تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : بعض الجوانب العلمية عند الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله



ابو البراء
2008-05-30, 12:12 AM
بعض الجوانب العلمية عند الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
شعبة بلوزداد
"نتعلم لنكون في أنفسنا مهتدين ولغيرنا هادين"
محاضرة بعنوان "الجانب العلمي عند الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله"
مسجد خالد بن الوليد ـ الأحد 7 ربيع الأول 1429 بين المغرب والعشاء



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساء لون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)،
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما)
أما بعد، فان أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا
وإن من نعم الله العظيمة أن الله يقيض للناس في رأس كل مائة من يعلمهم السنن وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب.
وإن من المجدّدين في عصرنا الظاهرين على الحق بمغربنا الآمرين بالتوحيد بجزائرنا، رجالا حباهم الله بمضاء ذكاء قطعوا به قيود الجمود، وأنعم عليهم بعزائم ثابتة زلزلوا بها راسيات الخرافات وميزهم بهمم عالية فضحت أطماع المتزهدين.فسيما م علم في مضاء ذكاء، وعمل في ثبات عزيمة، وسيرة في علو همة.تلك صفات رجال الإصلاح الديني بوطن الجزائر، الذين ظهروا في ميدان الدعوة إلى التوحيد وترك الشرك والتنديد و والعلم و العمل بالكتاب والسنة، منذ سنة 1343، وهي من أوائل المئة الرابعة عشرة بعد عصري النبوة والخلافة.
وعلى تلك الصفات الثلاث تكسرّت نبال الأذى، ونبت شباة الشتيمة، وفلّ سلاح المعارضة من رؤساء في الدين جهال به، يزهدون الأتباع، ويحرصون على الابتلاع، ومن شيعة لهم طامعة في دينارهم، أو مغرورة بدثارهم، ومن سادة لهم هم المعمرون، الذين يشبهونهم في شرب عرق الخدامين.
وتحت لواء تلك الصفات اجتمع كل نقي اللب، تقي القلب، فكانت قوة اتحاد إلى قوة الحق والإعراب عنه، حققت شيئا من الآمال وقضت على أنواع من الضلال، وتجلت تلك القوة في تأسيس "جمعية العلماء المسلمين الجزائرين" والمحافظة عليها، وتخليصها من عناصر الضعف والدجل.
فنجحت نجاها جليا ظهرت آثاره للعيان، ولَمَسَه الموافق والمخالف والمعتدل والمتجانف، في تصحيح عقائد الأمة الجزائرية، وتطهيرها من شوائب الشرك القولي والعملي التي شابتها.فصحت العقائد وصحت لصحتها الإرادات والعزائم.فجمعت طوائف عظيمة من الأمة الجزائرية على الحق بعد أن كانت متفرقة على الباطل.
أصبح المنتسبون إلى الإصلاح ولو من العامة يخلصون لله في عباداتهم وإيمانهم ونذورهم وأدعيتهم، ونبذوا كل ما كانوا عليه من عقد فاسد أو قول مفترى أو عمل مبتدع في هذه الأبواب كلها وأصبحوا يفرقون بين التوحيد والشرك وبين الإيمان والإلحاد وبين السنة والبدعة والمشروع وغير المشروع.
وليست هذه النتيجة بالأمر اليسير لولا عون الله لهم لما بذلوه من مجهود وجهاد وأعمال في هذا السبيل.
والحق أن هذه الآثار الجلية كلها راجعة إلى المقالات التي نشرتها صحف الإصلاح والدروس والمحاضرات والكتب المؤلفة المبثوثة بين الناس.
أيها الإخوة الأعزاء: إن الكتابة عن العلماء المصلحين الأئمة العاملين والعناية بنشر أخبارهم وبث علومهم بين الأنام من الواجبات المحتمات على كل من رزقه الله تعالى القدرة على الكتابة.
وعلى هذا سارت جمعية العلماء المسلمين ـ شعبة بلدية بلوزدادـ بالتعاون مع جماعة من حملة الشريعة لبعث أسبوع الإمام المجدد عبد الحميد بن باديس رحمه الله تعالى، فعطرت هذه الأيام بمحاضرات علمية يستفيد منها المسلم ويعلم ما لم يكن يعلم من الجوانب العلمية والعملية من حياة الإمام رحمه الله تعالى،
فجاءت محاضرة الأمس في هذا المسجد تزيل الغبار عن الجانب الإصلاحي عند الإمام ألقاها أخونا الشيخ شهاب بولرباح إمام وخطيب المسجد، وفي مسجد أحمد حفيظ ألقى أخونا الشيخ عبد الحق شطاب إمام وخطيب مسجد أحمد حفيظ محاضرة استهلها بترجمة مستفيضة للإمام رحمه الله تعالى.
ويوم الاثنين في هذا المسجد يلقي الشيخ عبد الحق شطاب محاضرة بعنوان" الجانب التربوي الدعوي عند الإمام" وفي مسجد أحمد حفيظ يلقي أخونا الشيخ عبد القادر سناتي إمام وخطيب مسجد الشيخ الإبراهيمي محاضرة بعنوان" العلاقات الخارجية عند الإمام" ويوم الثلاثاء في هذا المسجد يلقي أخي وصديقي الفاضل عبد الحميد روشاي محاضرة بعنوان " أصول الدعوة السلفية عند الإمام"
ويوم الخميس حفل الختام في مسجد أحمد حفيظ بعد صلاة العصر ويشتمل على محاضرة للشيخ المربي يوسف تتطواح يلخص فيها الجوانب العامة العلمية والعملية عند الإمام " وكلمة بعث بها أخي وصديقي الشيخ عبد العزيز بورحلة نزيل المدينة النبوية تقرأ على الجمع المبارك بعنوان النواحي الإصلاحية عند الإمام.
أيها الإخوة الأعزاء
لقد مضى على موت الإمام إمام الدعوة سبعين سنة وتسعة وعشرين يوما وكأنه حي لم يمت لأن العالم لا يموت وإنما يموت الجسد ويبقى ما نشره من العلوم منشورا بين الناس ينهلون من علمه. ولا عجب فإن الإمام رحمه الله تعالى نشر علوما لم يعط بعضها حقه من البيان فانصرفت همة الباحثين وإلى داخل القطر الجزائري وخارجها لدراسة هذه الجوانب التي أحيت ذكره وخلدت اسمه.
ومحاضرة اليوم معشر المسلمين تبرز جوانب علمية تميز بها الإمام رحمه الله تعالى قد تخفى على كثير من المسلمين، فإن الإمام كان مفسرا حافظا محدثا فقيها مفتيا أصوليا نظارا ناقدا رحلة.
صحيح أن المراجع التي بين أيدينا قليلة ولكنها اشتملت على أكثر ما يفي بالمقصود وأكثر هذه المصادر "آثار الإمام" التي جمعتها لجنة إحياء التراث التي كان يرأسها الأستاذ الشيخ محمد الصالح الصديق حفظه الله تعالى ومن أعضائها الشيخ الجليل الرئيس عبد الرحمن شيبان حفظه الله .وآثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي"التي جمعها ولده الدكتور أحمد طالب.
وكذلك الفوائد التي أخذتها من بعض طلبة الإمام .
فأقول وبالله التوفيق. الإمام المجدد المجتهد العلامة الحافظ المحدث الناقد الفقيه المفتي الأصولي النظارا الخطيب الرُحلة باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر، وواضع أسسها على صخرة الحق، وقائد زحوفها المغيرة إلى الغايات العليا، وإمام الحركة السلفية، ومنشئ مجلة"الشهاب" مرآة الإصلاح وسيف المصلحين، ومربي جيلين كاملين على الهداية القرآنية والهدي المحمدي وعلى التفكير الصحيح، ومحي دوارس العلم بدروسه الحية، ومفسر كلام على الطريقة السلفية في مجالس انتظمت ربع قرن، وغارس بذور الوطنية الصحيحة وملقّن مباديها، علم البيان وفارس المنابر، الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد ابن باديس، أول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائرين، وأول مؤسس لنوادي العلم والأدب وجمعيات التربية والتعليم رحمه الله ورضي عنه.
أحيا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغير، ودينا لابسته المحدثات والبدع، ولسانا أكلته الرطانات الأجنبية وتاريخا غطى عليه النسيان ومجدا أضاعه ورثة سوء وفضائل قتلتها رذائل الغرب.10
فصل: ترجمة مختصرة للإمام وبيان بعض الميزات في حياته.
ولد الإمام بقسنطينة سنة 1307 وهو الموافق لليوم الذي مات فيه الإمام صديق حسن خان رحمه الله صحب التأليف الممتعة فأفل نجم وبزغ نجم لئلا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، فحفظ القرآن وأتمه وعمره ثلاث عشرة سنة على يد الشيخ محمد المداسي وأخذ العلوم على شيخه العلامة حمدان الونيسي المهاجر إلى طيبة والمدفون بها الرجل العظيم. وتوفي مساء الثلاثاء 8 ربيع الأول 1359 ودفن بقسنطينة.
ولما بلغ العشرين من عمره سنة 1327 رحل إلى تونس لطلب العلم فالتحق بجامع الزيتونة العامر، وجسد الإمام قول الإمام الخطيب البغدادي من لم تكن له رحلة لن تكون رُحلة"روى رحمه الله في الرحلة في طلب الحديث عن كثير بن قيس ، قال : كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق ، فأتاه رجل ، فقال : يا أبا الدرداء جئتك من المدينة مدينة الرسول لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ولا جئت لحاجة ، قال : لا ، قال : ولا لتجارة ؟ قال : لا ، قال : ولا جئت إلا لهذا الحديث ؟ قال : لا قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك به طريقا من طرق الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، وكل شيء حتى الحيتان في جوف الماء ، إن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ، ولا درهما ، وأورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر » وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : سألت أبي رحمه الله عمن طلب العلم ترى له أن يلزم رجلا عنده علم ، فيكتب عنه أو ترى أن يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع منهم ؟ ، قال : يرحل يكتب عن الكوفيين والبصريين ، وأهل المدينة ومكة يشام الناس يسمع منهم.
وعن عبد الرحمن بن محمد بن حاتم ، قال بلغني أن إبراهيم بن أدهم ، قال : إن الله تعالى يرفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث. وعن الشعبي ، قال : « لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبله من عمره رأيت أن سفره لا يضيع »
فالرحلة لطلب العلم سنة الأنبياء والصحابة والتابعين تظهر قدر العلم في نفس الطالب وتحمل المشاق من أجله ومكابدة طول الغربة والبعد عن الأهل والأحباب فهذا مما يبرز قيمة العلم عند الإمام مما له الأثر البالغ في حياته رحمه الله في سعيه الحثيث لبناء المساجد والمدارس ونشر العلم بين الناس مدة خمسا وعشرين سنة والتكفل بطلبة العلم والبعثات العلمية إلى تونس و مصر والشام والحجاز. وبلغ عدد الطلبة 161 طالب والصراع المستميت مع الحكومة الصليبية المحتلة للمطالبة بحرية التدريس والتعليم .
قال رحمه الله:".. ولن يرجى لهم أي المسلمين ـ شيء من السعادة الإسلامية إلا إذا أقبلوا على التعليم الديني فأقاموه في مساجدهم كما يقيمون الصلاة وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل من إقامتها بمسجده..لما كانت الحاجة إليه عامة فوجوب إقامته وجوب عام على الأمة بجميع طبقاتها، ولا يسقط الوجوب عن أحد إلا إذا قام بالتعليم أهله فكفوا الباقين، ومن الواجب على المتولي أمر العامة أن يبعث فيها من يعلمها أمر دينها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فإذا قصر ذلك المتولي كان على الجماعة أن تقوم به،فإن قصرت لحق الإثم كل فرد..لابد للجزائر من كلية دينية يتخرج منها فقهاء بالدين، يعلمون الأمة أمر دينها..
وقال:" ..لا بقاء للإسلام إلا ببقاء علومه ولا بقاء لعلومه إلا بوجود من يتعلمها ويعلمها.

فرحل الإمام فلقي فحول الرجال أئمة الإسلام كالعلامة محمد النخلي القيرواني ت 1342 والعلامة الملقب بشيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور ت 1393 وتخرج من الزيتونة بشهادة التطويع العالمية ولم يكتف بما سمعه من الزيتونة فاستزاد من العلم بما فتح الله عليه حتى بلغ من العلم على ما أبداه على طرق التعليم في الزيتونة كما سيأتي بحول الله.
وطار به الشوق إلى حج بيت الله الحرام فحجّ وبعد الحج اتصل بعلماء الحرمين فسمع منهم وأجازوه منهم العلامة المحدث حسين الهندي، وذات الوقت كان الإمام يلقي دروسا بالمسجد النبوي
يا ليتنا نقف على أسماء طلبة الشيخ بالمدينة وبعد عودته إلى الجزائر عملا بنصيحة العلامة المحدث حسين الهندي رحمه الله تعالى مر بالقاهرة فاجتمع بالعلامة المحدث محمد بخيث المطيعي رحمه الله وسلمه كتابا من شيخه العلامة حمدان فكتب له الشيخ بخيث إجازة بخط يده موجودة في دفتر إجازات الإمام
ولما رجع إلى الجزائر جلس للتدريس فأولى عنايته بالقرآن والحديث والتوحيد والأصول والآداب وعلوم العربية.
فأملى تفسير القرآن العظيم في خمس وعشرين سنة بالجامع الأخضر بقسنطينة فأتمه في الثالث عشر من ربيع الثاني عام 1357، تتجلى بوضوح شخصية المفسر البصير بكلام الله تعالى أملاه إملاء ليس بين يديه كتاب غير كتاب الله تعالى. يقول صاحبه العلامة الإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى :"أتم الله نعمته على القطر الجزائري بختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس لتفسير كتاب الله الكريم درسا على الطريقة السلفية ، وكان إكماله إياه على هذه الطريقة في خمس وعشرين سنة متواليات مفخرة مدخرة لهذا القطر وبشرى عامة لدعاة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي كله..وإذا كان من دواعي الغبطة ختم تفسير القرآن على هذه الطريقة في القطر الجزائري، فإن من دواعي الأسف أنه لم ينتدب من مستمعي هذه الدروس من يقيدها ولو وجد من يفعل ذلك لربحت هذه الأمة ذخرا لا يقوم بمال ولاضطلع هذا الجيل بعمل يباهي به جميع الأجيال ، ولتمخض لنا ربع قرن من تفسير يكون حجة هذا القرن على القرون الآتية، ومن قرأ تلك النماذج القليلة المنشورة في الشهاب باسم مجالس التذكير علم أي علم ضاع وأي كنز غطى عليه الإهمال".
وأملى مجالس في شرح الموطأ فأكمله في خمسة عشر سنة 12 ربيع الثاني 1358 يروي الحديث بسنده المتصل إلى الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنه، فيذكر الحديث ثم يشرع في بيان ما اشتمل عليه الحديث فيتكلم على سنده فيذكر كل ما قيل في رجاله جرحا وتعديلا وتخريجه ومن خرجه غير مالك ويذكر لطائف الإسناد ثم يذكر المتن فيطيل الشرح ويذكر الفوائد الحديثية والفقهية وغيرها والمناسبة بين الأحاديث ولكنك ترى فيه ابن عبد البر . تتجلى فيه شخصية المحدث الناقد.
قال الشيخ الجيلالي بن محمد رحمه الله تعالى:" فإن من دواعي الغبطة والسرور وبواعث البهجة والارتياح أن أزف إلى المسلمين كافة وإلى أبناء الوطن العزيز خاصة هذه البشرى الجليلة والمفخرة الخالدة بختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس لموطأ إمام الأئمة ومستودع الشريعة مالك بن أنس بعدما قضى في خدمته وهداية الأمة به درسا بضع عشرة سنة بعمل متواصل وجد جاد يحرر أسانيده ويعزز مسانيده ويرفع مراسله ويستجلي أسراره ويكتسح به غيوم البدع وضلال العقائد فهذب العقول وطهر النفوس ..وكان ختم الأستاذ الجليل حفظه الله للموطأ لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الثاني عام 1358 الموافق لفاتح جوان 1939 وكان الاحتفال به رائعا وطيب حديثه في الحواضر والبوادي ذائعا."
والأروع منه كله لو قيد ما أملاه الإمام فهذا والله ضياع العلم وجهل بقدر الإمام وعقوق في حقه وحق الأمة من بعده، فكل هذا العلم ذهب مع الإمام بذهابه ولقد سألت بعضا ممن عاصر تلك الحقبة هل عندهم شيء منه مكتوبا فكان جوابهم يدفع في النفس الأسى والحزن، وما ضياع العالم إلا إذا ضيعه أصحابه، فلو رزق الإمام أصحابا قاموا به ودون علمه لوصل إلينا اليوم من العلوم الغزيرة ما نستغني به عن تقليد غيرنا ولكانت الجزائر رحلة كما كان الإمام رحلة يرحل إليه من أقطار الغرب الإسلامي لينهلوا من علمه ويستفيدوا من أدبه فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأذكر لك طرفا من القواعد الحديثية التي وقفت عليها مما نشره في الشهاب ونشره الشيخ عبد الرحمن شيبان بعنوان " مجالس التذكير من مجالس البشير النذير".
فائدة: وكثيرا ما يروي مالك الحديث مسندا ومرسلا، ولا يرسل مالك ولا يأتي ببلاغ في الغالب إلا وهو على علم بمن يترك من السند، أنه محل الثقة والقبول والاعتماد، فأما إذا شك فإنه يصرح بشكه، وتصريحه بالشك حين يشك يدلنا على ما عنده من العلم واليقين عندما يسكت دون أن يصرح بالراوي.
فائدة:إن هذا الموطأ هو أقدم كتاب لنا ألفه إمام عظيم من أتباع التابعين، وهو كتاب يعلمنا العلم والعمل،ويعرفنا كيف نفهم وكيف نستنبط وكيف نبني الفروع على الأصول، يعطينا هذا كله وأكثر منه بصريح بيانه وبأسلوب ترتيبه للأحاديث والآثار والمسائل، وإن شراح هذا الكتاب الجليل لم يوفوه في نظري القاصر ـ من هذه الناحية وهي من أعظم نواحيه. ومما هو مشهور من ابتكار مالك في كتابه هذا الكتاب الجامع الذي ختم به الموطأ فإنه نظر إلى مسائل عديدة من أمهات الشريعة في العقائد والأخلاق والآداب والأحكام وغيرها فنظمها في سلك واحد وسماها بالكتاب الجامع وهذه الأصول التي نظمها في هذا الباب بنى عليها من جاء بعده فروعا وعقد عليها أبوابا كالبخاري وغيره.وإن مالكا لم يذكر في موطئه كتابا خاصا بالسيرة النبوية كما فصل ذلك غيره ممن جاء بعده، ولكنه ذكر أسماءه الشريفة صلى الله عليه وسلم فكفاه، وذكر أسمائه متضمن لسيرته صلى الله عليه وسلم، فكفاه في ذكر حياته صلى الله عليه وسلم أن يذكر أسماءه.
ولما كانت سيرته من بدايتها إلى نهايتها هي المثال الصادق للشريعة كلها والسفر الجامع للدين الإسلامي كله، ختم بهذا الحديث المشتمل على هذه الأسماء المتضمنة لها وهو كالتحصيل بعد التفصيل.
ونكثة أخرى وهو أن كل ما نأخذه من الشريعة المطهرة علما وعملا نأخذه لنبلغ به ما نستطيع من كمال في حياتنا الفردية والاجتماعية، والمثال الكامل لذلك كله هو حياة محمد صلى الله عليه وسلم في سيرته الطيبة، فهذا الحديث بعدما تقدمه من الكتاب كله مثل الغاية من الوسيلة، فسيرته صلى الله عليه وسلم هي الجامعة لمحاسن الإسلام والغاية لكل كمال.
ومن أبدع المناسبة لختم الكتاب أن كان آخر هذه الأسماء الشريفة هو العاقب، والعاقب هو الخاتم.
فائدة: فالصحيح ما رواه العدل الضابط عن مثله إلى آخر سنده سالما من العلة والشذوذ فإذا خف الضبط في بعض رواته فهو الحسن .
فائدة: وما يقول فيه أبو عيسى الترمذي حسن صحيح أقوى مما قال يقول فيه حسن فقط لأن وصفه بالصحة مع الحسن يفيدان خفة الضبط في بعض رجاله تكاد لا تؤثر عليه حتى كأنها لم تحطه عن رتبة الصحيح التام.
فائدة: وأما الغريب فهو ما انفرد بروايته راو فقط، وإذا كان ذلك المنفرد ثقة فذلك الانفراد لا يضر، فالغرابة لا تنافي الصحة والحسن.
فائدة: وتصحيح هؤلاء الأئمة ـ النسائي والترمذي وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي ـ له للحديث حصل لنا العلم الكافي ـ وهو الظن الغالب ـ بثبوته، وحيث كان بهذه المنزلة من الثبوت فإنه صالح لاستنباط الأحكام العملية منه.
فائدة: استهل الأستاذ الدرس بعد الاستعاذة والتسمية بالتحميد الماثور: الحمد لله إن الحمد لله...ثم عقب بما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبدأ به خطبه، وجرت عادة المحدثين والمفسرين أن يفتتحوا به مجالس التحديث والتفسير.."
فائدة قال أبو بكر الأبهري: جملة ما في الموطأ من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثا، المسند منها ستمائة حديث والمرسل مائتان واثنان وعشرون حديثا والموقوف ستمائة وثلاثة عشر، ومن قول التابعين مائتان وخمسة وثمانون.
وعدة رجال مالك الذين روى عنهم في هذا المسند وسماهم خمس وتسعون رجلا.
قال القاضي: وعدة من روى له فيه من رجال الصحابة خمسة وثمانون رجلا، ومن نسائهم ثلاث وعشرون امرأة، ومن التابعين ثمانية وأربعون رجلا، كلهم من أهل المدينة إلا ستة رجال، أبو الزبير من أهل مكة، وحميد الطويل، وأيوب السختياني من أهل البصرة، وعطاء بن عبد الله من أهل خراسان، وعبد الكريم من أهل الجزيرة، وإبراهيم بن أبي عبلة من أهل الجزيرة، وإبراهيم بن أبي عبلة من أهل الشام، هذا كله كلام القاضي.
فقد تكلم الإمام رحمه الله على هذه الأحاديث والآثار والمراسيل والرجال المذكورين في السند من حفظه يدل على قوة الحفظ وسرعة الاستحضار فحق بوصف الحافظ المحدث رحمه الله.
وعقد مجالس أملى فيها مختصرا في أصول الفقه، جمعه في رسالة الدكتور عمار طالبي وطبع بعنايته، ثم انبرى لشرحه ونشره بين الناس شيخنا العلامة شيخ الأصول ببلدنا الشيخ محمد علي فركوس حفظه الله تعالى أملاه شيئا فشيئا في مسجد الفتح في باب الواد ثم طبع الشرح بعنوان " الفتح المأمول في شرح مبادئ الأصول" وللإمام اختيارات أصوله ذكرها في أماليه الأصولية وبعدها منشور فيما طبع من آثاره تدل على تمرسه في علم أصول الفقه وعلى طول نفس وتبحر فيه.
وعقد مجالس أملى مختصرا في التوحيد ضمنه جملة من القواعد في التوحيد على الطريقة السلفية.
قال الإمام البشير رحمه الله:كان يلقي دروسا في أصول العقائد الإسلامية وأدلتها من القرآن على الطريقة السلفية التي اتخذتها جمعية علماء المسلمين الجزائرين منهاجا بعد ذلك، وبنت عليها جميع مبادئها ومنهاجها في الإصلاح الديني.
ورسالته الشهيرة " العقائد الإسلامية" وقد انبرى لشرحها ونشرها شيخنا العلامة أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله تعالى.
ومن أقواله طيب الله تراه:"يعلم العلماء أن التوحيد هو الأساس الذي تنبني أعمال الإيمان: أعمال القلوب وأعمال الجوارح، وأن الله لا يقبل شيئا منها إذا انبنى على الشرك، وقد قال تعالى{لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين}.
وكان سيفا صقيلا على رقاب الدجالين من الطرقيين والقبوريين . ونلمس ذلك في مقالات ضمتها آثاره المطبوعة بعناية الشيخ العلامة عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائرين الحالي حفظه الله تعالى.
وأما عنايته بالفقه فقد أملى شرحا لمختصر خليل رحمه الله على طلابه وللأسف لم يصلنا منه شيء.
واعتنى رحمه الله بالإفتاء فكان يجيب على أسئلة الناس فتأتيه الأسئلة من الجزائر ومن تونس ومن فرنسا ومن المغرب، فيجيب على أسئلتهم ويكشف عن المسائل الغامضة ويبين خطأ الخاطئين من المفتين كرده على شيخه الشيخ طاهر بن عاشور رحمه الله
وعقد مجالس لعلوم العربية كالنحو والصرف فشرح ألفية ابن مالك والبلاغة كالجوهر المكنون.
وأما عنايته بالطلاب فقد كان الإمام رحلة يرحل إليه الطلاب من أقطار المغرب الإسلامي لطلب العلم والإجازة، فكان رحمه الله يرعى شؤونهم ويتكفل بمعاشهم وتعليمهم وإرسالهم إلى مصر وتونس للاستزادة من العلوم، على شكل بعثات، البعثة المصرية وكان يرأسها الشيخ الفضيل الورتلاني بالتعاون مع المشايخ إسماعيل أعراب ومحمد الغسيري وأحمد حماني ومصعب بن سعد الجيجلي. أما البعثة الشامية فكانت من جمعية التربية والتعليم بقسنطينة بالتنسيق مع أعضاء اللجنة المكلفة بالبعثة المصرية. واعتنى ببناء المدارس وجعل من المساجد مدارس يفد إليها طلاب العلم ويتكفل بمعاشهم ونفقاتهم .
أيها الإخوة الأعزاء:
فهذه قطرة من بحر جهود إمام علماء الجزائر في دعوة الأمة إلى العلم والعمل بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم والسير على منهاج سلفهم الصالح في أخلاقهم وعباداتهم القولية والاعتقادية والعملية، وتطبيق ماهم عليه اليوم من عقائد وأعمال وآداب على ما كان في عهد السلف الصالح.ولمحات مقتضبة من آثاره قصصناها عليكم لتعرفوا قدره فتجلوه وأخبارهم فتنشروها بين الناس، واستنهض همم حملة الشريعة وسائر الباحثين إلى السعي الحثيث لاستخراج علوم الإمام وكتابة دراسات تبرز الجوانب الخفية من شخصية الإمام كونه مفتي ومحدث وفقيه وحافظ وأصولي وناقد. اللهم اغفر لنا وله و لعلمائنا واجزهم خير الجزاء، ولا تجعل في قلوبنا غلاّ عليهم، ووفقنا للسير على منهجهم وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه محمد بن علي خربوش.
يوم الاثنين 07 ربيع الثاني 1429.
http://www.merathdz.com/play.php?catsmktba=1700

ابو البراء
2008-06-05, 09:32 PM
للفـــائدة

رضا الحملاوي
2011-05-02, 12:32 PM
جزاك الله تعالى كل خيرٍ