في ما أمرهم به أو نهاهم عنه، وإنما ينادي المؤمنين بوصفهم أحياء، والحي حسب سنة الله يسمع ويبصر وينطق، ويأخذ إذا يعطى، ويعطي إذا طلب؛ لكمال حياته.إذاً: فلتهنأكم حياتكم. الحمد لله! والله لولا هذا الإيمان ما نحن بأهل لأن ينادينا الله عز وجل، لكن هو الذي أحيانا في أبداننا، وأحيانا بإيماننا، أصبحنا أهلاً لأن نسمع كلام الله ونمتثل أمره ونجتنب نهيه، الحمد لله. أوما عرفتم قيمة الإيمان؟ إليكم هذا العرض السريع.في هذه المدينة النبوية كان عليه الصلاة والسلام جالساً مع بعض أصحابه، فمر بين أيديهم رجل في طريقه إلى أهله أو حاجته، وكان رثَّ الثياب دميم الخلقة، لا يلفت النظر أبداً، فلما مضى قال لهم صلى الله عليه وسلم: ( ما تقولون في هذا؟ قالوا: هذا حري إذا خطب ألا يزوج، وإذا أمر ألا يطاع، وإذا قال ألا يسمع، وسكت! ومضى في حديثه معهم، فمر رجل آخر -رجل منظره جذاب الهيئة وحسن الثياب كأحسن ما يكون- فقال لهم: ما تقولون في هذا. قالوا: هذا حري إذا خطب أن يزوج، وإذا أمر أن يطاع، وإذا قال يسمع له. فقال لهم -ولعله حلف-: لملء الأرض من هذا لا تساوي ذلك! ) ملء الأرض من هذا المنافق صاحب المظهر لا تساوي ذلك المؤمن الرثِّ الثياب الفقير الضعيف.هذا تقبلونه أم لا؟!وصح لو أن أهل الأرض اجتمعوا على قتل نفس مؤمنة لكبهم الله في نار جهنم ولا يبالي! ما هو قبيلة أو عشيرة أو جيل من الأجيال، لو أن أهل الأرض أجمعوا على أذية مؤمن من عباد الله وأوليائه وقتلوه لكبهم في نار جهنم.إذاً: فهيا نحمد الله على هذه النعمة.
حرمة أكل أموال المؤمنين
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:29] نادانا ليقول لنا ناهياً لنا: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] أي: بدون حق، فهذا نص قطعي الدلالة في حرمة أموال المسلمين إلا إذا أخذت بحق. لم؟ لأنهم أولياء الله وعبيده، ما يرضى أبداً أن يؤذوا بأكل أموالهم؛ فحرم ذلك تحريماً قطعياً، أكل أموال المؤمنين بالباطل يكون بالسرقة، بالاختلاس، بالغصب، بالغش، بالخداع، بالكذب بالربا، وبكل أنواع الباطل.لا يحل لمؤمن أن يأكل مال أخيه المؤمن بغير حق، وهكذا أمن الله تعالى المؤمنين، إذا وجد المؤمنون في أرض الله في أي بلد وصح إيمانهم حصل أمن كامل، لا يحتاجون إلى شرط ولا بوليس ولا سجون أبداً، لا يوجد مؤمن يأخذ مال أخيه بالباطل.لم؟ لأن المؤمنين أحياء، آمنوا بربهم وبلقائه، وبوعده ووعيده، وبالدار الآخرة وما فيها من عذاب أليم أو نعيم مقيم.مولاهم سيدهم أمرهم ألا يأكلوا أموال بعضهم بعضاً بالباطل؛ فما بقي من يمد يده ليأخذ مال أخيه المؤمن، والواقع يشهد، لا يوجد مؤمن حق الإيمان عرف وآمن يمد يده ليختلس مال مؤمن أبداً ولو مات جوعاً.
التكافل الاجتماعي بين المؤمنين
قوله: أَمْوَالَكُمْ [النساء:29] إشارة إلى التضامن الذي يفرضه الإيمان ليجعل أموال المؤمنين كمال واحد، لأن الأموال قوام الأعمال، وحياة المؤمنين متوقفة على تلك الأموال، إذاً: فلا يحل لصاحب المال أن يأكل المال بدون حق، بأن يأكله بأي وجه من أوجه نهى الرسول ونهى الله تعالى عن أكلها، هل يجوز لصاحب المال أن يشتري به خمراً ويشربها؟ أو محرماً ويلبسه أو يأكله؟ هل يجوز له أن يسرف في ذلك الطعام أو اللباس أو الشراب ويتجاوز حد الاقتصاد؟ ما يجوز وهو ماله! فأموال المؤمنين كأنها مال واحد منهم، إذ حياتهم متوقفة عليها: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] نظيره: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5].ابنك سفيه أو أخوك بمعنى: لا يحسن التصرف في المال لا تعطه المال، امرأتك لا تحسن التصرف، لا تضع المال بين يديها، حرام عليك! لم؟ لأن المال قوام الأعمال، والحياة شاهدة، والشاهد عندنا: في جعل الأموال أموال المؤمنين، وليس هذا من باب الافتراء ودعاوى الاشتراكيين التي فعلت الأعاجيب في الناس، ذاك المعنى باطل، سلبوا أموالهم وصادروها وأخذوها بحجة أن الأموال مشتركة بين المواطنين، وفعلوا في إخوانهم الأعاجيب وهلكوا.كل ما في الأمر: يجب أن نعلم أن مالي كمالك كمال أي مؤمن يجب ألا يؤكل إلا بحق، وألا ينفق إلا فيما يرضي الله عز وجل؛ لأن هذه الأموال حياتنا موقوفة عليها، ونحن مجتمع رباني إيماني إسلامي، لا يرى بيننا جائع ولا عار ولا ضائع؛ لأن أموالنا كمال واحد. لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] أي: بدون حق يقتضي ذلك.قيل: لما نزلت هذه الآية أصبح المسلمون لا يقبلون الهدية، ولا يقبلون العطية يعطونها، ولا يأكل أحدهم عند أحد، تدعوه يقول: لا آكل، ما دفعت شيئاً، لما نزلت آية سورة النور بينت الطريق للسالكين، إذ قال تعالى: وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61] فأصبح المؤمن لا يتحرج، دخل على بيته دعاه أبوه يأكل، ما يقول: ما دفعت شيئاً! دعاه خاله للأكل يأكل، ما يقول: أنا آكل بالباطل، ما دفعت شيئاً، فزال ذلك الخوف.
الخيار في البيع
قال عز وجل: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] هذه التجارة معروفة، ولا بد من التراضي، البائع يرضي المشتري، والمشتري يرضي البائع؛ فإن حصل عدم الرضا بطل البيع، والحكيم صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما البيع عن تراض ) فإذا لم يحصل الرضا بين الطرفين فلا بيع، ويسقط البيع، وهذا كلام الله: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29].( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) ذي قاعدة وضعها صلى الله عليه وسلم، البيعان أحدهما بيِّع على وزن سيد، وهو بمعنى البائع.واختلف أهل الفقه: ما لم يتفرقا بالقول أو بالبدن؟ فذهب من ذهب إلى أن التفرق يكون بالقول، وذلك إذا قال: ندمت. ما بعتك، أو قال الآخر: ما اشتريت، مع الأسف ما أريدها، فتفرقا بالقول.والتفرق بالبدن: أن يخرج من الدكان أو السوق أو محله.والذي هو أرحم أن يكون التفرق بالأبدان، ما داما في المجلس الواحد ساعة ساعتين يتكلمان يتحدثان، ثم قال أحدهما: من فضلك ما أبيع أو عدلت، يجب أن يقبل ويرد المبيع له، ولا يؤذي أخاه، لكن إذا تفرقا هذا ذهب إلى بيته، وهذا إلى بيته لم يبق هناك مراجعة، لا خيار، أما في المجلس فهذا أخوك تذكر شيئاً كان نسيه، لاحظ شيئاً في القضية فقال: سامحنا. ينبغي أن تستجيب لأخيك، بل الصالحون حتى لو ذهب إلى بيته وطالب أن يرد له يستجيب له، لكن بدون ما حق.
معنى التراضي في البيع
إذاً: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً [النساء:29] وقرئت: ( تجارةٌ ) عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] ما وجه أكل المال هنا؟ أنت تشتري شاة بخمسين ريالاً، وتبيعها للآخر بسبعين، ما أخذت عشرين ريالاً زيادة؟ أخذت، تشتري منزلاً بمليون، وتبيعه بمليون ونصف، بأي حق أخذت هذا النصف المليون من أخيك؟ بالتراضي. هو رضي بالشراء؛ لأنك تتصور أن مالاً أخذته بدون مقابل، أنت اشتريت الشيء بخمسين ريالاً، بعها بخمسين على أخيك، فإذا بعتها بسبعين أو ثمانين، هناك مال زائد أم لا؟ بأي حق تأخذه، السلعة واحدة؟ قل: أذن الله لنا في ذلك، ما دام أخي راض غير ساخط، ولا رد علي بيعي؛ إذاً: فهذا هو التراضي، فهذا المال قلَّ أو كثر حلال! وفي هذا فتح باب للتجارة ولا بد منها، لماذا؟ لأن حاجة الإنسان تقتضي ذلك، إذا لم يوجد من يتجر في الحبوب في الثمار في الملابس، في اللحوم أين يجد أهل القرية ذلك؟! أكل شيء موجود في قريتهم؟ غير معقول.فلهذا التجارة محمودة، والتاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وإليكم نص الحديث الكريم. قال: يكفي في الرد على من عاب التجار في تجارتهم وقالوا: هذا عدم توكل، وهذا من جماعة التصوف، يرد عليهم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( التاجر الصدوق ) تعرفون هذه أم لا؟ كثير الصدق لا يعرف الكذب، أما التاجر الكاذب فاجر.( التاجر الصدوق الأمين المسلم ) ثلاث صفات: أن يكون أولاً مسلماً، أما كافر لا قيمة له عند الله.ثانياً: أن يكون أميناً، أما أن يكون خائناً، لا حق له في هذا المنصب.ثالثاً: الصدوق لا يعرف الكذب.( التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة ). عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] هذه الآية أو هذا بعض الآية الأولى حرم الله تعالى على المؤمنين والمؤمنات أكل أموال بعضهم بعضاً بغير حق، بغير مقابل، بغير عوض، أما ما كان برضا أخيك المؤمن فآية سورة النور وضحت الموضوع، فأكل مال أخيك مع طيب نفسه ورضاه هو من الحلال الذي لا يشك في نيته.هناك أيضاً لطيفة سبق أن عرفتموها:إذا كان الشخص حيياً لا يرد سائلاً، وعرفت أنت هذا، ثم جئت فطلبته فأعطاك الذي يملك وبقي جائعاً أو متألماً، هل هذا أخذته بطيب نفس؟ لا، نفسه ما هي طيبة، لكن حياؤه منع أن يردك.مرة ثانية: أهل القرية أهل الحي إذا عرفوا شخصاً بينهم حيياً لا يرد سائلاً يتحاشون طلبه؛ خشية أن يأخذوا مالاً بدون طيب نفس أخيهم، واضح هذا المعنى؟
نهي الله للمؤمنين أن يقتلوا أنفسهم
ثانياً: يقول تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] النهي الأول عن أكل أموال بعضنا البعض بالباطل، والنهي الثاني: عن قتل بعضنا بعضاً: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] الظاهر: أنه لا يحل لمؤمن أن يقتل نفسه، وهو ما يعرف بالانتحار، عرفتم؟ لكن الآية أعم من أن يكون الخطاب للمؤمن، بل كل من قتل مؤمناً فقد قتل نفسه، المؤمنون كالبنيان الواحد يشد بعضهم بعضاً، وإن تعددت أفرادهم وبلغوا المليارات فهم في نفس الحكم كجسم واحد: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، ( كل المؤمن على المؤمن حرام، دمه وعرضه وماله ) فلاحظ. أطلق لفظ الأموال كأننا مشتركون فيها، وأطلق لفظ النفس أيضاً كأننا نفس واحدة، وهذا هو الحق لو كنا مؤمنين، هذا لا يتم ولن يتم إلا للمؤمنين الصادقين في إيمانهم؛ فلهذا على الذين يبكون على تخلفنا وضعفنا وما حل بنا وما نعانيه نحن المسلمين، الطريق الوحيد أن يحققوا الإيمان في قلوبنا، أن يعرضوا علينا الإيمان عرضاً سليماً صحيحاً، ويواصلوا ذلك حتى تمتلئ به قلوبنا، وتتجلى حقائقه في كافة جوارحنا، ثم يصبح مالنا واحداً، ونفسنا واحدة! لأن الكفار المكذبين لله ورسوله ولقائه الآن فيهم الانتحار، ونسبته تسمعونها، العهر والزنا والجرائم بلا حساب، ما يعرفون شيئاً اسمه تقوى الله. وإن ظهروا أمامكم أنهم كذا، وفي بواطنهم الخبث الذي لا يذكر، ولا سبب إلا الكفر أموات أوساخ كالحيوانات، ويدلك دلالة قطعية أن المؤمن الصادق في قريتك في جماعتك لا يسرقك لا يكذبك لا يغتابك لا يقتلك لا يأكل مالك، ما السبب في هذا؟ خائف من البوليس؟ آمن فعرف.والذين هبطوا من كمالهم، أمة الإسلام ومن ألف سنة وهي هابطة، وسبب هبوطها ضعف إيمانها، طاقاتها هبطت؛ لأن النور الدافع هبط منها، وهذا من كيد الأعداء ومكرهم، هم الذين حولوا قلوبنا وأفسدوا حياتنا، وأصبحنا أسوأ منهم، هم يضحكون علينا! إذاً: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] لا جماعة تقتل جماعة، ولا حرب تعلن على قبيلة أو جماعة، ولا واحد يقتل أخاه، فإنما قتل نفسه، وفضلاً أن يقتل نفسه بالذات، وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29].من لطائف المعنى: إذا قتلت أخاك المسلم ستقتل أنت، إذاً: قتلت نفسك، القصاص إذا قتل مؤمناً عدواناً وظلماً يقتل به أم لا؟ إذاً: لا تقتل نفسك يا عبد الله! لأنك إن قَتلت قُتلت!ثانياً: إن لم يكن قصاصاً قد تقتل شخصاً يقتلك أبوه أو أخوه أو عمه أو من في قبيلته، فكأنما قتلت نفسك!هل تعرفون ما ورد في قتل النفس؟ اسمعوا هذا الحديث النبوي الصحيح.يقول: ورد الوعيد الشديد في قاتل نفسه، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( من قتل نفسه بشيء ) آلة من الآلات ولو حطبة ( من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة ) سواء بالسم أو بالسحر أو بالرصاص ( من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة ) رواه الجماعة.وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته يجأ بها بطنه إلى يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم -شربه- فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً أبداً، ومن تردى من جبل -أو من عمارة من فوق السطح- فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ).لو بلغ هذا الخبر المؤمنين فوعوه وفهموه والله يندر ممكن في مائة سنة ما يقتل واحداً نفسه! لكن هل بلغهم؟ هل عرفوه؟ هل حفظوه؟ أجيال ما سمعوا به، فعلتنا هي الجهل، يا من يريد إصلاحنا هيا! علمنا، بصرنا؛ حتى نحيا وتكون حياتنا، أما تنهانا عن التلصص عن السرقة عن الكذب عن الخداع عن الزنا وقلوبنا ميتة ما دخلها نور، ولا عرفت الطريق إلى ربها، كيف تحقق ذلك؟
من مظاهر الرحمة الإلهية
وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] ومن مظاهر رحمته: حرم عليكم قتل بعضكم بعضاً، ما يريد أن تعذبوا ولا أن تشقوا لا في الدنيا ولا في الآخرة.إذاً: نستجيب لربنا أم لا؟ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ [النساء:29] وما زال رَحِيمًا [النساء:29] من مظاهر رحمته: أنه لم يسمح لنا بشيء اسمه أذى أبداً، حرم العهر، حرم ما شاء أن يحرم، وحرم أكل المال بالباطل، وحرم قتل النفس.
عاقبة القتل ظلماً وعدواناً
الآية الثانية: يقول تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [النساء:30] قد يشمل هذا كل المحرمات والمنهيات التي جاءت في سورة النساء. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [النساء:30] المنهي المحرم من: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19] تلك المنهيات كلها إلى هنا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [النساء:30] الذي تقدم ذكره مما حرم الله، لا سيما أنه ما ذكر وعيداً لأصحابه، فحصر الوعيد في هذه الآية، وإن كان الأقرب: ومن يفعل ذلك المذكور ألا وهو أكل مال الناس المؤمنين بالباطل، وقتل النفس.وقوله: عُدْوَانًا وَظُلْمًا [النساء:30] بالنسبة إلى القتل، والقتل عدوان، هو الذي يكون صاحبه معتدياً ليس بناسٍ ولا سكران ولا غافل ولا مخطئ، بل متعمد، فيخرج من هذا المخطئ، أراد أن يضرب غزالاً أصاب مؤمناً، انتبهتم؟ العدوان هنا التعمد، من يفعل ذلك عمداً غير غافل، على عمد يريد أن يقتل.ثانياً: (ظلماً)، فقد يقتل عدواناً وليس بظلم، مثلاً رجل قتل أباه ظلماً وعدواناً، فقام الابن يقتل هذا الرجل هل قتله ظلماً؟ الجواب: لا، هذا قتل أباه، الذي يقتل قصاصاً هل هذا القتل ظلماً؟ لا، بل عدل، لكن العمد عمد أم لا؟ إذاً: لنذكر هذين القيدين: العدوان والظلم.فإن كان ظلماً بدون عدوان أو تعمد ما ينال هذا العذاب صاحبه، ولكن قتل ظلماً؛ لأن هذا القاتل استوجب القتل كالقصاص أو كقتل القريب مثلاً، لا بد من القريب.عدواناً: أي: متعمداً ظالماً لهذا المقتول. ليس له حق في قتله.مرة ثانية: لا بد من الجمع بين الشرطين، أولاً: أن يكون العمد، العدوان معناه: التعمد، فيخرج الناسي والغافل والجاهل والمخطئ، هو ما تعمد القتل.ثانياً: أن يكون ظلماً، أما إذا كان قتل بحق وهو متعمد كما قدمنا: قتل أباك أو ابنك ظلماً وعدواناً فقتلته أنت، هل قتلك هذا خطأ؟ عمد! هل هو ظلم أو حق؟فهذا العذاب المذكور: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:30] والإصلاء بالنار: الإحراق بها، صلاه في النار: أحرقه، يصليه ناراً يحرقه. فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:30] ما هو بصعب، أو بما يتعذر على الله أن يفعله؛ لأنه خلق الخليقة وخلق لها نعيماً وشقاء، وهو الفعال لما يريد.إذاً: فمن زكى نفسه وطهرها وطيبها أكرمه في ذلك النعيم المقيم فوق الملكوت الأعلى، ومن خبثها ودساها بأوضار الذنوب والآثام أشقاه وأرداه في ذلك العذاب الأليم.العبيد عبيده أم لا؟ لو شاء لأدخلنا كلنا الجنة، في من يرد عليه؟! لو شاء لعذبنا أجمعين! خلقنا ورمى بنا في نار جهنم! هل هناك من يقول: لم؟ يفعل ما يشاء، لكن رحمته وإحسانه وفضله وإنعامه وكرمه لا يتناسب مع أن يعذب إنسياً أو جنياً ونفسه طيبة طاهرة.إذاً: دار الشقاء أسفل ودار النعيم فوق، وهذا الذي قتل نفساً ظلماً وعدواناً نفسه تعفنت، والله ما أصبحت أهلاً لأن تجاور الله عز وجل، يبقى إذا كان مؤمناً وطرأ عليه طارئ، ووقع في هذه الجريمة وتاب وبكى وندم زمناً، ثم مات على توبة فالله عز وجل يدخله النار؛ لأن توبته لا تطهر هذا الدرن العظيم، قتل ولي الله، فقد قال تعالى كما سيأتي: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
بعد القاتل عن الإيمان الصادق
هنا لطيفة نستعجلها: الذي أقرره أنه لا يوجد مؤمن صحيح الإيمان كامله يقتل مؤمناً عمداً وعدواناً، ما يمكن.مرة ثانية: لا يوجد مؤمن حق الإيمان صادق الإيمان يقتل مؤمناً عدواناً وظلماً، والدليل قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92] هذه الصيغة صيغة نفي لوجود هذا، ليس من شأن المؤمن أبداً أن يقتل مؤمناً غير خطأ، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ [النساء:92] ليس متأهلاً له أو يقع منه أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92].فمن هنا من تعمد قتل مؤمن عدواناً وظلماً ما كان بمؤمن، وهنا تبقى الآية على ظاهرها: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].أزيدكم أم لا؟لا يمكن واقعاً أن مؤمناً مثلك يقدم على قتل مؤمن ظلماً وعدواناً، ما يمكن أبداً! هات مؤمناً ما يقوى على أن يشتم مؤمناً أو يصفعه بخده! كيف يقتله؟ فإن كانت ظلمة الكفر في النفس أعمى يفعل ما يشاء، حيوان ميت.
الكليات الخمس التي أتى الدين بحفظها
معاشر المستمعين والمستمعات! خمس كليات شرائع الله كلها نزلت للحفاظ عليها، وهي: النفس والعقل والعرض والمال والدين، خمس كليات شرائع الله كلها تأمر بالمحافظة على هذه.أولاً: النفس: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ [الأنعام:151].ثانياً: المال: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188].ثالثاً: العقل، من سحر مؤمناً فأفسد عقله يقتل به، حرم الله الخمر والحشيش والنباتات والكذب؛ لأن الكذب يفسد العقل أيضاً، كل ما يفسد عقلك، والدخان، الشيشة، السجائر، أو تشكون؟ الدخان التدخين يفسد يؤثر على العقل أم لا؟ يؤثر على العقل، تدخل على مسئول في مكتب في رمضان، يقول: مع الأسف أنا صائم، ما دخنت فلهذا ما أستطيع أن أتم معاملتك.هذه واحدة فقط، وإلا الدخان ضار بالخمس كلها، ضار بالمال أم لا؟ عشنا زماناً كان راتب المدرس فيه ثمانون ريالاً، وعلبة السيجارة بنصف ريال، ويدخن علبتين في اليوم بعض الضائعين، علبتين في اليوم بكم؟ بريال، ثلاثون ريالاً من ثمانين ريالاً كم بقي؟ خمسون ريالاً للأسرة بكاملها! وثلاثين ريالاً يحرقها، من يقول بجواز الدخان؟! يوجد بعض العلماء خدعوا الناس وغرروا بهم. تعرفون العرض؟ الأحرار يموتون دون أعراضهم أم لا؟ الدخان يمس بالعرض، بدليل أن الشاب أيام كنا قبل ما نلغ في أولاغ اليهود والنصارى -أي: قبل التلفاز- كان الشاب لا يمكن أن يدخن أمام أبويه أبداً مستحيل! وقد رأينا الرجل يدخن لما يشاهد رجلاً فاضلاً من أهل العلم أو الصلاح أو من أقربائه، والله يطفئ السيجارة في يده، يضغط عليها ويطفئها؛ حتى ما يقول: فلان يدخن! هذه آية كالشمس في أنه يمس بالعرض أم لا؟ أما الدين وهو أهم شيء عندنا: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مساجدنا، فقيل: لم يا رسول الله؟! قال: إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ) الملائكة تتأذى من الرائحة الكريهة التي يتأذى منها الآدمي؟ إي والله، فما بالكم بالذي ينفخ رائحته الكريهة في وجه الملك؟! أين يعيش؟ أليس على يمينه ملك وعلى شماله ملك؟ الكرام الكاتبين تنفخ في وجهه! ذي وحدها والله لو يعرفها مؤمن لأغمي عليه، ويندم حتى يتمزق، ينفخ رائحة كريهة في وجه الملائكة وهم يكتبون له وعليه؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا أراد أحدكم أن يبصق فلا يبصق عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً، فليبصق تحت قدميه ) ذي وحدها كافية، ثم كانوا يتوضئون مما مست النار، أي: طعام طبخ يتوضئون إذا أكلوه، ثم رحم الله المؤمنين ونسخ هذا الحكم، ولكن بقي الندب والاستحباب، إذا أكل الإنسان اللحم مطبوخاً يتوضأ أفضل له، أما لحم البعير لا تسأل: ( من أكل لحم جزور فليتوضأ ) إذا كان يتوضأ من أكل اللحم أو من أكل المطبوخ فكيف بالذي يدخل النار في جوفه بكاملها؟! فإذا شك في وضوئه شك في صلاته، كيف تصلي طول حياتك وصلاتك مشكوك في قبولها وصحتها؟! هذا كله نتيجة الجهل، ما عرفنا الله ولا الطريق إليه، هجرنا كتاب الله، حولناه إلى الموتى والمقابر، هجرنا سنة رسول الله، بعدنا عن مجالس العلم، جلسنا بين يدي من يضللونا ولا يهدونا، هذا الذي أصاب أمة الإسلام.مسألة: من هو الذي له الحق في تنفيذ القصاص؟ الحاكم إمام المسلمين، لكن إن حصل وأن قضية ما رفعت، وشخص قتل آخر ولده عمداً عدواناً متأكداً فقتله ما يقتل به، وإن كان القصاص لا بد من إمام المسلمين خشية أن يدعي أناس أنه مظلوم وهم ظالمون، لكن إن حدث من هذا النوع تحكم عليه أنه في جهنم وخالد فيها؟! وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-24, 10:28 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (14)
الحلقة (238)
تفسير سورة النساء (21)


الكبائر تبعد العبد عن ربه، وتجعله يتخبط في ظلمات العصيان وغياهب المنكر، والله عز وجل بعد أن بين لعباده الكبائر التي أمرهم باجتنابها ونهاهم عن إتيانها، أردف ذلك ببيان عاقبة من اجتنب الكبائر، مما أعده الله له في الدنيا من العز والرفعة والكرامة، فضلاً عما ينتظره في الآخرة من رضوان الله عز وجل ودخول جنته.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع. قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).اللهم حقق لنا رجاءنا، وأكرمنا بحبك يا رب العالمين! ما زلنا مع سورة النساء، ومعنا الليلة آية واحدة، وقبل تلاوتها ودراستها أذكر المستمعين والمستمعات بالآيتين السابقتين لها تذكيراً للناسين، وتعليماً لغير العالمين.قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29-30]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:29] لبيك اللهم لبيك! نادانا مولانا بعنوان الإيمان بوصفنا أحياء غير أموات نعقل ونفهم، ونمتثل ونفعل، نادانا ليأمرنا أو لينهانا، لينهانا عن أي شيء؟ عن أكل أموال بعضنا البعض، سواء بالسرقة بالتلصص بالخيانة بالغش بالخداع بأي سبيل من سبل التوصل إلى مال المؤمن لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] فإن كان بحق فلك ذلك، ولا بد من مراعاة قيود النفس ورضا صاحب المال. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] هذه الآية من عرفها وفهمها وسمعها ضع عنده مليارات الدولارات والله ما يأخذ منها ريالاً واحداً، أزيد أحلف أم لا؟ والله ما من عبد آمن بعد أن عرف وسمع هذا النداء، والله ما يمد يده إلى مال مؤمن يأكله بالباطل قط، والذي ما آمن أو آمن وما عرف من الجائز أن يسرق .. أن يختلس .. أن يزور؛ لأنه شبه ميت! هذا سر القضية. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ [النساء:29] بين البائع والمشتري، يشتري البضاعة بخمسين ويبيعها بألف، كم استفاد؟ أموالاً كثيرة! وله فيها حق، ما أخذها بالباطل، لأن البيع عن تراض، وباع البضاعة ممن اشتراها عن رضاه، هنا مسألة تحتاجون إليها. أنت تبيع البر أو السكر أو الزيت بمبلغ، لنفرض أن اللتر الزيت بعشرة ريالات، وأنت اشتريته من الشام أو من إيطاليا بريال، فهل تبيعه بعشرة وأنت اشتريته بريال؟ ما أكلت حق من باعك؟ الجواب: لا؛ لأنه هكذا في السوق بعشرة ريالات، فإن اشتريته بعشرة ريالات، وبعته باثني عشر ريال بحسب السوق لك ذلك، فإن بعته بعشرين وفي السوق يساوي اثني عشر وثلاثة عشر ريال، وإنما استغللت فرصة رجل كبير السن أو عجوز من عجائز القرية أو ولد صغير، وبعته البضاعة التي باثني عشر بعشرين أو بخمسة عشر؛ هذا هو الغبن وهو حرام.لا يحل أن تغبن! نعم لو اشتريته بريال وفي السوق يساوي عشرين بعه بعشرين، لكن اشتريته بعشرة فقط والسوق يساوي فيه اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة ينبغي أن تبيعه كما في السوق، فإن أنت خادعت رجلاً لا يعرف أو عجوزاً أو ولداً صغيراً ما يدري، وبعت له البضاعة بأغلى مما في السوق بزيادة الكلفة؛ فهذا هو الغبن، ويجب أن يرجع عليه وترد عليه ما أخذته، عرفتم هذه في باب البيع والشراء؟ هي عن تراض، لكن ما فيه رضا حقيقي، غشه.ثانياً: قال: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].يا معشر المؤمنين! لا يحل لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن، ولا يحل أن يقتل نفسه، وقد قال: (أموالكم) باعتبار أن المال قوام الأعمال، وأن الأموال عندي وعندك وعند فلان كلها عائدها على الأمة تنتفع به. كذلك نفسي ونفسك ونفس كل مؤمن كنفسي أنا ونفسك أنت: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )، المؤمنون كالجسد الواحد فقتلك لنفسك كقتلك للآخر، لا فرق بينهما، وعرفنا أنه لا يحل إزهاق روح مؤمن إلا بالحق: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151] حتى ولو كانت نفس يهودي أو مجوسي أو صليبي لا يحل إزهاقها إلا بحق، ما الحق؟ أن يَقتُل فيُقتل، ما الحق؟ إن زنى وفجر يقتل بزناه وفجوره، حق، ارتد بعد إيمانه ليعبث بالإسلام يقتل لردته، الكافر إذا أعلنت الحرب بيننا وبينهم اقتله، هناك معاهدة سلم موادعة كما وادع الرسول اليهود لا يحل أن تقتل كافراً بوصفه كافراً! وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا [النساء:30] هل تذكرون العدوان هنا؟ بمعنى: العمد، يريد أن يقتله، ما هو ساه ولا ناس ولا غالط ولا.. ولا..، وإنما يتعمد قتله، هذا العدوان، والظلم: بغير حق، يقتله على عمد وهو بغير حق، أما إن تعمد قتله لأنه مستحق للقتل قتل مثلاً أو زنى هذا ليس بالظلم، هاتان الآيتان الكريمتان درسناهما في الدرس الماضي، والآن مع ما تحملان من هداية نتذكر بها ما فهمنا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيتين.[أولاً: حرمة مال المسلم، وكل مال حرام، سواء حازه بسرقة أو غش أو قمار أو ربا ].هذا هو شأننا معشر المؤمنين والمؤمنات! حرم علينا مولانا هادينا ومربينا مكرمنا أن نأكل أموال إخواننا بالباطل فاستجبنا، الحمد لله! هذا مأخوذ من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29].[ ثانياً: إباحة التجارة والترغيب فيها، والرد على جهلة المتصوفة الذين يمنعون الكسب بحجة التوكل على الله ] كانوا. الآن انتهوا، ما أنت مؤمن بالله؟ بلى، ما تتوكل عليه؟ أتوكل، إذاً: اجلس في المسجد لم تخرج إلى السوق وتبيع وتشتري؟ رزقك على الله؟! هذا أيام كانوا يطبقونه في الأمة وويقعدون بها، من أين عرفنا إباحة التجارة؟ من النداء: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]. [ ثالثاً: تقرير مبدأ: ( إنما البيع عن تراض، ) و: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) ] هذان الحديثان يجب على كل من يدخل السوق ليبيع أو يشتري أن يحفظهما، وإلا فهو عاص آثم، ويطرد من السوق، وللأسف لا يوجد واحد في المليون يحفظهما! ولكن هذا هو الحق فعدلوا عنه وهبطوا، أيصعب على مؤمن أن يحفظ: ( إنما البيع عن تراض )؟ البيع عن تراضي يقولها بالعامية صعبة؟ رضا من البائع ورضا من المشتري، ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) أسهل الأحاديث. إذا بعت أخاك شيئاً وأنت في المسجد، وقال: سامحني ندمت رد عليه، أخوك لا تزعجه! إذا تفرقتما وكل ذهب إلى حاله ما هناك حاجة إلى الرجوع إلا من باب الإقالة، وفي الحديث: ( من أقال عثرة امرئ مسلم أقال الله عثرته يوم القيامة ).قال: [ رابعاً: حرمة قتل المسلم نفسه أو نفس غيره من المسلمين؛ لأنهم أمة واحدة ].المسلمون أمة أو أمم؟ أمة واحدة، أفرادها أعضاء فيها، هل يجوز أن تقطع أصبعك، تقول: أنا ما قتلت نفسي، أصبعي؟! فواحد من ألف مليون كالذي يقطع من نفسه بضعاً منه ويقول: هذا يجوز .[خامساً: الوعيد الشديد لقاتل النفس عدواناً وظلماً بالإصلاء بالنار].تذكرون لطيفة من لطائف الدرس، هل يعقل أن مؤمناً صادق الإيمان يقتل مؤمناً غيره خطأ؟!الجواب:لا. المؤمن الذي عرف الله وامتلأ قلبه بالخوف منه والحب فيه والله ما يعمد إلى عبد يعبد الله فيقتله، يرضى أن يموت هو ولا يموت الآخر، ولهذا قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمر : ( يا عبد الله ! كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل )، وقال: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصاً على قتل أخيه ) وإلا لماذا جرد سيفه؟! والآية الكريمة يقول تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92] يا عرب! فهمتم هذه اللغة أم لا؟ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92] أما عمداً فمستحيل، مؤمن يقتل مؤمناً؟ لا والله! إلا في حال الخطأ فقط، أراد أن يصيد غزالة سدد سهمه فأصاب مؤمناً، أما أن يتعمد أن يقتله! ومن ثم إذا سمعنا الجزاء ما نعجب؛ إذ قال تعالى في آخر السياق: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].[سادساً: إذا كان القتل غير عدوان كأن كان خطأً، أو كان غير ظلم، بأن كان عمداً ولكن بحق، كقتل من قتل والده أو ابنه، أو أخاه فلا يستوجب هذا الوعيد الشديد ]؛ لأنه بحق.إذاً: هذا تذكير بالآيتين السابقتين.
الشهادة لله بالألوهية ولنبيه بالرسالة
ما المراد بالآية؟! الآية معناها: العلامة الدالة على شيء، يا فلان! من أنت؟ قال: أنا إبراهيم بن سعد. قلنا: ما آية ذلك؟ يخرج البطاقة اقرأ، ما علامة أنك إبراهيم بن سعد؟ أنا ذاهب إلى قباء، دلوني على الآيات الدالة عليه. العمارة الفلانية والشارع الفلاني، فالآية: العلامة، كم آية في القرآن؟ ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، كل آية تدل دلالة قطعية كدلالة الكتاب في يدي، في من ينكر؟ كل آية تدل على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والله العظيم! كل آية من ستة آلاف ومائتين وأربعين آية كل آية على انفراد تدل على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.قولوا: ما وجه ذلك؟ كيف نفهم هذا؟ الجواب: هذه الآية من أنزلها؟ ما في من يقول: غير الله، أو يقول: لا أدري، لا تدري؟ ادر إذاً تعلم! من أنزل هذه الآية؟ ما عندنا من يقول إلا الله، إذاً: الله أنزله الله موجود، ومن نزلت عليه؟ في من يقول غير محمد؟ إذاً: محمد رسول الله، ما دام أنزل عليه آياته إذاً: أرسله رسولاً، كل آية تشهد بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.ثم إذا آمنت بالله منزل الآيات ومرسل الرسول صلى الله عليه وسلم اسمع شهادته: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18] شهد الله بماذا؟ بأنه لا إله إلا هو، ما تفسير هذا؟ لما يشهد في قريتكم رجل عالم تقبلون الشهادة أم لا؟ أو تقولون: يكذب؟ الله شاهد على علم بأنه خالق كل شيء، وبيده كل شيء، وأمامه كل شيء، ما رأى إلهاً يستحق أن يعبد، فقال: أشهد أنه لا إله إلا أنا.والملائكة يشهدون أيضاً؟ فيه من تساوي شهادته شهادة الملائكة؟ الملائكة يحيطون بالعالم بأسره علويه وسفليه، يشهدون على علم أنه لا إله يعبد إلا الله.ثالثاً: أولوا العلم، العلماء من الرسل والأنبياء وأهل العلم الكل يشهد بأعلى صوته بأنه لا إله إلا الله، تشك مع هذا؟ إذاً: ميت أنت! شهادة العلماء وحدها كافية، أنتم تصدقون يهودياً، قال: وصلنا للقمر، طأطأتم رءوسكم: وصل! وكذبوا ما وصلوا.هذه اللطيفة قد تخفى عليكم، وهي لنعلم أننا مطالبون كعقلاء أن نستدل على وجود الله وعلى ألوهيته بالآيات الكونية، بالشمس بالقمر بالموت بالحياة، بالصحة بالمرض، إذ كل هذه الأحداث الله موجدها، فهو موجود إذاً! لكن إذا ما توصلت إلى الاستدلال بهذا على أنه لا إله إلا الله، تقول: يكفيني أنا، أنا سمعت الله يشهد بأنه لا إله إلا هو، أشهد بشهادة الله! والله لتكفي، أنا شهدت بشهادة ربي، قال تعالى في سورة آل عمران: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ [آل عمران:18] أيضاً وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18] أيضاً، إذاً: أنا أشهد بما شهد به الله وملائكته وأولوا العلم، يكفيك ولو تغمض عينيك عن الدنيا كلها، ما تحتاج إلى دليل ولا برهان.هذه الآية الكريمة اسمعوا تلاوتها واحفظوها. أو ما تستطيعون؟ آية واحدة، ما نستطيع يا شيخ! اسمعوا. هذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول لكم: (إن أمي أم الفضل تقول: صليت المغرب وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ بسورة: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا [المرسلات:1] فحفظتها)، صلت وراء الرسول صلى الله عليه وسلم كما صلينا الليلة قرأ بـ: (الكافرون) والله ما يحفظها واحد، إلا من قرأها وتلاها وهو يحفظ، أما يسمعها فقط يحفظها مع أن الكافرون كم آية فيها؟ هذه والمرسلات ذات المتشابهات: و وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين َ [المرسلات:47] تسع مرات! حفظتها، والآن نتحدى كل مؤمن ومؤمنة أن يسمعها من القارئ وهو يصلي ثم يحفظها! واقع هذا أم لا؟ لماذا؟ لأننا هابطون، ما نحن طالعون، أصحاب الرسول تلك الأجيال كانوا طالعين أم لا؟ ونحن هابطون.وندلل على هذه الحقيقة أيام كنا شبيبة في البلد إخواننا في القرآن يسمع أغنية أم كلثوم فريد الأطرش كذا من تلك الآلة يحفظها باللحن! ما هو بالصيغة، عرفتم؟ يحفظها بلحنها وجرسها، سمعها، ما شاهد الأطرش ولا عايش فلانة، لم؟ لأننا هابطون، أما أن تحفظ آية ما هو معقول! من منكم يذكر لنا الحديثين اللذين حدثنا بهما، وقلنا: يجب أن نحفظهما؟ من؟ ( البيعان بالخيار ) ، أنتم حفظتم: ( إنما البيع عن تراض )، هيا احفظوا هذه الآية، وهي من الآيات التي خير من الدنيا وما فيها لأمة الإسلام، في هذه السورة ثماني آيات، الواحدة تعدل الدنيا وما فيها.
تفسير قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ...)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31] آية واحدة: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31] يا لها من بشرى! هذه الآية تزن الدنيا وما فيها: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31] ألا وهو الجنة، من المخاطب؟ الله، من المخاطبون؟ نحن؛ لأنه نادانا بـ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] ثم قال هنا: إِنْ تَجْتَنِبُوا [النساء:31] اسمعوا. والاجتناب: الابتعاد، نترك القضية المنهي عنها إلى جانباً، ما نقبل عليها ليفعلها، نتركها جانباً: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ [النساء:31] الكبائر: واحدها كبيرة، ما تطاق، ما تحمل، والجمع كبائر. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء:31] من الذي ينهانا؟ الله ورسوله هما اللذان ينهيانا عن الكبائر، لماذا ينهانا الله عن الكبيرة؟ حتى لا نهلك، والله العظيم! لا حاجة إلينا هو أبداً، وإنما ينهانا عن أكل السم حتى لا نموت، كذا أم لا؟ ينهانا عن شرب الحشيش حتى لا نفقد عقولنا، ينهانا عن عقوق والدينا لتمزيق الصلة بيننا ونصبح أعداء.
نهي الله عن المحرمات لتطيب النفوس المؤمنة
والله ما ينهانا الله ولا رسوله عن شيء إلا من أجل صالحنا فقط؛ لأن المنهيات المعبرة عنها بالمحرمات معناها كالسم، والحديد والنار وما إلى ذلك.فالله ولينا ومولانا ما يرضى لنا أن نهلك أبداً أنفسنا، فما حرم الله من عقيدة أو كلمة أو عمل أو صفة إلا لأنها ضارة بنا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء:31] الجزاء: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31] وإذا كفر عنا سيئاتنا طبنا وطهرنا أم لا؟ لأن الجنة دار السلام لا تدخلها النفس الخبيثة، اقسم بالله وأحلف، الجنة دار السلام ومواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين نزلوا بها وحلوا فيها، لا يدخلها إلا ذو روح طيبة طاهرة، الروح الخبيثة المنتنة هيهات هيهات أن تدخل دار السلام، حتى الذين يكون لهم إيمان وصالح أعمال واستوجبوا النار يحترقون ويصبحون كالفحم، ثم يخرجون فيغسلون في نهر خاص يقال له: الحياة عند باب الجنة، فينبتون كما ينبت العشب والنبات من جديد، أما روح خبيثة بالشرك والآثام والمعاصي تدخل الجنة؟ هيهات هيهات! أهل الحلقة يذكرون أن الحكم لله قد صدر في هذه القضية، وأحكام الله لا تعقب، هل هناك محكمة تراجع الله؟ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41] ما هذا الحكم؟ خل الزوار الليلة يأخذونه، والله خير لهم من العودة بمليون جنيه مصري، ما هذا؟ اسمع هذا الحكم. واسأل أهل العلم إذا لم تفهم معناه. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] من يراجع؟ قد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب من دسا نفسه، إذاً: احلف بالله ولا تتردد، ( أَفْلَحَ ) ما معنى أفلح؟ شق طريقه إلى الجنة، (وقد خاب) خسر حتى نفسه.إذاً: هذا الحكم حلف الله عليه لتطمئن نفوسنا، وتستقر هذه الأحكام في قلوبنا، حلف عليه بأيمان ما حلفها على شيء في القرآن بكامله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، هذه يمين أم لا؟ هذه واو القسم، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8].لم يحلف ربنا؟ من أجلنا؛ لأننا فطرنا على طبيعة، وهي أننا إذا ألقي إلينا الخبر ما نثق ولا تطمئن نفوسنا حتى يحلف لنا عليه، فهو يحلف لصالحنا، ما رأينا لله أقساماً كهذه، هو حلف بالتين والزيتون، وطور سنين، والسماء والطارق، لكن سبعة أيمان أو ثمانية لقضية واحدة، هذا الحكم من أراد الجنة ودار السلام من الآن يعزم على تزكية نفسه، يتعرف إلى الأدوات المزكية، ويتعرف إلى كيفية استعمالها في أوقاتها بكمياتها، ويأخذ في تزكية نفسه، هذا الذي يزكو.ومن قال: إيش فيه؟ ما نستطيع هذا، دعنا من هذا، الله غفور رحيم، سوف تدق الساعة ويذهب هذا الظن كله، إذا وقف ملك الموت وشاهده ورآه في الغرغرة فات الأوان، يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف ما تزكو به النفس وتطيب، ويعرف كيف يستعمله، ويستعمله إيماناً أيضاً واحتساباً، وبذلك يزكي نفسه، كما يعرف ما يخبثها ويدسيها؛ ليجتنبه ويبتعد عنه طول حياته، هذا الذي يريد الجنة ومواكبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.في الحقيقة دروسنا هذه ما هي ذات قيمة، لم؟ نذكر مسائل كثيرة، ولا نحفظ كل شيء، لو كنا جادين فالطريق إلى دار السلام مسألة واحدة فقط نحفظها نفهمها، نعزم ونصمم على تطبيقها والعمل بها، نقضي الساعة والساعتين وهي هم من همومنا، وبذلك نترقى في العلم والعمل، والآن مسائل كثيرة، فهمتم هذه البربرية وإلا لا؟إني لعلى علم مما أقول.
الكبائر التي يجب اجتنابها
ما هي الكبائر التي يجب أن نتجنبها؟ من سأل هذا السؤال؟ ولا أحد، ولو مشينا ما في من يسأل، إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء:31]، الجزاء: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، أولاً، وندخلكم الجنة ثانياً، ما الكبائر يا شيخ؟ ما أنتم في حاجة إلى معرفتها، صحيح أم لا؟قلنا: الكبائر: جمع كبيرة، وتسمى بالموبقة، أي: المهلكة، والرسول في أحاديثه المختلفة المتنوعة بحسب أحوال الحاضرين ومن يأتي ومن يغيب من ساعة إلى ساعة يعطيهم بعض الكبائر، حتى قيل لـابن عباس : الكبائر سبع؟ قال: (هي إلى السبعين أقرب)، ومرة أخرى قال لهم: (هي إلى السبعمائة أقرب من سبعين).أولاً: الرسول الكريم يقول: ( اجتنبوا السبع الموبقات )، أي: الكبائر السبع المهلكات، قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: ( الشرك بالله، وقتل النفس، والزنا، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ).مرة قال: ( ألا )، ألو ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ). لماذا الشيخ يقول: ألو؟ لأنكم ألفتموها، الأطفال الصغار تأخذ الهاتف: ألو ألو، ما معنى ألو يا بنيتي؟ ما ندري، ما معنى ألو؟ قالوا: هكذا خلقت، ما عرفنا معناها، فلما كانت تحركنا أكثر من ألا، نقول: ألو انتبهوا أنتم تسمعون؟( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك بالله )، ما معنى الشرك بالله يا شيخ؟ أن تدعو غير الله؛ ليعطيك حاجتك، أن تستعين بالله؛ ليحفظك ويقيك من خوفك، أن تنحني راكعاً أو ساجداً؛ تعظيماً وإجلالاً لغير الله، هذا الشرك أكبر الكبائر.ثم قال: ( وعقوق الوالدين )، عق والديه: قطع الصلة بهما، وآذاهما وقصّر في حقوقهما، وكان متكئاً؛ لتعب وكبر السن، ثم لما جاءت الثالثة جلس ثم قال: ( ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور )، حتى تمنوا أن لو سكت رسول الله؛ خافوا أن تنزل صواعق أو يحصل بلاء، قول الزور شهادة الزور.أيام هبطنا يوجد في المحكمة في بلاد المسلمين صعاليك مثلي جالسين، يأتي الرجل له حاجة بالشهادة يقول: تشهدون معنا؟ إذا فيه شيء .. عشرة ريالات وإلا لن نشهد، يقول: تفضل، يشهد فلان قال فلانة كذا كذا كأنك حاضر، ويعود يتسكع في الظل كما كان، عرفتم؟ حادثة ثبتت شهد عليها سبعون رجلاً من القبيلة بالكذب، لا لوم ولا عتاب؛ لأنهم ما عرفوا، والله ما عرفوا، لو علموا وعرفوا لو يقتّلون ويصلّبون ويحرّقون ما يشهدون شهادة زور، وهل المسلمون اليوم علموا؟ أين العلم، ما دامت مظاهر الضلال والفسق والباطل والشرك متجلية كالشمس أين العلم؟ ما علموا.تريدون أن نعلم وإلا لا؟ والله لو كنا صادقين نريد أن نعلم؛ لنعبد الله ونتقرب إليه لكان هذا المسجد كله يمتلئ كل ليلة وما يجد النساء أين يجلسن إلا عند باب المسجد، وإن شئتم حلفت بالله، لو كنا نريد أن نعلم لنترقى في العلم والصلاح والتقوى لكان من المغرب إلى العشاء لا يبقى رجل في السوق ولا في الدكان ولا في البيت ولا في الشارع كل الأمة في بيت ربها؛ تتلقى الكتاب والحكمة وتزكي أنفسها، هل هذا موجود في العالم؟ إذاً: كيف يتعلمون؟ وإذا لم يتعلموا كيف يستقيمون على منهج الحق وما عرفوه؟! الكبائر تعرف بالعد أو بالحد؟قال الحكماء: تعرف بالحد لا بالعد؛ العد كثيرة.فما هو حدها؟كل قول أو اعتقاد أو عمل أو صفة لعن الله أو رسوله صاحبها فهي كبيرة، كل ما ورد فيه لعن عن الله أو عن رسوله فقط فهو كبيرة، هيا: ( لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال )، فتشبه الرجل بالمرأة كبيرة.. يحلق وجهه؛ لحيته .. شاربه يعمل الأحمر والأكحل وكذا، والحناء في يديه، ماذا تقولون فيه؟ تشبه وإلا لا؟ ملعون أم لا؟ ما معنى ملعون؟ مطرود من رحمة الله، ما هو أهل للجنة دار السلام.المتشبها من النساء بالرجال ماذا تصنع؟ تحلق رأسها وتجعله كشعر الرجل، وتلبس الكرفتة وتلبس البدلة، وتعمل -إن استطاعت- بعض الشعرات في وجهها؛ لتكون كالرجل، ملعونة وإلا لا؟ ملعونة.( لعن الله السارق يسرق البيضة )، السرقة كبيرة وإلا لا أو ما هي كبيرة؟ ولو بيضة دجاجة، كبيرة صاحبها ملعون أم لا؟ كبيرة.( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه )، كم واحد ملعون؟ خمسة، إذاً: أكل الربا كبيرة، وكتابته كبيرة، والشهادة له كبيرة، يا ويحنا! الحمد لله.. الحمد لله، لا نأكل الربا ولا نجري وراءه، ألستم كلكم كذلك؟ ومن عنده دريهمات في البنك من الغد يسحبها سمعت؟ وإذا خاف عليها تضيع يتركها، وإذا جاء يأخذ قال له: خذ هذه الفائدة يقول: لا لا، الفائدة حرام لا تحل لي، بأي شيء آخذها أنا ما عرقت عليها ولا عملت شيئاً، أنا أودعتكم هذا المال محفوظ عندكم.ثانياً: كل ما ورد فيه وعيد بالعذاب في الدنيا أو الآخرة فهو كبيرة، والقرآن فيه الوعيد؛ ما يتوعد الله به عباده من عذاب يوم القيامة، مثال ذلك: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]. لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً ... [النساء:29]..كذلك: الويل وعيد بالعذاب: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ [المطففين:1]، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين َ [المرسلات:15]، كل ما ورد فيه وعيد فهو كبيرة من كبائر الذنوب، الذي يطفف عندما يبيع أو يشتري نقّص في الكيل والوزن هذا وعيد له. وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية:7]، كل من يكذب ويزور الكذب ويحسنها؛ لتقبل فهو ملعون كبيرة من كبائر الذنوب.كل ما ورد فيه حد يقام عليه كالزنا، الزاني إذا كان بكراً يجلد مائة جلدة: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، والمحصن يرجم ويقتل، السارق تقطع يده، القاتل يقتل.إذاً: كل ما ورد فيه حد من حدود الشرع فهو كبيرة من كبائر الذنوب، ولا بد من معرفة ذلك من طريق الكتاب والسنة، قال الله وقال رسوله.الكذب كبيرة وإلا لا؟ ألا لعنة الله على الكاذبين، الكذب كبيرة؟ نعم، بل المؤمن لا يكذب أبداً، والرسول قرر هذا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء:31]، من الناهي؟ الله ورسوله، الجزاء: يكفر عنا سيئاتنا، ما هي السيئات؟ هنا دون الكبائر، لفظ السيئة: يطلق على كل اعتقاد أو قول أو عمل يسوء إلى الإنسان ويفسد قلبه وروحه، لكن فيه كبير وفيه صغير، وهذه الحقيقة تعرف كالتالي:مثلاً: انتهرت مؤمناً بصوت عال هذه سيئة، بالنسبة إلى ضربه على خده ماذا تعتبر؟ صغيرة وإلا لا؟فأنت لما اجتنبت ضربه خفت من الله وأبيت واكتفيت بالنهر والصوت العالي هذا الذي جعلك ترجع إلى الوراء وما تضرب أخاك تنازلك عن هذا يكفر سيئتك.مثال هذا: نظر إلى امرأة وأراد أن يمسها ويجسها بيديه، ثم خاف من الله وارتعدت فرائصه وعاد وما رجع، النظرة الأولى تكفر، تركه للمسها أو جسها بيده؛ خوفاً من الله يكفر عنه السيئة الأولى سيئة النظر.مثلاً: الذي خلا بامرأة الخلوة بها حرام، وأراد أن يفجر بها فخاف من الله، خوفه من الله حسنة وإلا لا؟ هذا الخوف الذي علا وغشّا قلبه يمحو سيئة الخلوة. نجا، أو ما فهمتم؟ كل الذنوب فيها صغائر وكبائر؛ فالذي يجتنب الكبيرة خوفاً من الله، وحباً فيه ورغبة فيما عنده، هذا الخوف من الله يمحو ذلك الأثر السيئ ما يبقيه، إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، ألا وهو الجنة دار الأبرار.إن شاء الله غداً نعيد أيضاً بيان هذه الآية ومعها آيات أخرى.وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-24, 10:32 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (15)
الحلقة (239)
تفسير سورة النساء (22)


فضل الله عز وجل بعض العباد على بعض في الرزق، ونهاهم سبحانه وتعالى عن التحاسد فيما بينهم، فلا ينظر الواحد إلى غيره من أصحاب الأموال الكثيرة، والمناصب الرفيعة، فيتمنى زوال ما عندهم حسداً من عند نفسه، فالله عز وجل هو مقسم الأرزاق لحكم بالغة عنده تعالى، وعلى كل عبد سؤال الله عز وجل من فضله، والسعي والكد والاكتساب من وجوه الحلال.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ من أجل أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة النساء، والآية التي تدارسناها بالأمس تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31].أبشّر كل مؤمن ومؤمنة كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرون أصحابهم، أبشّر كل مؤمن ومؤمنة قاما بأداء الواجبات وتجنبا كبائر الذنوب من المنهيات والمحرمات بأن لهم الجنة، لا يمنعهم عنها إلا الموت؛ إذ هذا وعد الله الصادق: إِنْ تَجْتَنِبُوا ، معاشر المؤمنين والمؤمنات، كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ، أي: الذي ينهاكم الله ورسوله عنه من كبائر الذنوب يكفر عنكم سيئاتكم الصغائر يسترها ولا يخاطبكم بها، ويدخلكم الجنة دار السلام.الكبائر: جمع كبيرة موبقة مهلكة.وواجب كل مؤمن ومؤمنة أن يحيط علماً بالكبائر كما نعرف أمور الدنيا بالتفصيل حتى أنواع الحلويات والطعام والشراب، ما نعرف هذه الكبائر!فالحبيب صلى الله عليه وسلم في كل مناسبة يذكر عدداً؛ مرة ستة .. مرة سبعة .. مرة ثلاثة، يلقيها إليهم؛ ليحفظوها شيئاً فشيئاً، لكن لا بأس أن نذكر ما ورد وما حفظناه عنه صلى الله عليه وسلم.أولاً: قلنا أكبر الكبائر الشرك بالله عز وجل، الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم هو الذي كان جالساً بين أصحابه في هذا المسجد يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم قال: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله )؛ لأن الشرك ذنب عظيم، وإذا لم يتب العبد منه قبل موته.. قبل أن يغرغر فالجنة حرام عليه، آيس من دخولها، وهذا خبر الله عز وجل وهو حكم من أحكامه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48].ومن سورة الحج يبين تعالى خسران المشركين كيف يكون: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ [الحج:30-31]، سقط من السماء، من السماء مسيرة خمسمائة عام للطائر، خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ، قبل أن يصل إلى الأرض فتمزقه، أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، لا يعثر عليه. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].وبعد الشرك بالله قتل النفس، ما بعد الشرك ذنب قبل قتل النفس، واقرءوا قول الله تعالى في صفات عباد الرحمن: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68].الكبائر: الشرك، قتل النفس، الزنا.وهذا ابن مسعود يتعلم ويقف في طرف الحلقة ويقول: ( يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ فيقول: أن تجعل لله نداً وقد خلقك )، الند: تناده به وتضاده وتدعوه كما تدعو الله، وتتقرب إليه كما تتقرب إلى الله.( ثم قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك؛ خشية أن يأكل معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك )، وبعد هذا عقوق الوالدين، أي: قطعهما وقطع البر والخير والإحسان عنهما.ثم ماذا من الكبائر؟ أكل الربا، أكل مال اليتيم، أما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].ثم قول الزور وشهادة الزور، يا من يشهد كاذباً فإنك من مرتكبي أعظم الكبائر، هل هناك مؤمن عبد الله أو أمة الله يشهد وهو يعلم أن الله يعلمه ويسمع شهادته ويراه ويقدم على شهادة الزور، والكذب ألا لعنة الله على الكاذبين!ثم التولي يوم الزحف، أين الزحف يا شيخ؟ قد يأتي، إذا تقابل الفريقان فريق المؤمنين وفريق الكافرين في ساحة القتال وزحف الكل، فالذي يفر من ساحة الزحف ارتكب أكبر كبيرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15-16].ومن الكبائر الواردة في السنة: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، مؤمنة غافلة في بيتها تعبد الله يتهمها ويشيع عنها أنها زنت أو أنها تتعاطى كذا.. أو كذا.. كذا. وهي أمة الله المستورة في بيتها، هذه من أكبر الكبائر قذف المحصنات الغافلات المؤمنات.من هذه الكبائر: اليمين الغموس التي تغمس صاحبها من قمة رأسه إلى قدميه في أوساخ الإثم، ثم في جهنم، ما هي اليمين الغموس؟ هي التي يحلف صاحبها كاذباً؛ ليأخذ حق الناس، يقول: بالذي لا إله غيره ما رأيت هذا الذي تقول ولا علمته، وهي في جيبه، اليمين الغموس يحلف صاحبها كاذباً من أجل أن يبطل الحق أو يأخذ الحق لنفسه.إذاً: ومن هذه الكبائر في الحديث: ثلاثة هي: اليأس من روح الله، إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].القنوط من رحمة الله.الكذب على الله.إذاً: يجب أن نحفظ هذه الكبائر.وعندنا ضابط أعطاه لنا أهل العلم .. أهل البصيرة ينتفعون به، الكبائر قالوا: تعرف بالحد لا بالعد؛ إذ تجاوزت السبعمائة؛ فالحد فيصل فيه، تعرفون الحد وإلا لا؟حد المسجد النبوي جنوباً كذا، شمالاً كذا، غرباً كذا، شرقاً كذا، هكذا الحد وإلا لا؟ يعرف بالحد أو ما يعرف؟ أما أن تعرف بالذرة وبحبة الشعير، الشعير ما تستطيع، كانوا يقيسون بحبة الشعير، الروضة هذه من حجرة الرسول إلى المحراب إلى المنبر حسبوها بحب الشعير، حبة شعيرة إلى أخرى إلى أخرى أقل من السنتيمتر.إذاً: الشاهد عندنا في الكبائر تعرف بالحد لا بالعد؛ لأنها بالعد كثيرة.هذا الحد قالوا: كل ما توعد الله به عبده بعذاب الآخرة فهو كبيرة، أيما إثم .. أيما ذنب جاء النهي عنه مربوطاً بوعيد الله فهو من كبائر الذنوب.ثانياً: كل ما ورد فيه لعن الله ورسوله: أيما إثم يلعن الله أو رسوله صاحبه إلا وهذا الإثم كبيرة من كبائر الذنوب.ثالثاً: كل ما فيه حد يقام على فاعله، مثاله: القذف، القذف: فلان يفعل كذا، فلان يرتكب كذا، يتهمه بالزنا أو باللواط، هذا القاذف هذا يريد يشوه المجتمع ويلطخه، إما أن يأتي بأربعة شهود يشهدون على أنهم شاهدوه كالميل في المكحلة، وإلا يجلد ثمانين جلدة أمام الناس، ويساهم كل من يستطيع الجلد؛ هذا من أجل إنهاء الفاحشة وعدم ظهورها، هذا حد إذاً، القذف كبيرة وإلا لا؟فلان يزني، هات البينة؟ ما عندك حرام أن تتكلم؛ لأن الحديث بالزنا أو الفاحشة ينشرها؛ لأن القلوب البشرية مستعدة إذا لم تكن لها حماية.الزنا كبيرة أم لا؟ أما يرجم حتى يموت إن كان محصناً؟قتل النفس أليس فيه القصاص؟ وهكذا اللعن الوعيد الحد. هذه حدود ما ورد فيها من إثم ملعون أو مقام عليه حد أو موعود بالعذاب فهو كبيرة من كبائر الذنوب، ولكن دراستنا لحديث الرسول وسماعنا لكلامه نتعلم الكثير من الكبائر. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ، أي: الصغائر، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، ألا وهو الجنة، ويدخلنا مدخلاً كريماً ما فيه إهانة ولا تعذيب ولا عنت ولا.. إلى الجنة دار السلام.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال: [من هداية الآية:أولاً: وجوب الابتعاد عن سائر الكبائر، والصبر على ذلك حتى الموت. ]من أين أخذنا هذا؟ إِنْ تَجْتَنِبُوا [النساء:31].[ وجوب الابتعاد عن سائر الكبائر، والصبر على ذلك ] إلى متى؟ [ إلى الموت.ثانياً: الذنوب قسمان: كبائر، وصغائر. ] من أين عرفنا هذا؟ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31].[ الذنوب قسمان: كبائر، وصغائر. ولذا وجب العلم بها ]، لماذا؟ قال: [ لاجتناب كبائرها وصغائرها ما أمكن ذلك، ومن زل ]، سقط في الكبيرة [ فليتب فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ]التائب من الذنب كالذي لا ذنب له، لم؟ لأنه اتسخ ثم غسل ينظف أم لا؟ هذا الغترة البيضاء لو تغمسها في الطين وإلا في الدم تتلطخ تغسلها بالماء والصابون جيداً تنظف أم لا؟ تنظف، بشرط ألا تتركها عاماً كاملاً، جئت تغسله تمزق، فلهذا يجب التوبة على الفور، ما في كلمة حتى نحج أو حتى نتزوج أو حتى يغنينا الله، هذه الكلمة باطلة، أنت ماش في طريقك إلى الجنة إلى الله زلت القدم وسقط على الفور ارفع رأسك الله أكبر أستغفر الله، وابق الهج بالاستغفار حتى يزول الأثر.[ ثالثاً: الجنة ]، تعرفون عن الجنة وإلا لا؟عندكم بساتين فيها الرمان والتفاح والعنب موجودة أم لا؟ من أوجدها لكم؟ الله.إذاً: أوجد لأوليائه جنة هذه الفواكه عبارة عن الاسم فقط، أما النوع والطعم والله لا شبه، وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، إلا في الأسماء، رمان هذه الجنة أين هي؟ ما طلعنا للسماء، ولما ما طلعت يعني: تكذب، نمتحنه: أنت يا أستاذ عدنان أنت رأيت طوكيو؟كيف أستاذ كامل وما تعرف طوكيو؟! إذا: طوكيو ما هي موجودة، قل للناس يسمعوك إن طوكيو كذبة ما هي موجودة؛ لأننا ما رأيناها، يعقل هذا الكلام، فكونك ما رأيت الجنة تقول ما فيه؟ مرض هذا هبوط، ومع هذا أخبر عنها خالقها، ونعتها وفصلها وبين كل ما فيها وهذا كتابه بين أيدينا، هو الذي رسمها تكذبه، مهندس يرسم لك خريطة في العمارة ويبنيها وتقول: لا ما أنت، كيف تعرف هذا؟ هو الذي رسمها وبناها، وفوق ذلك لقد ارتادها الرائد العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، ومشى عليها وشاهد حورها، شاهد حواري عمر بن الخطاب فاستحيا أن ينظر إليها، قال: ( يا عمر ! رأيتك حورائك في الجنة فطأطأت رأسي وخشيت أن تغضب، قال: أعنك يا رسول الله أغار، قال: ذكرت غيرتك يا عمر ! )؛ لأن عمر امرأته في المدينة تبكي خليني أصلي في المسجد؟ ما فيش، ما تخرج امرأة عمر لا بالليل ولا بالنهار، يا عمر نصلي، يسكت، عام عامين، وسمعت الرسول يقول: ( لا تمنعوا إماء الله من بيوت الله )، قالت له: والله إن لم تقل لي لا تخرجي أخرج، هو ما يريد أن يقول لها: لا تخرجي فيعصي رسول الله، لكن لما تقول له: يسكت، ما تمشي، لما بلغها الحديث، فقالت: إذاً يا عمر أنا ذاهبة أصلي في المسجد النبوي فسكت.قال: [ الجنة لا يدخلها إلا ذوو النفوس الزكية الطاهرة، وذلك باجتنابهم المدنسات لها من كبائر الذنوب والآثام والفواحش ].النفس تزكو تطيب تطهر كما يزكو الثوب ويطيب ويطهر بالماء الحار والصابون وإلا لا؟ هذه سنة الله، كذلك الجسم نفسه جسم الإنسان يطيب ويطهر بالماء والصابون، والروح إي والله تزكو على مادتين وتخبث على مادتين، فإن أنت عملت بالمادتين الأوليين الإيمان وصالح الأعمال زكت، فإن حافظت على ذلك الزكاة والطهر ما قارفت ذنباً من الذنوب الكبائر نفسك زكية طاهرة.الشرك والمعاصي تخبث النفس وتلوثها وتدنسها وتدسيها، الإيمان والعمل الصالح يزكيان النفس ويطيبان ويطهرانها.البار ذكرت حكم الله فينا، فيكم من يذكره الليلة؟لا ما نريد الذين يدرسون العلم، نريد الزوار الذين حضروا البارحة يقول: أنا سمعت البارحة حكم الله، ولهذا أنا بلغته إلى أهلي، من؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].كن ابن من شئت إذا لم تزك نفسك لن ترح رائحة الجنة ولو كنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كنت بنت فرعون أو ابن فرعون لا يضرك نسب أبداً، وإنما الأمر يعود: هل زكيت نفسك أو لا؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. أحلف لكم.الشيخ هذا يكثر من اليمين يحلف! ينتقدونني المساكين يبلغوني: ليش تحلف؟ أنا ربي يحلف وإلا لا؟نحن نحلف بالكذب أو نلعب؛ حتى يطمئن السامع إلى صدق الخبر الذي يلقى إليه، هذه سنة الله ورسوله، الرسول يقول: والذي لا إله غيره ما كان كذا وكذا، تحلف والله ما يقبلون هذا كلامك ويصدقونك فكيف إذا ما حلفت؟أقول: لو أن شخصاً واعٍ يحسن التجارة يحسن الفلاحة يحسن السياسة يحسن الآداب ويسمع هذا الحكم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، ثم نسكت، والله ما يستطيع أن يذهب إلى بيته أو يعود إلى عمله قبل أن يعرف بم نزكي النفس وكيف نزكيها، بما تدسا النفس وكيف تدسا، وإذا الشيخ قال هكذا وأراد أن يخرج يقولوا: والله لا تخرجن من المسجد حتى تعلمنا ما هي مزكيات النفس وما مدسياتها، فهمتم هذا أم لا؟ والآن اجمع الناس في عرفات وقل هذا الكلام، ولا واحد يأخذ بثوبك يقول: علمني كيف أتزكى ، مظهر من مظاهر الموت أم لا؟علينا السلام، أو فيكم من يشك فيما أقول؟المفروض هذه يرددها كل واحد ما كان يعلمها في بيته مع جيرانه: يا جماعة! حكم الله صادر علينا أن من زكى نفسه نجاه وأسعده، ومن خبثها دمره وخسره، يبدءوا يتساءلون كيف نزكيها؟ هل فهمتم؟أو تشكون في حكم الله؟ أما حلف عليه بثمانية أيمان؟!
تفسير قوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ...)
قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، هذه تعاليم الله لأوليائه.. هذه تعاليم لعباده؛ ليعلموا ويعملوا فيكملوا ويسعدوا.ولا تتمنوا يا عباد الله! ما فضل الله به بعضكم على بعض، ما معنى هذا؟ ينهانا ربنا تعالى عن الحسد، وعن التمني الذي يوجد حزازة في نفوسنا أو آلاماً في قلوبنا، ما يريد مولانا لنا هذا، حرم علينا تمني ما فضل الله به بعضنا على بعض من أجل الابتلاء، من أجل أن نصلي ونشكر أو لا؟ هذه هي تزكية النفوس، لا يحل لمؤمن أن يرى صاحب عمارة أو سيارة أو مال أو كذا يقول: آه ليتني أنا، ليت هذا لي، يرى عالماً كذا يقول: آه، يرى شريفاً عالياً سامياً: آه. هذا الألم قال تعالى انزعوه من قلوبكم؛ فالمعطي والمانع هو الله، ما حصل هذا العلم إلا بالكد والسهر والطلب والتشريق والتغريب فاطلب مثلما يطلب، وما حصل هذا على هذا المال إلا بالكدح والليل والعمل الليل والنهار وأنت جاثم على ركبتيك في بيتك وتتمنى ما كان لفلان ولفلان، هذا يقتلع جذور الحسد من قلوب الناس، يمشي صاحب المال صاحب الجاه صاحب السلطان ولا يحسده أحد أبداً، لم هذا أعطاه الله؟ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32]كل من فضله الله عليك بشيء لا تحسده، لا تتمن ذلك لك، اللهم إلا ما هو معروف بالغبطة، أذن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( لا حسد )، أي: أنه جائز ( إلا في اثنتين ) فقط في شيئين: ( لا حسد )، يحل أو يجوز أبداً ( إلا في اثنتين )، الأولى: ( رجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه الليل والنهار )، فتسأل الله لو أعطاك مثل هذا المال لفعلت مثلما يفعل، تعطى مثلما يعطى من الأجر، ( ورجل آتاه الله الحكمة القرآن فهو يعلمه ويعمل به )، فتقول: لو أن الله أعطاني هذا العلم لفعلت كما يفعل فلان تكون في الأجر مثله، هذا اغتباط؛ لأن ليس فيه زوال ما عنده إليك أنت، الحسد: أن تتمنى زوال ما عنده؛ ليكون لك.وورد أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (ليتنا كنا رجالاً فجاهدنا وكان لنا مثل أجر الرجال).أم سلمة رضي الله عنها أمنا قالت: (ليتنا كنا كالرجال نجاهد كما يجاهدون ونموت في سبيل الله فنحظى بما يحظون به من الأجر والدرجات)؛ فأنزل الله هذه الآية بسبب هذا التمني أو هذا السؤال، وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ [النساء:32]، من الخير من الحسنات من السيئات من الدنيا من الآخرة، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32]، انظر كيف ربط الله المرأة بحبل العمل، لهذا قالوا: أماني النوكى! حمقى أو كما يقولون، الأحمق هذا يتمنى، ما فيه تمني فيه عمل، هذا وعد الله: للرجال نصيب مما كسبوا بأيديهم وعقولهم وجهودهم، كذا وإلا لا؟وللنساء أيضاً نصيب مما اكتسبن بجهودهن وعقولهن.عرفتم اللطيفة قال: مِمَّا اكْتَسَبُوا وإلا لا؟ أو بالتمني وجالس؟ما الكسب؟ تعرفون التجارة فلان كسب كذا وكذا.. فظفر به وكسبه وأصبح في جيبه أو في يده.الآية الكريمة تربي .. تعلم .. ترفع من شأن المؤمنين أن ينزعوا من قلوبهم الأماني الباطلة الكاذبة وعلى رأسها الحسد والعياذ بالله، وتحملهم من أراد شيئاً يطلبه بالأسباب التي وضعها الله عز وجل، لا يجلسون للأضاحيك والألاعيب، ثم يقول: آه فلان بنى العمارة الفلانية، فلان يملك كذا وكذا. هذه أباطيل وحرام بين المسلمين، هل عرف المسلمون هذا؟ والله ما عرفوا، هل درسوا هذه الآية؟ ما درسوها أبداً؛ أولاً: ما هي من السور التي تقرأ على الموتى، وثانياً: ما يجتمعون ويقرءون أبداً. وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32]، أجر الدنيا والآخرة، ما هي تمنت لو كانت مثل الرجال وتجاهد أم لا؟ كذا للرجال نصيب في الجهاد وهي نصيبها في عمل البيت وطاعة زوجها بقدر عملها، لم تتمن الجهاد؟!ثم قال: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32]، بدلاً ما تتململ وتحسد الناس وتنظر إلى ما أعطاهم اشتغل بالدعاء، وواصل الدعاء والبكاء بين يدي الله العام والعامين؛ يعطيك ما شاء أن يعطيك، هذا هو الباب المفتوح، وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32]، ما واظب أحد على دعاء يدعو الله في شيء إلا أعطاه، وإذا ما أعطاه بعد الدعاء الطويل والأيام والليالي فليعلم أن هذا الذي طلبه والله لا خير له فيه، وما هو إلا مهلك له، فهمتم هذه أم لا؟أفضل العبادات: الرجاء بالله عز وجل، أن تربط قلبك بربك لا تنظر إلا إلى الله هو الذي يفرج كربك، هو الذي يقضي حاجتك، هو الذي يعطيك كذا.. مع الدعاء والإلحاح والبكاء العام والأعوام، إن رأى الله في ذلك خيراً حققه لك، والله لأعطاك هو، وإن رآه لا خير لك فيه، كم من إنسان كان فقيراً لما استغنى انتكس وإلا لا؟ كم من إنسان كان مريضاً لما صح عربد، كم وكم.فالمؤمنون والمؤمنات لا يحسدون ولا يتمنون لا بليت ولا بغيرها وإنما إذا رغبوا في شيء لازموا الشيء وسؤال ربهم ليل نهار، فإن أعطاهم فذاك وإن لم يعطيهم فقد ادخر لهم أعظم مما طلبوه، وفي هذا ضمانة: ما من مؤمن موحد من أهل لا إله إلا الله إلا أعطاه واحدة من ثلاثة: إما أن يعطيه ما طلب إذا كان في صالحه، وإذا لم يكن في صالحه وما أعطاه: إما أن يدفع عنه بلاء بهذا الدعاء كان قد ينزل عليه ويصيبه، إن لم يكن هناك بلاء رفعه درجات في الجنة ما كان ليصل إليها إلا بهذا الدعاء، فلهذا يدعون ربهم خوفاً وطعماً.ونحن الدعاء إذا ما ندعو في الحلقة أظن ما تدعون، الغالب ما يدعون الله، ليسوا مشغولين بالدعاء!الدعاء هو العبادة هو مخها، لا أفضل من الدعاء والرجاء أبداً؛ لأنه تعليق القلب بالله تنزهت عن الخلق كلهم، وارتفعت إلى مستوى أصبحت مع الله.أبشركم أو ما تفرحون بالبشائر؟لقد استجاب الله لنا البارحة في دعائنا بالغيب هذا أحد المحبين قال: سحابتان فقط غطتا المنطقة وإذا بالوادي مملوء بالمياه.إذاً: نحمده ونشكره وندعوه أيضاً.وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-24, 10:35 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (16)
الحلقة (240)
تفسير سورة النساء (23)


يقرر الله عز وجل في كتابه الكريم مبدأ التوراث، وأن كل عبد من العباد جعل الله له ورثة يرثونه، من الآباء والأبناء والإخوان، وعلى هذا فعلى الإنسان أن يطلب الرزق ويجمع الأموال من وجهها الشرعي الذي أحله الله، ثم بعد ذلك إذا مات وزعت تركته على ورثته الشرعيين، وقصر ذلك عليهم، وبين أنه سبحانه شهيد على ذلك لما جلت عليه النفوس من حب المال والتشوف إليه، واحتمال وقوع الظلم في تقسيمه.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدها في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، الحمد لله على إفضاله وإنعامه.وها نحن مع سورة النساء ومع هاتين الآيتين الكريمتين أولاهما درسناها بالأمس وثانيتهما نتدارسها في ليلتنا هذه بإذن ربنا.قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:32-33]. وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، أليس هذا نهي الله عز وجل، من الناهي سواه؟ من المنهي؟ نحن، ما المنهي عنه؟ الحسد، نهانا ربنا، وهو مولانا ومربينا ومزكي أنفسنا.. نهانا عن هذه الخصلة الذميمة التي غص بها ألا وهي: تمني زوال النعمة عن فلان لتحصل لفلان، الحسد داء الأمم، الحسود لا يسود، الحسود لا يسود أبداً؛ لأنه يعترض على الله في قسمته، في تدبيره في خلقه، والذي يعترض على الله له عقل؟ له وجه؟ له آدميه؟ يعترض على الحكيم العليم، الله يقسم فضله على عبيده وأنت تعترض، وتقول: هاه. لو كان كذا، ليتني كذا، الحسد إذا دب في أمة قضى على كمالها، لن تفلح، فلهذا أمرنا بأن نقاومه في أنفسنا، ولا نرضى به أبداً، نرى الغني الثري، السيد الشريف، العالم الحكيم، لا نتمنى أبداً زوال ذلك عنه، ولا يحملنا ذلك على بغضه، أو على الكيد له والمكر به، بل نقول: هذا فضل الله، ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، فإن كان الذي يتمناه الغافلون مما لا يعطى إلا بالكد والعمل يجب عليهم أن يعملوا ويكدوا ويواصلوا العمل؛ حتى يظفروا بمبتغاهم ويحصلوا على مطلبهم بإذن الله ربهم، بالكسب، وإن كان لا يكسب بل هو عطية الله فهذا التفكر فيه نقص كبير وعيب ومعرة.إذاً: بدل أن تشتغل بالتمني والتفكر اشتغل بما ينفعك ويزيل همك وكربك، وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النساء:32]، الذي لا يكتسب لا يغضب لشيء.وقال: اكتسبوا ، ولم يقل: كسبوا؛ لأن الاكتساب افتعال بالطلب وبذل الجهد والطاقة، أما الكسالى والصعاليك في الضلال وفي شوارع الأمة، يتحدثون ويريدون ويتمنون ويسألون أن يكونوا أغنياء وسعداء، وهذا متناف مع سنة الله عز وجل. لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النساء:32]، بأيديهم وعقولهم وأفكارهم وطاقاتهم وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32]، والله الذي يكسب، والله الذي يعطي.إذاً: فاسألوا الله من فضله، وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32] ، فإذا كان الأمر مرغوباً عندك محبوباً لديك اطلبه بوسائله، واسأل الله تعالى أن يوفقك لأقرب طريق وأسهل طريق حتى تظفر بهذا المرغوب، وإذا كان المسئول ما ينال بالطاقة وإنما ينال بفضل الله، فاسأل الله أن يرزقك الإيمان وصالح الأعمال، وأن يواكبك مع المتقين والصالحين، هذه هداية الله، هذا تدبير الله لأوليائه، بهذا طهر ذلك المجتمع الأولى، وساد وعز وكمل، ولما أعرضنا عن القرآن، وأدبرنا عنه، ونبذناه وراء ظهورنا، وقرأناه على موتانا، وحرمنا منه أحياءنا حصل الذي حصل من هذا الهم والغم والذل والهون والدون والكرب، أضف إلى ذلك ما عم البلاد من فسق وفجور وضلال وشرك وباطل؛ سببه إعراضنا عن هذه الهدايات الإلهية، أية أمة عندها هذا الكمال؟ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ [النساء:32]، لحكمٍ عالية قد لا يتصورها: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النساء:32]، ما هو بالتمني والأحلام، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32]، بالعمل، ما هو باللسان والتمني.وأخيراً: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32]، بدل ما تشتغل بالحسد والهم والتفكر في أموال الناس وأعراضهم وحياتهم اسأل الله عز وجل وواصل الدعاء، اللهم إني أسألك من فضلك العظيم فإنه لا يملكه إلا أنت، هذه الدعوة مستجابة، وألح وكثر من الدعاء فإن الله يحب الملحين في الدعاء.ثم قال في هذا التعقيب أو التذييل: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32].انتبه! لا تظن أن ما يجري في داخل قلبك من خواطر وهواجس وتمنيات أنها تخفى على الله، والله لا يخفى عليه شيء، فهو بكل شيء عليم، وعليم فوق العلم، فلهذا اسألوه من فضله، وطهروا قلوبكم من الحسد والتمني الباطل واللهو وما لا فائدة منه إلا الهم في النفس والكرب فيها، وجدوا واجتهدوا واطلبوا ما تريدون أن تحصلوا عليه من طريق بينه الله ووضع خططه وأسسه تحصلون على المال أو الزوجة أو الولد مثلاً.
تفسير قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ...)
يقول الله تعالى: وَلِكُلٍّ [النساء:33]، أي: ولكل منكم أيها الناس، ولكل من الرجال والنساء الذين يكسبون ويكتسبون لكل منهم، جَعَلْنَا مَوَالِيَ ، أي: ورثة، الموالي هنا الورثة الذين يرثونه، وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [النساء:33]، أي: أقارب كأبناء العم والعمومة وما إلى ذلك مما ترك الوالدان والأقربون.هذه الآية تقرر مبدأ التوارث الذي تقدم في أول السورة. وَلِكُلٍّ [النساء:33]، أي: من الرجال والنساء، أو ولكل من الناس جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون، أي: ورثة مما تركه الوالدان وتركه الأقربون موالي يرثونه بعد موته، ومعنى هذا: أن الذي نطلبه من الدنيا ونكسبه سوف نتركه وراءنا وسوف نموت ويرثه ورثتنا، ما هو بدائم ولا باقٍ، اطلب الدنيا حسب البيان الإلهي.. اطلبها من أبوابها بدون تمنٍ ولا حسد، وإذا تجمعت الأموال عندك فاعلم أن الله عز وجل سوف يورثها مواليك. وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:33]، الوالدان: الأم والأب، والأقربون: كل الأقارب كما تقدم في يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، النسب والمصاهرة والولاء. وقوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:33]، وفي قراءة سبعية: عاقدت ، كذلك، هنا شذ من رأى من أهل العلم أن المراد بهؤلاء هم الأزواج وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:33]؛ لأنه إذا عقد النكاح تصافحوا، أما الجمهور من ابن جرير والصحابة والتابعين على أن هذا فيمن يحالف بعضهم بعضاً؛ إذ كانوا في الجاهلية يتحالفون يقول الرجل للرجل: هيا نتعاقد دمي دمك ومالي مالك وحياتي حياتك، ويتحالفان على ذلك، ويرثه إذا مات، ويرثه الأول إذا مات، جاء الإسلام فأبطل عام الفتح هذا؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لا يزيده الإسلام إلا شدة وقوة )، لأنهم يتحالفون على التعاون على دفع الضرر والأذى، وعلى المساعدة المالية، وعلى المساعدة العقلية، جماعة مع جماعة، واحد مع آخر، يتعاقدون على أن يكونا كرجل واحد، إذا مرض أحدهما مرض الثاني، فأقر الله عز وجل هذا وأبطل الإرث، فالتحالف إذا كان قبل الإسلام يبقى في الرفادة والنصرة والوصية والنصيحة لكن في باب الإرث أبطله الله بقوله: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأحزاب:6]، في التوارث أصحاب الأرحام وهم الأقرباء من نساء ورجال أولى بالوراثة فيما بينهم، أما المعقود له عهد وحلف فلا حق له في الإرث، لكن يوصي له من كان حالفه بوصية دون الثلث لا تزيد على الثلث، ينصره النصرة باقية، يساعده متى طلب المساعدة المالية، أو العقلية، لكن فقط التوارث لم يبق بالحلف والمؤاخاة، والمؤاخاة هذه أحدثها الإسلام بين المهاجرين والأنصار في بداية نزول المهاجرين إلى المدينة فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الأنصاري والمهاجر على أن يتوارثا، إذا مات أحدهما ورثه الآخر، هذا التوارث بالهجرة ونسخ أيضاً، ومن باب أولى أن ينسخ التوارث بالتعاقد والتحالف فتأملوا! وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [النساء:33]، أي: ورثة، مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]، نصيبهم ، قال ابن جرير : من الرفادة والنصرة والعون لا من الإرث؛ لأن الإرث نسخ بآية أخرى في سورة الأحزاب وفي سورة الأنفال.أما إذا قلنا: عقدت أيمانكم في الزواج؛ فالزوجة تقدم أنها ترث الربع أو ترث الثمن، والزوج كذلك، فلا حاجة إلى بيان إرثها الآن، والصواب: أن هذا كان فيما تعارف عليه العرب في الجاهلية لا دولة ولا سلطان ولا ولا، يحتاج الإنسان إلى أن يتآخى مع آخر سواءً مزني أو جهني ؛ للقرب للمناسبة للقرية أنت أخي وأنا أخاك، حياتي حياتك وموتي موتك، وهكذا، فلما جاء الإسلام وأصاب العدل والأمن والطهر والصفاء ما هنالك حاجة إلى التحالف، أليس ذلك؟ وما كان من تحالف الرسول يقول: ( لا يزيده الإسلام إلا شدة وقوة )، فقط قضية الإرث أظهر الله أهلها وأبرزهم، فلم يبق مجال لمن حالفت أن يرثك، إن شئت وصي له بدون الثلث وصية، أما أن يرث الإرث، فهذا الأمر انتهى بآية الأحزاب والأنفال. وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]، ما معنى عقدت أيمانكم ؟ الأيمان: جمع يمين بالتحالف يده في يده ويعاهده، فالعقد هذا يتم بالمصافحة ووضع اليمين على اليمين والحلف أيضاً.ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:33]، هذه عندما تريدون أن تقسموا التركة أو تخرجوا الوصية اعلموا أن الله معكم، فلا حيف لا نقص ولا زيادة ولا تقديم ولا تأخير، اقسموا المال كما قسمه الله وإياكم أن تحلفوا أو تميلوا؛ فإن الله شهيد على ما تقسمون؛ لأن قسمة التركات قد تتطلع النفوس إلى الزيادة والنقصان فيها، وإلى إبعاد فلان وإدخال فلان، فكان الله العليم الحكيم يقول لهم: إِنَّ اللَّهَ كَانَ ، وما زال عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:33]، حاضر يرى ويسمع؛ فإياكم أن تخفوا شيئاً أو تعطوا من لا يستحق العطاء.هذه التوجيهات أسألكم بالله لصالح من؟لصالح المؤمنين، عبيد الله وأولياؤه، هو الذي ينزل هذه الشرائع والأحكام من أجل إكمالنا وإسعادنا، ومع الأسف أعرضنا عن كتابنا.هيا نكرر هذا الشرح بتلاوته في الكتاب وتأملوا!
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
يقول الشارح غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم:[ صح أو لم يصح ]، لماذا يقول: صح أو لم يصح؟ لأن المعنى صحيح وسليم، يبقى السند صح أو لم يصح غير مهم.[ صح أو لم يصح أن أمة أم سلمة رضي الله عنها قالت: (ليتنا كنا رجالاً فجاهدنا، وكان لنا مثل أجر الرجال؛ فإن الله سميع عليم].تمنت هذا، هو التمني، فنهانا الله عنه، وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، هذا مثال فقط.[ والذين يتمنون حسداً وغير حسد ما أكثرهم ومن هنا نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عباده المؤمنين عن تمني ما فضل الله تعالى به بعضهم على بعض فأعطى هذا وحرم ذاك؛ لحكم اقتضت ذلك ]، فالله لا يعطي فلاناً ويمنع فلاناً لا لشيء، والله بل لحكمة من أعلى الحكم.قال: [ لحكم اقتضت ذلك. ومن أظهرها الابتلاء بالشكر والصبر ] يجب أن لا ننسى هذا! فلان غني يرفل في الحرير، لماذا هذا؟ عللوا! أراد الله تعالى أن يختبره أيشكره أم يكفره؟ كيف يبتلي الله عز وجل؟ بهذا النوع، فلان منذ أن ظهر وهو فقير لاصق بالأرض لا يملك شيئاً، من فعل به هذا؟ الله، لماذا؟ ابتلاه؛ من أجل أن يرى صبره أو جزعه فيثيب الصابرين والشاكرين ويحرم الكافرين والجازعين.مرة ثانية: إن رأيت سليم البنية صحيح الجسم والعقل ماذا تقول؟ مبتلى وإلا لا؟ بماذا ابتلاه؟ بهذا العقل وهذه الصحة وهذا كذا، لم ابتلاه بهذا؟ الله حكيم أم لا؟ابتلاه من أجل أن يرى شكره أو كفره؛ فإن شكر زاده ورفعه، وإن كفر نعمة الله سلبها منه وآذاه، آخر مبتلى بالمرض بالفقر بالغربة بكذا، ابتلاه مولاه لم؟ليصبر أو يضجر ويجزع ويسخط على الله عز وجل.إذاً: ما منا والله إلا مبتلى، أما قال: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]؟ أي نص أقوى من هذا؟ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ، أي: امتحاناً، وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، فلم يبق إذاً من معنى أبداً للتمني والحسد، أتعترض على الله؟ طبيب يعالج مريضاً بالإبرة والدواء وأنت تنكر عليه هذا، أما تستحي؟ ما هو شأنك.قال: [ ومن أظهر تلك الحكم الابتلاء بالشكر والصبر، فقال تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، أي: من علم أو مال أو صحة أو جاه أو سلطان ].تعرفون بعض إخوانكم إن لم نكن منهم يبغضون أهل الفضل، يحسدون إلى حد البغض، لا يرضون عنهم أبداً، ولا يفرحون بوجودهم. مرض نفسي!هذا هو الذي نهى الله عنه، هذا الغني زاده الله من أعطاه؟ أعطاه الله ربي وإلا لا؟ لماذا أعطاه وما أعطاني يبتليه؛ ليشكر أم يكفر.قال: [ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32] ، وأخبر تعالى أن سنته في الثواب والعقاب الكسب والعمل، فليعمل من أراد الأجر والمثوبة بموجبات ذلك من الإيمان والعمل الصالح، ولا يتمنى ذلك تمنياً، وليكف عن الشرك والمعاصي من خاف العذاب والحرمان، ولا يتمنى النجاة تمنياً، كما على من أراد المال والجاه فليعمل له بسننه المنوطة به، ولا يتمنى فقط فإن التمني كما قيل: بضائع النوكى ]. التمني بضائع النوكى، البضائع: جمع بضاعة، سلعة، والنوكى: جمع أنوك، أحمق، التمني: سلعة الحمقى، فيه شيء؟ [ التمني بضائع النوكى أي: الحمقى، فلذا قال تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النساء:32] ].ما قال: نصيب مما أعطيناهم.[ مما اكتسبوا. وَلِلنِّسَاءِ أيضاً: نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32]، فرد القضية إلى سنته فيها، وهي كسب الإنسان؛ كقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].ثم بيّن تعالى سنة أخرى في الحصول على المرغوب: وهي دعاء الله تعالى فقال: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32]، فمن سأل ربه وألح عليه موقناً بالإجابة أعطاه، فيوفقه للإتيان بالأسباب، ويصرف عنه الموانع، ويعطيه بغير سبب إن شاء، وهو على كل شيء قدير، بل ومن الأسباب المشروعة الدعاء والإخلاص فيه ].من الأسباب المشروعة للحصول على المطلوب والمرغوب: الدعاء مع الرجاء المتواصل، والاعتقاد بالاستجابة ومواصلة الدعاء، ما تدعو سنة وتقف، أو شهراً وتنتهي تقول: ما حصل لنا من هذا شيء، ( إن الله يستجيب لأحدكم ما لم يعجل )، يقول: آه دعوت وما استجاب لي، ( إن الله يستجيب لأحدكم ما لم يعجل ).قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى.أما الآية الثانية وهي الثالثة والثلاثون، فإن الله تعالى يخبر مقرراً حكماً شرعياً قد تقدم في السياق: وهو أن لكل من الرجال والنساء ورثة يرثونه إذا مات، فقال: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [النساء:33] أي: أقارب يرثونه إذا مات؛ وذلك من النساء والرجال، أما الذين هم موالي بالحلف أو الإخاء والهجرة فقط، أي: ليسوا من أولي الأرحام فالواجب إعطاؤهم نصيبهم من النصرة والرفادة، وهي العون والمساعدة، والوصية لهم بشيء؛ إذ لا حظ لهم في الإرث، لقوله تعالى: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفال:75] ].هذه الناسخة للتوارث بالهجرة، بالمؤاخاة، بالحلف، قضت عليها، كان ذلك في الجاهلية كما قدمنا، ما في دولة، ما في سلطان، ما في أمن، الناس يحتاجون إلى بعضهم البعض، هذا يؤاخي هذا، هذا يحالف هذا؛ ليحصل له أمن، فلما جاء الإسلام وقامت دولته لم يعد ثمة حاجة إلى هذا، المؤمنون إخوة: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، ما في حاجة إلى حلف أو مؤاخاة.قال: [ ولما كان توزيع المال وقسمته تتشوق له النفوس، وقد يقع فيه حيف أو ظلم، أخبر تعالى أنه على كل شيء شهيد، فلا يخفى عليه من أمر الناس شيء، ألا فليتق ولا يُعصى ].لو أن العبد ما ينسى أن الله معه ينظر إليه على أي حال، والله ما يستطيع أن يعصيه، فلا يعص عبد الله ربه إلا إذا نسي، إلا إذا غفل، ظن أنه وحده، مع أن الله يقول: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى [المجادلة:7] أي: أقل من ذلك أدنى من ثلاثة أو أكثر إلى ما لا حد له، هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، وليس هذا معنى الحلولية، هذا معنى: أن العوالم كلها في قبضة الله، إذا كان يطوي السماوات السبع بيمينه، والأرض بكل ما فيها في يمينه، أين البعد؟ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].[ فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:33] ]. والشهيد: أعظم من الشاهد، حاضر وعالم، قد يكون شاهداً ولا يفهم شيئاً.الشهيد الحاضر العليم [ لا يخفى عليه من أمركم شيء، فاتقوه بطاعته وطاعة رسوله ]، ولا تعصوه.يا عباد الله! الذين آثرهم بهذا الشرع، وفضلهم على البشرية بهذا النور، يعنينا نحن.أقرأ الآيتين ثم نذكر الهدايات الإلهية فيها وتفكروا، قال تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:32-33]. فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33] ذكرت لكم هذا النصيب، في الإرث لا إرث، ما أنواع النصيب؟ الرفادة، العطية، النصرة، البيان، الهداية، أعطوهم ما يستحقون، الوصية، أوص لأخيك بشيء بعد موتك يأخذه دون الثلث، إذ لا تصح الوصية أكثر من الثلث أبداً: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:33].
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيتين ].كل آية تحمل هداية أو لا؟ تهدي إلى أي شيء؟ إلى الكمال والإسعاد، تهدي إلى من؟ إلى دار فلان، أو إلى سوق الخضرة؟ لا. بل تهدي إلى ما يسعد الإنسان ويكمله.قال: [ من هداية الآيتين:أولاً: قبح التمني وترك العمل ].قبيح هذا أو حسن؟ يترك العمل ويتمنى، هذا إنسان هذا؟! يجب أن يعمل ويبذل طاقته في الكسب، وهو يدعو الله أن يعطيه ما يطلبه ويسأله من فضله، أما أن يقعد عن العمل ويتمنى، فهذا ما أراده الله لنا، بل حرمه الله علينا: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ [النساء:32].[ ثانياً: حرمة الحسد ].الحسد معروف أو لا؟ تمني زوال النعمة من فلان، إن كنت تتمناها تزول عنه لتحصل لك فهذا حسد قبيح، وأقبح منه: أن تتمنى زوال النعمة ولو لم تحصل لك، المهم: أن لا نرى فلان سعيداً، هذا أقبح أنواع الحسد، وكلاهما حرام من كبائر الذنوب؛ لأنه اعتراض على الله في تدبيره لخلقه.[ ثالثاً: فضل الدعاء، وأنه من الأسباب التي يحصل بها المراد ].أي دعاء هذا؟ دعاء الله عز وجل، ما معنى دعاء الله؟ يا رب.. يا رب.. يا ربّ اغفر لي ذنبي وارحمني، الدعاء: النداء، هل يدعو داع بدون ما ينادي ربه؟أولاً: يا ربّ.. اللهم، والأفضل أن تناديه ثلاث مرات، ولهذا ورد: (من قال: يا ربّ يا ربّ يا ربّ قيل له: أسمعت: اسأل)، وأخرى: (يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، اسأل يا عبد الله تعطى).والدعاء هو العبادة، ولا يحرمه إلا كافر.قال: [ فضل الدعاء وأنه من الأسباب التي يحصل بها المراد ].من أين أخذنا هذا؟ من قوله: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32]، عالم بالمحتاج والمريض والفقير والغني، وكل الخلق بين يديه، لو كان ما يدري محنة؟ تدعوه وهو ما يعرف، أو ما يعلم، كيف يعطيك؟قال: [ رابعاً: تقرير مبدأ التوارث في الإسلام ].ما معنى التوارث في الإسلام؟ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:11-12] الآية.هذه الكلالة، الكلالة: أن يموت المرء ولم يترك أباً ولا ابناً، ولا جداً ولا ابن ابن، يرثه الحواشي فقط، هي كلالة، كللوه كالإكليل على الرأس، الرجل يرث كلالة بمعنى: أنه ما عنده أب يرثه ولا جد، ولا ابن ولا ابن ابن، هؤلاء ما هم موجودين، من يرثه؟ إخوانه، أعمامه، أبناء إخوانه.. هكذا.الكلالة: مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس، فقد يموت الرجل ولا يترك أباً ولا جداً ولا ابناً ولا ابن ابن، ويترك إخوة لأبيه وإخوة لأمه؛ فإن ترك إخوة لأمه، إذا كان واحداً له السدس، وإذا كان أكثر من واحد لهما الثلث فقط، والباقي للعصبة.وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً، ذكوراً وإناثاً: فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:176]، كآية آخر سورة النساء: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].قال: [ رابعاً: تقرير مبدأ التوارث في الإسلام ].من أين أخذناه من الآية هذه؟ من قوله: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ [النساء:33] ورثة، وأقارب.[ خامساً: من عاقد أحداً على حلف، أو آخى أحداً، وجب عليه أن يعطيه حق النصرة والمساعدة، وله أن يوصي له بشيء دون الثلث ]، أي: أقل من الثلث.[ أما الإرث فلا حق له، لنسخ ذلك ] بآية الأحزاب، والأنفال.[ سادساً: وجوب مراقبة الله تعالى؛ لأنه بكل شيء عليم، وهو بكل شيء شهيد ].ما معنى مراقبة الله تعالى؟ إذا أردت أن تأكل تستحضر أنك بين يدي الله، وتعرف كيف تأكل، أو ما تستحي من الله؟!تقول: بسم الله، لولا اسم الله ما تأكل، ثم تأكل بيمينك، ثم تأكل مما يليك، تأكل ولا تتخم بكثرة الأكل، كذا أو لا؟أردت أن تركب سيارتك، راقب ربك، من أوقف هذه السيارة؟ قل: بسم الله، والحمد لله، الحمد لله الذي وهبنيها، وسخرها لي، وواصل حمد الله.في أي مكان مررت فرأيت رجلاً صالحاً جميلاً كذا، تقول: سبحان الله! الحمد لله، يخلق الله ما يشاء، يهب لمن يشاء.. وهكذا، حياتنا كلها ذكر مع الله، ومن نسي الله هبط، ارتكب كل المعاصي والذنوب، لا ينجو إلا من يراقب الله.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-28, 05:28 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (17)
الحلقة (241)
تفسير سورة النساء (24)


قرر الله عز وجل القوامة للرجل على المرأة، وآتاه سبحانه السلطان عليها، وبعد هذه القوامة وهذا السلطان الممنوح للرجل أمره الله بإكرام المرأة والإحسان إليها، والرفق بها لضعفها، ثم أثنى سبحانه على المرأة الصالحة، وذكر عز وجل صفاتها، ومن ذلك أنها مطيعة لربها وزوجها، وحافظة لزوجها في ماله وعرضه، في حضوره وغيبته، مستعينة على ذلك بالله عز وجل الذي يمنح العون لعباده الصالحين.
تفسير قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء ...)
الحمد لله؛ نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع، صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة النساء ومع هاتين الآيتين الكريمتين:وتلاو هما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، يذكر الحكم وعلته، آمنا بالله: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء:34]، هذه الآية الأولى، نكتفي بها، ونترك الثانية إلى يوم آخر إن شاء الله.ختامها: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34]، هيا نتغنى بهذه الآية مرات، وكلنا يُعمل فكره في الفهم وما يريد الله من هذا الكلام الإلهي. الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
من معاني القوامة وسبب كونها للرجال
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، الرجال: جمع رجل، وعندنا لطيفة، أنفس بها عن ضيق بعض النفوس، ولا بأس، كان في الديار المغربية عالم سلفي كبير توفي رحمة الله عليه، ومن عجائبه: أنه كان مسئولاً عن المدرسين في المسجد النبوي أيام دخول السلطان عبد العزيز رحمة الله عليه.أحد تلامذته قال له: لقيت رجلاً في كذا.. قال: تأدب، أين الرجال؟ قل: لقيت ذكراً، أين الرجال؟ لقيت ذكراً في الشارع، ويشهد لهذا قول الله تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص:20]، إذاً: فكلمة (رجل) تدل على الفحولة وكمال الرجولة. الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، ومعنى: (قوامون): قائمون، الرجل قيم على امرأته، قائم عليها، قوام عليها؛ إذ هو الذي يحفظها، وهو الذي يطعمها ويسقيها، وهو الذي يدخل السرور والفرح على نفسها، فحياة المرأة مرتبطة بحياة الرجل، وهما كجسم واحد بعضهم من بعض.إذاً: فالرجل قيم لكمال خلقته وفطرته وما أودع الله فيه من قوى لا توجد في المرأة، والخالق عز وجل فرق في الخلقة بين الرجل والمرأة، بين الذكر والأنثى، وهذا مشاهد في الحيوانات، فهل الديك كالدجاجة؟ الدجاجة تملك تلك العنترية وذاك الصوت؟ فهل التيس ذكر العنز كالعنزة؟ هل الكبش كالنعجة؟ هل الثور كالبقرة؟ هل الجمل كالناقة؟ من يقول: إيه، من فرق بينهما؟ الخالق العليم الحكيم، فكذلك الرجل يختلف عن المرأة في أشياء وصفات كثيرة، وتلك الصفات أهلته للقيام بشئون المرأة، وجعلته أقدر منها وأقوى على ذلك.قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] بسبب ماذا؟ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:34]، أي: بتفضيل الله تعالى بعضهم على بعض في الخلقة وفي الفطرة، وفي غيرها من الصفات، ومن قال: المساواة، فهو كافر.. كافر.. كافر لا يقبل منه انتساب إلى ملة الإسلام ولا إلى اليهودية والنصرانية، الله يقول: فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:34] وأنت تقول: لا.. لا.. لا. يبقى إيمان أو إسلام؟هذا النغم، هذا الصوت صوت يهودي لفتنة البشرية وإهباطها؛ لتصبح قابلة لأن تسودها الماسونية وتقودها إلى جهنم، وإنما العجب لمن يعرضون عن كتاب الله ويجهلون ما فيه، ويمشون وراء تعاليم الماسونية في المجلات والصحف، وفي المحاضرات والكلام، من قرر هذا التقرير؟ أليس الله، هذا كلام من؟ في من يقول كلام غير الله؟إذاً: كلام أمك أم أبيك، هل رفع إنسان رأسه وقال: هذا كلامي أو كلام فلان؟ هذا كلام الله. الرِّجَالُ [النساء:34] الفحول الأقوياء القادرون، أولو البصائر والنهى: قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، أولاً: بتفضيل الله تعالى بعضهم على بعض في الخِلقة والفطرة والعلم والمعرفة، والطاقات المختلفة.ثانياً: وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34] أي: وبإنفاقهم عليهن من أموالهم، فالذي ينفق هو الذي يسود أو لا؟ أو الذي ينفق عليه هو السيد، أيعقل هذا الكلام؟إذاً: وبإنفاقهم وليس خاصاً هذا بالمهر فقط، وإن كان المقصود المهر، وهو يشمل لكل النفقات التي ينفقها الرجل على المرأة، يسود هذا أو لا؟واذكروا قول الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو كلام فوق مستويات البشر، يقول: ( خادم القوم سيدهم )، هاتوا علماء النفس والاجتماع ينقضون هذه؟ والله ما ينقضونها؛ لأنها نبعت من مصدر الحكمة، من أستاذ الحكمة ومعلمها، هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سيد القوم خادمهم )، تريد أن تسودنا؟ اخدمنا، فلما كان الرجل هو الذي يخدم المرأة، إذاً كان سيدها أو لا؟الآن في البيت ينزل ضيوفك، فالذي يقوم بسقيهم وإطعامهم هو السيد، أليس هو السيد؟ إذاً: من أراد أن يسود فليعمل الخير وليبذل المعروف لغيره، ومن تفسير كلمة الصمد، وهي اسم من أسماء الله تعالى: سئل بعض العرب بماذا ساد فيكم فلان؟ قال الأعرابي بالفطرة: احتجنا إليه واستغنى عنا، بهذا سادنا، والله تعالى هو الصمد الذي استغنى عن كل مخلوقاته، وافتقر إليه كل مخلوق من مخلوقاته، فكان الصمد.(خادم القوم سيدهم) إذاً: الرجل يخدم المرأة أو لا؟ يكفي أنه يموت دونها، إذاً: فساد أو لا؟ فهو سيد.الرجال قوامون على النساء بشيئين:أولاً: بما فضل الله بعضهم على بعض في الخلقة والفطرة والفهم وكل الطاقات، تفاوت كبير، ومن أراد أن يستبصر: هل المرأة تبعث نبياً أو ترسل رسولاً؟ الجواب: لا، هل المرأة تعين أميرة وتحكم الناس؟ الجواب: لا.هل المرأة تعين قاضية تقضي بين الناس؟ الجواب: لا، يا شيخ! جعلوها وزيرة وقاضية، من هؤلاء؟ أنبياء الله أم رسله، أهل ولايته أم عالمو شريعته؟ هؤلاء ممن ذابوا في تيار العلمانية والصليبية والماسونية، يستشهد بهم؟ الرسول هناك قال: ( لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة )، أشيروا لي، الإقليم الفلاني أفلحوا؟ هاتوا، لأن رئيسة الوزراء امرأة! أو الحاكمة امرأة، أشيروا، موجود؟ أو تفسرون الفلاح بالطعام والشراب والنكاح، هذا هو الفلاح؟الفلاح: أن يسود البلاد الطهر والصفاء، والمودة والإخاء والمحبة والولاء، والتعاون على البر والتقوى، فتتجلى حقائق الطهر والكمال البشري في الدنيا، والنجاة من النار ودخول الجنة يوم القيامة. الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، بسبب ماذا؟ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:34] أولاً، وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34] ثانياً.العجيب: أن هناك نساء في ديار الكفر هي التي تدفع المهر، نزغة شيطانية يهودية، الآن في أوروبا وفي أمريكا واليابان بعض النساء ما تجد من يتزوجها، هي التي تدفع المهر، كم تأخذ وأتزوجك؟ يقول: ألفين جنيه أو ألفين دولار يتزوجها، هي التي تدفع، هل هذه يصبح سيداً عليها، هي التي تسوده وتقوده كالطفل أو الكلب وراءها، هي التي دفعت، وهذا شأن البشرية إذا انقطعت صلتها برب البرية، وأعرضت عن كتابه وهدي نبيه، تهبط تهبط، حتى لا تصبح أهلاً حتى لدخول منزل طاهر.
صفات الصالحات من النساء
ثم قال تعالى: فَالصَّالِحَاتُ [النساء:34] يا مؤمنة: لا تقولي: أذلني ربي وأهانني، وعين عليّ قيماً يقوم عليّ، هذا من إفضال الله عليك، هذا من رحمته بك، هذا من إشفاقه عليك، أنت ضعيفة، فولى أمرك رجلاً يقدر على ذلك.وثانياً: فَالصَّالِحَاتُ [النساء:34] من النسوة، الصالحات: جمع صالحة، والرجال واحدهم: صالح، والجمع صالحون، من هم الصالحون؟هذا موكب من مواكب الجنة الأربعة، هل الجنة لها مواكب؟ اللهم عجل لنا باللحوق بهم!أربعة مواكب، قال تعالى في بيانهم من سورتنا هذه، سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] من أين؟ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، وفي مناجاتنا لربنا تعالى ونحن بين يديه وقد نصب وجهه لنا نقول: (التحيات لله، والصلوات والطيبات -أي: كلها لله- السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)؛ بسببه عرفنا الله والطريق الموصلة إليه، (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، فنسلم على كل عبد لله صالحاً، ويدخل فيه الصالحات بلا جدال.من هم الصالحون؟ أولاً: أقول: من منكم يريد أن يكون صالحاً؟ كلنا.بإيجاز: الصالح: من أدى حقوق الله كاملة، ولم ينقص منها حقاً، وأدى حقوق الناس كاملة، فلم يبخسهم حقاً من حقوقهم، ذاك والله العبد الصالح، والذي بخس الحقوق ونقصها فاسد هذا ما يقال فيه صالح، وأما المصلِح فدرجة أخرى.إذاً: فالصالحات المؤمنات الذين أدين حقوق الله عز وجل، وأدين حقوق عباده، إن كانت ذات زوج أدت حقوق زوجها، إن كانت ذات أبوين أدت حقوق أبويها، ذات أولاد أدت حقوق أولادها.. وهكذا أدت حقوق الله وعاشت على طاعة الله ورسول الله.(الصالحات) انعتهن؟ قَانِتَاتٌ [النساء:34] أما الفاسدات يقنتن؟ ما يقنتن، فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ [النساء:34] جمع قانتة، والمراد من القنوت دائماً وأبداً: طاعة الله فيما أمر به يفعل وفيما نهى عنه يترك، الصالحات قانتات، أي: مطيعات لله في أمره ونهيه، ومطيعات لأزواجهن في الأمر والنهي كذلك.فإذا أردت امرأة تطيعك تزوج صالحة؛ فإن تزوجت طالحة فاسدة والله ما أطاعتك، وإن أطاعتك في باب أغلقت عليك سبعة! أنصح لك بنصيحة الله: يا من يرغب أن يتزوج، تزوج الصالحة، كيف نعرفها؟ اسأل، ابعث أمك، جدتك تسأل، اسأل الجيران، كيف هذه المرأة، فإن قالوا: صالحة إذاً تزوجها، فإنها تطيعك بعد طاعة الله ورسوله، هذا خبر إلهي أو لا؟الفاسدات عاصيات أبداً، الفاسدة ما تطيع، وإن أطاعتك في جانب عصتك في جوانب أخرى، فعليك بالصالحة، والرسول يقول: ( خير النساء من إذا نظرت إليها سرتك -أفرحتك- وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ) خير النساء، هذا إعلان محمدي: (خير النساء من إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ونفسك).قال: حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ [النساء:34]، من يحفظ الغيب؟ ولكن بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34]، حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ [النساء:34] هذه العبارة من أرقى العبارات، بالشرح والتوضيح: تحفظك في فرجها، وفي عفتها وطهارتها، لا تسمح لرجل أجنبي أن ينظر إليها، ولا أن تتكلم معه أو يكلمها، ولا أن يلمسها بيده فضلاً أن يجامعها، هذا حفظ الغيب؛ لأن مغازلة النساء والمكالمة والمجالسة والاتصال.. هذه كلها تقع في الغيب أو في العلن؟ تقع في الغيب حتى في الجاهلية، أما الآن في الديار التي هبطت، يقبل وهو في الشارع! هذا النوع هبطوا، شر الخلائق ما يذكرون.بدلاً من أن أقول: تحفظه في غيبته، في عفتها، في طهارتها، في صيانة نفسها في كذا وكذا، تصبح العبارة إذا رأتها فتاة تستحي وهي أمام أبيها وأمها، لكن: حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ [النساء:34]، ومع هذا ليست لهن القدرة الكافية، لابد من عون الله عز وجل (بما حفظ الله) والميم هنا مصدر (بحفظ الله تعالى)، والمحفوظ من حفظه الله.كيف يحفظك الله؟ إذا قرعت بابه، واطرحت بين يديه وفي كل لقاء معه: رب احفظني بما تحفظ الصالحين من عبادك! يحفظك، أما أنت معرض ولا تبالي به ولا تفتقر إليه ولا تطلب حفظه أيحفظك؟(بما حفظ الله) أي: بحفظ الله تعالى، والله حفظهن لما علم من صلاحهن وقنوتهن، وطاعتهن.إذاً: تولى حفظهن، فيسر لهن أمر الحفظ، فتعيش المرأة ستين سنة ما تتكلم مع أجنبي ولا يراها أجنبي. حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34] عز وجل، أي: بحفظ الله تعالى لهن، حتى لا تعرف أننا نستغني عن الله بمعارفنا، بطاقاتنا بجهدنا، انزع هذا من بالك، لا بد وأن تعلن افتقارك إلى الله وحاجتك إليه.ثم قال تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34]، هذه صفحة أخرى، فرغنا من الأولى.أولاً: عرفنا: أن للرجال قوامة على النساء، وعرفنا أن لذلك علتان، الأولى: التفضيل الفطري، الثانية: بما أنفقوا عليهن من مهور ونفقات.ثم قضية أخرى: هي إعلان شأن النساء حتى لا تتألم من هذا الحكم، فقال تعالى: فَالصَّالِحَاتُ [النساء:34] هذا ثناء أو لا؟ فَالصَّالِحَاتُ [النساء:34] ما شأنهن؟ قَانِتَاتٌ [النساء:34] ما معنى قانتات؟ مطيعات، والقنوت: الطاعة لله ورسوله، وللزوج حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ [النساء:34]، هل فهمنا: حافظات للغيب، ما هذا الغيب؟ صائنات أعراض الرجال لا تتعرض أبداً للزنا ولا لأسبابه ولا لدواعيه.وهذا بدون عون الله؟ الجواب: لا.ما يستطيع أحد أن يستعصم هكذا ولا يعصي الله عاماً أو عشرة أو مائة بدون عون الله تعالى له، بحفظ الله تعالى.
علاج النشوز
قال تعالى: وَاللَّاتِي [النساء:34] هذا جمع التي، التي يجمع على اللاتي أو اللواتي، عدد فوق الواحد. وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34] هذا خبر من أخبار الله أو لا؟ (واللاتي) أي: والنسوة من أزواجكم اللاتي تخافون نشوزهن، الخوف هنا: هو توقع لوجود علامات أفهمتك أن هذه تريد أن تعلو فوقك، تريد أن تسودك، تخرق نظام الله عز وجل وترتفع فوقك؛ لأن النشز من الأرض المرتفع منها، ونشز الرجل: قام، ومنه في آداب طلب العلم: وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا [المجادلة:11] ارتفعوا.إذا أنت لاحظت من امرأتك علامات خفت بها من هذه العلامات أنها تريد أن تعلوك وتسود عليك وتترفع، أو تفقد القيادة، وحينئذٍ تصبح تحتها ماذا تصنع؟ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34] هذا الخوف لابد له علامات أو لا؟ من علاماته: يا أم فلان، اسكت عني أنا مشغولة! السلام عليكم! مثلك ما يرد عليه السلام؛ لأنك تأخرت علينا ما جئت بالخبز!المهم: تظهر له علامات النشوز، فإذا خافها وظهرت فقد أرشده وليه ومولاه إلى طريقة إصلاح هذه الناشز حتى تعود إلى مستواها اللائق بها، وهي صالحة قانتة حافظة للغيب: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34]، ماذا تعملون معهن؟ قال: فَعِظُوهُنَّ [النساء:34] يا شيخ: نعظها ما تفهم الوعظ، إي نعم. مرت ظروف بالعالم الإسلامي من حوالي ألف سنة، ما في من يفهم الوعظ أو يتأثر به إلا 1% أو في الألف، الذي يقبل الوعظ هو ذو الضمير الحي، وإن شئتم قولوا: ذو النفس البشرية الطيبة، إذا وعظته اتعظ واستجاب، وبما أن المؤمنات صالحات قانتان فالوعظ ينفع فيهن.والوعظ معناه: التذكير بما أمر الله تعالى بفعله: من ذلك طاعة الزوج، الإحسان إليه، عدم الترفع عنه، التذكير بما أعد الله للصالحين والصالحات، التذكير بالعواقب السيئة التي تنجم عن الفراق والطلاق.. وهكذا هذا هو الوعظ بالأمر والنهي شيئاً فشيئاً.فإن هبطت إلى مستواها وتخلت عن الترفع والنشوز فالحمد لله؛ فإذا ما استجابت، ما نفع فيها الوعظ، خوفها بالله، بالدار الآخرة، بعواقب الطلاق، بآلام الفراق بسوء العشرة ما نفع، ماذا يصنع؟ ييئس؟ لا، قال له سيده: اهجرها: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ [النساء:34]، المضاجع جمع مضجع: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] أي: فراش النوم.فاهجروهن في فراش النوم، لا تهجرها في البيت، تدخل لا تسلم عليها، تناديك ما تجبها، تغمض عينيك ما تنظر إليها، ما أمر تعالى بهذا، هذا ما ينفع؟ الهجران في الفراش، لا تعتزلها وتنام في غرفة أخرى، أو تذهب إلى جدة، تبقى في البيت وتنام معها في فراشها وتعطيها ظهرك لا وجهك، ما تطيق يومين ثلاثة، تقبل رجليك ورأسك، عدنا. وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ [النساء:34] في الفرش، كم؟ قالت العلماء: شهر، ما تزيد حتى ترجع إليك، إذا تركتها شهراً كاملاً وأنت صابر وتعطيها ظهرك فقط، لا بد وأن تفتحك بمفاتحها.ما نفعت هذه الوسيلة أيضاً كانت شديدة هذه، ممكن جامعية!!إذاً: قال تعالى: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34] اضربوهن، الضرب معروف، ولكن بين الرسول المبين لكتاب الله: أن هذا الضرب هو ضرب التأديب، فمن حقائقه أنه لا يكسر عضواً ولا يشين جارحة، ما يظهر فيها زرقة أو انتفاخاً أبداً، كضرب الرجل لابنه، والمربي لتلميذه فقط.لطيفة فقهية! لو أن الرجل ضرب امرأة فكسر سنها، أو كسر أصبعها أو رجلها، هل يجري القصاص بينهما، أو ما يجري؟الجواب: لا يجري القصاص إلا في العقل والدية، العقل إذا كسر سنها يعطيها قيمة السنة، كسر رجلها أو يدها يعطيها قيمتها؛ إذ هي موجودة في القضاء، السن واليد.. وإلى غير ذلك.فإن قتلها، نعم يقتل بها، في الجوارح: العقل، الدية، وفي الروح القتل، قتل يقتل.وهنا: ذكر لنزول هذه الآية سبب:قال: [ يروى في سبب نزول هذه الآية: أن سعد بن الربيع رضي الله عنه أغضبته امرأته فلطمها بيده، فشكاه وليها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يريد القصاص بعدما نزلت آية القصاص، فأنزل الله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34].. إلى آخر الآية ].فلم يبق مطمع في أن تقتص منك امرأتك، وأنت مأذون لك في ضربها، فإن كان الضرب شائناً أو جارحاً لا يجوز، فإن كسر عضواً أو كذا ففيه دية، فإن قتل يقتل النفس بالنفس.قال: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34] الضرب غير المبرح، المشين المكسر، ضرب التأديب.هذه كم من مرحلة مضت؟ مرحلتان أو لا؟الأولى: الوعظ، ممكن سنة وأنت تعظ، ما رجعت، إذاً: ماذا تصنع؟ اهجرها في الفراش لا في البيت، شهر كامل سوف ترجع، لكن إن فرضنا شديدة أو.. إذاً: هذه تضرب، المرحلة الأخير: الضرب: الضرب غير المبرح لا يكسر عضواً ولا يشين جارحة من جوارحه، وهل للإنسان جوارح؟ كم؟ سبعة.قال تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ [النساء:34]، في الوعظ، في الهجران، في الضرب: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ [النساء:34] أيها الفحول، أيها الرجال: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ [النساء:34] أي: النساء، استجبن للأمر وأطعن الطاعة المأمور بها، إذاً: فَلا تَبْغُوا [النساء:34] أي: لا تطلبوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء:34] لأذيتهن، يوجد بعض الصعاليك من الرجال هو الذي يبدأ يبحث عن الأسباب، ويوجد أسباباً ويضربها انتقاماً منها، وهذا لا يجوز أبداً. هذه امرأتك جزء منك، بضعة منك، أنت وهي تكونان جسماً واحداً، إذاً: فلا يحل أبداً أن تخترع الأسباب وتوجدها.. وكذا.. وكذا، من أجل أن تتوصل إلى ضربها، وتقول: عندي إذن، قال تعالى: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، الضرب في الدرجة الثالثة، ثم إذا لم توجد عوامل مقتضية له،و أسباب تتطلبه لا يصح أبداً، هذا كلام الله: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ [النساء:34] أيها الرجال: فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء:34] تتوصلون به إلى أذاهن وإلى ضربهن، أو هجرانهن.
تحذير الله للمعتدين على النساء بدون حق
وختم تعالى هذه الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34]، أعلى منك مليون مرة بلا مناسبة، لا تظهر أنك أعلى وأنك أقدر؛ تضربها وتخترع أسباب الأذى والضرب لها، فاعلم أن الله أعلى منك، لا تضرب المؤمنة، توجد أسباب لا وجود لها، وتقول: سمعتها تقول، رأيتها تفعل كذا، فعلت كذا وضربتها، حرام على عبد الله أن يوجد أسباباً باطلة ويضرب بها امرأته، يقول: سمعتها تتكلم في التلفون وهو يكذب. فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء:34] إلى أذاهن وضربهن، أو هجرانهن، لِم؟ إن أطعنكم. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ [النساء:34] فما بقي إذاً: إلا الولاء والمودة والحب: فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء:34]، اسمعوا الآية الآن هل فهمتم هذا؟ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، إذاً: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء:34]، لماذا؟ إِنَّ اللَّهَ كَانَ [النساء:34] وما زال عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].اعرف قيمتك يا عبد الله ولا تؤذ أمة الله.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال: [ يروى في سبب نزول هذه الآية أن: سعد بن الربيع ] هذا من سادات الصحابة الأنصار رضوان الله عليهم [أغضبته امرأته فلطمها، فشكاه وليها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه يريد القصاص، فأنزل الله تعالى هذه الآية: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، فقال ولي المرأة: أردنا أمراً وأراد الله غيره ]، هذا هو المؤمن.[ أردنا أمراً وأراد الله غيره، وما أراده الله خير، ورضي بحكم الله تعالى، وهو أن الرجل مادام قواماً على المرأة يرعاها ويربيها ويصلحها بما أوتي من عقل أكمل من عقلها، وعلم أغزر من علمها -في الغالب- وبعد نظر في مبادئ الأمور ونهايتها أبعد من نظرها، يضاف إلى ذلك أنه دفع مهراً لم تدفعه، والتزم بنفقات لم تلتزم هي بشيء منها، فلما وجبت له الرئاسة عليها، وهي رئاسة شرعية كان له الحق أن يضربها بما لا يشين جارحة أو يكسر عضواً، فيكون ضربه لها كضرب المؤدب لمن يؤدبه ويربيه.وبعد تقرير هذا السلطان للزوج على زوجته أمر الله تعالى بإكرام المرأة والإحسان إليها والرفق بها لضعفها وأثنى عليها فقال: فَالصَّالِحَاتُ [النساء:34]، وهن: اللائي يؤدين حقوق الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحقوق أزواجهن من الطاعة والتقدير والاحترام: قَانِتَاتٌ [النساء:34] أي: مطيعات لله تعالى وللزوج، حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ [النساء:34] أي: حافظات مال الزوج وعرضه ].كلمة (عرض) يعرفها كل الناس.[ لحديث: ( وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله ) ]، قرأنا الحديث الآن أو لا؟ ( خير النساء من أن إذا نظرت إليها أسرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها وماله ).قال: [ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34] أي: بحفظ الله تعالى لها وإعانته لها، إذ لو وكلت إلى نفسها لا تستطيع حفظ شيء وإن قلّ ] أليس كذلك؟ قررنا هذه القضية.قال: [ وفي سياق الكلام ما يشير إلى محذوف يفهم ضمناً؛ وذلك: أن الثناء عليهن من قبل الله تعالى يستوجب من الرجل إكرام المرأة الصالحة ]، مادام الله أثنى عليها أنت تؤذيها؟ أعوذ بالله، أيثني ربك على شخص ويكرمه وأنت تؤذيه؟ أعلنت الحرب على الله إذاً.[ وفي سياق الكلام ما يشير إلى محذوف يفهم ضمناً؛ وذلك: أن الثناء عليهن من قبل الله تعالى يستوجب من الرجل إكرام المرأة الصالحة، والإحسان إليها والرفق بها لضعفها، وهذا ما ذكرته أولاً، نبهت عليه هنا ليعلم أنه من دلالة الآية الكريمة، وقد ذكره غير واحد من السلف ].رب صل على نبيك ورسولك محمد وصحابته أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-28, 05:33 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (18)
الحلقة (242)
تفسير سورة النساء (25)


إن الرجل ما دام قواماً على المرأة؛ يرعاها ويربيها ويصلحها بما أوتي من عقل أكمل من عقلها، وعلم أغزر من علمها، وبعد نظر في مبادئ الأمور ونهاياتها أبعد من نظرها، يضاف إلى ذلك أنه دفع مهراً لم تدفعه، والتزم بنفقات لم تلتزم هي بشيء منها، فلما وجبت له الرئاسة الشرعية عليها، كان له الحق في أن يؤدبها ويربيها ولو حتى بالضرب، لكن بشرط ألا يكون ضرباً يكسر عظماً، أو يشوه جارحة من جوارحها، ومع ذلك كله فقد أمر الله بإكرامها والإحسان إليها ابتداء.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة الأحد من يوم السبت والليالي الثلاث بعدها؛ ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).فاللهم حقق رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك!وها نحن مع سورة النساء المباركة.
وجوب الصلح بين الزوجين إذا ظهرت علامات الشقاق
هناك آية ما استوفيناها دراسة وشرحاً وتفسيراً، وهي قول ربنا جل ذكره: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء:35]. وَإِنْ خِفْتُمْ [النساء:35] معاشر المؤمنين والمؤمنات، والخوف هنا: توقعه لظهور آياته وعلاماته، إن حصل هذا وهو الخوف من الشقاق بين الزوجين.والشقاق: نزاع، صراع، يجعل كل واحد من الزوجين على جهة، فلا اتصال ولا ارتباط ولا تلاقي، هذا في شق وهي في شق، فلا تلاقي.يا جماعة المسلمين! إن خفتم شقاقاً بين الزوجين، بين رجل منكم وامرأة منكم فمدوا أيديكم لإذهاب هذا الشقاق وإبعاده، ولجمع المرأة مع زوجها، لتحقق الأهداف الثلاثة للزواج، وهي: السكينة والمودة والرحمة.جماعة المسلمين في القرية، في الحي، إذا بلغهم: أن زيداً تنازع مع زوجته، وأنهما في شقاق، أنقذوا إخوانكم، كونوا محكمة، ابحثوا عن رجل ذي علم وبصيرة ومعرفة بشأن الزوج، وعن رجل آخر ذو علم ومعرفة وأدب ولياقة من أهل الزوجة، وأسندوا الأمر إليهما: بأن يدرسا الحالتين كلاً على حدة، ويجتمعان، وكل يدلي ويظهر ما سمع وما عرف، ثم وكل الله تعالى الحكم إليهما: إن شاءا فرقا وطلقا؛ لعلمهما اليقيني أنه لا فائدة في بقاء هذا الزواج، لا تكون فيه مودة ولا رحمة ولا سكون، فمن الخير إذاً إعلان الفراق، ويجب على الزوج أن يطلق، وعلى الزوجة كذلك أن تطلق، ولا يقول: لا، ما أطلق، أو تقول: أنا لا أتطلق، إذا كان لابد من الطلاق لإنهاء الشقاق، إذاً: فالطلاق.ولكن الغالب إذا نصحا الحكمان وعدلا وكانا أهلاً للحكم والقضاء، فإن الله يوفقهما لما فيه الخير: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا [النساء:35] أي: بين الزوجين فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35] الحكم كالحاكم، ولكن الحاكم دائم الحكم وهذا مؤقتاً. فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ [النساء:35] أي: من أهل الزوج، وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35] أي: من أهل الزوجة، لماذا نبعث بهما؟ لدراسة هذه القضية، والبحث عن المشكلة، ما سبب هذا الخلاف حتى أدى إلى النزاع والصراع؛ لأن الآية الأولى بين لنا تعالى إذا رأينا نشوزاً من المرأة وخفناه، التأديب في ثلاث خطوات:الأولى: الوعظ والتبيين، فإن انتهت وعادت إلى الصواب فبها ونعمت.الخطوة الثانية: هجرها في الفراش حتى تتوب وترجع إلى الحق.الثالثة: ضربها ضرباً غير مبرح لا يكسر عضواً ولا يشين جارحة.والآن حصل شقاق بين رجل وامرأته، ما نفع فيه الوعظ ولا التأديب بالضرب ولا الهجران، فهل نترك المؤمنين هكذا في هذا الشقاء والبلاء ونحن كجسم واحد، ( المؤمن أخو المؤمن )، المؤمنون متكافلون متضامنون، ما يسر إبراهيم يسر عثمان، وما يحزن عيسى يحزن موسى، وهذا معنى: أن أهل قرانا وأحياء مدننا متضامنون متوادون متحابون متعارفون على نهج ما علمنا، يجتمعون كل ليلة وطول الدهر يتعلمون الكتاب والحكمة نساءً ورجالاً وأطفالاً، من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، فتزكو النفوس وتطيب الأرواح، وترتفع مستويات المعرفة؛ فيصبحون كأنهم أسرة واحدة، أما والوضع هكذا أنى لنا أن نأتي بالحكمين، إلا إذا القاضي عين فلاناً وفلاناً إلزاماً.وكل ما يصيبنا هو بذنوبنا، هيا نسمع الآية الأولى هل لها وجود بين المسلمين.
قوامة الرجال على النساء
اسمع! الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، هذا موجود، وعكسه أيضاً الآن المرأة الموظفة في العالم الإسلامي أصبحت هي القيمة على الرجل، إن قلتم: ما سمعنا بهذا؛ نحن نسمع لأن الشكاوى تأتينا، فما دامت تعيشه وتقيته أو تنفق عليه، سادته أو لا؟ سادته وعلت فوقه وهي القيمة، ويصبح تبعاً لها، لِم ترضى بهذا يا عبد الله؟ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، بسبب ماذا؟ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:34]، وهل فضل الله الرجال على النساء؟ إي والله، ورفع بعضهم درجات، والملاحدة والهابطون والجهلاء وال.. وال.. عجبون من هذا، المساواة بين المرأة والرجل! لِم المرأة دائماً هابطة، قولوا لهم: هذه بنيتها وهذا جسدها، وهذا تركيب الله في خلقتها، هل تتساوى مع خلقة الرجل؟ في تساوٍ؟ في البدن بينهما فرق، بينا هذا حتى في التيس مع العنزة، تعرفون التيس وصولته أو لا؟ في الجمل مع الناقة، في الكبش مع النعجة، في الثور مع البقرة.فالإنسان عندما يلين وينكسر تصبح المرأة أعلى منه؟ لكن لجهلهم وعنادهم المهم يريدون أن يبعدوا نور الله، الله يقول: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ [النساء:34] من آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، إلا إذا انمسخت أمة أو جيل من الأجيال وهبطوا، وساد النساء فأصبحوا من أنواع المسخ، لا يعتبرون ولا يلتفت إليهم، والعقل عقل المرأة كعقل الرجل، وظف رئيسة في دائرة، وسلط عليها شيطان سياسي، يعبث بقلبها كم ويقلبها، ولا تثبت أمام كلامه، لا نصول في هذا الباب ولا نجول، الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به، فاثبتوا، النساء تحت الرجال. بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:34]، ومن جملة التفضيل: أن الرجل هو الذي يعيشها وينفق عليها، يشتغل عشر ساعات اثنتي عشرة ساعة، في الحر والبرد من أجل أن يوفر طعامها، وكساءها وسكنها، أليس هذا موجب للقوامة عليها والسيادة، وهي نائمة في بيتها الرجل هو الذي يحميها ويموت دونها، إن مست بأدنى مساس هو الذي يتلقى الضربات ويموت في سبيل ذلك.إذاً: أولادها من يكسوهم، من يطعمهم، من يسقيهم؟إذاً: فالرجل ينفق ماله، ومن أبرزه النفقة اليومية والمهر ما ننساه، دفع مهراً، وقد قلت لكم: ظهر في بلاد الهبوط: أن الرجل هو الذي يأخذ المهر! تقول: يا سيد تزوجني بكم؟ تقول: نعطيك خمسون ألف ريال، لا بأس!! موجود في العالم الهابط، لكنهم ممسوخون لا قيمة لهم في حكم الله وقضائه.
قنوت الصالحات من المؤمنات وحفظهن لأزواجهن
وشيء آخر: فَالصَّالِحَاتُ [النساء:34] نساؤنا صالحات، ما عندنا عاصيات، فاسقات، فاجرات، لا وجود لهن في بيوتنا، الصالحة هي التي تؤدي حقوق الله وافية لا تبخسها ولا تنقصها في حدود طاقتها، وتؤدي حقوق زوجها وأولادها وأقاربها، لا تؤذ أحداً ولا تنتقص حق أحد، (الصالحات) هذا ثناء الله عليهن أو لا؟ هذا الطابع من طبعهن به؟ الله هو المخبر: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ [النساء:34] مطيعات لله وللأزواج.ثم ماذا؟ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ [النساء:34] أي غيب هذا؟ هو العورة وما حولها: تحفظ فرجها، تحفظ صوتها، تحفظ وجهها، تحفظ كل جزئياتها عن الأجانب لتبقى مصونة كالحور العين في دار السلام: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ [الرحمن:72] محبوسات أو لا؟ أو يتجولن غاديات رائحات في السينمات والعبث واللهو والشوارع، هذه المرأة تبقى لها قيمة؟ حتى في الجنة. مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72] أو سائحات؟إذاً: حافظات للغيب، ويفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ بقوله: ( خير النساء -أفضل النساء- من إذا نظرت إليها سرتك ) ابتسامة، وجه لين، عاطفة، تتجلى مظاهر الحب، لا معبسة ولا مقطبة ولا.. ولا، (إذا نظرت إليها سرتك)، ولا تقول: هذا يعود إلى الجمال، فقد كان عندنا أكيلة الذئب أسود.. رأسه أكله الذئب مشقق الوجه عينه زرقاء.. كذا، ولكماله ولعلمه ولتعبه ننظر إليه وكأنه درة أو ياقوته، وهذا يعود إلى قلبك، انظر إلى فاسق أو فاجر لن يعجبك جماله ولا كماله. فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ [النساء:34]، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( خير النساء من إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك )، أم عثمان لا تخرجي أبداً إلا بإذني، لن تخرج أبداً، لو تغيب ألف سنة، طاعة، أم فلان لا تنطقي بهذا اللفظ لن يعود: ( إذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك )، حفظتك إذا غبت عنها أو لا؟الحافظات للغيب، سافرت إلى مكان ما وتركتها تحفظك في عرضك، فلا تتكلم مع أجنبي ولا تخرج من البيت، ولا.. ولا، أبداً، ومالك محفوظ، لا تبذره ولا تنفقه في غير رضاك، ولا.. ولا، وتعود وتجدها كما كانت، هذه خير النساء.فالمرأة التي ما سمعت بهذا الحديث يمكن أن تكون من هذا النوع.أولاً: يجب أن يعرف هذا ويشاع ويصبح أحاديث بين الأسر، فتأخذ البنت من صغرها تعمل على أن تكون من خير النساء، خير النساء من إذا نظرت إليها سرتك أفرحتك، وإذا أمرتها بأمر تطيقه وتقدر عليه أطاعتك ولا تعصيك أبداً، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك. حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34]، هذه الجملة بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34]، حتى لا تشعر أنه في إمكانك أن تفعل ما تريد، وأن تترك ما تريد، لابد من إلجائك إلى الله، واضطرارك إليه، وسؤالك إياه أن يعينك على الفعل، وأن يعينك على الترك؛ فأنت في حاجة إلى الله في كل أحايينك.فهمتم: بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34] أو لا؟لا تتعنتر وتقول: أنا أحفظ زوجي في ماله ونفسه، يجب أن تعلم أنها في حاجة إلى الله، فتقول: أحفظه بإذن الله، بعون الله، بتوفيق الله، أؤدي هذا الواجب الذي وجب عليّ أن أحفظ زوجي إذا غاب عني في نفسي وفي ماله بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
المراحل الربانية لعلاج النشوز
قال تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34]، واللاتي من النساء، من الزوجات، تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34]، ظهرت علامات النشوز، وهو الترفع والتعالي على الزوج، إذا لاحت العلامات وظهرت، معنى هذا: أنك خفت نشوزها، فماذا تصنع؟ سيدك ومولاها يعلمك، لا القاضي ولا رئيس البعثة، الله هو الذي يعلمنا، ماذا قال: فَعِظُوهُنَّ [النساء:34]، الوعظ: الكلام الذي يحمل الأمر والنهي والأمر بما معه من بشائر ونتائج طيبة، والنهي: ما يحمل من أتعاب وآلام، وبوصفها مؤمنة لا يزال زوجها يعظها؛ يأمرها وينهاها ويبشرها ويحذرها، حتى تترك ذلك الخلق الذي هو النشوز، وتطيعه وتلين له، وتصبح كما يريد الله منها.فإن فرضنا ما نفع الوعظ، أو كان الزوج لا يحسنه .. ما عنده قدرة على الوعظ، لا يعرف شيئاً إلا العصا والصوت الغليظ، الوعظ ما في، يجب أن يتعلم وأن يعظها، ولا يحل أن ينتقل إلى الخطوة الثانية إلا بعد الفراغ من الأولى.ما تعرف؟ ائت بأبيك أو أمك وعظوا هذه المسكينة، أنا ما عرفت أعظها فيوعظونها هم ؛ يبينون لها عواقب الطلاق ونتائج الفراق وأذية الزوج، وما يترتب عنه من غضب الله، فإن هي رجعت الحمد لله، أبت الخطوة الثالثة: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ [النساء:34]؛ لأنها زوجة، بت معها على فراش واحد، وأعطها ظهرك ولا تلتفت إليها، ولا تكلمها ولا تجامعها، اتركيني، فحسب سنة الله لا تزيد على أسبوع وقد لانت وطابت، أو أربعون يوماً ما تصل ما تقوى أبداً، وتعلن عن ندمها وأسفها؛ وأني مطيعة، ويحصل الخير بإذن الله؛ لأن هذه تعاليم الله أو لا؟ من وضع هذا؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه.فإن قست وتحجرت وما نفع وعظ ولا هجران، إذاً: فلم يبقَ إلا الضرب، واذكروا ما ذكر تعالى الضرب في القرآن إلا في إقامة الحدود، ثم في هذه القضية، ضرب الإنسان في الحدود، ثم في هذه القضية.ومعنى هذا: أن التي ما نفعها وعظ ولا هجران، وتأهلت للضرب، أنها إن لم يتب الله عليها وتستعجل التوبة تهلك. وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، هذا الضرب ليس معناه بالسيف أو بالرصاص، قال: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، الرسول بين لنا الضرب ما هو، كضربك ولدك لما يعصيك، كضربك تلميذك لما ما يأتي بواجبه، هذا الضرب الذي لا يكسر عضواً ولا يشين جارحة، كيف يشينها؟ يصبح وجهها أزرق، ملطخاً بالدم، كسر العضو: أصبع، يد، رجل. هذا حرام، وقد علمنا الفقه في هذه القضية، إذا هي كسر عضوها ليس هناك قصاص، وإنما هناك دية؛ لأنه ما هو عن عمد بل للتأديب، أما إن قتلها بالضرب فإنه يقتل قصاصاً، فإن الله ما قال: فاقتلوهن، قال: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، الضرب غير القتل.
الطاعة بعد النشوز
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ [النساء:34]، أيها الرجال! فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء:34]، لا يحل لك أن تختلق عوامل وأسباباً لتضربها، أو توجد تفاعلات سمعتها تقول، رأيتك كذا.. لم كذا؟ فمتى أطاعت لا يحل لك أبداً أن تمسها بأذى؛ لأنها أمة الله وأنت عبده، ما أنت بإله. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا [النساء:34]، أي: لا تطلبوا عليهن سبيلاً لأذاهن، لا بالضرب ولا بالهجران، ولا بالوعظ والإرشاد، فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ [النساء:34]، وعلل لذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34]، إذا ظننت بعلوك وزهوك أنك فوق كل شيء، فاعلم أن علو الله فوقك، إذا فهمت أنك كل شيء، وقادر وأنت أعلى منها ومن أهلها، فالله أعلى منكم جميعاً، عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].وعظ هذا وتوجيه إلهي أو لا؟ هذا هو القرآن الذي يقرأ على الموتى، أوليس هذا هو؟ هذا القرآن يقرأ على الموتى، هذه دساتير وقوانين وشرائع، وأحكام سياسية، مالية، اجتماعية، عقائديه، أدبية، اهجروها واقرءوه على الموتى، أنا ما أطقت أبداً، هذا ما استطعت أصبر، كيف هذا الحكم الإلهي، هذه الشريعة، هذا القرآن نقرأه على موتى؟ أو كلامي ما هو واضح؟ أنا أرى هذا عبث، نضع ميت بين أيدينا ونقرأ عليه سورة النساء، من فعل بنا هذا؟العدو، الثالوث، وهل أفقنا وعرفنا عدونا اليوم؟ ما زلنا سكرى.العدو والله ليعمل ليل نهار -المجوس واليهود والنصارى- على إنهاء هذا النور وإطفائه، ونحن نجري وراء ما يشيرون به علينا ويخططونه لنا، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.. ما المخرج؟ الخلافة، انتظروا الخلافة، ما المخرج؟ قالوا: تحكيم الشريعة، حكموها بسم الله، ما نستطيع، ما المخرج؟ أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، إسلاماً حقاً، عبد الله كأمة الله مستعد إذا قال الله: مت يموت، إذا قال الله: صم صام، إذا قال له: اسكت سكت، دهراً دائماً، هذا هو الإسلام، أما إسلام صوري ولفظي مسلم، ما أسلم شيئاً لله؟ إذاً: كيف تجتمع كلمة المسلمين؟ وكيف يحكمهم حاكم واحد؟ وكيف.. وكيف؟ ثم قال الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا [النساء:35] بين الزوجين، ماذا تصنعون؟ قال: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ [النساء:35]، لا بد وأن يكون الحكم أهلاً لذلك، أما حكم مثلي أو جاهل ما ينفع، يكون على علم ببيت فلان وما يجري ببيت فلان؛ لأنه من أهله ومن أهلها هي، فإذا حكم بالطلاق تم الطلاق، حكم بالاجتماع وعدم الافتراق تم ذلك، يجب أن يطبق حكم الله؛ لأنه بإذن الله تعالى، هل بهذا واجب أو مستحب؟ المهم الآن لا وجود له في العالم الإسلامي أبداً، ما السبب؟ ما سمعوا بهذا، ما في ثقة، ما بيننا مودة ولا إخاء ولا تلاقي حتى تقوم أنت وتريد أن تصلح ما بين فلان وزوجته.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال: [ معنى الآيتين: يروى في سبب نزول هذه الآية: أن سعد بن الربيع -من سادات الأنصار بالمدينة- رضي الله عنه أغضبته امرأته -أوقعته في الغضب عليها- فلطمها فشكاه وليها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -أبوها أو أخوها شكاه إلى الرسول فلان لطم ابنتي- كأنه يريد القصاص، فأنزل الله تعالى هذه الآية الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] ]، وما دام قوام وقيم عليه يضربها إذا تطلب الموقف ذلك، [ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34] ]، إلى آخر الآيتين.. هذه بركة سعد بن الربيع رضي الله عنه.[ فقال ولي المرأة: أردنا أمراً وأراد الله غيره ]، هذا إيمان وبصيرة وعلم (أردنا أمراً وأراد الله غيره)، أرادوا أن يقتصوا لابنتهم، وأراد الله غير ذلك، فحمدوا الله.قال: [ أردنا أمراً وأراد الله غيره، وما أراده الله خير ]، إي والله، أرأيتم المسلم كيف؟ على الفور استسلم وانقاد. قال: [ ورضي بحكم الله تعالى، وهو أن الرجل ما دام قواماً على المرأة يرعاها ويربيها ويصلحها بما أوتي من عقل أكمل من عقلها، وعلم أغزر من علمها غالباً، وبعد نظر في مبادئ الأمور ونهايتها أبعد من نظرها، يضاف إلى ذلك أنه دفع مهراً لم تدفعه، والتزم بنفقات لم تلتزم هي بشيء منها، فلما وجبت له الرئاسة عليها، وهي رئاسة شرعية، كان له الحق أن يضربها بما لا يشين جارحة أو يكسر عضواً، فيكون ضربه لها؛ كضرب المؤدب لمن يؤدبه ويربيه ]، فهمتم معاشر المستمعين؟قال: [ وبعد تقرير هذا السلطان للزوج على زوجته، أمر الله تعالى بإكرام المرأة والإحسان إليها والرفق بها ]، هذا ربنا جميعاً، ربها وربنا، علمنا كيف نؤدي الواجب.قال: [ أمر الله تعالى بإكرام المرأة وبالإحسان إليها والرفق بها؛ لضعفها وأثنى عليها فقال: فَالصَّالِحَاتُ [النساء:34]، وهن: اللاتي يؤدين حقوق الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحقوق أزواجهن من الطاعة والتقدير والاحترام. قَانِتَاتٌ [النساء:34]، أي: مطيعات لله تعالى، وللزوج. حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ [النساء:34]، أي: حافظات مال الزوج وعرضه؛ لحديث: ( وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله ) بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34]، أي: بحفظ الله تعالى لها وإعانته لها، إذ لو وكلت إلى نفسها لا تستطيع حفظ شيء وإن قلَّ ]، ونحن كذلك، والله لولا عون الله ما اجتمعنا الليلة هنا، ولا سمعنا هذا الآية.قال: [ وفي سياق الكلام ما يشير إلى محذوف يفهم ضمناً، وذلك أن الثناء عليهن من قبل الله تعالى يستوجب من الرجل إكرام المرأة الصالحة، والإحسان إليها، والرفق بها لضعفها ]، أو لا؟ الله يثني عليها وأنت تهينها، أنت ضد الله يعني؟ أو أنت أعلم منه؟ لا إله إلا الله.قال: [ وفي سياق الكلام ما يشير إلى محذوف -أي: قول محذوف- يفهم ضمناً، وذلك أن الثناء عليهن من قِبل الله تعالى يستوجب من الرجل إكرام المرأة الصالحة والإحسان إليها والرفق بها لضعفها، وهذا ما ذكرته أولاً نبهت عليه هنا ليعلم أنه من دلالة الآية الكريمة، وقد ذكره غير واحد من علماء السلف. وقوله تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء:34] ] أي: طريقة لأذيتهن.قال: [ فإنه تعالى يرشد الأزواج إلى كيفية علاج الزوجة إذا نشزت، أي: ترفعت على زوجها ولم تؤد إليه حقوقه الواجبة له بمقتضى العقد بينهما ]، ولهذا: ( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت تبيت الملائكة تلعنها حتى تصبح ).قال: [ فإنه تعالى يرشد الأزواج إلى كيفية علاج الزوجة إذا نشزت، أي: ترفعت على زوجها، ولم تؤد إليه حقوقه الواجبة له بمقتضى العقد بينهما؛ فيقول: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34]، أي: ترفعهن بما ظهر لكم من علامات ودلائل، كأن يأمرها فلا تطيع، يدعوها فلا تجيب، ينهاها فلا تنته -إذاً ظهرت علامة النشوز- قال حينئذٍ: فاسلكوا معهن السبيل الآتي:أولاً: فَعِظُوهُنَّ [النساء:34]، والوعظ تذكيرها بما للزوج عليها من حق يجب أداؤه، وما يترتب على إضاعته من سخط الله تعالى وعذابه، وبما قد ينجم من إهمالها في ضربها أو طلاقها، فالوعظ ترغيب بأجر الصالحات القانتات، وترهيب من عقوبة المفسدات العاصيات، فإن نفع الوعظ فيها وإلا فالثانية ].الخطوة الثانية:قال: [ وهي: أن يهجرها الزوج في الفراش فلا يكلمها وهو نائم معها على فراش واحد وقد أعطاها ظهره فلا يكلمها ولا يجامعها وليصبر على ذلك ]، أما إذا ما صبر وجامعها انتهت المحاولة ما تنفع يجب أن يصبر.قال: [ فلا يكلمها ولا يجامعها وأن يصبر على ذلك؛ حتى تئوب وترجع إلى طاعته وطاعة الله ربهما معاً ].قال: [ وإن أصرت ولم يجز معها الهجران في الفراش، فالثالثة وهي:أن يضربها ضرباً غير مبرح لا يشين جارحة ولا يكسر عضواً.وأخيراً: فإن هي أطاعت زوجها فلا يحل بعد ذلك أن يطلب الزوج طريقاً إلى أذيتها لا يضرب ولا بهجران لقوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ [النساء:34]، أي: الأزواج، فَلا تَبْغُوا [النساء:34]، أي: تطلبوا، عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء:34]، لأذيتهن باختلاق الأسباب وإيجاد العلل والمبررات لأذيتهن ]، يوجد مع بعض أهل الجهل.قال: [ وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34]، تذييل الكلام بما يشعر من أراد أن يعلو على غيره بما أوتي من قدرة بأن الله أعلى منه وأكبر فليخش الله وليترك من علوه وكبريائه ]، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34]. قال: [ هذا ما تضمنته هذه الآية العظيمة.أما الآية الثانية: فقد تضمنت حكماً اجتماعياً آخر، وهو: إن حصل شقاق بين زوج وامرأته فأصبح الرجل في شق والمرأة في شق آخر فلا تلاقي بينهما ولا وفاق ولا وئام؛ وذلك لصعوبة الحال، فالطريق إلى حل هذا المشكل ما أرشد الله تعالى إليه، وهو أن يبعث ولي الزوجة حكماً من قبله، ويبعث ولي الزوج حكماً من قبله، أو يبعث الزوج نفسه حكماً وتبعث الزوجة أيضاً نفسها حكماً من قبلها، أو يبعث القاضي كذلك، الكل جائز، وواسع؛ على شرط أن يكون الحكم عدلاً عالماً بصيراً حتى يمكن له الحكم والقضاء بالعدل، فيدرس الحكمان القضية أولاً مع طرفي النزاع ويتعرفان إلى أسباب الشقاق وبما في نفس الزوج من رضا وحب، وكراهية وسخط ثم يجتمعان على إصلاح ذات البين، فإن أمكن ذلك فيها وإلا فرقا بينهما برضا الزوجين، مع العلم أنهما إذا ثبت لهما ظلم أحدهما فإن عليهما أن يطالبا برفع الظلم، فإن كان الزوج هو الظالم فليرفع ظلمه وليؤد ما وجب عليه، وإن كانت المرأة هي الظالمة فإنها ترفع ظلمها أو تفدي نفسها بمال فيخالعها به زوجها، هذا معنى قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا [النساء:35]، والخوف هنا بمعنى: التوقع الأكيد بما ظهر من علامات ولاح من دلائل، فيعالج الموقف قبل التأزم الشديد فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35]؛ لأنهما أعرف بحال الزوجين من غيرهما.وقوله تعالى: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا [النساء:35]، فإنه يعني الحكمين، يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]، أي: إن كان قصدهما الإصلاح والجمع بين الزوجين وإزالة الشقاق والخلاف بينهما؛ فإن الله تعالى يعينهما على مهمتهما ويبارك في مسعاهما ويكلله بالنجاح -لأنهم أرادوا الله فلا يخيبهم- وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء:35]، ذكر تعليلاً لما واعد به تعالى من التوفيق بين الحكمين؛ إذ لو لم يكن عليماً خبيراً ما عرف نيات الحكمين وما يجري في صدورهما من إرادة الإصلاح أو الإفساد ]، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء:35].
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيتين:أولاً: تقرير] تعرفون التقرير أو لا؟ من القرارات [مبدأ القيومية للرجال على النساء وبخاصة الزوج على زوجته ]، فلو يأتي علماء النفس، والكيمياء، والطبيعة والسحر والعلم بأسره يقولون: لا، ليس من الصواب أن يكون الرجل هو القيم، نقبل؟ والله ما نقبل، أنرضى بالكفر بعد الإيمان؟ أنتبع الهوى والشياطين؟ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34].[ثانياً: وجوب إكرام الصالحات والإحسان إليهن ].أيها الفحول! كيف حالكم مع نسائكم؟ لا تسأل يا شيخ! نحن مقلدون. يا عمياء! ما هذا؟ إيش هذا الطعام البارد.. أدنى شيء أنت طالق طالق طالق.. يقول: أنا غضبت، ما حملك على الغضب؟ لا إله إلا الله، والله لو تسجل لكم أصواتكم في البيوت لرأيتم العجب، لم الشيخ يتبجح هكذا؟ والله ستين سنة ما قلت لامرأتي كلمة سوء، ولا مسستها بيدي ولا بأصبعي، لم؟ هذا هو الإسلام، التربية في حجور الصالحين.لما كنا في تبوك، قال القاضي: تسعون حالة طلاق في شهر واحد، تسعون بيت خربت، ما سبب هذا؟الجهل من الجانبين، وعدم التربية من الطرفين، إذا كان أحدهما أعلى وأفهم يستطيع أن يلين الجانب، وأن يهبط بذلك العلو وأن يصلحه، ولكن الزوج كالزوجة، كلاهما في ظلام الجهل، (وجوب إكرام الصالحات)، أو لا؟ بم يكون إكرامهن؟ بالأدب واللطف والظرف والإحسان وعدم الهيجان، وعدم الإغضاب، هذا هو الإكرام، وعدم تحميلهن ما لا يطقن، وعدم طلبنهن ما لا يستطعن.قال:[ ثالثاً: بيان علاج مشكلة نشوز الزوجة وذلك: أولاً: بوعظها، ثانياً: بهجرانها ثالثاً: بضربها الضرب المعروف ].اسمحوا لي معشر المستمعين، أقول: كيف ندرس هذا الدرس ونخرج منه وما نعرف التأديب الذي ذكره الله تعالى لنا، ولا نقصه ولا نتحدث به، بالعامية، يا شيخ! إذا نشزت أوخفت من نشوز امرأتك ماذا تفعل معها؟ تقول: ما ندري، كيف ما تدري؟ ما حضرت، ما سمعت؟ ماذا تفعل يا إدريس أيها الزوج الجديد؟أعظها أولاً؛ فإن لم ينفعها الوعظ بعد عام شهر هجرتها في الفراش، ما نفع الهجران ضربتها، هذا يجب أن يحفظه كل مؤمن أو مؤمنة.قال: [ بيان علاج مشكلة نشوز الزوجة وذلك بوعظها أولاً، ثم بهجرانها في الفراش ثانياً، ثم بضربها ثالثاً ضرباً غير مبرح ].ما معنى ضرب غير مبرح؟ لا يكسر عضواً، ولا يشين جارحة.[ رابعاً: لا يحل اختلاق الأسباب وإيجاد المبررات لأذية المرأة بضرب أو بغيره ].حرام على العبد أن يختلق أسباباً ويوجد مبررات من أجل أن يتوصل بها إلى أذية المؤمنة، ما تريدها طلقها، لماذا تبحث عن مبررات حتى تضربها أو تؤذيها؟[لا يحل اختلاق الأسباب وإيجاد مبررات لأذية المرأة بضرب أو غيره. خامساً: مشروعية التحكيم في الشقاق بين الزوجين وبيان ذلك في الآية مبيناً ومفصل].معاشر المؤمنين! نسأل الله أن يعيننا على العلم والعمل به.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابو وليد البحيرى
2019-04-28, 05:36 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (19)
الحلقة (243)
تفسير سورة النساء (26)


الشرك ظلم عظيم، وقد حذر الله عباده من الوقوع في الشرك؛ لأنه نقيض التوحيد، فما من عبد مؤمن صادق الإيمان يشرك مع الله في دعائه وسؤاله احداً غيره، وهذا فعل أهل الجاهلية الذين كانوا يدعون أصنامهم وأوثانهم لتقربهم إلى الله زلفاً، ومع ذلك لم يقبل الله عز وجل ذلك منهم؛ لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك.
تفسير قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ...)
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، والليلتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وأخرى، تلك الفضيلة التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).وها نحن مع سورة النساء ومع هذه الآية الكريمة، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36].هذه الآية تعرف بآية الحقوق العشرة، ولا إخال مؤمناً لا يجتهد في حفظها، عشرة حقوق لا بد من حفظها والقيام بها، هيا نكرر تلاوتها رجاء أن نحفظها: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36].
الحث على عبادة الله
هيا نتدارسها، قوله جل ذكره: وَاعْبُدُوا اللَّهَ [النساء:36]، من الآمر؟إنه الله جل وعلا، لقد تقدم من أول السورة، قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، وهو يذكر في الأوامر والنواهي والواجبات والحقوق، وكانت متعلقة بنا اجتماعياً.أولاً: تذكرون أن أموال اليتامى محرمة، وأن السفيه لا يعطى ماله حتى يرشد، وأن الله قسم مال التركة قسمة لا تضاهيها قسمة؛ إذ الله أعدل وأرحم، وحرم علينا المناكح المحرمة، إحدى وعشرين مسألة، سبعاً من الرضاع، وسبعاً من النسب، وسبعاً من المصاهرة.وحرم علينا أيضاً إيذاء المؤمنات، وأعطانا تعاليم لإصلاحهن إن كن زوجات، وآخر ما علمنا إذا حصل نشوز أن يتدخل أولو البصيرة والمعرفة من أقرباء الزوجة والزوج، ويعملان على إذهاب ذلك النشوز، وعلى إصلاح الشقاق. والآن عطف على تلك التعاليم قوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ [النساء:36].أولاً: من هو الله؟لا بد من معرفته، كيف تعبد من لا تعرفه؟ لا بد من المعرفة، والشيء يعرف بماذا؟ بأسمائه وصفاته وأفعاله، شخص في طوكيو، عرفته كيف؟ اسمه: عثمان، يسمع ويبصر، حاذق، لبيب، صانع كذا، بصفاته عرفته، هل عرفته بذاته؟ لا. بل عرفته بأسمائه وصفاته، وهل لا بد من معرفة الذات حتى تعرف الشخص؟ أيعقل هذا الكلام؟ أوما فهمتم؟ شخص في السويد، اسمه: صالح، لو أخبرت عنه تقول: عرفني به، يقول: إنه شخص كريم، رحيم، ذكي، ذو علم وبصيرة وشرف، قوي، أبوه اسمه: كذا، تعرفونه بالصفات، أو لا؟ أو حتى ترى ذاته؟ إلا إذا انمسخت البشرية.فالله عز وجل عرفنا بأنه خالق هذه العوالم كلها، وأنه الذي رفع السماء بغير عمد، وبسط الأرض، وعلى الماء جمدت الأرض، وخلق كل ما في العوالم كلها؛ إذ لم يرفع مخلوق يده وقال: أنا خالق الكوكب الفلاني، أو أنا خلقت الإقليم الفلاني، وكل الخليقة طأطأت رأسها، من الخالق؟إنه الله. ولا بد من وجوده، أيوجد المخلوق بدون خالق؟! إذاً: فقدنا عقولنا، وأصبحنا مجانين.أبسط من هذا: هذا القلم من يستطيع أن يأتي بالمنطق والذوق والعقل والفطرة و.. و.. ويقول: هذا القلم والله ما وضعه أحد هنا، هذا وجد من نفسه، في أحد؟ لا.إذاً: وكوكب الشمس الذي هو أكبر من الأرض بمليون ونصف، ما أوجده أحد؟ قلم ما تسلم أنه وجد بدون موجد، والكواكب والسماوات والأرضون، وأنت تعرف ما ادعى وجودها كائن أبداً سوى الله، فلهذا معرفة الله ضرورية واضطرارية.هذا الله الذي وهبك عقلك وسمعك وبصرك، وحياتك، وأمك وأباك، وهذه الحياة كلها، ما اسمه؟ الله. هل له اسم غير الله؟ تسعة وتسعون اسماً، وصفاته من أسمائه.هذا الله الذي عرفناه أمرنا أن نعبده، وقال: وَاعْبُدُوا اللَّهَ [النساء:36]، هيا نعبد الله، بم نعبده؟ كيف نعبده؟ وفي أي مكان وفي أي زمان نعبده؟ آمنا بأنه أمرنا أن نعبده، لكن كيف نعبده؟الجواب: تعلموا، اسألوا أهل العلم كيف يعبد الله، وبم يعبد، ويجب أن تسأل وتتعلم حتى تعبد الله فتطيعه في أمره لك بقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ [النساء:36]، فمن هنا معرفة الله أولاً، ثم طاعته ثانياً، يطاع في ماذا؟ فيما يأمر باعتقاده أو قوله أو فعله، كما يطاع فيما نهى عنه وحرمه من اعتقاد باطل أو قول سيئ أو عمل فاسد، وعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف أوامر الله ونواهيه، وإن ركب رأسه وقال: لست في حاجة إلى هذه! فمصيره الخسران المبين، يقضي أيامه هذه، ثم ينتقل إلى عالم الشقاء ليخلد فيه أبداً، يفقد فيه كل طعم للحياة.إذاً: يجب أن نعرف بم يعبد الله أو لا؟اذكروا لنا بعض عباداته؟ من أبرزها: الصلاة؛ لأن الصلاة عبارة عن مناجاة الإله في أماكن طاهرة، تتحدث معه، تعرض حاجاتك، وتدلي بأهدافك وأغراضك، تسبحه وتكبره وتعظمه في أوقات معينة.. خمسة أوقات في الأربع والعشرين ساعة، وأنت طاهر كامل الطهر، وفي مكان طاهر تلتقي بمولاك، وأنت بين يديه وقد نصب وجهه لك، وهو والله يراك أكثر مما ترى نفسك أنت، ويسمع كلامك، جهرت به أو أسررت، فالذي لا يقيم الصلاة ما آمن بالله ولا عرف الله.. الذي ما يقيم الصلاة ما عبد الله، فإن قال: أنا أصوم رمضان في العام. يصوم شهراً وينقطع. قال: أنا أحج في الدهر. حج مرة، لو كان الإسلام فقط هكذا كل الناس يسلمون، اليهود، النصارى، ما يصوم شهراً في السنة؟ يصوم، يحج مرة بيت الله، لكن مظهر العبادة الحق إقام الصلاة؛ فلهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفر تارك الصلاة، فقال: ( من تركها فقد كفر ).الآن المقيمون للصلاة الذين يأتونها في بيوت ربهم مع أوليائه ويخشعون فيها، ويبكون ويتضرعون، وكلهم شعور وأحاسيس أنهم مع ربهم، خمس مرات، خمس ساعات في الأربعة والعشرين ساعة، هؤلاء بحق عبدوا الله أو لا؟ بلى.والذين يهجرون المساجد بيوت الله، وينقطعون عنها ما عبدوا الله.وخلاصة القول: أن الله يعبد بما أحب وندب إليه، سواء بالقول كلا إله إلا الله، سبحان الله، والحمد لله، الله أكبر، أو كان بالصلاة ركوعاً وسجوداً، أو كان بالجهاد في سبيله مالاً وبدناً .. المهم: إذا أمر الله باعتقاد عقيدة أو أمر بقول أن تقول، أو بفعل أن تفعل يجب أن تفعل، فإن عجزت قل: هذه طاقتي يا رب! وأنت لا تكلف نفساً إلا وسعها، فاعف عني ولا تؤاخذني.والله يكره كلاماً كثيراً، وصوراً عجيبة، وأعمالاً يكرهها ويبغضها ويبغض أهلها، يجب على المؤمن أن يعرفها وعلى رأسها: الكذب، الغش، الخداع، الزنا، الربا، أذية المؤمنين على اختلافها، وما أكثر ما نهى الله عنه. وَاعْبُدُوا اللَّهَ [النساء:36]، أي: بطاعته، مع حبه وتعظيمه، مع الذلة له والصغار بين يديه، لا تصل وأنت تتعنتر، لا بد أن تكون منكسراً، ليناً، ذليلاً بين يديه، وكذا الحال إذا سألته، إذا طلبته، لا تقل: أعطني.العبادة: طاعة الله، بفعل ما أمر وترك ما ينهى مع التعظيم والذل الانكسار بين يديه.معشر المؤمنين والمؤمنات! عرفتم بم يعبد الله؟بما أحب أن يعبد به، أين توجد محبوباته؟ في الكتاب، الآن معنا عشرة في كتابه، وما لم نفهمه من كتابه نرجع إلى رسوله؛ إذ هو الذي أمره بالبيان والتبيين، والسنة مبينة موضحة لكل عبادة يعبد الله تعالى بها، مبينة للوقت وللكيفية والكمية والعدد، فعلى الذين دخلوا في الإسلام بكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، أن يعرفوا ما يعبدون به الله فعلاً وتركاً ويعبدونه به، وإلا لا نجاة ولا سلامة. وَاعْبُدُوا اللَّهَ [النساء:36]، هذا أمره أو لا؟ من قال: لا. ارتد، كفر، هلك، ومن قال: سمعاً وطاعة، نعبد الله بما شرع لنا أن نعبده به، ويأخذ أول شيء: يغتسل من جنابته، ثم يصلي، وهكذا..
التحذير من الإشراك بالله
وقوله: وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، الأول أمر، وهذا نهي، ومن هنا عرفنا أن العبادة تدور على الأمر والنهي، الأمر يفعل والنهي يترك ويجتنب، وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36].وهنا معشر المستمعين والمستمعات! تذكرون أن العرب في جاهليتهم كانوا مؤمنين بالله، والله العظيم! ما كانوا بلاشفة حمراً شيوعيين ولا علمانيين، ولكن كانوا يؤمنون بالله ويشركون به غيره، والدليل: أنهم كانوا يحجون إلى بيت الله، ويطوفون به، ومن تتبع أيمانهم يجد جلها وأكثرها أنهم يحلفون بالله، وقلَّ ما يحلفون باللات والعزى، أكثرهم يحلف بالله تعالى، وينذرون النذور لله عز وجل.إذاً: فما هو الشرك الذي حرمهم من رضا الله وجواره في الجنة إن ماتوا عليه؟ ما هو الشرك الذي أمر الله رسوله أن يقاتلهم من أجله حتى يتخلوا عنه، ويبتعدوا منه؟ لأنه في الحقيقة ظلم من أفظع أنواع الظلم، نعم. الشرك ظلم والمشرك ظالم.ما وجه ذلك يا شيخ؟ اسمع يا عبد الله! الله جل جلاله، وعظم سلطانه، أراد أن يعبد بالذكر والشكر، فهيأ هذه الأرض، وأعدها إعداد النزل، والفندق، ثم خلق آدم بيديه، ونفخ فيه من روحه، وخلق أنثاه حواء من جنبه، وأهبطهما وبارك في نسلهما فأصبحوا الآلاف والملايين، لم فعل هذا؟ من أجل أن يعبد، من أجل أن يذكر ويشكر، ثم هذا الذي أنزله من السماء، وأكرمه في الأرض، هذا يجب أن يعترف بحق الله عليه، أطعمه، سقاه، رباه، كلأه، حفظه، علمه، بصره، سخر كل شيء في الأرض له من أجل أن يعبده، فإذا لم يعبده بالمرة، ماذا تقولون فيه؟ كافر ملعون لا خير فيه لأحد من الناس، إذا كفر خالقه ومنع حق مولاه لا خير فيه، وإذا كان يعبد معه غيره، وما يعبد الله به يعبد به إلهاً غير الله، هذا أشرك أو لا؟ أشرك، وظلم؛ لأن هذه العبادة حق الله، استحقها بخلقه لك، وخلق كل شيء من أجلك، فإذا أنت صرفتها لغيره ظلمت.ولهذا قصة في القرآن الكريم، كان فيمن قبلنا عبد صالح يقال له: لقمان من بلاد الحبش أو السودان، هذا العبد الصالح كان على عهد داود عليه السلام، عندما كان داود عليه السلام ملكاً، قص الله تعالى علينا حادثة من أحداثه، وأنه أحضر ولده بين يديه، وأخذ يعلمه، يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، هذا لقمان النوبي الحبشي يقول لطفله وهو بين يديه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:17-18].. يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، لما وصل إلى هذه الكلمة فقد طفله هكذا.. مات بين يديه، من شدة الوعظ.إذاً: من جملة ما كان في هذا الوعظ: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13]، لم يا أبتاه؟ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. من منكم يعرف معنى الظلم هنا؟ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، والعبادة حق من؟ الله. من خلق ورزق؟ الله. من أجل أن تعبده خلقك ورزقك فتعبد غيره بتلك العبادة، أي ظلم أعظم من هذا الظلم؟! وإن ظلمت إبراهيم أو خديجة ممكن، لكن أن تظلم ربك تأخذ حقه يا عاجز ولا تبال، وتلتفت إلى غيره وتعرض عنه.ومن هنا كانت التعاليم تقول لنا: كل الذنوب محطوطة في ملف تحت النظر، ومن الجائز أن يغفرها الرب تعالى، إلا الشرك فإنه لا ينظر فيه أبداً، من مات على الشرك لن يدخل الجنة، وإن صام وصلى وجاهد في سبيل الله، وفي ذلك آيتان كريمتان من سورة النساء المباركة:الأولى: قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48].والأخرى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، وليس هذا مع نبينا الخاتم صلى الله عليه وسلم، ها هو عيسى في بيت لحم أو في مدينة القدس، يعظ بني إسرائيل، واسمع ما سجل الله له من سورة المائدة: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، هذه كلمة من؟ محمد بن عبد الوهاب ؟ كلمة عيسى، وبيننا وبينه خمسمائة وسبعين سنة، قالها في من؟ في بني عمنا، بني إسرائيل اليهود، وقد أرسل إليهم وهو خاتم أنبيائهم، هل هذا اللفظ فيه التباس، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ [المائدة:72]، (مَن) من ألفظ العموم، ذكر، أنثى، عربي، عجمي، فقير، غني، مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ [المائدة:72]، أي: يعبد معه غيره، ويصرف عبادة الله لغيره، فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72]، ما معنى حرمها عليه؟ لا يدخلها، وإذا لم يدخل الجنة أين يعيش؟ في النار، وما هناك إلا عالم علوي وآخر سفلي، الجنة والنار، وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].المشركون ظالمون! إي والله، بدلاً من أن تذكر الله تذكر فلاناً، بدلاً من أن تركع لله تركع لفلان، بدلاً من أن تحب الله تحب فلاناً، أيُّ شرك أعظم من هذا؟ هذا هو الظلم، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].يروي لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )، لو تذبح ألف بعير وواحد منها لسيدي عبد القادر كلها باطلة، تكسو ألف حلة لألف فقير، إلا حلة تقول: هذه لسيدي البدوي بطل كل ذلك، لم؟ لأن الله غني، ما دمت التفت إلى غيره، وأعطيته معه ما هو في حاجة إلى حللك ولا إلى جمالك وبعيرك أبداً، إما أن تخصه وحده أو اذهب وما تريد، ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ).
صور من شرك العرب في الجاهلية
وفي أيام الجهل كان الرجل يأتي عندنا في الحي، في القرية، يغرس مائة نخلة، يقول: هذه نخل سيدي عبد القادر ، ولا يجعل لله نخلة والله العظيم، يأتي يغرس الزيتون، المائة شجرة، وهذه شجرة سيدي مبروك أو سيدي أحمد والله ما يجعل لله شيئاً أبداً، من أين حصل هذا؟يا معشر المستمعين! أنتم على علم مما أقول؟يشتري قطيعاً من الغنم، الشتاء فيه أمطار، في الربيع يشتري خمسين نعجة حتى تلد ويغنم منها ويربح، يقول: هذه النعجة لسيدي فلان، لم؟ ليحفظها، لتبارك وتنمو، كما يقول صاحب النخل والزيتون، كيف عرفوا هذا؟ هذا موجود في القرآن؟ في السنة؟ في الفقه؟ هذا يمليه عليهم أبو مرة لعنة الله عليه، من أبو مرة؟ إبليس يكنّى بأبي مرة بإجماع المسلمين لا تشك فيه، لقد علم هذا العرب في الجاهلية قبل الإسلام، وجعلهم إذا غرسوا غرساً يجعلون منه للآلهة، وإذا اشتروا القطيع من الماعز أو الغنم كذلك، وإذا حرثوا كذلك، أين ورد هذا؟ ورد في سورة الأنعام، واسمعوا أتلوا عليكم الآية، وتأملوا! قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136]، قبح الله هذا الحكم أو لا؟ فتأملوا! وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ [الأنعام:136]، ما معنى: (ذَرَأَ)؟ خلق، ومنه الذرية، ذرأ خلق، وجعلوا لله تعالى مما خلق، مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [الأنعام:136]، (الْحَرْثِ) ماذا؟ نخل، زيتون، زرع، كل ما يحرث ويزرع، (وَالأَنْعَامِ) ما هي؟ الإبل، البقر، الغنم، جعلوا لله منها نصيباً. الحمد لله، عرفوا الله أحسن منا، بالفطرة قل: هذه نخلة مولاي خالقي، وهذا للعزى، والعيب الذي أصابهم: أنهم إذا نخلة الله أطلعت وأثمرت، ونخلة العزى هذا العام ما أنتجت يأخذون حق الله ويعطونه للعزى، يقولون: الله غني ليس في حاجة. هذه الناقة ناقة اللات، وهذه الناقة ناقة الله، إذا ناقة الله ما أنتجت، وناقة اللات ما أنتجت، ما يأخذون، يقولون: الله ما هو في حاجة إلى هذا، أما إذا ناقته ما أنتجت يأتون بحق الله ويعطونه إياها، واسمع الآية: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [الأنعام:136]، حظ أو لا؟ فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ [الأنعام:136]؛ لأن الله ما أمر بهذا ولا أوحاه إليهم، بزعمهم وكذبهم، هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ [الأنعام:136]، أبداً ما يتحول إلى الله، وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136]، قبح هذا لحكم.ولما دخل الناس في الإسلام، ثم بعد ذلك فقدوا نور القرآن، وهداية محمد صلى الله عليه وسلم، وغشاهم الجهل وغطاهم، جاء إبليس وأعادهم إلى ما كان عليه أجدادهم، إلا أن هناك فضيلة عند المشركين حرم منها المؤمنون، ما هي؟ ما بينت لكم؟يغرس البستان ما يقول: هذه النخلة لله، يقول: هذه النخلة لسيدي عبد القادر ، يحرث هذا الفدان لمن؟ لسيدي أحمد البدوي ما يجعل آخر لله، وهذا عيب كبير، أما المشركون فيجعلون لله وللآلهة، وعيبهم أنهم جعلوا لله ما لم يأمر الله به فكذبوا على الله.وثانياً: لما ما ينتج الذي للآلهة وينتج الذي لله، يحولونه بحجة أن الله ما هو بحاجة إلى هذا.عاشت أمتكم قرابة ثمانمائة عام، والعالم الإسلامي كله في هذا النوع، وأهل العلم بعيدون عن هذا، لكن ما ينكرون ولا يفهمون، والحمد لله أن فتح الله علينا، وعرفنا الطريق إلى الله.يروى أن أحد أحبار بني إسرائيل حدث له حادث فألقي القبض عليه، وغلل بالأغلال وبات ينتظر موته، فجاءه أبو مرة وقال له: تريد أن تطلق؟ قال: نعم، قال: اركع أمامي، قال: كيف أركع وأنا مغلل بالأغلال؟ قال: برأسك، فاستجاب، وركع له برأسه فكفر، وأشرك بالله وهلك، فقال الله عنه: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16].
من أنواع الشرك
نبدأ نستعرض أنواع الشرك، واحفظوا، ومن شك لا يسأل الجهال، بل يسأل أهل العلم.أولاً: نبدأ بالانحناء بالركوع، هذا الركوع لله، هو الذي تنحني له الجباه، فمن ركع تعظيماً لميت أو حي فقد أشركه مع الله، تسلم على أميرك على مليكك على قائدك وأنت رافع رأسك، أما أن تركع لا، الركوع لله، عرفتم هذه.ومن مظاهر هذا الركوع، في لعبة رياضية (الكاراتيه) ينسبونها إلى الفلبينيين أو غيرهم، لما يفرغون منها يركعون كلهم للرئيس ركوعاً كاملاً رأيناهم.. هم كفار مجوس شأنهم، أما أبناء الإسلام وأولاد المسلمين يركعون لغير الله في هذه الألاعيب نهيناهم عن الانحناء للملك، للسلطان الذي يملك، ونسمح به للهو الباطل، إن شاء الله ماتت هذه، أو ربما ما زالت توجد بقلة في العالم الإسلامي، فعلموهم أنها من الشرك والعياذ بالله.ثانياً: السجود، وضع الجبهة على الأرض، كان العرب وكان الجاهل وأهل الجاهلية يعظمون من يعظمون بالسجود، وأرادوا أن يسجدوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فرفض وأبى، وقال تلك القولة الخالدة: ( لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد غير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها -لما يرى له عليها من حقوق وواجبات- ولكن لا سجود إلا لله رب العالمين ).في بعض ديارنا العربية كانت بدعة عظيمة إذا جاء الزوار للضريح الفلاني، ما يأتون قائمين يأتون ركعاً وسجداً، يزحفون تعظيماً لسيدي فلان، ووالله لولا أن الله حمى هذا القبر الشريف برجال يحمونه لرأيتم العجب من الجهال والضلال، يطوفون طوافاً، لو يسمح لهم بالطواف سبعين طوفة يطوفون، ما يعرف هل هذا دين، وهذه بدعة، لأنهم ما علموا، ما عرفوا، الشياطين تدفعهم، الشياطين تزين لهم الباطل، تغريهم بما يضلهم ويبعدهم عن الله، وليس جانب من الآخر من العلماء الربانيين يعلمون ويحذرون ويبينون، فيغلب جانب الشيطان؛ لأنه ماض وقوي ويفعل. هذا الذي حصل.ثالثاً: الدعاء، الطلب، سؤال الحاجة، إذا سألت وطلبت من يسمعك إذا قلت: يا فلان، ويراك؛ لأنك أمامه، ويقدر على أن يطيعك؛ أذن الله لك في ذلك، اسأل، لكن لا تذل وتنكسر وترتعد ويسيل لعابك كأنك أمام الله، اطلب بأدب واحترام، فلان نريد كذا، على شرط أن يكون من تدعوه يسمعك، أرأيت لو كنت تدعو أصماً! يضحك عليك الناس أو لا؟ يا فلان يا فلان.. أنت مجنون هذا ما يسمع، يسمعك ويراك أين أنت حتى يمد يده لك ويعطيك، لابد وأن قادراً على أن يعطيك، يملك ما يعطي، لو أنك تأتي إلى خربة من الخرائب ما فيها ساكن ولا شيء، وتقف أنت أمام الخرابة، يا أهل البيت! يا أهل الدار، أخوكم جائع من ثلاثة أيام مدوا يده نسألكم بالله، وتمر به أنت، ماذا تقول له؟ قل له: يا عبد الله! أنت ما لك، ما يعيش في هذه الخرابة أحد يسمعك ويعطيك، وليس فيها أكل، اسأل الذي يعطيك إذا سمع صوتك، وعرف حاجتك.إذاً، فمن هنا: دعاء وسؤال الأضرحة وأهل القبور، سواء كانوا سادة أو دونهم، من عبد القادر الجيلاني إلى الشيخ البدوي ، فليضحك المصريون، أما سيدي عبد القادر هذا إله الأبيض والأسود، يا سيدي عبد القادر ! يسوق السيارة لما يحصل ارتجاج يا سيدي عبد القادر ، لا إله إلا الله. دعني من سيدي عبد القادر ، يا رسول الله! ما في فرق، أنت تسوق سيارة تكون خرجت بك عن الطريق وفزعت، ماذا تقول؟ يا ألله يا ألله.. يا رب، لا يا رسول الله.. يا رسول الله.. يا رسول الله.. يسمعك رسول الله؟ عالم بك وأنك في طريق ينبع؟ قادر على أن يمد يديه إليك؟ لا لا لا لا.. إذاً: ماذا ستفعل هذه؟ هل تلعب وتعبث؟ اسأل الذي يراك ويقدر على إعطائك وإنقاذك وهو معك أينما كنت، الله جل جلاله، وعظم سلطانه.لو يفكر إخواننا المسلمون بتفكير عقلي حقيقي، والله ما بقي من يدعو الأولياء أبداً، يعرف أنه ميت لا يسمع كلامه، ولا يرى بدنه وذاته ولا يعرف حاجته، وإن فرضنا عرف، يستطيع أن يمده بشيء؟ والله ما يستطيع، من يمده؟ الله، إذاً: اتصل مباشرة بالله، لم تذهب إذاً عن الله؟ رأساً اسأل الله، هذا الدعاء وهو مخ العبادة، وهو العبادة، من سأل غير الله ممن لا يسمعه ولا يراه، ولا يقدر على إعطائه وإمداده، فقد أشرك أعظم الشرك؛ لأنه سلب صفات الله، وأعطاها لهذا المخلوق الميت، وجعله مثل الله، يسمعه ويبصره، ويراه ويقدر على إعطائه.هذا من أعظم ما وقع فيه العالم الإسلامي، دعاء الأموات، يا سيدي فلان، يا فاطمة ، يا حسين ، يا بدوي ، يا عبد القادر يا كذا.. لا إله إلا الله.أنا أقول على علم: انتبهوا! المرأة ممسكة بالحبل والطلق يهزها، حبلى تضع، ما في مولدة ولا قابلة، وهي يا ألله، يا رسول الله، يا رجال البلاد ... تذكر الله ومعه عشرة أسماء، من هؤلاء رجال البلاد؟ شيء يؤلم أو لا؟ آه! ما عرفت، ما علموها، لو علموها لأعلموها أنه لا يسمع صراخها ولا يقدر على إنقاذها إلا الله خالقها، أو ممرضة أو قابلة تستدعيها تعالي. لا بأس، أنقذيني يا أم فلان، آلمني الطلق؛ لأنها تسمعها وتراها وتمد يدها، أما أن تنادي ميتاً من ألف سنة وبينك وبينه عشرة آلاف كيلو متر، كيف يمكن هذا؟ في أقصى المغرب يا عبد القادر الجيلاني ، قلنا لهم: من المغرب إلى العراق كم ألف كيلو؟ أكثر من عشرة آلاف، كم بينكم؟ ألف سنة، ألف زمان وعشرة آلاف كيلو يسمعك؟ ممكن يسمع أو مستحيل؟ مستحيل أن يسمع، وإن فرضنا سمعك، ينقذك يا مغربي؟ يرد عليك دابتك؟ كل ما نقول: الحمد لله، حنانيك بعض الشر أهون من بعض.الدعاء مقابله النذر، والنذر يسمى في بلاد المغرب عندنا العدة، الوعدة، يضمون الواو، تسمونها الوعدة أنتم أهل الحجاز أو لا؟ ما عندكم، العدة بلغة القرآن، والوعدة محرفة، وهي النذر.تمر امرأة على ولي في تل أو جبل .. قبة، ضريح، يا سيدي فلان إذا نجحت في قضيتي نفعل لك كذا.. تنادي صاحب الضريح: إذا نجحت في الخصومة مع زوجها أو مع من يخاصمها تذبح له كذا، أو توقد له كذا شمعة، أو تأتي بكذا بخور، مواجهة هكذا، والله العظيم، النذر، العدة، الوعدة، إذا شفى الله مريضي أذبح لسيدي عبد القادر كذا.. بعضهم يوجه كلاماً رأساً لـعبد القادر والبدوي وفلان وفلان، وبعضهم لا، إذا شفى الله مريضي أفعل لك كذا وكذا، أما الله وحده لا، إن شفى الله مريضنا نذبح لك كذا.وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-28, 05:42 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (20)
الحلقة (244)
تفسير سورة النساء (27)


جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع كثيرة تحذير العباد من الشرك وبيان أنه ظلم عظيم، وفي أغلب هذه المواضع قرن الله عز وجل بين التحذير من الشرك بالله والأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما، لما لهما من الفضل على الولد، فقد حملته أمه تسعة أشهر كرهاً ووضعته كرهاً، ثم أرضعته عامين إلى أن فطمته، وقامت مع والده على رعايته والاهتمام بشئونه، إلى أن قوي عوده واشتد ساعده، فمهما فعل هذا الابن فلن يرد شيئاً من معروف والديه عليه، فكان حقهما عظيماً ومقامهما كبيراً عند الله عز وجل.
تابع تفسير قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ...)
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). الحمد لله على إفضاله، الحمد لله على إنعامه، الحمد لله أن وفقنا لهذا الإنعام والإفضال.وها نحن مع سورة النساء ومع آية الحقوق العشرة، وقد سبق أن تحدثنا: بأن هذه الآية تعرف عند أهل العلم من سلف هذه الأمة الصالح بآية الحقوق العشرة، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36].هذه الآية احفظوها يا معشر المؤمنين والمؤمنات، يا من لم يكن قد حفظها من قبل، وصلوا بها النوافل؛ لتكفيك أن تقوم الليل كله بها، تقرأ بها في الفرائض؛ لأنك كلما قرأتها ذكرت الله والحقوق الواجبة عليك، وهذه الذكرى نعم الذكرى، وبإمكان أي أميٍّ أن يحفظها، يجلس في طرف المسجد في وقت ما، ويقول لأخيه: من فضلك حفظني هذه الآية، يتلو عليه كلمة بكلمة إلى أن يحفظ. ‏
معنى قوله تعالى: (واعبدوا الله)
هيا ندرس الحق الأول، وهو أوجب الحقوق وآكدها على الإطلاق؛ إنه حق الله، قبل كل حق أو لا؟ دل على هذا الحق قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، فأمرنا تعالى نحن المؤمنين والمؤمنات؛ لأننا آمنا وعلمنا.أمرنا أولاً: أن نعبده وذلك بطاعته فيما يأمر بفعله، وبترك ما ينهى عنه، ولا بد من معرفة أوامر الله ونواهيه لا محالة، ما هناك أبداً طريق إلا أن نعرف ما أمر الله به وما نهى عنه؛ فإن لم نجد في قريتنا من يعرف أوامر الله أو نواهيه نرحل إلى قرية أخرى؛ إذ الهجرة لطلب العلم واجبة، لا يحل لمؤمن أن يقيم بدار لا يجد من يسأله عن أمر أو نهي، يجب أن يخرج من هذا البلد؛ لأن أمر الله هذا لا يتحقق إلا بالعلم. وَاعْبُدُوا اللَّهَ [النساء:36]، قلت: نعم مستعد أن أعبد ربي، كيف وقد خلقني ورزقني، وإليه مصيري؟! أعبده ولكن بأي شيء، ما علمت؟ فيعلمك العالم أوامر الله، كالصلاة، الزكاة، بر الوالدين، الإحسان، المعروف، الحج، الرباط، الصدقات، ذكر الله، التسبيح، ويعلمك منهياته وما نهى عنه من الكذب والشرك والكفر والزنا والربا والغش والخداع وأذية المؤمنين.. وهذا كله في كتابه وبيانات رسوله صلى الله عليه وسلم، أما أن يعيش المرء خمسين أو ستين سنة لا يعرف أمراً من أوامر الله ولا نهياً من نواهيه، كيف يعبده؟ مستحيل، ما أطاع الله.وسر هذه العبادة أنها السلم الذي تصعد عليه إلى الملكوت الأعلى، إن رأيت فيها صعوبة، مشقة، شدة.. كيف أعرف أوامر الله؟ كيف أعرف نواهيه؟ لن تكون في الصعوبة كأن تريد أن تخترق السبع السماوات وتنزل بالفراديس العلا، أيهما أصعب؟ أوما أنت راج ولا طامع أن تنزل الجنة؟ أعوذ بالله.فما دام أملك الوحيد هو أن يرضى عنك مولاك ويرفعك إليه، إذاً فهذه الأوامر إلا إذا عجزت، أما وأنت قادر عليها ما تتردد أبداً، أما النواهي لا خير في فعلها، ما هو إلا الإثم والوسخ والهبوط والسقوط، ما فيه كلفة، عش خمسين سنة ما تكذب كذبة، يلزمك شيء؟ وَاعْبُدُوا اللَّهَ [النساء:36] أولاً، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36] ثانياً، وهذا معنى لا إله إلا الله.ما تفسير لا إله إلا الله؟ اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً.إذاً: يا معاشر المؤمنين والمؤمنات يجب أن نعرف بم نطيع الله عز وجل؛ حتى نعبده بذلك، نعرف ما أحل الله وما حرم، ما أمر به وأوجب حتى يتأتى لنا أن نعبده، نسأل أهل العلم، والله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].وسر هذه العبادة هو الطهر، الصفاء، العز، الكرامة، وأخيراً: رضوان الله، والنزول مع الأبرار، ما هي مجانية بدون مقابل.
معنى قوله تعالى: (ولا تشركوا به شيئاً)
قوله: وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36] فهذا الموضوع يحتاج منا إلى بيان.أولاً: قوله: (لا تشركوا به) أي: بالله، (شيئاً): من الشرك أو الشركاء.كيف نعرف هذا؟اسمعوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) هذه كلمة رسول الله أو كلمة صحابي؟ كلمة رسول الله، الرسول الذي ما سئل عن كبائر الإثم والذنوب إلا ذكر الشرك أولاً، تذكرون عبد الله بن مسعود وقف في آخر الحلقة وأراد أن يعلم: أي الذنب أعظم عند الله يا رسول الله؟ فقال: ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك )، الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب عبد الله بن مسعود أو لا؟ ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفارقه، ما قال: هذا ما يقع منه شيء من الشرك: ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك )، وفي جلسة من الجلسات عاصرناها وعايشناها، فقال: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ) (ألا): انتبهوا، اسمعوا، أنتم حاضروا العقول والأحاسيس؟ ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله ) وهو يخاطب من؟ أبا جهل وعقبة بن أبي معيط ؟ يخاطب أبا بكر وعمر وعثمان ، لم؟ لأن الشرك يوقع فيه إبليس، أقسم لله بعزته ألا يفتر وأنه سيعمل حتى يطغينا كلنا.وقال في جلسة أخرى: ( اجتنوا السبع الموبقات، قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله ) خائف على أصحابه أن يشركوا أو لا؟ أو قال: هؤلاء معصومون علماء لن يقعوا فيه.وقال: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) أحب أم كره.( من حلف بغير الله ) ما غير الله؟ كل الخلق: حلف برأسه، بأبيه، بالصلة التي بينه، بفلان، بفلان.. والعوام يحلفون حتى بالطعام، يقول: والملح الذي أكلناه، ما تركوا شيئاً إلا حلفوا به، لا تلمهم يا شيخ، من علمهم؟ من عرفهم؟ قرون والأمة تائهة، هذا هو السر، وإلا كيف يعرف مؤمن يرجو الله والدار الآخرة أن من حلف بغير الله فقد أشرك، ثم يحلف بغير الله؟ والله لو يذبح ما يرضى أن يكفر بعد إيمانه، لكن لعب الثالوث لعبته وأهبطنا إلى الأرض وأبعدنا من كل سلالم الرقي والصعود والقرآن أبعده على الموتى، والسنة تقرأ على البركة، واتركوا أمة الإسلام تتخبط في حيرتها.وقال له أحد أصحابه: (ما شاء الله وشئت يا رسول الله)، بأدب، بظرف وتلطف! قال: ( قل: ما شاء الله وحده، ما زدت أن جعلتني لله نداً؟ ) شريكاً له، قل: ما شاء الله وحده، مع هذه نقول: إيش فيه إذا كان انحنى أو ركع أمام سيدي فلان!!
شرك المستغيثين بالأولياء وحبوط أعمالهم
سبق أن بينا أن القباب التي تضرب على الأضرحة من إندونيسيا إلى موريتانيا في رءوس الجبال، في السهول، في المدن، في القرى.. تلك القباب ما بنيت إلا من أجل أن يعبد الشيطان، ما أمر الله بذلك، ولا أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أمر بها علماء الأمة العالمون العارفون أبداً، إنما أمر بها الجهل والشياطين حتى يصرفوا الناس عن الله، فمن هنا وجب هجران تلك القباب، والبعد عنها وعدم زيارتها، وعدم الدخول إليها أولاً.ثانياً: الذين يحلفون بأصحابها، الذين يستغيثون بهم، الذين يسألونهم الحاجات، الذين يتوسلون بهم إلى الله.. هؤلاء يعملون الشرك الواضح الصريح الذي لا لبس فيه، فوالله لو كانوا عالمين كما نعلم الآن وتعمدوه ما ذاقوا طعم الإيمان ولا دخلوا الجنة مع المؤمنين، لكن لما كانوا جهلاء ما علموهم وما عرفوا، نترك أمرهم إلى الله، أما لو كان أحدهم علم كما علمنا أن من الشرك أن تدعو فلاناً: يا سيدي افعل بي كذا وكذا، أو تسوق له بقرتك أو شاتك وتذبحها له، وعرف أن هذا من الشرك، وعمله متعمداً فهو آيس من دخول الجنة، اللهم إلا إذا تاب قبل موته.واسمعوا وتأكدوا من قول الله عز وجل وهو يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ [الزمر:65]. وعيسى قال عيسى لبني إسرائيل: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72] من قال هذه الكلمة؟ هذا عيسى ابن مريم، من سجلها لنا؟ الله رب العالمين آية من سورة المائدة، حرم الله عليه الجنة وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ [الزمر:65] وهذه (لئن) تعرفونها، وعزتنا وجلالنا لئن أشركت يا رسولنا لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].وإن كان يقول أهل العلم: إن هذا من باب إياك أعني واسمعي يا جارة، بمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هيهات هيهات أن يشرك، والله عاصمه، لكن إذا كان رسولنا يوجه إليه هذا الخطاب ماذا نصنع نحن؟ نذوب، ما يبقى لنا عذر أبداً. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] وحبوط العمل هبوطه وبطلانه، لو تعبد الله تسعين سنة، وآخر يوم تقول: يا سيدي فلان! المدد، الغوث، أنا خادمك. ومت، ما أعطيت حسنة واحدة، على عبادة تسعين سنة؛ لأنها انمحت، وذهب أثرها.قالت العلماء: إليكم هذا المثل: توضأت وأحسنت الوضوء على أتمه، ثم وأنت ذاهب إلى المسجد فسوت أو ضرطت، أيبقى وضوء؟ كيف ما يبقى؟ أنا توضأت وغسلت يدي ووجهي وكذا، والآن تقولون انتقض؟ إي نعم، حبط، كذلك تعبد الله ثم تقول كلمة الكفر أو الشرك يبطل كل عمل، استأنف العمل من جديد.إذاً: الشرك في عبادة الله عز وجل هو أنك تعبد غيره بعبادته.
صور من الشرك في الدعاء
الدعاء عبادة أو لا؟ ماذا عرفتم عنه؟ عرفتم أنه هو العبادة، وفي حديث الترمذي -وإن ضعف-: ( الدعاء مخ العبادة ) هل الحياة تتم بلا مخ؟ هذا الدعاء سؤال غير الله عز وجل الحاجة، وقلت لكم بالأمس: إذا كان الذي تسأله يسمعك ويراك ويقدر على أن يعطيك، لا بأس اسأله جائز، أما أن يكون لا يسمع نداءك، ولا يرى مكانك، ولا يقو على إعطائك؛ فسؤاله عبث، باطل، لهو، قل ما شئت وأضف إلى ذلك أنه الشرك والكفر.وقد ضربت لكم مثلاً، تمر برجل واقف أمام خربة، ما بها سكان أبداً، ما فيها إلا الكلاب والقطط، وهو واقف أمام الخربة: يا أهل البيت! يا أصحاب الدار! أخوكم جائع، إذا مررت به تسكت أو تعلمه؟ تعلمه تقول: يا عبد الله ما في البيت أحد، هذا خرب ما يسمعك أحد، ما يمد يده إليك أحد، امش إلى البيت الفلاني، فالذي يدعو رسول الله، فاطمة ، الحسين -أشرف الخلق- يدعو البدوي ، فلان، فلان، فلان.. هل يسمعونهم؟ والله ما يسمعونهم، هل يعلمون أين هم موجودون؟ والله ما يعلمون، هل يقدرون على أن يعطوهم؟ والله ما يقدرون.إذاً: لم نسألهم؟ فقط دعاني إبليس نستجيب له فقط! أما الفائدة معدومة، فدعاء غير الله ومنه الاستغاثة والاستعاذة -طلب الغوث أو طلب الحفظ- كل هذا من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب، ألا وهو الشرك في عبادة الله تعالى.ونبهنا إلى الانحناء، لا تنحن تعظيماً لشخص من الأشخاص، ولا تركع ولا تسجد أبداً، إنما ذلك لله، والجهال إذا أتوا الضريح يركعون، وبعضهم يسجد، ما علموا، ما عرفوا.. لم ما نعلمهم؟ ما يريدون، كيف ما يريدون؟ نعم.إخواننا الروافض هل هم الآن بيننا يتعلمون؟ لماذا ما يحضرون ويتعلمون؟ ويبقون على الضلالات والجهالات التي لا يقرها القرآن ولا السنة بحال من الأحوال، ونحن في أسف وحزن وألم وهم لا يحضرون، من يلومنا إذاً؟ كذلك عامة المسلمين في قراهم، في مدنهم ما يريدون أن يتعلموا، ما قرعوا أبواب العلماء، ولا طالبوهم بأن يبينوا لهم، يجلس العالم في مسجده، يجلس حوله عشرة أو عشرون ، أين القرية ذات العشرين ألفاً، أين هم؟ كيف يتعلمون؟ تنبيه: تقبيل اليد ليس من الشرك هذا أبداً، ولا قال به أحد.أقول: معاشر المستمعين: القباب، الأضرحة، المزارات هذه مظاهر الشرك في أمة الإسلام لما جهلت وهبطت.فلننبه إخواننا المؤمنين والمؤمنات، إلى أن يعتزلوا هذه المقامات، وأن يبتعدوا عنها.ثانياً: ألا يدعو غير الله بدعوى أبداً، ولا يستعيذوا بغير الله أدنى استعاذة، ولا يتحصن بغير الله بأدنى تحصن.. ما لنا إلا الله فقط، به نحلف، وحده ندعو، به نستغيث، به نستعيذ، ليس لنا إلا هو؛ إذ هو معنا يسمعنا ويرانا، ويقدر على إعطائنا، وعلى منعنا، وهو على كل شيء قدير، وكل ما عندنا هو منه وعطاؤه، أما غير الله فدعاؤه، سؤاله، الاستغاثة به، الاستعاذة به.. هو الشرك الأعظم الأكبر، أما الانحناء والركوع والسجود فهذا شر منه أيضاً.وقد ذكرت لكم لما جاء أشخاص تعودوا في الشام على أن يسجدوا لأمرائهم أو علمائهم نهاهم وقال: ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لما له عليها من الحقوق، ولكن لا سجود إلا لله )، والركوع والسجود بمعنى واحد.
صور من شرك الربوبية
هناك شرك في ربوبية الله، يجهله أكثر الناس، والعرب في جاهليتهم كانوا موحدين في ذلك، شرك الربوبية هو أن تعتقد وجود من يعطي أو يمنع أو يضر أو ينفع في الكون غير الله.. اعتقادك وجود من يخلق، يرزق يدبر في الكون مع الله هذا الشرك الأعظم وهو شرك في ربوبية الله تعالى، وقد وقع فيه بلايين المسلمين، نذكر على سبيل المثال، ما تعرفون عن البدلاء، أو الأبدال، الأقطاب، الأوتاد؟ يقولون: سيدي فلان القطب الفلاني، ما قصة الأبدال والبدلاء؟حدثني شيخي رحمة الله عليه ذبحوه، طالب بالحكم الإسلامي عقب الاستقلال ذبحوه مع غيره.يقول هذه فذلكة ولكن لا بأس بها تطيب مجلسكم أو لا؟ ثم تبقى في نفوسكم، يقول لي: كان رجل من أهل القرية والظلام كما تعلمون في الزمان الأول ما في كهرباء. فمر بمسجد وإذا به يسمع الكلام الأخذ والعطاء، نفعل كذا وكذا.. ففهم أن هؤلاء التجار جاءوا من قرية أخرى إلى الأسواق، وهم يتحاسبون على الأموال وماذا يفعلون، فقال إذاً: لأبيتنهم الليلة الآتية، نمكر بهم ونقتلهم ونأخذ أموالهم، لص والدنيا كلها لصوص إلا من شاء الله.فجاء صلى العشاء مع الناس، ولما خرج أهل القرية لف حصيراً -أيام الحصر- ووقف فيها وهي ملفوف فيها، وهي مع الحائط، فجاء الأبدال، أخذوا بالكلام إذا مات القطب الفلاني من تعينون بدله، قال: نعين فلاناً، وإذا مات قطب الشام من تولون؟ من تنصبون بدله؟ قالوا: قطب العراق.. فلان فلان فلان، واختلفوا في قطب من يستبدلونه به من الأبدال، لما اختلفوا قال لهم أحدهم: اجعلوا هذا الذي في الحصير، عينوه، تعال اخرج أنت أمسيت قطباً الليلة، لما يسمع هذا آباؤنا: سبحان الله! دخل لصاً خرج قطباً، ويبكون من الخشوع.لا إله إلا الله!الأبدال: هم الذين يديرون دفة الكون، من أهلهم؟ الله.إذاً فمهمة الأبدال إغناء فلان، إفقار فلان، تبديل فلان، إعطاء الولد لفلان.. وهكذا، فجعلوهم آلهة متعددة وسلبوا الله ربوبيته، فهؤلاء بمنزلة الأرباب، والذي يعتقد هذا أشرك في ربوبية الله غير الله؛ لأن الذي يعز ويذل ويميت ويحيي ويعطي ويمنع ليس إلا الله، فمن اعتقد أن قطباً أو بدلاً يفعل هذا فقط جعل لله شركاء في ربوبيتهشرك الربوبية: اعتقادك أن إنسان كائناً من كان يعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويحيي ويميت، ويدير الكون.. هو الشرك في ربوبية الله، والعرب على جاهليتهم ما أشركوا هذا الشرك، وإليكم استنطاقات ربنا لهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9]، كذا أو لا؟ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31].أعيد هذه الآية من سورة يونس أو لا؟ قل لهم يا رسولنا وهم يعبدون الآلهة: من يرزقكم من السماء والأرض؟ من يملك السمع والأبصار؟ من يخرج الحي من الميت؟ ومن يدبر الأمر؟فسيقولون: الله، إذاً: اعبدوا الله واتركوا اللات والعزى.في آيات عديدة العرب في الجاهلية موحدون في ربوبية الله، ما يعتقدون من يخلق ذبابة مع الله أبداً، ولكن عبدوا الأصنام والتماثيل عبارة عن وسائل يتوسلون بها، فذبحوا لها، وأقسموا بها، وطافوا حولها.. كما فعلنا نحن والعياذ بالله.تذكرون هذا البيت من الشعر؟رب يبول الثعلبان برأسهلقد ذل من بالت عليه الثعالبهذا البيت لمشرك أحضر له صنماً يعبده في شعب من شعاب المنطقة -الشعاب بين وادي وجبال- قبل ما يقضي حاجته يتوسل به هو؛ إذ كان لكل واحد إلهاً حتى في خيمته، فجاء يوماً ليزوره لا ليعبده، فوجد ثعلباً قد رفع رجله ووضعها على كتف الصنم ويبول عليه؛ لأن الذئاب والكلاب إذا بالوا كيف يبولون؟ لا بد أن يرفع رجله، أين يضعها؟ أعلى شيء، فلما نظر إليه والثعلب يبول عليه، قال: أرب يبول الثعلبان برأسهلقد ذل من بالت عليه الثعالبولم يرجع إليه أبداً، فطن ذكي، رب يخلق ويرزق ويعطي ويحيي ويميت ويبول الثعلب على رأسه؟! هذا ما هو معقول أبداً.. لقد ذل من بالت عليه الثعالب، وتركه إلى الأبد.إذاً: الشرك في الربوبية كان في العرب نادراً، ولكن جاء غلاة المتصوفة والزنادقة، وغلاة التحريف والتبديل، وإحباط هذه الأمة؛ فأوجدوا الأقطاب والبدلاء، والأوتاد، وادعوا أنهم يتصرفون في الكون بإذن الله، قد يقولون لك: إن الله أذن لهم؟ أين إذن الله إذاً؟ تكذبون على الله؟ فالذي يعتقد أن فلان يعطي، يمنع، يميت، يحيي.. فقد أشرك في ربوبية الله عز وجل.
صور من الشرك في الأسماء والصفات
يبقى الصنف الثالث من أصناف الشرك، وهو شرك في الأسماء والصفات، أسماء الله مائة اسم إلا اسماً واحداً وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180] هذه الأسماء بها ندعو الجبار تعالى: يا رحمن، يا رحيم، يا علي، يا كبير، يا سميع، يا عليم، يا خبير.. ادعه بحسب حاجتك، سمعتم؟ يستجيب لك لا محالة، وهو إما أن يقضي حاجتك إن كان لك فيها خير، أو لا يقضيها لأنها شر لك وأنت ما تدري، ويعطيك بدلها حسنات درجات، أو يدفع عنك مكروهات أيضاً، لن يضيع دعاءك أبداً، إذا أخلصت الدعاء وأقبلت عليه بقلبك ووجهك: يا رب! اسأل تعط، فإن سألت ولداً وهو يعلم أن هذا الولد لو تعطاه يكبر ويذبحك، أو يقف في حلقك كالشجى، يفعل ويعطيك الله؟ أو سألته سيارة، وهو يعلم أنك لو ركبتها قتلت نفسك أيعطيك؟ يغشك ربك؟ حاشى لله.وقضية الخضر مع موسى واضحة، أليس كذلك؟ خرق السفينة وقتل الولد وجدد البناء؛ لما أعلمه الله تعالى من العاقبة. أقول: ادع الله، وأخلص الدعاء، واطمئن إلى أن الله يجيب دعوتك، إن كان ما طلبته فيه خير لك أعطاك، وإن كان ما فيه خير لك بل فيه أذى وشر ما يغشك مولاك ولا يعطيك ذلك الطلب، ماذا يفعل؟ إن كان هناك مكروه نازل يدفعه بذلك الدعاء، ما في مكروه نازل يرفعك درجات ما كنت لتصلها بصيامك ولا صلاتك، لقوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، ولكن احذر شرك العبادة تغيظ ربك وتغضبه عليك، يا ألله ويا رسول الله! يا رب ويا سيدي عبد القادر! يا ألله ويا رجال البلاد! تغيظ الله أو لا؟ خلقهم ليعبدوا معه مخلوقين له! كيف تدعوهم معه وتشركهم مع الله؟ هذه الكلمات المنتنة العفنة عاشت عليها أمة الإسلام قرابة ألف سنة، قل من يقول: يا رب! لا بد يا الله ويا سيدي فلان!معشر الأبناء أنتم أحداث ما بلغكم، اسألوا أصحاب اللحى البيضاء يخبرونك بالواقع، قل من يقول: يا ألله فقط، لا بد معه آخر، ومع هذا المؤمن يؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، وإذا نزل وسقط نعله: يا رسول الله! أنت كنت تعلن عن التوحيد أو لا؟وعلة ذلك: أنهم ما علموا، ما عرفوا، ورثوا الجهالات وسهلها العدو، وزاد في رغبتها إليهم؛ ففعلوها وهم لا يعلمون، أما من علم لو تذبحني أنا سبعين ذبحة على أن أسأل غير الله والله ما سألت؟وأستثني من الجائز لو يجيء شخص يضع المسدس في عنقي أو في صدري: هاه.. قل يا عبد القادر أو نقتلك، ممكن إذا خفت من الموت أقولها بلساني وقلبي ما هو مطمئن إليها، هذه رخصة جائزة، لكن إن شاء الله ما نأخذ بها، لكن لو أخذنا بها لقول الله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].عمار بن ياسر رضوان الله عليه ابن سمية الشهيدة، وياسر ، يمر به الرسول في مكة عند الصفا وهو يعذب بأنواع التعذيب، والرسول ما يملك شيئاً، فيقول له: أعطهم يا عمار .. أعطهم يا عمار ؛ لأنهم يقولون: سب محمداً، ماذا يصنع؟ تعظم آلهتنا وتقدسها أو لا؟ فإن قال: لا. يصفعونه بالصخر على رأسه، فقال: أعطهم يا عمار ، هذه الحالة الصعبة حالة الموت يجوز للمؤمن أن يدفع هذا الشر بلسانه؛ إذ قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على قولة الكفر وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ [النحل:106]ساكن، هادئ، واثق بإيمانه.شرك الأسماء والصفات أقول: لا يصح ولا يجوز أن تسمي ولدك الله، ومن فعل كفر، ولد له مولود، ماذا نسميه؟ قال: سموه الله، يجوز؟ يشرك في أسماء الله عز وجل؟ ما يجوز، وصفات الله عز وجل أن تضفى للمخلوقين وتعطونها ويرتفعون بها، هذا الشرك لا يقره الله ولا يقبله المؤمنون، ورسولنا من قبل رفضه ولم يقبله، أبداً، أسماء الله وصفاته لا يتصف بها مخلوق، ولا يسمى بها مخلوق.العزى: تحريف العزيز، اللات تحريف عن الله؛ فحرف العرب أسماء الله عز وجل؛ فنزل القرآن فأدبهم وأبطل تلك الترهات والأباطيل، العزيز الله، ما هي اللات ولا العزى.والشاهد عندنا في من يقول: فلان إذا نظر إليك عرف ما في قلبك! من هو الذي يعلم ما في قلبك؟ الله، فإذا قلنا: فلان من أقطابنا من أولياء الله، إذا وقفت أمامه قال كذا وكذا، أشركوا صفة الله العليم للغيب بهذا الشخص الذي يعلم الغيب، وهذا أيضاً شاع وذاع بين المسلمين، ينسبون إلى الأولياء علم الغيب، وقد استأثر الله به وحده إن الغيب إلا لله، قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65].تنبيه: الاسم الأعظم أخفاه الله عز وجل حتى لا تستغن به عن أسمائه وتهجرها، كما أخفى تعالى ساعة يوم الجمعة، لو علمها لكان الناس كلهم لا يصلون إلا تلك الصلاة فجعلها عامة، ليلة القدر بألف سنة لو عينها وتعينت ما عبد الناس الله في رمضان إلا تلك الليلة، ويدلك على هذا خارج بلادك أو في بلادك، لا يجتمعون إلا ليلة سبعة وعشرين، يجيء الحاكم والضباط والدنيا يعبدون الله في رمضان ليلة سبعة وعشرين، رجاء أنها ليلة القدر، باقي الليالي في المقاهي.فأنت تعرف أن الله هو لاسم الأعظم بحيث لا يسمى به مخلوق أبداناً ولا تذكر إلا أول الأسماء: يا الله، يا عليم، يا حكيم.. ما تقول: يا لطيف، يا خبير يا الله أبداً، هو الأول، وادعوا الله بأسمائه كلها إذ قال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] اسألوه بها.
سبب استحقاق الله لأن يعبد وحده لا شريك له
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36] هذا الحق الأول، من صاحبه؟الله، بم استوجبه؟ من لم يعرف الليلة يبيت يبكي خير له، بم استوجب الله هذا الحق بأن يعبد وحده ولا يشرك به، بم استوجب هذا الحق؟ بالهراوة يعني؟ لأنه خلقك ورزقك وخلق الدنيا كلها من أجلك، وخلق الجنة والنار لك ومن أجلك، صاحب هذا الإنعام، هذا الإكرام، هذا الإفضال، ما له حق عليك؟ يكفي أنه وهبك عقلك، فالله استحق هذا الحق بماذا؟ بخلقه ورزقه وتدبيره، فلهذا الكافر شر البرية.دائماً نقول: إن اليهودي، المسيحي، البوذي، الملحد، المشرك، العلماني، القردة والخنازير والكلاب والحيات أفضل منهم، يعجب الناس، لم؟ أما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: كفروا الله ورسوله وشرعه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] البريئة ما هي؟ الخليقة، برأ إذا خلق، وإن قرأت البرية أدغمت الهمزة حولتها إلى ياء وأدغمتها، من شر الخليقة؟ الذئاب، الكلاب؟ لا والله، الكفار والمشركين.يا شيخ! كيف تقول؟ أنا قلت أم ربي الذي قال؟ الله. قل: بين لي وجه هذا؟ نعم. أبين لك، الكلاب والذئاب والقردة والخنازير والحيات والثعالب ما عصت الله ما خلقها له فهي تفعله بانتظام، ما أشركت به ولا أنكرته أبداً، وهذا الذي خلقك وفضلك وآثرك على غيرك وسودك وأعطاك وأعطاك تكفره وتغطيه وتجحده وتسبه أيضاً وتكفر به، أو تجعل له تماثيل وأصناماً تقارنهم به؟ أي ظلم أعظم من هذا؟ فهذا شر الخليقة، لو بلغنا هذا اليهود والنصارى بعلم لبكوا ودخلوا في الإسلام.من شر البرية؟ الكفار والمشركون، وجه الشر ما هو؟ أيخلقهم خالق ويرزقهم رازق ويربيهم مربي عليم حكيم رحيم ويجحدونه ويتنكرون له! ولا يقبلون عليه ولا يرفعون أيديهم إليه، ويدعون إليه فيسخرون من الدعاء، ويقاتلونهم ويقتلونهم أليسوا شر الخلق؟ بلى.
معنى قوله تعالى: (وبالوالدين إحساناً)
قال تعالى: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [النساء:36] الحق الثاني، لاحظ اذكر هذا، ما ذكر تعالى حقه إلا ذكر بعده حق الوالدين، ما السر؟السر: عرفنا الآن لم حق الله؟ لأنه خلق أو لا؟ وربى أو لا؟ وأغدق النعيم أو لا؟ والوالدان ما هو السبب فقط، أنت دمهما، أمك ما نمت في بطنها؟ دمها ولحمها وكلها أخذته أنت لما ولدتك، ربتك بالطعام والشراب، وأبوك كذلك، سنتين ثلاث أربع، هذا إحسان أو لا؟ هذا إحسان يقابل إحسانه وهو تقريب منه، فلهذا إحسانك للوالدين بعد حق رب العالمين. وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [النساء:36] وتقدير الكلام: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأحسنوا بالوالدين إحساناً خاصاً، ما قال: وأحسنوا إلى الوالدين، استنبطنا منها معنى لطيف، خذ كأس اللبن واجعله في فم أبيك لا تضعه هناك وتقول له: خذ واشرب، إذا تريد أن تصل، قال: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [النساء:36] وأحسنوا بهم ما قال: أحسنوا إليهم، أخرجت الألف ريال والخمسمائة طلبة ما ترميها قدامه وتقل له: خذها، عيب هذا، ضعها في كفه أو في جيبه، وعلى هذا فقيسوا.ما قال: وإلى الوالدين إحساناً، قال: وبالوالدين، صل إحسانك به ما تفصله عنه، ومن هذا الإحسان أدنى ما عندنا إذا مشيت مع أبيك ما تمشي أمامه، سمعت؟ وإذا كنت طويلاً وهو قصير ما تمشي إلى جنبه، امش وراءه.الخلاصة: أن تبذل المعروف له، وأن تكف الأذى عنه.خطوتان: الخطوة الأولى: أن تبذل وتعطيه ما يحتاج من معروف في حدود طاقتك، والثانية: أن ترفع الأذى عنه ولا كلمة أف أبداً مقابل الإنعام إن كنت ذا بصيرة ووعي وقلب سليم، اذكر فقط حملك في بطن أمك، اذكر تربيتك، اذكر ما أغدقه والدك عليك وعلى أمك، واذكر واذكر.. تستحي، تخجل أن تتعرض لهم بسوء.الإحسان بالوالدين إيصال المعروف إليهم، والمعروف كل خير، وكف الأذى عنهما، أدنى أذى إياك، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ بماذا؟ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، هو وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36] هي هي الآية أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14] آية سورة لقمان: أَنِ اشْكُرْ لِي ثم لمن؟ وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14] وهكذا ما ذكر تعالى حقه في العبادة والطاعة إلا ذكر حق الوالدين، فلنذكر هذا ولنعود إليه غداً إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد.

ابو وليد البحيرى
2019-04-28, 05:47 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (21)
الحلقة (245)
تفسير سورة النساء (28)


بين الله عز وجل الحقوق التي يلزم العبد المؤمن الإتيان بها، وأول هذه الحقوق حق الله عز وجل الذي خلقه ورزقه، والمستحق لطاعته وعبادته، وثاني هذه الحقوق حق الوالدين لسابق فضلهما على الابن وكونهما سبباً لوجوده في الدنيا، ثم تأتي حقوق ذوي القربى من الأرحام والأصهار، وحق اليتامى والمساكين، وحق الجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب، وحق ابن السبيل، وحق ملك اليمين، وكل هذه الحقوق يسأل الله عز وجل العبد عنها يوم القيامة لينظر ما فعل فيها.
تابع تفسير قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ...)
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث قبلها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).الحمد لله على توفيقه، الحمد لله على آلائه وإنعامه.ما زلنا مع سورة النساء المباركة، وبالذات مع آية الحقوق العشرة، وقد تكرر هذا، وأكثر المستمعين والمستمعات قد وعوه، آية من سورة النساء تضمنت عشرة حقوق على كل مؤمن ومؤمنة أن يؤديها كاملة وافية، وإلا فهو مسئول ومراقب إلا أن يشاء الله.هذه الآية المباركة طالبت المستمعين والمستمعات بحفظها، وليصلوا بها النوافل والفرائض؛ حتى تستقر في نفوسهم؛ لأنها حقوق واجبة، إذا لم تعرفها كيف تؤديها؟ من غير المعقول إذا لم تعرف الحق كيف تؤديه؟
حق الله في العبادة
وسبق أن قلنا: إن الحق الأول هو حق الله تبارك وتعالى، الذي وجب له علينا مقابل أن خلقنا ورزقنا وحفظنا، ولو فتحنا أعيننا ونظرنا إلى نعمه المتوالية نذوب حياء، وهذا الحق هو: أن نعبده بما شرع من العبادات، ونخلصها له ولا نشرك به سواه.وعرفنا أنه من غير المعقول أن تعبد الله تعالى وأنت ما تعرف ما تعبده به، فوجب أن نتعلم أنواع العبادات التي جاءت في كتابه وعلى لسان رسوله عبادة عبادة، وأن نتعلم كيف نؤديها؛ فنؤديها على الكيفية التي شرعها الله عز وجل، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم.وأصبحنا عالمين مطمئنين إلى أن العبادة عبارة عن أداة تزكية، مادة تطهير، فهذه المادة لا بد وأن تكون خالصة كما هي، وأن تعرف أوقاتها المعينة لها وكيفياتها التي حددت لها، وإلا ما تنتج لك نوراً ولا هداية.وعرفنا أن الشرك يحبط العبادة ويبطلها ويزيل أثرها، ويحول نفس المشرك إلى نفس مظلمة كأرواح الشياطين، فالحذر الحذر أن يراك الله عز وجل تلتفت إلى غيره بقلبك، بلسانك، بوجهك، بأعمالك؛ فلتكن أقوالك وأعمالك كلها المراد بها الله.مررنا على رجل يحرث في أرض، لمن يحرث هذا؟ ينبغي أن يحرث لله، كيف لله؟ ينوي بحرثه أن يستنتج بإذن الله قوته وقوت أسرته، وأن ينتفع مؤمن أو غير مؤمن بهذا الزرع الذي ينبت، إذاً أصبح الحرث لله. مررنا برجل يهدم في جدار بالفئوس لم؟ لله، كيف تهدم لله؟ نعم. خشيت أن يسقط هذا الجدار على مؤمن أو مؤمنة فيهلك، فأنا أهدمه لذلك.مررنا برجل يبني جداراً، ما هذا؟ قال: لله، كيف لله، آلله أمرك؟ قال: نعم، أريد أن أبني منزلاً أكن فيه نفسي وأسرتي، ونحن عبيد الله، فنعمل لله.هذه هي الغاية التي ينبغي أن يعقلها كل مؤمن ويفهمها ويكيف حياته لها، وإلا ما معنى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163] ما معنى محياي ومماتي؟ خرج عن الحياة والموت شيء؟ معناه: أننا وقف على الله، تعرفون الوقف أو لا؟ ريع الوقف ودخله لمن؟ لمن وقف عليه، ونحن وقف على الله نأكل من أجل الله، نشرب من أجل الله، نتزوج من أجل الله، نطلق من أجل الله، نبكي من أجل الله، نبتسم ونضحك من أجل الله.. كل حياتنا لله، فلو عرف المسلمون هذا لارتقوا إلى سماء الكمالات، لكن الجهل غشاهم وغطاهم من ألف سنة إلا من رحم الله عز وجل، مع أن أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات ) عملك منوط بنيتك، إن أردت الله ووجهه فزت، نسيت، غفلت، أردت ليلى أو سلمان.. عملك لغير الله حابط.وهيا نتغنى بالآية تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36].أولاً: عرفنا حق الله عز وجل وهو: أن نعبده وحده ولا نشرك به سواه، ونتعلم أنواع العبادة ونعبده بها، طاعة في الأمر والنهي، وعرفنا حقوق الوالدين، وذكرت لكم لطيفة ما تنسوها، ما ذكر الله حقه إلا وعقب عليه بحق الوالدين، فما العلة؟ ما السر؟ ما الحكمة؟لأن الله استحق عبادتنا؛ لأنه خلقنا ورزقنا وكسانا ولطف بنا.
حقوق الوالدين
ثانياً: الوالدان: ألست من ماء أبيك وماء أمك؟ ألست قضيت تسعة أشهر في بطن أمك، ويستحيل دمها إلى لبن أبيض تشربه؟ أليس والدك قائماً عليك وعليها؟ يغدق عليك الطعام والشراب والكسوة، كيف ترد هذا الحق؟ بالإحسان بهما أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [النساء:36].والمراد بـ: (الوالدين) الأم والأب، إلا أن حق الأم متضاعف ثلاث مرات ( من أحق الناس بصحبتي يا رسول الله؟ قال: أمك. قلت: ثم من؟ قال: أمك. ثم من؟ وفي الرابعة قال: أبوك ) والحكم واضح، مثلنا مرة: تعال نربط في بطنك نعلاً فقط ولا تنزعه لا ليل ولا نهار تسعة أشهر، تستطيع؟ يمتص من دمك ولا لحمك، فقط مربوط، تأتي إلى الليل ما تستطيع تنزعه، فكيف بأم تحملك في بطنها وتتغذى بدمها؟!إذاً: ما الإحسان بالوالدين؟أولاً : طاعتهما في المعروف فيما أذن الله تعالى بفعله أو تركه، إذا قال الوالد لولده: قف هنا يقف، إذا قال: يا بني اجلس يجلس، إذا قال: لا تقف لا يقف، لا تجلس لا يجلس.طاعتهما في المعروف؛ فإن طلبا منه غير المعروف فالقاعد عند المؤمنين والمؤمنات محفوظة: ( إنما الطاعة في المعروف )، قاعدة قانونية ( إنما الطاعة في المعروف، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ).بعد طاعتهما في المعروف، كف أدنى أذى عنهما، كل ما يُحدث ألماً في نفس أبيك أو أمك حرام أن تفعله حتى رفع الصوت والانتهار، فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، وتأتي آداب أخرى منها: أنك لا تريهم وجهك وأنت غضبان تؤلمهم، لا تمش أبداً وأنت أطول من أبيك وتمشي إلى جنبه ويصبح هو دونك امش وراءه، لا تمش أمامه كأنك تقوده، صوتك منخفض عن صوته، تؤثره في المجلس .. في تناول الطعام، في أي شيء هو المقدم وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [الإسراء:24] تعرف الطائر كيف يميل بجناحه؟ أنت كذلك، أظهر الذلة في نفسك لهما، لا تتعنتر، وختام الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36].وعقوق الوالدين من أكبر الذنوب، من مات عاقاً لوالديه لن يدخل الجنة إلا بعد تصفية كاملة قد تكون آلاف السنين في جهنم، وإن أمراك بمعصية الله فلا، إذا قال أباك: لا تصل، هل تطيعه؟ قال: سب فلاناً أو اضربه من المؤمنين، أتطيعه؟ الطاعة في المعروف فقط.وهناك حقوق ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للوالدين بعد موتهما، منها: أولاً: الصلاة عليهما ما حييت، وأنت تستغفر لهما وتترحم عليهما طول حياتك بعد موتهما.ثانياً: الاستغفار لهما.ثالثاً: صلة الرحم التي لا صلة لك بها إلا من طريقهما من سائر الأقارب.وأخيراً: أن تبر أهل ود أبيك.وقد عرفنا تلك الحادثة ما بين مكة والمدينة، كان ابن عمر رضي الله عنهما معتمراً أو حاجاً ويركب على حمار يروح به على نفسه، عنده جمل ولكن الحمار معه إذا ملَّ وسئم من ركوب البعير ركب على الحمار يروح؛ لأن المسافة عشرة أيام، واستراحوا وجاء سائل يسأل من البدو، فعرفه عبد الله فقام فأخرج عمامة كان يربطها على رأسه في الليل يستريح بها، فأعطاه العمامة وأعطاه الحمار، فعجب مولاه نافع وقال له: يا مولاي! هذا أعرابي حفنة من التمر تكفيه، لم تعطيه عمامة تشد بها رأسك وحماراً تروح به على نفسك؟ قال: اسكت، هذا أبوه كان صديقاً لـعمر ، هذا الذي تقول والده كان صديقاً لأبي.والحمد لله عرفنا عجوزاً كانت صديقة لأمي، أما أبي فلا أعرفه فقد توفي وأنا رضيع، ولما عرفنا هذا العلم ذهبت إليها وأحسنت إليها وزرتها؛ لأنها كانت صديقة لأمي، فهل تفعلون؟
حقوق ذوي القربى
ذكر الله بعد الوالدين الأقارب فقال: ذِي الْقُرْبَى [النساء:36] أي: الأقارب، الأقرب فالأقرب، أخوك أقرب من عمك، وعمك أقرب من ابن عمك، وخالتك أقرب من بنت خالتك، وهكذا الأقرب فالأقرب في حدود طاقتك، وعمر وضع قاعدة رضي الله تعالى عنه وهي قوله: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)، تعلموا أيها المؤمنون أيها المستمعون من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، أما الذي ما تستطيعون أن تصلوه كابن ابن ابن.. كذا ما هناك حاجة إليه، لكن الذين تجب صلتهم تعلمه، اعرف خالتك، وخالك، وعمك، وابن عمك، وابن خالتك.. وهكذا في حدود طاقتك، حقهم ماذا؟ الإحسان إليهم، وذلك بإسداء الفضل والمعروف لهم، وكف الأذى عنهم كالوالدين.أقارب حقهم عليك أن تبر بهم وتحسن إليهم، ولا تؤذ أحداً منهم، لا باللسان ولا بالمال ولا بالسنان، أبداً؛ لأنك تجمعك وإياهم رحم واحدة، وهكذا الإسلام يكون المجتمعات المتضامنة المتكافلة المتعاونة، يبدأ بين العبد وربه، ثم بين العبد ووالديه، بين العبد وأسرته، ثم ينتقل حتى تصبح الأمة كأنها جسم واحد، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92].
حقوق اليتامى
وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى [النساء:36] ما حقوق اليتامى؟اليتامى : جمع يتيم، من فقد أباه، أما فاقد الأم لا يقال له يتيم، اليتيم من فقد أباه هنا، فهو الذي يعوله وينفق عليه ويكلؤه ويحفظه، هذا الذي فقد المعيل وهو الأب يتيم ولو في حجر أمه، ولو في بيت جده، اليتامى ابتلاهم الله فقبض آباءهم امتحاناً وابتلاءاً لحكماً عالية أدركناها أو لم ندركها.إذاً: هذا امتحان لنا بأن نقوم عليهم، فلا ينقصهم شيء ونحن قادرون على مدهم به الطعام، الشراب، الكساء، الدواء، دفع الأذى، دفع الضرر، حمايتهم واجبة المؤمنين والمؤمنات. حقوق اليتامى:أولاً: إياك أن تسلب من مالهم شيئاً، أو تأخذ منه شيئاً، لا يحل أبداً لأنهم يتامى، وأكل مال اليتيم ظلماً يتحول إلى نار في بطن الآكل، وقد تقدمت الآية الكريمة إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] فاليتيم بين المؤمنين محفوظ، يبقى إلى أن يبلغ سن الرشد وهو نقي طاهر كريم.يا شيخ! أولادهم ضيعوهم فضلاً عن أولاد اليتامى، أولادهم يلعبون في الشوارع ويسبون الله.نحن علينا أن نتعلم ونبين، ويجب على كل ذي ولد ألا يهمل ولده، يجب أن يحفظه.وتعلموا قاعدة عمر رضي الله عنه، عرفناها يا شيخ وما استطعنا نعمل بها، لم ما تستطيعون؟ أين طاقاتكم وأين جهودكم؟قاعدة عمر لو وضعها كافر لتغنت بها إذاعات العرب والعجم، لكن وضعها عمر ، قاعدة عمر احفظوها وطبقوها من الليلة إن شاء الله، يقول رضي الله عنه: (لاعب ابنك سبعاً)، بمعنى: العب معه في الغرفة التي فيها، في الحوش الذي أنت فيه.. حتى تقوى بنيته وتسلم أعضاؤه.(وأدبه سبعاً)، إذا انتهت السبع الأولى، املأه بالحكم والقرآن والسنة والمعارف، احشوه حشواً، سبع سنوات وهو يبتلع، لا يبق مثل ولا حكمة ولا موعظة ولا آية ولا حديث إلا وحفظه. سبع سنين وأنت تؤدبه.(واصحبه سبعاً)، بلغ السادس عشر إياك أن تتركه وحده، إن كنت نجاراً فهو معك في النجارة، كنت كناساً في البلدية اطلب إذناً له ووظفه معك يكنس معك في البلدية، في الشوارع، كنت طباخاً هو معك في المطبخ.. خياطاً ملابس إلى جنبك هو يخيط.. فلاحاً هو إلى جنبك في المزرعة، أنت عسكري اطلب له العسكرية ليكون إلى جنبك، المهم لا يفارقك حتى تصل إلى فراشه وينام وتعلمه ما يقول عند النوم وتطفئ عليه الضوء.وقبل الفجر تأتي أنت وتقومه سبع سنوات، بلغ الواحدة والعشرين، يذهب حيث شاء ألق حبله على غاربه، أصبح مثلك ورثك وأنت حي، إذا صحبك سبع سنوات والله ليصبح يبتسم كما تبتسم، ويرفع صوته كما ترفعه، ويتناول الأشياء كما تتناول، ويخاطب الناس كما تخاطب؛ لأنه ورثك، معك ليلاً نهاراً ما يرثك.هذه القاعدة من قعدها؟ عمر . لو يجتمع علماء البشر كلهم من أهل الكفر والله ما عرجوا عليها، ومع هذا ميتة هذه لا وجود لها عند المسلمين؛ لأنهم هجروا كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.إذاً: وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى [النساء:36] عرفتم حقوق اليتامى؟ من أبرزها ألا تتناول منها شيئاً أبداً، ولما كان المؤمنون في طور رقيهم وكمالهم لما نزلت الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى [النساء:10] منعوا الاختلاط معهم، والله إن المرأة لتطبخ قدراً ليتيمها وآخر لزوجها وأولادها، الماء في سقاية لليتيم وسقاية لهم، وشق عليهم الأمر وتكلفوا، وبعد ذلك تساءلوا ورحمهم وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [البقرة:220] وترككم في تلك المشقة، لكن اعملوا دائماً على إصلاح مال يتاماكم، وقدمنا: لما تطبخوا له طبخة تكلفه عشرون ريالاً، لكن لما يكون من جملة أولادها ما تكلفه ريالين، أو ما هو واضح هذا المعنى؟ واضح.فمن ثم اختلطوا بهم، ولكن يراعون دائماً صالح اليتامى، (إصلاح لهم خير).
حقوق المساكين
قال: وَالْمَسَاكِينِ [النساء:36] أيضاً، والمساكين جمع مسكين، والمسكين الفقير الذي مسكنته الحاجة، كادت تسكنه بالأرض، ما يستطيع، يقول: ما عنده شيء، ما يستطيع يتحرك، إذاً فهو مسكين، هذا المسكين الذي ابتلاه الله وابتلاه من أجلكم وابتلاكم من أجله يجب أن يجد حقه بينكم.أولاً: إياك أن تضحك منه أو تسخر به أو تستخف به، أو تعطيه ما لا خير فيه، اجعله محترماً بيننا كما هو الغني فينا، لا ازدراء ولا احتقار ولا تهكم ولا إلقاء شيء بعنترية.ثانياً: إن جاع يجب أن يطعم، إن عطش يجب أن يروى، إن عري يجب أن يكسى، وأهل القرية هم المسئولون عن هذا، أما الذين في بلاد أخرى ما هو مسئول عن مسكين في المدينة، أهل القرية والحي مسئولون عن مساكينهم.أما التكبر عليهم، والازدراء بهم، والاستخفاف بهم، ورفع الصوت عليهم.. هذا كله حرام، حقه أن تحترمه وتبجله وتطعمه إن جاع وتكسوه إن عري، أو تعالجه إن مرض بالتعاون مع إخوانك في القرية أو في الحي.حق المساكين عرفتموه؟
حقوق الجار ذي القربى
قال الله: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى [النساء:36] الجار المجاور من الجوار، هذا بيت، وهذا بيت، وهذا بيت.. بيوت في الشارع، في القرية، في الحوش، في الحي.. هذا الجار المجاور له حق، وهذه الصديقة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، أم المؤمنين حب الرسول صلى الله عليه وسلم، بنت الصديق ، وبلغنا أن بعض الضيع يلعنونها، أعوذ بالله! أين يذهب بعقولهم؟ الذي يقول فيها سوءاً وباطلاً كفر، خرج من ملة الإسلام؛ لأنه كذب الله تعالى وكذّب رسوله. أقولها بالبربرية: ووصم رسول الله بالدياثة، والله برأها في سبعة عشر آية من سورة النور، وختمها بقوله: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26].لم تقول هذا يا شيخ؟لعلمنا أنه يوجد بين المسلمين من في هذا الضلال؛ لعله تبلغه كلمة.أنا أقول: يجب على كل واحد أن يسأل عن دينه وعن الطريق الموصل إلى ربه، ما يقلد شيخاً ولا إماماً ولا أماً ولا أباً، اعمل على تزكية نفسك يا عبد الله لتنقذها من الخلود في نار جهنم.الصديقة رضي الله عنها رأيتها في منامي وأنا طفل ألعب مع الأطفال.قالت: قلت: ( يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ فقال: إلى أقربهما منكِ باباً )، الذي بابه أقرب من الثاني إليك قدمي له الهدية، وما هي الهدية؟ حفنة تمر، مرق.. حسب الطاقة، فمن هنا الجيران الأقرب فالأقرب، الأقرب منك، ورد أن الجيران أربعون داراً، ولكن طاقتك لا تتسع لهذا كله؟ إذاً: في حدود طاقتك، كما قدمنا في ذوي القربى.وهنا قالت العلماء: الجيران ما يلي: جار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد.قال تعالى: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى [النساء:36] أو لا؟ الجار صاحب القرابة له ثلاثة حقوق: حق الجيرة، وحق القرابة والرحم، وحق الإسلام.وجار له حقان فقط: حق المنزل، وحق الإسلام.وجار له حق واحد وهو الجار البعيد مؤمن أو غير مؤمن، الجار البعيد له حق واحد وهو حق الجيرة، يبقى كونه كافراً أو ما هو من أقاربك شأنه، المهم الجار الذي هو ليس من أقربائك والغالب أنه يكون كافراً يهودي، أو نصراني وهو جار كم حق له؟ حق واحد فقط.هذا والتعاليم النبوية في هذا الباب كثيرة اسمعوا منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) كثَّر علي من الوصية حتى جاء في قلبي أنه ممكن يورثه بالسدس أو الخمس أو العشر كباقي الورثة، لكن ليس بمورث ولا بوارث، ويقول صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ) معناه: لا يهينه، ولو بنظرة شزراء، ويقول صلى الله عليه وسلم: ( والله لا يؤمن.. والله لا يؤمن.. والله لا يؤمن! قالوا: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه ) الذي لا يأمن جاره بوائقه وطوامه ومهلكاته لا يدخل الجنة، ما آمن.ومن الإحسان إلى الجار الكلمة الطيبة، إذا احتاج إلى مرق، إلى كبريت نار، إلى ماء، إلى دابة، إلى كذا وأنت قادر، مع كف الأذى مطلقاً لا تؤذيه في طفله ولا في أهله ولا في بهيمته، ولا تأتي بالسيارة وتغلق عليه باب بيته، كما نفعل، يأتي بسيارته ويعترضها في بابه، من أين يدخل؟ ما يجوز.جارك الذي لا يصلي ينبغي أن تلازمه حتى يصلي، لم تتركه لا يصلي؟ يجب أن تدعوه حتى يصلي، وإذا كنت في دولة الإسلام التي نعيش فيها حرام أن تسكت عليه والهيئة موجودة، يجب أن تأتي بالهيئة: هذا ما يصلي.وإذا كنت في بلاد لا إسلام فيها حسبك أن تعرض له وتذكره حتى الموت. هذا من حقه عليك. وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36] ما معنى الجار الجنب؟ الجنب كافر يهودي أو نصراني، أو جار ما هو من قرابتك من بلاد أخرى، له حق الجيرة.
حقوق الصاحب بالجنب
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء:36] من هو الصاحب بالجنب هذا؟ هذا الصاحب الذي إلى جنبك، سافرت هو معك، أتيت المسجد هو إلى جنبك، أنت في البيت هو معك، ما يفارقك، هذا صاحب مصاحب أو لا؟ وابدأ أولاً بالمرأة، صاحبتك أو لا؟ والمرأة تسمى صاحبة، وهذا ما معنى قوله: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:3]؟ زوجة، فالزوجة يجب أن تعطيها حقها رغم أنفك، وحقوقها موضحة الصاحب بالجنب قد يكون الذي يسافر معك إلى حج إلى عمرة إلى تجارة معك دائماً، فهل تنقصه من حقه وهو ملازم لك؟ الجواب: لا يجوز أبداً.الصاحب بالجنب تلميذ يدرس عندك، أو يلازمك في المدرسة، ما هو ملازم؟ كل من يلازمك ليل نهار أصبح صاحباً بالجنب يجب أن ترعى حقه.أولاً: أن تبذل له المعروف.ثانياً: أن تكف عنه الأذى، لا يتأذى منك، إذا كان يتأذى بصوتك العالي ما ترفع صوتك أبداً، أوصاك الله بهذا، هذا الصاحب بالجنب.
حقوق ابن السبيل
قال الله: وَابْنِ السَّبِيلِ [النساء:36] السبيل هي الطريق، وفي القرآن بمعنى السبيل قال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] سبيل الله الطريق الموصل إلى رضاه، والسبل الأخرى طرق الشياطين والمبتدعة والضلال، السبيل الطريق، كيف قلنا: هذا ابن الطريق؛ لأننا ما عرفناه إلا منها، دخل القرية أو دخل البلد ونحن ما نعرف له أم ولا أب ولا قبيلة ولا بلد، من أين هذا؟ هذا ابن الطريق باختصار، وإن قلت: كيف؟ قلنا: الله عز وجل هو الذي أطلق هذا الاسم ابن السبيل.حقه إذ استرشدك يجب أن ترشده، إذا استعلمك يجب أن تعلمه، إذا استضافك يجب أن تضيفه، إذا قدم حاجته إليك من جوع أو كذا ينبغي أن تقضيها، ومن هنا لو أخذنا بمبدأ التضامن الإيماني إذا دخل ابن السبيل القرية لا يخاف أبداً، آمن في ماله، في دمه، في ما عنده لا يحتاج إلى طعام ولا إلى شراب وإلى كساء أو أداة حتى يسافر.ويعطى هذه الحقوق ولو كان في دياره من أغنى أهل بلاده، لكن وصل عندنا ما عنده شيء.كان قبل هذه الأعصر إذا دخل ابن السبيل أهل القرية يقومون به ما يوجد فندق ولا مطعم ولا.. ولا.. فمن يقوم به؟ أهل القرية، الآن في فنادق، مطاعم، استراحات، فإذا كان لديه مال ما هو في حاجة إلى أحد، لكن انقطع ما عنده، وعلمت انقطاعه يجب أن تؤدي هذا الحق أنت وإخوانك المؤمنين.تنبيه: والصاحب بالجنب يشتغل معي، طول العام صاحب أو لا؟ قال: نصحت له بأن يترك الدخان غضب علي، وما كلمني.أنت أديت واجبك، وإذا رأيته سلم عليه وعليكم السلام، وأعد النصح له المرة الثانية والثالثة بلطف حتى تؤدي حقك معه.
حقوق ملك اليمين
أخيراً: الحق العاشر: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36].ما عندنا يا شيخ لا خادمة ولا خادم، لم؟ لأن سيوف الجهاد كسرناها، أين الذين ملكت أيمانكم؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم: ( للمملوك طعامه وشرابه وكساؤه، ولا يكلف عملاً لا يطيقه )، تحفظ هذه، للمملوك على مالكه: طعامه وشرابه وكسوته، وألا يكلفه من العمل ما لا يقدر عليه ولا يطيقه، وفي هذه الأحاديث النبوية يقول صلى الله عليه وسلم: ( ولا يقل أحدكم: هذا عبدي وهذه أمتي ) يصبح كأنه هو الله، ( بل يقول: هذا فتاي وهذه فتاتي )؛ لأنه إذا قال: عبدي معناه: ترفع وأذله وأهانه، وإذا قال: هذه أمتي. معناه: أنه تربب عليها واستعلى فحطم معنوياتها وهي مؤمنة، فاستبدل الحبيب صلى الله عليه وسلم هذه العبارة بهذه: لا يقل: هذه أمتي، الله الذي يقول: هذا عبدي وهذه أمتي، قل: هذا فتاي وهذه فتاتي، حفاظاً على كرامتهما، وإبقاء على شرفهما، أليسوا عبيد الله مثلك؟ لا سيما إذا كانا مؤمنين صالحين، يجب أن تتطامن وأن تذل لهما، وإن كنت تأمر افعل ولا تفعل، والإحسان إليهما واجب. هذا حق من الحقوق العشرة.
معنى قوله تعالى: (إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً)
وختم الله هذه الحقوق بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36].من منكم لا يبالي أحبه الله أم غضب عليه؟ أعوذ بالله! والله لو نعلم أن الله غير راض عنا لمتنا، كيف؟ تعرف أن الله لا يحبك وتسعد وتأكل وتشرب؟إذاً: فتجنب كل عمل قلبي أو جوارحي من شأنه أن يغضب الله تعالى عليك، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ [النساء:36] ومن لا يحبه الله يسعد؟ والله ما سعد، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36]، المختال الذي يتبختر في مشيته تكبراً وتعالياً؛ ليهين أصحاب الحقوق ويزدريهم وينظر إليهم بنظرة شزراء، هذا النوع لا يحبه الله؛ لأنه أراد أن يسلب الله صفات الكمال، الكبر لمن؟ الله أكبر. الكبرياء لله؛ فمن أراد أن يتكبر أراد أن يأخذ من صفة الله عز وجل، والشيطان هو الذي أغراه وفتنه والعياذ بالله، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ [النساء:36] أبيض أسود في الأولين في الآخرين، رجل امرأة حر عبد، مَنْ كَانَ مُخْتَالًا [النساء:36] وفخوراً، الفخور الذي يتمدح بأمجاده.. بحسبه.. بنسبه.. بأمواله.. بعلومه.. بمعارفه؛ ليكون أعلى من عباد الله المؤمنين، ما يرضى الله هذا، أنت عبده؛ فلا تؤلم عبيده بالتكبر عليهم والاختيال والتعالي عليهم بمجدك أو مالك أو حسبك.هذه الآية تجعل المؤمنين كجسم واحد، الذي يملك ملياراً كالذي يملك ديناراً، لا تشاهد خيلاء ولا فخراً ولا تعالي على الله أبداً، والله العظيم.هذه التعاليم الإلهية عرفها المسلمون؟ما عرفوها؛ لأنها في القرآن، والقرآن يقرأ على الموتى لا يقرأ على الأحياء، وقالوا في القرآن: تفسيره خطأ وخطؤه كفر، فأصبح الرجل إذا قال الرجل: قال الله، يغلق أذنيه ويهرب خشية أن تنزل صاعقة؛ لأنه تكلم بكلام الله، هذا واقع وعاشت عليه أمة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعمائة سنة، إذاً: كيف تتعلم؟ لولا أننا جلسنا أربعة أيام خمسة في هذه العشرة الحقوق نتعلمها ما نتعلم.هذه الحقوق العشرة إليكم الآية مرة ثانية: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36].فإن كانت الأخرى؛ إذ لا يمنع من هذه الحقوق إلا نوع الكبر والتعالي، قد يتكبر حتى على والديه، ويسخر منهم، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36].وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-28, 05:51 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (22)
الحلقة (246)
تفسير سورة النساء (29)


من الصفات الخبيثة التي نهى الله عباده عن الاتصاف بها صفة البخل، وقد ذم الله عز وجل أناساً يبخلون بما آتاهم الله من فضله، ويتواصون فيما بينهم ويوصون غيرهم بالبخل على المؤمنين، فلا يعطونهم من مال الله الذي آتاهم، بل ويزيدون على ذلك أنهم يبخلون بما آتاهم الله من عمل ومعرفة، ثم هم إذا انفقوا لم ينفقوا إلا رياء وسمعة، وقد توعد الله عز وجل هؤلاء بالعذاب المهين يوم القيامة.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).اللهم حقق رجاءنا؛ إنك ولينا ولا ولي لنا سواك!وها نحن مع سورة النساء ومع هذه الآيات الثلاث، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [النساء:37-39].تأملوا وتدبروا أيها الدارسون ويا أيتها الدارسات، لا تغفلوا ولا تذهلوا.هذه الآيات الثلاث مرتبطة بالآية قبلها وهي آية الحقوق العشرة، وقد درسناها وفهمناها، والتزمنا بتطبيقها، هيا نتلو الآيات الأربع مع بعضها البعض لارتباطها في سلك واحد، قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36]، هؤلاء أصحاب الحقوق العشرة، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [النساء:36-39].معاشر المستمعين! أذكركم بأن هذه الحقوق العشرة يجب أداؤها إلا من عجز ولم يستطع أن يقوم بواجب من هذه الواجبات، أو بهذا الحق من الحقوق؛ فأمره إلى الله باستثناء الحق الأول الذي هو حق الله، وهو: أن نعبده بما شرع وحده ولا نشرك في عبادته أحداً، هذا حقه، بم استحق هذا الحق وكان له؟ مقابل خلقنا ورزقنا وإطعامنا وسقينا وحياتنا، الذي وهبك بصرك فقط أصبح له أعظم حق عليك؛ فكيف بالذي وهبك كل حياتك؟ فحق الله أن يعبد من أجل أن يذكر ويشكر فقط وأما عوائد العبادة فهي إسعاد العابدين وإكمالهم، أما الله فلا ينتفع بشيء منها فإنه غني عن خلقه، ولكن أراد أن يذكر ويشكر؛ فأوجد هذا العالم، وأوجد هذا الإنسان، وأوحى إلى رسله، وعلمهم كيف يذكرونه ويشكرونه، وعوائد الذكر والشكر عائدة على الذاكرين والشاكرين؛ فمن كفر ولم يشكر ونسي ولم يذكر فهو من الخاسرين، وتقرر هذا المعنى.ثانياً: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [النساء:36].الوالدان هما الأم والأب، الإحسان إليهما فريضة واجبة وحق نافذ، واذكر من أين أتيت أنت، من حملك في بطنه؟ أنت ماء من؟ أصلك من؟ من أنفق عليك وأنت طفل إلى أن بلغت السابعة والعاشرة؟ من رعاك؟ من حفظك؟ من بكى لبكائك؟ أهذا الذي تنساه أأنت حيوان؟ وحق الوالدين طاعتهما في المعروف وإيصال البر والخير إليهما، وكف مطلق أذاه عنهما حتى بالكلمة العالية.حقوق القرابات: من عم وابن عم وخال وابن خال وعمة وخالة.. وما إلى ذلك، وابدأ بالأقرب فالأقرب، ماذا تصنع معهم؟ تكف أذاك عنهم، وتبذل المعروف لمن احتاج إليه منهم، من كان يؤذيهم ما أبداً أدى حقهم، كف الأذى وبذل المعروف والندى.حقوق اليتامى: اليتيم من حقه علينا ألا نؤذيه بأي أذى، وألا نأخذ ماله أدنى أخذ، ونحفظ حياته فلا نعرضه للمرض ولا للدمار ولا للخراب، امتحننا الله به، أخذ والده الذي كان يقوم عليه ويرعاه؛ فبقي يتيماً بيننا فيجب أن نرعى حقوقه: التربية.. التوجيه.. الإصلاح.. إطعامه إن جاع سقيه إن عطش.. وهكذا، ونبني دور اليتامى وننفق عليها.المساكين: من أذلهم الفقر، ومسكنتهم الحاجة، ومدوا أيديهم سائلين يجب أن نحسن إليهم بالكلمة الطيبة، وألا نسمعهم كلمة أذى أبداً، ونضع في أيديهم ما يسد حاجتهم، أين التكافل الإيماني الإسلامي؟ ما نستطيع أن نحقق هذا الهدف إلا إذا كنا جماعات مسلمة ربانية في قرانا وفي أحيائنا ومدننا، لن يتم هذا إلا من طريق أن نكون كجسم واحد: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد ).أهل القرية سواء كانوا قبائل مختلفة أو مذاهب متنازعة يجب أن يجتمعوا في بيت ربهم، يصلون الصلوات الخمس لا يتخلف منهم أحد، وبعد المغرب يجلسون جلوسنا هذا، النساء وراءنا، والأطفال أمامهن، والفحول أمام الجميع، وليلة آية من كتاب الله كالتي ندرسها، وليلة حديثاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويوماً بعد يوم نتعلم ونحلم ونكمل، ما تمضي سنة إلا وأهل القرية كجسم واحد لا مذهبية ولا طائفية ولا وطنية ولا نعرات.. ولا ولا، أمرهم واحد، لا تقل: أنا شافعي ولا مالكي ولا إباضي ولا كذا مسلمون، في ذلك المسجد تتكون لجنة من إمام المسجد والمؤذن والداعي الواعظ وترعى أهل الحي، من هو الذي تخلف عن صلاة الصبح اليوم؟ فلان زوروه، ما له؟ قالوا: مريض، كيف مريض وما اطلعنا عليه، إذاً اسألوا عن حاجته، فلان تخلف عن صلاة العشاء البارحة، ما له؟ اسألوا عنه، قالوا: سافر. اللهم رده بخير، وحينئذ نصبح حقاً المسلمين، الأمة الواحدة، ما يبقى في القرية من يرضى أن يؤذى مؤمن بين يديه بكلمة فقط، فضلاً عن صفع، فضلاً عن قتل ودمار، فضلاً عن التكفير والسب والشتم وما إلى ذلك، والله لا تعود أمة الإسلام إلى سماء عليائها أيام كانت سائدة قائدة إلا إذا بدأت الطريق من طريق محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن القلوب تمرض ومرضها أخطر من مرض الأجسام، ولأن الشياطين مهمتها التي مهيأة لها الإضلال والإفساد والتدمير للبشر، فإما أن تقارننا الملائكة أو الشياطين: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38].ثم نعرف قيمة المسافر وابن السبيل الذي نزل بقريتنا لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد إلا في الطريق، يؤوى ويفرش له ويطعم ويحفظ وتقضى حاجته حتى يسافر، من يفعل به هذا؟ إخوانه المؤمنون.ثم هذا الاجتماع ليلياً لمدة سنة .. سنتين، ما يبقى في القرية جاهل ولا جاهلة، وإذا رفع حجاب الجهل وحل محله النور يقع ظلم.. اعتداء؟ والله ما يقع، وإنما الظلم والاعتداء والبخل والأمراض والشرك وكل المصائب هي نتيجة الجهل وظلمة الجهل، ما عرفوا، ما هذبوا، ما ربوا في حجور الصالحين، بأدنى شيء يهتز ويقول الباطل وينطق بالفجر.كيف تصلح هذه الأمة؟ على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما قال إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام وهما يبنيان الكعبة: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، ابعث في أولاد إسماعيل الآتين رسولاً منهم يعرفون لغته، ويفهم لغتهم، ماذا يفعل بهم؟ يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، إذا لم يجتمع المسلمون في أي مكان على الكتاب والسنة اجتماع إيماني حقيقي لن يفارقهم الجهل والخبث والشر والفساد، والتاريخ شاهد، ما نستطيع نجلس من المغرب إلى العشاء.وقد بينا لهم من سنين أن الشيوعيين يجعلون هذه المنظمات في بلادهم، والله العظيم! حتى في بلاد العرب، الحزب الشيوعي عنده لجنة في كل قرية وفي كل حي من أحيائها، وأهل لا إله إلا الله يقولون: كيف يقع البلاء وكيف ينزل الشقاء.. وكيف.. وكيف؟ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36].لا يقول أحدكم: عبدي ولا أمتي وليقل: فتاي أو فتاتي، فيجب الإحسان إلى المملوكين الذين هم في قبضتنا وفي يميننا، حيث أعطيناهم في الجهاد في سبيل الله، يجب أن نحسن إليهم، أن نطعمهم وأن نكسوهم وأن نسقيهم وأن نداويهم، وألا نكلفهم ما لا يطيقون، فيصبح ذلك العبد كأنه بين أمه وأبيه أو أجل أو أكثر، فما هي إلا ساعات أو أيام وقد دخل في رحمة الله وأسلم لله؛ لما يشاهد من الإحسان، وإن شككتم كيف دخل العالم في الإسلام على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم؟شاهد أنوار العدل والرحمة والولاء والإخاء، لما غزا المسلمون البلد الفلاني ما فرضوا عليهم الإسلام: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، لكن ما إن يحل المسلمون بينهم، ويشاهدون أنوار العدل والرحمة والطهر والصفاء حتى يندمجون.وكان هذا الختم الأخير: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36].يا من يريدون ألا يكرههم الله! يا من يرغبون ألا يبغضهم الله! لأن المكروه لله المبغوض له شقي خاسر خسراناً أبدياً، يا من يريد أن يحبه الله! إذاً فليجتنب الاختيال والفخر، وهنا عجب هذا القرآن وإلا لا؟ قالت الجن عجب أو نحن قلنا؟ الجن قالوا، ما إن سمعوه فقط والرسول يقرأ في صلاة الصبح قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]، انظر كيف ذيل وعقب على الحقوق العشرة التي يجب أن ننهض بها وأن نؤديها، وأعلاها أن نعبد الله بما شرع لا بما شرع الناس ونفرده بتلك العبادة، فلا نلتفت لا بقلبنا ولا بأعيننا ولا بأي حركة، لا نرى إلا الله لا يعبد إلا هو: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36].هذه الحقوق العشرة قال بعدها: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36]، فأغلب الذين ما يقومون بهذه الحقوق ولا يؤدونها مصابون بمرض الاختيال والفخر، المختال المفتخر ما يتنازل للفقراء والمساكين والجيران ويرحم ويعطف ولوالديه أبداً؛ لأنه منتفش منتفخ متكبر، كيف يحسن؟ ما يعرف الإحسان، ومعنى هذا: يا عبد الله لِن وتطامن وإياك أن تنتفخ أو تتكبر، فإن الله لا يحبك، وإذا لم يحبك الله يا ويلك هلكت وتمزقت.مرة ثانية: لم عقب على هذه الحقوق العشرة بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36]، المتكبر يأبى أن يسجد لله أو يتطامن، يأبى أن يطيع رسول الله في سنة من سنته فضلاً عن الحقوق الأخرى ما يبالي بها؛ لأنه مصاب في عقله بمرض الكبر والاختيال والفخر، هذه الصفة يجب أن تمنحى من قلوب المؤمنين والمؤمنات حتى يتراحموا، حتى يتعاونوا، حتى يتلاقوا ولا يفترقوا، أما مع هذا المرض لا التقاء ولا اتفاق أبداً ولا تراحم.
تفسير قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ...)
قال: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37] بدل من الأولى، أو هم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37] يبخلون أي: يمنعون الحقوق الواجبة ومنها الحقوق العشرة وغيرها من الحقوق. وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37].ما يؤدي هذا الحق، ويأمر من يقوى على أمره ويستطيع أن يقول: لا تفعل، الآية وإن كانت نزلت في مجموعة من اليهود كانوا يأتون إلى الأنصار من أهل المدينة وينصحون لهم بألا يبذلوا أموالهم لمحمد والمهاجرين، ويخوفونهم بالفقر وما يصيبهم بعد، ولعل هذه الدعوة ما تنتصر ثم تعودون، فيبخلون من جهة ويأمرون غيرهم بالبخل، والبخل: هو منع الحق وعدم إعطائه وبذله لصاحبه، ومن البخل أيضاً: أن يتسع طعامك وشرابك ويفضل فضلة وتمنعها عن غيرك وهو محتاج إليها، هذا العيب العظيم: يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37]، وإلى الآن في مجتمعاتنا الإسلامية من يبخل وينصح ألا ينفق فلان، لم تنفق على هذا؟ ما الفائدة من هذا؟ هذا كله يضيع، إلى الآن، يبخل هو في حد ذاته ويقول لأقربائه وأصدقائه: ما في حاجة إلى هذا، هذا المال ما ينفع، هذه النفقة باطلة.. وهكذا، يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37].وأخرى: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37].يجحدون يخفون مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37] أولاً: العلم والمعرفة، ما يريدون أن يبصروا الناس، أن يعرفوهم بالحق ويهدوهم إليه، وهذا يتناول -كما قلنا- علماء اليهود، جحدوا نعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في التوراة واضحة وضوح الشمس والقمر، ويحرفونها ويقولون للمنافقين من الأوس ولأولادهم وإخوانهم: اكتموا هذا النور واجحدوه: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37].وهنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكتم علماً علمه الله وعرفه، إذا علمك الله شيئاً ووهبك هذا النور يجب ألا تكتمه وأن تبينه، وخاصة العلم الشرعي، أما علم الصناعة فلا يجوز كتمانه، وإن كان النصارى يكتمونه وغير المؤمن ما يكتم العلم، تعال أعلمك كيف تطبخ، أو كيف تسوق السيارة، ولا حرج، ويكتمون ما آتاهم وأعطاهم الله من فضله؛ إذ كل ما عند الإنسان هو من الله، أو هناك شيء ما وهبه الله إياه؟ لا يوجد شيء إلا والله واهبه ومعطيه.فلا يحل إذاً أن يقف هذا الموقف: يبخل، ويأمر الناس بالبخل، ويكتم أيضاً ما هو حق ومعروف؛ لتبقى الأمة أو الجماعة أو أهل القرية في ضلالها وتعبها وشقائها.فلهذا معاشر المؤمنين! نقوم بهذه الحقوق العشرة ويساعدنا على أدائها تطهير قلوبنا من الغل والغش والمرض والكبر والعياذ بالله والاختيال والبطر، هذه الأمراض مانعة بتعليل الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38] ألا نتصف بالبخل، البخل مذموم، وقد يبخل الإنسان حتى بكأس الماء، يبخل بالكلمة، وأبشع من ذلك أن يأمر الناس ويعلمهم البخل، وأفظع من ذلك أن يكتم ما فيه خير للناس ويجحده للحفاظ على مصلحة أو على مركز أو على موقف من المواقف، كما منع اليهود من هذا؛ لأنهم يحافظون على مركز وجودهم.وعقب تعالى على ذلك بقوله: وَأَعْتَدْنَا [النساء:37] أحضرنا وهيأنا. لِلْكَافِرِينَ [النساء:37].ما قال: لهم، السياق يقول: وأعتدنا لهم عذاباً مهيناً، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله أعتدنا لهم عذاباً مهيناً، قال: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ [النساء:37] ليعلمنا أن الذين يتعمدون البخل ويأمرون به والله ما هم بمؤمنين، والذين يكتمون الحق ويجحدون المعروف لتبقى الناس في ضلالها وشقائها والله ما هم بالمؤمنين، منافقون يتظاهرون بالإيمان أمام الناس حفاظاً على وجودهم، أما الإيمان الحق ما هم بمؤمنين، أما الإيمان الحق ما هم بمؤمنين. وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:37].وليشمل هذا العذاب كل كافر وكل كافرة، وإلا لقال: وأعتدنا لهم عذاباً مهيناً، لا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ [النساء:37] هم كافرون كفروا نعمة الله، ما شكروها، جحدوا العلم، جحدوا المال والفضل، أي كفران أكثر من هذا؟ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:37].
تفسير قوله تعالى: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ...)
قال الله: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ [النساء:38].صنف آخر من هذه الجماعات.قال: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ [النساء:38].إذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى احتساب وجمع المال يخرجون بالأموال وهم لا يؤمنون، فقط ليقال: أنفق فلان وتصدق فلان، وهذا وإن كان في المنافقين في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم هل طهرت الأرض منه؟ يوجد من المؤمنين المنتسبين للإيمان والله ما ينفقون لوجه الله، ما ينفقون إلا للسمعة والشهرة وترويج السلعة والبضاعة، نحلف لكم أيضاً موجود، يدلك على ذلك: لم ما يصلي؟ لم يأكل الربا؟ لم ما يحضر جماعة المسلمين؟ لم ما يتجنب كبائر الذنوب ويتصدق لأجل الله إذاً؟ لا يتصدق لوجه الله إلا طالب رضا الله، كيف يطلب رضاه؟ أليس بطاعته وطاعة رسوله، بفعل الأمر واجتناب المنهي، وإن زلت قدمه يوماً تاب من تلك الزلة ما يواصل الجريمة.أقول: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ [النساء:38]. صامتة أو ناطقة قليلة أو كثيرة. رِئَاءَ النَّاسِ [النساء:38]. يرون الناس أنهم ينفقون، لماذا؟ للشهرة.. للسمعة.. لغض الطرف عنهم.. لستر عوراتهم، ما أنفقوا ليرضى الله عنهم، أو ليقيهم عذاب النار، رِئَاءَ النَّاسِ [النساء:38]، وأنتم تعرفون عن الشرك الأصغر، وهو الرياء، الرياء: أن يعمل المؤمن عملاً يريد أن يحمده الناس عليه.وهنا إذا عندكم قدرة على الفهم السليم إليكم بياناً شافياً:أولاً: على المؤمن والمؤمنة إذا أراد أن ينفق في أي وجه من وجوه النفقة: الفقراء.. المساكين.. المساجد، أن يكون الباعث والدافع له لذلك هو طلب رضا الله عز وجل، ولا يرى إلا الله، ومع هذا لا يرغب أبداً أن يراه الناس أو يسمعوا به أنه أنطق حتى تبقى تلك النفقة لؤلؤة مضيئة في نفسه.ثانياً: ينفق في سبيل الله، ما بنى هذا المسجد، ولا فتح هذه المدرسة، ولا كسا هذا العبد، ولا أطعم هذا إلا طلباً لرضا الله، ولكن نفسه تحب أن يحمده الناس وألا يذموه، انتبهتم؟ وهذا الطابع طبع به أغلب الناس، هو أنفق في سبيل الله لا يريد إلا الله، ولكن نفسه تميل إلى أن يقال: فلان أنفق، ليس ببخيل فلان، فهذا ما دامت نفقته لله، ولا قال للناس: امدحوني ولا إثم علي ولا طهروني من كذا وكذا، ولكن هو يرغب نفسياً لو حصل، نقول: هذا لا بأس به، وتصبح القضية: قضية حسنات الأبرار سيئات المقربين. حسنات الأبرار تعتبر سيئات عند المقربين وإلا لا؟ثالثاً: المنفق الذي ينفق ولا يريد وجه الله، فقط يريد أن يحمد بين الناس يثنى عليه تروج بضاعته يسود الناس ويتكبر عليهم من أجل هذا ينفق، فهذا الأخير هالك، والأول في درجة ما نصل إليها، والثاني وسط؛ لأنك ما تستطيع أن تسيطر على نفسك، أنت ما بعثت مالك ولا تحركت إلا لله، لكن في نفسك خواطر إذا سمعت من قال: فلان فعل كذا تفرح أنت، ولا بأس، ولكن حول فرحك إلى الله، هذا من فضل الله عز وجل.ماذا ترون في هؤلاء الثلاثة؟الأول: لا يرى إلا الله، ولا يحب أن يثني عليه أحد، ولا أن يمدحه أو يرفعه؛ لأنه ما له إلا الله، هذا فوق الكل، دونه الذي ينفق لأجل ما في ذلك شك، لولا الله ما أنفق ريالاً واحداً ولا جاع ليشبع فلان، لكن يحصل له رغبة، إذا أثني عليه إذا قالوا فيه خير يفرح بذلك، لا بأس، وتصبح حسناته هذا كسيئات الأولين، حسنات الأبرار كسيئات المقربين، والهالك ذاك الذي ينفق ما له رياء، لا يرجو الله ولا الدار الآخرة يرجو فقط الشهرة والسمعة والسلطة، أو ترويج البضائع والسلع.قال: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:38].يوجد هؤلاء المنافقون، كما قلت مقدماً: كل الذين ينفقون ولا يريدون وجه الله إنما ينفقون لأجل الشهرة والسمعة، وهم بذلك والله ما هم بالمؤمنين، لو آمنوا بالله ولقائه، والوقوف بين يديه، والجزاء الخالد الأبدي في الجنة أو النار ينفقون لوجه الله، فما داموا أعرضوا عن الله وأنفقوا للشهرة والسمعة، أو دفع الأذى والخطر عنهم، والله ما آمنوا بالله واليوم الآخر؛ إذ الذي يؤمن بالله يطلب رضاه، الذي يؤمن باليوم الآخر يقدم له؛ ليأخذ الجزاء في المعاد يوم القيامة، فالذي ينفق أمواله وصحته وجهده ولا يريد وجه الله والله ما هو بمؤمن لا بالله ولا باليوم الآخر.والقرآن عجب اسمع: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:38]، فأين الخبر؟ هذا المبتدأ: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:38] ما لهم؟ هؤلاء ماذا قلنا في الحاشية؟ الخبر محذوف: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:38] فالشيطان قرينهم، هو الذي منعهم من أن يؤمنوا بالله ولقائه، هو الذي منعهم من أن يتقربوا إلى الله وينفقوا في سبيله، هؤلاء الشيطان قرينهم، وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38]، فالشيطان قرينهم، ومن يكن الشيطان له قريناً فساء القرين قريناً، والقرين المقرون في حبل واحد، الذي يلازمه الشيطان ويصبح لا يفارقه، ما يسمح له أن يقول كلمة خيراً، ولا أن ينفق درهماً في سبيل الله.
التحذير من قرناء السوء
وهنا الآية تحذرنا من قرناء السوء وجلساء السوء، امرأتك أو زوجك يا امرأة إذا كان سيئاً فلا خير في البقاء معه، وكل الذين يقارنون أهل السوء يصبحون مثلهم. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [الكهف:28] يا رسول الله، مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28] نصيحة الله ورسوله: لا يقارنك لا يلازمك لا يجالسك إلا مؤمن، أما أن تقارن وتجالس وتلازم سيئ الخلق فاسد العقيدة غير صالح يا ويحك! ومن يكن الشيطان له قريناً فساء ذلك القرين قريناً.ما الذي حملهم على أن ينفقوا أموالهم رئاء الناس، وعلى ألا يؤمنوا بالله واليوم الآخر، من؟ الشيطان؛ لأنهم لازموه واقترنوا به وأصبحوا عبيداً له يسخرهم كيفما شاء، هذا ما يلعن الشيطان ولا يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الشيطان كما علمتم أخبرنا الله تعالى أنه عدونا من يوم ما كان أبانا وأمنا في الجنة في دار السلام أعلن العداوة، وأقسم بالله عز وجل وبجلاله ألا يبرح يضللهم حتى لا يهتدي منهم أحد. ما ننسى هذه الجملة: يا أبناء الإسلام! يا نساء المؤمنات إذا كانت الزوجة ما هي صالحة قرينة سوء لا تبقها في بيتك، ولا تنجب من بطنها أولادك، اعمل على هدايتها.. على تربيتها.. تهذيبها، يوم بعد يوم، شهر بعد آخر إذا كانت سليطة قبيحة سيئة تاركة للصلاة تريد الرقص والفيديو أخرج هذه الفتنة من بيتك.وأنت يا مؤمنة إذا كان زوجك كما يبلغني يعيش على القمار والباطل والشر والفساد بل واللواط أيضاً -وأنت تعرفين ذلك- لا بقاء مع هذا القرين، فإنه قرين سوء، اذهبي إلى أهلك.يا شيخ! لم تقول هذا، تريد أن تمزق المجتمع؟ تقولون هكذا؟ لا. بل أريد أن يرتقي المجتمع لا أن يتمزق، هذا الله يقول: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38]، والرسول الحليم الحكيم يقول: ( مثل الجليس الصالح والجليس السيئ، الجليس الصالح كبائع المسك: إما أن يحذيك شيئاً من العطر، أو تشم رائحته وأنت في خير، والجليس السوء كنافخ الكير )، أيام كانت الكير في أيديهم ينفخونها، إما أن يتطاير الفحم عليك والنار، وإما الدخان والرائحة الكريهة، ومعنى هذا: لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يجالس قرين السوء، ألا يكون له قرين سوء، بل يكون له قرين صالح. وهذا نستطيع أن نهيئه كما قلنا: إذا اجتمعنا في قريتنا على الكتاب والحكمة، أو في مسجد حيِّنا، وأصبحنا نصفو ونطهر، ما يبقى بيننا قرين السوء، صفوا وطهروا كلهم، تعيش سنة ما تسمع كلمة سوء، ولا تشاهد منظراً باطلاً؛ لأنهم علموا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
طلب العلم الشرعي سبب لحصول السعادة الدنيوية
وأقول أيضاً: يا أهل القرية الفلانية. يا أهل الإقليم الفلاني. يا أهل كذا! أقسم لكم بالله على أن أعلمكم بالله في تلك البلاد أتقاكم لربكم وبالتجربة، قريتك أعلم أهلها والله أتقاهم لله، وأجهلهم أفجرهم وأكثرهم خروجاً عن الآداب والأخلاق والإيمان والإسلام؛ فلهذا يجب أن نتعلم، حرام في حرام أن يبقى المسلمون في ضلال الجهل وهم يتخبطون، والفتن تجتازهم من مكان إلى آخر.العلم بالله وبمحابه وبمساخطه وبما لديه لأعدائه وبما عنده لأوليائه، هذا علم الكتاب والسنة قال الله قال رسوله، هذا الذي تطهر عليه النفوس وتزكو وتطيب القلوب وتطهر، وتصبح الأعضاء كلها خاشعة لله، ما يفتح عينه وينظر ما لا يحل له، يستحي أن يقول كلمة سوء، يموت جائعاً والله ما يمد يده، بدون هذا العلم ما يمكن أن نكمل ولا نسعد، والرسول يعلمنا وإلا لا؟ ماذا قال؟ ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله -ماذا يفعلون؟- يتلون كتاب الله -ليحفظوه- ويتدارسونه بينهم -ليفهموه- إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده )، لو فتحنا نافذة على العالم الإسلامي نرى في هذا الوقت بالذات كل المسلمين في المقاهي والملاهي، أو في المدينة في المتاجر والدكاكين، آلله أمر بهذا؟ ولا يعرفون العلم ولا يعرفون الهداية.وقد كررنا القول وقلت: ما دمتم يا عرب يا مسلمون تقتدون بالأوروبيين وتمشون وراءهم وتنفذون حتى حكاياتهم، إنهم والله إذا دقت الساعة السادسة مساء يقف دولاب العمل، ولم يبق متجراً ولا مقهىً.. ولا ولا، وإذا بأولئك النصارى يحملون أطفالهم ونساءهم بعدما يغيرون ملابسهم ويتنظفوا ويتطيبوا ويذهبون إلى دور السينما والمراقص والمقاصف والملاهي والملاعب، يضحكون يتمرغون يزيلون آلام الكفر من نفوسهم وظلمة الجهل إلى نصف الليل، ويعودون كالبهائم إلى فرشهم، لم نحن إذاً وندعي الإسلام ونرجو الله والدار الآخرة ما نعمل كما يعملون؟ كما يعملون يعني: نذهب إلى السينما والملاهي؟ لا.إذا دقت الساعة السادسة توضأنا وتطهرنا حملنا نساءنا وأبناءنا إلى مسجدنا، وصلينا المغرب، وجلسنا هذا المجلس، كل ليلة وطول العام إلا مريضاً في بيته أو ممرضاً يمرضه، من أجل ماذا، قولوا؟من أجل أن تطهر قلوبنا، وتزكو نفوسنا، وترتفع آدابنا وأخلاقنا، ويسودنا الولاء والحب والطهر والصفاء، ونصبح كجسم واحد، لن تسمع جريمة ارتكبت في قريتك إلا بعد عشرين سنة ممكن، وينتهي الخوف من الفقر والجوع والبلاء والعجب، كله ينمحي؛ لأن البخل انتهى والإسراف انتهى، والرضا بالقليل ساد وأصبحنا في وضعية لو تقول: خذ يا فلان يقول: ما أنا في حاجة إليه شبعان.هل تتحقق هذه الكمالات بغير هذه الدعوة الربانية؟ والله ما تتحقق، لماذا إذاً ما عملنا؟ كم سنة يا أبنائي وهذا الصوت يتحدث؟ هل تحقق شيء من هذا في قرية من القرى أو مدينة من المدن؟ إذاً ماذا ننتظر؟ الرزايا والبلايا والإحن والمحن، وهذا شأن من أعرضوا عن ذكر ربهم.وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

ابو وليد البحيرى
2019-04-28, 05:55 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (23)
الحلقة (247)
تفسير سورة النساء (3)


يوصي الله عز وجل عباده المؤمنين بالأيتام، بأن يرعوهم كما يرعون أبناءهم، وإن كان لهم مال أن يحفظوا لهم أموالهم، وألا يأكلوها إسرافاً وبداراً، وألا يضموها إلى أموالهم فتضيع، ومن كان في حجره يتيمة فلا يتزوجها إن خشي أن يظلمها، وليعدل عنها إلى غيرها من النساء فيتزوج مثنى وثلاث ورباع إن شاء.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأحد من يوم السبت والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك!وها نحن مع فاتحة سورة النساء -بعد أن درسنا الفاتحة والبقرة وآل عمران بفضل الله الرحمن- وقد درسنا الآية الأولى منها، والآن أسمعكم تلاوتها، وأستعرض معكم هدايتها تذكيراً للناسين، وتعليماً لغير العالمين.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
هداية الآية
قال: [ من هداية هذه الآية:أولاً: فضل هذه الآية؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب في حاجة تلا آية آل عمران] وهي[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]وتلا هذه الآية]: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1][ ثم آية الأحزاب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ * وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]، ثم يقول: أما بعد. ويذكر حاجته.ثانياً: أهمية الأمر بتقوى الله تعالى؛ إذ كررت في آية واحدة مرتين، في أولها وفي آخرها.]أولها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، وآخرها: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1].أقول: (أهمية الأمر بتقوى الله تعالى إذ كررت) التقوى (في آية واحدة مرتين، في أولها وفي آخرها).[ ثالثاً: وجوب صلة الأرحام وحرمة قطعها ] لأن الله قال: وَالأَرْحَامَ [النساء:1] أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها.[ رابعاً: مراعاة الأخوة البشرية بين الناس واعتبارها في المعاملات ].يهودي.. نصراني.. بوذي.. مشرك.. مجوسي.. عربي.. عجمي.. غني.. فقير، لا بد من مراعاة البشرية، فلا ظلم ولا جور ولا غش ولا خداع ولا كذب، لا تقل: هذا يهودي أكذب عليه، والله ما يجوز، أو تقول: هذا صليبي أخدعه، أو هذا مجوسي أمكر به، هذا لا يجوز، من أين اهتدينا إلى هذه؟من قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء:1] أبيضكم وأسودكم، كافركم ومؤمنكم، خطاب عام لكل البشر، تذكرون هذه، أو تقول: لا بأس. هذا عدو أمكر به؟ فقط لا تحب غير المؤمنين، ولا يأكل طعامك غير المؤمن، أما أنك تؤذي المرء لكونه كافراً لا يصح أبداً، إلا في حال واحدة، وهي إعلان الحرب بيننا وبينهم، استبيحت الدماء فكيف بالأموال؟ أما في حال السلم وعدم الحرب والمعاهدات لا يحل لمؤمن أن يؤذي إنساناً من أي جنس كان، العدل هو المطلوب.إذاً: هذه الآية الكريمة أفادتنا ما علمتم، فضلها كذا؟ أهمية الأمر بتقوى الله.ثالثاً: وجوب صلة الأرحام وحرمة قطعها.رابعاً: مراعاة الأخوة الإنسانية أو البشرية، لا قبلية ولا عنصرية ولا وطنية ولا كفر ولا إيمان، لا يحل لإنسان أن يؤذي أخاه الإنسان بأي أذى.
تفسير قوله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ...)
الآن مع ثلاث آيات كريمات، إليكم تلاوتها ورددوها في أنفسكم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:2-4].ممكن نشرح آية أو آيتين أما الثلاث فطويلة:قال تعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [النساء:2].أي مؤمن عربي ما يفهم معنى هذه الآية؟ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [النساء:2]، يا من في حجورهم يتامى كفلوهم وتولوا أمرهم لفقد وليهم من أب، أعطوهم أموالهم عند بلوغهم سن الرشد.واليتامى جمع يتيم ويجمع على أيتام، واليتيم بمعنى: المنفرد، ومنها اليتيمة الغراء.فمن فقد أباه فهو يتيم. هذا من الناس، أما من الحيوانات فمن فقد أمه فهو اليتيم؛ لأن البقر والناقة والشاة وما إلى ذلك هي التي تحتضن ولدها، وتقوم على رعايته وإطعامه وحفظه، أما الأب فلا علاقة له بأولاده، أما الإنسان -وهو في مستوى أعلى من مستوى الحيوان إن آمن وأسلم- فاليتيم عنده هو من مات أباه، أما لو ماتت أمه فلا يقال عنه يتيم.
معنى قوله تعالى: (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب)
قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2].أنتم لا تعرفون هذا، لما تكون كافلاً لليتيم وعنده بستان وعندك بستان، في إمكانك إن هبطت من درجة الكمال إلى أسفل أن تأخذ العجوة التي عنده وتعطيه البرني، تبيع عجواه بسبعين ريال الكيلو وتبيع تمرك أنت البرني بعشرة ريالات، استبدلت الخبيث بالطيب.قد يكون في غنمك الماعز، وتحتاج إلى بيعه فتستبدل وتعطيه العنزة وتبيع الشاة الطيبة لتستفيد من ثمنها، وكذلك في الدقيق والبر، وفي كل ما هو مال، إياك أن تستبدل الطيب الذي عند يتيمك لجهله وعدم معرفته، وتعطيه الخبيث من مالك، لولا أن هذا وقع ما أنزله الله، ويقع إلى اليوم، إلا من عرف الله فخافه وأحبه، أما أهل الجهل فإنه يفعلون أكثر من هذا. وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2] كل مال، مطلق مال؛ لأن اليتيم في عمر ستة أشهر أو سنة أو خمس سنوات أنت مالكه .. أنت كافله .. أنت وليه لا يعرف شيئاً، فتغرك نفسك فتستبدل ماله الطيب وتضع له الخبيث، هذا حرام، ولا يحل، وصاحبه ارتكب كبيرة، وإن لم يتب منها هلك.
معنى قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً)
وقوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا [النساء:2].الحُوب اسم، والحَوب مصدر من حاب يحوب إذا تأثم وتلطخ بالإثم، الحوب الإثم الكبير، كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2].ما هذا الاستبدال؟ لا تأكلوا أموالهم وتتركوا أموالكم، هات الشاة الفلانية يا إبراهيم للضيف، هذه الشاة من مال اليتيم يذبحونها، أيش في؟ نزل علينا ضيف وكلنا سواء، وتبقى شاته هو لا يذبحها، يأكل أموالهم ليبقي أمواله ويحافظ عليه، يا أحمد هات كذا كيس من تمر ابن عمك إبراهيم قدمه للناس أو للبيت، فيأكل مال اليتيم ويبقي ماله هو، هذا يقع من ضعاف القلوب وإلا لا؟ ضعاف النفوس.. الجهلة الذين لا بصيرة لهم، يقول: هذا صغير، يعيش أو يموت الله أعلم، ونحن في حاجة، إذاً سيأكل مال اليتيم ليوفر ويبقي ماله هو، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2].ثم قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ [النساء:2] أي: هذا الأكل، أكل مال اليتيم والإبقاء على مالك أنت أيها الكفيل، حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2] انتبه!
تفسير قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء...)
الآية الثانية: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] هذه مسألة أخرى لها علاقة بأكل مال اليتيم.سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من ابن أختها عن هذه الآية فأجابته إجابة هي الحق بعينه فقالت: يكون للرجل يتيمة في بيته. عرفتم؟ مات أبوها وكفلها، ولا كفيل لها إلا هو، إذاً ويكون لها مال ورثته من أبيها، فيعمل على أن يتزوجها ليأخذها هي ومالها. انتبهتم؟ يتيمة في حجره كبرت وبلغت، وآن أوان زواجها وهي ذات مال.. بساتين.. أو أنعام.. أو ما إلى ذلك، فيرى وليها -كافلها- أن يتزوجها لأجل مالها، وقد تكون دميمة غير جميلة، ولكن لأجل المال، وبعد ذلك يسيء إليها؛ لأنه ما يحبها.إذاً: وإن خفتم ألا تعدلوا في يتيماتكم اللائي في حجوركم فزوجوا هذه المؤمنة من غيركم ولا تتزوجوها أنتم، وانكحوا ما طاب لكم من النساء من غيرهن. هذا بيان الله عز وجل وهدايته. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا [النساء:3].أي: تعدلوا. وقد عرفنا أن أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار، وآية: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:15]، والجن قالوا: مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ [الجن:14]، والقاسط: الظالم الجائر. والمقسط: العادل، وكأن الهمزة للسلب أقسط أزال الظلم والجور. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا [النساء:3] أي: تعدلوا فِي الْيَتَامَى [النساء:3] فلا تنكحوهن بل زوجوهن من غيركم، وتزوجوا أنتم ما شئتم: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3].واسمع الآية: وَإِنْ خِفْتُمْ [النساء:3] أيها المؤمنون الكافلون لليتامى أَلَّا تُقْسِطُوا [النساء:3] ألا تعدلوا إن أنتم تزوجتم بهؤلاء اليتيمات لمالهن وعدم العدل. وقد قلت لكم: لما يتزوجها لأجل مالها لا يرغب في جماعها.. ما يرغب في الإحسان إليها؛ إذ همه أنه فاز بمالها؛ فمن خاف منكم ألا يعدل فليزوج هذه المؤمنة من رجل آخر ويتزوج هو ما شاء، أما أن يحتضنها وهي صغيرة ولما تكبر ويعرف أن لها مالاً ورثته يتزوجها فقط لأجل مالها ويفضل عليها زوجة أخرى، ولا يقسط ولا يعدل بينها وبين الأخرى بل همه أنه يأخذ مالها فهذا الخلق فاسد وباطل حرمه الله ومنعه على المؤمنين، وحينئذ: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]. مثنى أي: اثنتين اثنتين، ثلاث: ثلاث. رباع: أربع.وهبط بعض المسلمين وقال: يجوز أن يتزوج الرجل تسعاً. قالوا: الآية شاهدة: (مثنى) يعني: اثنتين، و(ثلاث) صارت خمس، أربع صارت تسع، وعندنا أيام كنا هناك في عالم من هذا النوع تزوج تسع، لكن الناس كلهم أبغضوه وهددوه، وهو يحتج بهذه الآية.والآية من يتولى بيانها؟ أليس رسول الله؟إذاً: فَانكِحُوا [النساء:3] والنكاح هنا بمعنى: التزوج، أي: فتزوجوا مَا طَابَ لَكُمْ [النساء:3].طاب يطيب إذا لذ وحسن وكان صالحاً مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] و(من) بيانية، و(النساء) لفظ دال على متعدد ولا مفرد له من اللفظ، وواحدة نساء: امرأة،كلفظ إنسان واحده رجل، لكن وجد الآن من النساء المتعلمات من قلن: إنسانة، وهذا لا يصح لكن تقول: امرأة، فإنسان اسم جنس يدخل فيه الذكر والأنثى، رجل وامرأة، واحده رجل أو امرأة، أما إنسانة فهي لغة عصرية.قال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى [النساء:3] أي: اثنتين ويكفي، وثلاث لا بأس، وأربع لا بأس، وأما فوق الأربع فحرام بالإجماع ولا يحل لمؤمن أن يتزوج خامسة.وهناك لطيفة وهي: هل على الرجل عدة كما تعتد المرأة؟إي نعم. كيف هذا؟ الرجل الفحل يعتد. قالوا: نعم يعتد بمعنى: يتربص. من هو؟الجواب: رجل تزوج زينب وأراد أن يتزوج من أختها بعد أن طلقها فيجب أن يتربص وينتظر حتى تنتهي عدتها؛ إذ لو تزوجها في العدة يكون قد جمع بين الأختين. إذاً: اعتد ثلاثة أشهر تقريباً.كذلك لو تزوج أربعاً ثم طلق الرابعة فهل يتزوج الخامسة أو ينتظر حتى تنتهي العدة؟ الجواب: ينتطر حتى تنتهي العدة، وبعد ذلك يتزوج، والتي هي خامسة هي رابعة. ‏
معنى قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)
قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3].أي: فتزوجوا واحدة فقط، (فإن خفتم ألا تعدلوا) في أي شيء بين النساء.. بين الضرات، أو الضرتين، أو الثلاث ضرائر. والضرة هي التي تضر بأختها، أو تضرها أختها، ما تضر هي فقط، وهذه اللغة عند العوام من النساء عرب وعجم، الضرة اسمها وليس الطبينة، والطبينة لا ندري من أين جاءت ؟ تطبن ماذا؟ أما تضر فإي نعم.وهنا بلغني عن بعض الأفاضل العلماء عندنا أنهم قالوا: الأصل هو التعدد، وأنا لا أرى أبداً في الآية ما يدل على أن الأصل التعدد، بل الأصل عدم التعدد، فإن احتاج إلى التعدد عدد، وإن استغنى بواحدة فهي الواحدة، الأصل أن يتزوج الرجل امرأة كما تزوج آدم حواء، هذا هو الأصل؛ فإن لم تسد حاجته أو اضطر لأحوال تقتضي التعدد عدد وينتهي إلى الرابعة ويقف عندها.وأما تزوج الحبيب صلى الله عليه وسلم بتسع، واجتمعن في حجراته- وإن كان تزوج إحدى عشرة خديجة ماتت، وأخرى طلقها- فأقول: ذاك خاص بإذن الملك جل جلاله وعظم سلطانه: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [الأحزاب:50]، الملك الحاكم الرحمن الرحيم الذي قصرنا على أربع فتح الباب لرسوله فتزوج تسعاً.ونحن نقول: نحن مع تعدد الزوجات، ولقد شنع القسس والعلماء البريطانيون والألمانيون والفرنسيون وبشعوا الإسلام ولاموا وعتبوا وصاحوا وضجوا وكتبوا وألفوا: كيف يتزوج الرجل أربع نسوة؟ كيف يتزوج اثنتين؟ يؤذي هذه المرأة ويفعل ويفعل ويفعل، وطبقوا ما أوحاه الشيطان؛ فلا يوجد في أوروبا ولا أمريكا من يتزوج اثنتين إلا نادراً.وفي بلد عربي هبط وتمزق وانتهى قننوا بأنه لا يحل لمواطن أن يتزوج اثنتين. ممنوع، وإن شاء يقول: هذه خليلتي، يأذن له القضاء الإسلامي في الدولة العربية الإسلامية أن يتخذ عاهرة يزني بها في بيت آخر، وإن عقد عليها يقول: لا. هذه صديقتنا خليلة. فهمتم هذه اللغة البربرية أم لا؟!أقول: هذا كفر، والذين ما أنكروه وصفقوا له ورضوا به كفروا، وأغلب البلاد الإسلامية لا يمنعون التعدد، وإن كان بعض القضاة يضعون عوارض لكن لا يهم، وهذا البلد هو الوحيد الذي شاع فيه وعرف علناً: ممنوع أن تتزوج باثنتين، ومن اضطر أن يقول: هذه صديقتي خليلتي، ولا يقول: زوجتي أبداً، والعالم الإسلامي سكت ما صاحوا، ولا رفعوا أصواتهم، ومنهم من علم ومنهم من لم يعلم.والشاهد عندنا: علماء الغرب الملاحدة والمتدينين من اليهود والنصارى شنعوا تشنيعاً عجيباً على تزوج اثنتين أو ثلاث وأربع، ورد عليهم علماء الإسلام ردوداً، ومن أراد أن يقف على ذلك فعليه بتفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا تغمده الله برحمته، ففي هذه الآية بالذات ذكر أقوال المستشرقين وتشنيعهم وسخطهم، وذكر الرد الملزم المفحم لهم، ونحن والله لسنا في حاجة إلى أن نرد عليهم إلا بكلمة واحدة هي: أن الذي شرع هذا التشريع أليس هو الله، العليم الحكيم، البر الرحيم، الذي تجب طاعته، والانقياد له، وقبول أمره ونهيه واعتقاد ما أمر باعتقاده؟ مع العلم اليقيني أنه لا يشرع إلا ما فيه خير وصلاح وهداية ورحمة وعدل، ولا يمنع ولا يحرم إلا ما فيه أذى وشر وظلم وخبث وفساد، فمن هنا إذا قال هذا الملحد أو هذا القس أو هذا المستشرق هذا نقول له: تأدب أنت يا هذا، أنت كافر بالله، هذا شرع الله وما هو شرع المسلمين، هذا ما وضعه علماء الإسلام وشرعوه، بل هذا تشريع الرحمن الرحيم، فيستحيل أن يكون غير نافع .. أن يكون غير مصلح، أن يكون غير مثمر .. أن يكون غير رضا له عز وجل. الذي يقف ويقول: الإسلام يفعل كذا، معناه: ازداد في كفره وضلاله وعمى بصيرته، ولا نرهق أنفسنا ولا نتعب ونأخذ نذكر المبررات والمسوغات، كل ما عندنا: أنه لا يحل لك أن تجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع إلا إذا كنت موقناً من العدالة، ومتوفر لك أن تعدل بين هؤلاء المؤمنات؛ فإن خفت ألا تعدل لضعفك وقدرتك الضعيفة نفسياً أو مالياً وتعجز عن العدل حرام أن تعدد، أما قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3] فقط؟ أبعد هذا يشنع الهابطون، ويتكلمون على الإسلام والمسلمين؟كون المسلمين جاروا وما أقسطوا وما عدلوا فذنوبهم ليس ذنب الإسلام هذا ولا شريعة الله، فالمسلم الجاهل الذي أخذته نفسه وهواه وأضر بإحدى المؤمنات أقبل على هذه وأدبر عن هذه، يضحك في وجه هذه ويغضب في وجه هذه، فيعطي هذه الحلل ويعطي هذه الحبال. هذا ما هو ذنب الإسلام ولا المسلمين، هذا ذنب هذا العبد الجاهل؛ لأن الله العليم الحكيم قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3].بداية: قال: اعدلوا في أيتامكم اللائي في حجوركم، لا تتزوجها لمالها ثم لا تعدل بينها وبين ضرتها. أي: لا تحسن إليها لدمامتها أو لعدم أهليتها، إذاً: زوجها من غيرك، ولا تأخذ مالها، وأنت تزوج ما شئت إما اثنتين وإما ثلاث وإما أربع؛ فإن خفت ألا تعدل وخفت الميل فحرام عليك التعدد، ولا يحل لك إلا أن تتزوج بواحدة. ما هو العدل؟ العدل: ضد الميل والانحراف، وأما الأمور التي يجب فيها العدل فهي:أولاً: العدل في السكن. هذه لها غرفتها وهذه لها غرفتها، فإذا كان البيت ذا غرف وحجر فكل زوجة في حجرتها، ولا تجمع بينهما في حجرة واحدة أبداً، عندك حجرة واحدة حرام أن تتزوج اثنتين، ولا يحل أبداً.ثانياً: القسمة في المبيت: الخميس في ليلة زينب، والجمعة في ليلة خديجة، وإياك أن تتجاوز هذه الليلة وتذهب رأساً إلى ليلة الجمعة! حرام عليك ولا يحل.ويكفينا مثلاً أعلى ضربه أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، لما مرض - فداه أبي وأمي - كانوا يحملونه على أكتافهم ليبيت في حجرة فلانة، والليلة الثانية يحملونه ليبيت في بيت زينب .. ليبيت في بيت حفصة .. ليبيت في بيت عائشة . وهذا لتعرفوا العدالة ما هي! ثم عرفت المؤمنات أن هذا يتأذى به رسول الله، وعرفن أنه يرغب في أن يمرض في بيت عائشة ، وطلب منهن بعد رضاهن أن يعلنن عن رضاهن بأن يمرض في بيت عائشة الصديقة فأعلنَّ عن رضاهن، وكيف لا يرضين وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟أما قضية القلب فقد ضرب لذلك المثل، وقال: ( يا رب! هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك )، قضية ميل النفس هذه يملكها الله، أما أن تأتي للمؤمنة وتضطجع معها على فراشها فهذا الحق الواجب، قضية الجماع إذا ما استطعت فمعذور.ثالثاً: العدل في الطعام والشراب، لا أن تأكل البقلاوة عند خديجة وتأكل الكراث في بيت عائشة .. في بيت خديجة المشوي والمصلي هذه الليلة خاصة، وفي بيت المسكينة الأخرى رز حاف بلا مرق أو سليق، بل يجب أن يكون الطعام هو هو. نعم. إذا كانت هذه تحسن الطبخ فهذا شأنها، وأنا علي أن آتي بكيس رز وكيس رز هنا، واللحم الأسبوعي كيلو هنا وآخر هنا، لكن كونها هي تجيد ذلك فشأنها.ثالثاً: العدل في اللباس، في الكسوة، في الفراش، لا أن هذه تفترش حصيرة وهذه تفترش قطيفة .. هذه تستصبح بكهرباء وهذه بفانوس لأنها غير ذات قيمة. لا يحل هذا.رابعاً: العدل حتى في النظرة والابتسامة فلا تنظر إلى هذه وتبتسم وإلى هذه تعبس وتقطب.هذا العدل من فرضه؟ الله جل جلاله ولي المؤمنين والمؤمنات؛ لأنه أعدل العادلين وأرحم الراحمين، ومع هذا يتبجح يهودي أو نصراني هابط ويقول: كيف يتزوج المسلم أربع ليؤذي النساء ويفعل ويفعل ويفعل؟فلو جاءني هذا المستشرق يريد أن يتكلم بمثل هذا الكلام نقول له: الذي شرع هذه الشريعة الله وإلا أنت أو أبي أو أبيك؟ شرعها الله رب العالمين، أليس تعرفونه بأنه أرحم الراحمين وأنه منزل العدل وفارضه على الخلق، فكيف إذاً يأذن في هذا الذي تقول؟أأنت أعلم من الله؟ فإن قال: نعم فهو مجنون تقول له: اذهب عن وجهي، ولا نقبل جداله.والآية نص صريح: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ [النساء:3]، هذا أذن إباحة، فما فرض الله علينا أن نعدد الزوجات، فإن كانت الزوجة قد عجزت وضعفت فاتفق معها وهي التي تخطب لك، وتأتي بزوجة أخرى.امرأة مات عنها زوجها فأصبحت أرملة تبيت تبكي خائفة، فتقول الزوجة لزوجها: يا فلان! نأتي بهذه تعيش معنا لوجه الله، لا نستطيع أن نتركها بدون زواج، فيقول لها: لا يحل لي أن أنظر إليها ولا أن أخلو بها، فمضطر لا بد من عقد نعقد عليها وتعيش معكم، ولا بأس أن تكون لها غرفتها وليلتها، وكلنا أولياء الله وعبيد الله.أي مانع؟ فكل أزواج الرسول تزوجهن -ما عدا خديجة- من أجل هذا الإحسان، المرأة يموت زوجها في الجهاد وتبقى تبكي من يؤويها؟ يؤويها رسول الله؛ إذ لا تسكن نفسها ولا تستريح إلا في بيت النبوة. كم تزوج الرسول من بكر؟ والله ما تزوج إلا عائشة فقط، وما كان تزوجه للغريزة الجنسية أبداً.والآن غلبناكم، يأتي بخادمة وما تكفيه يأتي بأخرى وثالثة، وتظهر لأول مرة أنها متزوجة، تترك زوجها في إندونيسيا في أفريقيا وتأتي، كيف هذا؟ في أي كتاب أو سنة هذا؟ امرأة تترك زوجها وتذهب تشتغل وراء البحر في أسرة؟ هذا يدمي القلب هذا، ومؤمنة، ورضينا بهذا، فبدل ما تأتي بخادمة أو خادمتين تزوج أرملة من النساء وآوها وضمها إلى بيتك واحفظها وعلى زوجتك أن تفرح بذلك وتقر عينها، ويجب أن تتطامن وتذل لله عز وجل.المهم إن شكونا نشكو جهلنا، وعدم بصيرتنا، وعدم يقيننا وجهلنا، هذا الذي صب علينا هذا البلاء، أما تشريع الله فإنه أعظم تشريع يحقق البر والخير والرحمة والعدالة والإخاء والمودة، وأما العلة فنحن.
الرد على من يقول بدوران الأرض
وصلتني رسالة من أحد الطلبة، وهو كتاب يريد أن يقنعني به أن الأرض تدور، فنقول: إن الله عز وجل يقول: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس:38].العزيز: القوي الذي لا يقهر، الذي لا يمانع في شيء أراده، الله الذي يقول للشيء كن فيكون.العليم: الذي أحاط علمه بكل ذرات الكون قبل أن يكون الكون.لما يخبر بهذا الخبر يأتيني عالم كوني، ويقول: اسمعوا! خطأ. الشمس ثابتة والأرض هي التي تدور حولها. ما تقولون يرحمكم الله؟ أتكفرون من أجل هذا الملحد.. هذا الكافر الذي يبول ولا يستنجي؟هل نرضى بالكفر من أجل نظرية شخص ساقط هابط الخنزير أفضل منه عند الله؟ثانياً: هناك آيات يقول الله فيها: جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا [النمل:61]، قال: (الأرض قراراً) يعني: أن الناس هم القارون أما هي فليست قارة. الرسول جهل هذا وما عرفه؟ ما قال: أيها المؤمنون إن مراد الله من قرار الأرض أنكم أنتم القارون، أما هي فليست بقارة؟ والرسول حاشاه أن يقف هذا الموقف، فهذا الموقف لا يقفه إلا مجنون.. إلا ملحد.. إلا ماكر خادع.نحن لنا الحواس الخمس وإلا لا؟ بأبصارنا هل شاهدنا الأرض تدور؟ نحن الآن ساعة وربع على الكرسي هل نجد أنفسنا قريبين من الرياض مشت؟! هذا المسجد النبوي ألف وأربعمائة سنة ما تزحزح أبداً، باق في مكانه، فهل نقول: قار وإلا نقول: طائر؟ قار.إذاً: كيف نفعل؟ والحقيقة التي يجب أن تعتقد: أن ما أخبر الله تعالى به يستحيل أن يكون خلاف ما أخبر؛ وذلك لسابق علمه وقدرته.ثالثاً: ثم إذا بحثوا وعرفوا أعطونا نتائج يستنتجونها للبشرية، إذا قال الأرض: ليست بقارة والشمس واقفة أعطونا النتائج، ما نمرض، يتوفر الطعام والشراب. أعطونا النتيجة؟ لا شيء قط، لا مطر يكثر ولا يقل، ولا شمس تستحر ولا تبرد، ولا ولا، الأرض هي هي والعالم هو هو.وسر القضية وهي: أن هؤلاء الملاحدة أرادوا أن يكفروا البشرية بربها؛ لأن هذا من وضع اليهود، هم الذين أوجدوا هذه المبادئ لتكفير من يؤمنون بالله؛ فخرجوا على العالم - منذ خمسين سنة أو سبعين سنة فقط- بمقولة: أن الأرض تدور والشمس واقفة، وهذا القرآن خرافة، وقد اكتشفنا واطلعنا وليس هذا صحيحاً والقرآن كله خرافة. إذاً: والله خرافة في أذهانكم فقط!والله العظيم لهذا هو الباعث لهم، والدافع لهم على أن يقولوا هذا!وقلنا: لو كانوا ربانيين ووجدوا فائدة عظيمة في إفادة البشرية بأن الأرض تدور وليست بقارة لكانوا يقولون، لو وجدوا في هذا ما يزيد في إيمان المؤمنين لقالوا: سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله! الأرض اكتشف أنها تدور في فلكها، ومن عجيب قدرة الله، من عجيب رحمة الله، من عجيب ألطاف الله، من عجيب إحكام الله، أن ذلك الدوران الدائر بذاتها، وأقر الله كل شيء فوقها، لا تتزعزع ولا تزول حتى يأتي أمر الله، الله أكبر! يجب أن نؤمن بالله، يجب أن نركع ونسجد. هذا هو الموقف لو كانوا يريدون الإيمان بالله، هم لا يريدون إلا زعزعة الإيمان، وقد نجحوا فثلاثة أرباع المسيحيين ملاحدة بلاشفة لا يؤمنون بالله، وعامة من تعلم عنهم أيضاً من المسلمين عقيدته مزعزعة وهابطة.الله يخبرنا بالواقع: الأرض أرساها لئلا تميد بكم، لو كانت تميد وتميل لانهدم البناء في كل أسبوع، ثابتة في مكانها شرق غرب أنت عليها، تريد أن تتجاهل هذا كله وتفيد الناس بشيء آخر ماذا تفيدهم؟ إلا أنك تكذب الله، وتكفر به.معشر المستمعين فهمتم كلامي وإلا لا؟ نحن نبحث عما يزيد في إيماننا بالله وحبنا فيه، لسنا في حاجة إلى نظريات لا تغني.أنا قلت لهم: إلى الآن عرفتم كذا، ماذا أفدتم البشرية؟ أكثرتم الأمطار، حولتم الجو الحار إلى بارد؟ أفيدونا، ماذا استفدنا من هذه النظريات؛ إذ منشؤها والله ما هو إلا تكفير البشرية بربها؟وأنتم تعرفون قضية القمر كيف تبجحوا وطاروا وهبطوا، ما مضت ثلاثون سنة حتى كذبوها، قرأناها يوم ما بدأت في الجرائد المصرية: احجز رحلة إلى القمر! ونحن نصفق كالبهائم، الآن الرائد الأمريكي منذ سنتين أعلن رسمياً أنه كذب وما طلع القمر، ولن يطلع إليه.فتلك النظريات من أسوأ ما تكون، ما هي فائدة الطلوع إلى القمر؟ ننزل هناك ونسكن؟ مستحيل أن تموت يا ابن آدم في غير الأرض التي خرجت منها: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [طه:55]، هذا ابن مريم .. هذا عيسى مخلوق من الأرض، والله ليعودن ليموت عليها ويدفن فيها، إذاً: ما فائدة التبجح في إلى الطلوع إلى القمر؟القضية عرفناها وبينا أنها لزعزعة الإيمان، يريدوا من البشرية أن تصبح بهائم ينزو بعضها على بعض؛ لأن من كفر بالله وما أيقن به لا فرق بينه وبين البهائم.هذا والله تعالى أسأل أن يثبتنا، وأن يرزقنا نوره وهدايته، اللهم آمين.

ابو وليد البحيرى
2019-04-28, 06:00 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (24)
الحلقة (248)
تفسير سورة النساء (30)


بعد أن بين الله عز وجل لعباده ما يجب من الحقوق تجاه ربهم سبحانه أولاً، ثم تجاه والديهم، ثم تجاه الأقربين وسائر من يرتبط معهم العبد بعلاقة، بعد ذلك كله حذرهم الله عز وجل من اتخاذ الشيطان قريناً؛ لأنه إنما يأمر أولياءه بالفحشاء وينهاهم عن البر والتقوى، ويفتنهم عن فعل الصالحات، والإنفاق ابتغاء مرضات الله واليوم الآخر، ودعاهم سبحانه إلى تصحيح إيمانهم والاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى.
تفسير قوله تعالى: (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ...)
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء ومع هذه الآيات الخمس، ولعلنا ننهيها في درسنا هذا، هيا نتلو الآيات الخمس وقد درسناها إلا الآية الخامسة منها، وهي قوله تعالى: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [النساء:39]. وَمَاذَا عَلَيْهِمْ [النساء:39].أولئك الذين كفروا بالله وبلقائه وحملهم ذلك الكفر على أبشع أنواع الظلم والخبث والشر والفساد، حتى أصبح الشيطان قريناً لهم، فليراجعوا أنفسهم، ماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر، ما الذي يترتب على إيمانهم سوى نفعهم وكمالهم وسعادتهم وطمأنينة نفوسهم وشعورهم برضا الله عز وجل؟ فما الذي يمنعهم من الإيمان؟ فإذا آمنوا بالله حق الإيمان واستقاموا على منهجه طاعة له ولرسوله يفعلون المأمورات ويجتنبون المنهيات، هل هذا يضرهم.. يفقدهم حياتهم.. أموالهم.. عزهم.. كرامتهم؟ ما الذي ينقصهم؟ استفهام للتعجب، وهذا من مظاهر رحمة الله بعباده مع ما وقفوه من ذلك الموقف وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:38]، وسبب ذلك: مقارنة الشيطان لهم، وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38]، هؤلاء ماذا عليهم لو آمنوا بالله حق الإيمان؟ لأن المنافقين أكثرهم يؤمن بوجود الله، واليهود كذلك يؤمنون بالله وباليوم الآخر، ولكنه إيمان غير سليم ولا صحيح.وقد عرفنا -وزادكم الله وإياي معرفة- أن الإيمان إذا صح وسلم أصبح صاحبه يعيش في كنف الله ورضاه، وأصبح لا يشعر بآلام هذه الحياة، وأصبح همه أن يلقى ربه وتصبح الآخرة خيراً له من الدنيا، لا يستبدل بها شيئاً من متاع هذه الحياة، وإذا أُمر وجد نفسه قادراً على أن ينهض بالأمر ولو كان فيه مشقة، وإذا نهي عن شيء وجد في نفسه القدرة على التخلي عنه والبعد عنه مهما كان، وذلك لصحة إيمانه وسلامته، هذا الإيمان إذا انعدم بالمرة، وأصبح المرء كافراً بالله ولقائه، هذا الكافر في قضاء الله حكمه حكم الجمادات والأحجار والحيوانات، لم يبق فيه خير قط، وإذا مات على ذلك فهو شر من كل ذي شر من هذه المخلوقات، إذ قال تعالى فيهم: أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] أي: الخليقة.إذاً: الإيمان الضعيف يقوى على فعل واجب ويعجز عن آخر، يقدر على أن يجتنب سوءاً ويعجز عن اجتناب آخر، فيبقى في مرضه؛ فإن وافاه الأجل ومات على كبيرة من كبائر الذنوب هلك، وإن تاب الله عليه وختم له بحسن الخاتمة نجح.مرة ثانية: الإيمان الصحيح، هذا الذي ينجي ويسعد، ويكمل ويطهر، أما الإيمان الضعيف وجوده لا أقول كعدمه، ولكن صاحبه مريض، ما يكمل ولا يسعد في الدنيا ولا في الآخرة.فقوله تعالى في هذه الآية: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ [النساء:39]. أي شيء يصيبهم. لَوْ آمَنُوا [النساء:39]. حق الإيمان بالله رباً وإلهاً، لا إله غيره ولا رب سواه، وباليوم الآخر ولقاء الله فيه للحساب والجزاء، إما بالنعيم المقيم في دار السلام، وإما بالعذاب الأليم في دار البوار والشقاء والهلاك.تعجب من حالهم، وفي نفس الوقت مظاهر رحمة الله بعباده تدعوهم إلى النجاة إلى السعادة والكمال؛ لأن إيمانهم بالله واليوم الآخر لا ينقص كمالهم ولا سعادتهم ولا وجودهم ولا شيء، بل العكس يحقق لهم ما يحلمون به أو يفكرون فيه من أنواع السعادات في الدنيا والآخرة.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
نتلو الآيات الخمس مرة ثانية ونتتبعها في الشرح لنتأكد من صحة ما علمنا، ولنتهيأ أيضاً للقيام بما وجب علينا من هذه الحقوق العشرة، وتأملوا.
حق الله في العبادة وحده لا شريك له
قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36].وهذا معنى لا إله إلا الله، يا من قلت لا إله إلا الله يجب ألا تلتفت إلى غير الله لا بقلبك ولا بوجهك، أسلم لله وجهك وقلبك؛ إذ أنت اعترفت بأنه لا يستحق العبادة إلا هو فاعبده، وأفرده بالعبادة، وخصه بها، ولا تشرك معه سواه. هذا حق الله، مقابل أن خلقنا ورزقنا، وخلق الحياة هذه من أجلنا، وخلق عالم السعادة والشقاء من أجلنا، أصبح صاحب حق وإلا لا؟إذاً: حقه أن نعترف به فنشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونعبده بما أمرنا أن نعبده به، إن قال: صوموا صمنا، وإن قال: أفطروا أفطرنا، إن قال: طلقوا طلقنا، وإن قال: تزوجوا تزوجنا، هذه أمثلة إذ الطاعة استجابتك لأمر الله إذا أمرك واستجابتك لنهيه إن نهاك فانته وابتعد، ثم فرغ قلبك لله، لا تخف.. لا ترج.. لا تطمع.. لا تسأل.. لا تبك بين يدي مخلوق إلا بين يدي الله؛ إذ لا إله إلا الله. هذا حق.
حق الوالدين في الإحسان إليهما
والحق الثاني: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [النساء:36].حق الوالدين أن نحسن إليهما ولا نسيء أدنى إساءة، وقد عرفنا أن الإحسان إلى الوالدين يتمثل في طاعتهما في المعروف، إذا أمرتك أمك يا عبد الله، أو أمرك أبوك يا عبد الله، بقول أو فعل أو ترك أمر لم يمنعه الله منه ولم يحرمه يجب أن تطيعه، فإن أمراك بمعصية الله. لا، لماذا لا؟ لأن طاعة الله قبل طاعة الوالدين وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، وطاعة الوالدين بالإحسان بهما، وذلك بطاعتهما في المعروف، وكف الأذى عنهما، مطلق الأذى حتى الكلمة العالية، ثم إسداء المعروف، وتقديم الخير في حدود ما تطيقه. هذا مقابل أن أمك حملتك في بطنها تسعة أشهر، وتحول دمها إلى لبن خالص من أجلك لترضع ولترتوي وتكبر، أبوك يعمل الليل والنهار من أجل تغذيتك وكسوتك والحفاظ عليك، بم تقابل هذا الحق؟ بطاعتهما، يا عبد الله اربط البهيمة يربطها، عبد الله اسكت اسكت، ولكن: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )، قاعدة قعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الطاعة في المعروف لا في المنكر.
وجوب أداء الحقوق إلى سائر أصحابها
قال الله تعالى: وَبِذِي الْقُرْبَى [النساء:36].الحق الثالث: أقرباؤك من أمك وأبيك صلهم ولا تقطعهم، أحسن إليهم ولا تسيء إليهم، وعاملهم بالمعروف.. بالحسنى.. بالكلمة الطيبة، والنظرة الباسمة، والطاعة في المعروف، وبذلك ما استطعت من خير لهما، ودفع الأذى والشر عنهما، ولا ترضى بأذيتهما ولا بنقصناهما، بل افرح بكمالهما وسعادتهما، أقرباءك. وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36]، هؤلاء هم أصحاب الحقوق العشرة.وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36].العلة: لأن الذي يمنع حقوق بالله عز وجل سببه مرض الكبر والاختيلاء في نفسه، الذي يمنع هؤلاء حقوقهم ما سبب المنع؟ الشعور بالعزة والارتفاع والتعالي سبب مرض الكبر، فإذا علمت أن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً إذاً فطهر نفسك من هذا المرض ونقها تنقية كاملة، تطامن تواضع، اعرف من أنت وما مستقبلك، وحينئذ لا تنكر معروفاً ولا تجحده، ولا تأتي منكراً ولا تفعله.
التحذير من صفة البخل
قال: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37].وقد وقفنا على هذه ساعة، يبخل ويأمر الناس بالبخل، يفسد ويأمر الناس بأن يفسدوا، فهذا الموقف لا يقفه عبد آمن بالله ولقائه، على فرض بخل هو شح ما يأمر الناس بأن يبخلوا ويشحوا ولا يعطوا المعروف ولا يبذلوه، وقد عرفتم كان هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبقى إلى يوم القيامة، يوجد أشخاص ما يحبون الخير، إذا رأوك تبذل معروفاً ما يريدون ينهونك.. يخوفونك من الفقر.. يحذرونك. يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37].هذه الصفة انطبقت على اليهود في المدينة، وما زالوا إلى اليوم يكتمون ما آتاهم الله من العلم، والله إن كبراءهم وأحبارهم وعلماءهم ليعرفون أنه لا نجاة للإنسان إلا بالدخول في الإسلام، وأنه لا كمال ولا طهر ولا صفاء على الأرض ولا في الملكوت الأعلى إلا بهذا الدين الذي وضع الله قوانينه وشرائعه من أجل إسعاد الآدميين وإكمالهم وإكرامهم، يعرفون هذا في التوراة، بل والله يعرفونه في القرآن، ووقفوا عليه وعرفوه، ويكتمونه ويجحدونه، ولا يرون إخوانهم أبداً صورة مشرقة للإسلام، بل يبغضونهم في الإسلام والمسلمين، وحالهم كحال الرهبان من النصارى أيضاً، لم؟ لما علمنا من أن اليهود يريدون أن يعيدوا مجدهم ودولتهم ومملكتهم، فمن هنا لا يريدون إنساناً يكمل أبداً، بل يعملون بوسائل التدمير والتخريب والإفساد حتى تصبح البشرية كالبهائم وحينئذ يسوقونها حيث شاءوا.وقد قلت وكررت القول: والله إن أعمال الخبث ومظاهر الشر والفساد، وإفساد العقول والأخلاق والآداب، والإبعاد عن عبادة الله، ليد اليهود هي التي تنشر هذا الباطل حتى تبقى البشرية كالبهائم.وقلت لكم وأكرر: الشيوعية القائمة على مبدأ لا إله والحياة مادة، لا إيمان بالله ولا باليوم الآخر، هذا المبدأ أوجده اليهود وصنعوه وقدموه، ونجحوا في ذلك وخاصة في النصارى في المسيحيين، كان في النصارى رأفة، كانت فيهم رحمة، كان فيهم نوع من العدل، لما كانوا يؤمنون بالله ولقائه والدار الآخرة، فلما نشروا المذهب البلشفي فيهم ثلاثة أرباع النصارى ألحدوا وكفروا، وما أصبحوا يؤمنون بالله ولا بلقائه، لا عيسى بابن الله ولا هو الله، ومن ثم ظهر الخبث والشر والفساد والباطل، ظهرت أندية اللواط والعهر، والعجب العجاب.أزيدكم: كانت المسيحية تسبل على وجهها قطعة من القماش الأسود ولا تكشف وجهها أمام العالم، فما الذي كشف الوجوه والفروج؟ اليهود، فلاحظ الفتاة كاشفة عن فخذيها.. عن ساقيها.. عن رأسها، والرجل يلبس بنطلوناً يجره في الأرض، واليهود يضحكون يسخرون، المرأة التي بالفطرة تكون مستورة مغطاة محفوظة ما تخرج أبداً إلا مستورة تلبس المينجيب والمكيروجيب وتخرج في الشوارع، والفحل يلبس سروالاً إلى تحت الكعبين، واقع هذا وإلا لا؟ من نفخ هذه الروح؟ اليهود وهم يضحكون ويسخرون.على كل حال قال تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:37].أحضرناه وهيأناه، ما إن يفقد الآدمي جسمه وتستقل عنه روحه إلا وتلقى تلك الروح من أنواع العذاب المهين الذي يذل ويهين ما لا يتصوره الإنسان، ولا يدرك حقيقته في العالم الأسفل.
التحذير من طاعة الكافرين
وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [النساء:38-39].معاشر المستمعين والمستمعات! هذا كلام الله، من هو الله؟الجواب: الذي خلق هذه العالم كلها ويديرها إدارة الحكيم العليم، يميت ويحيي.. يعز ويذل.. يعطي ويمنع.. يصحح ويمرض، بهذا النظام العجب، ومنذ آلاف السنين، وإذا قلت: نريد ما يعرفني به أكثر؟ ما عندك أكثر من كلامه، هذا كلامه، هل يتصور هل يعقل يوجد كلام بدون متكلم؟ مستحيل، يوجد موجود بدون موجد؟ مستحيل ولو هذه الورقة، هذا الله جل جلاله يحب أولياءه وينصرهم، هو الذي أنزل هذا الكتاب وبعث هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فلهذا اسمع الله تعالى يقول من سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100] لبيك اللهم لبيك، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] اليهود والنصارى، يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، هذا خبر الله وإلا لا؟ في من ينقضه؟ والله ما ينقضه ويستحيل، إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] ما قال: إن تطيعوا الذين أوتوا الكتاب؟ لا. لكن فريقاً منهم، وهم الذين يدعون العلم والمعرفة.. و.. و.. ، فإن أنتم أطعتموهم ردوكم بعد إيمانكم كافرين.وما أصاب العالم الإسلامي من الإلحاد والعلمانية وزيغ القلوب.. أكثر ما أصاب الذين جلسوا بين يدي أولئك العلماء وتخرجوا عنهم في كلياتهم ومدارسهم في ألمانيا.. في أمريكا.. في بريطانيا، وأكثر المسئولين في العالم خريجو تلك الجامعات، درسوا عن من؟ جلسوا بين يدي من؟ كافر وإلا لا؟ كيف لا ينفخ فيهم روح الكفر؟ واسألوهم تجد قلوبهم ميتة، وإنما يجاملون فقط البلد الذي هم فيه، أصيبوا بهذا المرض، وهذا هو الله جل جلاله يخبر بهذا الخبر في نداء عجيب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، فالذين يسخرون من الشريعة الإسلامية ويستهزئون بها، ويعدونها تخلفاً ورجعية من هم: عوام المسلمين؟ والله للذين درسوا على أيدي الكافرين، وتخرجوا من كلياتهم وجامعاتهم.
رحمة الله بالناس بإرسال الرسل إليهم
ثم تتجلى رحمة الله تعالى بنا فيقول: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101].(وكيف تكفرون)، كيف يتأتى لك يا عبد الله المؤمن أن تكفر وأنت تتلى عليك آيات الله، وبين يديك رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فوضع البلسم الشافي والدواء النافع، وهو إذا كان الطالب الذي يدرس على أيدي الكافرين يتلو كتاب الله، ويعيش على سنة رسول الله يتحقق له بذلك العصمة، ولن يستطيع الكافر مهما كان أن يؤثر على هذا المؤمن ما دام يتلو كتاب الله أو يسمعه، وما دام يعيش على سنة رسول الله ويعلمها.الرجاء من المستمعين أن يفهموا هذه:أولاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100]، ما الذي يحصل؟ جوابه: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وبعد؟ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] من أين يأتيكم الكفر بعد الإيمان؟ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101].فمن هنا الحصانة والمناعة للمؤمنين ألا يتخلوا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.وهذا الذي نطالب به: مساء كل يوم أهل القرية أو أهل الحي يجتمعون في بيوت ربهم اجتماعنا هذا يتلون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من أين يأتيهم الكفر؟ هم يقلبون الكفر إلى إيمان، والجحود إلى اعتراف؛ لكمال حياتهم، أما مع تخلينا وبعدنا عن الكتاب والسنة فالذي حصل هو ثمرة ذلك ونتيجته.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
إليكم شرح هذه الآيات كما في الكتاب وتأملوا.‏
معنى الآيات
قال: [ ما زال السياق الكريم في هداية المؤمنين وبيان الأحكام الشرعية لهم ليعملوا بها فيكملوا ويسعدوا، ففي الآية الأولى يأمر تعالى المؤمنين بعبادته وتوحيده فيها وبالإحسان إلى الوالدين، وذلك بطاعتهم في المعروف، وإسداء الجميل لهم، ودفع الأذى عنهم، وكذا الأقرباء واليتامى والمساكين والجيران مطلقاً أقرباء أو أجانب، والصاحب الملازم الذي لا يفارقك كالزوجة والمرافق في السفر والعمل والتلمذة والطلب.. ونحو ذلك من الملازمة التي لا تفارق إلا نادراً، إذ الكل يصدق عليه لفظ الصاحب بالجنب، وكذا ابن السبيل وما ملكت اليمين من أمة أو عبد، والمذكورون الإحسان إليهم آكد وإلا فالإحسان معروف يبذل لكل الناس، كما قال تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وقال وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36] -هذا اللفظ- دال على أن منع الإحسان الذي هو كف الأذى وبذل المعروف ناتج عن خلق البخل والكبر وهما من شر الأخلاق. هذا ما دلت عليه الآية الأولى.وأما الآية الثانية وقد تضمنت بمناسبة ذم البخل والكبر التنديد ببخل بعض أهل الكتاب وكتمانهم الحق وهو ناتج عن بخلهم أيضاً، قال تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37] أي: من مال وعلم، وقد كتموا نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته -الدالة عليه- في التوراة والإنجيل، وبخلوا بأموالهم وأمروا بالبخل بها، إذ كانوا يقولون للأنصار: لا تنفقوا أموالكم على محمد فإنا نخشى عليكم الفقر.وخبر الموصول (الذين) محذوف تقديره هم الكافرون حقاً، دل عليه قوله: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:37]. هذا ما جاء في هذه الآية الثانية. أما الآيتان الثالثة والرابعة؛ فإن الأولى منهما قد تضمنت بيان حال أناس آخرين غير اليهود وهم المنافقون، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ [النساء:38] أي: مراءاة لهم ليتقوا بذلك المذمة ويحصلوا على المحمدة، وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:38] لأنهم كفار مشركون، وإنما أظهروا الإسلام تقية فقط، ولذا كان إنفاقهم -المال- رياء لا غير.وقوله: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38] أي: بئس القرين له الشيطان، وهذه الجملة: ومن يكن الشيطان له قرين؛ دالة على خبر الموصول المحذوف اكتفي به عن ذكره كما في الموصول الأول، وقد يقدر بمثل: الشيطان قرينه هو الذي زين لهم الكفر، وهو كذلك. هذا ما تضمنته الآية الثانية وهي قوله تعالى: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [النساء:39] فقد تضمنت الإنكار والتوبيخ لأولئك المنافقين الذين ينفقون رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؛ بسبب فتنة الشيطان لهم وملازمته إياهم، فقال تعالى: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ [النساء:39] أي: أي شيء يضرهم أو أي أذى يلحقهم في العاجل أو الآجل لو صدقوا الله ورسوله وأنفقوا في سبيل الله مما رزقهم الله، وفي الخطاب دعوة ربانية لهم بتصحيح إيمانهم واستقامتهم بالخروج من دائرة النفاق الذي أوقعهم فيها القرين -عليه لعائن الله- إبليس، فلذا لم يذكر تعالى وعيداً لهم، وإنما قال: وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [النساء:39].وفي هذا تخويف لهم من سوء حالهم إذا استمروا على نفاقهم، فإن علم الله بهم مستوجب الضرب على أيديهم إن لم يتوبوا ] تاب الله علينا وعليهم.
هداية الآيات
الآن مع هداية هذه الآيات، هيا نراجع استنباط الهدايات.[ أولاً: تقرير عشرة حقوق والأمر بأدائها فوراً، وهي: عبادة الله وحده، والإحسان بالوالدين، وإلى كل المذكورين في الآية ].مرة ثانية: من هداية هذه الآيات: أولاً: تقرير وإثبات عشرة حقوق على كل مؤمن أن ينهض بها ويأتي بها طاعة لله ورغبة في ما عند الله.تقرير عشرة حقوق والأمر بأدائها فوراً، وهي: عبادة الله وحده، والإحسان بالوالدين والأقرباء، إلى غير ذلك من العشرة المذكورين في الآية.[ ثانياً: ذم الاختيال -الناتج- الناجم عن الكبر وذم الفخر، وبيان كره الله تعالى لهما ].واسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذم الاختيال، ففي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى لا ينظر إلى من جر ثوبه خيلاء )، الذي يطيل ثوبه ويجره في الأرض خيلاء هذا مبغوض لله، والله ما ينظر إليه، فلهذا أمرنا ألا يزيد ثوب أحدنا عن كعبيه أبداً، لا يطول ثوبك، برنوسك، سروالك، أي شيء تلبسه على الكعبين، عند الكعبين يقف، خوفاً من أن يبغضنا الله بغضاً، فلا ينظر إلينا أبداً. ( إن الله لا ينظر إلى من جر ثوبه خيلاء ).ويقول صلى الله عليه وسلم في البخل: ( وأي داء أدوأ من البخل؟ ) أي: أكثر ضرراً من البخل؟ لا شيء.ويقول: ( إياكم والشح ) والشح والبخل بمعنى واحد، إلا أن الشحيح باخل وحريص على المال، والبخيل قد يمنع ويبخل وما هو بالحريص، فالشح شر من البخل، ولذا يقول: ( إياكم ) احذروا. ( إياكم والشح؛ فإنه أهلك من كان قبلكم ) كيف؟ قال: ( أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ) هذان الخلقان أو هذا الخلق من شر الأخلاق، والآية الكريمة من هدايتها: [ ذم الاختيال، وحرمة البخل والأمر به، وحرمة كتمان العلم وخاصة الشرعي ] فالذي يبخل بالمال كالذي يبخل بالعلم. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة ) من كتم علماً والناس في حاجة إليه وجحده لاعتبار من الاعتبارات جزاءه يدخل النار ويلجم بلجام منها يتميز به بين أهل النار لأنه كتم العلم الشرعي، وأول من يتناول هذا اليهود الذين إلى الآن يكتمون العلم عن الناس، وكل ذي علم عرف عن الله وسئل فكتم داخل في هذا.[ ذم الاختيال الناجم عن الكبر وذم الفخر، وبيان كره الله تعالى لهما.ثالثاً: حرمة البخل والأمر به ].وهل هناك من يأمر بالبخل؟ إي نعم. قد تجد الرجل يأمر ولده بالبخل، يجد أن ولده منفقاً أو يتصدق ينهاه. لا تفعل.[ رابعاً: حرمة الرياء وذم صاحبه ].ما الرياء؟ أن يعمل العبد العمل الإصلاح الخيري من أجل أن يراه الناس. وقد بينت لكم ذلك: الناس ثلاثة، فأكملنا الذي يعمل العمل ولا يريد أن يراه أحد إلا الله، ويتألم إذا أثني عليه أو مدح به، ما يريد، يعمل العمل ولا هم له إلا رضا ربه فقط سواء كان مالاً أو كان عبادة، هذا من المقربين. والرجل الثاني يعمل العمل ولا يريد إلا الله، لكن يحب أن يحمد أو يثنى عليه بخير، ويجد في نفسه رغبة لذلك، مع أنه ما فعله ولا قام به إلا لله طاعة لله وتقرباً إليه، لكن إذا أثنى عليه أو امتدحه سر بذلك وفرح، وهذا دون الأول.مرة ثانية: هذا يقوم يصلي في الليل يتهجد، ينفق ماله في سبيل الله، يدعو إلى الله، ولا هم له إلا الله، أمر به ربي أنا أطيعه، لكن يجد في نفسه فرحاً وسروراً إذا أثنى عليه إخوانه أو امتدحوه أو ذكروه بخير، هذا غير الأول وإلا لا؟ الأول ما يريد أبداً أن يطلع أحد أو يتكلم فيه.الرجل الثالث الهالك هو عندما يقوم يفعل الخير ما يريد الله ولا رغبة في الله ولا في طاعته، فقط يريد هذا العمل من أجل أن يشكر ويثنى عليه ويحمد، أو من أجل أن يشيع ويذيع صيته بين الناس، كبعض التجار الكبار ينفقون لأجل التشهير بسلعتهم وبضاعتهم في الجرائد وفي غيرها. هذا الذي ينفق نفقة أو يعمل عملاً صالحاً وهو لا يريد رضا الله ولا حب الله ولا ما عند الله، فقط يريد أن يرفع عنه المذمة، حتى ما يقال: بخيل أو شحيح أو لئيم؛ فينفق ليقال: كريم وسخي، أو ينفق للاعتبارات حتى يبقى بين الناس محترماً، فهذا هو المنافق وهو الذي ينفق لغير الله، فاذكروا هذه القضية برجالها الثلاثة.أفضلهم الأول، وهو الأول الذي ما يريد أن ينظر إنسان إليه أبداً، يريد الله فقط، هذا أكمل المنفقين العاملين.الثاني: لا يريد بعمله إلا الله، يعطي ماله.. يعطي كلمته.. جهده طاقته يريد التقرب إلى الله والتزلف إليه ليحبه ويرضى عنه ويكرمه ويسعده، لكن في نفسه هوى؛ إذا أثني عليه إذا حُمد يفرح بذلك، وأذن الرسول بذلك، ما يضرك هذا، لأنك أول ما فعلت إلا لله، فإذا جاء حمد أو ثناء فهذا فضل الله أيضاً عليك.وشر الناس الذي يعمل الصالحات الخيرات من إنفاق وهو لا يريد الله، إما لكفره بالله. كالمنافق والكافر، وإما لضعف إيمانه وعدم بصيرته إذا تصدق.. إذا قال.. إذا كذا.. يريد حمد الناس له وثناؤهم عليه، هذا هالك وخاسر والعياذ بالله.[ خامساً: ذم قرناء السوء ].يا عبد الله! يا أمة الله! لا تجالس إلا عبداً صالحاً. يا رجل! لا تتزوج إلا امرأة صالحة، يا مؤمنة! لا تتزوجي إلا رجلاً صالحاً، يا من يريد العمل! لا تعمل إلا مع عبد صالح حتى في رعاية غنم أو إيجاد مزرعة أو عمل، يجب علينا أن نتعاون ومن باب التعاون أن نتعاون مع الصالحين، وقد عرفتم الحديث الشريف: ( مثل الجليس الصالح وجليس السوء ) ما مثلهما؟ الأول كبائع عطر، تجلس إليه تشم رائحة أو ينفحك منه شيئاً، ومثل الجليس السوء كنافخ الكير، إما ينالك الدخان والنتن أو تحترق ثيابك. ومن هنا ما يبقى في القرية فاسد، يهزئونه ما دامت أخلاقه هابطة، سلوكه شائن ما يريده الناس مع من يجلس إذاً؟ يضطر إلى أن يتوب وأن يستقيم، والله العظيم. ما يستطيع أن يعيش في القرية والناس كلهم ملتفتون عنه لا ينظرون إليه ولا يجالسونه.أما قال تعالى: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38] قبح هذا القرين. كيف الشيطان يكون قريناً لك؟ لأنه يأمرك فتطيع، ينهاك فتطيع، يزين لك القبيح فتزينه، حتى يملكك ويصبح من جسمك، فلا يفارقك ليلاً ولا نهاراً.[ ذم قرناء السوء لما يأمرون به ويدعون إليه قرناؤهم حتى قيل ].هذا بيت شعر عن الأولين.[ عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي ].يا عبد الله! لا تسأل عن فلان كيف حاله، اسأل عن قرناه من هم؟ إذا كان الحشاشين أو الخمارين أو المقامرين أو المتلصصين يكفيك، لا تسأل عنه؛ لأنك إن سألت عنه قد لا تجد الجواب الحقيقي، لكن إذا سألت: من يجالس فلان؟ من هم الذين معه؟ فإذا وجدتهم صالحين أبشر، لن يكون هو إلا صالحاً، وإذا عرفت أنهم فاسدون فهو مثلهم. عن المرء لا تسأل وسل عن قرينةفكل قرين بالمقارن يقتديفالمصاحبة والملازمة ويكفينا في ذلك هداية الله لرسوله، إذ قال له: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [الكهف:28] احبسها. مع من؟ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28] نهاه أن يجالس أبا جهل ، عقبة بن أبي معيط أو فلاناً وفلاناً من أغنياء مكة، قال: لازم الفقراء مثل بلال وعمار وفلان وفلان ولا تبال بالآخرين. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [الكهف:28].معاشر الأبناء والإخوان! يا معاشر النساء! يجب أن نرتبط بالصالحين، كل من أراد عملاً صالحاً يجب عليه أن يصاحب من يكون صالحاً.وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2019-04-28, 06:04 AM
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (25)
الحلقة (249)
تفسير سورة النساء (31)


الله عز وجل حكم عدل، لا يظلم عباده مثقال ذرة، فيجازي كلاً بعمله ويغفر لمن يشاء، ويضاعف الحسنات فضلاً منه ورحمة لمن يشاء، فإذا جاء يوم الدين، وجمع الأولين والآخرين، وأتى بالنبيين ليشهدوا على أقوامهم، وأتى بهذه الأمة ونبيها ليشهدوا على سائر الأنبياء أنهم قد أبلغوا رسالات ربهم، ثم استشهد محمداً صلى الله عليه وسلم على أمته، ساعتها يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو كانوا تراباً تسوى بهم الأرض؛ لأنهم ساعتها لن يمتنعوا عن الله، ولن يكتموه شيئاً مما يسألهم عنه ويقررهم به.
تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة ...)
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وأخرى أيها الأبناء! يقول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).وثالثة: الملائكة تصلي علينا: اللهم اغفر لهم وارحمهم، حتى نصلي العشاء ونخرج من المسجد. كيف نظفر بهذا الخير لولا فضل الله وإحسانه وإنعامه علينا؟! محروم منه بلايين البشر، وما دفعنا غالياً ولا رخيصاً، كل ما في الأمر: آمنا بالله وبلقائه، فرغبنا في أن نتعرف إليه، وأن نتعرف إلى ما يحب وما يكره، لنتوسل إليه ونتملق بفعل ما يحب وبترك ما يكره، وتلك ولاية الله، وأولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الحمد لله على هذا الإنعام والإفضال.وها نحن مع صورة النساء المباركة، ومع هذه الآيات الثلاث، فهيا نتغنى بها حتى نحفظها أو نكاد نحفظها، ثم نأخذ في دراستها بيننا لنستخرج الهدى، ونأخذ العلم الذي به سر كمالنا وسعادتنا.قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:40-42].
معنى قوله تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة)
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اسمعوا هذا الخبر من أخبار الله تعالى العليم الحكيم، يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40] فأحبوه، اطلبوا حبه، هذا العظيم الجليل الذي نشر العدل وأقامه، وأمر به، ورفع أهله وأجلسهم على منابر من نور يوم القيامة الله هو موجده، لا يظلم أحداً من الإنس ولا من الجن ولا من الملائكة مثقال ذرة، كيف لا تحبونه؟ كيف لا تعرفونه؟ كيف لا توادون من أجله؟ هذا هو الله يخبر عن نفسه: إن الله جل جلاله وعظم سلطانه، رب السماوات والأرض وما بينهما، رب العالمين، الله ذو الجلال والإكرام لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40].وقد اختلفوا في مثقال الذر، ما الذرة؟ أصغر ما يمكن أن تتصور، قل: عين الإبرة، قل: عين النملة، قل نملة، قل هباء في كوة البيت وتشاهده، كناية عن أصغر شيء. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40] لا يظلم إنسياً ولا جنياً ولا غيرهما من المخلوقات.إذاً: هذا يجب أن نؤمن به وإلا لا؟ ونتزلف ونتملق له وإلا لا؟ كيف إذاً نكفره ونجاحد فيه ولا نذكره وننساه، وندعو الناس إلى الكفر به؟! أي ضلال أعظم من هذا الضلال؟!والآية لها ارتباط بما سبقها، تذكرون أن الذين والوا الشيطان، وأصبح الشيطان قريناً لهم أولئك البخلاء الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، أولئك يقول تعالى فيهم: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [النساء:39] هل كان يصيبهم أذى أو بلاء أو شر؟وزاد أيضاً يرغبهم ويدعوهم بدعوى عجب إلى أن يتراجعوا عن باطلهم وضلالهم وفسادهم ويعودوا إلى الحق ويسلكوا سبيل الرشد مع المؤمنين، فيقول لهم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40] فكيف لا تؤمنون به؟ كيف لا تعبدونه؟ كيف لا تطيعونه؟ بل كيف لا تحبونه؟
معنى قوله تعالى: (وإن تك حسنة يضاعفها)
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40] وإن توجد حسنة لك يا عبد الله! يضاعفها إلى ألف ألف.. إلى ألفي ألف. وهذا بناءً على أنه غني عما سواه، فما هو أبداً في حاجة إلى أن يظلم أو ينقص أبداً لغناه المطلق إذ كل شيء له وبيديه، فلا تتصور ظلمه أبداً، ثم لفضله وإنعامه وإحسانه وكرمه الحسنة يضاعفها إلى أضعاف أضعاف أضعاف، كما أخبر رسول الله بأن ذلك يصل إلى ألفي ألف، مليونين وأكثر.وهذه الآية الكريمة إحدى آيات ثمانين في هذه السورة، تقدم أن بيناها وهي تزن الدنيا وما فيها، هذه الآية يقول أحد الأصحاب رضوان الله عليهم: ( لو كانت لي سيئات مهما كانت وكبرت وعندي حسنة فقط والله لخير لي من الدنيا وما فيها)، سيئات كثيرة لا تعد، يا ليت لي حسنة فقط فإن هذه الحسنة مع تلك السيئات التي لا تحصى خير لي من الدنيا وما فيها؛ لأنه ثبت أن أهل الجنة لما يدخلون يسألون عن إخوانهم الذين كانوا يصلون معهم وكانوا يصومون ويجاهدون فيعلمون أنهم في النار فيسألون ربهم، فيقول لهم: من تريدون؟ فلان اطلبوه، علامة إيمانه صفاء وجهه. هل له حسنة؟ نعم تقول الملائكة: له حسنة، إذاً: يضاعفها له ويخرجه من النار ويدخله الجنة. ما هو واحد ولا ألف ولا مليون؛ لأن الله أخبر أنه لا يظلم مثقال ذرة، وهذا عنده حسنة كاملة وهي توحيده لله رب العالمين وإن زنى وإن سرق، إذاً: فلا يخلد في النار. هذه الحسنة لن تضيع أبداً، فيخرجه من النار بها.وهنا هذا الموقف الأم تظلم ولدها أو تظلم زوجها وتحتاج إلى حسنة، تطالب مولاها أن يعطيها حقها من هذا الرجل أو من هذا الولد، فتعطى حسنة الظلم التي ظلمت فتدخل بها الجنة، والأم كالأب، والقريب كالبعيد، الكل نفسي نفسي.إذاً: هذه الحسنة إذا بقيت وتوفرت بها يدخل الله عبده الجنة ويؤت من لدنه أجراً عظيماً، وإن توجد حسنة يضاعفها ويؤت (من لدنه) من فضله وإحسانه أجراً عظيماً.مثال ذلك: أن تقف مع خصومك فيسلبونك حسناتك لأنك سببت وشتمت، آذيت وآلمت، أخذت مالهم، اعتديت عليهم؛ فيأخذون من حسناتك حتى لم يبق لك إلا حسنة واحدة، فيدخلك الله تعالى بها الجنة، يأخذ حسناتك يعطيها لمن ظلمتهم، فإذا لم يبق للعبد حسنة طرح في النار.. يؤخذ من حسناته لمن ظلمهم واعتدى عليهم، فإذا بقيت له حسنة ضاعفها الله تعالى له أضعافاً كثيرة وأدخله الجنة؛ فإن لم يبق له حسنة وما زال مطالباً توضع سيئات المظلومين على سيئاته ثم يهلك في جهنم. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40] وزن من الثقل من الوزن.(وإن تك حسنةٌ) قراءة سبعية، أو: وَإِنْ تَكُ [النساء:40] تلك الحسنة مثقال ذرة يُضَاعِفْهَا [النساء:40] بمعنى: يكثرها أضعافاً مضاعفاً.
معنى قوله تعالى: (ويؤت من لدنه أجراً عظيماً)
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] فبشرى لأهل الإيمان، بشرى لأهل الإسلام والإحسان، إذا كانت قلوبهم خالية لا يوجد بها إلا الله، وهذا هو التوحيد هو معنى لا إله إلا الله، فإن قارف أحدهم ذنوباً وإن تكاثرت وعظمت فإن مآله إلى الجنة دار السلام، ومن كان قلبه منتكساً مظلماً، ما عرف الله ولا آمن به، ما عرف الشريعة ولا مشى في مناهجها، وأصبح كله ظلمة، وكله مساوي وسيئات هذا مصيره -والعياذ بالله- الخسران المبين. قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].ومرة ثانية: بشروا أهل لا إله إلا الله، من هم أهلها؟ الذين لا يرفعون أصواتهم داعين سائلين إلا لله، الذين لا يرغبون ولا يطمعون ولا يرجون إلا الله، الذين حياتهم موقوفة على الله، هؤلاء المؤمنون الموحدون إذا زلت أقدامهم ووقعوا في كبائر الذنوب والآثام ولم يتوبوا منها عاجلهم الموت فتابوا فهؤلاء مآلهم الحقيقي دار السلام، وإن يعذبوا ويمتحشوا في النار فإن مصيرهم إلى دار السلام، وهذه الآية التي تزن الدنيا وما فيها: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ [النساء:40] ويعطي مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40].
عداوة اليهود والنصارى للمسلمين وإضلالهم لهم عن التوحيد
عرف العدو المكون من المجوس واليهود والنصارى، عرفوا هذه الحقيقة، كيف نحرمهم من الجنة؟ كيف نقودهم إلى مصيرنا لنحترق معهم؟ لم يظفرون بالفوز؟ لم ينجون من العذاب؟ ما الفرق بيننا وبينهم؟ إذاً: لنعمل على أن نربطهم بحبل معنا، فكيف نعمل؟ قالوا: أفسدوا عقائدهم، حتى أصبح الرجل يسوق السيارة إذا هي مالت عن الطريق وانحرفت يقول: يا رسول الله، ولا يقول: يا ألله. الرجل ذو اللحية والعمامة بيده المسبحة يقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لما ينعس وتسقط المسبحة يا سيدي عبد القادر ، هذا من أهل لا إله إلا الله. جهلوهم من أجل أن يهلكوهم ويردوهم، لا عذر بالجهل، كيف نقبل ما يصبونه علينا من الفتن والضلال المبين؟ القرآن نور، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8] ما النور الذي أنزل الله؟ القرآن لا تتردد، والنور يهدي وإلا يضل؟ إذا أخذت المصباح في الظلام وتمشي وهو أمام يهديك وإلا يضلك؟ يهديك، وإذا أطفأته أين تمشي؟ وإذا تركته وراءك ومشيت في الظلام أمامك تهتدي؟ القرآن نور، ولا هداية والله إلا عليه وبه، هيا نقرأ لنهتدي. لا. نقرأ على الموتى، مات السيد الفلاني، في بعض البلاد في نقابة بالتلفون، ألو ألو، توفي الآن السيد الفلاني نريد عدداً من طلبة القرآن ليقرءوا عليه، يقول: من فئة مائة ليرة وإلا خمسين؟ إذا كان الميت غنياً ثرياً من مائة ليرة أو مائة ريال، وإذا كان من المتوسطين خمسين، فهمتم؟ هذا القرآن لما هجروه أصبحوا يقرءونه على الموتى، ما الفائدة منه؟ ما دمنا ما نهتدي به ماذا نصنع؟ نقرؤه على الموتى حتى ندخلهم الجنة به، يضعون الميت بين أيديهم ويقرءون بعضهم يضحك وبعضهم يبكي ثم يأخذون الفلوس ويخرجون، هذا القرآن.إن شئتم حلفت لكم، لهذا الثالوث ورجاله الذين يعملون إلى الآن على إفساد هذه الأمة وإحباط وإبطال هدايتها، لقد عرفوا أن العقيدة هي القوة الدافعة التي تدفع إلى الكمال، فقالوا: لنفسدها عليكم، فأوجدوا لنا القباب والخرافات والضلالات والطرق والمشايخ و.. و.. و.. وعندنا ذلك بالبينة: فرنسي ادعى الطريقة الفلانية وفتح له زاوية في بيت المسلمين وديارهم أربعين سنة، وهو يدعو إلى الطريقة الفلانية التي تصرف عن الله الحق، وبعدما أدى مهمته عاد إلى فرنسا وخرج في مظهره الأول البرنيطة والكرفته والبدلة، هذا هو السيد فلان، هذا شيخنا. فأعظم الطرق أنشأها هؤلاء، ونفخوا الروح فيها، وانتشرت بين المسلمين من إندونيسيا إلى موريتانيا، من أجل إفساد عقائد المؤمنين حتى يفقدوا التوحيد فيهلكوا مع الهالكين، هم قرءوا هذا ونحن ما نقرؤه. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40] حتى الكافر المشرك إن عمل خيراً يعطيه الله جزاءه في الدنيا، ولا يحرمه عطاءه. وأما المؤمن فيعطيه ويدخر له في الدار الآخرة، ما تضيع حسنة أبداً، أيما عمل عملته لوجه الله تريد به الله عز وجل مما طلب منك أن تفعله، والله لن تفقد جزاءه أبداً، كن مطمئناً، أما في الدار الآخرة فقد علمنا وعرفنا واعتقدنا أن أهل لا إله إلا الله بحق، أهل التوحيد الذين ما عرفوا إلا الله يدعونه، يتضرعون بين يديه، يبكون بين يديه، يتملقونه بذكره، بطاعته في كل ميدان وماتوا على ذلك وإن غرقوا في الذنوب؛ فإن حسنة التوحيد تخرجهم من النار وتدخلهم الجنة دار الأبرار، والله العظيم. ولا نشك في هذا.هذا معنى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] لم نبق أنفسنا مبعدين عنه؟ لم لا نؤمن به؟ لم لا نطلبه؟ لم لا نتعرف إليه؟ لم لا نتملقه بما يحب من قول أو عمل؟ وهذا هو كماله، وهذه أثر رحمته وجلاله، كيف نمشي وراء الشيطان ليبعدنا عن الرحمن؟ لنهلك في الدنيا والآخرة، ذي دعوة الله لعباده.
تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ...)
يقول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء:41] هذا في عرصات القيامة، في ساحة فصل القضاء.
شهادة محمد وأمته للأنبياء بتبليغ الرسالة
هنا يقول تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ [النساء:41] من الأمم، أبيضها وأصفرها من عهد آدم إلى يوم القيامة، من كل أمة جئنا بشهيد يشهد على أن رسولها بلغها، وما قصر في إبلاغ رسالته، وأنها أعرضت عنه، وقد بلغنا وصح: أن بعض الرسل يأتي معه ثلاثة أنفار، خمسة، عشرة، وحسبك دليلاً وبرهاناً: أن نوحاً عليه السلام دعا إلى الله تسعمائة وخمسين عاماً، ألف سنة إلا خمسين عاماً، لما بلغ الأربعين وأرسله الله عاش بعدها ألف سنة إلا خمسين، ما آمن به سوى نيفاً وثمانين رجلاً وامرأة، كقدر السفينة التي حملتهم، السفينة من خشب ما هي من سفن اليوم، تحمل ثلاثة وثمانين، أو خمسة وثمانين رجلاً وامرأة.. دعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً، مع أن الدعوة كانت لا نظير لها، واقرءوا سورته عليه السلام: إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا [نوح:5] ما هو في النهار فقط، أسررت لهم إسراراً، جاهرتهم جهاراً، ويسخرون منه ويستهزئون، لما كان يصنع الفلك قالوا: يا نوح! تأتي بالبحر هنا وإلا هي تنقلها إلى البحر؟!ثم يقول الله عز وجل لذلك الرسول: من يشهد لك أنك بلغت رسالتنا؟ فيقول: يشهد لي محمد وأمته. هذه الأمة الخاتمة التي لا تعدلها أمة قط.إذاً: فيستشهد الله الرسول والمؤمنين فيشهدون، كيف نشهد نحن؟ أعلمتنا يا ربنا في كتابك المنزل علينا بأن نوحاً بلغ رسالة الله، وأن هوداً كذا، وأن لوطاً كذا.ولطيفة أخرى في العدد: تعرفون عن لوط عليه السلام؟ لوط ابن أخي إبراهيم هاران من بابل العراق، لما هاجر إبراهيم بعد الحكم عليه بالإعدام، وألقوه في النار التي أججوها أكثر من أربعين يوماً، والنساء الجاهلات عابدات الشيطان يساهمن بالحطب، تنذر للإله بأن هذه الحزمة من الحطب ليحترق إبراهيم الذي يحارب إلهنا، حتى الوزغة المعروفة في بيوتنا القديمة كانت هي أيضاً تنفخ في النار لتأججها. تعرفون الوزغة؟ اقتلوها، كانت أمنا عائشة رضي الله عنها تضع جريدة من النخل في حجرتها، كلما رأتها قتلتها؛ لأن الرسول علمها ذلك صلى الله عليه وسلم.فلما خرج إبراهيم عليه السلام مهاجراً خرجت معه زوجته سارة، وابن أخيه لوط فقط، أمة إبراهيم ما آمن منها إلا هؤلاء، لكن لما انتقل إلى ديار الشام آمن به ملايين، وكان لوط عليه السلام في مدينة سدوم على البحر الميت الآن، وما آمن به سوى ابنتيه فقط، والقوم كلهم ضربهم الله تلك الضربة النهائية. فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر:74] ما آمن مع لوط إلا ابنتاه. نعطيكم فرية يهودية، كيف يقولون؟ يقولون: لوط جامع ابنتيه وأنجب منهما حتى يبيح لأنفسهم جماع بناتهم، ولا تعجب ممن هبطوا كهبوطنا هذا.
مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ [النساء:41] من هم؟ نحن، هذه الأمة عربها وعجمها، مؤمنوها وكافروها، هذه هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو في من يشاركهم؟ هل جاء بعده نبي؟ ما في، من نبي هذه البشرية؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما من باب الأدب نقسم أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قسمين: أمة الاستجابة، أي: الذين آمنوا به ودخلوا في الإسلام وعبدوا الله به، والذين ما استجابوا وأعرضوا؛ أمة الدعوة. ما معنى أمة الدعوة؟ الأمة التي يجب أن ندعوها، والتي دعاها الرسول وأعرضت وأمته تقوم بهذا الواجب وتدعو هذه الأمم الكافرة إلى أن تعبد الله وتوحده. فهمتم هذه اللطيفة؟أمة محمد صلى الله عليه وسلم قسمان: أمة الاستجابة وأمة الدعوة. من هي الأمة التي تشهد؟ أمة الاستجابة. وقال تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [البقرة:142] من هؤلاء؟ المنافقون واليهود. سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142] لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لما هاجر إلى المدينة صلى نحواً من سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس، ولما كان في مكة يأتي من الجهة اليمانية فيكون مستقبلاً بيت المقدس شمالاً، ثم بدأ اليهود يتبجحون والمنافقون يرددون: يكفرنا ويصلي إلى قبلتنا، وكانت نفسه صلى الله عليه وسلم تتوق وتشوق لو أن الله يبعده عن هذه القبلة ويوجهه إلى الكعبة. قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] لماذا؟ ينظر متى ينزل الله أمره، يتطلع، الخبر يأتي من عند الله فوق وإلا أسفل؟ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] هذا عطاء، هذا فضل الله وإحسانه على رسوله. فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] والآية التي بها شاهدنا: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:142-143].
وسطية أمة محمد صلى الله عليه وسلم
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] اليهود يستقبلون المغرب، والنصارى مطلع الشمس، وأنتم وسط بينهما تستقبلون بيت الله عز وجل، إلى الآن أين قبلة اليهود؟ غرب. أين قبلة النصارى؟ مطلع الشمس شرق. أين قبلة المسلمين؟ بيت الله، وسط، ومعنى (وسط): خياراً عدولاً، الوسط: الخيّر الأعدل، ومظاهر ذلك واضحة، خيار وعدول، مظاهر العدل متجلية فينا وإلا لا؟ إليكم أمثلة: اليهود -عليهم لعائن الله- قالوا في عيسى روح الله وكلمته عبد الله ورسوله، قالوا: عيسى ابن زنا، وأمه داعرة وزانية، واسألوهم الآن يقولوا: إي نعم، اتصل بيهودي من أهل اليهود الحق واسأله؛ يقول: ابن زنا هذا. وقال النصارى: هو ابن الله، وطوائف قالوا: هو الله، وأخرى قالوا: هو ثالث ثلاثة مع الله يكونون الإله. ضلال وإلا لا؟ عمى وإلا لا؟ لا إله إلا الله. وجئتم أنتم أيها الأمة الوسط فقلتم: عيسى ليس بابن الله، ولا الله ولا ثالث ثلاثة مع الله، وإنما هو عبد الله ورسوله، ما هو بابن زنا ولا ابن دعارة ولا، كان بكلمة كن يا عيسى فكان عيسى عليه السلام. وسطية هذه وإلا لا؟اليهود كان حكم الله فيهم إذا قتل القاتل يقتل، لا دية ولا شفاعة ولا وساطة، اقتلوه؛ لظلمهم واعتدائهم. جاء النصارى وجاء عيسى: الذي يقتل يجب أن تعفو عنه، لا قصاص ولا دية، جئتم أنتم يا أهل القرآن الله الله! أيام كنا، إذاً: من قتل؛ أهل الدم مخيرون، إن شاءوا اقتصوا، وإن شاءوا أخذوا دية، وإن شاءوا عفوا عنه لوجه الله. أمثلة هذه الوسطية كثيرة.
شهادة النبي على أمته يوم القيامة
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] لم؟ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] آه! إذا شهد علينا رسول الله كيف ننجو؟ قال الهابطون رءوس الحيات: اسمع! أنتم ما تعرفون تفسير كلام الله، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] أي: لكم شهيداً، (على) حرف جر وإلا لا؟ أصلها اللام: ليكون الرسول لكم شهيداً، غنوا، زمروا، طبلوا، اكفروا، لا تخافوا؛ لأن الرسول يشهد لكم، ويقول: هؤلاء المسلمون، احفظها يا إسماعيل . قال: حروف الجر تتناوب وإلا لا؟ اللام على ومن وإلى.. حروف جر. إذاً: ويكون الرسول شهيداً لكم لا عليكم، معناه: زغردوا، افعلوا ما تشاءون، الرسول يشهد لكم بأنكم أولياء الله وصالح عباده، أدخلوهم في الجنة. تجدون هذا في التفاسير؟ قال: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، اذكروا لتردوا هذا التفسير الباطل الهاوي، اذكروا ما علمتم من أن يوم من الأيام في هذه المدينة، في هذا المسجد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن مسعود الهذلي وكان لا يفارق رسول الله حتى قالوا: هو ظله، أين يمشي رسول الله عبد الله وراءه، يأخذ نعله، يأخذ عصاه، هذا عبد الله بن مسعود الهذلي ، قال له يوماً: ( يا ابن أم عبد ) هو عبد الله بن مسعود ، لم كناه؟ لأنه يحب هذه التكنية. ( يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن ) الرسول يقول لهذا التلميذ الملازم: ( يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن، قال: أعليك أنزل وعليك أقرأ؟ ) يسأله عبد الله متعجباً! ( أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري ) فهمتم هذه؟ ائتسوا برسولكم صلى الله عليه وسلم، واطلبوا من يقرأ لكم لا عليكم بعد الموت لتسمعوا كلام الله، وقد قلت لكم وكررت القول، وإني لآثم وأستغفر الله عز وجل: ما عرفنا من يقول لأخيه وهو تحت ظل الشجرة أو الجدار أو على كرسي العمل: أي فلان! أسمعني شيئاً من القرآن، ما عثرنا على واحد هذا في الأمة، إلا ما كان من عبد الرحمن ، هذا تلقى التوحيد الحق من خريجي المسجد النبوي من الطيب العقبي أيام العثمانيين، ذاك الذي أسس جريدة القبلة، ثم حولها إلى جريدة أم القرى، وما زالت أم القرى إلى الآن، واستخلفوه بـالطيب الساسي ، هذا الشيخ جاء الله به إلى الديار الجزائرية فأنارها بالتوحيد، وواجه من السخرية والاستهزاء والمكر والسب والشتم، لا إله إلا الله. والشاهد عندنا: فتلامذته من هم؟ عنده محاضرة في الأسبوع فقط في نادي الترقي، فتخرج عليه رجال منهم الآن بينكم، لا يعرفون إلا الله، لا عبد القادر ولا بدوي ولا سيدي مبروك .فـعبد الرحمن هذا وكنت طفلاً صغيراً، يأتي من العاصمة إلى الصحراء ونحن صحراويون، صحراؤنا كالقصيم نخيل وغنم، يأتي في العطلة وأنا أحفظ القرآن في العاشرة من عمري، يجلس ويضع رأسه يقول لي: أسمعني يا أبا بكر شيئاً من القرآن، وهو والله ما يعرف الألف من الباء، لا يقرأ ولا يكتب، والله يتربع ويطأطئ رأسه ويقول: اقرأ علي، هذا الوحيد الذي رأيناه. عرفتم هذه وإلا لا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أنزل ويقول: ( يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيعجب عبد الله ويقول: عليك أنزل وعليك أقرأ؟ يقول: نعم، أحب أن أسمعه من غيري ). آه! بيوتنا في المدينة في القرون الذهبية يقولون: كنت إذا مررت بأزقتها في الليل تسمع دوياً كدوي النحل من القرآن، النساء والرجال يقرءون طول الليل، ولما هبطنا -والحمد لله انتصرنا في هذا العهد الأخير- كنت كلما مررت ببيوتنا قبل هذه الكهرباء والتلفاز لا تسمع إلا الأغاني إلى عنان السماء، ما استطعنا ننام في الليل، في السطوح. بائع الفول وهذا الفصفص في يده إذاعة تغني في الشوارع، الدكاكين، المقاهي، السيارات، النقل، الحمال كذا.. كلها أغاني، لا إله إلا الله. وشاء الله أن تنسخ هذه، الآن تمر بك مائة سيارة تسمع واحدة تغني؟ ممكن. الآن تمر في الأزقة ما تسمع أغاني في البيوت، لكن الشيطان عدونا لما انتصرنا عليه في هذه الدعوة ماذا يصنع؟ جاء بالفيديو والتلفاز والدش والصحن الهوائي، وها نحن نقول: سيأتي يوم ما يبقى تلفاز في بيت إن شاء الله.قاومنا الدخان .. السجائر، والله يا أبنائي إن أصحاب الدكاكين ليستوردون حلويات للأطفال في شكل سيجارة، رأسها أحمر كسيجارة أمريكية، يأخذها الطفل ويخرج يلعب من المدرسة يعودونه على التدخين، وقامت هذه الدعوة وانتشرت بإذن الله، الآن حتى الحكومات مشت وراءنا ويمنعون التدخين في محلات كثيرة في المملكة وغيرها، ممنوع التدخين في الطائرة.إذاً: وسيأتي إن شاء الله الانتصار فلا نسمع في بيوتنا إلا القرآن، أما نسمع عاهرة تغني في بيت الإيمان والإسلام، كافر يتبجح وينطق ويتمثل كيف يصح هذا؟ إذاً: ( أحب أن أسمعه من غيري. قال: فقرأت عليه: بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] ) إلى أن انتهيت وهي قرابة كم آية؟ أربعين آية. قال: ( إذا انتهيت إلى قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] قال: فإذا عينا رسول الله تذرفان الدموع وهو يقول: حسبك حسبك حسبك ). أرأيتم حبه لكم وإلا لا؟ لم يبكي؟ لأنه يشهد علينا، كيف ننجو إذا شهد علينا؟ وهل يشهد بباطل؟ هل يزور؟ يقول في الفاسق: بر وصالح؟ في المشرك: موحد ومؤمن؟ والله ما يكون وهو بين يدي الله. فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] أنزلوا كلمة (لك) بدل (عليك)، هذه ضلالة من ضلالات القوم.
تفسير قوله تعالى: (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ...)
يَوْمَئِذٍ [النساء:42] إذا أردت أن تعرف لم يبكي الرسول؟ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ [النساء:42] (يود): يحب بكل قلوبهم وأرواحهم. الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:42] جحدوا، غطوا، جحدوا ماذا؟ شريعة الله، قوانينه، رسله، كتبه، أما الإيمان بالله فالمشركون واليهود يؤمنون بالله، ما كفروا. وَعَصَوُا [النساء:42] من؟ الرَّسُولَ [النساء:42] (أل) هنا للتفخيم والتعظيم، (أل) هنا للعهد، الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ما هو عيسى ولا موسى. وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى [النساء:42] أصلها: تتسوى. بِهِمُ الأَرْضُ [النساء:42] كيف؟ يغوصون فيها، يودون أن تخسف بهم الأرض. انتبهتم؟ لا سيما عندما يسألهم الله فينكرون: والله ما كنا بمشركين، يقول تعالى لأفواههم: انتهي واسكتي، وانطقي أيتها الجوارح، فتأخذ العين تشهد والأذن تشهد يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24] هنا يود أحدهم لو ساخت به الأرض. وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42] ما يستطيعون، وهذا كقوله تعالى من آخر سورة النبأ: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] لما يشاهد سائر الحيوانات التي أوجدها الله عز وجل ليقتص لها من بعضها البعض، لتتجلى عدالته ورحمته، لما ينتهي الحكم فيها يقول تعالى لها: كوني تراباً، فتتحول كلها إلى تراب، لا بقرة ولا جمل ولا ثور ولا كذا.. هنا أهل الكفر وهم يقادون إلى جهنم، آه! يا ليتنا كنا تراباً، لكن لن يكونوا تراباً، بل يعظمون في أجسامهم حتى إن عرض أحدهم مائة وخمسة وثلاثين كيلو متراً. يا شيخ! من أين لك هذا الكلام؟ الرسول كان يعرف الكيلو؟ تكذب على الناس؟ أنا أقول: لو نكشف ما في قلوب السامعين كبير. الجواب: يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ما بين كتفي الرجل في النار كما بين مكة وقديد ) المسافة من مكة إلى قديد كم كيلو؟ مائة وخمسة وثلاثين كيلو متر.قبل أن نقرأ هذا الحديث ويبلغنا كنا نؤمن ونعجب، لما أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن ضرس الكافر كجبل أحد وما علينا إلا أن نقول: آمنا بالله، ضرسه كجبل أحد، لما عرفنا جسمه ما في غرابة أبداً، إذا كان العرض فقط مائة وخمسة وثلاثين كيلو والطول كم إذاً؟ إذاً والضرس نعم كجبل أحد، فتأكله النار ملايين السنين، وكلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ [النساء:42] اسمعوا! لو كفروا فقط، وعصوا محمداً صلى الله عليه وسلم ما استجابوا له ولا أطاعوه في أمر ولا نهي. لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42].معاشر المؤمنين والمؤمنات! انفتح باب التوبة لنا وإلا لا؟ هيا نتوب.وصلى الله على نبينا محمد وآله.