مشاهدة النسخة كاملة : تهذيب فتح الباري لابن حجر/ بدء الوحي/ الحديث الأول
إسلام بن منصور
2017-03-26, 08:13 AM
[1] كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
(كَيْفَ كَانَ بَدْءُ) بِالْهَمْزِ مَعَ سُكُونِ الدَّالِ مِنَ الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْ أَفْوَاهِ المَشَايِخِ، ويؤيده مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرُّوايَاتِ (كَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ؟)، وَقَدِ اسْتَعْمَلَ المُصَنِّفُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ كَثِيرًا، كَـ (بَدْءِ الحَيْضِ)، وَ(بَدْءِ الْأَذَانِ)، وَ(بَدْءِ الْخَلْقِ)..
(الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) الْوَحْيُ لُغَةً: الْإِعْلَامُ فِي خَفَاءٍ، وَالْوَحْيُ أَيْضًا: الْكِتَابَةُ وَالمَكْتُوبُ وَالْبَعْثُ وَالْإِلْهَامُ وَالْأَمْرُ وَالْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ وَالتَّصْوِيتُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَقِيلَ أَصْلُهُ التَّفْهِيمُ، وَكُلُّ مَا دَلَّلْتَ بِهِ مِنْ كَلَامٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ فَهُوَ وَحْيٌ، وَشَرْعًا: الْإِعْلَامُ بِالشَّرْعِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَحْيُ وَيُرَادُ بِهِ اسْمُ المَفْعُولِ مِنْهُ، أَيِ المُوحَى، وَهُوَ كَلَامُ اللهِ المُنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ.. والمُرَادُ مِنْ بَدْءِ الْوَحْيِ حَالُهُ مَعَ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَأْنِهِ أَيَّ تَعَلُّقٍ كَانَ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
إسلام بن منصور
2017-03-26, 08:15 AM
وَقَوْلُ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}
(وَقَوْلُ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ) وَالتَّقْدِيرُ: بَابُ مَعْنَى قَوْلِ اللهِ كَذَا، أَوْ الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ اللهِ كَذَا..
({إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}) قِيلَ قَدَّمَ ذِكْرَ نُوحٍ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، أَوْ أَوَّلُ نَبِيٍّ عُوقِبَ قَوْمُهُ، فَلَا يَرِدُ كَوْنُ آدَمَ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ مُطْلَقًا..
وَمُنَاسَبَةُ الْآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ وَاضِحٌ: مِنْ جِهَةِ أَنَّ صِفَةَ الْوَحْيِ إِلَى نَبِيِّنَا ﷺ تُوَافِقُ صِفَةَ الْوَحْيِ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ أَوَّلَ أَحْوَالِ النَّبِيِّينَ فِي الْوَحْيِ بِالرُّؤْيَا، كَمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ صَاحِبِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْتَى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي المَنَامِ؛ حَتَّى تَهْدَأَ قُلُوبُهُمْ، ثُمَّ يَنْزِلُ الْوَحْيُ بَعْدُ فِي الْيَقَظَةِ).
إسلام بن منصور
2017-03-26, 08:16 AM
الحديث الأول
حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَلَى المِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
إسلام بن منصور
2017-03-26, 08:34 AM
الشرح
(حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ) بْنِ عِيسَى، أَبُو بَكْرٍ، مَنْسُوبٌ إِلَى حُمَيْدِ بْنِ أُسَامَةَ، بَطْنٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، رَهْطِ خَدِيجَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، يَجْتَمِعُ مَعَهَا فِي أَسَدٍ، وَيَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي قُصَيٍّ، وَهُوَ إِمَامٌ كَبِيرٌ مُصَنِّفٌ، رَافَقَ الشَّافِعِيَّ فِي الطَّلَبِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَطَبَقَتِهِ، وَأَخَذَ عَنْهُ الْفِقْهَ، وَرَحَلَ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ، وَرَجَعَ بَعْدَ وَفَاتِهِ إِلَى مَكَّةَ، إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ امْتَثَلَ قَوْلَهُ ﷺ «قَدِّمُوا قُرَيْشًا» فَافْتَتَحَ كِتَابَهُ بِالرِّوَايَةِ عَنِ الحُمَيْدِيِّ لِكَوْنِهِ أَفْقَهَ قُرَشِيٍّ أَخَذَ عَنْهُ، وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ مَكِّيٌّ كَشَيْخِهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ فِي أَوَّلِ تَرْجَمَةِ بَدْءِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ كَانَ بِمَكَّةَ، وَمِنْ ثَمَّ ثَنَّى بِالرِّوَايَةِ عَنْ مَالِكٍ لِأَنَّهُ شَيْخُ أَهْلِ المَدِينَةَ، وَهِيَ تَالِيَةٌ لِمَكَّةَ فِي نُزُولِ الْوَحْيِ وَفِي جَمِيعِ الْفَضْلِ، وَمَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ قَرِينَانِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: (لَوْلَاهُمَا لَذَهَبَ الْعِلمُ مِنَ الْحِجَازِ)..
(قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، الْهِلَالِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ، المَكِّيُّ، أَصْلُهُ وَمَوْلِدُهُ الْكُوفَةُ، وَقَدْ شَارَكَ مَالِكًا فِي كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِهِ، وَعَاشَ بَعْدَهُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ سَبْعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ..
(قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ) اسْمُ جَدِّهِ قَيْسُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ صَحَابِيٌّ، وَيَحْيَى مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ..
(قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الحَارِثِ بْنِ خَالِدٍ التَّيْمِيُّ، مِنْ أَوْسَاطِ التَّابِعِينَ..
(أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ) مِنْ كِبَارِهِمْ.. فَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ، وَفِي المَعْرِفَةِ لِابْنِ مَنْدَهْ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ عَلْقَمَةَ صَحَابِيٌّ، فَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ فِيهِ تَابِعِيَّانِ وَصَحَابِيَّانِ .. وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَكْثَرُ الصِّيَغِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا المُحَدِّثُونَ، وَهِيَ: التَّحْدِيثُ، وَالْإِخْبَارُ وَالسَّمَاعُ، وَالْعَنْعَنَةُ ، وَاللهُ أَعْلَمُ..
(يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَلَى المِنْبَرِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، أَيْ: مِنْبَرَ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى فِي تَرْكِ الْحِيَلِ: (سَمِعْتُ عُمَرَ يَخْطُبُ)..
(قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ قَوْلُهُ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» هَذَا التَّرْكِيبُ يُفِيدُ الحَصْرَ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ..
(الأَعْمَالُ) والْأَعْمَالُ تَقْتَضِي عَامِلِيْنَ، وَالتَّقْدِيرُ: الْأَعْمَالُ الصَّادِرَةُ مِنَ المُكَلَّفِينَ.. ثُمَّ لَفْظُ الْعَمَلِ يَتَنَاوَلُ فِعْلَ الجَوَارِحِ حَتَّى اللِّسَانِ فَتَدْخُلُ الْأَقْوَالُ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَأَخْرَجَ بَعْضُهُمُ الْأَقْوَالَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَا تَرَدُّدَ عِنْدِي فِي أَنَّ الحَدِيثَ يَتَنَاوَلُهَا، وَقَدْ تُعُقِّبَ عَلَى مَنْ يُسَمِّي الْقَوْلَ عَمَلًا لِكَوْنِهِ عَمَلَ اللِّسَانِ، بِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا فَقَالَ قَوْلًا لَا يَحْنَثَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَرْجِعَ الْيَمِينِ إِلَى الْعُرْفِ، وَالْقَوْلُ لَا يُسَمَّى عَمَلًا فِي الْعُرْفِ وَلِهَذَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَمَلِ حَقِيقَةً وَيَدْخُلُ مَجَازًا، وَكَذَا الْفِعْلُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ}.. وَأَمَّا التُّرُوكُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ فِعْلَ كَفٍّ لَكِنْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الْعَمَلِ.. وَأَمَّا عَمَلُ الْقَلْبِ كَالنِّيَّةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الحَدِيثُ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّسَلْسُلَ، وَالمَعْرِفَةَ، وَفِي تَنَاوُلِهَا نَظَرٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَصْدُ المَنَوِيِّ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ المَرْءُ مَا يَعْرِفُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا قَبْلَ المَعْرِفَةِ، وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنْ كَانَ المُرَادُ بِالمَعْرِفَةِ مُطْلَقَ الشُّعُورِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ كَانَ المُرَادُ النَّظَرَ فِي الدَّلِيلِ فَلَا; لِأَنَّ كُلَّ ذِي عَقْلٍ يَشْعُرُ مَثَلًا بِأَنَّ لَهُ مَنْ يُدَبِّرُهُ، فَإِذَا أَخَذَ فِي النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ عَلَيْهِ لِيَتَحَقَّقَهُ لَمْ تَكُنِ النِّيَّةُ حِينَئِذٍ مُحَالًا..
(بِالنِّيَّاتِ) كَذَا أُورِدَ هُنَا، وَهُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الجَمْعِ بِالجَمْعِ، أَيْ كُلُّ عَمَلٍ بِنِيَّتِهِ، وَقَالَ الخُوَيِّيُّ: كَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ تَتَنَوَّعُ كَمَا تَتَنَوَّعُ الْأَعْمَالُ، كَمَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللهِ أَوْ تَحْصِيلَ مَوْعُودِهِ أَوْ الِاتِّقَاءَ لِوَعِيدِهِ.. والْبَاءُ لِلمُصَاحَبَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ ، بِمَعْنَى أَنَّهَا مُقَوِّمَةٌ لِلْعَمَلِ، فَكَأَنَّهَا سَبَبٌ فِي إِيجَادِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهِيَ مِنْ نَفْسِ الْعَمَلِ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا تَتَخَلَّفَ عَنْ أَوَّلِهِ.. وَلَابُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الجَارُّ وَالمَجْرُورُ: فَقِيلَ: تُعْتَبَرُ، وَقِيلَ: تُكَمَّلُ، وَقِيلَ: تَصِحُّ، وَقِيلَ: تَحْصُلُ، وَقِيلَ: تَسْتَقِرُّ.. وَالحَدِيثُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ الذَّوَاتَ غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا عَمَلَ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، فَلَيْسَ المُرَادُ نَفْيَ ذَاتِ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، بَلِ المُرَادُ نَفْيُ أَحْكَامِهَا كَالصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ، لَكِنَّ الحَمْلَ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ بِنَفْيِ الشَّيْءِ نَفْسِهِ; وَلِأَنَّ اللَّفْظَ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الذَّاتِ بِالتَّصْرِيحِ وَعَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ بِالتَّبَعِ، فَلمَّا مَنَعَ الدَّلِيلُ نَفْيَ الذَّاتِ بَقِيَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ مُسْتَمِرَّةً، وَقَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الْأَحْسَنُ تَقْدِيرُ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتْبَعُ النِّيَّةَ، لِقَوْلِهِ فِي الحَدِيثِ «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ» إِلَى آخِرِهِ، وَعَلَى هَذَا يُقَدَّرُ المَحْذُوفُ كَوْنًا مُطْلَقًا مِنِ اسْمِ فَاعِلٍ أَوْ فِعْلٍ.. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي النِّيَّاتِ مُعَاقِبَةٌ لِلضَّمِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: الْأَعْمَالُ بِنِيَّاتِهَا، وَعَلَى هَذَا فَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ نِيَّةِ الْعَمَلِ مِنْ كَوْنِهِ مَثَلًا صَلَاةً أَوْ غَيْرَهَا، وَمِنْ كَوْنِهَا فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، ظُهْرًا مَثَلًا أَوْ عَصْرًا، مَقْصُورَةً أَوْ غَيْرَ مَقْصُورَةٍ، وَهَلْ يُحْتَاجُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى تَعْيِينِ الْعَدَدِ ؟ فِيهِ بَحْثٌ، وَالرَّاجِحُ الِاكْتِفَاءُ بِتَعْيِينِ الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْعَدَدِ المُعَيَّنِ، كَالمُسَافِرِ مَثَلًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ إِلَّا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ، لَكِنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْقَصْرِ وَاللهُ أَعْلَمُ.. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ : النِّيَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ انْبِعَاثِ الْقَلْبِ نَحْوَ مَا يَرَاهُ مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ حَالًا أَوْ مَآلًا، وَالشَّرْعُ خَصَّصَهُ بِالْإِرَادَةِ المُتَوَجِّهَةِ نَحْوَ الْفِعْلِ لِابْتِغَاءِ رِضَاءِ اللهِ وَامْتِثَالِ حُكْمِهِ..
(وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: (فِيهِ تَحْقِيقٌ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ)، فَجَنَحَ إِلَى أَنَّهَا مُؤَكَّدَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ تُفِيدُ غَيْرَ مَا أَفَادَتْهُ الْأُولَى; لِأَنَّ الْأُولَى نَبَّهَتْ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ يَتْبَعُ النِّيَّةَ وَيُصَاحِبُهَا، فَيَتَرَتَّبُ الحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ، وَالثَّانِيَةُ أَفَادَتْ أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَحْصُلُ لَهُ إِلَّا مَا نَوَاهُ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: (الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ مَنْ نَوَى شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ -يَعْنِي إِذَا عَمِلَهُ بِشَرَائِطِهِ- أَوْ حَالَ دُونَ عَمَلِهِ لَهُ مَا يُعْذَرُ شَرْعًا بِعَدَمِ عَمَلِهِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَنْوِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ)، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ (مَا لَمْ يَنْوِهِ) أَيْ لَا خُصُوصًا وَلَا عُمُومًا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا مَخْصُوصًا، لَكِنْ كَانَتْ هُنَاكَ نِيَّةٌ عَامَّةٌ تَشْمَلُهُ فَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَنْظَارُ الْعُلَمَاءِ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ مِنَ المَسَائِلِ مَا لَا يُحْصَى، وَقَدْ يَحْصُلُ غَيْرُ المَنْوِيِّ لِمُدْرَكٍ آخَرَ: كَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ فَصَلَّى الْفَرْضَ أَوِ الرَّاتِبَةَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ تَحِيَّةُ المَسْجِدِ نَوَاهَا أَوْ لَمْ يَنْوِهَا; لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالتَّحِيَّةِ شَغْلُ الْبُقْعَةِ، وَقَدْ حَصَلَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَنِ الجَنَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ غُسْلُ الْجُمُعَةِ عَلَى الرَّاجِحِ; لِأَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى التَّعَبُّدِ لَا إِلَى مَحْضِ التَّنْظِيفِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْقَصْدِ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ تَحِيَّةِ المَسْجِدِ وَاللهُ أَعْلَمُ.. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: (أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ اشْتِرَاطَ تَعْيِينِ المَنْوِيِّ، كَمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فَائِتَةٌ لَا يَكْفِيهِ أَنْ يَنْوِيَ الْفَائِتَةَ فَقَطْ حَتَّى يُعَيِّنَهَا ظُهْرًا مَثَلًا أَوْ عَصْرًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّهُ مَا إِذَا لَمْ تَنْحَصِرِ الْفَائِتَةُ)، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي أَمَالِيهِ: (أَفَادَتْ أَنَّ الْأَعْمَالَ الْخَارِجَةَ عَنِ الْعِبَادَةِ لَا تُفِيدُ الثَّوَابَ إِلَّا إِذَا نَوَى بِهَا فَاعِلُهَا الْقُرْبَةَ، كَالْأَكْلِ إِذَا نَوَى بِهِ الْقُوَّةَ عَلَى الطَّاعَةِ)، وَقَالَ غَيْرُهُ: (أَفَادَتْ أَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَدْخُلُ فِي النِّيَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ، فَلَا يَرِدُ مِثْلُ نِيَّةِ الْوَلِيِّ عَنِ الصَّبِيِّ وَنَظَائِرِهِ فَإِنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ)، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: (الْجُمْلَةُ الْأُولَى لِبَيَانِ مَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالثَّانِيَةُ لِبَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، وَأَفَادَتْ: أَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ بِنَفْسِهَا، وَأَمَّا مَا يَتَمَيَّزُ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ بِصُورَتِهِ إِلَى مَا وُضِعَ لَهُ، كَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ وَالتِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعَادَةِ)، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى أَصْلِ الْوَضْعِ، أَمَّا مَا حَدَثَ فِيهِ عُرْفٌ كَالتَّسْبِيحِ لِلتَّعَجُّبِ فَلَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ قُصِدَ بِالذِّكْرِ الْقُرْبَةُ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَكَانَ أَكْثَرَ ثَوَابًا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْغَزَّالِيُّ: (حَرَكَةُ اللِّسَانِ بِالذِّكْرِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ تُحَصِّلُ الثَّوَابَ; لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِالْغِيبَةِ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنَ السُّكُوتِ مُطْلَقًا، أَيِ المُجَرَّدِ عَنِ التَّفَكُّرِ)، قَالَ: (وَإِنَّمَا هُوَ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمَلِ الْقَلْبِ)، انْتَهَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ ﷺ «فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» ثُمَّ قَالَ فِي الجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ (أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيُؤْجَرُ ؟): «أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ»؟ وَأُوْرَدَ عَلَى إِطْلَاقِ الْغَزَّالِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ المَرْءَ يُثَابُ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِ الحَرَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهُ.. وَخُصَّ مِنْ عُمُومِ الحَدِيثِ مَا يُقْصَدُ حُصُولُهُ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ تَخُصُّهُ: كَتَحِيَّةِ المَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَنْ مَاتَ زَوْجُهَا فَلَمْ يَبْلُغْهَا الْخَبَرُ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي; لِأَنَّ المَقْصُودَ حُصُولُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَقَدْ وُجِدَتْ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَحْتَجِ المَتْرُوكُ إِلَى نِيَّةٍ..
(فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ) الْهِجْرَةُ: التَّرْكُ، وَالْهِجْرَةُ إِلَى الشَّيْءِ: الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَفِي الشَّرْعِ: تَرْكُ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ وَقَعَتْ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الِانْتِقَالُ مِنْ دَارِ الْخَوْفِ إِلَى دَارِ الْأَمْنِ، كَمَا فِي هِجْرَتَيِ الحَبَشَةِ وَابْتِدَاءِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ، الثَّانِي: الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِالمَدِينَةِ، وَهَاجَرَ إِلَيْهِ مَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ إِذْ ذَاكَ تَخْتَصُّ بِالِانْتِقَالِ إِلَى المَدِينَةِ، إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ فَانْقَطَعَ الِاخْتِصَاص، وَبَقِيَ عُمُومُ الِانْتِقَالِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَاقِيًا..
(إِلَى دُنْيَا) مِنَ الدُّنُوِّ، أَيِ: الْقُرْبِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ: لِسَبْقِهَا لِلْأُخْرَى، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ دُنْيَا لِدُنُوِّهَا إِلَى الزَّوَالِ، وَاخْتُلِفَ فِي حَقِيقَتِهَا: فَقِيلَ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْهَوَاءِ وَالجَوِّ، وَقِيلَ: كُلُّ المَخْلُوقَاتِ مِنَ الجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، وَالْأُولَى أَوْلَى، لَكِنْ يُزَادُ فِيهِ مِمَّا قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا مَجَازًا..
(يُصِيبُهَا) أَيْ: يُحَصِّلُهَا ; لِأَنَّ تَحْصِيلَهَا كَإِصَابَةِ الْغَرَضِ بِالسَّهْمِ بِجَامِعِ حُصُولِ المَقْصُودِ..
(أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا) قِيلَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ لَفْظَ دُنْيَا نَكِرَةٌ وَهِيَ لَا تَعُمُّ فِي الْإِثْبَاتِ، فَلَا يَلْزَمُ دُخُولُ المَرْأَةِ فِيهَا، وَتُعُقِّبَ بِكَوْنِهَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ.. وَنُكْتَةُ الِاهْتِمَامِ: الزِّيَادَةُ فِي التَّحْذِيرِ; لِأَنَّ الِافْتِتَانَ بِهَا أَشَدُّ..
(فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ») يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ بِالضَّمِيرِ لِيَتَنَاوَلَ مَا ذُكِرَ مِنَ المَرْأَةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا أَبْرَزَ الضَّمِيرَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ المَحْذُوفَةُ لِقَصْدِ الِالْتِذَاذِ بِذِكْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَعِظَمِ شَأْنِهِمَا، بِخِلَافِ الدُّنْيَا وَالمَرْأَةِ فَإِنَّ السِّيَاقَ يُشْعِرُ بِالحَثِّ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُمَا، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ : (يَحْتَمِلُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ «إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» مُتَعَلِّقًا بِالْهِجْرَةِ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: قَبِيحَةٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، مَثَلًا، وَيَحْتَمِلُ: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ «فَهِجْرَتُهُ»، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ «مَنْ كَانَتْ») انْتَهَى، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الرَّاجِحُ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْهِجْرَةَ مَذْمُومَةٌ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى تَقْدِيرِ شَيْءٍ يَقْتَضِي التَّرَدُّدَ أَوِ الْقُصُورَ عَنِ الْهِجْرَةِ الْخَالِصَةِ، كَمَنْ نَوَى بِهِجْرَتِهِ مُفَارَقَةَ دَارِ الْكُفْرِ وَتَزَوُّجَ المَرْأَةِ، مَعًا فَلَا تَكُونُ قَبِيحَةً وَلَا غَيْرَ صَحِيحَةٍ، بَلْ هِيَ نَاقِصَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ خَالِصَةً، وَإِنَّمَا أَشْعَرَ السِّيَاقُ بِذَمِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ طَلَبَ المَرْأَةَ بِصُورَةِ الْهِجْرَةِ الْخَالِصَةِ، فَأَمَّا مَنْ طَلَبَهَا مَضْمُومَةً إِلَى الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى قَصْدِ الْهِجْرَةِ لَكِنْ دُونَ ثَوَابِ مَنْ أَخْلَصَ، وَكَذَا مَنْ طَلَبَ التَّزْوِيجَ فَقَطْ، لَا عَلَى صُورَةِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ; لِأَنَّهُ مِنَ الْأَمْرِ المُبَاحِ الَّذِي قَدْ يُثَابُ فَاعِلُهُ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْقُرْبَةَ كَالْإِعْفَافِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ أَبِي طَلحَةَ فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: (تَزَوَّجَ أَبُو طَلحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ، فَكَانَ صَدَاقُ مَا بَيْنَهُمَا الْإِسْلَامُ، أَسْلَمَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ قَبْلَ أَبِي طَلحَةَ، فَخَطَبَهَا فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، فَإِنْ أَسْلَمْتَ تَزَوَّجْتُكَ، فَأَسْلَمَ فَتَزَوَّجَتْهُ )، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَغِبَ فِي الْإِسْلَامِ وَدَخَلَهُ مِنْ وَجْهِهِ، وَضَمَّ إِلَى ذَلِكَ إِرَادَةَ التَّزْوِيجِ المُبَاحِ، فَصَارَ كَمَنْ نَوَى بِصَوْمِهِ الْعِبَادَةَ وَالْحِمْيَةَ، أَوْ بِطَوَافِهِ الْعِبَادَةَ وَمُلَازَمَةَ الْغَرِيمِ، وَاخْتَارَ الْغَزَّالِيُّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوَابِ: (أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَصْدُ الدُّنْيَوِيُّ هُوَ الْأَغْلَبَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَجْرٌ، أَوِ الدِّينِيُّ أُجِرَ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَتَرَدَّدَ الْقَصْدُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَلَا أَجْرَ)، وَأَمَّا إِذَا نَوَى الْعِبَادَةَ وَخَالَطَهَا شيء مِمَّا يُغَايِرُ الْإِخْلَاصَ، فَقَدْ نَقَلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالِابْتِدَاءِ ، فَإِنْ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ لِلهِ خَالِصًا لَمْ يَضُرَّهُ مَا عَرَضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ إِعْجَابٍ أَوْ غَيْرُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
إسلام بن منصور
2017-03-26, 08:47 AM
إيرادات واعتراضات
1- قَدِ اعْتَرَضَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّيْمِيُّ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فَقَالَ: (لَوْ قَالَ: كَيْفَ كَانَ الْوَحْيُ؟ لَكَانَ أَحْسَنَ; لِأَنَّهُ تَعَرَّضَ فِيهِ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوَحْيِ، لَا لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ بَدْءِ الْوَحْيِ فَقَطْ)..
وَتُعُقِّبَ بِـ: أَنَّ المُرَادَ مِنْ بَدْءِ الْوَحْيِ حَالُهُ مَعَ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَأْنِهِ أَيَّ تَعَلُّقٍ كَانَ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
2- قَدِ اعْتُرِضَ عَلَى المُصَنِّفِ فِي إِدْخَالِهِ حَدِيثَ الْأَعْمَالِ هَذَا فِي تَرْجَمَةِ بَدْءِ الْوَحْيِ، وَأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ أَصْلًا، بِحَيْثُ إِنَّ الْخَطَّابِيَّ فِي شَرْحِهِ وَالْإِسْمَاعِي لِيَّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ أَخْرَجَاهُ قَبْلَ التَّرْجَمَةِ، لِاعْتِقَادِهِم َا أَنَّهُ إِنَّمَا أَوْرَدَهُ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ فَقَطْ، وَاسْتَصْوَبَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ صَنِيعَ الْإِسْمَاعِيلِ يِّ فِي ذَلِك، وَقَالَ بنُ رَشِيدٍ: (لَمْ يَقْصِدِ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِهِ سِوَى بَيَانِ حُسْنِ نِيَّتِهِ فِيهِ فِي هَذَا التَّأْلِيفِ، وَقَدْ تُكُلِّفَتْ مُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ فَقَالَ كُلٌّ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ) انْتَهَى..
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَهُ مَقَامَ الخُطْبَةِ لِلْكِتَابِ؛ لِأَنَّ فِي سِيَاقِهِ أَنَّ عُمَرَ قَالَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ فَإِذَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ فِي خُطْبَةِ الْمِنْبَر صلح أَن يكون فِي خُطْبَة الْكِتَابِ..
وَحَكَى المُهَلَّبُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ بِهِ حِينَ قَدِمَ المَدِينَةَ مُهَاجِرًا فَنَاسَبَ إِيرَادَهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانَتْ كَالمُقَدِّمَةِ لَهَا؛ لِأَنَّ بِالْهِجْرَةِ افْتُتِحَ الْإِذْنُ فِي قِتَالِ المُشْرِكِينَ، وَيَعْقُبُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَالْفَتْحُ) انْتَهَى، وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّنِي لَمْ أَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ بِهِ أَوَّلَ مَا هَاجَرَ مَنْقُولًا، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ مَا يَقْتَضِي التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَلَوْ أَرَادَ الْبُخَارِيُّ إِقَامَتَهُ مَقَامَ الخُطْبَةِ فَقَط إِذْ الِابْتِدَاءَ بِهِ تَيَمُّنًا وَتَرْغِيبًا فِي الْإِخْلَاصِ لَكَانَ سِيَاقه قَبْلَ التَّرْجَمَةِ كَمَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِ يُّ وَغَيْرُهُ..
وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ بْنِ النَّجَّارِ قَالَ: (التَّبْوِيبُ يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ وَالحَدِيثِ مَعًا ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ})..
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } قَالَ: (وَصَّاهُمْ بِالْإِخْلَاصِ فِي عِبَادَتِهِ)..
وَعَنْ أَبِي عَبْدِ المَلِكِ الْبَوْنِيِّ قَالَ: (مُنَاسَبَةُ الحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ بَدْءَ الْوَحْيِ كَانَ بِالنِّيَّةِ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى فَطَرَ مُحَمَّدًا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَبَغَّضَ إِلَيْهِ الْأَوْثَانَ، وَوَهَبَ لَهُ أَوَّلَ أَسْبَابِ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، فَلمَّا رَأَى ذَلِكَ أَخْلَصَ إِلَى اللهِ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ يَتَعَبَّدُ بِغَارِ حِرَاءَ، فَقَبِلَ اللهُ عَمَلَهُ وَأَتَمَّ لَهُ النِّعْمَةَ)..
وَقَالَ المُهَلَّبُ مَا مُحَصِّلُهُ: (قَصَدَ الْبُخَارِيُّ الْإِخْبَارَ عَنْ حَالِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَالِ مَنْشَئِهِ، وَأَنَّ اللهَ بَغَّضَ إِلَيْهِ الْأَوْثَانَ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ خِلَالَ الْخَيْرِ وَلُزُومَ الْوِحْدَةِ فِرَارًا مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، فَلمَّا لَزِمَ ذَلِكَ أَعْطَاهُ اللهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ، وَوَهَبَ لَهُ النُّبُوَّةَ، كَمَا يُقَالُ: الْفَوَاتِحُ عُنْوَانُ الْخَوَاتِمِ)، وَلَخَّصَهُ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ..
وَقَالَ ابْنُ المُنِيرِ فِي أَوَّلِ التَّرَاجِمِ: (كَانَ مُقَدِّمَةُ النُّبُوَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ ﷺ الْهِجْرَةَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالْخَلْوَةِ فِي غَارِ حِرَاءَ، فَنَاسَبَ الِافْتِتَاحَ بِحَدِيثِ الْهِجْرَةِ)..
وَمِنَ المُنَاسَبَاتِ الْبَدِيعَةِ الْوَجِيزَةِ: أَنَّ الْكِتَابَ لمَّا كَانَ مَوْضُوعًا لِجَمْعِ وَحْيِ السُّنَّةِ صَدَّرَهُ بِبَدْءِ الْوَحْيِ، وَلمَّا كَانَ الْوَحْيُ لِبَيَانِ الْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ صَدَّرَهُ بِحَدِيثِ الْأَعْمَالِ..
وَمَعَ هَذِهِ المُنَاسَبَاتِ لَا يَلِيقُ الجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالتَّرْجَمَةِ أَصْلًا، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
3- قَوْلُهُ « فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا» كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ، بِحَذْفِ أَحَدِ وَجْهَيِ التَّقْسِيمِ وَهُوَ قَوْلُهُ «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ.. إِلَخْ»، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: (وَقَعَ هَذَا الحَدِيثُ فِي رِوَايَتِنَا، وَجَمِيعِ نُسَخِ أَصْحَابِنَا مَخْرُومًا، قَدْ ذَهَبَ شَطْرُهُ، وَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ هَذَا الْإِغْفَالُ؟! وَمِنْ جِهَةِ مَنْ عَرَضَ مِنْ رُوَاتِهِ؟ فَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الحُمَيْدِيِّ مُسْتَوْفًى، وَقَدْ رَوَاهُ لَنَا الْأَثْبَاتُ مِنْ طَرِيقِ الحُمَيْدِيِّ تَامًّا!!).. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي مَشْيَخَتِهِ: (لَا عُذْرَ لِلْبُخَارِيِّ فِي إِسْقَاطِهِ؛ لِأَنَّ الحُمَيْدِيَّ شَيْخُهُ فِيهِ قَدْ رَوَاهُ فِي مُسْنَدِهِ عَلَى التَّمَامِ.. وَذَكَرَ قَوْمٌ: أَنَّهُ لَعَلَّهُ اسْتَمْلَاهُ مِنْ حِفْظِ الحُمَيْدِيِّ، فَحَدَّثَهُ هَكَذَا، فَحَدَّثَ عَنْهُ كَمَا سَمِعَ، أَوْ حَدَّثَهُ بِهِ تَامًّا فَسَقَطَ مِنْ حِفْظِ الْبُخَارِيِّ.. وَهُوَ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا عِنْدَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى أَحْوَالِ الْقَوْمِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ: الْإِسْقَاطُ فِيهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، فَوُجُودُهُ فِي رِوَايَةِ شَيْخِهِ وَشَيْخِ شَيْخِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ) انْتَهَى، وَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ مُوسَى، وَأَبِي إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ عَنِ الحُمَيْدِيِّ تَامًّا، وَهُوَ فِي مُصَنَّفِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ وَمُسْتَخْرَجَي ْ أَبِي نُعَيْمٍ وَصَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الحُمَيْدِيِّ..
فَإِنْ كَانَ الْإِسْقَاطُ مِنْ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ فَقَدْ يُقَالُ: لِمَ اخْتَارَ الِابْتِدَاءَ بِهَذَا السِّيَاقِ النَّاقِصِ؟! وَالجَوَابُ: قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ اخْتَارَ الحُمَيْدِيَّ لِكَوْنِهِ أَجَلَّ مَشَايِخِهِ المَكِّيِّينَ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ مِنَ المُنَاسَبَةِ..
وَإِنْ كَانَ الْإِسْقَاطُ مِنْهُ: فَالجَوَابُ مَا قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الحَافِظُ فِي أَجْوِبَةٍ لَهُ عَلَى الْبُخَارِيِّ: (إِنَّ أَحْسَنَ مَا يُجَابُ بِهِ هُنَا أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَ لِكِتَابِهِ صَدْرًا يَسْتَفْتِحُ بِهِ، عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنِ اسْتِفْتَاحِ كُتُبِهِمْ بِالخُطَبِ المُتَضَمِّنَةِ لِمَعَانِي مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ التَّأْلِيفِ، فَكَأَنَّهُ ابْتَدَأَ كِتَابَهُ بِنِيَّةٍ رَدَّ عِلمَهَا إِلَى اللهِ، فَإِنْ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ الدُّنْيَا أَوْ عَرَضَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهَا فَسَيَجْزِيهِ بِنِيَّتِهِ، وَنَكَبَ عَنْ أَحَدِ وَجْهَيِ التَّقْسِيمِ مُجَانَبَةً لِلتَّزْكِيَةِ، الَّتِي لَا يُنَاسِبُ ذِكْرُهَا فِي ذَلِكَ المَقَامِ)انْتَ َى مُلَخَّصًا، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْجُمْلَةَ المَحْذُوفَةَ تُشْعِرُ بِالْقُرْبَةِ المَحْضَةِ، وَالْجُمْلَةَ المُبْقَاةَ تَحْتَمِلُ التَّرَدُّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا قَصَدَهُ يُحَصِّلُ الْقُرْبَةَ أَوْ لَا، فَلمَّا كَانَ المُصَنِّفُ كَالمُخْبِرِ عَنْ حَالِ نَفْسِهِ فِي تَصْنِيفِهِ هَذَا بِعِبَارَةِ هَذَا الحَدِيثِ، حَذَفَ الْجُمْلَةَ المُشْعِرَةَ بِالْقُرْبَةِ المَحْضَةِ فِرَارًا مِنَ التَّزْكِيَةِ، وَبَقِيتِ الْجُمْلَةُ المُتَرَدِّدَةُ المُحْتَمِلَةُ تَفْوِيضًا لِلْأَمْرِ إِلَى رَبِّهِ، المُطَّلِعِ عَلَى سَرِيرَتِهِ، المُجَازِي لَهُ بِمُقْتَضَى نِيَّتِهِ..
وَلمَّا كَانَتْ عَادَةُ المُصَنِّفِينَ أَنْ يُضَمِّنُوا الخُطَبَ اصْطِلَاحَهُمْ فِي مَذَاهِبِهِمْ وَاخْتِيَارَاتِ هِمْ، وَكَانَ مِنْ رَأْيِ المُصَنِّفِ جَوَازُ اخْتِصَارِ الحَدِيثِ وَالرِّوَايَةِ بِالمَعْنَى، وَالتَّدْقِيقُ فِي الِاسْتِنْبَاطِ ، وَإِيثَارُ الْأَغْمَضِ عَلَى الْأَجْلَى، وَتَرْجِيحُ الْإِسْنَادِ الْوَارِدِ بِالصِّيَغِ المُصَرِّحَةِ بِالسَّمَاعِ عَلَى غَيْرِهِ، اسْتَعْمَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي هَذَا المَوْضِعِ، بِعِبَارَةِ هَذَا الحَدِيثِ مَتْنًا وَإِسْنَادًا..
وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ تَأَخُّرُ قَوْلِهِ «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ» عَنْ قَوْلِهِ «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا»، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الحُمَيْدِيِّ وَقَعَتْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ هِيَ الْأَخِيرَةَ، كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى بَعْضِ الحَدِيثِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ فَهُوَ مُصَيَّرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى جَوَازِ الِاخْتِصَارِ فِي الحَدِيثِ وَلَوْ مِنْ أَثْنَائِهِ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَاللهُ أَعْلَمُ..
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي غَيْرِ هَذَا المَوْضِعِ: (إِنْ كَانَ الحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ تَامًّا لِمَ خَرَمَهُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّ الْخَرْمَ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ؟ قُلْتُ: لَا جَزْمَ بِالْخَرْمِ; لِأَنَّ المَقَامَاتِ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَعَلَّهُ -فِي مَقَامِ بَيَانِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالنِّيَّةِ وَاعْتِقَادِ الْقَلْبِ- سَمِعَ الحَدِيثَ تَامًّا، وَفِي مَقَامِ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْأَعْمَالِ إِنَّمَا يَصِحُّ بِالنِّيَّةِ سَمِعَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الَّذِي رُوِيَ، ثُمَّ الْخَرْمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَعْضِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ لَا مِنْهُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ مِنْهُ فَخَرْمُهُ ثَمَّ؛ لِأَنَّ المَقْصُودَ يَتِمُّ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَكَانَ المُنَاسِبَ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدِ الْخَرْمِ الشِّقَّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَقْصُودِهِ، وَهُوَ أَنَّ النِّيَّةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، قُلْتُ: لَعَلَّهُ نَظَرَ إِلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ الْكَثِيرُ بَيْنَ النَّاسِ)انْتَه ى، وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ، وَلَا سِيَّمَا كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ..
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: (إِنَّ إِيرَادَ الحَدِيثِ تَامًّا تَارَةً وَغَيْرَ تَامٍّ تَارَةً إِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ رَوَى مَا سَمِعَهُ، فَلَا خَرْمَ مِنْ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ الْبُخَارِيَّ يَذْكُرُهَا فِي المَوَاضِعِ الَّتِي يُنَاسِبُ كُلًّا مِنْهَا بِحَسَبِ الْبَابِ الَّذِي يَضَعُهُ تَرْجَمَةً لَهُ)انْتَهَى، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ مِنِ ابْتِدَائِهِ إِلَى انْتِهَائِهِ فَسَاقَهُ فِي مَوْضِعٍ تَامًّا وَفِي مَوْضِعٍ مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِهِ، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا فِي الجَامِعِ الصَّحِيحِ، فَلَا يَرْتَابُ مَنْ يَكُونُ الحَدِيثُ صِنَاعَتَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِهِ; لِأَنَّهُ عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَا ءِ مِنْ صَنِيعِهِ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ الحَدِيثَ الْوَاحِدَ فِي موضوعين عَلَى وَجْهَيْنِ، بَلْ إِنْ كَانَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَدٍ عَلَى شَرْطِهِ ذَكَرَهُ فِي المَوْضِعِ الثَّانِي بِالسَّنَدِ الثَّانِي، وَهَكَذَا مَا بَعْدَهُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ يُعَلِّقُهُ فِي المَوْضِعِ الْآخَرِ، تَارَةً بِالجَزْمِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا، وَتَارَةً بِغَيْرِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ، وَمَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا سَنَدٌ وَاحِدٌ، يَتَصَرَّفُ فِي مَتْنِهِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِهِ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ، وَلَا يُوجَدُ فِيهِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مَذْكُورٌ بِتَمَامِهِ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ إِلَّا نَادِرًا، فَقَدْ عَنِيَ بَعْضُ مَنْ لَقِيتُهُ بِتَتَبُّعِ ذَلِكَ فَحَصَّلَ مِنْهُ نَحْوَ عِشْرِينَ مَوْضِعًا.
إسلام بن منصور
2017-03-26, 08:49 AM
الفوائد المتعلقة بالآداب والتربية والتزكية
اسْتُدِلَّ بِهَذَا الحَدِيثِ: عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ الثِّقَةَ إِذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ جَمَاعَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ ذَلِكَ المَجْلِسِ شَيْئًا، لَا يُمْكِنُ غَفْلَتُهُمْ عَنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي صِدْقِهِ، خِلَافًا لِمَنْ أَعَلَّ بِذَلِكَ; لِأَنَّ عَلْقَمَةَ ذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ لَمْ يَصِحَّ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ عَنْهُ غَيْرِ عَلْقَمَةَ.
إسلام بن منصور
2017-03-26, 08:50 AM
الفوائد العقدية
قوله (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) هَلْ تَخْرُجُ أَعْمَالُ الْكُفَّارِ؟ الظَّاهِرُ الْإِخْرَاجُ; لِأَنَّ المُرَادَ بِالْأَعْمَالِ أَعْمَالُ الْعِبَادَةِ وَهِيَ لَا تَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ وَإِنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِهَا مُعَاقَبًا عَلَى تَرْكِهَا وَلَا يَرِدُ الْعِتْقُ وَالصَّدَقَةُ لِأَنَّهُمَا بِدَلِيلٍ آخَرَ.
إسلام بن منصور
2017-03-26, 08:52 AM
الفوائد الفقهية
1- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ هِيَ –يعني: النِّيَّةُ في العَمَلِ- رُكْنٌ أَوْ شَرْطٌ؟ وَالمُرَجَّحُ أَنَّ إِيجَادَهَا ذِكْرًا فِي أَوَّلِ الْعَمَلِ رُكْنٌ، وَاسْتِصْحَابَه َا حُكْمًا -بِمَعْنَى أَنْ لَا يَأْتِيَ بِمُنَافٍ شَرْعًا- شَرْطٌ..
2- اسْتُدِلَّ بِهَذَا الحَدِيثِ: عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَمَلِ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الحُكْمِ; لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ مُنْتَفِيًا إِذَا خَلَا عَنِ النِّيَّةِ، وَلَا يَصِحُّ نِيَّةُ فِعْلِ الشَّيْءِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ حكمه.
3- وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الحَدِيثِ: عَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ تَطَوُّعًا بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَنْ لَا يُحْسَبَ لَهُ إِلَّا مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الحَدِيثِ، لَكِنْ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِانْعِطَافِهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَهَا» أَيْ: أَدْرَكَ فَضِيلَةَ الجَمَاعَةِ أَوِ الْوَقْتَ، وَذَلِكَ بِالِانْعِطَافِ الَّذِي اقْتَضَاهُ فَضْلُ اللهِ تَعَالَى.
4- وَاسْتُدِلَّ بِمَفْهُومِهِ: عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ بِعَمَلٍ لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِيهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: جَمْعُ التَّقْدِيمِ، فَإِنَّ الرَّاجِحَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ نِيَّةٌ، بِخِلَافِ مَا رَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَخَالَفَهُمْ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ: الجَمْعُ لَيْسَ بِعَمَلٍ، وَإِنَّمَا الْعَمَلُ الصَّلَاةُ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَعَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَلَمْ يَذْكُرَ ذَلِكَ لِلمَأْمُومِينَ الَّذِينَ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَأَعْلَمَهُمْ بِهِ.
5- وَاسْتُدِلَّ بِهِ: عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَى سَبَبٍ، وَيَجْمَعُ مُتَعَدِّدَهُ جِنْسٌ، أَنَّ نِيَّةَ الْجِنْسِ تَكْفِي، كَمَنْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَةٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْ كَوْنَهَا عَنْ ظِهَارٍ أَوْ غَيْرِهِ; لِأَنَّ مَعْنَى الحَدِيثِ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِنِيَّاتِهَا، وَالْعَمَلُ هُنَا الْقِيَامُ بِالَّذِي يَخْرَجُ عَنِ الْكَفَّارَةِ اللَّازِمَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُحْوِجٍ إِلَى تَعْيِينِ سَبَبٍ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ -وَشَكَّ فِي سَبَبِهَا- أَجْزَأَهُ إِخْرَاجُهَا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ.
إسلام بن منصور
2017-03-26, 08:57 AM
الفوائد الحديثية
1- تَوَاتَرَ النَّقْلُ عَنِ الْأَئِمَّةِ فِي تَعْظِيمِ قَدْرِ هَذَا الحَدِيثِ:
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: (لَيْسَ فِي أَخْبَارِ النَّبِيِّ ﷺ شَيْءٌ أَجْمَعَ وَأَغْنَى وَأَكْثَرَ فَائِدَةً مِنْ هَذَا الحَدِيثِ).
وَاتَّفَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَالشَّافِعِيُّ -فِيمَا نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنْهُ- وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَعَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ، وَالدَّارَقُطْن ِيُّ، وَحَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ عَلَى أَنَّهُ ثُلُثُ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ رُبُعُهُ،وَاخْت َلَفُوا فِي تَعْيِينِ الْبَاقِي.
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ أَيْضًا: (يَدْخُلُ فِي ثَلَاثِينَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: (يَدْخُلُ فِي سَبْعِينَ بَابًا)، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَذَا الْعَدَدِ المُبَالَغَةَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ أَيْضًا: (يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ هَذَا الحَدِيثُ رَأْسَ كُلِّ بَابٍ).
وَوَجَّهَ الْبَيْهَقِيُّ كَوْنَهُ ثُلُثَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ يَقَعُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، فَالنِّيَّةُ أَحَدُ أَقْسَامِهَا الثَّلَاثَةِ وَأَرْجَحُهَا; لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً وَغَيْرُهَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ: نِيَّةُ المُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا كَانَتْ خَيْرَ الْأَمْرَيْنِ.
وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِكَوْنِهِ ثُلُثَ الْعِلْمِ أَنَّهُ أَرَادَ أَحَدَ الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تُرَدُّ إِلَيْهَا جَمِيعُ الْأَحْكَامِ عِنْدَهُ، وَهِيَ هَذَا، وَ«مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، وَ«الحَلَالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ».
2- إِنَّ هَذَا الحَدِيثَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ المَشْهُورُونَ، إِلَّا المُوَطَّأَ.
3- وَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي المُوَطَّأِ، مُغْتَرًّا بِتَخْرِيجِ الشَّيْخَيْنِ لَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ.
4- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ: (لَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ، وَلَا عَنْ عَلْقَمَةَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ)، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا اشْتُهِرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَتَفَرَّدَ بِهِ مَنْ فَوْقَهُ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ السَّكَنِ، وَحَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيُّ.
5- أَطْلَقَ الْخَطَّابِيُّ نَفْيَ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ الحَدِيثِ فِي أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ لَكِنْ بِقَيْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ مَعْلُولَةٍ ذَكَرَهَا الدَّارَقُطْنِي ُّ، وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ وَغَيْرُهُمَا، ثَانِيهُمَا: السِّيَاقُ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحَّتْ فِي مُطْلَقِ النِّيَّةِ، كَحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ «يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»، وَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «رُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، اللهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَحَدِيثِ عُبَادَةَ «مَنْ غَزَا وَهُوَ لَا يَنْوِي إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَسَّرُ حَصْرُهُ.
6- عُرِفَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ غَلَطُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ حَدِيثَ عُمَرَ مُتَوَاتِرٌ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى التَّوَاتُرِ المَعْنَوِيِّ فَيُحْتَمَلُ.
7- نَعَمْ، قَدْ تَوَاتَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: فَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ النَّقَّاشُ الحَافِظُ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ نَفْسًا، وَسَرَدَ أَسْمَاءَهُمْ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ فَجَاوَزَ الثَّلَاثَمِائَ ةِ.. وَرَوَى أَبُو مُوسَى المَدِينِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ مُذَاكَرَةً، عَنِ الحَافِظِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الْهَرَوِيِّ قَالَ: (كَتَبْتُهُ مِنْ حَدِيثِ سَبْعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِ يَحْيَى)، قُلْتُ: وَأَنَا أَسْتَبْعِدُ صِحَّةَ هَذَا؛ فَقَدْ تَتَبَّعْتُ طُرُقَهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ المَشْهُورَةِ، وَالْأَجْزَاءِ المَنْثُورَةِ مُنْذُ طَلَبْتُ الحَدِيثَ إِلَى وَقْتِي هَذَا، فَمَا قَدَرْتُ عَلَى تَكْمِيلِ الْمِائَةِ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ طُرُقَ غَيْرِهِ فَزَادَتْ عَلَى مَا نُقِلَ عَمَّنْ تَقَدَّمَ، كَمَا سَيَأْتِي مِثَالٌ لِذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي غُسْلِ الْجُمُعَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
8- (بِالنِّيَّاتِ) وَقَعَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ بِإِفْرَادِ النِّيَّةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ وَهُوَ مُتَّحِدٌ فَنَاسَبَ إِفْرَادَهَا، بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالظَّوَاهِرِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ فَنَاسَبَ جَمْعَهَا، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ تَرْجِعُ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَهُوَ وَاحِدٌ لِلْوَاحِدِ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ.
إسلام بن منصور
2017-03-26, 09:01 AM
الفوائد اللغوية
1- قوله (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) إِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ تَغَايُرُ الشَّرْطِ وَالجَزَاءِ، فَلَا يُقَالُ مَثَلًا: مَنْ أَطَاعَ أَطَاعَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ مَثَلًا: مَنْ أَطَاعَ نَجَا، وَقَدْ وَقَعَا فِي هَذَا الحَدِيثِ مُتَّحِدَيْنِ، فَالجَوَابُ: أَنَّ التَّغَايُرَ يَقَعُ تَارَةً بِاللَّفْظِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَتَارَةً بِالمَعْنَى وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاقِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا}، وَهُوَ مُؤَوَّلٌ عَلَى إِرَادَةِ المَعْهُودِ المُسْتَقِرِّ فِي النَّفْسِ، كَقَوْلِهِمْ: أَنْتَ أنت، أَيِ: الصَّدِيقُ الْخَالِصُ، وَقَوْلُهُمْ: هُمْ هُمْ، أَيِ: الَّذِينَ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُمْ، أَوْ هُوَ مُؤَوَّلٌ عَلَى إِقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَ المُسَبَّبِ لِاشْتِهَارِ السَّبَبِ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: (قَدْ يُقْصَدُ بِالْخَبَرِ الْفَرْدِ بَيَانُ الشُّهْرَةِ وَعَدَمِ التَّغَيُّرِ فَيَتَّحِدُ بِالمُبْتَدَأِ لَفْظًا)، وَقَدْ يُفْعَلُ مِثْلُ هَذَا بِجَوَابِ الشَّرْطِ، كَقَوْلِكَ: مَنْ قَصَدَنِي فَقَدْ قَصَدَنِي، أَيْ: فَقَدْ قَصَدَ مَنْ عُرِفَ بِإِنْجَاحِ قَاصِدِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: (إِذَا اتَّحَدَ لَفْظُ المُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَالشَّرْطِ وَالجَزَاءِ عُلِمَ مِنْهُمَا المُبَالَغَةُ إِمَّا فِي التَّعْظِيمِ وَإِمَّا فِي التَّحْقِيرِ).
2- قوله (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ : (قَوْلُهُ «إِلَى» يَتَعَلَّقُ بِالْهِجْرَةِ إِنْ كَانَ لَفْظُ «كَانَتْ» تَامَّةً، أَوْ هُوَ خَبَرٌ لِـ «كَانَتْ» إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً)، ثُمَّ أَوْرَدَ مَا مُحَصَّلُهُ: (أَنَّ لَفْظَ كَانَ إِنْ كَانَ لِلْأَمْرِ المَاضِي، فَلَا يُعْلَمُ مَا الحُكْمُ بَعْدَ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ)، وَأَجَابَ: (بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ كَانَ الْوُجُودُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانٍ، أَوْ يُقَاسُ المُسْتَقْبَلُ عَلَى المَاضِي، أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ حُكْمَ المُكَلَّفِينَ سَوَاءٌ).
3- (إِلَى دُنْيَا) بِضَمِّ الدَّالِ، وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ كَسْرَهَا، ثُمَّ إِنَّ لَفْظَهَا مَقْصُورٌ غَيْرُ مُنَوَّنٍ، وَهِيَ فُعْلَى.
4- قَالَ التَّيْمِيُّ فِي شَرْحِهِ: قَوْلُهُ (دُنْيَا) هُوَ تَأْنِيثُ (الْأَدْنَى)، لَيْسَ بِمَصْرُوفٍ، لِاجْتِمَاعِ الْوَصْفِيَّةِ وَلُزُومِ حَرْفِ التَّأْنِيثِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ لُزُومَ التَّأْنِيثِ لِلْأَلِفِ المَقْصُورَةِ كَافٍ فِي عَدَمِ الصَّرْفِ، وَأَمَّا الْوَصْفِيَّةُ فَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: (خُلِعَتْ عَنْهَا الْوَصْفِيَّةُ أَوْ أُجْرِيَتْ مَجْرَى مَا لَمْ يَكُنْ وَصْفًا قَطُّ).
إسلام بن منصور
2017-03-26, 09:01 AM
..................تم
يحيى صالح
2017-03-26, 11:11 AM
أحسن الله إليك وبارك في جهودك
ولكن، ألا يغني هذا الكتاب (http://waqfeya.com/book.php?bid=8613) عن ما تفضلت به، أم هناك فروق؟
أبو البراء محمد علاوة
2017-03-26, 12:34 PM
بارك الله فيك، لشيخنا عادل العزازي حفظه الله كتاب طبع منه المجلد الأول والثاني ويتمه خلال هذه الأيام، سماه: (بلوغ الأماني في تهذيب فتح الباري).
إسلام بن منصور
2017-03-26, 02:13 PM
أحسن الله إليك وبارك في جهودك
ولكن، ألا يغني هذا الكتاب (http://waqfeya.com/book.php?bid=8613) عن ما تفضلت به، أم هناك فروق؟
لم أطلع عليه إلا بعد مشاركتكم..
فلما اطلعت عليه رأيته مختصرا كما سماه صاحبه وليس تهذيبا كعملي ولا يخفى عليكم الفارق الكبير بينهما.
بارك الله فيكم.
إسلام بن منصور
2017-03-26, 02:15 PM
بارك الله فيك، لشيخنا عادل العزازي حفظه الله كتاب طبع منه المجلد الأول والثاني ويتمه خلال هذه الأيام، سماه: (بلوغ الأماني في تهذيب فتح الباري).
أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع به المسلمين وأن يكتب له القبول في الأرض.
النايب الطالب
2017-03-26, 05:04 PM
ما شاء الله سلمت براجمك من الأوخاز يا شيخ إسلام... أكمل بارك الله فيك، تهذيبك رائع، ولا يخفى صنيعكم في تفسير الطبري...
إسلام بن منصور
2017-03-26, 05:53 PM
ما شاء الله سلمت براجمك من الأوخاز يا شيخ إسلام... أكمل بارك الله فيك، تهذيبك رائع، ولا يخفى صنيعكم في تفسير الطبري...
جزاكم الله خيرا أخي الحبيب..
أسأل الله سبحانه وتعالى أن أكون عند حسن ظنك.. وألا أخذل من وثق بي.
إسلام بن منصور
2017-03-26, 07:01 PM
تهذيب فتح الباري لابن حجر/ بدء الوحي/ الحديث الثاني (http://majles.alukah.net/t160259/)
أبو البراء محمد علاوة
2017-03-26, 07:34 PM
أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع به المسلمين وأن يكتب له القبول في الأرض.
آمين وإياكم
أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2017-03-26, 07:39 PM
تهذيب مفيد جدًا لمن يريد الوقوف على زُبَد (الفتح) وغُرَرِه.
دُمْتَ مُوفّقًا أيها الشيخ الكريم.
إسلام بن منصور
2017-03-27, 02:00 AM
تهذيب مفيد جدًا لمن يريد الوقوف على زُبَد (الفتح) وغُرَرِه.
دُمْتَ مُوفّقًا أيها الشيخ الكريم.
أكرمك الله أخي الحبيب
إسلام بن منصور
2017-03-29, 02:45 PM
تهذيب فتح الباري لابن حجر/ بدء الوحي/ الحديث الثالث (http://majles.alukah.net/t160351/)
إسلام بن منصور
2017-03-30, 10:56 AM
تهذيب فتح الباري لابن حجر/ بدء الوحي/ الحديث الرابع (http://majles.alukah.net/t160368/)
إسلام بن منصور
2017-03-31, 02:47 PM
تهذيب فتح الباري لابن حجر/ بدء الوحي/ الحديث الخامس (http://majles.alukah.net/t160399/)
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.