المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تهذيب فتح الباري لابن حجر/ بدء الوحي/ الحديث الثالث



إسلام بن منصور
2017-03-29, 12:07 PM
الحديث الثالث
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ- قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}» فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَءًا تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيّ َةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ»، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ).

إسلام بن منصور
2017-03-29, 12:09 PM
الشرح
(حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ) هُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُكَيْرٍ، نسبه إِلَى جَدِّهِ لِشُهْرَتِهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ حُفَّاظِ الْمِصْرِيِّينَ ، وَأَثْبَتُ النَّاسِ فِي اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ الْفَهْمِيِّ فَقِيهِ الْمِصْرِيِّينَ ..
(قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ) بِالضَّمِّ عَلَى التَّصْغِيرِ، وَهُوَ مِنْ أَثْبَتِ الرُّوَاةِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ..
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) هُوَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ الْفَقِيهُ، نُسِبَ إِلَى جَدِّ جَدِّهِ لِشُهْرَتِهِ، الزُّهْرِيُّ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ الْأَعْلَى زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، وَهُوَ مِنْ رَهْطِ آمِنَةَ أُمِّ النَّبِيِّ ﷺ، اتَّفَقُوا عَلَى إِتْقَانِهِ وَإِمَامَتِهِ..
(عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً، أَيْ: مِنْ أَقْسَامِ الْوَحْيِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً، وَرَجَّحَهُ الْقَزَّازُ..
(الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَيُونُسَ عِنْدَ المُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ (الصَّادِقَةُ) وَهِيَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ضِغْثٌ.. وَبُدِئَ بِذَلِكَ لِيَكُونَ تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً لِلْيَقَظَةِ، ثُمَّ مَهَّدَ لَهُ فِي الْيَقَظَةِ أَيْضًا رُؤْيَةَ الضَّوْءِ، وَسَمَاعَ الصَّوْتِ، وَسَلَامَ الحَجَرِ..
( فِي النَّوْمِ) لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ، أَوْ لِيُخْرِجَ رُؤْيَا الْعَيْنِ فِي الْيَقَظَةِ، لِجَوَازِ إِطْلَاقِهَا مَجَازًا..
(فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ) بِنَصْبِ (مِثْلَ) عَلَى الحَالِ، أَيْ: مُشْبِهَةً ضِيَاءَ الصُّبْحِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ: جَاءَتْ مَجِيئًا مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ..
(فَلَقِ الصُّبْحِ) وَالمُرَادُ بِـ (فَلَقِ الصُّبْحِ) ضِيَاؤُهُ.. وَخُصَّ بِالتَّشْبِيهِ لِظُهُورِهِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ..
(ثُمَّ حُبِّبَ) لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ؛ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْبَاعِثِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، أَوْ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَاعِثِ الْبَشَرِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الْإِلْهَامِ..
(إِلَيْهِ الخَلاَءُ) بِالمَدِّ، الْخَلْوَةُ.. وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْخَلْوَةَ فَرَاغُ الْقَلْبِ لِمَا يَتَوَجَّهُ لَهُ..
(وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ) وَالْغَارُ نَقْبٌ فِي الجَبَلِ وَجَمْعُهُ غِيرَانُ..
(حِرَاءٍ) جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِمَكَّةَ..
(فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ) بِمَعْنَى يَتَحَنَّفُ، أَيْ: يَتَّبِعُ الحَنِيْفِيَّةَ ، وَهِيَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ.. أَوِ التَّحَنُّثُ: إِلْقَاءُ الْحِنْثِ وَهُوَ الْإِثْمُ، كَمَا قِيلَ: يَتَأَثَّمُ وَيَتَحَرَّجُ وَنَحْوُهُمَا.
(وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: (يَتَحَنَّثُ)، وَإِبْهَامُ الْعَدَدِ لِاخْتِلَافِهِ، كَذَا قِيلَ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى المُدَدِ الَّتِي يَتَخَلَّلُهَا مَجِيئُهُ إِلَى أَهْلِهِ.. وَاللَّيَالِي مَنْصُوبَةٌ عَلَى الظَّرْفِ..
(قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ) بِكَسْرِ الزَّايِ، أَيْ: يَرْجِعُ، وَزْنًا وَمَعْنًى، وَرَوَاهُ المُؤَلِّفُ بِلَفْظِهِ فِي التَّفْسِيرِ..
(إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ) وَالتَّزَوُّدُ اسْتِصْحَابُ الزَّادِ، وَ(يَتَزَوَّدُ) مَعْطُوفٌ عَلَى يَتَحَنَّثُ..
(ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ) أُمِّ المُؤْمِنِينَ، بِنْتِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، تَأْتِي أَخْبَارُهَا فِي مَنَاقِبِهَا..
(فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا) أَيِ: اللَّيَالِي..
(حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ) أَيِ: الْأَمْرُ الحَقُّ، وَفِي التَّفْسِيرِ: (حَتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ) بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ بَغَتَهُ.. وَسُمِّيَ حَقًّا؛ لِأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى..
(وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ المَلَكُ) هَذِهِ الْفَاءُ تُسَمَّى التَّفْسِيرِيَّ ةَ وَلَيْسَتِ التَّعْقِيبِيَّ ةَ; لِأَنَّ مَجِيءَ المَلَكِ لَيْسَ بَعْدَ مَجِيءِ الْوَحْيِ حَتَّى تُعَقَّبَ بِهِ، بَلْ هُوَ نَفْسُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَفْسِيرِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، بَلِ التَّفْسِيرُ عَيْنُ المُفَسَّرِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ، وَغَيْرُهُ مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ..
(فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ») أَيْ: مَا أُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ..
(قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ، كَأَنَّهُ أَرَادَ ضَمَّنِي وَعَصَرَنِي، وَالْغَطُّ: حَبْسُ النَّفَسِ، وَمِنْهُ غَطَّهُ فِي المَاءِ..
(حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ) رُوِيَ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْبِ، أَيْ: بَلَغَ الْغَطُّ مِنِّي غَايَةَ وُسْعِي، وَرُوِيَ بِالضَّمِّ وَالرَّفْعِ، أَيْ بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ مَبْلَغَهُ..
(ثُمَّ أَرْسَلَنِي) أَيْ: أَطْلَقَنِي..
(فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ) فَإِنْ قِيلَ: لِمَ كَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا ؟ أَجَابَ أَبُو شَامَةَ بِـ: أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ أَوَّلًا «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَثَانِيًا عَلَى الْإِخْبَارِ بِالنَّفْيِ المَحْضِ، وَثَالِثًا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ فِي مَغَازِيهِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: «كَيْفَ أَقْرَأُ؟»، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عند ابْنِ إِسْحَاقَ: «مَاذَا أَقْرَأُ؟»، وَفِي مُرْسَلِ الزُّهْرِيِّ فِي دَلَائِلِ الْبَيْهَقِيِّ: «كَيْفَ أَقْرَأُ؟»، وكُلُّ ذَلِكَ يُؤَيِّدُ أَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّ ةٌ، وَاللهُ أَعْلَمُ.. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ - وَهُوَ قَوْلُهُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» - يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، وَرَدَّهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُفِيدُ التَّقْوِيَةَ وَالتَّأْكِيدَ، وَالتَّقْدِيرُ: لَسْتُ بِقَارِئٍ الْبَتَّةَ..
(فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي) وَلَمْ يَذْكُرِ (الجَهْدَ) هُنَا فِي المَرَّةِ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ ثَابِتٌ عِنْدَ المُؤَلِّفِ فِي التَّفْسِيرِ..
(فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}») فَلمَّا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا قِيلَ لَهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أَيْ: لَا تَقْرَؤُهُ بِقُوَّتِكَ وَلَا بِمَعْرِفَتِكَ، لَكِنْ بِحَوْلِ رَبِّكَ وَإِعَانَتِهِ، فَهُوَ يُعَلِّمُكَ كَمَا خَلَقَكَ، وَكَمَا نَزَعَ عَنْكَ عَلَقَ الدَّمِ، وَغَمْزَ الشَّيْطَانِ فِي الصِّغَرِ، وَعَلَّمَ أُمَّتَكَ حَتَّى صَارَتْ تَكْتُبُ بِالْقَلَمِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أُمِّيَّةً، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ..
(فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: بِالْآيَاتِ أَوْ بِالْقِصَّةِ..
(يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، فَزَمَّلُوهُ) أَيْ: لَفُّوهُ..
(حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ) وَالرَّوْعُ بِالْفَتْحِ: الْفَزَعُ..
(فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي») دَلَّ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ: (يَرْجُفُ فُؤَادُهُ) عَلَى انْفِعَالٍ حَصَلَ لَهُ مِنْ مَجِيءِ المَلَكِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: (زَمِّلُونِي).. وَالْخَشْيَةُ المَذْكُورَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي المُرَادِ بِهَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا: أَوَّلُهَا: الْجُنُونُ وَأَنْ يَكُونَ مَا رَآهُ مِنْ جِنْسِ الْكَهَانَةِ، جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي عِدَّةِ طُرُقٍ، وَأَبْطَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَحُقَّ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ، لَكِنْ حَمَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِ يُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُ قَبْلَ حُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَهُ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُ مَلَكٌ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى.. ثَانِيهَا: الْهَاجِسُ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ وَهَذَا اسْتَقَرَّ وَحَصَلَتْ بَيْنَهُمَا المُرَاجَعَةُ.. ثَالِثُهَا: المَوْتُ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ.. رَابِعُهَا: المَرَضُ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ.. خَامِسُهَا: دَوَامُ المَرَضِ.. سَادِسُهَا: الْعَجْزُ عَنْ حَمْلِ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ.. سَابِعُهَا: الْعَجْزُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى المَلَكِ مِنَ الرُّعْبِ.. ثَامِنُهَا: عَدَمُ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ.. تَاسِعُهَا: أَنْ يَقْتُلُوهُ.. عَاشِرُهَا: مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ.. حَادِيَ عَشَرِهَا: تَكْذِيبُهُمْ إِيَّاهُ.. ثَانِيَ عَشَرِهَا: تَعْيِيرُهُمْ إِيَّاهُ.. وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ وَأَسْلَمُهَا مِنَ الِارْتِيَابِ الثَّالِثُ وَاللَّذَانِ بَعْدَهُ، وَمَا عَدَاهَا فَهُوَ مُعْتَرَضٌ، وَاللهُ المُوَفِّقُ..
(فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ) مَعْنَاهَا النَّفْيُ وَالْإِبْعَادُ..
(وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا) اسْتَدَلَّتْ عَلَى مَا أَقْسَمَتْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ أَبَدًا بِأَمْرٍ اسْتِقْرَائِيٍّ ، وَصَفَتْهُ بِأُصُولِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ; لِأَنَّ الْإِحْسَانَ: إِمَّا إِلَى الْأَقَارِبِ أَوْ إِلَى الْأَجَانِبِ، وَإِمَّا بِالْبَدَنِ أَوْ بِالمَالِ، وَإِمَّا عَلَى مَنْ يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِهِ أَوْ مَنْ لَا يَسْتَقِلُّ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجْمُوعٌ فِيمَا وَصَفَتْهُ بِهِ..
(إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ) بِفَتْحِ الْكَافِ، هُوَ مَنْ لَا يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِهِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ }..
(وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ) تُعْطِي النَّاسَ مَا لَا يَجِدُونَهُ عِنْدَ غَيْرِكَ..
(وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ) وَقَوْلُهَا: (وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ) هِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِـ: أَفْرَادِ مَا تَقَدَّمَ، وَلِمَا لَمْ يَتَقَدَّمْ..
(فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ) أَيْ: مَضَتْ مَعَهُ، فَالْبَاءُ لِلمُصَاحَبَةِ..
(حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَءًا تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: صَارَ نَصْرَانِيًّا، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ هُوَ وَزَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ لمَّا كَرِهَا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ إِلَى الشَّامِ وَغَيْرِهَا يَسْأَلُونَ عَنِ الدِّينِ، فَأَمَّا وَرَقَةُ فَأَعْجَبَهُ دِينُ النَّصْرَانِيَّ ةِ فَتَنَصَّرَ، وَكَانَ لَقِيَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الرُّهْبَانِ عَلَى دِينِ عِيسَى وَلَمْ يُبَدِّلْ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ بِشَأْنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْبِشَارَةِ بِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَفْسَدَهُ أَهْلُ التَّبْدِيلِ، وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو فَسَيَأْتِي خَبَرُهُ فِي المَنَاقِبِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى..
(وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيّ َةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ) وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَمَعْمَرٍ: (وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّة ِ)، وَلِمُسْلِمٍ: (فَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ)، وَالجَمِيعُ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ وَرَقَةَ تَعَلَّمَ اللِّسَانَ الْعِبْرَانِيَّ وَالْكِتَابَةَ الْعِبْرَانِيَّ ةَ، فَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ كَمَا كَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْكِتَابَيْنِ وَاللِّسَانَيْن ِ.. وَإِنَّمَا وَصَفَتْهُ بِكِتَابَةِ الْإِنْجِيلِ دُونَ حِفْظِهِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلَ لَمْ يَكُنْ مُتَيَسِّرًا كَتَيَسُّرِ حِفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ، فَلِهَذَا جَاءَ فِي صِفَتِهَا (أَنَاجِيلُهَا صُدُورُهَا)..
(وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ) قَالَتْ فِي حَقِّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ): لِأَنَّ وَالِدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَوَرَقَةُ فِي عِدَدِ النَّسَبِ إِلَى قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ الَّذِي يَجْتَمِعَانِ فِيهِ سَوَاءً، فَكَانَ مِنْ هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ فِي دَرَجَةِ إِخْوَتِهِ.. أَوْ قَالَتْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْقِيرِ لِسِنِّهِ.. وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ صَاحِبَ الحَاجَةِ يُقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَنْ يُعْرَفُ بِقَدْرِهِ مِمَّنْ يَكُونُ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى المَسْئُولِ، وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِ خَدِيجَةَ لِوَرَقَةَ: (اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ)، أَرَادَتْ بِذَلِكَ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِسَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّعْلِيمِ..
(فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟) فِيهِ حَذْفٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: (فَأَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ ابْنَ عَمِّهَا فَأَخْبَرَتْهُ بِالَّذِي رَأَى)..
(فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا) أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (هَذَا) إِلَى المَلَكِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي خَبَرِهِ، وَنَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الْقَرِيبِ لِقُرْبِ ذِكْرِهِ..
(النَّامُوسُ) وَالنَّامُوسُ: صَاحِبُ السِّرِّ، كَمَا جَزَمَ بِهِ المُؤَلِّفُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.. وَالمُرَادُ بِالنَّامُوسِ هُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ..
(الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى) وَلَمْ يَقُلْ عَلَى عِيسَى مَعَ كَوْنِهِ نَصْرَانِيًّا؛ لِأَنَّ كِتَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ، بِخِلَافِ عِيسَى، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَوْ لِأَنَّ مُوسَى بُعِثَ بِالنِّقْمَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ، بِخِلَافِ عِيسَى، كَذَلِكَ وَقَعَتِ النِّقْمَةُ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِفِرْعَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَمَنْ مَعَهُ بِبَدْرٍ، أَوْ قَالَهُ تَحْقِيقًا لِلرِّسَالَةِ; لِأَنَّ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَى مُوسَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، بِخِلَافِ عِيسَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ.. نَعَمْ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ إِلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: (أَنَّ خَدِيجَةَ أَوَّلًا أَتَتِ ابْنَ عَمِّهَا وَرَقَةَ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِنِي إِنَّهُ لَيَأْتِيهِ نَامُوسُ عِيسَى الَّذِي لَا يُعَلِّمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَبْنَاءَهُمْ)، فَعَلَى هَذَا فَكَانَ وَرَقَةُ يَقُولُ: تَارَةً نَامُوسُ عِيسَى، وَتَارَةً: نَامُوسُ مُوسَى، فَعِنْدَ إِخْبَارِ خَدِيجَةَ لَهُ بِالْقِصَّةِ قَالَ لَهَا: نَامُوسُ عِيسَى، بِحَسَبِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ النَّصْرَانِيَّ ةِ، وَعِنْدَ إِخْبَارِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ قَالَ لَهُ: نَامُوسُ مُوسَى، لِلمُنَاسَبَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَكُلٌّ صَحِيحٍ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ..
(يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا) الجَذَعُ -بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ المُعْجَمَةِ- هُوَ الصَّغِيرُ مِنَ الْبَهَائِمِ، كَأَنَّهُ تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ ظُهُورِ الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ شَابًّا لِيَكُونَ أَمْكَنَ لِنَصْرِهِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ سِرُّ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ كَانَ كَبِيرًا أَعْمَى.. وَضَمِيرُ (فِيهَا) يَعُودُ عَلَى أَيَّامِ الدَّعْوَةِ..
(لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي المُسْتَحِيلِ إِذَا كَانَ فِي فِعْلِ خَيْرٍ; لِأَنَّ وَرَقَةَ تَمَنَّى أَنْ يَعُودَ شَابًّا، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ التَّمَنِّيَ لَيْسَ مَقْصُودًا عَلَى بَابِهِ، بَلِ المُرَادُ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهُ عَلَى صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ، وَالتَّنْوِيهُ بِقُوَّةِ تَصْدِيقِهِ فِيمَا يَجِيءُ بِهِ..
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ») وَاسْتَبْعَدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُخْرِجُوهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ، لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تَقَدَّمَ مِنْ خَدِيجَةَ وَصْفُهَا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ الدُّغُنَّةِ بِمِثْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يُخْرَجُ..
(قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ) وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي التَّفْسِيرِ: (إِلَّا أُوذِيَ).. فَذَكَرَ وَرَقَةُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ: مَجِيئُهُ لَهُمْ بِالِانْتِقَالِ عَنْ مَأْلُوفِهِمْ.. وَلِأَنَّهُ عَلِمَ مِنَ الْكُتُبِ أَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ لِذَلِكَ مُنَابَذَتُهُمْ وَمُعَانَدَتُهُ مْ، فَتَنْشَأُ الْعَدَاوَةُ مِنْ ثَمَّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المُجِيبَ يُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى مَا يُجِيبُ بِهِ إِذَا اقْتَضَاهُ المَقَامُ..
(وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي التَّفْسِيرِ: (حَيًّا).. وَلِابْنِ إِسْحَاقَ: (إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ)، يَعْنِي يَوْمَ الْإِخْرَاجِ..
(أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) بِهَمْزَةٍ، أَيْ: قَوِيًّا، مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَزْرِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ.. وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِزَارِ، أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى تَشْمِيرِهِ فِي نُصْرَتِهِ.. قَالَ الْأَخْطَلُ: قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ .. الْبَيْتَ..
(ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ) قَوْلُهُ: (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ) بِفَتْحِ الشِّينِ المُعْجَمَةِ، أَيْ لَمْ يَلْبَثْ.. وَأَصْلُ النُّشُوبِ التَّعَلُّقُ، أَيْ: لَمْ يَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ حَتَّى مَاتَ..
(وَفَتَرَ الوَحْيُ) وَفُتُورُ الْوَحْيِ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَخُّرِهِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ لِيَذْهَبَ مَا كَانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَهُ مِنَ الرَّوْعِ، وَلِيَحْصُلَ لَهُ التَّشَوُّفُ إِلَى الْعَوْدِ، فَقَدْ رَوَى المُؤَلِّفُ فِي التَّعْبِيرِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

إسلام بن منصور
2017-03-29, 12:11 PM
فروق النسخ
1- (وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ) بِالمَدِّ وَكَسْرِ أَوَّلِهِ، كَذَا فِي الرِّوَايَةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ، وَقَدْ حُكِيَ أَيْضًا، وَحُكِيَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ جَوَازًا لَا رِوَايَةً.
2- (وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا) وَيَحْزُنْكَ، بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالحَاءِ المُهْمَلَةِ وَالزَّايِ المَضْمُومَةِ وَالنُّونِ، مِنَ الحُزْنِ.. وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالْخَاءِ المُعْجَمَةِ وَالزَّايِ المَكْسُورَةِ ثُمَّ الْيَاءِ السَّاكِنَةِ، مِنَ الْخِزْيِ.
3- (وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِي ِّ: (وَتُكْسِبُ)، بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَعَلَيْهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: (الصَّوَابُ المُعْدِمُ، بِلَا وَاوٍ أَيِ: الْفَقِيرُ; لِأَنَّ المَعْدُومَ لَا يَكْسِبُ)، قُلْتُ: وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى المُعْدِمِ المَعْدُومَ؛ لِكَوْنِهِ كَالمَعْدُومِ المَيِّتِ الَّذِي لَا تَصَرُّفَ لَهُ.. وَلِغَيْرِ الْكُشْمِيهَنِي ِّ (وَتَكْسِبُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ.. قُلْتُ: وَهَذِهِ الرَّاجِحَةُ.
4- (فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ) وَلِلْكُشْمِيهَ نِيِّ: (أَنْزَلَ اللهُ)، وَفِي التَّفْسِيرِ: (أُنْزِلَ)، عَلَى الْبِنَاءِ لِلمَفْعُولِ.
5- (يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ (يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعٌ) وَعِنْدَ الْبَاقِينَ: (يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا).

إسلام بن منصور
2017-03-29, 12:11 PM
إيرادات واعتراضات

(ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ) وَهَذَا بِخِلَافِ مَا فِي السِّيرَةِ لِابْنِ إِسْحَاقَ: (أَنَّ وَرَقَةَ كَانَ يَمُرُّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ)، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَأَخَّرَ إِلَى زَمَنِ الدَّعْوَةِ، وَإِلَى أَنْ دَخَلَ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ..
فَإِنْ تَمَسَّكْنَا بِالتَّرْجِيحِ: فَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ..
وَإِنْ لَحَظْنَا الجَمْعَ: أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: (وَفَتَرَ الْوَحْيُ) لَيْسَتْ لِلتَّرْتِيبِ، فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَحْفَظْ لِوَرَقَةَ ذِكْرًا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَجَعَلَ هَذِهِ الْقِصَّةَ انْتِهَاءَ أَمْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ، لَا إِلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ.

إسلام بن منصور
2017-03-29, 12:12 PM
الفوائد المتعلقة بالآداب والتربية والتزكية

1- (فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ، وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ) وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْفَوَائِدِ: اسْتِحْبَابُ تَأْنِيسِ مَنْ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ بِذِكْرِ تَيْسِيرِهِ عَلَيْهِ وَتَهْوِينِهِ لَدَيْهِ.. وَأَنَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُطْلِعَ عَلَيْهِ مَنْ يَثِقُ بِنَصِيحَتِهِ وَصِحَّةِ رَأْيِهِ.
2- (فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ) فِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ صَاحِبَ الحَاجَةِ يُقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَنْ يُعْرَفُ بِقَدْرِهِ مِمَّنْ يَكُونُ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى المَسْئُولِ، وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِ خَدِيجَةَ لِوَرَقَةَ: (اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ)، أَرَادَتْ بِذَلِكَ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِسَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّعْلِيمِ.
3- (فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي المُسْتَحِيلِ إِذَا كَانَ فِي فِعْلِ خَيْرٍ; لِأَنَّ وَرَقَةَ تَمَنَّى أَنْ يَعُودَ شَابًّا، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ التَّمَنِّيَ لَيْسَ مَقْصُودًا عَلَى بَابِهِ، بَلِ المُرَادُ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهُ عَلَى صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ، وَالتَّنْوِيهُ بِقُوَّةِ تَصْدِيقِهِ فِيمَا يَجِيءُ بِهِ.

إسلام بن منصور
2017-03-29, 12:13 PM
الفوائد الحديثية

1- (وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِحِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ (يَتَحَنَّفُ) بِالْفَاءِ.
2- (وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ) هَذَا مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ، وَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الزُّهْرِيِّ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الطِّيبِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهُ، نَعَمْ، فِي رِوَايَةِ المُؤَلِّفِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْهُ فِي التَّفْسِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِدْرَاجِ.
3- (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ) وَإِنْ ثَبَتَ مِنْ مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فِي المَنَامِ أَوَّلًا قَبْلَ الْيَقَظَةِ، أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ المَلَكِ فِي الْيَقَظَةِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ فِي المَنَامِ..
وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَوَّلُ شَأْنِهِ يَرَى فِي المَنَامِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَا رَأَى جِبْرِيلَ بِأَجْيَادٍ، صَرَخَ جِبْرِيلُ: " يَا مُحَمَّدُ "، فَنَظَرَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَرَفَعَ بَصَرَهُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أُفُقِ السَّمَاءِ فَقَالَ " يَا مُحَمَّدُ، جِبْرِيلُ "، فَهَرَبَ فَدَخَلَ فِي النَّاسِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُمْ فَنَادَاهُ فَهَرَبَ، ثُمَّ اسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيلُ مِنْ قِبَلِ حِرَاءَ، فَذَكَرَ قِصَّةَ إِقْرَائِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وَرَأَى حِينَئِذٍ جِبْرِيلَ لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ يَاقُوتٍ يَخْتَطِفَانِ الْبَصَرَ.. وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، وَابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ..
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا (لَمْ أَرَهُ - يَعْنِي جِبْرِيلَ - عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ)..
وَبَيَّنَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْأُولَى كَانَتْ عِنْدَ سُؤَالِهِ إِيَّاهُ أَنْ يُرِيَهُ صُورَتَهُ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، وَالثَّانِيَةَ عِنْدَ الْمِعْرَاجِ..
وَلِلتِّرْمِذِي ِّ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ (لَمْ يَرَ مُحَمَّدٌ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وَمَرَّةً فِي أَجْيَادَ)..
وَهَذَا يُقَوِّي رِوَايَةَ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَتَكُونُ هَذِهِ المَرَّةُ غَيْرَ المَرَّتَيْنِ المَذْكُورَتَيْ نِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَضُمَّهَا إِلَيْهِمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ رَآهُ فِيهَا عَلَى تَمَامِ صُورَتِهِ، وَالْعِلمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
4- (وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ) وَقَعَ فِي السِّيرَةِ الَّتِي جَمَعَهَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فَرَوَاهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ وَلَدِهِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ: (أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فِي حِرَاءَ وَأَقْرَأَهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبَقِيَ مُتَرَدِّدًا، فَأَتَاهُ مِنْ أَمَامِهِ فِي صُورَتِهِ فَرَأَى أَمْرًا عَظِيمًا).
5- (قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي) وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: (فَأَخَذَ بِحَلْقِي).
6- (وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ) وَفِي رِوَايَةِ المُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ (وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ) وَهِيَ مِنْ أَشْرَفِ الْخِصَالِ.. وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: (وَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ).
7- (وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيّ َةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ) وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَمَعْمَرٍ: (وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّة ِ).. وَلِمُسْلِمٍ: (فَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ).. وَالجَمِيعُ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ وَرَقَةَ تَعَلَّمَ اللِّسَانَ الْعِبْرَانِيَّ وَالْكِتَابَةَ الْعِبْرَانِيَّ ةَ، فَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ كَمَا كَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْكِتَابَيْنِ وَاللِّسَانَيْن ِ.
8- (وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ) وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ: (يَا عَمُّ) وَهُوَ وَهْمٌ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لِجَوَازِ إِرَادَةِ التَّوْقِيرِ، لَكِنَّ الْقِصَّةَ لَمْ تَتَعَدَّدْ وَمَخْرَجُهَا مُتَّحِدٌ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، فَتَعَيَّنَ الحَمْلُ عَلَى الحَقِيقَةِ.. وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى فِي الْعِبْرَانِيِّ وَالْعَرَبِيِّ; لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي فِي وَصْفِ وَرَقَةَ وَاخْتَلَفَتِ المَخَارِجُ فَأَمْكَنَ التَّعْدَادُ، وَهَذَا الحُكْمُ يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ مَا أَشْبَهَهُ.
9- (فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟) فِيهِ حَذْفٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: (فَأَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ ابْنَ عَمِّهَا فَأَخْبَرَتْهُ بِالَّذِي رَأَى).
10- (فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى) قَدْ وَرَدَ عِنْدَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ وَرَقَةَ قَالَ: (نَامُوسُ عِيسَى)، وَالْأَصَحُّ مَا تَقَدَّمَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ ضَعِيفٌ..
نَعَمْ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ إِلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: (أَنَّ خَدِيجَةَ أَوَّلًا أَتَتِ ابْنَ عَمِّهَا وَرَقَةَ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِنِي إِنَّهُ لَيَأْتِيهِ نَامُوسُ عِيسَى الَّذِي لَا يُعَلِّمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَبْنَاءَهُمْ)..
فَعَلَى هَذَا فَكَانَ وَرَقَةُ يَقُولُ: تَارَةً نَامُوسُ عِيسَى، وَتَارَةً: نَامُوسُ مُوسَى، فَعِنْدَ إِخْبَارِ خَدِيجَةَ لَهُ بِالْقِصَّةِ قَالَ لَهَا: نَامُوسُ عِيسَى، بِحَسَبِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ النَّصْرَانِيَّ ةِ، وَعِنْدَ إِخْبَارِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ قَالَ لَهُ: نَامُوسُ مُوسَى، لِلمُنَاسَبَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَكُلٌّ صَحِيحٍ. وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
11- (قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ) وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي التَّفْسِيرِ: (إِلَّا أُوذِيَ).
12- (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي التَّفْسِيرِ: (حَيًّا).. وَلِابْنِ إِسْحَاقَ: (إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ).
13- (وَفَتَرَ الوَحْيُ) وَقَعَ فِي تَارِيخِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مُدَّةَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَانَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ..
وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ مُدَّةَ الرُّؤْيَا كَانَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ..
وَعَلَى هَذَا: فَابْتِدَاءُ النُّبُوَّةِ بِالرُّؤْيَا وَقَعَ مِنْ شَهْرِ مَوْلِدِهِ وَهُوَ رَبِيعٌ الْأَوَّلُ بَعْدَ إِكْمَالِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَابْتِدَاءُ وَحْيِ الْيَقَظَةِ وَقَعَ فِي رَمَضَانَ..
وَلَيْسَ المُرَادُ بِفَتْرَةِ الْوَحْيِ المُقَدَّرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَهِيَ مَا بَيْنَ نُزُولِ {اقْرَأْ}، وَ {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} عَدَمَ مَجِيءِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ، بَلْ تَأَخُّرُ نُزُولِ الْقُرْآنَ فَقَطْ..
ثُمَّ رَاجَعْتُ المَنْقُولَ عَنِ الشَّعْبِيِّ مِنْ تَارِيخِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَفْظُهُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: (أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ فَكَانَ يُعَلِّمُهُ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ، فَلمَّا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ قُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلُ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ عِشْرِينَ سَنَةً)..
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُخْتَصَرًا عَنْ دَاوُدَ بِلَفْظِ: (بُعِثَ لِأَرْبَعِينَ، وَوُكِّلَ بِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ وُكِّلَ بِهِ جِبْرِيلُ)..
فَعَلَى هَذَا فَيَحْسُنُ -بِهَذَا المُرْسَلِ إِنْ ثَبَتَ- الجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي قَدْرِ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ، فَقَدْ قِيلَ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: عَشْرٌ، وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِقَدْرِ مُدَّةِ الْفَتْرَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ..
وَقَدْ حَكَى ابْنُ التِّينِ هَذِهِ الْقِصَّةَ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ مِيكَائِيلُ بَدَلَ إِسْرَافِيلَ..
وَأَنْكَرَ الْوَاقِدِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ المُرْسَلَةَ وَقَالَ: (لَمْ يُقْرَنْ بِهِ مِنَ المَلَائِكَةِ إِلَّا جِبْرِيلُ)، انْتَهَى..
وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، فَإِنَّ المُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي إِلَّا إِنْ صَحِبَ النَّافِيَ دَلِيلُ نَفْيِهِ فَيُقَدَّمُ وَاللهُ أَعْلَمُ..
وَأَخَذَ السُّهَيْلِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فَجَمَعَ بِهَا المُخْتَلِفَ فِي مُكْثِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: (جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ المُسْنَدَةِ أَنَّ مُدَّةَ الْفَتْرَةِ سَنَتَانِ وَنِصْفٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مُدَّةَ الرُّؤْيَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَمَنْ قَالَ مَكَثَ عَشْرَ سِنِينَ حَذَفَ مُدَّةَ الرُّؤْيَا وَالْفَتْرَةَ، وَمَنْ قَالَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ أَضَافَهُمَا)..
وَهَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ السُّهَيْلِيُّ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِمُرْسَلِ الشَّعْبِيِّ لَا يَثْبُتُ، وَقَدْ عَارَضَهُ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُدَّةَ الْفَتْرَةِ المَذْكُورَةِ كَانَتْ أَيَّامًا، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

إسلام بن منصور
2017-03-29, 12:14 PM
الفوائد اللغوية

1- (قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ) بِالضَّمِّ عَلَى التَّصْغِيرِ.
2- (وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ) وَالْغَارُ نَقْبٌ فِي الجَبَلِ وَجَمْعُهُ غِيرَانُ.
3- (فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ) بِمَعْنَى يَتَحَنَّفُ، وَالْفَاءُ تُبْدَلُ ثَاءً فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ.
4- (وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ) اللَّيَالِي مَنْصُوبَةٌ عَلَى الظَّرْفِ.. وَذَوَاتُ مَنْصُوبَةٌ أَيْضًا، وَعَلَامَةُ النَّصْبِ فِيهِ كَسْرُ التَّاءِ.
5- (فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ») (مَا) نَافِيَةٌ، إِذْ لَوْ كَانَتِ اسْتِفْهَامِيَّ ةً لَمْ يَصْلُحْ دُخُولُ الْبَاءِ، وَإِنْ حُكِيَ عَنِ الْأَخْفَشِ جَوَازُهُ فَهُوَ شَاذٌّ.. وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: مَا أُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ.
6- (فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: بِالْآيَاتِ أَوْ بِالْقِصَّةِ.
7- (حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ) بِفَتْحِ الرَّاءِ.
8- (بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ) بِنَصْبِ (ابْنِ) وَيُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ وَرَقَةَ، أَوْ صِفَةٌ أَوْ بَيَانٌ، وَلَا يَجُوزُ جَرُّهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ صِفَةً لِـ (عَبْدِ الْعُزَّى)، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَا كَتْبُهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ عَلَمَيْنِ.
9- (يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا) بِالنَّصْبِ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ المُقَدَّرَةِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}.. وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: التَّقْدِيرُ: يَا لَيْتَنِي جُعِلْتُ فِيهَا جَذَعًا.. وَقِيلَ: النَّصْبُ عَلَى الحَالِ إِذَا جَعَلْتَ فِيهَا خَبَرَ لَيْتَ، وَالْعَامِلُ فِي الحَالِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَبَرُ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ ، قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ.
10- (لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: (فِيهِ اسْتِعْمَال (إِذْ) فِي المُسْتَقْبَلِ كَـ (إِذَا)، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَغَفَلَ عَنْهُ أَكْثَرُ النُّحَاةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ}).. هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ.. وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ النُّحَاةَ لَمْ يُغْفِلُوهُ بَلْ مَنَعُوا وُرُودَهُ، وَأَوَّلُوا مَا ظَاهِرُهُ ذَلِكَ وَقَالُوا فِي مِثْلِ هَذَا: اسْتَعْمَلَ الصِّيغَةَ الدَّالَّةَ عَلَى المُضِيِّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ فَأَنْزَلُوهُ مَنْزِلَتَهُ.. وَيُقَوِّي ذَلِكَ هُنَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي التَّعْبِيرِ: (حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ).. وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ: مَا ادَّعَاهُ ابْنُ مَالِكٍ فِيهِ ارْتِكَابُ مَجَازٍ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ فِيهِ ارْتِكَابُ مَجَازٍ، وَمَجَازُهُمْ أَوْلَى، لِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ إِيقَاعَ المُسْتَقْبَلِ فِي صُورَةِ المُضِيِّ تَحْقِيقًا لِوُقُوعِهِ أَوِ اسْتِحْضَارًا لِلصُّورَةِ الْآتِيَةِ فِي هَذِهِ دُونَ تِلْكَ مَعَ وُجُودِهِ فِي أَفْصَحِ الْكَلَامِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِمَنْعِ الْوُرُودِ وُرُودًا مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَةِ الحَالِ لَا عَلَى تَأْوِيلِ الِاسْتِقْبَالِ .
11- (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ») بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا، جَمْعُ مُخْرِجٍ، فَهُمْ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَ(مُخْرِجِيَّ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ.
12- (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) إِنْ شَرْطِيَّةٌ وَالَّذِي بَعْدَهَا مَجْزُومٌ.
(ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ) قَوْلُهُ: (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ) بِفَتْحِ الشِّينِ المُعْجَمَةِ، أَيْ لَمْ يَلْبَثْ، وَأَصْلُ النُّشُوبِ التَّعَلُّقُ، أَيْ: لَمْ يَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ حَتَّى مَاتَ.

إسلام بن منصور
2017-03-29, 12:15 PM
تم

إسلام بن منصور
2017-03-29, 02:44 PM
تهذيب فتح الباري لابن حجر/ بدء الوحي/ الحديث الأول (http://majles.alukah.net/t160246/)
تهذيب فتح الباري لابن حجر/ بدء الوحي/ الحديث الثاني (http://majles.alukah.net/t160259/)

إسلام بن منصور
2017-03-30, 10:57 AM
تهذيب فتح الباري لابن حجر/ بدء الوحي/ الحديث الرابع (http://majles.alukah.net/t160368/)

إسلام بن منصور
2017-03-31, 02:49 PM
تهذيب فتح الباري لابن حجر/ بدء الوحي/ الحديث الخامس (http://majles.alukah.net/t160399/)