تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : دروس في شرح متن لب الأصول في علم الأصول للمتوسطين.



صفاء الدين العراقي
2016-10-16, 07:37 PM
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد...
فهذه دروس ميسرة في شرح متن لب الأصول للإمام زكريا الأنصاري رحمه الله كتبتها لمن درس شرح الورقات وأخذ معه جملة من المقدمات في العلوم الشرعية على ما بينته في هذا الرابط:


http://majles.alukah.net/t156571/

ثم إني بقيت مدة متحيرا كيف أشرح هذا الكتاب فرأيت أولا أن أسير فيه منهج أهل التدقيق فأخذت أكتب عند قوله المقدمات هل هي بكسر الدال أو بفتحها وهل هي مقدمة علم أو مقدمة كتاب وما الفرق بينهما وما النسبة المنطقية بين الاثنين، ثم شرعت في بيان موضوع علم الأصول فجرني هذا إلى بيان قولهم موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية فأخذت أبين الأعراض الذاتية والأعراض الغريبة وما يرد على هذا القول من إشكال، ثم أردت أن أقارن بين لب الأصول والأصل الذي أخذ منه أعني جمع الجوامع ولماذا عدل صاحب اللب عن عبارة الأصل وغير ذلك فرأيت أن الكلام سيطول جدا وسيعسر على الطالب فاستقر ذهني على أن أخفف المباحث وأقتصر على إفهام الطالب متن اللب فإن لتلك المباحث مرحلة أخرى.
وإني أنصح القارئ أن يقرأ ما كتبته في شرحي على الورقات قبل أو بعد أن يقرأ الدرس وسأقتطع من الشرح مقدار ما يتعلق بالدرس المكتوب فقط.

http://www.feqhweb.com/vb/showthread...ll=1#post77869 (http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=11309&p=77869&viewfull=1#post77869)



الدرس الأول- المقدمات

تعريف أصول الفقه والفقه

أصولُ الفقهِ: أَدِلَّةُ الفقهِ الإجماليةُ، وطرقُ استفادةِ جُزئياتِها، وحالُ المستفيدِ.
والفقه: علمٌ بحكمٍ شرعِيٍّ عمليٍّ مُكْتَسَبٌ من دليلٍ تفصيليٍّ.
" أدلة الفقه الإجمالية " اعلم أن أدلة الفقه نوعان: نوع مفصّل معين وهو المتعلق بمسألة معينة نحو ( وأَقيموا الصلاةَ ) فإنه أمر بالصلاة دون غيرها، ونحو ( ولا تقربوا الزنا ) فإنه نهي عن الزنا دون غيره.
ودليل إجمالي غير معين وهي القواعد الأصولية نحو: ( الأمر للوجوب )، و( النهي للتحريم )، و( القياس حجة معتبرة ).
فالإجمالية: قيد احترزنا به عن أدلة الفقه التفصيلية التي تذكر في كتب الفقه فإنها ليست من أصول الفقه.
والاستدلال بالقواعد الأصولية يكون بجعلها مقدمة كبرى، والدليل التفصيلي مقدمة صغرى فنقول في الاستدلال على وجوب التيمم:
فتيمموا في قوله تعالى فإن لم تجدوا ماء فتيمموا أمرٌ- والأمرُ للوجوب= فتيمموا للوجوب أي أن التيمم واجب وهو المطلوب.
فالعلم بوجوب التيمم الذي هو فقه مستفاد من دليل تفصيلي هو ( فتيمموا ) بواسطة دليل إجمالي هو الأمر للوجوب.
وقولنا: " وطرق استفادةِ جُزئياتِها " أي جزئيات أدلة الفقه الإجمالية، وهي أدلة الفقه المفصلة؛ فإن قاعدة الأمر للوجوب مثلا دليل إجمالي له جزئيات كأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فيبحث علم الأصول عن الأدلة الإجمالية، وعن طرق استفادة المسائل الفقهية من الأدلة التفصيلية وذلك بمبحث التعارض والترجيح حيث يبين فيه كيفية رفع التعارض الظاهري بين الأدلة التفصيلية، فالمقصود بالطرق هي المرجحات الآتي بيانها إن شاء الله كقاعدة تقديم الخاص على العام التي يرفع بها التعارض بين العام والخاص.
وقولنا: " وحال المستفيد " أي وصفات المستفيد للأحكام من أدلة الفقه التفصيلية وهو المجتهد فيبين في الأصول ما يشترط في الشخص كي يكون مجتهدا ككونه عالما بالكتاب والسنة ولغة العرب وأصول الفقه.
والخلاصة هي أن علم أصول الفقه يبين فيه ما يلي:
1- القواعد العامة لاستنباط الفقه كقواعد الأمر والنهي.
2- القواعد التي ترفع التعارض بين النصوص.
3- صفات المجتهد أي الشروط اللازمة للاجتهاد.
فهذه الثلاثة مجتمعة هي أصول الفقه.
وأما الفقه فهو: علمٌ بحكمٍ شرعِيٍّ عمليٍّ مُكْتَسَبٌ من دليلٍ تفصيليٍّ.
مثل: النية في الوضوء واجبةٌ، فمن صدّق وحكم بهذه النسبة أي ثبوت الوجوب للنية في الوضوء مستنبطا هذا الحكم من النصوص الشرعية كقوله عليه الصلاة والسلام: ( إنما الأعمال بالنيات ) رواه البخاري ومسلم فقد فقه تلك المسألة.
فقولنا: " علم " أي تصديق.
وقولنا: " حكم شرعي " احترزنا به عن غير الحكم الشرعي كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، وأن النار محرقة، وأن الفاعل مرفوع، فالعلم بها لا يسمى فقها.
وقولنا: " عملي " كالعلم بوجوب النية في الوضوء، وندب الوتر، احترزنا به عن الحكم الشرعي غير المتعلق بعمل كالإيمان بالله ورسوله فليس من الفقه إصطلاحا.
وقولنا " مُكتسَبٌ " بالرفع صفة للعلم وهو العلم النظري، احترزنا به عن العلم غير المكتسب كعلم الله سبحانه وتعالى بالأحكام الشرعية العملية فإنه لا يسمى فقها لأن علم الله أزلي وليس بنظري مكتسب.
وقولنا: " من دليلٍ تفصيليٍّ " احترزنا به عن علم المقلد، فإن علمه بوجوب النية في الوضوء مثلا لا يسمى فقها لأنه أخذه عن تقليد لإمام لا عن دليل تفصيلي.


( شرح النص )

قال الإمام أَبو يحيى زكريا بنُ محمدِ بنِ أحمدَ الأنصاريُّ الشافعيُّ رحمه الله تعالى ( ت 926 هـ ):


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

الحمدُ للهِ الذي وَفَّقَنا للوصولِ إلى معرفةِ الأصولِ، وَيسَّرَ لنا سُلوكَ مناهِجَ بقوَّةٍ أَودَعَها في العقولِ، والصلاةُ السلامُ على محمَّدٍ وآلهِ وصحبهِ الفائزينَ مِنَ اللهِ بالقَبولِ .
وبعدُ فهذا مُختصرٌ في الأَصلينِ وما معَهُما اختصرتُ فيهِ جمعَ الجوامعِ للعلَّامةِ التَّاجِ السُّبْكِيِّ رحِمَهُ اللهُ، وأَبدلْتُ مِنْهُ غيرَ المعتمدِ والواضحِ بهما معَ زياداتٍ حَسَنَةٍ، ونبَّهْتُ على خلافِ المعتزلةِ بعندِنا، وغيرِهمْ بالأصحِّ غالبًا.
وسمَّيْتُهُ لُبَّ الأصولِ راجيًا مِنَ اللهِ القَبولِ، وأَسألُهُ النَّفعَ بهِ فإنَّهُ خيرُ مأمولٍ.
وينحصرُ مقْصُودُهُ في مقدِّمَاتٍ وسبعِ كُتُبٍ.
......................... ......................... ......................... ......................... ...................
( بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ ) الباء في البسملة للمصاحبة لقصد التبرك أي أؤلف مع اسم الله الرحمن الرحيم متبركا باسمه العظيم، والله: علم على المعبود بحق، والرحمن والرحيم صفتان مشبهتان من رحم، والرحمن أبلغ من الرحيم لأنه يزيد عليه بحرف وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولذلك قالوا: الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، وأما الرحيم فهو خاص بالمؤمنين يوم القيامة.
( الحمدُ للهِ ) الحمد هو: وصف المحمود بالكمال حبا له وتعظيما ( الذي وَفَّقَنا ) التوفيق هو: جعل الله فعلَ عبده موافقا لما يحبه ويرضاه ( للوصولِ إلى معرفةِ الأصولِ ) أي أصول الفقه، وفي هذا التعبير براعة استهلال وهو أن يستفتح المتكلم كلامه بألفاظ تدل على مقصوده وهنا ذكر المصنف كلمة الأصول ليشير إلى أن كتابه هذا في علم الأصول.
( وَيسَّرَ ) أي سهّل ( لنا سُلوكَ ) أي دخول ( مناهجَ ) جمع منْهَج و هو: الطريق الواضح، أي سهل الله لنا سلوك طرق واضحة في العلوم ( بـ ) سبب ( قوَّةٍ ) للفهم ( أَودَعها ) اللهُ سبحانه وتعالى ( في العقولِ ) يخص بها من شاء من عباده.
( والصلاةُ السلامُ على محمَّدٍ ) الصلاة من الله هو ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، ومن الملائكة والخلق هو طلب ذلك الثناء من الله تعالى، والسلام أي التسليم من كل النقائص، ومحمد اسم نبينا عليه الصلاة والسلام سمّي به بإلهام من الله تعالى لأنه يكثر حمد الخلق له لكثرة صفاته الجميلة ( وآلهِ ) هم مؤمنو بني هاشِم وبني المطَّلِب ( وصحبهِ ) أي أصحابه والصحابي من اجتمع مؤمنا بنبينا صلى الله عليه وسلم ( الفائزينَ ) أي الظافرينَ ( مِنَ اللهِ بالقَبولِ ) والرضا.
( وبعدُ ) أي بعد ما تقدم من البسملة والحمدلة والصلاة والسلام على من ذكر ( فهذا ) المُؤَلَّفُ ( مُختصرٌ ) وهو ما قل لفظه وكثر معناه ( في الأَصلينِ ) أي أصول الفقه وأصول الدين ( وما معَهُما ) أي مع الأصلين من المقدمات والخاتمة التي ذكر فيها نبذة في السلوك والتصوّف ( اختصرتُ فيهِ ) أي في هذا المختصر ( جمعَ الجوامعِ للعلَّامةِ ) عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي الملقّب بـ ( التَّاجِ ) أي تاج الدين ( السُّبْكِيِّ ) نسبة إلى سُبْكٍ وهي قرية من قرى محافظة المنوفية بمصر المتوفي عام 771 هـ ( رحِمَهُ اللهُ ) وغفر له ( وأَبدلْتُ ) معطوف على اختصرتُ ( مِنْهُ ) أي من جمع الجوامع ( غيرَ المعتمدِ ) من المسائل ( و ) غير ( الواضحِ ) من الألفاظ ( بهما ) أي بالمعتمد والواضح ( معَ زياداتٍ حسنةٍ ) أضافها على جمع الجوامع.
( ونبَّهْتُ على خلافِ المعتزلةِ بـ ) قوله ( عندِنا ) أي عند الأشاعرة فحيث قال: عندنا فيعرف أن المعتزلة- ولو مع غيرهم- قد خالفوا الأشاعرة في هذه المسألة.
( و ) نبهَّتُ على خلاف ( غيرِهمْ ) أي غير المعتزلة كالحنفية والمالكية وبعض أصحابنا الشافعية ( بالأصحِّ ) فحيث قال: الأصح كذا فيعرف وجود خلاف في المسألة لغير المعتزلة ( غالبًا ) أي هذا بحسب غالب استعماله للتعبير بعندنا وبالأصح وقد ينبه على الخلاف بقوله: والمختار كذا.
( وسمَّيْتُهُ ) أي هذا المختصر ( لُبَّ الأصولِ ) واللب خالص كل شيء فمن أراد لبَّ هذا العلم فعليه بهذا الكتاب ( راجيًا ) أي مؤملا ( مِنَ اللهِ القَبولِ ) أي أن يتقبله عنده ولا يرده على صاحبه ( وأَسألُهُ النَّفعَ بهِ ) أي بلب الأصول لمؤلفه وقارئه ومستمعه وسائر المؤمنين (فإنَّهُ خيرُ مأمولٍ ) أي مرجو.
( وينحصرُ مقْصُودُهُ ) أي مقصود لب الأصول ( في مقدِّمَاتٍ ) أي أمور متقدمة على الكتب السبعة تعرض فيها لتعريف علم الأصول وبيان الحكم الشرعي وأقسامه وغير ذلك ( وسبعِ كُتُبٍ ) الكتاب الأول في القرآن، والثاني في السنة، والثالث في الإجماع، والرابع في القياس، والخامس في الاستدلال بغير ذلك من الأدلة كالاستصحاب وبيان الأدلة المختلف فيها، والسادس في التعارض والترجيح، والسابع في الاجتهاد وما يتبعه من التقليد وأدب الفتيا، وما ضم إليه من مسائل علم الكلام وخاتمة التصوف، فهذا هو محتوى هذا الكتاب.


الُمقَدِّمَات

أصولُ الفقهِ: أَدِلَّةُ الفقهِ الإجماليةُ، وطرقُ استفادةِ جُزئياتِها، وحالُ مُسْتَفِيدِها. وقِيلَ مَعْرِفَتُها.
والفِقْهُ: علمٌ بحكمٍ شرعيٍ عمليٍ مكتسبٌ من دليلٍ تفصيليٍّ.
......................... ......................... ......................... ......................... ...................
هذا مبحث ( المقدِّمات ) وهي أمور متقدِّمة على المقصود ينتفع بها الطالب قبل أن يدخل في مباحث العلم، ابتدأها بتعريف العلم كي يتصوره الطالب تصورا إجماليا قبل أن يدخل فيه فقال: ( أصولُ الفقهِ ) أي هذا الفن المسمى بهذا الاسم هو ( أَدِلَّةُ الفقهِ الإجماليةُ ) أي غير المعينة كالأمر للوجوب والنهي للتحريم ( وطرقُ استفادةِ جُزئياتِها ) أي جزئيات أدلة الفقه الإجمالية التي هي أدلة الفقه التفصيلية كأقيموا الصلاة، والمراد بالطرق المرجحات عند التعارض الآتي بيانها في الكتاب السادس ( وحالُ مُسْتَفِيدِها ) أي صفات مستفيد جزئيات أدلة الفقه الإجمالية وهو المجتهد.
( وقِيلَ ) إن أصول الفقه ( مَعْرِفَتُها ) أي معرفة أدلة الفقه الإحمالية وطرق استفادةِ جزئياتها وحال مستفيدها، فبعض العلماء اختار في تعريف أصول الفقه التعبير بأدلة الفقه الإجمالية.. وبعضهم اختار التعبير بمعرفة أدلة الفقه الإجمالية... أي إدراك تلك الأدلة، والفرق بين التعريفين هو أنه على التعريف الأول يكون أصول الفقه نفس الأدلة، عُرفت أم لم تعرف، وعلى التعريف الثاني يكون أصول الفقه المعرفة القائمة بعقل الأصولي، والمصنف أشار بقيل إلى أن التعريف الأول أولى، لأنه أقرب إلى المدلول اللغوي فإن الأصول في اللغة جمع أصل وهو ما يبنى عليه غيره كالدليل فإنه أصل للحكم، والأمر في ذلك هين فإن العلوم المدونة تارة تطلق ويراد بها القواعد وتارة تطلق ويراد بها معرفة تلك القواعد، كالنحو فتارة يراد به الفاعل مرفوع والمفعول به منصوب ونحو ذلك وتارة يراد به معرفة تلك القواعد.
( والفِقْهُ: علمٌ ) أي تصديق ( بحكمٍ شرعيٍ ) أي مأخوذ من الشرع المبعوث به النبي صلى الله عليه وسلم ( عمليٍ ) قيد لإخراج الأحكام الشرعية الاعتقادية كالإيمان بالله واليوم الآخر ( مكتسبٌ ) هو بالرفع صفة للعلم لإخراج العلم غير المكتسب كعلم الله الأزلي ( من دليلٍ تفصيليٍّ ) للحكم قيد لإخراج علم المقلِّد.

صفاء الدين العراقي
2016-10-16, 07:39 PM
http://www.feqhweb.com/vb/showthread...ll=1#post77891 (http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=11309&p=77891&viewfull=1#post77891)

الدرس الثاني- تابع المقدمات

تعريف الحكم الشرعي


الحكمُ الشرعيُّ: خطابُ اللهِ المتَعَلِّقُ بفعلِ المكلَّفِ اقتضاءً أو تخييرًا أو بأعمَّ منه وضعًا.
فقولنا: " خطابُ اللهِ " هو كلامه سبحانه وتعالى.
وقولنا: " المتَعَلِّقُ بفعلِ المكلَّفِ " أي المرتبط بفعل البالغ العاقل على وجه البيان لحاله هل يطلب فعله أو يطلب تركه أو يخير فيه، فلا يكلف صبي أومجنون.
وقولنا: " اقتضاءً " أي طلبا للفعل وجوبا أو ندبا، أو طلبا للترك حرمة أو كراهة.
وقولنا: " أو تخييرًا " أي بين الفعل والترك وهو الإباحة.
مثال ذلك: قوله تعالى: ( وأقيموا الصلاةَ ) فهو خطاب من الله تعالى متعلق بفعل المكلف إيجابا للصلاة عليه.
مثال آخر: قوله تعالى: ( وكلوا واشربوا ) فهو خطاب من الله تعالى متعلق بفعل المكلف إباحًة له للأكل والشرب.
وقولنا: " أو بأعمَّ منه " أي بأعم من أن يكون متعلقا بفعل المكلف أو بغير فعله.
وقولنا: " وضعًا " أي جعلا لشيء علامة على الحكم التكليفي.
مثال ذلك: قوله تعالى: ( أقم الصلاةَ لدلوكِ الشمسِ ) فهو خطاب من الله تعالى متعلق بغير فعل المكلف وهو زوال الشمس عن وسط السماء عند الظهيرة من حيث جعله علامة على حكم شرعي وهو وجوب صلاة الظهر.
فالحكم الشرعي له قسمان:
أولا: الحكم التكليفي وهو : خطابُ الله المتعلقُ بفعلِ المكلَّفِ اقتضاءً أو تخييرًا.
وله خمسة أنواع: الإيجاب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة.
ثانيا: الحكم الوضعي وهو : خطابُ الله الوارد بجعل شيء سببا أو شرطا أو مانعا أو صحيحا أو فاسدا.
وله خمسة أنواع: السبب، والشرط، والمانع، والصحيح، والفاسد.
ويدخل في خطاب الله السنة النبوية لأن السنة مبينة للقرآن ومفصلة له، وكذا سائر الأدلة كالإجماع والقياس لأنها تكشف عن خطاب الله وليست منشئة للحكم قال تعالى: ( إن الحكم إلا لله ).


الكلام النفسي واللفظي

ذهب المتكلمون من الأشاعرة إلى أن الله سبحانه وتعالى لا يتكلم بكلام لفظي صوتي مسموع بل هو متكلم بكلام نفسي توضيحه:
إن كل متكلم يرتّب الكلام في نفسه قبل أن ينطق به، فذلك الكلام اللفظي المسموع يكشف عن وجود مثله في النفس فالذي في النفس كلام نفسي والذي في الخارج كلام لفظي.
مثال: إذا أراد شخص أن يطلب ماء من شخص آخر فقبل أن يحرك لسانه قد قام بنفسه هذا المعنى فذلك المعنى النفسي الذي لا تختلف به اللغات هو الكلام النفسي.
والله سبحانه تكلم بالقرآن والإنجيل والتوراة والزبور وصحف إبراهيم وموسى بكلام نفسي معنوي لا لفظي مسموع فكل تلك الألفاظ التي تتلى معانيها قائمة بنفسه سبحانه منذ الأزل قبل أن يخلق الخلق ويبعث الرسل.
فخطاب الله المتعلق بفعل المكلفين هو كلامه النفسي الأزلي، والقرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها من الأدلة المعتبرة تكشف عن ذلك الخطاب الأزلي وتدل عليه لا أنها نفسه.
فإن قيل فعلى هذا منذ الأزل قد قام في نفسه سبحانه معنى وأقيموا الصلاة ولا تقربوا الزنا أي خاطب الخلق ولا مخاطَب حينئذ فكيف يتم هذا؟
قالوا: إن هذه الخطابات وغيرها متعلقة بالمكلف على نحوين:
الأول: قبل وجوده ويسمى هذا بالتعلق الصلوحي بمعنى أن المخاطب إن وجد مستجمعا لشروط التكليف تعلق الخطاب به.
الثاني: بعد وجوده ويسمى هذا بالتعلق التنجيزي، فالتعلق الأول قديم أزلي، والثاني حادث.
هذا تقرير مذهبهم.
وذهب المتكلمون من المعتزلة إلى نفي هذا الكلام النفسي وأنه سبحانه متكلم بمعنى أنه خلق هذه الأصوات في محل فهو سبحانه خلق صوتا سمعه جبريل وموسى عليهما السلام فبلغوه.
وذهب أهل الحديث والسنة إلى أن الله متكلم بكلام لفظي مسموع وأن جبريل عليه السلام سمع كلام الله من الله فنزل به مبلغا رسله، قال تعالى: ( نزّله روحُ القدسِ من ربِّكَ ).
وهذا هو الحق الذي تشهد به الأدلة وتفصيل ذلك في كتب العقائد.


( شرح النص )

والحكمُ خطابُ اللهِ المتعلِّقُ بفعلِ المكلَّفِ اقتضاءً أو تخييرًا أو بأعمَّ وضعًا، وهو الواردُ سببًا و شرطًا ومانعًا وصحيحًا وفاسدًا.
......................... ......................... ......................... ......................... ...................
لما ذكر أن الفقه علم بحكم شرعي أراد أن يبين المقصود منه فقال: ( والحكمُ خطابُ اللهِ ) أي كلامه المباشر وهو القرآن أو ما يرجع إليه كالسنة والإجماع وسائر الأدلة المعتبرة (المتعلِّقُ بفعل المكلف ) أي المبين لحال فعل المكلف من حيث كونه مطلوب الفعل أو الترك أو مخييرًا فيه، وخرج بقوله المتعلق بفعل المكلف نحو قوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم فإنه خطاب الله تعالى لكن لم يتعلق بفعل المكلف ( اقتضاءً ) أي طلبا للفعل إيجابا وندبا أو طلبا للترك تحريما أو كراهة ( أو تخييرًا ) بين الفعل والترك وهي الإباحة، وخرج بقوله اقتضاءً أو تخييرًا نحو قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون فإنه وإن كان خطاب الله المتعلق بأعمال المكلفين إلا أنه ليس بالاقتضاء أو التخير فإنه لم يفهم منه طلب أو تخيير ( أو ) لم يتعلق بفعل المكلف بل ( بأعمَّ ) من فعل المكلف فقد يتعلق الخطاب الوضعي بفعله كقوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، فإن السرقة فعل المكلف، وقد لا يتعلق بفعله كقوله تعالى: أقم الصلاة لدلوك الشمس، فإن دلوك الشمس أي زوالها عن وسط السماء ليس فعلًا للمكلف ( وضعًا ) أي جعلا للشيء سببا أو شرطا أو مانعا أو عده صحيحا أو فاسدًا ولذا قال ( وهو ) أي الوضع الخطاب ( الواردُ ) بكون الشيء ( سببًا و شرطًا ومانعًا وصحيحًا وفاسدًا ) وسيأتي بيانها إن شاء الله.

صفاء الدين العراقي
2016-10-19, 08:45 AM
الدرس الثالث- تابع المقدمات

التحسين والتقبيح


لا حكم إلا لله.
إذا ثبتَ أن الحكم هو خطاب الله فالحكم لله وحده، وحيث لا حكم لله فلا حكم لغيره وهو الحاكم سبحانه دون ما سواه وهذا محل اتفاق بين المسلمين.
ولكن حصل خلاف بين المسلمين فيما يلي:
هل العقل يمكن أن يدرك حكم الله؟ بمعنى أنه قبل ورود الشريعة ومجيء الرسل هل يمكن للعقل أن يكتشف حكمه سبحانه بناء على ما في الأفعال من مصالح ومفاسد فمثلا كان هنالك خلق يشركون بالله ويسرقون ويكذبون فهل العقل يمكن أن يدرك أن الله ينهى عن الشرك به والسرقة والكذب والظلم ونحوها لأنها قبيحة، وأنه يأمر بالتوحيد والعدل والصدق ونحوها لأنها حسنة، أو أن العقل لا دور له في إدراك هذه الأمور لأنها موقوفة على بيان الشرع ؟
1- قال المعتزلة: إن العقل يمكن له أن يدرك حكم الله فيمكن أن يعرف أنه هذا الفعل واجب عند الله وأن هذا الفعل محرم عند الله ويترتب عليه أنه من فعل الشرك مثلا استحق الذم في الدنيا عند الله والعقاب في الآخرة، ومن فعل التوحيد استحق المدح في الدنيا عند الله والثواب في الآخرة.
2- وقال الأشعرية وأكثر الحنابلة: إن العقل لا يدرك حكم الله قبل مجيء الرسول ولا تعرف الواجبات ولا المحرمات إلا بواسطة الرسل فمن فعل الشرك لم يستحق الذم في الدنيا عند الله ولا العقاب في الآخرة، ومن فعل التوحيد لم يستحق المدح في الدنيا عند الله ولا الثواب في الآخرة لإنه لم يأته رسول.

معاني الحسن والقبح

1- يطلق الحسن ويراد به موافقة الطبع الإنساني، ويراد بالقبح منافرته، كالحلو فهو موافق للطبع، والمر فهو منافر للطبع، وكالفرح والحزن فالأول موافق للطباع والثاني منافر لها، فكل ما كان محبوبا للنفوس فهو موافق للطبع وما كان مبغوضا لها فهو منافر للطبع، فهذا المعنى من الحسن والقبح عقلي أي يدركه العقل لوحده من غير توقف على شريعة ورسول.
2- يطلق الحسن ويراد به صفة الكمال، ويراد بالقبح صفة النقص، كالعلم فهو صفة كمال، وكالجهل فهو صفة نقص، وكالقدرة والحلم والكرم والشجاعة فهي صفات كمال، وكالعجز والطيش والبخل والجبن فهي صفات نقص، وهذا المعنى عقلي أيضا يدركة العقل مستقلا عن الشريعة.
3- يطلق الحسن ويراد به ما استحق فاعله عند الله المدح في الدنيا والثواب في الآخرة، والقبح ما استحق فاعله عند الله الذم في الدنيا، والعقاب في الآخرة، وهذا هو محل الخلاف فذهب الأشاعرة وغيرهم إلى أنه شرعي لأنه أمر غيبي يتوقف على إخبار الرسول، وذهب المعتزلة وغيرهم إلى أنه عقلي يدرك بالعقل.


شكر المنعم

شكر المنعم سبحانه وتعالى بمعنى ثناء العبد على ربه على نعمه بلسانه، واعترافه بقلبه بنعمته وفضله عليه، وصرف جوارحه في القيام بما يحبه خالقه.
ذهب المعتزلة إلى أن هذا الأمر واجب عقلي لأنه مبني على المسألة الأولى فإنه إذا ثبت أن شكر المنعم حسن فيجب على العبد أن يأتي به وإلا عرّض نفسه للذم والعقاب.
وذهب الأشاعرة وغيرهم إلى أنه واجب شرعي لأنه مبني على المسألة الأولى فإن الواجب هو ما استحق فاعله المدح والثواب إن فعل والذم والعقاب إن لم يفعل، وكون الفعل يترتب عليه هذا هو أمر شرعي، فلا يجب على العباد شيئا من شكر أو غيره ولا يحرم عليهم شيء من شرك أو غيره إلا بعد مجيء الرسول، فحيث لا رسول لا واجب ولا محرم.

( شرح النص )

فلا يُدْرَكُ حكمٌ إلا مِنَ اللهِ، وعندنا أَنَّ الحُسْنَ والقُبْحَ بمعنى ترتّبِ الذمِّ حالا والعقابِ مآلًا شرعيّانِ، وأنَّ شُكرَ المنعِمِ واجبٌ بالشرعِ لا العقلِ، وأَنَّه لا حكمَ قبلَهُ بل الأمر موقوفٌ إلى ورودهِ.
.............................. .............................. .............................. .............................
إذا ثبت أن الحكم خطاب الله وحده ( فلا يُدركُ حكمٌ إلا من اللهِ ) وحيث لا خطاب لله فلا يدرك حكمه سبحانه ( وعندنا ) أي عند الأشاعرة ( أَنَّ الحُسْنَ والقُبْحَ ) لشيء ( بمعنى ترتّبِ ) أي استحقاق المدح و ( الذمِّ حالا ) أي في الحياة الدنيا ( والعقابِ مآلًا ) في الآخرة وذلك كحسن الطاعة وقبح المعصية، ثم إن كان المقصود بالمدح والذم هو مدح العقلاء وذمهم لمن اتصف بالكمال والنقص فهذا لا ريب أن عقلي يدرك بالعقل والفطرة، وإن كان المقصود بهما هو المدح والذم عند الله فهذا أمر غيب ( شرعيّانِ ) أي الحسن والقبح بهذا المعنى شرعيان أي لا يحكم بهما إلا الشرع المبعوث به الرسل فلا يؤخذ إلا من الشرع ولا يعرف إلا من الشرع، أما عند المعتزلة فعقليان أي يحكم بهما العقل بمعنى أنه طريق إلى العلم بهما يمكن إدراكه من غير ورود سمع لما في الفعل من مصلحة أو مفسدة يتبعه حسنه أو قبحه عند الله ( و ) عندنا ( أنَّ شكرَ المنعمِ ) وهو صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه من السمع والبصر وغيرهما إلى ما خلق له فيستعمل سمعه ونظره وسائر حواسه فيما يحبه ويرضاه سبحانه ( واجبٌ بالشرعِ لا العقل ) وهذه المسألة فرع من ذلك الأصل وهو أن الحسن والقبح شرعيان ولا حكم قبل الشرع وعليه فمن لم تبلغه دعوة نبي لا يأثم بتركه خلافا للمعنزلة ( و ) عندنا ( أَنَّه لا حكمَ ) يخاطب به الخلق ( قبلَهُ ) أي قبل الشرع ببعثة أحد من الرسل عليهم السلام ( بل الأمرُ ) أي الشأن في ثبوت الحكم أنه ( موقوفٌ إلى ورودهِ ) أي ورود الشرع فحيث لا شرع لا حكم يعلم، وعند المعتزلة أن الأمر غير موقوف على وروده لأن العقل يستكشف حكم الله بما اشتمل عليه الفعل من مصلحة أو مفسدة.
تنبيه: المختار أن فعل المشرك يوصف بأنه سَيِّءٌ وشر وقبيح قبل مجيء الرسول لكن العقوبة إنما تُستحق بمجيء الرسول، وأن من الأفعال ما ظهر حسنه فأمر الله به، ومنها ما ظهر قبحه فنهى الله عنه لما فيه من القبح قال تعالى: ( إِنَّ الله يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى وينهى عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) وعلى هذا عامة السلف.

صفاء الدين العراقي
2016-10-20, 08:48 PM
الدرس الرابع- تابع المقدمات

الحكم التكليفي


المكلّفُ هو: العاقلُ البالِغُ غيرُ الغافِلِ والمُلجَأِ.
فاحترزنا بالعاقل عن المجنون.
وبالبالغ عن الصبي.
وبغير الغافل عن الغافل وهو : مَن لا يدري كالنائم والساهي.
وبغير الملجأ عن الملجأ وهو : من يدري ولا مندوحة له عما ألجئ إليه، أي لا سعة ولا فسحة له.
كمن أخذ وألقي من مكان عال على شخص سيقتل بوقوعه عليه، فهو يدري أنه سيقتل غيره ولكن لا مندوحة له فيكون غير مكلف لأنه لا إرادة له.
وخرج بالملجأ المكره وهو : من يدري وله مندوحة بالصبر عما أكره عليه، كمن وضع سلاح خلف رأسه وأعطي سلاحا ليقتل غيره فإما أن يَقتل أو يُقتل، فهذا له إرادة وليس أمامه إلا الصبر، فهو مكلف؛ لأن الإكراه قد سلب رضاه لا اختياره.
والأحكام التكليفية ستة: الإيجاب والندب والتحريم والكراهة وخلاف الأولى والإباحة.
1- فالإيجاب هو: خطاب الله المقتضي طلب الفعل طلبا جازما، نحو قوله تعالى: وأقيموا الصلاة.
2- والندب هو: خطاب الله المقتضي طلب الفعل طلبا غير جازم، نحو قوله عليه الصلاة والسلام: لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة. رواه البخاري ومسلم.
3- والتحريم هو: خطاب الله المقتضي طلب الترك طلبا جازما، كقوله تعالى ولا تقربوا الزنا.
4- والكراهة هو: خطاب الله المقتضي طلب الترك طلبا غير جازم بنهي مقصود، كقوله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلسْ حتى يصلي ركعتين. رواه الشيخان.
5- وخلاف الأولى هو: خطاب الله المقتضي طلب الترك طلبا غير جازم بنهي غير مقصود.
أي لم يأت نهي مخصوص عن الفعل وإنما يستفاد النهي من ترك الأوامر التي للندب.
نحو قوله عليه الصلاة والسلام: صلوا قبل المغرب، رواه البخاري.
فهو يفيد أن ترك الصلاة قبل المغرب خلاف الأولى، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فالأمر بالشيء الواجب نهي عن ضده المحرم، والأمر بالشيء المندوب نهي عن ضده الذي هو خلاف الأولى.
ولو جاء نهي مخصوص غير جازم عن ترك الصلاة قبل المغرب لكره تركها.
فاتضح أنه إذا ورد نهي مخصوص عن شيء نهيا غير جازم فهو مكروه، وإذا لم يرد نهي مخصوص ولكن ورد دليل ندب يحث على فعل الشيء فحينئذ يكون تركُه تركًا للأولى.
6- والإباحة هي: خطاب الله المقتضي التخيير بين الفعل والترك، كقوله تعالى: ( وكلوا واشربوا ).


( مسائل )

الأولى: الخطاب يتناول المعدوم، بمعنى أنه إن وجد مستجمعا لشروط التكليف تناوله الخطاب.
فقوله تعالى: ( وأقيموا الصلاة ) يتناول من توجّه لهم الخطاب وهم الصحابة رضي الله عنهم وكل من جاء بعدهم، وكذا خطابات النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فكل تكليف وخطاب توجه للجيل الأول فهو يتناول بمقتضى اللفظ كل من جاء بعدهم.
قال تعالى: ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَظ°ذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) أي ومن بلغه القرآن في الأزمنة التالية.
وهذا شائع حتى في العرف فقد يكتب الأب وهو على فراش الموت خطابا لابنه الذي لم يولد يوجهه ويرشده.
الثانية: الواجب والفرض مترادفان أي أنهما لفظان يطلقان على معنى واحد.
وقال الحنفية بالفرق بينهما وهو :
الفرض: ما ثبت بدليل قطعي، كالقرآن والسنة المتواترة، مثل قراءة القرآن في الصلاة الثابتة بقوله تعالى: ( فاقرؤا ما تيسّر من القرآن )، وجاحد الفرض كافر مرتد.
والواجب: ما ثبت بدليل ظني، كخبر الواحد والقياس، مثل قراءة الفاتحة في الصلاة الثابتة بحديث الصحيحين: ( لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب )، وجاحد الواجب فاسق.
والخلاف لفظي أي عائد إلى اللفظ والتسمية لأن حاصله أن ما ثبت بدليل قطعي هل يسمى واجبا كما يسمى فرضا، وأن ما ثبت بدليل ظني هل يسمى فرضا كما يسمى واجبا؟ فعند الحنفية لا وعند الجمهور نعم.
الثالثة: المندوب والمستحب والتطوع والسنة مترادفات.
وقال القاضي حسين من الشافعية وغيره إنها ليست مترادفة بل الفعل إن واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو السنة، وإلا كأن فعله مرة أو مرتين فهو المستحب، أو لم يفعله وهو ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد فهو التطوع.
والخلاف لفظي أيضًا لأن حاصله أن ما سمي بأحد هذه الأسماء هل يسمى بالآخر أو لا فما سمي بالسنة هل يسمى بالمستحب والتطوع أيضا ؟ قال الجمهور نعم وقال القاضي وغيره لا.
الرابعة: لا يجب المندوب بالشروع فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم: الصائمُ المتطوّعُ أميرُ نفسِهِ إنْ شاءَ صامَ وإنْ شاءَ أفطرَ. رواه أحمد الترمذي وهو صحيح.
مثال: من شرع في صلاة نافلة ثم عنّ له أن يقطعها فله ذلك ولا يلزمه القضاء.
مثال: من صام يوما تطوعا لله ثم رأى أن يفطر فله ذلك بلا أثم ولا يلزمه قضاء يوم آخر.
فإن قيل فالحج المندوب يجب إتمامه بالشروع فيه ؟
قلنا: إن الحج مستثنى لأن ندبه كفرضه في النية وغيرها من الأحكام بخلاف الصلاة والصوم ونحوهما، فالفرق هو:
1- نية النفل في الحج المندوب كنية الحج الواجب فينوي فيهما نية الدخول في الحج، بخلاف الصلاة والصوم فنية الفرض فيهما تختلف عن نية النفل، فالصلاة المفروضة كالظهر والعصر ينويهما إن أراد الفرض وينوي النفل كسنة راتبة أو الوتر إن أراد النفل.
2- الكفارة على من فسد حجه بالوطء لا فرق بين حج مفروض أو متطوع فيه، بخلاف الصوم مثلا فإن من وطئ زوجته في رمضان فسد صيامه ولزمته الكفارة، ومن وطئها في صوم متطوع فيه فسد صيامه ولم تلزمه الكفارة.
3- من فسد حجه وجب عليه إتمامه كمن وطئ زوجته في الحج فسد حجه ووجب عليه إتمامه إلى النهاية فلا يخرج منه لا فرق بين فرضه وندبه، وليس كذلك الصلاة والصوم فمتى فسدا خرج منهما وبطلت صلاته وصيامه.


( شرح النص )

والأَصحُّ امتِناعُ تكليفِ الغافِلِ والمُلْجَأِ لا المُكْرَهِ، ويتَعلَّقُ الخِطابُ عِندنا بالمعدومِ تَعَلُّقًا مَعْنَوِيًّا، فإِنْ اقتضى فِعلًا غيرَ كفٍّ اقتِضاءً جازِمًا فإِيجابٌ، أَوْ غيرَ جازمٍ فندبٌ، أَو كَفًّا جازِمًا فتحريمٌ، أو غيرَ جازِمٍ بنهيٍ مقصودٍ فكراهةٌ، أَو بغيرِ مقصودٍ فخِلافُ الأولى، أَوْ خَيَّرَ فإباحةٌ، وعرفتَ حُدُودَها، والأَصحُّ ترادُفُ الفرضِ والواجِبِ كالمندوبِ والمستَحَبِّ والتَّطَوُّعِ والسُّنَّةِ، والخُلْفُ لفظِيٌّ، وأَنَّهُ لا يجبُ إتمَامُهُ، وَوَجَبَ في النُّسُكِ لأَنَّهُ كَفَرْضِهِ نِيَّةً وغيرَها.
.............................. .............................. .............................. ................
استفتح المصنف المقدمات بعد تعريف الأصول والفقه بتعريف الحكم بقوله فيما سبق: والحكم خطابُ الله.. والكلام على الحكم يجر إلى بيان: الحاكم، والمحكوم عليه، والمحكوم فيه، فالحاكم هو الله سبحانه وتعالى وقد ذكره بقوله: فلا يدرك حكم إلا من الله وما تبع ذلك من بيان أن العقل ليس بحاكم وأنه لا طريق لمعرفة الحكم بغير الشرع وهو ما يعرف بمسألة التحسين والتقبيح، والمحكوم عليه هو المكلف وقد ذكره هنا بقوله: والأصحُّ امتناع تكليف الغافل.. ،والمحكوم فيه هو العمل المكلف به العبد سيأتي الكلام عليه ( والأَصحُّ امتِناعُ تكليفِ الغافِلِ ) أي يمتنع ويستحيل عقلا أن يخاطب الغافل الذي لا يدري فكيف يقال للنائم مثلا صل وصم، فإن شرط الخطاب هو الفهم والغافل حال غفلته لا يدري ولا يفهم ( والمُلْجَأِ ) وهو المكره على فعل لا مندوحة له عما ألجئ إليه كالملقى من شاهق على شخص يقتله، وهو غير مكلف لأنه مسلوب الإرادة فهو كالسكين في يد القاطع ( لا المُكْرَهِ ) وهو من أكره على فعل من غير إلجاء بحيث يسعه الصبر، وهو مكلف لأن الإكراه سلب رضاه لا إرادته، ثم إن قوله: والأصح يشير إلى وجود خلاف في المسألة، فبعض العلماء ذهب إلى أنه لا يستحيل عقلا تكليف الغافل والملجأ ولكنهم اتفقوا على أنه غير واقع في الشريعة فالأمر لا يعدو عن كونه تدقيقا عقليا ( ويتَعلَّقُ الخِطابُ عِندنا بالمعدومِ تَعَلُّقًا مَعْنَوِيًّا ) أي إذا قلنا إن الخطاب هو الكلام النفسي الأزلي فحينئذ كيف يتعلق نحو وأقيموا الصلاة بالمكلف وهو غير مخلوق أصلا ؟ أجيب بأن التعلق نوعان: تعلق صلوحي معنوي بمعنى أنه إن وجد المكلف مستجمعا للشرائط صلح أن يتعلق الخطاب به، وهذا واقع منذ الأزل، وتعلق تنجيزي حال وجود المكلف والخطاب الأزلي غير متعلق به ( فإِنْ اقتضى ) ذلك الخطاب الأزلي الذي هو الكلام النفسي ( فِعلًا غيرَ كفٍّ اقتِضاءً جازِمًا ) بأن لم يجز تركه ( فإِيجابٌ ) نحو وأقيموا الصلاة، وقوله غير كفّ هذا قيد احترز به عن النهي، بيانه: إذا قيل افعل كذا نحو: قم وصل وصم، فالمطلوب فيها فعل شيء معين، وإذا قيل لا تفعل كذا نحو لا تقم ولا تزن ولا تسرق، فالمطلوب فيها هو كف النفس عن فعل تلك الأشياء وليس مجرد الترك، والكف هو منع النفس عن أن تقدم على فعل شيء ما، وكف النفس هو فعل من الأفعال النفسية التي يفعلها المرء، فحينئذ إذا قيل الأمر طلب فعل يدخل فيه التحريم لأن لا تسرق هو طلب فعل مخصوص وهو الكف عن السرقة، فتلخص أن هنالك فرقا بين الكف والترك، فالكف أمر وجودي تتوجه النفس إليه، والترك أمر عدمي كمن يترك معصية لم تقع في زمانه ولم تخطر على باله، فهنا أمران فعل وهو أمر وجودي، وترك وهو أمر عدمي، والفعل يشمل الفعل غير الكف أي ما ليس فيه منع النفس عن شيء ما بل هو إقدام على فعل ما كالصلاة والصيام، ويشمل الفعل الذي هو كف نحو لا تسرق ولا تزن، فإذا اتضح هذا علم أننا نحتاج للتقييد بقولنا غير كف حتى تستقيم التعاريف، وإنما لم أقيّد في الشرح لأنني بنيت الكلام على المتبادر من الفعل في العرف أنه في قبال الترك فهو أسهل وجرى عليه أيضا بعض العلماء فتأمل ( أو ) اقتضى الخطاب فعلا ( غيرَ جازِمٍ ) بأن جوز الترك ( فندبٌ ) كحديث لولا أن أشق علي أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة ( أَو ) اقتضى الخطاب ( كَفًّا جازِمًا ) بأن لم يجز الفعل ( فتحريمٌ ) نحو ولا تقربوا الزنا ( أو ) اقتضى الخطاب كفًّا ( غيرَ جازِمٍ ) بأن جوز الترك ( بنهيٍ مقصودٍ ) أي مخصوص ( فكراهةٌ ) كحديث إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ( أَو ) اقتضى الخطاب كفًّا غير جازم ( بـ ) نهي ( غيرِ مقصودٍ ) أي غير مخصوص بل مستفاد من أوامر المستحبات ( فخِلافُ الأولى ) كحديث صلوا قبل المغرب المستفاد من ضده أن ترك الصلاة حينئذ خلاف الأولى ( أَوْ خَيَّرَ ) الخطاب بين الفعل المذكور والكف عنه ( فإباحةٌ ) نحو وكلوا واشربوا ( وعرفتَ ) أيها الطالب من هذا التقسيم الذي ذكرته لك ( حُدُودَها ) أي حدود تلك الأقسام فحد الإيجاب: خطاب الله المقتضي فعلا غير كفّ اقتضاء جازما، وحد الندب: خطاب الله المقتضي فعلا غير كفّ اقتضاء غير جازم، وحد التحريم: خطاب الله المقتضي كفًّا اقتضاء جازما، وحد الكراهة: خطاب الله المقتضي كفًّا اقتضاء غير جازم بنهي مخصوص، وحد خلاف الأولى: خطاب الله المقتضي كفًّا اقتضاء غير جازم بنهي غير مخصوص، وحد الإباحة: خطاب الله المخيّر بين فعل الشيء والكف عنه ( والأَصحُّ ترادُفُ ) لفظي ( الفرضِ والواجِبِ ) خلافا للحنفية ( كالمندوبِ ) أي كما أن الأصح ترادف ألفاظ المندوب ( والمستَحَبِّ والتَّطَوُّعِ والسُّنَّةِ ) والحسن والنفل والمرغب فيه أي مسماها واحد وهو الفعل غير الكف المطلوب فعله طلبا غير جازم، وخالف في ذلك القاضي حسين بن محمد من أصحابنا الشافعية، وخالف غيره أيضا فنفوا ترادفها فقالوا: الفعل إن واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو السنة وإلا كأن فعله مرة أو مرتين فهو المستحب أو لم يفعله وهو ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد فهو التطوع ( والخُلْفُ ) أي الخلاف في المسألتين ( لفظِيٌّ ) أي عائد إلى اللفظ والتسمية فالأمر فيهما هين ( وأَنَّهُ ) أي المندوب ( لا يجبُ إتمَامُهُ ) بالشروع فيه خلافا للحنفية ( وَوَجَبَ ) إتمام المندوب اتفاقا ( في النُّسُكِ ) من حج أو عمرة ( لأَنَّهُ ) أي النسك المندوب ( كَفَرْضِهِ ) أي كفرض النسك ( نِيَّةً وغيرَها ) من الأحكام كالكفارة، وهذا جواب سؤال مقدر تقديره إن من تلبّس بنسك مندوب كحج تطوع وجب اتمامه ولا يجوز قطعه فكيف تقولون إن المندوب لا يجب إتمامه ؟ والجواب هو: أن الحج خرج عن القاعدة لخصوصية فيه وهو أن نفله كفرضه في النية وغيرها من الأحكام.
تنبيهان: الأول: قال التاج السبكي صاحب جمع الجوامع: والصواب امتناعُ تكليفِ الغافلِ والملجأ وكذا المكرَه على الصحيح. اهـ وهنا خالفه المصنف في مسألة المكره فاختار تبعا لغيره أنه مكلف، فهذا مصداق واضح لقوله في المقدمة وأبدلت غير المعتمد والواضح بهما، فإن المصنف اعتمد تكليف المكره خلافا للتاج.
الثاني: ليست مسألة تعلق الخطاب بالمعدوم مختصة بالكلام النفسي عند الأشاعرة بل هي تشمل الكلام اللفظي فإنه يقال لفظ وأقيموا الصلاة الذي توجه إلى الصحابة هل يتعلق بمن بعدهم إلى قيام الساعة أو لا ؟ والجواب نعم ولا نحتاج لدليل آخر خلافا للمعتزلة القائلين لا يتناولهم نفس الخطاب الأول لأنهم معدومون ونحتاج لدليل آخر، والصواب هو الأول.

صفاء الدين العراقي
2016-10-22, 06:53 PM
الدرس الخامس- تابع المقدمات

الحكم الوضعي


الأحكام الوضعية خمسة: السببُ، والشرطُ، والمانعُ، والصحيحُ، والباطِلُ.
1- السببُ هو: وصفٌ ظاهرٌ منضبِطٌ مُعَرِّفٌ للحكمِ.
فالوصف هو: معنى من المعاني القائمة بالذات نحو الخمر مسكر، فالخمر ذات والإسكار وصف.
والظاهر هو: الواضح، واحترز به عن الوصف الخفي، كالرضا فهو أمر خفي لا يطلع عليه من البشر غير صاحبه، فلا يقال إن الرضا سبب للبيع لخفائه بل يقال إن القبول والإيجاب سبب للبيع لأن لفظ القبول والإيجاب أمر ظاهر مسموع.
المنضبط هو: المطَّرِدُ الذي لا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة والأمكنة، احترزنا به عن الوصف المضطرب مثل المشقة في السفر لا يصح جعلها سببا للقصر لأنها غير منضبطة تختلف من شخص لآخر ومن صحة لمرض ومن مكان لآخر ومن زمان لزمان وإنما السبب هو المسافة المحددة.
المعرِّف للحكم هو: المبين للحكم كالزنا سبب لوجوب الحد، والزوال سبب لوجوب الظهر، والإسكار سبب لحرمة الخمر.
وخاصة السبب المعرفة له هي: أنه ( يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ) كالزنا يلزم من وجوده وجوب الحد ومن عدمه عدم الحد.
2- والشرط هو : وصف يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم.
كالطهارة يلزم من عدمها عدم صحة الصلاة ولا يلزم من وجودها وجود الصلاة أو عدمها لأنه قد يتوضأ ويصلي وقد لا يصلي.
3- المانع هو : وصف وجودي ظاهر منضبط معرف نقيض الحكم. كالقتل فإنه مانع من الإرث.
وقولنا وجودي احترزنا به عن العدمي، فلا يقال إن عدم شيء هو مانع من كذا، بخلاف السبب فإنه قد يكون وجوديا كالزنا، وقد يكون عدميا كقولهم عدم العقل سبب لعدم صحة تصرف المجنون، لهذا لم يذكر هذا القيد في تعريف السبب.
وقولنا: المعرف نقيض الحكم أي أن وجوده دال على نقيض الحكم المترتب على السبب.
كالقرابة فإنها سبب للإرث وكالقتل فإنه مانع من حصول الإرث المترتّب على السبب، فإذا كانت القرابة يلزمها وجود الإرث، فالقتل مانع من وجود الإرث.
4- الصحيح هو: الفعل الذي وافق الشرع، كالصلاة إذا استجمعت شروطها وأركانها فإنها تكون صحيحة لموافقتها الشرع.
فإذا صحت العبادة قيل عنها إنها مجزئة أي أنها كافية في سقوط الطلب.
وإذا صحت المعاملة قيل عنها إنها نافذة أي تترتب عليها آثارها كالنكاح الصحيح يترتب عليه حل الاستمتاع بين الزوجين.
والباطل هو: الفعل الذي خالف الشرع، بفقد شرط من شروطه أو ركن من أركانه.
فإذا بطلت العبادة كصلاة غير متوضئ لم يسقط الطلب وبقيت الذمة مشغولة بفعل العبادة، وإذا بطلت المعاملة لم تترتب عليها آثارها كالبيع فإنه لا يترتب عليه انتقال المبيع إلى المشتري والثمن إلى البائع، وكالنكاح بلا شهود لا يترتب عليه حل الاستمتاع بين الزوجين.

( مسائل )

الأولى: الفعل قد يكون له وجهان من موافقة الشرع ومخالفته، وقد لا يكون له إلا وجه واحد.
فالأول: كالصلاة والبيع فإنهما تارة يقعان موافقين للشرع فيكونان صحيحين، وتارة يقعان مخالفين للشرع فيكونان باطلين.
والثاني: كمعرفة الله سبحانه والشرك به- عياذًا بالله- فالمعرفة دائما تكون موافقة للشرع، فإن لم تكن كذلك لم تكن معرفة بل كانت جهلا لا معرفة ولا يقال في الجهل إنه معرفة فاسدة، والشرك بالله سبحانه دائما يكون مخالفا فلا يوجد شرك تارة يقع موافقا وتارة يقع مخالفا.
فإذا علم هذا فقولنا الصحيح هو الفعل الذي وافق الشرع، نعني بالفعل الفعل ذا الوجهين أما الفعل الذي له وجه واحد فإنه - بحسب الاصطلاح الأصولي- لا يتصف بالصحة والبطلان.
الثانية: اختلف في تعريف الصحة والبطلان على قولين:
فالقول الأول أن الصحة هي: موافقة الفعل ذي الوجهين الشرع، والبطلان هو مخالفة الفعل ذي الوجهين الشرع.
والقول الثاني أن الصحة في العبادة اسقاط القضاء وفي العقد ترتب آثاره عليه، والبطلان في العبادة عدم سقوم القضاء، وفي العقد عدم ترتب آثاره عليه.
والفرق بينهما يظهر في صلاة شخص ظنّ نفسه متطهرا- وهو في الواقع ليس كذلك- فصلى، فعلى التعريف الأول تسمى صلاته صحيحة لأنها استجمعت الشروط والأركان في اعتقاده وهذا هو المطلوب وإن كنا نلزمه بالقضاء إذا تبين له بعد ذلك أنه لم يكن متطهرًا، وعلى التعريف الثاني لا تسمى صلاته صحيحة لأن القضاء لم يسقط عنه، والخلاف لفظي.
الثالثة: العبادة توصف بالإجزاء وعدمه، والمعاملة لا توصف بالإجزاء بل بالنفوذ أي ترتب أثر العقد على العقد.
الرابعة: هل الباطل والفاسد لفظان مترادفان أو لا ؟ ذهب الجمهور لترادفهما، وذهب الحنفية إلى التفريق بينهما فقالوا:
الباطل: ما لم يشرع بأصله ولا وصفه، والفاسد: ما شرع بأصله دون وصفه.
وذلك أن الشيء إذا وجدت أركانه وشروطه فقد تحقق أصل ماهيته، وهنالك أوصاف لازمة للأصل لكن لا تتوقف حقيقته عليها، فإذا كان النهي راجعا لخلل في الأركان والشروط فهو باطل، وإذا كان النهي ليس راجعا لخلل فيها بل لوصف لازم فهو فاسد.
مثال ذلك الصلاة بدون بعض الشروط أو الأركان كالصلاة بلا وضوء تكون باطلة.
ومثال الفاسد: صوم يوم النحر فالصيام هنا فاسد لأن الخلل لم يرجع إلى أركان الصيام وشروطه بل لما فيه من الإعراض عن ضيافة الرحمن.
ويترتّب على هذا أنه لو نذر أن يصوم يوما فصام يوم النحر لم يصح صومه عند الجمهور وصح مع الحرمة عند الحنفية.
والخلاف لفظي.


( شرح النص )

والسَّبَبُ: وَصْفٌ ظاهِرٌ مُنْضَبِطٌ مُعَرِّفٌ للحُكْمِ، والشَّرْطُ: ما يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ العَدَمُ ولا يلزَمُ منْ وجودِهِ وجودٌ ولا عدمٌ والمانِعُ: وصفٌ وجوديٌّ ظاهرٌ منضَبِطٌ مُعَرِّفٌ نقيضَ الحكمِ، كالقتلِ في الإرثِ.
والصِّحَةُ: موافقةُ ذي الوجهينِ الشرعَ في الأصحِّ، وبصحةِ العبادةِ إجْزَاؤُها أي كفايتُها في سُقُوطِ التَّعَبُّدِ في الأصحِّ، وغيرِها تَرَتُّبُ أَثَرِهِ، ويختَصُّ الإجْزَاءُ بالمطلوبِ في الأصحِّ، ويُقَابِلُها البُطْلانُ وهوَ الفسَادُ في الأصَحِّ والخُلْفُ لَفْظِيٌّ.
.............................. .............................. .............................. .............................
بعد أن فرغ من الحكم التكليفي شرع في الحكم الوضعي فقال: ( والسَّبَبُ: وَصْفٌ ) أي معنىً ( ظاهِرٌ ) غير خفي ( مُنْضَبِطٌ ) لا مضطرب ( مُعَرِّفٌ للحُكْمِ ) قيد يخرج المانع فإنه معرف نقيض الحكم، مثاله زوال الشمس فإنه وصف ظاهر منضبط معرف للحكم الذي هو وجوب الظهر فيكون سببا شرعيا ( والشَّرْطُ: ما يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ العَدَمُ ) للمشروط قيد يخرج المانع فإنه لا يلزم من عدمه شيء ( ولا يلزَمُ منْ وجودِهِ وجودٌ ولا عدمٌ ) قيد آخر يخرج السبب لأنه يلزم من وجود الوجود، مثال الشرط الطهارة للصلاة يلزم من عدمها عدم الصلاة ولا يلزم من وجودها وجود ولا عدم فتكون شرطا شرعيا ( والمانِعُ: وصفٌ وجوديٌّ ) لا عدمي ( ظاهرٌ ) لا خفي ( منضَبِطٌ ) لا مضطرب ( مُعَرِّفٌ نقيضَ الحكمِ ) المترتب على السبب ( كالقتلِ ) في باب ( الإرثِ ) فإنه مانع من وجود الإرث المسبب عن قرابة أو زوجية أو ولاء ( والصِّحَةُ: موافقةُ ) الفعل ( ذي الوجهينِ ) وهما موافقة الشرع ومخالفته ( الشرعَ ) فإذا وافق فهو صحيح، وإن لم يوافق فهو باطل ( في الأصحِّ ) من القولين، وقيل الصحة ما أسقط القضاء في العبادة، وما ترتب عليه آثاره في العقد، فعلى الأول هنالك تعريف يجمع الصحة في العبادة والعقد، وعلى الثاني الصحة في العبادة لها معنى، وفي العقد لها معنى آخر والخلاف بينهما لفظي ( وبصحةِ العبادةِ إجْزَاؤُها ) إجزاؤها مبتدأ مؤخر وبصحة العبادة خبر مقدم، والأصل هو: وإجزاءُ العبادة ناشئ عن صحتها، فإذا صحت العبادة قيل عنها إنها مجزئة ثم فسر الإجزاء بقوله ( أي كفايتُها في سُقُوطِ التَّعَبُّدِ ) أي الطلب وإن لم يسقط القضاء في بعض الحالات كما في صلاة من ظنّ طهارته ثم تبين له حدثه ( في الأصحِّ ) من القولين، وعلى القول الثاني يكون المقصود بالإجزاء هو: سقوط القضاء ( و ) بصحة ( غيرِها ) أي غير العبادة كالعقد ( تَرَتُّبُ أَثَرِهِ ) عليه وهو ما شرع الغير له كحل الانتفاع في البيع، وحل التمتع في النكاح، ثم إن هذا أيضا خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، والأصل هو: وترتُّبُ أثرِ العقد ناشئ عن صحة العقد ( ويختَصُّ الإجْزَاءُ بالمطلوبِ ) أي العبادة واجبة كانت كالصلوات والخمس والزكاة أو مستحبة كالوتر وسائر النوافل، فلا توصف العقود بالإجزاء ولا بعدم الإجزاء ( في الأصحِّ ) من القولين، وقيل بل لا يوصف بالإجزاء إلا الواجب من العبادات، فلا يقال: نافلة مجزئة، كما يقال فريضة مجزئة، والخلاف لفظي ( ويُقَابِلُها ) أي الصحة ( البُطْلانُ ) وهو مخالفة الفعل ذي الوجهين الشرع ( وهوَ ) أي البطلان ( الفسَادُ في الأصَحِّ ) فهما مترادفان، وقال الحنفية: الباطل: ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه، والفاسد: ما شرع بأصله دون وصفه، والخلاف لفظي لأن حاصله أن ما لم يشرع لا بأصله ولا بوصفه هل يسمى فاسدا كما يسمى باطلا أو لا ؟ وأن ما شرع بأصله ولم يشرع بوصفه هل يسمى باطلا كما يسمى فاسدا أو لا ؟ فعند الحنفية لا وعند الجمهور نعم ( والخُلْفُ لَفْظِيٌّ ) في المسائل السابقة.
تنبيه: اعلم أن الأشعرية نفوا تأثير الأسباب، فقالوا: ليست النار هي التي تحرق بل الله هو الذي يخلق الحرق عند تماس النار مع جسم آخر، وليس الماء هو الذي يروي العطش بل الله الذي يخلق الري عند شرب الماء، وليست السكين هي التي تقطع بل الله هو الذي يخلق القطع والبين عند تماس السكين مع جسم آخر، ولهذا يقولون: إن الماء يحصل عنده الري لا به، والسكين يحصل عندها القطع لا بها، ثم طردوا هذا الأصل في الشرعيات فنفوا أي تأثير للأسباب الشرعية فليس الزنا إلا علامة معرفة على وجوب الحد من غير أن يكون له تأثير ومدخلية في وجوب الحد، وليس الحدث إلا علامة معرفة على انتقاض الوضوء بلا تأثير ولذا يقولون: يحصل النقض عند الحدث لا به، ولذا يقولون في تعريف السبب أنه معرِّف للحكم أي من غير تأثير فيه، والذي اختاره أهل الحديث والأثر هو إثبات تأثير الأسباب بإذن الله تعالى، فالزنا مثلا لمعنى فيه وأنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا حرمه الله وجعله سببا للحد ورتب عليه العقوبة. وتفصيل ذلك موكول لمحله.

صفاء الدين العراقي
2016-10-24, 08:59 AM
الدرس السادس- تابع المقدمات

الأداء والقضاء والإعادة والرخصة والعزيمة


الأداء هو: فعلُ العبادةِ أو ركعةٍ في وقتها.
فإذا كان للعبادة وقت محدد ابتداءً وانتهاءً ففعلت العبادة في وقتها فهي أداء، كالصلوات الخمس، وإذا ضاق الوقت وتمكن المصلي من إيقاع ركعة كاملة- بأن فرغ من السجدة الثانية- في الوقت والباقي خارج الوقت فهي تعتبر أداءً أيضا لقوله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِن الصلاةِ فقدْ أدركَ الصلاةَ. رواه البخاري ومسلم.
ومع تسميتها أداء إلا أنه يحرم عليه تأخيرها إلى وقت لا يسعها كاملة بلا عذر.
وقولنا العبادة هو شامل للعبادة الواجبة كالصلوات الخمس والمندوبة كالنوافل.
وقولنا في وقتِها الوقت هو: الزمان المقدّر في الشرع للعبادة، سواء أكان موسعا كوقت الصلاة فإنه وقت واسع يسع فعل العبادة أكثر من مرة، أو مضيّقا بأن كان الوقت لا يسع سوى فعل العبادة مرة واحدة كوقت الصوم.
فإن كانت العبادة غير مؤقتة بوقت كالنفل المطلق فلا يسمى فعله أداء ولا قضاء في الاصطلاح.
والقضاء هو: فعلُ العبادةِ أو إلا دون ركعةٍ بعد وقتها تدراركًا لما سبقَ لفعلِهِ مقتضٍ.
فإذا فعلت العبادة بتمامها بعد وقتها المقدر لها فهي قضاء، وإذا أدرك دون ركعة ففعلها في وقتها والباقي خارج الوقت فهي قضاء أيضا، لأن أقل ما يدخل في الأداء أدراك ركعة كاملة.
وقولنا: تداركًا لما سبق لفعله مقتض أي طلب وذلك أن القضاء يكون مقتضاه وطلبه الداعي لفعله متقدما عليه، ولكنه لما تأخر حتى خرج الوقت طولب بتدارك ما فاته، كصلاة الظهر بعد دخول وقت العصر فإنّ الطلب بالصلاة بقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس قد تقدم فبقيت ذمة العبد مشغولة إلى أن يتدارك بفعلها بعد وقتها.
وخرج بقولنا تداركا إعادة الصلاة المؤداة في وقتها بعد الوقت.
مثاله شخص تيمم في مكان يغلب فيه وجود الماء كالمدن فصلى الظهر في وقتها ثم بعد دخول وقت العصر وجد الماء فتوضأ، فهذا نطالبه بإعادة الظهر، فالظهر المعادة هي عبادة فعلت بعد وقتها فهل تسمى قضاء؟
الجواب: لا تسمى لأن صلاته ثانية ليس لتدارك ما فاته من الوقت، وإنما تسمى إعادة.
والإعادة: فعلُ العبادةِ ثانيا في وقتها مطلقًا.
كمن صلى الظهر منفردًا ثم أدرك جماعة يصلون الظهر فأعادها معهم فهذه تسمى إعادة لأنه فعل العبادة مرة ثانية في وقتها.
وقولنا: مطلقًا أي سواء كانت الإعادة لعذر كوجود خلل في الأولى أو بدون عذر بأن رأى أن يعيدها مرة أخرى.
والنسبة بين الأداء والإعادة هي العموم والخصوص المطلق لأن كل إعادة أداء لأنه يصدق على الإعادة تعريف الأداء وهو فعل العبادة في وقتها وليس كل أداء إعادة لأنه قد يصلي الشخص في الوقت مرة واحدة ولا يعيد.
والرخصة هي: الحكمُ الشرعي المُتَغَيِّرُ من صعوبة على المكلَّف إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي.
مثل أكل الميتة للمضطر، فالحكم الأصلي هو حرمة أكل الميتة ولكن تغير الحكم في حق المضطر رحمة بالعباد، فهنا أكل الميتة يسمى رخصة لأن الحكم قد تغير من الصعوبة وهو حرمة أكلها إلى السهولة وهو وجوب أكلها لعذر وهو الاضطرار مع قيام وبقاء السبب المقتضي للحرمة التي هي الحكم الأصلي وذلك السبب هو خبث الميتة.
والرخصة أربعة أقسام:
1- رخصة واجبة كأكل الميتة للمضطر فإنه يجب عليه أن يأكل كي ينقذ حياته من الموت.
2- رخصة مندوبة كقصر الصلاة للمسافر فإنه يندب له القصر فإن أتم صلاته جاز.
3- رخصة مباحة كبيع السَّلَم وهو بيع شيء موصوف في الذمة فإنه رخصة لأن الأصل في البيع أن يكون لشيء حاضر معين ولكنه أجيز لحاجة الناس إليه.
4- رخصة خلاف الأولى كفطر مسافر في صوم واجب لا يضره، فإن الصوم حينئذ يكون مستحبا لقوله تعالى: وأن تصوموا خير لكم، والفطر خلاف الأولى.
ولا تكون الرخصة محرمة أو مكروهة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه. رواه أحمد وغيره وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
والعزيمة هي: الحكم الشرعي الذي لم يتغير أصلًا، أو تغير إلى صعوبة، أو إلى سهولة لا لعذر، أو لعذر لا مع قيام السبب للحكم الأصلي.
كوجوب الصلوت فإن الحكم لم يتغير أصلًا.
وكحرمة الاصطياد قبل الإحرام فإنه تغير إلى صعوبة لأنه كان مباحا قبل الإحرام بحج أو عمرة.
وكحل ترك الوضوء لكل صلاة لمن لم يحدث، فإن الحكم الأصلي هو وجوب الوضوء لكل صلاة أحدث أو لم يحدث ثم تغير إلى جواز الصلاة بالوضوء الأول من غير وجود عذر دعا إلى هذا التغيير.
وكإباحة الفرار أمام عشرة من الكفار فأكثر في القتال، فإنه كان يحرم الفرار لقلة المسلمين يومئذ، ثم تغير الحكم إلى الجواز مع عدم قيام السبب للحكم الأصلي لأن المسلمين كثروا، وإنما جوز ذلك لعذر وهو مشقة الثبات أمام العشرة.
فالحكم الأصلي هو وجوب الثبات أمام عشرة من الكفار قد تغير إلى جواز عدم الثبات لعذر وهو المشقة، ولكن مع عدم بقاء سبب الحكم الأصلي فإن السبب في الحرمة وقتها هو قلة المسلمين، أما وقد كثروا فلم يبق الحكم كما كان.


( شرح النص )

والأَصَحُّ أَنَّ الأَداءَ فِعْلُ العِبَادةِ أَوْ رَكْعَةٍ في وَقْتِها، وهُوَ زَمَنٌ مُقَدَّرٌ لها شَرْعًا، وأَنَّ القَضَاءَ فِعْلُها أَوْ إلا دُونَ رَكْعَةٍ بَعْدَ وَقْتِها تَدارُكًا لما سَبَقَ لفِعْلِهِ مُقْتَضٍ، وأَنَّ الإعادةَ فِعْلُها وَقتَها ثانيًا مُطْلَقًا.
والحُكمُ إنْ تَغَيَّرَ إلى سُهُولةٍ لِعُذْرٍ معَ قيامِ السَّبَبِ للحُكمِ الأصليِّ فرُخْصَةٌ واجِبةٌ ومَنْدُوبةٌ ومُباحةٌ وخِلافُ الأَوْلى كأَكلِ مَيتَةٍ وقَصْرٍ بشَرطِهِ وسَلَمٍ وفِطْرِ مُسافرٍ لا يَضُرُّهُ الصُّومُ وإلا فَعَزِيمَةٌ.
......................... ......................... ......................... .........................
لما كان الأداء والقضاء والإعادة والرخصة والعزيمة من أقسام الحكم الوضعي عند بعض العلماء ذكرها بعده فقال: ( والأَصَحُّ أَنَّ الأَداءَ فِعْلُ العِبَادةِ ) من صلاة وصوم وغيرهما، واجبة كانت أو مندوبة ( أَوْ ) فعل ( رَكْعَةٍ ) من الصلاة ( في وَقْتِها ) مع فعل البقية بعد الوقت، وقيل إن الأداء فعل كل العبادة في وقتها ففعل بعضها في الوقت ولو ركعة كاملة لا يكون أداء حقيقة، بل يكون قضاءً على قول بعض العلماء، أو يكون البعض الواقع في الوقت أداء والواقع بعده قضاء فتتصف الصلاة بهما معا على قول آخر لبعض العلماء ( وهُوَ ) أي وقت العبادة المؤداة ( زَمَنٌ مُقَدَّرٌ لها شَرْعًا ) موسعا كان أو مضيقا فإن لم تكن العبادة مؤقتة كالنفل المطلق فلا يسمى فعلها أداء ولا قضاء اصطلاحا ( و ) الأصح ( أَنَّ القَضَاءَ فِعْلُها ) أي العبادة كاملة ( أَوْ ) فعلها ( إلا دُونَ رَكْعَةٍ ) خرج به ما لو أدرك ركعة في الوقت فإنه أداء كما سبق ( بَعْدَ وَقْتِها تَدارُكًا لما سَبَقَ لفِعْلِهِ مُقْتَضٍ ) أي طلب، وخرج بالتدارك إعادة الصلاة المؤداة في وقتها بعد الوقت فإنه ليس من القضاء، وقيل إن القضاء يشمل ما لو أدرك بعض الصلاة ولو ركعة ( و ) الأصح ( أَنَّ الإعادةَ فِعْلُها ) أي العبادة ( وَقتَها ثانيًا مُطْلَقًا ) أي سواء أكان لعذر كوجود خلل في الأولى أو بدون عذر، وقيل الإعادة مختصة بوجود خلل في الأولى ( والحُكمُ ) الشرعي ( إنْ تَغَيَّرَ ) من صعوبة على المكلف ( إلى سُهُولةٍ ) كأن تغيّر من حرمة شيء إلى حله ( لِعُذْرٍ معَ قيامِ السَّبَبِ ) المقتضي على قول أهل الحديث أو المعرِّف على قول الأشاعرة ( للحُكمِ الأصليِّ فرُخْصَةٌ ) أي فالحكم السهل يسمى رخصة ( واجِبةٌ ومَنْدُوبةٌ ومُباحةٌ وخِلافُ الأَوْلى ) هذه أقسام الرخصة وقد مثّل لها على الترتيب بقوله ( كأَكلِ مَيتَةٍ ) للمضطر هذا مثال الرخصة الواجبة ( وقَصْرٍ ) من مسافر ( بشَرطِهِ ) كأن يكون سفره بلغ مسافة القصر، وهذا مثال الرخصة المندوبة ( وسَلَمٍ ) وهو بيع شيء موصوف في الذمة بلفظ السَلَم أو السلف، وهذا مثال الرخصة المباحة ( وفِطْرِ مُسافرٍ ) في زمن صيام واجب كرمضان ( لا يَضُرُّهُ الصُّومُ ) وهذا مثال الرخصة التي هي خلاف الأولى، فإن ضره الصوم فالفطر هو الأولى ( وإلا ) أي وإن لم يتغير الحكم كما ذكر بأن لم يتغير أصلا كوجوب المكتوبات، أو تغير إلى صعوبة كحرمة الاصطياد بالاحرام بعد إباحته قبله، أو تغير لسهولة لا لعذر كحل ترك الوضوء لصلاة ثانية ما دام محافظا على وضوئه الأول بعد أن كان يجب الوضوء عند القيام لكل صلاة، أو تغير لعذر لا مع قيام السبب للحكم الأصلي كإباحة ترك ثبات واحد من المسلمين أمام عشرة من الكفار في القتال بعد أن كان محرما وسبب الحرمة قلتنا في بداية الإسلام، ولم تبق القلة حال الإباحة لكثرتنا حينئذ وعذر الإباحة مشقة الثبات المذكور لما كثرنا ( فَعَزِيمَةٌ ) أي فيسمى الحكم حينئذ عزيمة.

صفاء الدين العراقي
2016-10-25, 04:51 PM
http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=11309&p=77993&viewfull=1#post77993

الدرس السابع- تابع المقدمات

المقدمة الكلامية


الدليل هو: ما يمكنُ التوصّلُ بصحيحِ النظرِ فيه إلى مطلوبٍ خبريٍّ.
كالعَالَمِ فإن من نظر في حاله وعلم أنه ليس أزليا بل هو حادث بعد أن لمْ يكنْ توصّل إلى نتيجة أن العالم لا بد له من خالق.
وكأقيموا الصلاة، فإن من نظر في حال هذه الآية وعلم أن لفظ أقيموا أمر توصل إلى أن الصلاة واجبة.
فقولنا: ما يمكن التوصّل أي أن هذا شأن الدليل ولا يشترط أن يوصل بالفعل لأن مَن أعرض ولم ينظر فيه لن يصل.
وقولنا: بصحيح النظر فيه أي بالنظر والفكر الصحيح فيه بأن يكون نظره في الدليل من الجهة التي من شأنها أن ينتقل الذهن بها إلى النتيجة وهو المسمى بوجه الدلالة، فإن من نظر في الدليل ولم يعرف وجه دلالته لن يصل للمطلوب.
وقولنا: إلى مطلوب خبري أي إلى أمر تصديقي لا تصوري فما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب تصوري حدٌ لا دليل، واعلم أن الدليل عند الأصوليين يختلف عنه عند المناطقة، فعند المناطقة هو مجموع المقدمتين، وعند الأصوليين هو موضوع النتيجة، فإذا قيل: العالم حادث، وكل حادِثٍ لا بد له من محدث، فهذا هو الدليل عند المناطقة والنتيجة هي: العالم لا بد له من محدِث، أما عند الأصوليين فالدليل مفرد وهو العالَم ، ووجه الدلالة هو الحد الأوسط وهو الحدوث.
والحدّ هو: ما يميّز الشيء عن غيره، وهو الجامع لأفراده المانع من دخول غير أفراده فيه، ويقال له: المطّرد المنعكس، فالمطرد هو المانع، والمنعكس هو الجامع، مثل: الصلاة: عبادة ذات أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم.
والإدراك بلا حكم يسمى تصورًا ومع حكم يسمى تصديقا.
نحو: الزنا حرام، فالحكم بثبوت الحرمة للزنا تصديق، وإدراك معنى الزنا لوحده أو الحرمة لوحدها تصور.
والنظر هو: الفكر الموصل إلى العلم أو الظن أو الاعتقاد.
والعلم هو: حكم جازم لا يقبل تغيّرًا. نحو: الله واحد.
وقولنا: لا يقبل تغيرًا، أي لكونه نشأ عن موجِب وسبب يقتضيه فيكون موافقا للواقع، وقد يكون الموجب هو الضرورة نحو زيدٌ قائمٌ لمن رآه واقفًا، أو الدليل القاطع من: عقل كالحكم بأن العالم حادث، أو شرع كالحكم بأن الزنا حرام، أو عادة كالحكم بأن الحجر ليس بقوت.
فإن لم يكن الحكم عن موجب مما ذكر فيسمى بالاعتقاد كاعتقاد المقلد سنية صلاة الوتر.
وإن لم يكن مطابقا للواقع فيسمى جهلا مركبا كاعتقاد الملاحدة بقدم المادة، وأما الجهل البسيط فهو انتفاء العلم.
وإن لم يكن الحكم جازما فهو الظن إن كان راجحا وهو الوهم إن كان مرجوحا وهو الشك إن كان متساويا.
مثال الظن حكم الفقيه بأن القرء هو الطهر، فيكون إدراكه بأن القرء الحيض وهما، ومثال الشك لو استوى عنده الأمران.
والسهو: الغفلة عن المعلوم الحاصل، فإذا نبه عليه تنبه له .
وأما النسيان فهو: زوال المعلوم من الحافظة، فيستأنف طلبا جديدًا لتحصيله.


( مسائل )

الأولى: اختلف الناس في العلم بالنتيجة الحاصل بعد النظر على أقوال:
1- القول الأول للأشاعرة وهو أن قدرة الناظر لا تأثير لها في حصول النتيجة بل الله سبحانه يخلق النتيجة في قلب العبد عند النظر كما يخلق الري عند الشرب.
وجمهورهم ذهبوا إلى أن العلم الحاصل عند النظر عادي لا يجوز تخلفه إلا خرقا للعادة كما تخلفت النار عن حرق إبراهيم عليه السلام، وذهب بعضهم إلى أن العلم بالنتيجة لازم للنظر لا يجوز تخلفه أبدًا.
2- القول الثاني للمعتزلة أن قدرة الناظر أوجدت العلم بالمطلوب، وقالوا إن هذا العلم ضروري الحصول لازم عقلي للنظر يستحيل انفكاكه عنه، ويعرف مذهبهم بالتوليد وهو أن المرء خلق فعله وهو النظر، وعن النظر تولّد العلم، فالعلم بالنتيجة فعل للعبد بواسطة نظره، فالنظر فعل العبد الأول المباشر والعلم فعله الثاني غير المباشر.
3- القول الثالث لأهل الحديث أن الله خلق بنظر العبد العلم بقلبه، كما يخلق بالنار الحرارة، فليس نظر العبد هو الخالق للعلم كما هو قول المعتزلة ولا أن نظر العبد لا مدخل له كما هو قول الأشاعرة، وأن العلم الحاصل بالنظر مما جرت سنة الله بخلقه فهو عادي كما فهم هذا من كلام الإمام في الرد على المنطقيين والله أعلم.
الثانية: اختلفوا في العلم هل يقبل التفاوت أو لا بمعنى هل يوجد علم هو أقوى من علم آخر على قولين:
1- القول الأول أنه لا يتفاوت فإن حقيقة العلم واحدة وهي حكم جازم مطابق للواقع عن موجِب فلا يختلف جزم ويقين عن جزم ويقين آخر، وبنوا عليه أن الإيمان الذي هو التصديق والمعرفة لا يتفاوت فلا يوجد إيمان أقوى من إيمان ولا يزيد الإيمان ولا ينقص فإن زيادته على اليقين لا تتصور ونقصانه عن اليقين يدخله بالكفر، نعم بعض المؤمنين أعمالهم الصالحة أكثر من الآخر هذا مسلم ولكنه خارج عما نحن فيه، وهو اختيار كثير من المتكلمين.
2- القول الثاني أنه يتفاوت فإن العلم الضروري الأولي كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين أقوى في الجزم من العلم النظري كالعلم بأن العالم حادث ولذا كان هنالك حق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين كمن أيقن بحلاوة العسل ولم يره أو رآه ولم يذقه أو رآه وذاقه، ولا ريب أن الإيمان يتفاوت في نفسه ويزيد وينقص عند أهل السنة والجماعة وتفصيل ذلك موكول لمحله.


( شرح النص )

والدليلُ: ما يُمْكِنُ التوصّلُ بصحيحِ النظرِ فيهِ إلى مطلوبٍ خبريٍّ، والعلمُ عندنا عَقِبَهُ مُكْتَسَبٌ في الأصحِّ.
والحدُّ: ما يُمَيِّزُ الشيءَ عنْ غيرِه، ويقالُ: الجامِعُ المانِعُ والمطَّرِدُ المنْعَكِسُ، والكلامُ في الأزلِ يسمى خِطابًا ويَتنوَّعُ في الأصحِّ.
والنظرُ: فكرٌ يؤدي إلى علمٍ أو اعتقادٍ أو ظنٍّ.
والإدراكُ بلا حكمٍ تصوّرٌ، وبهِ تصوّرٌ بتصديقٍ وهو الحكمُ، وجازِمُهُ: إن لم يقبلْ تغيّرًا فعلمٌ، وإلا فاعتقادٌ صحيحٌ إنْ طابَقَ، و إلا ففاسِدٌ، وغيرُ الجازمِ ظنٌّ ووهمٌ وشكٌّ لأنَّهُ راجِحٌ أو مرجوحٌ أو مساوٍ.
فالعلمُ: حكمٌ جازِمٌ لا يقبلُ تغيِّرًا، فهوَ نظريُّ يُحَدُّ في الأصحِّ . قالَ المحققونَ : ولا يتفاوتُ إلا بكثرةِ المتَعَلَّقَاتِ .
والجهلُ: انتفاءُ العلمِ بالمقصودِ في الأصحِّ ، والسهْوُ: الغَفْلَةُ عَنِ المعلومِ .
.............................. .............................. .............................. ................
اعتاد كثير من الأصوليين ذكر مقدمة كلامية منطقية يتعرضون فيها إلى تعريف العلم وتقسيمه إلى تصور وتصديق، وبيان ما يوصل إلى التصور وهو الحد وما يوصل إلى التصديق وهو الدليل، وما يتبع ذلك، وقد تابعهم صاحب جمع الجوامع وكذا مختصِره فقال: ( والدليلُ: ما ) أي شيء ( يُمْكِنُ التوصّلُ ) بالقوة وإن لم يتوصل بالفعل ( بصحيحِ النظرِ فيهِ ) بأن يعرف وجه الدلالة، وهذا قيد احترز به عن النظر الفاسد فإنه لا يوصل صاحبه ( إلى مطلوبٍ خبريٍّ ) أي تصديقي لا تصوري وسواء كانت النتيجة يقينية أو ظنية، وقيل إن الذي يوصل لنتيجة ظنية لا نسمه دليلا بل أَمارة ( والعلمُ ) بالمطلوب الحاصل ( عندنا ) أي عند الأشعرية ( عَقِبَهُ ) أي عقب صحيح النظر ( مُكْتَسَبٌ ) للناظر ( في الأصحِّ ) وقيل لا بل هو علم ضروري لا يمكن للنفس أن تدفعه، وواضح أن الخلاف بين القولين لفظي فهو علم مكتسب بالنظر إلى أن النظر الذي أوصل لهذا العلم مكتسب، وهو علم ضروري بالنظر إلى أن النتيجة الحاصلة بعد النظر تضطر النفس للاذعان بها ولا قدرة لها على دفعه، هذا وقد ذهب غير الأشاعرة إلى مذاهب بينت بعضها في الشرح ( والحدُّ ) عند الأصوليين ( ما يُمَيِّزُ الشيءَ عنْ غيرِه ) وأما عند المناطقة فلا يكفي التمييز بل لا بد أن يكون بجميع الذاتيات، والصحيح هو قول الأصوليين ونظار المتكلمين كما بسطه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الفريد الرد على المنطقيين، وقد بينته باختصار في كتابي الواضح في المنطق فارجع إليه إن شئت ( ويقالُ ) أيضا الحد هو ( الجامِعُ ) لأفراده ( المانِعُ ) من دخول غيره ( و ) يقال أيضا الحد هو ( المطَّرِدُ المنْعَكِسُ ) فالمطرد هو الذي كلما وجد وجد المحدود فلا يدخل فيه شيء من غير أفراد المحدود فيكون مانعا، والمنعكس هو الذي كلما وجد المحدود وجد هو فلا يخرج عنه شيء من أفراد المحدود فيكون جامعا، ومؤدى التعاريف واحد ( والكلامُ ) النفسي ( في الأزلِ يسمى خِطابًا ) حقيقة بتنزيل المعدوم الذي سيوجد منزلة الموجود، وقال بعضهم لا يسمى خطابا، وإنما يسمى كذلك عندما يوجد المكلف ويسمع الخطاب ( ويَتنوَّعُ ) الكلام النفسي إلى أمر ونهي وخبر واستفهام وغيرها ( في الأصحِّ ) وقيل لا يتنوع الكلام النفسي لعدم من تتعلق به الأوامر والنواهي ونحوهما في الأزل فكيف يسمى أمرا مثلا ولا وجود للمأمور، بل تتنوع عند وجود المكلف، وقد تقدم أن الحق هو أن كلام الله تعالى لفظ ومعنى وهو بلا شك يتنوع إلى أمر ونهي وغيرهما ( والنظرُ: فكرٌ يؤدي ) أي يوصل ( إلى علمٍ أو اعتقادٍ أو ظنٍّ ) وإنما زاد الاعتقاد ليشمل الحد النظر الفاسد الذي يوصل صاحبه إلى اعتقاد أمر غير مطابق للواقع ( والإدراكُ بلا حكمٍ تصوّرٌ ) كتصور زيد وقائم من غير حكم بالنسبة بينهما ( و ) الإدراك المتقدم ( بهِ ) أي بالحكم أي معه لأن الباء هنا بمعنى مع ( تصوّرٌ بـ ) أي مع ( تصديقٍ وهو ) أي التصديق ( الحكمُ ) فقط، اعلم أننا إذا قلنا: زيدٌ قائمٌ، فيوجد عندنا أربعة أمور: 1- تصور معنى زيد، 2- تصور معنى قائم، 3- تصور معنى ثبوت القيام لزيد، 4- إذعان النفس بوقوع قيام زيد في الواقع وهو المسمى بالحكم، فإذا اتضح هذا فاعلم أن في التصديق مذاهب: الأول: أن التصديق هو الخطوة الرابعة فقط وهو الحكم، وأما الخطوات الثلاث المتقدمة عليه فهي شروط فيه والثاني: أن التصديق مركب من الخطوات الأربع فحينئذ يكون التصديق مخلوطا بالتصور دائما، وقد اختار الإمام زكريا الأنصاري المذهب الأول فتأمل فإن في عبارة المصنف نوع تعقيد ( وجازِمُهُ ) أي الحكم أي والحكم الجازم ( إن لم يقبلْ تغيّرًا ) بأن كان ناشئا عن سبب وموجب من ضرورة أو دليل قاطع فيكون مطابقا للواقع ( فعلمٌ ) كالحكم بأن العالم حادث ( وإلا ) أي وإن قبل التغير بأن لم يكن ناشئا عن ضرورة أو عن دليل قاطع ( فاعتقادٌ ) أي يسمى اعتقادًا لا علما وهو ( صحيحٌ إنْ طابَقَ ) الواقع كاعتقاد المقلدين بسنية صلاة الضحى ( وإلا ) أي وإن لم يطابق الواقع ( ففاسِدٌ ) كاعتقاد الملاحدة بقدم المادة وما استندوا عليه ليس أكثر من وهم وشبهة لا يرقى أن يسمى دليلًا، فتلخص أن الاعتقاد هو: الحكم الجازم الذي يقبل التغير، فإن علم المقلد قد يتغير بتغير من يقلده، وصاحب الاعتقاد الفاسد قد يتراجع عنه لظهور الحق له ( وغيرُ الجازمِ ظنٌّ ووهمٌ وشكٌّ لأنَّهُ ) أي غير الجازم إما ( راجِحٌ أو مرجوحٌ أو مساوٍ ) فالحكم الراجح ظن والحكم المرجوح وهم، وإذا تساوى الحكمان فشك ( فالعلمُ ) على ما ظهر من التقسيم ( حكمٌ جازِمٌ لا يقبلُ تغيِّرًا ) وإن شئت قل هو: حكم جازم مطابق للواقع عن موجِب ( فهوَ نظريُّ يُحَدُّ في الأصحِّ ) اختلف في العلم هل تصوره ضروري فلا يحتاج لتعريف كتصورنا معنى الجوع والعطش، أو نظري فيحتاج لتعريف؟ ذهب البعض إلى الأول وذهب البعض الآخر إلى الثاني وهو مختار المصنف ( قالَ المحققونَ ) جمع محقق وهو من يثبت الشيء بدليله ( ولا يتفاوتُ ) العلم ( إلا بكثرةِ المتَعَلَّقَاتِ ) اختلف في العلم هل يتفاوت بأن يكون بعضه أقوى من بعض بأن يكون علم العقل اليقيني وجزمه بشيء هو أقوى من علمه اليقيني وجزمه بشيء آخر فكلاهما جازمان ولكن بعضهما أقوى وأشد من الآخر ؟ ذهب البعض إلى أنه يتفاوت في نفسه، وذهب البعض الآخر إلى أنه لا يتفاوت في نفسه وإنما من حيث متعلَّقاته أي من حيث المعلومات التي يتعلق بها فالعلم بثلاثة مسائل هو أظهر من العلم بمسألتين، والعلم بمسألتين أظهر من العلم بمسألة واحدة، ولكن العلم والجزم في نفسه واحد لا يتفاوت ولا يوجد فيه أقوى وأضعف، واختار المصنف الثاني ونسبه إلى المحققين، والصواب خلافه كما علمت ( والجهلُ انتفاءُ العلمِ بالمقصودِ ) أي ما من شأنه أن يقصد فيعلم، ويشمل الحد ما لو لم يحصل إدراك من أصله وهو الجهل البسيط أو أدرك على خلاف ما هو عليه وهو الجهل المركب ( في الأصحِّ ) وقيل العلم إدراك المعلوم على خلاف ما هو عليه، فلا يصدق إلا على الجهل المركب دون البسيط ففيه قصور ( والسهْوُ الغَفْلَةُ عَنِ المعلومِ ) الحاصل فيتنبه له بأدنى تنبيه، والنسيان زوال المعلوم عن الحافظة فيستأنف طلبا جديدا لتحصيله.

صفاء الدين العراقي
2016-10-26, 09:27 PM
الدرس الثامن- تابع المقدمات

مسائل متفرقة


1- الحَسَنُ هو: فعلٌ يُمدح فاعله عليه، فيشمل: ( الواجب والمندوب )، والقبيح هو: فعلٌ يذمّ فاعله عليه، وهو الحرام.
وما لا يمدح عليه ولا يذم واسطة بين الحسن والقبيح ويشمل بقية الأحكام وهي: ( المباح والمكروه وخلاف الأولى ).
2- الفعل الذي يجوز تركه ليس بواجب، سواء أكان يجوز فعله كصوم المسافر، فإنه يجوز صومه، أم كان يمتنع الفعل كصوم الحائض فإنه يمتنع صومها شرعًا، فكلا الفعلين لا يوصفان بالوجوب لأن الواجب يمتنع في الشرع تركه، وهما لا يمتنع تركهما، وقال بعض الفقهاء الصوم على المسافر والحائض وذوي الأعذار واجب لوجوب القضاء، والخلاف لفظي راجع إلى اللفظ دون المعنى.
3- المندوب مأمور به أي يسمى بذلك حقيقة لأن لفظ ( أَ- مَ- رَ ) يشمل الأمر بالواجب والامر بالمستحب، فيصح أن يقال بالمعنى الحقيقي إن الله أمرنا بسنة الفجر.
4- التكليف هو:إلزام ما فيه كُلفة،أي مشقة والإلزام يرفع الاختيار فلا يشمل التكليف حينئذ سوى ( الواجب والحرام ) وقيل: التكليف: طلب ما فيه كلفة، أي بإلزام أو بدونه فيشمل ( الواجب والمندوب والحرام والمكروه وخلاف الأولى ).
5- المباح إذا نظرنا إليه من حيث إنه مأذون بفعله فيكون جنسا يشمل الواجب والمندوب لأن كلا منهما مأذون بفعله، وإذا نظرنا إليه من حيث إنه مخير بين فعله وتركه فلا يكون جنسا للواجب لأنه لا تخيير فيه بل يجب فعله ولا يجوز تركه.
6- المباح غير مأمور به في ذاته كما هو واضح لأنه ليس بواجب ولا مندوب، ولكن قد يعرض للشيء المباح ما ينقله لحكم آخر كالسكوت فهو مباح ولكن قد يسكت في موقف إذا تكلم فيه فإنه ينقذ مسلم من الهلاك فيكون سكوته حرامًا.
7- الإباحة حكم شرعي لأنها تخيير بين الفعل والترك، وهذا التخيير يتوقف على إذن الشارع وقال بعضهم: لا لأن الإباحة انتفاء الحرج عن الفعل، وهو مستمر قبل ورود الشرع وبعده إلى أن يرد شرع بغير ذلك ولذا قالوا: الأصل في الأشياء الإباحة، والخلاف لفظي لأن القولين لم يتواردا على محل واحد فإن الإباحة بالمعنى الأول شرعية وبالمعنى الثاني عقلية.
8- الوجوب لشي إذا نسخ بقي الجواز له لأن الوجوب يتضمن الإذن بالفعل مع المنع من الترك فإذا نسخ المنع من الترك بقي الإذن بالفعل أي عدم الحرج في الفعل والترك فيشمل الإباحة والندب والكراهة وخلاف الأولى، ولا دليل على تعيين أحدها، وقيل إذا نسخ الوجوب بقيت الإباحة وقيل الاستحباب، وقيل بل يعود الحكم إلى ما كان عليه قبل الوجوب.
9- الأمر بشيء واحد من أشياء معينة يوجب واحدًا لا بعينه وهو ما يعرف بالواجب المخير كما في كفارة اليمين، قال تعالى: ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) فإذا فعلها كلها فينظر: فإن فعلها مرتّبة واحدة بعد الأخرى فالواجب هو أولها، وإن فعلها كلها معا فأعلاها ثوابا هو الواجب، وإن تركها جميعا يعاقب على أدناها عقابا يوم القيامة هذا إن عوقب ولم يغفر له.
10- يجوز تحريم واحد لا بعينه من أشياء معينة كأن يقال: لا تفعل هذا أو ذاك وهذه المسألة افترضها الأصوليون، وجعلوها في مقابل الواجب المخير، وقالوا إذا وقع ذلك فعلى المكلف أن يترك فعل واحد منها، وله أن يفعل الباقيات.
11- فرض العين هو: مُهِمٌ يُقْصَدُ تحصيلُهُ جزمًا مع النظرِ بالذاتِ إلى الفاعلِ، فقولنا: مهم: أي أمر يعتنى به كالصلوات الخمس، يُقصد: أي يطلب حصوله من المكلف، جزمًا: أي قصدًا جازمًا، احترز به عن السنة، مع النظر بالذات لفاعله: أي أن الطلب توجّه لكل مكلف، احترز به عن فرض الكفاية.
وفرض الكفاية: مُهِمٌ يُقْصَدُ حصولُهُ جزمًا من غير نظرٍ بالذاتِ إلى الفاعلِ، فيجب على الكل ويسقط بفعل البعض أي أن الطلب توجّه للجميع فإن فعل البعض سقط الطلب، وذلك أن قصد الشرع هو حصول الفعل في الواقع لا يهم من يفعله ومن يتركه كصلاة الجنازة والأمر بالمعروف بخلاف فرض العين فلا يسقط بفعل البعض.
وفرض العين أفضل من فرض الكفاية، لشدة اعتناء الشارع بقصد حصوله من كل مكلف.
12- مَنْ شرعَ في فرض الكفاية لم يجب عليه إتمامُهُ، إلا في الجهاد وصلاة الجنازة والحج والعمرة، فمن شرع في تغسيل الميت مثلا جاز له تركه لشخص آخر ولم ينقلب في حقه فرض عين عندما شرع فيه.
ويستثنى الجهاد لما فيه من كسر معنويات الجند بالانسحاب من الجيش، وصلاة الجنازة لما فيها من هتك حرمة الميت، والحج والعمرة لما تقدم من وجوب إتمام نفلهما فضلا عن فرضهما.
13- سنة العين: مُهِمٌ يُقْصَدُ تحصيلُهُ بلا جزمٍ مع النظرِ بالذاتِ إلى الفاعلِ، كسنة الفجر والوتر.
وسنة الكفاية: مُهِمٌ يُقْصَدُ تحصيلُهُ بلا جزمٍ من غير نظرٍ بالذاتِ إلى الفاعلِ، كابتداء السلام، وهي مطلوبة من الكل وتسقط بفعل البعض.
وسنة العين أفضل من سنة الكفاية، ولا تتعين سنة الكفاية بالشروع فيها أي لا تنقلب سنة عين في تأكيد طلب إتمامها على من شرع فيها.

( شرح النص )

مسألةٌ: الأصحُّ أَنَّ الحَسَنَ: ما يُمدحُ عليه، والقبيحُ: ما يُذَمُّ عليه، فما لا ولا واسِطَةٌ، وأنَّ جائِزَ التركِ ليسَ بواجبٍ، والخُلْفُ لفظِيٌّ، وأَنَّ المندوبَ مأمورٌ بهِ، وأنَّهُ ليسَ مكلَّفًا بهِ كالمكروهِ بناءً على أن التكليفَ إلزامُ ما فيهِ كُلْفَةٌ لا طَلَبُهُ، وأنَّ المباحَ ليسَ بجِنْسٍ للواجِبِ، وأنهُ في ذاتِه غيرُ مأمورٍ بِهِ، وأن الإباحةَ حكمٌ شرعِيٌّ، والخلفُ لفظِيٌّ، وأنَّ الوجوبَ إذا نُسِخَ بَقِيَ الجوازُ وهوَ عدمُ الحرجِ في الأصحِّ .
مسألةٌ: الأمرُ بأحدِ أشياءَ يوجِبُهُ مبهمًا عندنا فإنْ فعلَها فالمختارُ: إنْ فعَلَها مُرَتَّبَةً فالواجب أَوَّلُها أو معًا فأعلاها، وإنْ تركها عُوقِبَ بأدناها، ويجوزُ تحريمُ واحدٍ مبهمٍ عندنا كالمخَيَّرِ.
مسألةٌ: فرضُ الكفايةِ مُهِمٌّ يُقْصَدُ جَزمًا حصولُهُ مِنْ غيرِ نظرٍ بالذاتِ لفاعِلِهِ، والأصحُّ أنَّهُ دونَ فرضِ العينِ، وأنَّهُ على الكلِّ ويسقطُ بفعلِ البعضِ، وأنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ بالشُّرُوعِ إلا جهادًا وصلاةً ووجنازة ًوحجًّا، وسُنَّتُهَا كفرضِها بإبدالِ جزمًا بضِدِّهِ.
......................... ......................... ......................... .......................
هذه ( مسألةٌ ) في بيان صفة الفعل من حيث كونه حسنا أو قبيحا ( الأصحُّ أَنَّ الحَسَنَ: ما يُمدحُ عليه، والقبيحُ: ما يُذَمُّ عليه ) قد تقدم أن التحسين والتقبيح موقوف على بيان الشرع ولا دور للعقل، فإذا علم هذا فإن الفعل الذي حسّنه الشرع يكون حسنا، والفعل الذي قبحه الشرع يكون قبيحا، فالحسن هو الفعل الذي يمدح صاحبه عليه شرعا، فيشمل الواجب والمندوب، والقبيح هو الفعل الذي يذم صاحبه عليه شرعا، فلا يصدق إلا على الحرام ( فما لا ) يمدح عليه ( ولا ) يذم عليه ( واسِطَةٌ ) بين الحسن والقبيح، وهو يشمل المباح والمكروه وخلاف الأولى، وقيل: الحسن الفعل المأذون لصاحبه فيه، فيشمل الواجب والمندوب والمباح، والقبيح: ما نهي عنه شرعا، ولو كان النهي مستفادًا من أوامر الندب كما مرّ في خلاف الأولى فيشمل على هذا الحرام والمكروه وخلاف الأولى ولا توجد واسطة، وهذا ما اختاره صاحب الأصل أعني جمع الجوامع وقد اعتمد الإمام الأنصاري خلافه فتنبّه، فتلخص أن الواجب والمندوب يوصفان بالحسن، والحرام يوصف بالقبح، والبقية لا توصف لا بالحسن ولا القبح ( وأنَّ جائِزَ التركِ ليسَ بواجبٍ ) الواجب يتضمن الإذن بالفعل مع المنع من الترك، فكل ما يوصف بأنه يجوز تركه لا يسمى واجبًا، ونعني بما يجوز تركه أن الفعل غير واجب سواء أكان جائز الفعل مثل صوم رمضان للمسافر فإنه يجوز له أن يصوم، أو كان ممتنع الفعل مثل صوم الحائض، فنقول بما أننا يصح أن نقول إن الصيام يجوز تركه فلا نسمه واجبا، وقال بعض الفقهاء: يجب الصوم على ذوي الأعذار كالحائض والمسافر ووجوب القضاء عليهم يدل على ذلك، وأجيب بأن وجوب القضاء لا يدل على وجوب الأداء وكلامنا فيه ( والخُلْفُ لفظِيٌّ ) لأن ترك الصوم حال العذر جائز اتفاقا، والقضاء بعد زوال العذر واجب اتفاقا فلم يبق إلا الخلاف في اللفظ دون المعنى ( و ) الأصح ( أَنَّ المندوبَ مأمورٌ بهِ ) أي يسمى بذلك، وقيل لا يسمى وأن الواجب هو المأمور به، والخلاف مبني على أن مادة أَ مَ رَ هل هي حقيقة في الإيجاب فقط، أم في القدر المشترك بين الإيجاب والندب أي في الطلب، والصحيح أنها للقدر المشترك ( و ) الأصح ( أنَّهُ ) أي المندوب ( ليسَ مكلَّفًا بهِ كالمكروهِ ) فلا يشملهما لفظ التكليف وذلك ( بناءً على أن التكليفَ ) في الاصطلاح ( إلزامُ ما فيهِ كُلْفَةٌ ) أي مشقة من فعل أو ترك ( لا طَلَبُهُ ) أي طلب ما فيه كلفة، وقيل إن المندوب والمكروه مكلف بهما كالواجب والحرام وذلك بناء على أن التكليف هو طلب ما فيه كلفة فيشمل ما عدا المباح ( و ) الأصح ( أنَّ المباحَ ليسَ بجِنْسٍ للواجِبِ ) وذلك إذا قلنا: إن المباح هو ما خيّر بين فعله وتركه، فلا يندرج الواجب والمندوب تحت هذا التعريف، وقيل إن المباح جنس يشمل المخير فيه والواجب والمندوب وذلك إذا قلنا: إن المباح هو المأذون في فعله، ولا خلاف بين القولين في المعنى ( و ) الأصح ( أنهُ ) أي المباح ( في ذاتِه غيرُ مأمورٍ بِهِ ) فإنه ليس بواجب ولا مندوب وإنما قد يؤمر به لعارض، وقيل إنه مأمور به لأن المباح قد يتحقق به ترك الحرام فيتحقق بالسكوت مثلا ترك القذف فيكون السكوت واجبا، ولا خلاف في المعنى لأن مرده إلى أنه يكون واجبا لعارض وهذا مسلّم ( و ) الأصح ( أن الإباحةَ حكمٌ شرعِيٌّ ) لأنها التخيير بين الفعل والترك، وهو متوقف على الشرع، وقيل ليست حكما شرعيا لأن الإباحة هي انتفاء الحرج عن الفعل والترك وهذا موجود قبل الشريعة ومستمر بعدها، والخلاف لفظي لأنها بالمعنى الثاني لا تتوقف على نص من الشرع ( والخلفُ لفظِيٌّ ) في المسائل الثلاث وهي أن المباح ليس بجنس للواجب، وغير مأمور به في ذاته، وأن الإباحة حكم شرعي ( و ) الأصح ( أنَّ الوجوبَ إذا نُسِخَ بَقِيَ الجوازُ وهوَ ) أي الجواز المذكور ( عدمُ الحَرَجِ ) في الفعل والترك فيشمل المندوب والمباح والمكروه وخلاف الأولى ( في الأصحِّ ) لأنه لا دليل عندنا على تعيين أحد تلك المعاني، وقيل إذا نسخ الوجوب بقيت الإباحة، وقيل الاستحباب، وقيل بل يعود الحكم إلى ما كان عليه قبل الوجوب والخلاف حقيقي معنوي، هذه ( مسألةٌ ) في الواجب والحرام المخيرين ( الأمرُ بأحدِ أشياءَ ) معينة كما في كفَّارة اليمين ( يوجِبُهُ مبهمًا عندنا ) أي يوجب واحدًا لا بعينه وهو الواجب المخيّر، ونفى المعتزلة الواجب المخيّر لأن الجمع بين الوجوب والتخيير ممتنع وقالوا إن الواجب هو الكل ويسقط الوجوب بفعل واحد، وفي الحقيقة إنه لا مانع عقلا ولا عرفا أن يقول السيد لعبده يجب عليك فعل هذا أو هذا أيهما فعلت خرجت به عن العقوبة وإن تركتهما معا عاقبتك ( فـ ) على القول الصحيح من وجوب واحد مبهم ( إنْ فعلَها ) كلها أي الأشياء التي خير فيها ( فـ ) القول ( المختارُ ) هو التفصيل فيقال: ( إنْ فعَلَها مُرَتَّبَةً ) واحدة بعد الأخرى ( فالواجبُ أَوَّلُها ) فيثاب عليه ثواب الواجب ويثاب على البقية ثواب المندوب ( أو ) فعلها كلها ( معًا فأعلاها ) ثوابا هو الواجب في حقه ( وإنْ تركها ) كلها ( عُوقِبَ بأدناها ) عقابا يوم القيامة إن لم يغفر له ( ويجوزُ تحريمُ واحدٍ مبهمٍ ) من أشياء معينة كأن يقال: لا تتناول السمك أو اللبن أو البيض، فعلى المكلف أن يترك فعل أمر واحد باختياره وله أن يفعل الباقي ( عندنا ) خلافا للمعتزلة، وهذا ( كـ ) الواجب ( المخَيَّرِ ) فيحرم واحد لا بعينه، هذه ( مسألةٌ ) في فرض وسنة الكفاية ( فرضُ الكفايةِ ) أمر ( مُهِمٌّ يُقْصَدُ ) شرعا ( جَزمًا ) يخرج السنة ( حصولُهُ مِنْ غيرِ نظرٍ بالذاتِ لفاعِلِهِ ) وإنما ينظر إليه بالتبع لأنه لا يتأتى الفعل إلا بفاعل ( والأصحُّ أنَّهُ دونَ فرضِ العينِ ) في الفضل، وقيل إن فرض الكفاية أفضل ( و ) الأصح ( أنَّهُ ) فرضٌ ( على الكلِّ ويسقطُ بفعلِ البعضِ ) وقيل بل هو فرض على البعض ورجّحه الأصل ( وأنَّهُ ) أي فرض الكفاية ( لا يَتَعَيَّنُ بالشُّرُوعِ ) فيه أي لا يصير فرض عين على الشارع فيه ( إلا جهادًا وصلاةً وجنازة ًوحجًّا وعمرةً ) فتتعين بالشروع فيها ( وسُنَّتُهَا ) أي سنة الكفاية ( كفرضِها ) أي كفرض الكفاية فيما مر ولكن ( بإبدالِ جزمًا بضِدِّهِ ) فنقول في حدها: مهم يقصد تحصيله بلا جزم من غير نظر بالذات إلى فاعله.

صفاء الدين العراقي
2016-10-28, 02:25 PM
الدرس التاسع- تابع المقدمات

الواجب الموسّع- مقدمة الواجب- اجتماع الأمر والنهي


أولا: الواجب الموسّع.
1- وقت الجواز للصلاة المكتوبة هو وقتٌ كامل لأدائها ففي أي جزء من هذا الوقت أُوقِعَتْ الصلاة فيه فقد وقعتْ اداءً لأن وقتها مُوَسّعٌ.
ويجبُ على من أراد أن يؤخر الصلاة كالظهر عن أول الوقت أن يعزم بقلبه على أدائها في الوقت، فإن لم يعزم أثم.
2- مَن ظنّ أنه لن يتمكن من فعل العبادة آخر الوقت لعارض ما فأخرّها أثِمَ وإن لم يتحقق ظنه، كالمحكوم عليه بالقتل وجب عليه أن يبادر وأن لا يؤخر إلى الوقت الذي يظن فوات الواجب فيه، فإن أخّر كان عاصيا ولو بان خلاف ظنه كأن عفي عنه أو أجّل ليوم آخر، ثم إن فعلها بعد ذلك اعتبرت أداءً لا قضاءً ما دام أنها وقعت في وقتها المقدر لها شرعا.
3- مَنْ ظنّ أنه يتمكن من فعل العبادة آخر الوقت فأخّر فبان خلاف ظنه لم يأثم إلا في الفرض الذي وقته العمر كله، كمن أدرك وقت العشاء وأخّرها وهو يظن سلامته لآخر الوقت ثم أصيب بسكتة- نسأل الله العافية- فمات قبل أن يصلي فلا إثم عليه لأن التأخير جائز في حقه.
ولكن يستثنى الفرض الذي وقته موسع جدا وهو العمر كله كالحج فإنه متى تمكن من فعله وأخّر ظنا لسلامته فمات أثم، لأنّا لو لم نقل بذلك لما وجب أبدًا إذْ كل من وجب عليه الحج له أن يؤخره حتى يموت وهو لم يحج، وحينئذ هو واجب موسع ولكن بشرط السلامة وهذه مجازفة كبيرة فالمتعين هو المبادرة على من استطاع إليه سبيلا فإن لم يبادر وتمكن من فعله قبل الموت فلا شيء عليه وإن مات أثم.
ثانيا: مقدمة الواجب.
1- الفعل المقدور للمكلف الذي لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب، ويسمى مقدمة الواجب كالوضوء فإنه لا يتم فعل الصلاة الا به فيكون واجبا بنفس الدليل الذي أوجب الصلاة، كما أنه واجب بدليل آخر عليه.
واحترز بالمقدور عن غير المقدور كتمام العدد في وجوب صلاة الجمعة فإنه ليس إليه وغير مخاطب به، واحترز بالمطلق عن المقيد، وهو الذي لا يجب إلا بقيد من سبب أو شرط كالزكاة فلا تجب إلا بالنصاب، وكالحج فلا يجب إلا بالاستطاعة فلا يخاطب العبد بتحصيل النصاب والاستطاعة كي تجبان عليه، وإنما القاعدة السابقة الكلام فيها على فعل ثبت وجوبه وتقرر على المكلف ولكنه توقف إيقاعه في الواقع على تحصيل أمر ما فهل يجب ذلك الأمر الذي يسمى مقدمة الواجب أو لا يجب ؟
والجواب يجب كمن أمر بالوضوء ولا ماء عنده وعنده ثمن الماء فيجب عليه شراؤه لأنه لا يتم الوضوء إلا به.
2- لو لم يقدر شخص على ترك محرّم إلا بترك غيره من الجائز وجب الترك، فلو تزوج شخص من امرأة ولم يرها ثم سافرت إليه واختلطت زوجته بأجنبية ولم يميز بينهما وجب اجتناب قربان الاثنين إلى حصول التمييز، ولو طلق شخص إحدى زوجتيه ونسيها وجب اجتنابهما حتى يتذكر لأن ترك الحرام واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ثالثا: اجتماع الأمر والنهي.
هل يجتمع الأمر والنهي في شيء واحد بأن يكون شيء واحد مأمورًا به وفي نفس الوقت منهيًا عنه؟
والجواب إن اجتماع الأمر والنهي يكون على أنحاء:
1- أن يكون الاجتماع في جهة واحدة، بأن يكون مأمورا به من جهة ومن نفس تلك الجهة هو منهي عنه، وهذا باطل يلزم عليه التناقض كأن يقال اجلس هنا كي لا تؤذي غيرك، ولا تجلس هنا كي لا تؤذي غيرك، فالأمر بالجلوس في محل ما لدفع الأذى، والنهي عن الجلوس في نفس المحل الأول لدفع الأذى، فاجتمع أمر ونهي من جهة واحدة وهو باطل.
2- أن يكون الاجتماع في أكثر من جهة وبين الجهتين تلازم، كالأمر بصلاة النافلة المطلقة، والنهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة، فالأمر بالنافلة للتقرّب بالعبادة لله، والنهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة لموافقة عبّاد الشمس في سجودهم، فالأمر له جهة والنهي له جهة أخرى ولكن بينهما ملازمة لأن الموافقة للكفار في السجود لا تتحقق بغير الصلاة فهي لازمة للصلاة غير منفكة عنها.
3- أن يكون الاجتماع في أكثر من جهة وبين الجهتين انفكاك، كالأمر بالصوم للتقرّب بالعبادة لله والنهي عن الصوم يوم الجمعة كراهة الضعف عن كثرة العبادة في ذلك اليوم، فكل له جهة وبين الجهتين انفكاك لأن الضعف المذكور غير لازم فإنه كما يحصل بالصوم يحصل بغيره كقلة الأكل أو كثرة التعب في عمل دنيوي، فيصح الصوم.
ومثله النهي عن الصلاة في المكان المغصوب، فالأمر بالصلاة له جهة، والنهي عن الغصب له جهة أخرى وهي التعدي على ملك الغير، وهذا المعنى غير لازم للصلاة فكما يتحقق الغصب في الصلاة يتحقق في الأكل والنوم مثلا في المكان المغصوب، فالصلاة صحيحة تجزئ عن القضاء مع معصية الغصب.
فإذا علم هذا فقد قالوا: ( الأمرُ المطلقُ لا يتناولُ المكروهَ ) ويقصدون أن الأمر بشيء ما لا يندرج تحته طلب أي شيء منهي عنه تحريما أو كراهة ولا يجزئ فعل المنهي عن المأمور إن كان النهي له جهة واحدة أو جهتان متلازمتان، فمثلا قد أمر الشرع بصلاة النافلة فهل يشمل أمره هذا ركعتين في وقت النهي ؟ الجواب لا يشمل ولا تصح الصلاة.
وهنا مسألتان:
1- من دخل ملك غيره بغير إذنه فقد غَصَبَ ، فإن خرج تائبا فخطواته في الطريق نحو المخرج تكون واجبة لأن ما لا يتم الواجب الذي هو الخروج من المغصوب إلا به فهو واجب، وإن خرج غير تائب فخطواته تلك خطوات غاصب آثم.
2- مَن سقط على جريح حوله جرحى إن استمر فوق الذي سقط عليه ولم يبرح من مكانه فسيقتله وإن تحرك وقع على جريح آخر لشدة الزحام فيقتله ولا يوجد مكان آخر ينتقل إليه غير ذاك فماذا يفعل؟
والجواب: يستمر على ذلك الجريح ولا ينتقل لأن الضرر لا يزال بضرر آخر مثله أو أشد منه.

( شرح النص )

مَسألةٌ: الأَصحُّ أَنَّ وقْتَ المكتوبةِ جوازًا وقتٌ لأدائِهَا، وأَنَّه يجبُ على المؤخِّرِ العزمُ، ومَنْ أَخَّرَ معَ ظنِّ فوتِهِ عصى، وأَنَّهُ إنْ بانَ خِلافُهُ وفَعَلَهُ فأداءٌ، وأَنَّ مَنْ أَخَّرَ معَ ظنِّ خِلافِهِ لمْ يَعْصِ بخِلافِ ما وقْتُهُ العُمْرُ كَحَجٍّ.
مَسألةٌ: المقدورُ الذي لا يتِمُّ الواجِبُ المطلقُ إلا بِهِ واجِبٌ في الأصحِّ، فلو تَعَذَّرَ تَرْكُ مُحَرَّمٍ إلا بتركِ غيرِهِ وَجَبَ، أَو اشْتَبَهَتْ حَلِيلَةٌ بأجنَبِيَّةٍ حَرُمَتا، كما لو طلَّقَ مُعَيَّنَةً ثم نسيَها.
مسألةٌ: مُطلَقُ الأمرِ لا يتناولُ المكروهَ في الأصحِّ، فإنْ كانَ له جِهِتانِ لا لزومَ بينهما تناوَلَهُ قطعًا في نهيِ التنزيهِ وعلى الأصحِّ في التحريمِ، فالأصحُّ صِحَّةُ الصلاةِ في مغصوبٍ، وأَنَّهُ لا يُثابُ عليهِ، وأَنَّ الخارِجَ من مغصوبٍ تائِبًا آتٍ بواجبٍ، وأَنَّ الساقِطَ على نحوِ جريحٍ يَقْتُلُهُ أَو كُفْأَهُ يستَمِرُّ .
.............................. .............................. .............................. .............................
هذه ( مسألةٌ ) في الواجب الموسّع ( الأَصحُّ أَنَّ وقْتَ ) الصلاة ( المكتوبةِ جوازًا ) وهو وقت الاختيار قيد أخرج به وقت الضرورة والحرمة لأن الكلام في المسألة على وقت الجواز ( وقتٌ لأدائِهَا ) ففي أي جزء منه أوقعت الصلاة فقد أوقعت في وقت أداء ولا يقيد الوجوب بأول ولا آخر، وقيل إن وقت الأداء هو آخر الوقت فإن فعلت في أول الوقت أو وسطه فهو تعجيل للطاعة كتعجيل دفع الزكاة قبل حلول الحول ( و ) الأصح ( أَنَّه يجبُ على المؤخِّرِ ) أي مريد تأخير الصلاة عن أول الوقت ( العزمُ ) في أول الوقت على الفعل في الوقت، وقيل لا يجب عليه العزم واختاره الأصل وهو خلاف معتمد المذهب الذي صححه الإمام النووي في المجموع ( ومَنْ أَخَّرَ ) الواجب الموسع ( معَ ظنِّ فوتِهِ ) أي فوت ذلك الواجب بنحو موت أو حيض كمن علمت أن عادتها أن تأتيها الحيضة آخر الوقت فلا يجوز لها تأخير الصلاة ( عصى ) لظنه فوت الواجب بالتأخير وإنما الأعمال بالنيات ( و ) الأصح ( أَنَّهُ إنْ بانَ خِلافُهُ ) بأن تبين خلاف ظنه ولم يمت أو تأتي المرأةَ الحيضة ( وفَعَلَهُ ) أي فعل الواجب قبل خروج وقته ( فـ ) فعله ( أداءٌ ) لأن العبرة بالوقت في الواقع وهو لم يخرج، وقيل: إن فعله قضاء لأنه فعله بعد الوقت الذي تضيّق بظنه وإن بان خلاف ظنه لأن العبرة بظنه ( و ) الأصح ( أَنَّ مَنْ أَخَّرَ ) الواجب الموسع ( معَ ظنِّ خِلافِهِ ) أي خلاف فوته بأن ظن عدم فوت الوقت بالتأخير ( لمْ يَعْصِ ) لأن التأخير جائز له فهو عكس المسألة التي قبلها ( بخِلافِ ما ) أي الواجب الذي ( وقْتُهُ العُمْرُ كَحَجٍّ ) فإن من أخّره بعد أن أمكنه فعله مع ظن عدم فوته كأنّ ظن سلامته من الموت إلى مضي وقت يمكنه فعله فيه ومات قبل فعله يعصي على الأصح، وقيل لا يعصي.
هذه ( مَسألةٌ ) في مقدمة الواجب، الفعل ( المقدورُ ) للمكلف ( الذي لا يتِمُّ ) أي لا يوجد ( الواجِبُ المطلقُ إلا بِهِ واجِبٌ ) بنفس وجوب الواجب ( في الأصحِّ ) وقيل لا يجب بوجوبه بل بدليل خاص يدل عليه، واحترز بالواجب المطلق عن الواجب المقيد وجوبه بما يتوقف عليه كالزكاة وجوبها متوقف على ملك النصاب فلا يجب تحصيله ( فلو تَعَذَّرَ تَرْكُ مُحَرَّمٍ إلا بتركِ غيرِهِ ) من الجائز ( وَجَبَ ) ترك ذلك الغير الجائز لتوقف ترك المحرم الذي هو واجب عليه، كما لو اختلط طعام مائع مباح بطعام مائع محرّم فيجب عليه ترك الطعام المباح لأنه يتعذر تمييز الحلال عن الحرام ( أَو اشْتَبَهَتْ حَلِيلَةٌ ) لرجل من زوجة أو أمة ( بأجنَبِيَّةٍ حَرُمَتا ) وتبقى الحرمة إلى أن يميّز بينهما فتحل له حينذاك ( كما ) أي ومثله ما ( لو طلَّقَ مُعَيَّنَةً ) من زوجتيه مثلا ( ثم نسيَها ) أي نسى من طلق فإنهما يحرمان عليه وتبقى الحرمة إلى التمييز بينهما.
هذه ( مسألةٌ ) في اجتماع الأمر والنهي ( مُطلَقُ الأمرِ لا يتناولُ المكروهَ في الأصحِّ ) بمعنى أن الأمر بشيء ما له أمثلة وجزئيات فهل يندرج تحته صورة منهي عنها فتكون صحيحة لأن الأمر يقتضي الصحة ؟ كما لو قال أب لابنه: ادرسْ واجباتك، وفي سياق آخر قال له يا بني: لا تبق مستيقظا إلى منتصف الليل، فالأمر بالدراسة من جزئياته الدراسة في منتصف الليل، فهل أمره بالدراسه يتناول تلك الحالة بحيث إنه إذا رآه يدرس في ذلك الوقت لن يعاقبه، ويكون الولد ممتثلًا، أو أن تلك الحالة غير مندرجة في أمره ؟ ذهب الجمهور إلى أن المنهي عنه لا يندرج تحت الأمر إذا كان لهما جهة واحدة أو جهتان بينهما تلازم، فإن لم يكن بينهما تلازم فتندرج صورة النهي في الأمر بحيث تجزئ وإن كانت مذمومة من جهة النهي عنها، كما في الصلاة في المكان المغصوب، وقوله: مطلق الأمر احترز به عن الأمر المقيد بغير المكروه فلا خلاف في عدم تناول الأمر له كما لو قيل: صل في غير وقت النهي، فمن الواضح أن الصلاة في وقت النهي تكون غير مندرجة حينذاك اتفاقا، وقوله المكروه أي كراهة تحريم أو كراهة تنزيه، وقوله في الأصح إشارة إلى قول بعض العلماء بأن المنهي عنه يندرج تحت الأمر المطلق ولذا صححوا الصلاة في أوقات النهي والجمهور عندهم أن هذه الصلاة باطلة ( فإنْ كانَ له ) أي للمكروه ( جِهِتانِ لا لزومَ بينهما ) كالصلاة في المكان المغصوب فإنها صلاة وغصب وكل منهما يوجد بدون الآخر فالصلاة توجد في مكان غير مغصوب والغصب يوجد بدون صلاة في ذلك المكان ( تناوَلَهُ ) مطلق الأمر ( قطعًا في نهيِ التنزيهِ ) كما في النهي عن الصلاة في الأمكنة المكروهة كالحمام فإن النهي للكراهة وليس للتحريم ولا يوجد تلازم بين الصلاة والكون في الحمام ويمكن أن يوجد أحدهما بدون الآخر كما هو ظاهر ( وعلى الأصحِّ في ) نهي ( التحريمِ ) كما في الصلاة في المكان المغصوب، وقيل لا يتناوله في هذه الحالة ( فالأصحُّ صِحَّةُ الصلاةِ في مغصوبٍ وأَنَّهُ لا يُثابُ عليهِ ) أي الأصح أن الصلاة تصح فرضا كانت أو نفلا ولكن لا يثاب عليها بسبب الغصب، وقال بعضهم يثاب عليها من جهة الصلاة ويعاقب عليها من جهة الغصب والعقاب قد يكون بحرمانه ثواب تلك الصلاة وقد يكون بغير ذلك، وقال الإمام أحمد رحمه الله لا تصح ويجب إعادتها ( و ) الأصح ( أَنَّ الخارِجَ من ) محل ( مغصوبٍ تائِبًا ) أي نادما على الدخول فيه عازما على أن لا يعود إليه في المستقبل ( آتٍ بواجبٍ ) لتحقق التوبة الواجبة بخروجه تائبا، وقال بعض المعتزلة هو آت بحرام لأن ذلك شغل ملك غيره بغير إذنه كالماكث ( و ) الأصح ( أَنَّ الساقِطَ على نحوِ جريحٍ ) بين جرحى ( يَقْتُلُهُ ) إن استمر عليه ( أَو ) يقتل ( كُفْأَهُ ) فإن لم يكن كفأه فينقلب عليه كما لو سقط على مسلم وبجنبه جريح كافر فينقلب على الكافر لأن إزهاق حياة مسلم أمر عظيم ( يستَمِرُّ ) عليه ولا ينتقل إلى كفئه لأن الضرر لا يزال بالضرر.

صفاء الدين العراقي
2016-10-29, 10:37 PM
الدرس العاشر- نهاية المقدمات

المحكوم به


أولا: التكليف بالمحال.
المحال هو: الممتنع الوقوع، وهو على ثلاثة انواع:
1- المحال لذاته أي الذي يحيل العقل وجوده كاجتماع النقيضين والضدين.
2- المحال لغيره أي الذي لا يحيل العقل وجوده ولكن جرت العادة وسنن الله الكونية أن الإنسان لا يقدر عليه كحمل جبل.
3- المحال لتعلق علم الله بعدم حصوله، كالإيمان من كافر علم الله أنه لن يؤمن، وإيمانه محال لأنه لو آمن لانقلب علم الله جهلًا- تعالى الله عن ذلك علو كبيرا - وهو محال.
فأما المحال الثالث فقد اتفق العلماء على أن التكليف به جائز عقلا وواقع سمعًا؛ لأنه في ذاته وحقيقته ممكن عقلا ولكنه امتنع لعارض، فالإيمان مقدور عليه ولذا آمن غير ذلك الكافر، ولكن سبق علم الله الأزلي فيه أنه لن يؤمن، فالمسألة من باب القضاء والقدر لا من باب الأمر والنهي كما بيّنه الإمام ابن تيمية.
واختلفوا في المحالين الأول والثاني جوازًا ووقوعا: فمن قائل بجوازه عقلا ووقوعه سمعا وهو باطل لقوله تعالى: ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) ومنهم من أجازه عقلا ومنع وقوعه سمعا، ومنهم من منع جوازه عقلا لأنه لا فائدة من التكليف به كما منع وقوعه سمعا.
مسألة: هل يشترط لصحة التكليف حصول الشرط الشرعي أو لا يشترط ؟
والجواب: لا يشترط وذلك كالكفار فهم مخاطبون بفروع الشريعة، مع أن شرط وجوب الصلاة والصوم ونحوهما من الفروع هو الإسلام، فالشرط الشرعي للتكليف الذي هو الإيمان مفقود ومع ذلك يصح تكليفهم بالمشروط الذي هو الفروع، فيُعاقَب الكافر على ترك الفروع كما يعاقب على ترك الإيمان قال تعالى: ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ).
ثانيا: لا تكليفَ إلا بفعلٍ، والفعل ظاهر في الأمر كالصلاة والزكاة، وأما في النهي الذي يقتضي الترك فالمختار أن المنهي عنه هو كف النفس عن الفعل لا عدم الفعل، فإذا قيل: لا تزنِ فمعناه كف نفسك واصرفها عن أن تتوجه لفعل الزنا.
وهنا مسألة ما هو الوقت الذي يتوجّه التكليف فيه بالفعل للمكلف ؟ فالصلاة مأمور بها ولكن متى يخاطب العبد بها ويتوجه له الطلب؟
والجواب: التكليف يتعلق بالفعل قبل دخول وقته إعلاما للمخاطب باعتقاد وجوب إيجاد الفعل، وبعد دخول وقته إلزاما بفعله، ويستمر التكليف به حال المباشرة للفعل ولا ينقطع التكليف به إلا بعد الفراغ منه.
كصلاة الظهر قبل الزوال يتعلق الأمر بها تعلقا إعلاميا بأن يعتقد المكلف وجوب إيجادها عند حلول وقتها، وبعد الزوال يتعلق الأمر بها تعلقًا إلزاميا بإيجاد الفعل، وحينما يباشر المكلف ويكبر للصلاة يستمر الأمر والإلزام بها إلى أن يفرغ منها صحيحة، فإذا فرغ منها انقطع الأمر بها.
ثالثا: يصح تكليف شخص بفعل شيء في وقت ما مع علم الآمر أنه لن يتمكن من فعله لانتفاء شرط من شروط حصوله.
مثل أن يكلف الله شخصًا بصوم يوم معين مع علمه سبحانه أن ذلك الشخص يموت قبل ذلك اليوم.
ولولا صحة ذلك لما علمنا الآن أننا مكلفون بصوم رمضان القادم مثلا، مع احتمال حدوث مانع من موت أو غيره.
رابعا: الحكم الشرعي قد يتعلق بأمرين فأكثر على الترتيب أو على البدل.
ومعنى الترتيب: أن يتعلق الحكم بالأول ثم في ظرف معين يتعلق بالثاني، ومعنى البدل: أن يتعلق الحكم إما بهذا أو ذاك.
فإن قيل: يتولى الإمارة زيدٌ فإن مات فعمرٌو، أو: يتولى الإمارة زيدٌ أو عمرٌو، فالأول على الترتيب والثاني على البدل.
فالأول وهو ما تعلق به الحكم على الترتيب له ثلاثة أحوال:
1- أن يحرم الجمع بينهما كأكل المذكاة والميتة، فالجواز تعلق بهما معا مرتبين فإن لم نجد المذكاة ننتقل للميتة في حالة الاضطرار ويحرم الجمع بينهما.
2- أن يباح الجمع بينهما كالوضوء والتيمم، فإن التيمم إنما يجوز عند العجز عن الوضوء، وقد يباح الجمع بينهما كأن تيمم شخص لخوف بطء البرء من المرض، ثم تحامل على نفسه وتحمل المشقة وتوضأ، وجواز الوضوء إن لم يحصل ضرر.
3- أن يستحب الجمع بينهما كخصال كفارة الجماع في نهار رمضان، فإن كلا منها واجب لكن وجوب الإطعام عند العجز عن الصيام ووجوب الصيام عند العجز عن الاعتاق ويسن الجمع بينها.
والثاني وهو ما تعلق به الحكم على البدل له ثلاثة أحوال أيضا:
1- أن يحرم الجمع بينهما، كتزويج المرأة من أحد كفأين، فيجوز تزويجها لهذا أو ذاك، ويحرم تزويجها من الاثنين معا.
2- أن يباح الجمع بينهما،كما لو كان لزيد ثوبان يستر كل واحد منهما عورته، فالواجب التستّر بواحد ويباح التستر بهما معا.
3- أن يستحب الجمع بينهما كما في خصال كفارة اليمين فإن الواجب على المكلف فعل خصلة واحدة يختارها لكن يندب أن يفعل الجميع.

( شرح النص )

مَسألةٌ: الأَصحُّ جوازُ التكليفِ بالمحالِ مطلقًا، ووقوعُهُ بالمحالِ لتَعَلُّقِ علمِ اللهِ بعدمِ وقوعِهِ فقطْ، وجوازُهُ بما لمْ يحصلْ شرْطُهُ الشرعيُّ كالكافرِ بالفروعِ ووقُوعُهُ.
مسألةٌ: لا تكليفَ إلا بفعلٍ، فالمكلَّفُ به في النهيِّ الكفُّ أي الانتهاءُ في الأصحِّ، والأصحُّ أَنَّ التكليفَ يتعَلَّقُ بالفعلِ قبلِ المباشَرَةِ بعدَ دخولِ وقْتِهِ إِلزامًا، وقبلَهُ إعلامًا، وأَنَّهُ يستمِّرُ حالَ المباشَرَةِ.
مسألةٌ: الأصحُّ أَنَّ التكليفَ يصِحُّ معَ علمِ الآمِرِ فقطْ انتفاءَ شَرْطِ وقُوعِهِ عندَ وقْتِهِ، كأمرِ رجلٍ بصومِ يومٍ عُلِمَ مَوْتُهُ قبْلَهُ، وأَنَّهُ يعلَمُهُ المأمورُ أَثَرَ الأَمْرِ.
خاتِمَةٌ: الحكمُ قدْ يتعلَّقُ على الترتيبِ أَوِ البَدَلِ فيحرُمُ الجمْعُ، أو يباحُ، أَو يُسَنُّ.
.............................. .............................. .............................. ................
هذه ( مسألةٌ ) في التكليف بالمحال ( الأَصحُّ جوازُ التكليفِ ) عقلا أي من حيث الجواز العقلي ( بالمحالِ مطلقًا ) أي سواءٌ أَ كان محالا لذاته كالجمع بين السواد والبياض، أم محالا لغيره كالطيران في الهواء بلا آلة، وقيل لا يجوز هذا التكليف ( و ) الأصح ( وقوعُهُ ) أي التكليف بالمحال في الشرع ( بالمحالِ لتَعَلُّقِ علمِ اللهِ ) تعالى ( بعدمِ وقوعِهِ ) لأنه ممكن في ذاته كالتكليف بالصلاة ممن علم أنه لن يصلي ( فقطْ ) أي دون المحال لذاته والمحال لغيره، وقيل يقع التكليف بالمحال لغيره لا ذاته، وقيل يقع التكليف به مطلقا، وليس بشيء، هذا وثمة فرق في الاصطلاح الأصولي بين: التكليف بالمحال، والتكليف المحال، فالأول يتعلق بشروط الفعل المأمور به هل يشترط فيه أن يكون مقدورا عليه أو يجوز بالمحال؟ وهو مسألتنا هنا، والثاني يتعلق بشروط الشخص المأمور هل يجوز تكليف الغافل والملجأ ؟ والجواب لا يجوز وقد تقدم الكلام على الثاني عند تعريف المكلّف ( و ) الأصح ( جوازُهُ ) أي التكليف ( بما لمْ يحصلْ شرْطُهُ الشرعيُّ ) فيجوز التكليف بالمشروط حال عدم الشرط ( كالكافرِ ) يجوز تكليفه ( بالفروعِ ) مع انتفاء شرطها الشرعي وهو الإيمان ( و ) الأصح ( وقُوعُهُ ) أي هذا النوع من التكليف فهو جائز عقلا وواقع سمعا.
هذه ( مسألةٌ ) في المكلّف به ( لا تكليفَ إلا بفعلٍ ) يوقعه المكلف أما في الأمر فظاهر لأن المطلوب به فعل وأما في النهي ( فالمكلَّفُ به في النهيِّ الكفُّ ) وهو فعل من أفعال النفس ( أي الانتهاءُ ) عن المنهي عنه والانصراف عنه وذلك هو معنى كف النفس عنه ( في الأصحِّ ) وقيل هو انتفاء المنهي عنه أي العدم فلا يشترط أن يكون المكلف به فعلا ( والأصحُّ أَنَّ التكليفَ يتعَلَّقُ بالفعلِ قبلِ المباشَرَةِ ) له أي فعله والتلبس به ( بعدَ دخولِ وقْتِهِ إِلزامًا ) وهذا هو ما يسمى بالتعلّق الإلزامي أي التنجيزي والغرض منه امتثال المكلف ( وقبلَهُ ) أي قبل المباشرة له ( إعلامًا ) وهذا هو ما يسمى بالتعلّق الإعلامي والغرض منه اعتقاد المكلف وجوب الفعل عليه عند دخول وقته، وقيل لا يتعلّق التكليف بالمكلّف إلا عند المباشرة للفعل ( و ) الأصح ( أَنَّهُ ) أي التعلق الإلزامي بالفعل المطلوب به الامتثال ( يستمِّرُ حالَ المباشَرَةِ ) للفعل ولا ينقطع إلا بالفراغ منه، وقيل لا يستمر حال المباشرة للفعل.
هذه ( مسألةٌ ) في التكليف بشيء مع انتفاء شرط وقوعه ( الأصحُّ أَنَّ التكليفَ ) بشيء ( يصِحُّ معَ علمِ الآمِرِ فقطْ انتفاءَ شَرْطِ وقُوعِهِ ) أي وقوع المأمور به ( عندَ وقْتِهِ، كأمرِ رجلٍ بصومِ يومٍ عُلِمَ مَوْتُهُ قبْلَهُ ) للآمِرِ فيصح أن يأمر الله سبحانه رجلا بصوم يوم وهو يعلم أنه سيموت قبله فشرط وقوع الفعل هو حياة المكلف وعقله وقدرته وقد علم أنها لا توجد في ذلك اليوم بسبب الموت قبله، وقد أمر الله سبحانه إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه وهو يعلم أنه لن يُقْدِرَهُ على ذبح ابنه، والغرض من التكليف هو ان يظهر قصد الامتثال، وقال قوم لا يصح التكليف مع العلم بانتفاء شرط الوقوع، ومعنى قوله فقط أن العلم مختص بالآمر، ويخرج ما لو علم المأمور أيضا أنه سينتفي شرط وقوعه فلا يصح التكليف حينذاك لانتفاء الفائدة من التكليف ( و ) الأصح ( أَنَّهُ ) أي التكليف ( يعلَمُهُ ) المكلف ( المأمورُ أَثَرَ ) أي عقب ( الأَمْرِ ) المسموع له فإذا قيل له: صمْ يوم كذا، علم عقب سماعه هذه الجملة أنه مكلف بالصيام في ذلك اليوم القادم، ولا يتوقف علمه على أن يأتي الزمن الذي يتمكن فيه من الامتثال، وقيل لا يعلمه حتى يأتي الزمن الذي يتمكن فيه من الامتثال لأنه قد لا يتمكن من فعله لموت أو عجز عنه، وهذه المسألة والخلاف فيها مفرع عما قبلها، فإننا إذا جرينا على أنه يصح ورود التكليف مع علمه سبحانه بانتفاء شرط الامتثال فمتى وردت علينا التكليف علمنا أننا مكلفون وإن كنا نجوّز أن نموت قبل التمكن، فصحّ علمنا بالتكليف قبل الوقت، وإذا جرينا على أنه لا يصح ذلك فمتى ورد علينا التكليف لم نعلم أننا مكلفون لاحتمال أن نموت مثلا قبل الوقت.
هذه ( خاتِمَةٌ ) للمقدمات في بيان أن الحكم قد يكون على الترتيب أو البدل ( الحكمُ قدْ يتعلَّقُ ) بأمرين فأكثر ( على الترتيبِ أَوِ ) على ( البَدَلِ فيحرُمُ الجمْعُ أو يباحُ أَو يُسَنُّ ) في كل منهما فالحكم الترتيبي له ثلاثة أنواع: حرمة الجمع كأكل المذكاة والميتة، وإباحة الجمع كالوضوء والتيمم لمن يخاف بطء البرء من المرض، وسنية الجمع كخصال كفارة الوقاع في رمضان، والحكم البدلي له نفس الأنواع أيضا وهي: حرمة الجمع كتزويج المرأة من أحد كفأين، وإباحة الجمع كالتستر بأحد ثوبين، واستحباب الجمع كخصال كفارة اليمين.

صفاء الدين العراقي
2016-11-05, 11:33 AM
الدرس الحادي عشر- مباحث الكتاب

مقدمة


أولا: القرآن هو: اللفظ المنزّل على سيّدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم ، المُعجِزُ بسورةٍ منه، المُتَعبَّدُ بتلاوتِهِ. وهو من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس مشتملا على 114 سورة.
ثانيا: البسملة أول كل سورة من القرآن الكريم، وهي مكتوبة في مصاحف الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
ثالثا: القراءة تنقسم إلى قسمين: صحيحة وشاذة.
فالقراءة الصحيحة قسمان:
1- متواترة وهي قراءة القراء السبعة وهم:
أ- عبدُ الله بن كثيرٍ المتوفي سنة 120 هـ.
ب- نافع بن عبد الرحمن المتوفي سنة 169هـ.
ج- عبد الله بن عامر المتوفي سنة 118 هـ.
د- أبو عمرو بن العلاء المتوفي سنة 157 هـ.
هـ- عاصِم بن أبي النَّجُودِ المتوفي سنة 127 هـ.
و- حمزة بن أبي حبيب المتوفي سنة 156 هـ.
ز- علي بن حمزة الكسائي المتوفي سنة 189 هـ.
فالقراءة التي قرأ بها هؤلاء منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا متواترًا إلى أن وصلتنا كذلك.
2- مستفيضة وهي قراءة القراء الثلاثة وهم:
أ- أبو جعفر يزيد بن القعقاع المتوفي سنة 132 هـ.
ب- يعقوب بن اسحاق المتوفي سنة 205 هـ.
ج- خلف بن هشام المتوفي سنة 229 هـ.
فالقراءة التي قرأ بها هؤلاء قراءة مستفيضة مشهورة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقاها الأئمة بالقبول ولكنها لم تبلغ مبلغ التواتر، والمشهور عن المتأخرين من القراء أنها متواترة أيضا وهو الذي سمعناه من شيوخنا.
وأما القراءة الشاذة فهي ما عدا قراءة هؤلاء. والله أعلم.
وحكم القراءة المتواترة والصحيحة أنها تثبت قرآنا ويقرأ بها في الصلاة.
وأما الشاذة فهي لا تثبت قرآنا ولا يجوز القراءة بها لا في الصلاة ولا خارجها.
وهنا مسألة وهي:
هل القراءة الشاذة يثبت بها حكم شرعي ؟
والجواب: نعم المختار أنها في حكم حديث الآحاد فإذا نقلت نقلا صحيحا ثبت الحكم بها على أنها كانت من باب التفسير للآية كقراءة عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيمانهما، ولذا وجب قطع يمين السارق لا شماله.
رابعا: لا يجوز ورود لفظ لا معنى له في القرآن أو السنة، لأنه كالهذيان لا يليق بعاقل فكيف بالله ورسوله.
خامسا: لا يجوز ورود لفظ في القرآن والسنة يراد به غير ظاهره إلا بدليل يبيّن المراد منه، كأن يأتي لفظ عام فيحمل على عمومه فإن جاء دليل خاص خصص به العام، وعرفنا حينئذ أن العام لم يرد به عمومه.
سادسا: لا يجوز أن يبقى لفظ مجمل في القرآن والسنة كلفنا بالعمل به غيرَ مُبَيَّنٍ، والمجمل هو ما لم تتضح دلالته من قول أو فعل فإذا ورد لفظ مجمل في كتاب أو سنة لا بد أن يأتي ما يبين المراد منه كي يمكن أن نعمل به كقوله تعالى: ( وأقيموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ ) لا بد أن يرد ما يبين كيفية الصلاة والزكاة، فإن لم نكلف بالعمل به فقد يوجد ذلك كتفسير الحروف المقطعة أول السور.
سابعا: النص الشرعي أربعة أقسام:
1- قطعي الورود قطعي الدلالة.
2- قطعي الورود ظني الدلالة.
3- ظني الورود قطعي الدلالة.
4- ظني الورود ظني الدلالة.
والأول منها قطعي، والثلاثة الأخرى ظنية، والدليل الظني قد يفيد اليقين بما ينضمّ إليه من القرائن.
مثاله: ما علم من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج وحرمة الزنا والخمر ونحوها، فإذا كان لفظ الآية لوحده قد يحتمل التأويل كما حصل للبعض في الخمر فإن ما انضم إليها من بيان الرسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل على ذلك مما شاهده الصحابة الكرام بأعينهم وعلموه ضرورة ونقل إلينا إلى يومنا هذا بالتواتر القطعي ينفي كل احتمال، ومثل هذا يقال في ظني الورود كما في كثير من السنة فإنه قد ينضم إلى الخبر ويحتف به من القرائن ما يجعل العالم يقطع بثبوته ككونه في الصحيحين وتلقي الأئمة له بالقبول.


( شرح النص )

الكتابُ الأَوَّلُ في الكتابِ ومباحثِ الأقوالِ
الكتابُ: القرآنُ وهو هنا: اللفظُ المنزَّلُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم المعجِزُ بسورةٍ منهُ المتعبَّدُ بتلاوتِهِ، ومنهُ البسملةُ أوَّلُ كلِّ سورةٍ في الأصحِّ غيرِ براءةٍ، لا الشاذُّ في الأصحِّ، والسبْعُ متواتِرةٌ ولو فيما هوَ من قبيلِ الأداءِ كالمدِّ، وتحرُمُ القراءةُ بالشاذِّ، والأصحُّ أنَّهُ ما وراءَ العشَرَةِ، وأنَّهُ يجري مجرى الآحادِ، وأنَّهُ لا يجوزُ ورودُ مالا معنى لهُ في الكتابِ والسنَّةِ، ولا ما يُعْنَى بهِ غيرُ ظاهرِهِ إلا بدليلٍ، وأنَّهُ لا يبقى مجملٌ كُلِّفَ بالعملِ به غيرَ مُبَيَّنٍ، وأَنَّ الأدلةَ النقليَّةَ قدْ تفيدُ اليقينَ بانضمامِ غيرِها.
.............................. .............................. .............................. ................
بعد أن فرغ من المقدمة شرع في أول المقصود فقال ( الكتابُ الأَوَّلُ ) من الكتب التسعة ( في الكتابِ ) وهو القرآن ( ومباحثِ الأقوالِ ) المشتمل عليهما القرآن والسنة، لأن القرآن والسنة منهما أمر ونهي وعام وخاص ومطلق ومقيد ومجمل ومبين فيستدعي بيانها ( الكتابُ: القرآنُ وهو هنا ) أي في أصول الفقه، وهذا احتراز عنه في علم الكلام فيراد بالقرآن المعنى النفسي الذي تقول به الأشاعرة ( اللفظُ المنزَّلُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم ) يخرج المنزل على غيره كالتوراة والإنجيل ( المعجِزُ بسورةٍ منهُ ) كسورة الكوثر قيد يخرح الأحاديث القدسية ( المتعبَّدُ بتلاوتِهِ ) يخرج المنسوخ تلاوته نحو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ( ومنهُ ) أي ومن القرآن ( البسملةُ ) الثابتة ( أوَّلُ كلِّ سورةٍ في الأصحِّ ) لأنها مكتوبة بنفس خط السور في مصاحف الصحابة مع مبالغتهم في أن لا يكتب فيها ما ليس منه، وقيل ليست البسملة من القرآن، وأجمعوا على أن البسملة في قوله تعالى إنَّهُ من سليمانَ وإنهُ بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن ( غيرِ ) أول سورة ( براءةٍ ) فإنها لم تنزل بالبسملة ( لا الشاذُّ في الأصحِّ ) أي ليس الشاذ - و هو ما عدا العشرة مما نقل آحادًا ولم يستفض ولم تتلقه الأئمة بالقبول- من القرآن، وقيل من القرآن ( و ) القراءات ( السبْعُ ) المروية عن القراء السبعة وهم ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ( متواتِرةٌ ) من النبي صلى الله عليه وسلم إلينا أي نقلها عنه جمع يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب لمثلهم إلى أن بلغنا ( ولو فيما هوَ من قبيلِ الأداءِ كالمدِّ ) ذكر العلامة ابن الحاجب رحمه الله إن المنقول عن القراء مما هو من قبيل جوهر اللفظ مثل مالك وملك فهذا متواتر جزما وما هو من قبيل أداء اللفظ وطريقة نطقه كالتفخيم والترقيق والمد مثل المد المتصل والمنفصل وأن هذا يمد ست حركات وهذا أربع حركات ليس من المتواتر، ولم يرتض العلماء قوله بل الجميع متواترٌ ( وتحرُمُ القراءةُ بالشاذِّ ) في الصلاة وخارجها لأنه ليس بقرآن على الأصح ( والأصحُّ أنَّهُ ) أي الشاذ ( ما وراءَ العشرَةِ ) من القراءات أي السبع السابقة وقراآت أبي جعفر ويعقوب وخلف، وقيل الشاذ ما وراء السبع، فالثلاثة الزائدة على هذا القول تحرم القراءة بها، وعلى الأصح هي كالسبع يجوز القراءة بها ( و ) الأصح ( أنَّهُ ) أي الشاذ ( يجري مجرى ) الأخبار ( الآحادِ ) في الاحتجاج والعمل بها لأن الشاذ منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلزم من انتفاء خصوصية قرآنيته انتفاء عموم خبريته ( و ) الأصح ( أنَّهُ لا يجوزُ ورودُ ما ) أي لفظ ( لا معنى لهُ في الكتابِ والسنَّةِ ) لأنه لا يليق، وقيل يجوز، وليس بشيء ( و ) الأصح أنه ( لا ) يجوز أن يرد في الكتاب والسنة ( ما ) أي لفظ ( يُعْنَى بهِ ) أي يقصد به ( غيرُ ظاهرِهِ ) أي معناه الخفي ( إلا بدليلٍ ) يبيّن المراد منه كما في العام المخصوص فإن العام يحمل على عمومه قبل التخصيص فإذا جاء دليل خاص اتضح لنا حينئذ أن المراد من العام هو غير تلك الصورة التي وقع تخصيصها ( و ) الأصح ( أنَّهُ لا يبقى ) في الكتاب والسنة ( مجملٌ ) وهو ما لم تتضح دلالته ( كُلِّفَ بالعملِ به غيرَ مُبَيَّنٍ ) بأن لم تتضح دلالته إلى وفاته صلى الله عليه وسلم وهو لا يجوز لأن التكليف به يستدعي بيانه، فإن لم يكن أمر تكليف فلا ضير ببقائه على خفائه، وقيل يجوز أن يبقى المجمل على إجماله، وقيل لا يجوز أن يبقى مجمل مطلقا تعلق به عمل أو لا ( و ) الأصح ( أَنَّ الأدلةَ النقليَّةَ قدْ تفيدُ اليقينَ بانضمامِ غيرِها ) من مشاهدة وتواتر، كما في أدلة وجوب الصلاة فإن الصحابة علموا معانيها المرادة بالقرائن المشاهدة ونحن علمناها بواسطة نقل القرائن إلينا تواترًا، وقيل إن الإدلة تفيد اليقين مطلقًا ولو بدون قرائن، وقيل لا تفيده مطلقا ولو مع القرائن.

صفاء الدين العراقي
2016-11-08, 06:08 PM
الدرس الثاني عشر- مباحث الكتاب

الدلالة


الدلالة هي: فهم أمر من أمر آخر، كفهم وجود الخالق جلا وعلا من العالم، فالعالم دال ودليل، ووجود الخالق مدلول، والانتقال الذهني من الدال للمدلول هو الدلالة، فالدال هو: المفهِم لشيء آخر، والمدلول هو: الشيء المفهوم من شيء آخر.
فإن كان الدال لفظا فالدلالة لفظية كدلالة لفظ زيد على ذات معينة، وإن كان الدال غير لفظ فالدلالة غير لفظية كدلالة الدخان المتصاعد في السماء على وجود نار.
وكل من الدلالة اللفظية وغير اللفظية ينقسمان إلى ثلاثة أقسام هي: ( وضعية-طبعية- عقلية ).
فالدلالة الوضعية هي: الحاصلة من الوضع والاصطلاح.
كدلالة كل لغة على معانيها، وكمصطلحات العلوم من أصول وفقه ورياضيات وغيرها فإنها تدل على معانيها المصطلح عليها، وكوضع العلامات الدالة على الطريق، وإشارات المرور التي تم الاتفاق على أن كل لون منها يدل على حالة.
والدلالة الطبعية هي: الحاصلة من طبع الشيء المجبول عليه أو من عاداته.
كالصفرة فإن من طبع الإنسان اصفرار وجهه عند خوفه كاحمراره عند خجله، وكاقتضاء طبع بعض الناس أن يقول آخ عند الحس بالألم، وأف عند الضجر، وكعادة بعض الناس أن يضع أصبعه بين أعلى أذنه وحاجبه عند التفكير.
والدلالة العقلية هي: الحاصلة بسبب التلازم العقلي بين شيئين، كدلالة الأثر على المؤثر والفعل على الفاعل فمتى رأينا أثر أقدام علمنا مسيرًا أو فقدان حاجة من البيت علمنا بوجود سارق وهكذا.
ثم الدلالة اللفظية الوضعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي: ( مطابقة- تضمن- التزام ).
فالمطابقة هي: دلالة اللفظ على تمام معناه الموضوع له.
كدلالة لفظ الصلاة على تمام معناها وهو عبادة ذات أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم.
والتضمن هو: دلالة اللفظ على جزء معناه الموضوع له، كدلالة لفظ الصلاة على الركوع مثلا.
والالتزام هو: دلالة اللفظ على الخارج عن معناه الموضوع له، كدلالة لفظ الصلاة على الوضوء، فإن الوضوء معناه خارج عن معنى الصلاة ولكنه لازم له.
ويسمى الدال ملزوما، والمدلول لازما، فالصلاة ملزومة والوضوء لازمها، وانتقال الذهن بينهما التزام.
واللازم ينقسم - بحسب عمومه أو خصوصه- إلى قسمين: ( أعم- مساو ).
فاللازم الأعم هو: الذي يوجد في الملزوم وغيره، كالزوجية فإنها لازمة للأربعة وتوجد في غيرها كالستة والثمانية.
واللازم المساوي هو: الذي يوجد في الملزوم فقط ،كطلوع النهار فإنه لازم للشمس فقط، وهنا توجد الملازمة من الجانبين فكلما طلعت الشمس وجد النهار وكلما وجد النهار كانت الشمس طالعة.
وينقسم اللازم أيضا- بحسب محل تحققه- إلى ثلاثة أقسام هي: ( ذهني فقط- خارجي فقط- ذهني وخارجي معا ).
فاللازم الذهني هو: الذي يلزم في التصور والذهن فقط، كدلالة العمى على البصر فإن العمى متى تصور في العقل تصور معه البصر لأن العمى عدم البصر ولكن في العالم الخارجي لا يمكن أن يجتمع العمى والبصر في محل واحد.
واللازم الذهني والخارجي هو: الذي يلزم في التصور والذهن وفي الواقع الخارجي أيضا.
كدلالة الفعل على الفاعل والمفعول كالضرب فإن من تصور معناه وهو إيقاع شيء على شيء، تصور معه الضارب والمضروب، وكذلك في الواقع لا يوجد ضرب من دون ضارب ومحل يقع عليه الضرب.
واللازم الخارجي هو: الذي يلزم في الواقع الخارجي فقط.
كلزوم السواد للغراب فإن من تصور معنى الغراب وهو حيوان ناعق ولم يره لم يلزمه أن يتصوره أسود أو أبيض لأنه لا ترابط وتلازم ولكن في العالم الخارجي كل غراب أسود وكذا قل في لزوم البياض للثلج.
وهنا مسألتان:
الأولى: اتفقوا على أن دلالة اللفظ على معناه المطابق هي دلالة وضعية تؤخذ من اللفظ، ولكن اختلفوا في دلالة اللفظ على معناه التضمني والالتزامي فقيل: دلالة عقلية أي من أقسام الدلالة العقلية فبواسطة العقل ينتقل من معنى الشيء المطابق إلى جزئه ولازمه، والأظهر هو أن دلالة الالتزام لوحدها عقلية وأما دلالة التضمن فوضعية.
الثانية: المعتبر في المنطق في دلالة الالتزام أن يكون اللزوم ذهنيا أو ذهنيا وخارجيا معا وأما اللزوم الخارجي فغير معتبر، وأما عند علماء الأصول فلا يشترط ذلك.
ثم اللفظ وهو : الصوت المشتمل على بعض الأحرف ينقسم إلى قسمين ( مفرد - مركب ).
فالمفرد هو: ما لا يدل جزؤه على جزء معناه، كزيد فأجزاؤه وهي الزاي والياء والدال لا تدل على جزء من ذاته.
والمركب هو: ما يدل جزؤه على جزء معناه، نحو غلام زيد فإن الغلام يدل على جزء المعنى وزيد يدل على جزء آخر.
واللفظ المركب متى نقل إلى العلمية صار مفردا لأنه لم يعد يدل جزؤه على جزء معناه كعبد الله فهو مركب من كلمتين فإذا سمي به شخص صار مفردا وصارت كلماته الأصلية كالزاي والياء من زيد، وكأسماء العلوم مثل أصول الفقه وأصول الدين ومصطلح الحديث، فإذا أريد بها أسماء علوم مخصوصة فهي مفردة، وهي في الأصل مركبة من كلمتين.


( شرح النص )

المنطوقُ والمفهومُ
المنطوقُ: ما دلَّ عليهِ اللفظُ في محلِ النطقِ، وهوَ إنْ أَفادَ ما لا يحتمِلُ غيرَهُ كزيدٍ فنصٌّ، أَو ما يحتمِلُ بدَلَهُ مرجوحًا كالأسدِ فظاهِرٌ، ثُمَّ إنْ دلَّ جزؤُهُ على جزءِ معناهُ فمركَّبٌ، وإلا فمفردٌ، ودَلالَتُهُ على معناهُ مطابَقَةٌ، وعلى جُزئِهِ تَضَمُّنٌ، ولازمِهِ الذهنِيِّ التِزامٌ، والأُولَيَانِ لفظِيَّتانِ، والأَخِيرَةُ عقْلِيَّةٌ.
.............................. .............................. .............................. ................
دلالة النصوص على الأحكام الشرعية إما بالمنطوق أو بالمفهوم،وهو مبحث مهم ذكره المصنف بقوله:( المنطوقُ والمفهومُ ) أصل الكلام: هذا مبحثُ المنطوقِ والمفهوم، فحذف المبتدأ هذا، والمضاف مبحث، وأقيم المضاف إليه مقامه ( المنطوقُ ما ) أي معنى ( دلَّ عليهِ اللفظُ في محلِ النطقِ ) محل النطق هو مقام إيراد اللفظ والمعنى هو أن المنطوق هو معنى دل عليه اللفظ في مقام إيراد اللفظ، بمعنى أن المعنى يؤخذ من اللفظ ويستفاد منه بعكس المفهوم الذي هو معنى دل عليه اللفظ لا في محل النطق فهو غير منطوق به بل مسكوت عن بيانه، فقوله تعالى: فلا تقلْ لهما أُفٍّ، يدل على تحريم التأفيف بالمنطوق لأن هذا النص مستعمل في معناه المطابق، وتحريم الضرب يستفاد من المفهوم لأنه مسكوت عن بيانه ولم يذكر له لفظ بعينه كي يفيد هذا المعنى، وسيأتي مزيد تفصيل إن شاء الله ( وهوَ ) أي اللفظ الدال في محل النطق ( إنْ أَفادَ ما ) أي معنى ( لا يحتمِلُ ) أي اللفظ ( غيرَهُ ) أي غير ذلك المعنى ( كزيدٍ ) في نحو: جاءَ زيدٌ، فإن زيدًا مفيد للذات المشخصة من غير احتمال لغيرها ( فنصٌّ ) أي يسمى به ( أَو ) أفاد اللفظ ( ما ) أي معنى ( يحتمِلُ ) اللفظ ( بدَلَهُ ) أي بدل ذلك المعنى حال كونه ( مرجوحًا كالأسدِ) في نحو: رأيتُ اليومَ أسدًا، فإن الأسد مفيدٌ للحيوان المفترس مع احتمال أن يراد بدل ذلك المعنى الرجل الشجاع وهو معنى مرجوح لأنه معنى مجازي والأول حقيقي ( فظاهِرٌ ) أي يسمى به، أما المحتمل لمعنى مساو للآخر كالجون في نحو: ثوبُ زيدٍ جَوْنٌ، فإنه محتمل لمعنييه أي الأسود والأبيض على السواء فيسمى مجملا وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله ( ثُمَّ ) اللفظ ينقسم باعتبار آخر إلى مفرد ومركب لأنه ( إنْ دلَّ جزؤُهُ ) أي جزء لفظه ( على جزءِ معناهُ فمركَّبٌ ) تركيبا إسناديا كزيد قائم، أو إضافيا كغلام زيدٍ، أو تقييديا مثل الحيوانُ الناطِقُ، فإن الناطق صفة للحيوان مقيدة له لأنه إذا قيل الحيوان فقط لم يعلم أن المراد به الإنسان إلا إذا ذكر معه الناطق ( وإلا ) أي وإن لم يدل جزؤه على جزء معناه ( فمفردٌ ) كزيد ( ودَلالَتُهُ ) أي اللفظ ( على معناهُ مطابَقَةٌ ) كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق ( و ) دلالة اللفظ (على جُزئِهِ ) أي على جزء معناه ( تَضَمُّنٌ ) كدلالة الإنسان على الحيوان فقط أو الناطق فقط ( و ) دلالة اللفظ على ( لازمِهِ ) أي لازم معناه ( الذهنِيِّ ) سواء كان ذهنيا فقط أو ذهنيا وخارجيا معا، قيد احترز به عن اللازم الخارجي ( التِزامٌ ) كدلالة الإنسان على قابل التعلم، ثم هو تبع اصطلاح أهل المنطق ( والأُولَيَانِ ) أي دلالتا المطابقة والتضمن ( لفظِيَّتانِ ) أي مستفادتان من محض اللفظ الموضوع لمعنى ( والأَخِيرَةُ ) أي دلالة الالتزام ( عقْلِيَّةٌ ) لتوقفها على الانتقال من المعنى الموضوع له اللفظ إلى لازمه.

صفاء الدين العراقي
2016-11-12, 12:31 PM
الدرس الثالث عشر- مباحث الكتاب

المنطوق والمفهوم


المنطوق هو: المعنى الذي دلّ عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن،مثل قولك: جاءَ زيدٌ، فهو يدل على مجيء شخص معين، فالمعنى المدلول عليه بهذا اللفظ منطوق به لأن هذا اللفظ موضوع في لغة العرب لإفادة هذا المعنى.
فإذا جاءَ نصّ ووجدنا المعنى المستفاد منه هو تمام ما وضع له اللفظ أو بعضه فهو المنطوق.
ولكن ما هو الحال إذا كان المعنى المستفاد من اللفظ مأخوذًا بالالتزام ؟
والجواب هو: أن دلالة الالتزام واسعة تشمل أقساما عدة هي:
1- أن يدل اللفظ على كلمة محذوفة من النص وجودها ضروري ليستقيم الكلام.
مثل: ( لا عملَ إلا بنيةٍ ) هذا اللفظ يدل بالدلالة الوضعية المطابقية على أنه لا يقع عمل في الواقع من غير أن يصاحبه نية، ولكنا نجد أن كثيرا من الأعمال تقع بغير نية شرعية تصحبه، فلا بد من تقدير كلمة صحيح أي لا عملَ صحيحَ إلا بنية، فهنا المعنى المطابق دلّ بالالتزام على تقدير كلمة صحيح، لأنا لو لم نقدره لصار الكلام كذبا.
وتسمى هذه الدلالة بدلالة الاقتضاء.
2- أن يدل اللفظ على أن الوصف الذي ترتّب عليه الحكم هو علة لذلك الحكم.
مثل: ( القاتل لا يرِث ) فهذا اللفظ يدل بالمنطوق الصريح على أن من قتل مورثه يحرم من الإرث، ويدل بالالتزام على أن علة منع الوارث من إرثه هو القتل، فالمشتق ( قاتل ) عُلِّق عليه حكم المنع من الإرث، فدل على أن القتل علة للحكم، لأنه لو لم يكن علة له لصار الكلام معيبا، لأنه علق الحكم على وصف لا مدخل له فهو بمنزلة لو قال: الإنسان لا يرث أو المسلم لا يرث ونحو ذلك.
ومثل: ( السارق تقطع يده ) فهذا اللفظ يدل بمنطوقه الصريح على وجوب قطع يد السارق، ويدل بالدلالة الالتزامية العقلية على أن السرقة علة القطع، وإلا لصار الكلام معيبا، ولصح بدل السارق والسارقة الرجل والمرأة تقطع يدهما.
وتسمى هذه الدلالة بدلالة التنبيه والإيماء.
3- أن يدل اللفظ على حكم غير مقصود ولكنه تابع ولازم لحكم آخر مقصود.
أي أن يساق الكلام ليدل على معنى هو المقصود من اللفظ هو المنطوق به يتبعه حكم آخر غير مقصود لازم له .
مثل: ( يحل الوطء للصائم في أي وقت من الليل ) فالمنطوق الصريح هو جواز الجماع للصائم طوال ليلة الصيام، ويلزمه صحة صيام المجنب، لأن من وطء ونزع عن الجماع قبل الفجر بلحظة يلزمه أنه لن يدرك ما يكفي من الوقت ليغتسل من الجنابة فيدخل الفجر وهو مجنب.
ومثل قول أم المومنين عائشة رضي الله عنها: ( كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فيه ) متفق عليه، فمنطوقه الصريح هو فرك المني عن الثوب والصلاة فيه، ولازمه طهارة المني لأنه لو كان نجسا للزم غسله.
وتسمى هذه بدلالة الإشارة وهي دلالة واسعة جدا تتباين فيها الأفهام تباينا شاسعا.
4- أن يدل مفهوم اللفظ على حكم موافق للحكم المنطوق.
وهو ما يسمى بمفهوم الموافقة أي أن يدل الحكم المنطوق على علة الحكم فيؤخذ من العلة حكما آخر موافقا للحكم المنطوق فإذا كان المنطوق تحريما مثلا كان المفهوم مثله وإذا كان إيجابا كان المفهوم مثله.
مثل قوله تعالى: ( فلا تقل لهما أفٍّ ) فمنطوقه حرمة التأفيف ومفهومه حرمة الضرب والشتم ونحوهما، فهذا الحكم أخذ من المنطوق لاشتراكهما في علة التحريم وهي الإيذاء وهو في المفهوم أولى أي أن الضرب أولى بالتحريم من التأفيف ويسمى هذا النوع فحوى الخطاب.
ومثل قوله تعالى: ( إنّ الذينَ يأكلونَ أموالَ اليتامى ظلمًا إنما يأكلونَ في بطونِهم نارًا وسيصلونَ سعيرا ) فيدل بمنطوقه على حرمة أكل أموال اليتامى، ويدل بمفهمومه الموافق على حرمة إحراق أموال اليتامى، لأن العلة هي إتلاف أموالهم، والمفهوم هنا مساو للمنطوق في الحكم ويسمى هذا النوع لحن الخطاب.
5- أن يدل مفهوم اللفظ على حكم مخالف للحكم المنطوق.
وهو ما يسمى بمفهوم المخالفة وهو ما يؤخذ من تخلف قيد من قيود الحكم.
مثل: ( تجب الزكاة في الغنم السائمة ) فمنطوقه وجوب الزكاة في الغنم إذا كانت سائمة تأكل من حشائش الأرض، ومفهومه عدم وجوب الزكاة في الغنم المعلوفة.
فإذا علم هذا فقد اتفق العلماء على أن ما دل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن يكون منطوقا، وما دل عليه بالموافقة أو المخالفة يكون مفهوما، واختلفوا في دلالة الاقتضاء والإشارة والتنبيه على ثلاثة أقوال:
1- هي من دلالة المفهوم، فكل ما دلّ عليه اللفظ بالالتزام فهو من المفهوم.
2- هي من دلالة المنطوق غير الصريح فالمنطوق ينقسم إلى صريح وهو ما دل بالمطابقة أو التضمن، وغير صريح وهو ما دل بالالتزام.
3- هي ليست من المنطوق أو المفهوم بل هي قسم مستقل يسمى بتوابع المنطوق.
مسألة: اختلف العلماء في كيفية استفادة مفهوم الموافقة من النص على قولين:
1- إن الحكم مأخوذ بالقياس الأصولي كقوله تعالى: ( فلا تقلْ لهما أفٍّ ) نستخرج حرمة الضرب بالقياس بأن نعطي حكم الأصل وهو الحرمة إلى الفرع وهو الضرب لاتحادهما في علة الحكم وهو الإيذاء، ويسمى هذا النوع بالقياس الأولى لأن الحكم المأخوذ أولى من المنطوق فإن الضرب أشد تحريما لأنه أشد إيذاءً.
2- إن الحكم مأخوذ من جهة اللغة لا بالقياس بأن يكون اللفظ دل عليه دلالة في غير محل النطق أي دلالة غير مباشرة وأمارة ذلك أن القياس يحتاج إلى نظر واستنباط وبحث عن العلة بينما العلة هنا وهي الإيذاء تفهم من اللغة ومن نفس النص فالعربي مباشرة يفهم أن النهي عن التأفيف للايذاء.
فعلى القول الأول حكم الضرب مستخرجا بالقياس وعلى الثاني يكون مأخوذًا من لفظ الآية بالفحوى.


( شرح النص )

ثُمَّ هِيَ إِنْ تَوَقَّفَ صِدْقُ المنْطُوقِ أَوْ صِحَّتُهُ على إِضمارٍ فَدَلالَةُ اِقْتِضاءٍ، وإِلا فَإِنْ دَلَّ على ما لمْ يُقْصَدْ فدَلالَةُ إِشارةٍ، وإِلا فدَلالَةُ إيماءٍ.
والمفهومُ: ما دلَّ عليهِ اللفْظُ لا في مَحَلِّ النُّطْقِ، فإنْ وافقَ المنطوقَ فمُوافَقَةٌ ولو مُساوِيًا في الأصحِّ، ثمَّ فَحْوَى الخِطابِ إِنْ كانَ أَوْلى، ولَحْنُهُ إنْ كانَ مُساوِيًا، فالدَّلالَة مَفْهُومِيَّةٌ في الأصَحِّ. وإِنْ خَالَفَهُ فَمُخَالَفَةٌ.
.............................. .............................. .............................. ................
قد تقدّم أن المدلول من اللفظ نوعان: منطوق، ومفهوم، فالمنطوق هو: ما دلّ عليه اللفظ في محل النطقِ، فإذا قلتَ: جاءَ زيدٌ، فالمعنى الذي دلّ عليه اللفظ في مقام وحالة نطقك بهذه الجملة هو مجيء ذات مشخصة فيكون منطوقا، والمنطوق نوعان: صريح وهو ما دلّ عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن، وهو ثلاثة أقسام: نص كزيد في نحو: جاءَ زيدٌ، وظاهر كالأسد في نحو رأيتُ اليومَ أسدًا، ومجمل كجَوْن في نحو: ثوبُ زيدٍ جَوْنٌ، وغير صريح وهو ما دلّ عليه اللفظ بالالتزام، وهو ثلاثة أقسام: إقتضاء نحو: واسألْ القريةَ، أي أهلها لامتناع توجيه السؤال إلى البنايات، وإشارة نحو: أُحِلَّ لكمْ ليلةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ، على صحة صيام من أصبح مجنبًا، وتنبيه نحو: الزانيةُ والزاني فاجلِدُوا كلّ واحدٍ منهما مائةَ جلدةٍ، على أن الزنا علة الجلد، فاتضح أن دلالة الالتزام هي التي تنقسم إلى ثلاثة أقسام، ولذا قال: ( ثُمَّ هِيَ ) أي دلالة الالتزام ( إِنْ تَوَقَّفَ صِدْقُ المنْطُوقِ أَوْ صِحَّتُهُ على إِضمارٍ ) أي على تقدير، مثال ما توقف صدق الكلام على مضمر إنما الأعمال بالنيات، أي صحتها، ومثال ما توقف صحة الكلام على إضمار واسأل القرية، أي أهلها، والفرق بين الصدق والصحة هو أن الأول في حال الإخبار عن شيء، والثاني في حال الإنشاء والطلب ( وإِلا ) أي وإن لم يتوقف صدق المنطوق ولا الصحة له على إضمار ( فَإِنْ دَلَّ ) اللفظ ( على ما لمْ يُقْصَدْ ) باللفظ أي أن المعنى الإشاري لم يقصد باللفظ بيانه، بخلافه في الإضمار فهو مقصود لتوقف الصدق والصحة عليه ( فدَلالَةُ إِشارةٍ ) أي يسمى بذلك ( وإِلا ) أي وإن لم يكن من الأول والثاني بأن دل اللفظ على ما قصد بيانه به ولم يتوقف على إضمار ( فدَلالَةُ إيماءٍ ) وتنبيه أي يسمى بذلك ( والمفهومُ: ما ) أي معنى ( دلَّ عليهِ اللفْظُ لا في مَحَلِّ النُّطْقِ ) أي لم يدل عليه اللفظ في مقام إيراد اللفظ بل ينتزع انتزاعا من السكوت عن بيانه نحو: إن جاءَك زيدٌ فأكرمه، فالمنطوق وهو وجوب إكرام زيد عند مجيئه أخذ من الألفاظ مباشرة، أما المفهوم وهو لا تكرم زيدًا إن لم يجئك فلم يؤخذ من الألفاظ مباشرة ( فإنْ وافقَ ) المفهومُ ( المنطوقَ ) في الحكم ( فمُوافَقَةٌ ) أي يسمى بذلك ويسمى مفهوم موافقة أيضا ( ولو ) كان المفهوم ( مُساوِيًا ) للمنطوق، وذلك أن مفهوم الموافقة نوعان أولى ومساو، فالأولى كتحريم ضرب الوالدين فهو أولى من التأفيق الذي ورد به النص، والثاني كتحريم إحراق أموال اليتامى فهو مساو لأكل أموال اليتامى الذي ورد به النص ( في الأصحِّ ) وقيل إذا كان المفهوم مساويا للمنطوق فلا يسمى مفهوم موافقة بل يسمى مفهوم مساواة واتفقوا على الاحتجاج به فالخلاف في التسمية فقط ( ثمَّ ) المفهوم الموافق يسمى ( فَحْوَى الخِطابِ إِنْ كانَ أَوْلى ) بالحكم من المنطوق ( ولَحْنُهُ ) أي لحن الخطاب ( إنْ كانَ مُساوِيًا ) للمنطوق في الحكم ( فالدَّلالَة ) على الموافقة ( مَفْهُومِيَّةٌ ) أي بطريق الفهم من اللفظ لا في محل النطق من غير حاجة إلى قياس ( في الأصَحِّ ) وقيل بل دلالته قياسية تؤخذ من القياس الشرعي كما أخذت حرمة النبيذ قياسا على الخمر بأن نقول الأصل هو التأفيف وحكمه هو التحريم وعلته هو الإيذاء فننقل حكم الأصل للفرع الذي هو الضرب لاشتراكهما في العلة، هذا وقد قال الإمام الجويني في البرهان ج2 ص 22: اختلف أرباب الأصول في تسمية ذلك قياسا فقال قائلون: إنه ليس من أبواب القياس وهو متلقى من فحوى الخطاب، وقال آخرون: هو من القياس، وهذه مسألة لفظية ليس وراءها فائدة معنوية اهـ ( وإِنْ خَالَفَهُ ) أي خالف المفهومُ المنطوقَ ( فَمُخَالَفَةٌ ) أي يسمى بذلك ويسمى مفهوم مخالفة أيضا.

صفاء الدين العراقي
2016-11-20, 06:37 PM
الدرس الرابع عشر- مباحث الكتاب



مفهوم المخالفة


قد تقدم أن مفهوم المخالفة هو ما يؤخذ من تخلف قيد من قيود الحكم، نحو: إن جاءَ زيدٌ فأكرمْهُ، فمجيء زيد هو قيد في الحكم الذي هو الإكرام، فإن لم يجئ فلا يجب إكرامه، أي أن الإكرام يدور مع المجيء فإن ثبت ثبت وان انتفى انتفى.
ولمفهوم المخالفة شرط هو: ( أن لا يظهر لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي الحكم عن المسكوت ).
نحو: في الغنم السائمة زكاة، فالسائمة صفة وقيد للحكم وهو وجوب الزكاة؛ لأنّ السائمة لم تذكر إلا لنفي الحكم وهو وجوب الزكاة عن المعلوفة التي هي المسكوت عنه، فإن السائمة منطوق بها، والمعلوفة مسكوت عنها .
فإن ظهر أن للمذكور فائدة غير نفي الحكم فالمفهوم ملغى لا يعمل به، وذلك في مواضع هي:
1- أن يخرج اللفظ مخرج الغالب، بأن يكون ذكر القيد لا لأجل الاحتراز عن شيء ما بل لأن الغالب من أحواله هو ذلك مثل قوله تعالى: ( ولا تقتلوا أولادَكم خشيةَ إملاقٍ ) فالمشركون كانوا يقتلون أولادهم في الجاهلية خشية من الفقر هذا هو السبب في غالب حالات قتل الأولاد، فلم يذكر هذا لبيان أنه إذا كان قتل الأولاد ليس خشية الإملاق فهو غير محرم.
2- أن يكون ترك ذكر المسكوت لخوف تهمة، كقول قريب عهد بالإسلام لغلامه بحضور المسلمين: تصدّق بهذا على أقربائي المسلمين، أي وغير المسلمين ولكنه لم يذكر ذلك خوفا من اتهامه بالنفاق فحينئذ لا يكون ذكر المسلمين للاحتراز.
3- أن يكون المنطوق ذكر لموافقة الواقع، أي أنه ذكر لأجل أن الواقع هو ذلك لا للاحتراز كقولك لمن يؤذي جاره المسلم: لا تؤذي جارك المسلم، فلم ترد به الاحتراز وبيان جواز إيذاء الجار الكافر بل الكلام منصب على حالة محددة واقعية.
4- أن يكون المنطوق ذكر جوابا لسؤال، كما لو قيل: هل تجب الزكاة في الغنم السائمة ؟ فأجيب: في الغنم السائمة زكاة فهذا الوصف أعني السائمة لا مفهوم له حينئذ لكونه خرج جوابا لسؤال فلا يدل هذا على أن غير السائمة لا زكاة فيها.
5- أن يكون المنطوق ذكر بيانا لحكم حادثة معينة تتعلق به، كما لو قلتَ: لزيدٍ غنم سائمة، فقيل: في الغنم السائمة زكاة فهذا الوصف أعني السائمة لا مفهوم له حينئذ لكونه تعلّق بحادثة معينة، فلا يدل هذا على أن غير السائمة لا زكاة فيها.
6- أن يكون المنطوق قد ذكره المتكلم لجهل المخاطب بحاله دون حكم المسكوت، كما لو قيل لمن يعرف أن صلاة النافلة تشرع قائما ولكن لا يعرف أنها تشرع جالسا فبين له الحكم فقيل: تشرع صلاة النافلة جالسا، فوصف الجلوس ليس للاحتراز بل لكونه يعلم أن المخاطب لا يجهل حكم صلاة النافلة قائما.
7- أن يكون المسكوت عنه قد تركه المتكلم لجهله بحاله دون حكم المنطوق، كما لو جهل شخص حكم صلاة النافلة جالسا فقال: تشرع صلاة النافلة قائما، فلا يدل على عدم مشروعية الجلوس لأنه تكلم على حالة يعلمها وترك ما لا يعلمه.
والجامع لهذه الشروط ونحوها هو: أن لا يظهر للقيد فائدة سوى نفي الحكم، فإن ظهر له فائدة أخرى ألغي المفهوم.
مسألة: تلك الشروط وإن ألغت اعتبار مفهوم المخالفة إلا أنها لا تمنع إلحاق المسكوت بالمنطوق بواسطة القياس الأصولي.
فمثلا خروج اللفظ مخرج الغالب يلغي مفهوم المخالفة نحو ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، فلا يدل على جواز قتلهم إذا كان لغير خشية إملاق فالمفهوم ملغى، ولكن لنا أن نقيس المسكوت عنه وهو ما كان لسبب آخر ككراهية الولد من تلك الأم على المنطوق وهو خشية الفقر ما دام أنه توجد علة القياس فإن العلة هنا هو تحريم إزهاق النفس بالباطل وهو متحقق في المنطوق والمسكوت بلا فرق.


( شرح النص )


وَشَرْطُهُ أَلَّا يَظْهَرَ لتخصيصِ المنطوقِ بالذكرِ فائدةٌ غيرُ نفيِ حُكْمِ غيرِهِ، كَأَنْ خرجَ للغالِبِ في الأصحِّ، أَو لخوفِ تُهْمَةٍ، أَوْ لِمُوافَقَةِ الواقِعِ، أَوْ سُؤَالٍ، أَوْ لِحادِثَةٍ، أَو لجهلٍ بِحكمِهِ، أَوْ عَكْسِهِ، ولا يمنعُ قياسَ المسكوتِ بالمنطوقِ فلا يَعُمُّهُ المعروضُ، وقيلَ يَعُمُّهُ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
قد تقدّم أن مفهوم المخالفة طريق للعلم بالحكم الشرعي ولكن ليس في كل مورد بل له شرطه بيّنه بقوله: ( وَشَرْطُهُ ) أي شرط مفهوم المخالفة ليكون معتبرا ( أَلَّا يَظْهَرَ لتخصيصِ المنطوقِ ) الذي هو القيد ( بالذكرِ فائدةٌ غيرُ نفيِ حُكْمِ غيرِهِ ) أي غير المنطوق وهو المسكوت، فإذا قيل: في الغنمِ السائمةِ زكاةٌ، يقال: الغنم منها المعلوفة ومنها السائمة فلأي غرض خصّ السائمة بالذكر ؟ الجواب: لنفي الزكاة عن المعلوفة فلم يظهر لذكر القيد هنا فائدة سوى نفي الحكم، فإن ظهرت فائدة غير ذلك ألغي المفهوم ولذا قال: ( كَأَنْ خرجَ ) القيد المذكور ( للغالِبِ ) بأن صرّح به المتكلم لأن الكثير الغالب من صوره مقيد بذلك القيد لا لأجل الاحتراز كما في قوله تعالى: وربائبكم اللآتي في حجوركم، والربائب جمع ربيبة وهي بنت الزوجة من غير زوجها الحالي، وقد وصفن بكونهن في حجور أي بيوت أزواج الأمهات لأجل أن الغالب في الربيبة أن تكون في حجر زوج أمها، فلا يدل هذا على مخالفة حكم من لم يكن في حجر الازواج لمن كنّ فيها ( في الأصحِّ ) وقيل إن هذا ليس بشرط ( أَو لخوفِ تُهْمَةٍ ) من ذكر المسكوت، كأن يقول حديث عهد بإسلام لغلامه بحضرة المسلمين: تصدق بهذا المال على المسلمين، فلا يعتبر مفهوم المسلمين ويمنع التصدق على الكفار؛ لأنه ترك ذكر غير المسلمين خوفا من أن يتهم بالنفاق ( أَوْ لِمُوافَقَةِ الواقِعِ ) كقوله تعالى: لا يتخذ المؤمنونَ الكافرينَ أولياءَ مِنْ دونِ المؤمنينَ، فإنها نزلت في قوم والوا اليهود دون المؤمنين، فجاءت الآية ناهية عن هذه الحالة الواقعة من غير قصد التخصيص بها، فلا يقال يجوز موالاة الكفار مع المسلمين ( أَوْ ) لجواب ( سُؤَالٍ ) عن المذكور، كما لو فرض أن سائلا سأله صلى الله عليه وسلم: هل في الغنم السائمة زكاة ؟ فأجاب: في الغنم السائمة زكاة، فلا يكون لذكر السائمة مفهوم، لأن ذكرها في الجواب لمطابقة السؤال ( أَوْلـِ ) بيان حكم ( حادِثَةٍ ) تتعلق بالمذكور كما لو فرض أنه قيل بحضرته صلى الله عليه وسلم لفلان غنم سائمة، فقال: في الغنم السائمة زكاة، فلا يكون لذكر السائمة مفهوم، لأن ذكرها كان متعلقا بقضية معينة فلا يعم غيرها ( أَو لجهلٍ ) من المخاطب ( بِحكمِهِ ) أي حكم المنطوق دون المسكوت عنه، كما لو فرض أنه صلى الله عليه وسلم خاطب من يعلم حكم المعلوفة ويجهل حكم السائمة فقال: في الغنم السائمة زكاة، فلا يكون لذكر السائمة مفهوم، لأن تخصيصها بالذكر لكون المخاطب لا يجهل إلا إياها ( أَوْ عَكْسِهِ ) أي أو لجهل المتكلم بحكم المسكوت دون حكم المنطوق كقولك: في الغنم السائمة زكاة، وأنت تجهل حكم المعلوفة، فلا يكون لذكر السائمة مفهوم، لأن اقتصارك عليها لكونها هي المعلومة عندك، تنبيه: ظهر من قول المصنف: كَأَنْ خرجَ .. أن الكلام خرج مخرج التمثيل لا الحصر، فيشمل غيرها كما لو كان القيد للامتنان به أي ذكرَه لأنه هو محل الامتنان واظهار النعمة لا لأجل الاحتراز كقوله تعالى: لتأكلوا منه لحمًا طَرِيًّا، فلم يرد سبحانه بذكر وصف الطري الاحتراز عن اللحم غير الطري بل إظهار زيادة الامتنان به فإن اللحم الطري أحب للنفوس من القديد وهو اللحم الذي قطع وملح وعرض على الشمس والهواء فجف ويبس وكانوا يفعلون ذلك لغرض حفظه من التلف فلم يكن لهم ما أنعم الله به علينا من الثلاجات، والقاعدة هي أن لا يظهر للقيد فائدة سوى نفي الحكم، فإن ظهر له فائدة أخرى ألغي المفهوم ( ولا يمنعُ ) ما يقتضي تخصيص المذكور بالذكر مما تقدم ( قياسَ المسكوتِ بالمنطوقِ ) إذا كان بينهما علة جامعة، مثاله: لو قيل: هل في الغنم السائمة زكاة ؟ فأجيب: في الغنم السائمة زكاة، فهنا مفهوم السائمة ملغى، ولكن هل يجوز لنا أن نقيس المسكوت على المنطوق أعني المعلوفة على السائمة ؟ الجواب نعم لا مانع من ذلك، وهذا مبني على مسألة وهي: إذا ألغي مفهوم المخالفة هل يصير القيد لاغيا كأنه غير موجود أو لا يصير لاغيا بل يعتبر وجوده ولكن لا يؤخذ منه مفهوم ؟ فإذا أجيب: في الغنم السائمة زكاة، فهل نقول ألغي وصف السائمة فكأنه قال: في الغنم زكاة، واسم الغنم يعم السائمة والمعلوفة كما هو معلوم فيكون قد بين المتكلم حكم المعلوفة أيضا وأن فيها الزكاة، أو نقول لا نلغيه ويكون المتكلم قد بين أن في الغنم السائمة زكاة ولكنه لم يبين حكم المعلوفة فقد يكون فيها زكاة وقد لا يكون فنحتاج لدليل، فإذا قلنا بالأول وهو أن الاسم أي الغنم يعمه فأي حاجة لقياس المعلوفة على السائمة وهما مندرجان تحت لفظ واحد يعمهما، وإذا قلنا بالثاني وهو أن القيد غير ملغى وبالتالي لم يبين حكم المعلوفة بل هو مسكوت عنه فلنا إذا توفرت العلة الجامعة أن نقيس المسكوت على المنطوق وهذا هو الأصح ولذا قال: ( فلا يَعُمُّهُ ) أي المسكوتَ ( المعروضُ ) وهو اللفظ المقيد، فإذا قيل الغنم السائمة، فالغنم معروض أي موصوف والسائمة عارض أي وصف، والمعنى أن لفظ المعروض لا يتناول المسكوتَ، فنحتاج للقياس، وهذا هو الأصوب ( وقيلَ يَعُمُّهُ ) أي يعمُّ المسكوتَ المعروضُ؛ لأن قيد السائمة مثلا لما ألغي مفهومه اعتبر كأنه غير موجود فكأن المتكلم لم يذكره بل قال: في الغنم زكاة، فحينئذ لا نحتاج للقياس لاندراج المعلوفة تحت اسم الغنم.

صفاء الدين العراقي
2016-11-20, 06:38 PM
الدرس الخامس عشر- مباحث الكتاب

أنواع مفهوم المخالفة


1- الصفة وهي: كل لفظ مقيد لآخر، مما هو في المعنى وصف فيشمل: ( النعت النحوي- الإضافة- العلة- الظرف الزماني- الظرف المكاني-الحال- العدد ).
مثال النعت النحوي: في الغنمِ السائمةِ زكاةٌ.
ومثال الإضافة: في سائمةِ الغنمِ زكاةٌ.
ومثال العلة: أعطِ السائلَ لحاجتِهِ أي المحتاج.
ومثال الظرف الزماني: سافرْ يومَ الجمعةِ أي لا غيره من الأيام.
ومثال الظرف المكاني: اجلسْ أمامَ فلانٍ أي لا في غيره من بقية الجهات.
ومثال الحال: أحسنْ إلى العبدِ مطيعًا أي لا عاصيًا.
ومثال العدد: امش ثلاثين خطوة أي لا أقل ولا أكثر.
ثم الصفة قد تكون مناسبة للحكم، وقد تكون غير مناسبة للحكم، مثال الأولى: في الغنم السائمة زكاة، فإن السوم صفة مناسبة للحكم بوجوب الزكاة، لأن السوم يدل على خفة المؤنة والتكاليف على صاحب الغنم فناسب فرض الزكاة عليه، ومثال الثانية: كما لو قيل: في الغنمِ العُفْرِ زكاة، والعفر هي التي يعلو بياضها حمرة، فصار لونها كلون العَفَر من التراب، وهو معنى غير مناسب لوجوب الزكاة.
2- الشرط نحو أكرمْ زيدًا إن جاءَك أي لا إن لم يجئك.
3- الغاية نحو كل حتى يطلع الفجر أي لا بعده.
4- تقديم المعمول نحو إياك نعبد وإياك نستعين أي دون غيرك.
5- إنما نحو إنما العلم بالتعلم أي لا بغيره.
6- النفي والاستثناء نحو لا غالب إلا الله.
7- ضمير الفصل- وهو ما يفصل بين المبتدأ والخبر- نحو زيدٌ هوَ الرابحُ أي لا غيره.


ترتيب أنواع مفهوم المخالفة

بعض المفاهيم أعلى من بعض وأقوى دلالة فأعلاها:
1- ما كان بالنفي والاستثناء مثل لا عالمَ إلا زيدٌ لسرعة تبادر المفهوم المخالف إلى الذهن حتى قال بعض العلماء إنه منطوق صراحة وليس من المفهوم.
2- الغاية، وإنما.
3- الشرط، وضمير الفصل.
4- الصفة المناسبة.
5- مطلق الصفة غير العدد.
6- العدد.
7- تقديم المعمول.
وفائدة هذا الترتيب تظهر عند التعارض، فإذا تعارض مفهوم الغاية والشرط مثلا قدم الغاية، وكذا إن تعارض مفهوم الشرط والصفة قدم الشرط، وقس عليه الباقي.


مفهوم اللقب

المراد من اللقب هو: الاسم المعبِّر عن ذات، فيشمل: العلم واسم الجنس.
فالعلم هو: اسم دل على معين، كزيد، فإذا قلنا جاءَ زيدٌ، فهل له مفهوم مخالف وهو أنه لم يجئ غيره؟ الجواب: لا.
واسم الجنس هو: اسم دل على شائع في جنسه، كرجل وتراب وماء وشجرة ونحوها من النكرات، فإذا قلنا: في الغنمِ زكاة، فالغنم لقب فلا يدل على عدم وجوب الزكاة في غيرها من بقر وإبل.


حجية مفهوم المخالفة

مفهوم المخالفة حجة عند جمهور العلماء، وحجيته ثابتة بدلالة اللغة فإن المألوف في أساليب اللغة أن تقييد الحكم بقيد يدل على انتفاء الحكم عند انتفاء ذلك القيد، ولذا فهم كثير من أئمة اللغة كأبي عبيدة من قوله صلى الله عليه وسلم: مَطَلُ الغنيِّ ظلمٌ. رواه البخاري ومسلم، أن مطل غير الغني ليس بظلم، والمطل هو المماطلة وعدم تسديد الدين، وهم إنما يقولون في مثل ذلك ما يعرفونه من لسان العرب، فظهر أن حجية مفهوم المخالفة ثابتة بلغة العرب وأن العرب من قديم كانوا يفهمونها ويحتجون بها من غير توقف على شرع أو على استدلال عقلي.


( شرح النص )

وهوَ صِفَةٌ كالغنمِ السائِمَةِ، وسائِمَةِ الغنمِ، وكالسائِمَةِ في الأصحِّ، والمنفيُّ في الأوَّلَينِ معلوفةُ الغنمِ على المختارِ، وفي الثالثِ معلوفةُ النَّعَمِ، ومنهَا العِلَّةُ، والظرفُ، والحالُ، والشرطُ، وكذا الغايةُ، وتقديمُ المعمولِ غالبًا، والعددُ.
ويفيدُ الحصرَ إنَّما بالكسرِ في الأصحِّ، وضميرُ الفصلِ، ولا وإلَّا الاستثنائيَّةُ، وهوَ أعلاها، فما قيلَ منطوقٌ كالغايةِ وإِنَّما، فالشَّرْطُ، فصِفَةٌ أُخرى مناسِبَةٌ، فغيرُ مناسبةٍ، فالعددُ، فتقديمُ المعمولِ.
والمفاهيمُ حُجَّةٌ لغةً في الأصحِّ، وليسَ منها اللقَبُ في الأصحِّ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
شرع في بيان أنواع مفهوم المخالفة فقال: ( وهوَ ) أي مفهوم المخالفة ( صِفَةٌ ) والمراد بها لفظ مقيد لآخر، فيشمل النعت النحوي وغيره كالحال والظرف ( كالغنمِ السائِمَةِ ) وهي نعت للغنم ( وسائِمَة الغنمِ ) وهي مضافة للغنم ( وكالسائِمَةِ في الأصحِّ ) أي يدخل في الصفة ما لو ذكر الصفة وحذف الموصوف فقال: في السائمة زكاة، وقيل لا يدخل فلا مفهوم له ( والمنفيُّ في ) المثالين ( الأوَّلَينِ ) وهما: الغنم السائمة، وسائمة الغنم ( معلوفةُ الغنمِ ) أي احترزنا بالغنم السائمة عن الغنم المعلوفة، وكذا احترزنا بسائمة الغنم عن معلوفة الغنم، فالمعنى فيهما واحد فمفهومهما أن لا زكاة في الغنم المعلوفة ( على المختارِ ) من أقوال العلماء، وقيل المنفي فيهما هو معلوفة النعم من بقر وإبل وغنم، فإذا قيل: في الغنمِ السائمة زكاة، دلّ على هذا القول أنه لا زكاة في البقر والإبل والغنم المعلوفة، وفيه بعد كما لا يخفى ( و ) المنفيّ ( في ) المثال ( الثالثِ ) وهو السائمة ( معلوفةُ النَّعَمِ ) فإذا قيل: في السائمةِ زكاة، كان المعنى أن في النعم السائمة زكاة، فدل بمفهومه على أنه لا زكاة في النعم المعلوفة ( ومنهَا ) أي ومن الصفة، اعلم أن بعضهم فسر الصفة بكل لفظ مقيد لآخر مما ليس بشرط ولا استثناء ولا غاية، وبعضهم فسر الصفة بكل لفظ مقيد لآخر ولم يستثن فيشمل الشرط والاستثناء والغاية فكلها مندرجة في الصفة، وعليه جرى المصنف في المتن ( العِلَّةُ ) نحو: عاقبْ الرجلَ لإسائَتِهِ أي المسيء ( والظرفُ ) زمانا أو مكانا نحو: سافرْ غدًا أي لا في غيره من الأيام، واجلسْ أمامَ فلانٍ، أي لا في غيره من بقية جهاته ( والحالُ ) نحو أحسنْ إلى العبدِ مطيعًا أي لا عاصيًا ( والشرطُ ) نحو قوله تعالى: وإنْ كُنَّ أولاتِ حملٍ فأنفقوا عليهنّ، أي فغيرهن ممن لسن أولات حملٍ لا يجب الإنفاقُ عليهنّ ( وكذا الغايةُ ) في الأصح نحو قوله تعالى: فإنْ طلقَها فلا تحِلُّ له حتى تنكِحَ زوجًا غيرَهُ، أي فإنْ نكحت زوجًا غيره حلت له، وقيل ما يفهم من الغاية ليس من مفهوم المخالفة بل هو من دلالة الإشارة فيكون منطوقا غير صريح وذلك لتبادره إلى الأذهان ( وتقديمُ المعمولِ ) على العامل في الأصح نحو قوله تعالى: إياكَ نعبدُ أي لا غيرك، وقيل لا يفيد الحصر وإنما أفاده في نحو إياك نعبد للقرينة وهي العلم بأن قائليه أي المؤمنين لا يعبدون غير الله ( غالبًا ) أي في غالب أحوال تقديم المعمول على العامل، وقد لا يفيد الحصر في بعض الصور نحو: القائدَ قتلتُ، مع أنك قد تكون قد قتلت غيره في المعركة ويكون الغرض من التقديم إفادة الاهتمام به لأن له شأنا خاصا استدعى تقديمه ( والعددُ ) في الأصح نحو قوله تعالى: فاجلدوهم ثمانينَ جلدةً أي لا أكثر ولا أقل، وقيل ليس العدد من مفاهيم المخالفة المعتبرة، ثم مما له مفهوم مخالف ما يفيد الحصر ولذا ذكره بقوله: ( ويفيدُ الحصرَ إنَّما ) لاشتمالها على نفي واستثناء تقديرًا نحو إنما إلهكم الله أي لا غيره، والإله هو المعبود بحق ( بالكسرِ ) لا بالفتح نحو قوله تعالى: اعلموا أَنما الحيوة الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ.. الآية، فليس القصد فيها إفادة حصر الدنيا بهذه الأشياء ( في الأصحِّ ) وقيل إن إنما بالكسر لا تفيد الحصر، وقوله في الأصحّ راجع إلى المسائل الأربع التي هي: الغاية، وتقديم المعمول، والعدد، وإنما ( وضميرُ الفصلِ ) نحو قوله تعالى: فاللهُ هوَ الوليُّ أي فغيره ليس بوليّ أي ناصر ( ولا وإلَّا الاستثنائيَّةُ ) نحو لا عالمَ إلا زيدٌ، وما قامَ إلا زيدٌ، منطوقهما نفي العلم والقيام عن غير زيد، ومفهومهما إثبات العلم والقيام لزيد، ومما يفيد الحصر نحو: العالمُ زيدٌ، وصديقي زيدٌ، مما عرّف فيه المسند والمسند إليه ( وهوَ ) أي الأخير وهو لا وإلا الاستثنائية ( أعلاها ) أي أعلى أنواع مفهوم المخالفة قوة حتى قيل إنه منطوق صراحة لسرعة تبادر فهمه إلى الأذهان، وأقول لعل القول بأنه منطوق صراحة هو الأصح إذْ يبعد أن تكون كلمة التوحيد لا إله إلا الله تدل على إثبات الإلوهية لله من طريق مفهوم المخالفة الذي هو أضعفها دلالة وخالف بعض العلماء في حجيته ( فما قيلَ ) فيه إنه ( منطوقٌ كالغايةِ وإِنَّما ) فقد قيل إن دلالتهما على المفهوم من المنطوق غير الصريح بدلالة الإشارة ( فالشَّرْطُ ) إذ لم يقل أحد إنه منطوق ( فصِفَةٌ أُخرى مناسِبَةٌ ) للحكم لأن بعض العلماء احتجوا بدلالة الشرط وخالفوا في اعتبار الصفة فما حصل فيه الخلاف يتأخر رتبته، وقيّد الصفة بأخرى للإشارة إلى أن لا و إلا الاستثنائية والغاية وإنما والشرط هي من الصفات في اصطلاح المصنف الذي تبع به الإمام الجويني رحمه الله، وقيّد بالمناسبة لحصول الخلاف في حجية غير المناسبة، مثال المناسبة في الغنم السائمة زكاة ( فـ ) صفة ( غيرُ مناسبةٍ ) نحو في الغنم السود زكاةٌ ( فالعددُ ) لإنكار كثير من العلماء لحجيته دون ما قبله ( فتقديمُ المعمولِ ) آخر المفاهيم لأنه لا يفيد الحصر في كل صورة كما مر، وفائدة هذا الترتيب تظهر عند التعارض، فإذا تعارض مفهوم الغاية والشرط مثلا قدم الغاية، وكذا إن تعارض مفهوم الشرط والصفة قدم الشرط، وقس عليه الباقي ( والمفاهيمُ ) المخالفة ( حُجَّةٌ لغةً ) أي من حيث دلالة اللفظ عليه، والمراد أنه حجة شرعا بدليل اللغة ( في الأصحِّ ) وقيل إنه حجة بدليل الشرع لا اللغة لمعرفة ذلك من تتبع موارد كلام الشارع، وقيل إنه حجة بدليل العقل وهو أنه لو لم ينف المذكور الحكم عن المسكوت لم يكن لذكره فائدة، وأنكر قوم كالإمام أبي حنيفة رحمه الله حجية مفهوم المخالفة كلها ( وليسَ منها ) أي من المفاهيم المخالفة ( اللقَبُ ) وهو ما عبر به عن الذات كالعلم كقوله تعالى محمد رسول الله فلا يدل على نفي الرسالة عن غيره ( في الأصحِّ ) كما قال به جماهير الأصوليين وقيل هو منها نحو: على زيدٍ حجٌّ أي لا على غيره، وأجيب أن دلالته على المفهوم في خصوص هذا المثال للقرينة.

صفاء الدين العراقي
2016-11-23, 01:07 AM
الدرس السادس عشر- مباحث الكتاب

الموضوعات اللغوية


أولا: الموضوعات اللغوية هي: الألفاظ الدالة على المعاني التي وضعت لها، كماء وشمس وأرض ونخلة وقرء ونحو ذلك.
ومن لطف الله سبحانه بعباده حدوث هذه الموضوعات اللغوية ليعبر بها الإنسان عما في نفسه، وهي أكثر فائدة من الإشارة التي يشير بها الإنسان بيده أو رأسه ليشرح بها ما في نفسه، ومن المثال أي الشكل المصنوع من طين ونحوه على هيئة شيء ما ليدل عليه، ومن الرسم كرسم صورة فرس على جدار لتدل عليه؛ لأن هذه الأشياء تخص الموجودات الحسية، والألفاظ يعبر بها عن المحسوس والمعقول والموجود والمعدوم، وهي كذلك أيسر وأقل مؤنة لأنها تخرج مع النَّفَس الضروري للحياة.
ثانيا: طريق معرفة اللغة إما النقل تواترا كالسماء والأرض والفرس لمعانيها المعروفة أو آحادا كمعرفة أن معنى الضرغام هو الأسد والقرء هو الحيض والطهر، وإما باستنباط العقل من النقلكاستنباط أن الجمع المعرف بأل دال على العموم، فقد عرف بالنقل جواز الاستثناء من الجمع المعرف بأل، فدل ذلك عقلا على لزوم تناوله للمستثنى منه حتى صحّ الاستثناء منه، ولا يعرف ذلك بمجرد العقل بل لا بد من النقل.
ثالثا: اللفظ له معنى وللمعنى مصداق، كالإنسان فمعناه ومفهومه حيوان ناطق، ومصداقه – أي ما يصدق عليه في الخارج من الأفراد- زيد وعمرو وهند.
والمصداق قد يكون لفظا كالكلمة فإن معناها قول مفرد ومصداقها زيد وقام وفي ونحو ذلك، فنحن هنا لا نقصد أن مصداق الكلمة هو ذات زيدٌ التي تقوم وتقعد وإنما نقصد مصداقها هو لفظ زيد المشتمل على الزاي والياء والدال.
وقد يكون المصداق غير لفظ كإنسان فإن مصداقه ذوات نحو زيد وعمرو وهند، وهذا المصداق غير اللفظي تارة لا يمتنع مفهومه من الانطباق على أكثر من واحد كالإنسان، ويسمى كلياوتارة يمتنع مفهومه من الانطباق على أكثر من واحد كزيد، ويسمى جزئيا.
والمصداق الذي هو لفظ تارة يكون مفردا سواء أكان مستعملا مثل الكلمة تصدق على ألفاظ مفردة دالة على معنى مثل زيد وجاء وهل، أم مهملا كأسماء حروف الهجاء مثل الباء فهو اسم لـ بَهْ، وكالتاء اسم لـ تَهْ فمصاديقها ألفاظ لكنها غير دالة على معنى.
وتارة يكون مركبا سواء أكان مستعملا مثل الكلام فمصداقه زيدٌ قائمٌ، وقامَ زيدٌ، أم مهملا كالهذيان فإن معناه ألفاظ مركبة لا تدل على معنى كألفاظ السكران التي لا يعقل معناها.
رابعا: الوضع: جعل اللفظ دليلًا على المعنى، كجعل لفظ الماء دليلا على السائل المعروف.
ولا يشترط في الوضع وجود المناسبة بين اللفظ والمعنى عند وضعه له، بل الأمر موكول إلى اختيار الواضع، وقال عباد بن سليمان الصَّيْمَرِي من المعتزلة يشترط وجود مناسبة وإلا لما خص هذا اللفظ دون غيره بهذا المعنى، فعلى كلامه لا بد من وجود مناسبة خاصة بين لفظ نار ومعناه ولفظ ماء ومعناه وهكذا، فهم يرون أن في الحروف صفات معينة من قوة وضعف ورخاوة ويبوسة ونحو ذلك تقتضي أن الواضع حينما يركب الحروف ويجمع بينها لا يفعل هذا إلا لمناسبة فلا يصح أن يرفع حرفا ويضع مكانه آخر، وردّ بأنه قد يوضع اللفظ للشيء وضده كالقرء للحيض والطهر فكيف ناسب لفظ القرء ذلك.
خامسا: للمعاني وجود في الذهن ووجود في الخارج، كالأسد فإن معناه الحيوان المفترس المعروف، وله أفراد في الخارج فهل اللفظ موضوع للمعنى الحاصل للشيء في أذهاننا أو للمصاديق الخارجية؟
المختار أنه موضوع للمعنى الذهني، وقيل إنه موضوع للمعنى الخارجي.
ولم يوضع لكل المعاني ألفاظ فمثلا الروائح كثيرة جدا يميزها الأنف ولم يوضع لكل رائحة اسم خاص بها بل يقال رائحة كذا كرائحة الورد والياسمين ورائحة المسك ونحو ذلك وهذا يكفي في التمييز بينها ولا نحتاج ألفاظا مستقلة.
سادسا: المحكم هو: اللفظ المتضح معناه، سواء أكان نصا كزيد في جاءَ زيدٌ أم ظاهرًا كالأسد في رأيت اليوم أسدًا.
والمتشابه: ما لم يتضح معناه، واختلفوا فيه فقال بعضهم: هو ما استأثر الله بعلمه ولا يعلمه أحد ولو كان من الراسخين في العلم، وقال بعضهم بل هو مما لم يستأثر الله بعلمه كالألفاظ المجملة والمحتملة لأكثر من معنى تخفى على بعض الناس ويعرفها غيرهم.
سابعا: اللفظ الشائع بين عوام الناس وخواصهم لا يجوز أن يكون موضوعا في اللغة لمعنى خفي لا يدركه إلا الخواص من الناس، بل يجب أن يكون معلوما عند الجميع كالقيام والقعود والحركة.


( شرح النص )

مسأَلَةٌ: مِن الألطافِ حُدُوثُ الموْضُوعاتِ اللغويةِ، وهيَ أفيدُ من الإشارةِ والمثالِ وأيسَرُ، وهيَ: ألفاظٌ دالّةٌ على معانٍ، وتُعْرَفُ بالنَّقْلِ، وباستنباطِ العقلِ منهُ، ومدلولُ اللفظِ معنىً جُزئيٌّ أو كليٌّ، أَو لفظٌ مفردٌ أو مركّبٌ، والوضعُ: جعلُ اللفظِ دليلَ المعنى، وإن لمْ يناسبْه في الأصحّ، واللفظُ موضوعٌ للمعنى الذهني على المختارِ، ولا يجبُ لكلِّ معنىً لفظٌ، بل لمعنىً محتاجٍ لِلَفْظٍ، والمحكَمُ: المتَّضِحُ المعنى، والمتَشَابِهُ غيرُهُ في الأَصَحِّ، وقَدْ يُوضِحُهُ اللهُ لبعضِ أَصفيائِهِ، واللفظُ الشائِعُ لا يجوزُ وضْعُهُ لمعنىً خَفِيٍّ على العَوَامِّ كقولِ مثبتي الحالِ: الحركةُ معنىً يوجِبُ تحرُّكَ الذاتِ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
شرع في المقدمات اللغوية التي اعتاد الأصوليون ذكرها في علم الأصول فقال: ( مسأَلَةٌ مِن الألطافِ ) أي من الأمور التي لطف الله بها الناس وأحسن بها إليهم ( حُدُوثُ ) أي وجود ( الموْضُوعاتِ اللغويةِ ) ليتمكنوا بها من التعبير عما في أنفسهم ( وهيَ ) أي الموضوعات اللغوية ( أفيدُ ) في الدلالة على ما في النفس ( من الإشارةِ ) باليد أو الحاجب مثلا ( والمثالِ ) أي الشكل الذي يصنع من الطين ونحوه على صورة شيء ما؛ لأن الألفاظ تعم الموجود والمعدوم وهما يخصان الموجود المحسوس ( وأيسَرُ ) لأن الألفاظ تخرج مع النفَس الضروري للحياة بخلافهما فإنهما يحتاجان إلى كلفة ( وهيَ ) أي الموضوعات اللغوية ( ألفاظٌ دالّةٌ على معانٍ ) سواء المفرد كزيد والمركب كقام زيد ( وتُعْرَفُ ) أي الألفاظ الدالة على المعاني ( بالنَّقْلِ ) عن أهل اللغة تواترًا نحو السماء والأرض والحر والبرد لمعانيها المعروفة، أو آحادًا كالقرء للحيض والطهر ( وباستنباطِ العقلِ منهُ ) أي من النقل كاستنباط العقل أن الجمع المعرف باللام يدل على العموم لصحة الاستثناء منه ( ومدلولُ اللفظِ ) أي مصداقه، وإطلاق المدلول على المصداق شائع، والأصل إطلاقه على المفهوم الذي وضع له اللفظ ( معنىً جُزئيٌّ أو كليٌّ ) لأنه إن لم يمتنع أن يكون له أكثر من مصداق في الخارج فهو الكلي كجبل وإلا فجزئي كهذا الجبل ( أَو لفظٌ مفردٌ ) إما مستعمل كمصداق الكلمة كلفظ زيد وقام وفي، أو مهمل كمصداق أسماء حروف الهجاء كحروف جلس أي جه له سه ( أو ) لفظ ( مركّبٌ ) إما مستعمل كمصداق لفظ الخبر كقامَ زيدٌ أو مهمل كمصداق لفظ الهذيان ( والوضعُ: جعلُ اللفظِ دليلَ المعنى ) بحيث متى أطلق اللفظ فهم منه المعنى ( وإن لمْ يناسبْه ) أي لم يناسب اللفظ المعنى؛ فإن الموضوع للضدين كالجون للأسود والأبيض لا يناسبهما لفظ واحد ( في الأصحّ ) خلافا لعباد الصيمري القائل باشتراط المناسبة ( واللفظُ موضوعٌ للمعنى الذهني على المختارِ ) وقيل للخارجي ( ولا يجبُ ) أن يكون ( لكلِّ معنىً لفظٌ بلْ ) إنما يجب ( لمعنىً محتاجٍ لِلَفْظٍ ) إذْ أنواع الروائح مع كثرتها ليس لها ألفاظ لعدم انضباطها، ويُدل عليها بالتقييد كرائحة كذا، فليست محتاجة للألفاظ، بخلاف أسماء الأشياء مثلا ( والمحكَمُ ) من اللفظ ( المتَّضِحُ المعنى ) من نص أو ظاهر ( والمتَشَابِهُ غيرُهُ ) أي غير المتضح المعنى ولو للراسخ في العلم ( في الأَصَحِّ ) وقيل يعلمه الراسخون في العلم، والأصل في المسألة قوله تعالى: هوَ الذي أَنزلَ عليكَ الكتابَ منهُ آياتٌ محكماتٌ هنّ أمُّ الكتابِ وأُخَرُ متشابِهاتٌ فأمّا الذينَ في قلوبِهم زيغٌ فيتّبعونَ ما تشابَهَ منهُ ابتِغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلِهِ وما يعلمُ تأَويلَهُ إلا اللهُ والراسِخونَ في العلمِ يقولونَ آمنا بهِ كلٌّ منْ عندِ ربِّنا، فقد اختلف في الوقف على قوله سبحانه إلا الله فقيل هو تام، والراسخون استئناف لجملة جديدة وبالتالي الراسخون لا يعلمون تأويل المتشابه، وقيل، الراسخون معطوف على الله فهم يعلمون تأويله ( وقَدْ يُوضِحُهُ اللهُ ) أي المتشابه ( لبعضِ أَصفيائِهِ ) معجزة لنبي أو كرامة لولي، هذا وقد قالَ كثير من الأشعرية: إن المتشابه هو بعض آيات الصفات كقوله تعالى يد الله فوق أيديهم، فلا ندري ما يد الله، ولا يعلم تأويله إلا الله، بناء منهم على مذهبهم في التفويض، واختارَ الإمام ابن تيمية تبعا لغيره من السلف أن الوقف وإن كان تاما على لفظ الجلالة في قوله تعالى إلا الله إلا أن ذلك لا يعني أن الراسخين في العلم ليس عندهم تفسير معناه، وجعل من مصاديق المتشابه هو اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى في الآية فيتعلق به من في قلبه مرض ليفسره على غير مراد الله سبحانه كنحن وإنا في قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر، فتارة يراد بهما الجمع وتارة يراد بهما التعظيم، فيتعلق النصراني بمعنى الجمع ليقول إن الله ثلاثة -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا- ويترك صريح النصوص كقوله تعالى: وإلهكم إله واحد، وأما الراسخون في العلم فيعرفون مراد الله منه، وضمير الهاء في قوله تعالى: وما يعلمُ تأويلهُ، إما أن يكون راجعا إلى الكتاب أي ما يعلم تأويل الكتاب إلا الله، ويكون المراد بالتأويل حقيقة الشيء لا مجرد معناه وذلك كالغيب الذي أمرنا الله بالإيمان به كموعد يوم القيامة فهذا مما لا يعلمه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل واستأثر الله بعلمه، وإن كان الضمير راجعا إلى المتشابه أي ما يعلم المتشابه من الكتاب إلا الله كان ذلك كنصوص الوعد والوعيد ففيها أمور لا يعلم حقيقتها إلا الله فمثلا ما في النصوص من طعام الجنة والأنهار ونحو ذلك لسنا نعرف إلا الأسماء أما حقائق تلك الأشياء فلا يعلمها إلا الله كما قال تعالى: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، فلا يعلمها لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فالتأويل في الآية لا يقصد به تفسير المعنى بل كنه الشيء وحقيقته وقدره ووقته ( واللفظُ الشائِعُ ) بين الخواص والعوام من الناس ( لا يجوزُ وضْعُهُ لمعنىً خَفِيٍّ على العَوَامِّ ) لامتناع تخاطبهم بما هو خفي عليهم لا يدركونه وإن أدركه الخواص، وذلك كالحركة فمعناها هو المعنى الظاهر وهو تحرك الذات وانتقالها لا ( كقولِ ) بعض المتكلمين ( مثبتي الحالِ ) وهو الواسطة بين الموجود والمعدوم ( الحركةُ معنىً يوجِبُ تحرُّكَ الذاتِ ) أي الجسم، توضيحه: إن الشيء إما أن يكون موجودا وإما أن يكون معدوما فلا وجود لواسطة بينهما، وقال بعض المتكلمين هنالك شيء يسمى بالحال هو لا موجود ولا معدوم، وذلك مثل العالمية والقادرية، فالذات الموجودة هي الموصوفة والصفة هي العلم والقدرة والنسبة بين الذات والصفة هي العالمية والقادرية وهي التي توجب لمحلها أن يكون عالما قادرا وهو حال متوسط بين الموجود والمعدوم، ومثل الحركة فهي معنى يوجب تحرك الجسم، بمعنى أن الحركة ليست هي نفس تحرك الجسم وانتقاله كما يفهم الناس بل هي معنى يقوم بالجسم يوجب لمحله أن يكون منتقلا، وذلك المعنى ليس أمرا موجودا ولا معدوما، فالناس تفهم من الحركة الانتقال وهم يقولون الحركة موضوعة في لغة العرب لمعنى يلزم منه الانتقال، والقول بالأحوال لا يصح فإن التقابل بين الوجود والعدم هو تقابل النقيضين اللذين لا يجتمعان ولا يرتفعان.

تميم بن عليم
2016-12-01, 05:32 PM
الدرس السابع عشر- مباحث الكتاب

واضع اللغة- تقاسيم الألفاظ


أولا: في تحديد مَن هو واضع اللغة أقوالٌ فقيل: الواضع هو الله سبحانه وتعالى علّمها إلى عباده بوسيلة كالوحي إلى بعض أنبيائه فتكون توقيفية لقول الله تعالى: ( وعلّم آدم الأسماء كلها ) أي الألفاظ الشاملة للأسماء والأفعال والحروف لأن كلا منها اسم وعلامة على مسماه، وقيل: الواضع هم البشر فتكون اصطلاحية لا توقيفية، وتوقّف بعض العلماء ولم يرجح قولا.
ثانيا: هل اللغة تثبت بالقياس ؟
الجواب لا تثبت، فإذا اشتمل معنى اسم على وصف مناسب للتسمية، ووجد ذلك الوصف المناسب في معنى اسم آخر فلا يثبت للثاني الاسم الأول بالقياس عليه، كالخمر فهو اسم في اللغة للمسكر من ماء العنب بخصوصه وسمي خمرًا لتخميره أي تغطيته للعقل، ووجدنا أن المسكر من غير ماء العنب يسمى في اللغة نبيذًا، وفيه نفس الوصف المناسب للتسمية وهو تخمير العقل، فهل نقول يسمى النبيذ خمرًا أيضا قياسًا على الخمر ؟
الجواب: لا يسمى، وعليه لمعرفة حكم النبيذ نحتاج لقياسه على الخمر قياسا شرعيا أصوليا.
وقيل: تثبت اللغة بالقياس وعليه يسمى النبيذ خمرًا في اللغة فلا نحتاج للقياس الأصولي لمعرفة حكم النبيذ لأنه داخل في قوله تعالى: إنما الخمر والميسر .. الآية، فاتضح أن القياس اللغوي يثبت الاسم، والقياس الشرعي يثبت الحكم لا الاسم.
ثالثا: إذا كان اللفظ واحدًا والمعنى واحدًا كزيد وإنسان، فهذا إن منع تصور معنى اللفظ وقوع الشركة فيه فجزئي كزيد، وإن لم يمنع تصور معنى اللفظ وقوع الشركة فيه فكلي كإنسان.
والكلي إما أن يستوي معناه في أفراده فمتواطئ كإنسان، فإن حقيقته الحيوان الناطق، وهذا لا يختلف بالنسبة إلى أفراد جميع الإنسان، وإما أن يتفاوت معناه في أفراده فمُشَكِّككالأبي ض فإن البياض في الثلج مثلا أقوى منه في العاج.
وإذا كان اللفظ متعددًا والمعنى متعددًا فهو المباين مثل إنسان وجدار.
وإذا كان المعنى واحدًا واللفظ متعددًا فهو المترادف مثل إنسان وبشر.
وإذا كان اللفظ واحدًا والمعنى متعددًا فهو المشترك إن كان إطلاقه على كل واحد من المعنيين حقيقيا مثل: القرء للطهر والحيض فإنه يطلق على كل من الطهر والحيض حقيقة، وإن لم يكن يطلق على كل من المعنيين حقيقة كالأسد فإنه يطلق على الحيوان المفترس المعروف وعلى الرجل الشجاع فهو حقيقة في الأول مجاز في الثاني.
رابعًا: العَلَمُ: لفظ عيّن مسماه بوضع، كزيد فإنه يعين ويشخّص رجلًا بعينه، وقوله: بوضع خرجت بقية المعارف فإنها تعيّن مسماها بالقرينة، فأنت مثلا إنما يعين مسماه بقرينة الخطاب لا بوضعه.
والعلم نوعان: علم شخص، وعلم جنس، لأن التعيين إن كان خارجيا فهو علم شخص، وإن كان ذهنيا فعلم جنس.
بيانه: إن اللفظ إن وضع لشخص واحد في الخارج فهو العلم الشخصي، وهذا هو التعيين الخارجي، وإن كان لم يوضع على واحد معين في الخارج ولكن تعين في الذهن بأن نظر للماهية من جهة خصوصها فعلم جنس، وذلك أن الماهية كماهية الأسد وهو الحيوان المفترس المعروف إن حضرت في ذهن الواضع ليضع في قبالها لفظا معينا فتارة ننظر إليها من جهة أنها حضرت في ذهن الواضع دون غيره وفي زمان معين فتصير بهذه القيود متشخصة، لأنها تختلف عن الماهية في ذهن شخص آخر وفي زمن آخر، وتارة ننظر إليها من جهة عمومها بقطع النظر عن تلك التشخيصات فإنها تصدق على كثيرين في الخارج، فالواضع وضع علم الجنس كأسامة للماهية بالاعتبار الاول، ووضع اسم الجنس كأسد بالاعتبار الثاني.
فإن قيل وأي دليل على هذا الاعتبار ؟
قلنا: إن العرب فرقت بين أسد وأسامة من جهة الأحكام اللفظية فاعتبروا أسامة معرفة فلا يصح أن يقال الأسامة كما لا يصح أن يقال الزيد بخلاف أسد يصح أن نقول الأسد، وكذلك يجيء الحال من علم الجنس والحال لا يكون صاحبها إلا معرفة فنقول هذا أسامة مقبلًا، ولا يصح أن نقول هذا أسدٌ مقبلًا، فدل ذلك التفريق اللفظي على الفرق المعنوي بينهما.
والخلاصة أن علم الجنس كأسامة اسم للأسد لا يخص به واحد معين بل يطلق على كل أسد فالمفروض أن يعامل معاملة أسد ولكنهم عاملوه معاملة المعارف فتلمّس العلماء الفرق بينهما فذهبوا مذاهب عديدة.

( شرح النص )

مسأَلَةٌ: المختارُ أَنَّ اللغاتِ توقِيفيَّةٌ، عَلَّمَها اللهُ بالوحْيِ، أو بِخَلْقِ أصواتٍ، أو عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ، وأَنَّ التَّوقيفَ مظنونٌ، وأَنَّ اللغةَ لا تثبتُ قياسًا فيما في معناهُ وصفٌ.
مسأَلَةٌ: اللفظُ والمعنى إِنِ اتَّحَدا فإنْ منعَ تصوَّرُ معناهُ الشِّرْكةَ فجزئِيٌّ، وإلا فكليٌّ مُتَوَاطِئٌ إِنِ استَوَى، وإلَّا فَمُشَكِّكٌ، وإنْ تَعَدَّدَا فَمُبَايِنٌ، أَو اللَّفْظُ فَقَطْ فَمُرَادِفٌ، وعَكْسُهُ إِنْ كانَ حَقِيقةً فيهما فمُشْتَرَكٌ، وإلا فحقيقةٌ ومَجازٌ.
والعلَمُ: ما عَيَّنَ مُسمَّاهُ بِوَضْعٍ، فإنْ كانَ تَعْيِيْنُهُ خارجِيًّا فَعَلَمُ شَخْصٍ، وإلَّا فَعَلَمُ جِنْسٍ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
هذه ( مسأَلَةٌ ) في الواضع ( المختارُ أَنَّ اللغاتِ توقِيفيَّةٌ ) أي وضعها الله تعالى فوقفَ عباده عليها ( عَلَّمَها اللهُ ) عباده ( بالوحْيِ ) إلى بعض أنبيائه وهو الظاهر لأنه الطريق المعتاد في تعليم الله لخلقه ( أو بِخَلْقِ أصواتٍ ) في محل ما تدل على تلك اللغات فيسمعها بعض الناس ويلقنونها غيرهم فتنتشر ( أو ) خلق ( عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ ) في بعض العباد بأنها قصدت لتلك المعاني، وقيل إن اللغات اصطلاحية وضعها الخلق ( وأَنَّ التَّوقيفَ مظنونٌ ) أي أن القول بالتوقيف هو الراجح، قال العلامة الجوهري في حواشيه على لب الأصول: قد يقال لا حاجة إلى هذا بعد قوله في صدر البحث المختار أن اللغات توقيفية، وأما الأصل فلم يذكر الاختيار الأول فاحتاج إلى هذا. اهـ ( و ) المختار ( أَنَّ اللغةَ لا تثبتُ قياسًا فيما في معناهُ وصفٌ ) فإذا اشتمل معنى اسم على وصف مناسب للتسمية كالخمر أي المسكر من ماء العنب لتخميره أي تغطيته العقل، ووجد ذلك الوصف في معنى اسم آخر كالنبيذ أي المسكر من ماء غير العنب لم يثبت له بالقياس ذلك الاسم فلا يسمى النبيذ خمرًا، وقيل يثبت بالقياس فيسمى النبيذ خمرًا فيجب اجتنابه بآية إنما الخمر والميسر.. لا بالقياس على الخمر، وخرج بقوله: فيما في معناه وصف، ما لا وصف فيه مناسب للتسمية فلا يثبت بالقياس اتفاقا لانتفاء الجامع بينهما، وذلك كالأعلام، هذه ( مسأَلَةٌ ) في تقاسيم الألفاظ الموضوعة ( اللفظُ ) المفرد ( والمعنى إِنِ اتَّحَدا ) بأن كان كلّ منهما واحدًا ( فإنْ منعَ تصوَّرُ معناهُ ) أي معنى اللفظ المذكور ( الشِّرْكةَ ) فيه ( فجزئِيٌّ ) أي فذلك اللفظ يسمى جزئيا حقيقيا كزيد ( وإلا ) وإن لم يمنع تصور معناه الشركة فيه ( فكليٌّ ) أي فذلك اللفظ يسمى كليا ( مُتَوَاطِئٌ ) ذلك الكلي ( إِنِ استَوَى ) معناه في أفراده كالإنسانِ فإنه متساوي المعنى في أفراده من زيد وعمرو وغيرهما سمي متواطئا من التواطئ أي التوافق لتوافق أفراده في معناه ( وإلَّا ) أي وإن لم تستو أفراده في معناه بل تفاوتت كالنور فإنه في الشمس أقوى منه في المصباح ( فَمُشَكِّكٌ ) سمي به لتشكيكه الناظر فيه فإن الناظر إن نظر إلى أصل المعنى كالنور وجده متواطئا لاشتراك أفراده فيه، وإن نظر إلى جهة الاختلاف في أفراده بالقوة والضعف ونحوها وجده غير متواطئ ( وإنْ تَعَدَّدَا ) أي اللفظ والمعنى كالإنسان والفرس ( فَمُبَايِنٌ ) أي كل من اللفظين للآخر سمي مباينا لمباينة معنى كل منهما لمعنى الآخر ( أَو ) تعدد ( اللَّفْظُ فَقَطْ ) أي دون المعنى كالإنسان والبشر ( فَمُرَادِفٌ ) كل من اللفظين للآخر سمي مرادفا لمرادفته له أي موافقته له في معناه ( وعَكْسُهُ ) وهو أن يتعدد المعنى دون اللفظ كأن يكون للفظ واحد معنيان ( إِنْ كانَ ) أي اللفظ ( حَقِيقةً فيهما ) أي في المعنيين كالقرء للحيض والطهر ( فمُشْتَرَكٌ ) لاشتراك المعنيين فيه ( وإلا ) أي وإن لم يكن اللفظ حقيقة فيهما ( فحقيقةٌ ومَجازٌ ) كالأسد للحيوان المفترس وللرجل الشجاع ( والعلَمُ ما ) أي لفظ ( عَيَّنَ مُسمَّاهُ ) خرج النكرة فإنها لا تعين مسماها كرجل ( بِوَضْعٍ ) خرج بقية المعارف فإن كلا منها لم يعين مسماه بالوضع بل بالقرينة ( فإنْ كانَ تَعْيِيْنُهُ ) أي المسمى ( خارجِيًّا ) بحيث لا يصدق في الخارج إلا على فرد معين ( فَعَلَمُ شَخْصٍ ) فتعريفه هو: ما عيّن مسماه في الخارج بوضع، كزيد ( وإلَّا ) بأن كان تعيينه لمسماه في الذهن فقط ( فَعَلَمُ جِنْسٍ ) فتعريفه هو: ما عيّن مسماه في الذهن بوضع، كأسامة للأسد، وأما اسم الجنس فهو: ما وضع للماهية المطلقة، أي من غير تعيين في الذهن أو في الخارج، كأسد، وحاصل الفرق بين علم الجنس، واسم الجنس هو: أَن الماهية المستحضرة في الذهن لها جهة خصوص وجهة عموم، فجهة الخصوص فيها هي حضورها في ذهن الواضع في زمن معين، وهي تختلف بهذا الاعتبار عن حضورها في زمن آخر وفي ذهن شخص آخر، وجهة العموم فيها هي باعتبار صحة الشركة فيها وصدقها على متعدد، فإن نظر للماهية من جهة خصوصها فهي علم الجنس، وإن نظر إليها من جهة عمومها فهي اسم جنس، هذا من حيث المعنى أما من حيث الأحكام اللفظية فعلم الجنس معرفة له أحكام المعرفة واسم الجنس نكرة له أحكام النكرة.


الموضوع الأصلي: http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=7#ixzz4Rb4IlJEA

تميم بن عليم
2016-12-01, 05:33 PM
الدرس الثامن عشر- مباحث الكتاب

الاشتقاق- الترادف


أولا: الاشتقاق هو: ردُّ لفظٍ إلى آخرَ لمناسبةٍ بينهما في المعنى والحروف الأصلية، كردّ الفعل واسم الفاعل والمفعول إلى المصدر لاشتقاقها منه نحو ضَرَبَ فإنه مشتق منْ ضَرْب الذي هو المصدر، فالحروف الأصلية وهي الضاد والراء والباء واحدة، وأصل المعنى واحد فإن ضَرَبَ معناه حدوث الضرب الذي هو المصدر في الزمن الماضي، فالمشتق هو ضَرَبَ وهو الفرع، والمشتق منه هو ضَرْب وهو الأصل.
ومعنى رد لفظ إلى لفظ آخر هو أن تحكم بأن الأول مأخوذ من الثاني فيكون الأول فرعا والثاني أصلا له.
ومعنى المناسبة في المعنى أن يكون في المشتق أصل المعنى الذي يدل عليه المشتق منه، كمعنى الضرب فإنه موجود في الفعل واسم الفاعل والمفعول وغيرها، فإن لم تكن بينهما مناسبة في المعنى فلا اشتقاق نحو ذَهَبَ وذَهَبٌ فإنهما وإن اتفقا في الحروف الأصلية إلا أنهما لم يتفقا في المعنى.
ومعنى المناسبة في الحروف أن تكون حروف المشتق منه الأصلية موجودة في المشتق وبنفس الترتيب، ولا يضر وجود الزائد بينهما كالضارب فإنه مشتق من الضرب، وخرج بهذا القيد المترادفان كإنسان وبشر فإنهما وإن توافقا في المعنى لكنهما لم يتفقا في الحروف.
ثانيا: المشتقّ قد يكون مطّرِدًا، وقد يكون مختصًا، مثال الأول اسم الفاعل ضارب فهو لكل من وقع منه الضرب، وكذا اسم المفعول مضروب لكل من وقع عليه الضرب، فلا يختصان بذات معينة، ومثال الثاني القارورة مشتقة من القرار لكنها لا تطلق إلا على الزجاجة المعروفة دون غيرها مما كان مقرًا للسوائل فهي مختصة بذات معينة، فلو وضع الماء في وعاء من الفخار مثلا فلا يسمى قارورة.
ثالثا: مَن لمْ يقمْ به وصفٌ لم يجز أن يشتقّ له منه اسم، فلا يقال عالم إلا لمن قام به وصف العلم، ولا قادر لمن لم يقم به وصف القدرة وهكذا.
رابعا: من قام به وصفٌ له اسم وجب اشتقاق اسم له من ذلك الوصف، كتسمية من قام به العلم عالما، ومن قام به الكرم كريما، ومن قام به وصف ليس له اسم لم يجز أن يشتق له منه اسم، وذلك مثل أنواع الروائح المختلفة لم يجعل لكل رائحة منها اسم فمن قامت به رائحة المسك مثلا قيل: له رائحة المسك ولم نجعل له اسما خاصا.
خامسا: يشترط بقاء المشتق منه في اطلاق اسم المشتق عليه حقيقة، فإذا قلت عن زيد: إنه نائمٌ، فإن كان عند قولك هذا نائما بالفعل فالإطلاق حقيقي اتفاقًا لوجود المشتق منه الذي هو النوم، وإن كان قولك قبل حصول نومه أي أنه سينام فالإطلاق مجازيّ اتفاقًا، أما إذا كان نام واستيقظ فلا يسمى نائما حقيقة لانقضاء النوم، وقيل يسمى.
ومن هنا كان اسم الفاعل حقيقة في حال التلبس بالمعنى لا حال النطق فإذا قلتَ: زيدٌ قائمٌ وهو حال نطقك ليس بقائم فهذا مجازٌ وإن كان متلبسا بالقيام بعد ذلك فهو حقيقة.
هذا وهنالك شيء يسمى بالمصادر السيالة وهي التي تنقضي شيئا فشيئا فهذه صحة الإطلاق فيها منظور إلى بقاء آخر جزء منها فمثلا الكلام ينقضي شيئا فشيئا فإذا تكلم شخص لمدة ساعة فهو متكلم فإذا انتهى من آخر كلامه فلا يعد متكلما فلا نشترط بقاء الكلام كله لأنه لا يمكن لأنه أصوات تنقضي شيئا فشيئا، ومثل الصلاة تنقضي شيئا فشيئا فالمصلي يسمى مصليا ما دام يصلي فإذا فرغ من السلام لم يعد مصليا.
سادسا: ليس في المشتق إشعار بخصوصية الذات، فالأسود مثلا ذات متصفة بالسواد هذا فقط ما يفيده ولا تعرض له من كون الأسود جسما أو غيره، إذ لو أشعر لكان معنى قولنا الأسود جسم، الجسم المتصف بالسواد جسمٌ، وهذا لا يصح لعدم إفادته.
سابعا: الترادف واقع في اللغة وفي النصوص الشرعية، وأن كلًا من المترادفين يقع مكان الآخر فلك مثلا أن تستعمل لفظ الإنسان بدل لفظ البشر وبالعكس إلا إذا كان اللفظ مما تعبدنا به كألفاظ القرآن الكريم فليس لأحد أن يقول الطريق بدل الصراط في الفاتحة مثلا.
ثامنا: ليس من الترادف الحد مع المحدود نحو الإنسان حيوان ناطق، لأن المحدود دال على الماهية إجمالا والحد دال على الماهية تفصيلا فهما متغايران.
وليس من الترادف نحو حَسَن بَسَن وعطشان نطشان وفلان فلتان، من كل لفظ ثان لا معنى له وإنما ذكر لتقوية المعنى الأول.


( شرح النص )

مسأَلَةٌ: الاشتقاقُ: ردُّ لفظٍ إلى آخرَ لمناسبةٍ بينهما في المعنى والحروفِ الأصليَّةِ، وقد يطّرِدُ كاسمِ الفاعلِ، وقد يختصُّ كالقارورةِ، ومَنْ لمْ يَقُمْ بهِ وصْفٌ لمْ يُشْتَقَّ لهُ مِنْهُ اسمٌ عندَنا، فإنْ قامَ بهِ ما لهُ اسمٌ وجَبَ وإلا لمْ يَجُزْ، والأصحُّ أَنَهُ يُشْتَرَطُ بقاءُ المشتقِّ منهُ في كونِ المشتقِّ حقيقةً إنْ أَمكنَ وإلا فآخِرُ جزءٍ، فاسمُ الفاعلِ حقيقةٌ في حالِ التَّلَبُّسِ لا النُّطْقِ، ولا إشعارَ للمشتقِّ بخصوصيَّةِ الذَّاتِ.
مسألَةٌ: الأصحُّ أَنَّ المرادِفَ واقِعٌ، وأَنَّ الحدَّ والمحدودَ، ونحْوَ حَسَنْ بَسَنْ ليسَا مِنْهُ، والتَّابِعُ يُفِيدُ التَّقْوِيَةَ، وأنَّ كُلًّا من المرادِفَينِ يقعُ مكانَ الآخَرِ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
هذه ( مسأَلَةٌ ) في الاشتقاق ( الاشتقاقُ ردُّ لفظٍ ) وهو المشتق الذي هو الفرع ( إلى ) لفظ ( آخرَ ) وهو المشتق منه الذي هو الأصل ( لمناسبةٍ بينهما في المعنى ) بأن يكون معنى الثاني محفوظا في الأول ( والحروف الأصليَّةِ ) بأن تكون فيهما بنفس الترتيب، وذلك كاشتقاق ضارب من الضرب ( وقد يطّرِدُ ) المشتق ( كاسمِ الفاعلِ ) نحو ضارب لكل من وقع عليه الضرب ( وقد يختصُّ ) بشيء ( كالقارورةِ ) مشتقة من القرار للزجاجة المعروفة دون غيرها مما هو مقر للمائع كإناء الفخار ( ومَنْ لمْ يَقُمْ بهِ وصْفٌ لمْ يُشْتَقَّ لهُ مِنْهُ ) أي من الوصف أي لفظه ( اسمٌ عندَنا ) خلافا للمعتزلة القائلين بأنه سبحانه عالم بلا علم وقادر بلا قدرة، وقالوا هو متكلم بمعنى أنه خالق الكلام من غير أن يصدر منه بل صدر من محل آخر كالشجرة التي سمع منها موسى عليه السلام كلام الله، وهو باطل ( فإنْ قامَ بهِ ) أي بالشيء ( ما ) أي وصف ( لهُ اسمٌ وجَبَ ) الاشتقاق لغة من ذلك الاسم لمن قام به الوصف كاشتقاق العالم من العلم لمن قام به معناه ( وإلا ) أي وإن لم يقم به ذلك بأن قام به ما ليس له اسم كأنواع الروائح إذْ لم يوضع لها أسماء استغناء عنها بالتقييد كرائحة كذا كما مر ( لمْ يَجُزْ ) الاشتقاق ونكتفي بالتقييد كقولنا هو له رائحة المسك ( والأصحُّ أَنَهُ يُشْتَرَطُ بقاءُ ) معنى ( المشتقِّ منهُ ) في المحل ( في كونِ المشتقِّ حقيقةً ) أي يشترط لإطلاق لفظ المشتق على محل بقاء معنى المشتق منه في ذلك المحل ( إنْ أَمكنَ ) بقاء ذلك المعنى كالقيام فما دام الشخص متصفا بالقيام فيقال عليه هو قائم لا قبل ذلك الزمن أو بعده ( وإلا ) أي وإن لم يمكن بقاء ذلك المعنى في المحل ( فـ ) المشترط أن يبقى ( آخِرُ جزءٍ ) منه كالتكلم فهو لا يبقى لأنه أصوات تنقضي شيئا فشيئا فالمعتبر بقاء آخر جزء من الكلام لصدق وصف المتكلم على الشخص، وقيل لا يشترط بقاء المشتق منه فيسمى حقيقة بالمشتق بعد انقضائه ( فـ ) من أجل اشتراط بقاء معنى المشتق منه أو بقاء آخر جزء منه كان ( اسمُ الفاعلِ حقيقةٌ في حالِ التَّلَبُّسِ ) بالمعنى أو جزئه الأخير ( لا ) حال ( النُّطْقِ ) بالمشتق فقط، فقوله تعالى: والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما يقصد بالسارق والسارقة من اتصف بالسرقة حال تلبسه بها، لا حال نطق النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية وقت النزول فقط، فإذا قلنا: زيدٌ سارق وهو حال قولنا متلبس بالسرقة فهذا حقيقة، وإذا سرق بعد عام فهو سارق حقيقة أيضا وإن لم نقل عنه حينذاك إنه سارق لأن العبرة هو الاتصاف بالسرقة في أي وقت لا في حال النطق فقط فافهم.
( ولا إشعارَ للمشتقِّ بخصوصيَّةِ الذَّاتِ ) التي دل عليها من كونها جسما أو غيره لأن قولك مثلا: الأسودُ جسمٌ، صحيح ولو أشعر الأسود فيه بالجسمية لكان معنى كلامك هو: الجسم ذو السواد جسمٌ وهو غير صحيح لأنه لا فائدة فيه، والخلاصة أن المشتق وإن قالوا عنه إنه يدل على ذات ووصف فهو يدل على ذات مبهمة غير معينة بكونها جسما أو حجرًا أو شجرًا أو غيره ( مسألَةٌ ) في المترادف ( الأصحُّ أَنَّ ) اللفظ ( المرادِفَ ) لآخر ( واقِعٌ ) في اللغة والشريعة، وقيل هو غير واقع في اللغة، وقيل هو واقع في اللغة منتف في كلام الشارع ( و ) الأصح ( أَنَّ الحدَّ والمحدودَ ) كالحيوان الناطق والإنسان ( ونحْوَ حَسَنْ بَسَنْ ) أي الاسم وتابعه كعطشان نطشان وشيطان ليطان ( ليسَا مِنْهُ ) أي ليسا من المرادف لعدم اتحادهما في المعنى أما الأول فلأن الحد يدل على الماهية تفصيلا، والمحدود يدل على الماهية إجمالا فهما متغايران، وأما الثاني فلأن التابع لا يفيد معنى بدون متبوعه لذلك لا يستعمل وحده، ومن شأن كل مترادفين إفادة كل منهما المعنى وحده، وقيل إن الحد والمحدود ونحو حسن بسن من المترادفين ( والتَّابِعُ يُفِيدُ التَّقْوِيَةَ ) فبسن يفيد تقوية حسن في المعنى وإلا لما كان لذكره فائدة في الكلام ( و ) الأصح ( أنَّ كُلًّا من المرادِفَينِ يقعُ مكانَ الآخَرِ ) في الكلام، فلك أن ترفع أحد المترادفين وتضع الآخر مكانه نحو حضر الليث مكان حضر الأسد، وقيل لا يجوز وقوع أحد المرادفين مكان الآخر.

الموضوع الأصلي: http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=7#ixzz4Rb4kvK8D

تميم بن عليم
2016-12-01, 05:34 PM
الدرس التاسع عشر- مباحث الكتاب

المشترك- الحقيقة والمجاز


أولا: المشترك - وهو اللفظ الواحد ذو المعنى المتعدد - واقع في الكلام اسما كالقرء للحيض والطهر، وفعلا كعسعس لأقبل وأدبر، وحرفا كالباء للإلصاق والسببية وغيرهما.
ثانيا: يصح في اللغة أن يستعملَ المتكلمُ المشتركَ في معنييه معا في كلام واحد مجازًا كقولك: عندي عينٌ، وتريد الباصرة والذهب مثلا، وسواء ذكر المشترك بلفظ مفرد كعين أو بلفظ جمع كعيون نحو عندي عيون وتريد الباصرتين والذهب مثلًا.
ثالثا: يصح في اللغة مجازًا إطلاق لفظ مع إرادة معناه الحقيقي ومعناه المجازي معًا كقولك: رأيت الأسد، وتريد الحيوان المفترس والرجل الشجاع، ومنه قوله تعالى: ( وافعلوا الخيرَ ) يعم الواجبات والمندوبات، فإن صيغة افعل حقيقة في الوجوب مجاز في الندب، فيكون استعمال افعلوا في الأمرين مجازًا والقرينة في الآية هو أن الخير يشمل الواجب والمندوب.
رابعا: يصح في اللغة إطلاق لفظ مع إرادة معنييه المجازيين معًا كقولك: واللهِ لا أشتري، وتريد السومَ في البيع، والشراء بواسطة وكيل.
خامسا: الحقيقة: لفظ استعمل فيما وُضِعَ له أوَّلًا، كاستعمال لفظ الأسد في الحيوان المفترس المعروف، خرج بقولنا: المستعمل المهمل، وبما وضع له الغلط كقولك: خذ هذا القوس مشيرا إلى حمار، وبأولًا المجاز لأنه لم يوضع له ابتداءً.
سادسا: تنقسم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام: لغوية، وعُرفية، وشرعية.
فتكون لغوية إذا وضعها أهل اللغة كالأسد للحيوان المعروف.
وتكون عرفية إذا وضعها أهل العرف العام كالدابة لذوات الأربع من الحيوانات، وهي في أصل اللغة لكل ما يدب على وجه الأرض، أو وضعها أهل العرف الخاص كالفاعل والمفعول عند النحاة، وكذلك سائر المصطلحات العلمية والصناعية فكلها من قبيل العرفية الخاصة.
وتكون شرعية إذا وضعها الشارع كالصلاة للعبادة المخصوصة.
سابعا: الحقيقة اللغوية والعرفية واقعتان في الكلام، وأما الشرعية فقد قال قوم لم تقع والصلاة مثلا مستعملة في معناها اللغوي الذي هو الدعاء لكن الشارع اشترط لصحتها أمورًا من التلاوة والركوع والسجود وغيرها، فهي باقية على معناها اللغوي، وقال جمهور العلماء بأنها واقعة سواء أكانت في الفروع كالصلاة والصوم، أم في الاعتقاد كالإيمان فإن معناه في اللغة التصديق، ومعناه في الشرع هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان.
ثامنا: المجاز: لفظ استعمل فيما وُضِعَ له ثانيًا لعلاقة، كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع، خرج بقولنا: المستعمل المهمل، وبما وضع له الغلط، وبثانيا الحقيقة لأنها بوضع أول، وهو واقع في اللغة وفي الكتاب والسنة.
تاسعا: علم من قولهم في تعريف المجاز فيما وضع له ثانيا أنه لا بد من وضع أول، ولكن هل يجب أن يكون اللفظ المتجوَّز فيه قد استعمل أولا على وجه الحقيقة قبل استعماله على وجه المجاز ؟ فهل يجب اذا وضع الأسد للحيوان المعروف أن يستعمل فيه بهذا المعنى أولا قبل أن يتجوّز فيه ويستعمل للرجل الشجاع ؟ فيه خلاف: فقيل يجب استعماله في المعنى الحقيقي قبل التجوز فيه، وهو الأشهر، وقيل لا يجب.
عاشرا: يعدل المتكلم عن الحقيقة إلى المجاز لأسباب كثيرة منها:
1- ثقل اللفظ الحقيقي وخفة اللفظ المجازي، مثل الخَنْفَقِيقِ بمعنى الداهية والمصيبة العظيمة التي تصيب الإنسان، فيعدل عن ذلك اللفظ الثقيل إلى لفظ آخر كالموت مثلا فإن معناه الحقيقي زوال الروح عن الجسد، فيقال: زيدٌ وقع في الموت مجازًا عن الداهية.
2- بشاعة اللفظ الحقيقي، مثل اللفظة الموضوعة للخارج من الإنسان عند التغوّط، فيعدل عنها إلى الغائط، وهو في الأصل المكان المنخفض.
3- الجهل باللفظ الحقيقي فيعبر عنه بلفظ آخر مجازي، مثل لو جهل المتكلم أن الرطب من النبات يسمى في اللغة خَلى فيعبر عنه بالحشيش مع علمه أنه موضوع لليابس فيكون استعماله فيه مجازًا باعتبار ما يؤول إليه.
4- بلاغة المجاز، مثل اشتعلَ الرأسُ شيبا، فإنه أبلغ من شِبْتُ.
5- كون المجاز أشهر من الحقيقة، مثل: الراوية فإنها في الظرف الذي يحمل به الماء أشهر من معناها الحقيقي وهو البعير ونحوه من الدواب التي يحمل عليها الماء.
6- كون المجاز يتعلق به غرض لفظي دون الحقيقة، مثل لو قيل في وصف رجل غبي يكثر من الكلام: هو عجول ثرثار، وأكول حمار، فالسجع بين الحمار والثرثار مقصود للمتكلم ولا يحصل لو عبر بدل الحمار بالغبي أو البليد.


( شرح النص )

مسأَلَةٌ: الأَصحُّ أَنَّ المشترَكَ واقِعٌ جوازًا، وأَنَّهُ يَصِحُّ لغةً إطلاقُهُ على معنيَيْهِ معًا مجازًا، وأَنَّ جَمْعَهُ بِاعتبارِهما مَبْنِيٌّ عليهِ، وأَنَّ ذلكَ آتٍ في الحقيقةِ والمجازِ، وفي المجازَيْنِ، فنَحْوُ: افعلُوا الخيرَ، يَعُمُّ الواجِبَ والمندوبَ.
الحقيقةُ: لفظٌ استُعْمِلَ فيما وُضِعَ لهُ أَوَّلًا، وهيَ لُغَوِيَّةٌ وعُرْفِيَّةٌ وَوقَعتا، وشَرْعِيَّةٌ، والمختارُ وقوعُ الفرعِيَّةِ منها لا الدِّيْنِيَّةِ.
والمجازُ: لفظٌ استُعْمِلَ بِوَضْعٍ ثانٍ لِعَلاقَةٍ، فيجبُ سبْقُ الوضْعِ جزمًا لا الاستعمالِ في الأَصحِّ، وهوَ واقِعٌ في الأَصَحِّ، ويُعْدَلُ إِليهِ لِثِقَلِ الحقيقةِ أَو بشاعَتِها أَو جهلِها أَو بلاغَتِهِ أَو شُهْرَتِهِ أَو غيرِ ذلكَ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
هذه ( مسأَلَةٌ ) في المشترك ( الأَصحُّ أَنَّ المشترَكَ ) بين معنيين فأكثر ( واقِعٌ ) في الكلام ( جوازًا ) لا وجوبا، كالقرء للطهر والحيض، وعسعس لأقبل وأدبر، ومِن للابتداء والتبعيض وغيرهما، وقيل هو غير واقع في الكلام، وقيل يجب وقوعه في الكلام ( و ) الأصح ( أَنَّهُ ) أي المشترك ( يَصِحُّ لغةً إطلاقُهُ على معنيَيْهِ معًا ) بأن يرادا بلفظ مشترك من متكلم واحد في وقت واحد كقولك: عندي عينٌ وتريد الباصرة والجارية، وقيل لا يصح ذلك في اللغة ( مجازًا ) لأنه لم يوضع لهما معا بل لكل منهما منفردا ( و ) الأصح ( أَنَّ جَمْعَهُ ) أي المشترك ( بِاعتبارِهما ) أي باعتبار معنييه ( مَبْنِيٌّ عليهِ ) أي على ما ذكر من صحة إطلاق اللفظ المشترك المفرد على المعنيين معا، أي أنه إذا صححنا جواز إطلاق نحو عندي عينٌ على الباصرة والجارية، فيصح إطلاق عندي عيونٌ على الباصرتين والجارية مثلا، فالمسألة الثانية مبنية على الأولى، وقيل لا تنبني عليها فيجوز أن نمنع استعمال المشترك المفرد في معنييه ونجيز استعمال المشترك الجمع في معنييه ( و ) الأصح ( أَنَّ ذلكَ ) أي ما ذكرته من صحة إطلاق اللفظ على معنييه معا مجازًا ( آتٍ في الحقيقةِ والمجاز ) فيصح أن يطلق لفظ ويراد به معنياه الحقيقي والمجازي معا كقولك: رأيت أسدًا تريد الحيوان المفترس والرجل الشجاع فيكون مجازًا، وقيل لا يجوز ذلك ( و ) آت أيضا ( في المجازَيْنِ ) فيصح إطلاق لفظ واحد وإرادة معنييه المجازيين معا كقولك: واللهِ لا أشتري وتريد بالشراء السوم والشراء بالوكيل وكلا المعنيين مجاز لأن المعنى الحقيقي للشراء هو مباشرة الشراء بالنفس، وإذا علم صحة إطلاق اللفظ على حقيقته ومجازه معا ( فنَحْوُ ) قوله تعالى ( افعلُوا الخيرَ يَعُمُّ الواجِبَ والمندوبَ ) حملا لصيغة افعل على الحقيقة والمجاز من الوجوب والندب بقرينة كون الخير شاملا للوجوب والندب ( الحقيقةُ لفظٌ استُعْمِلَ ) خرج المهمل ( فيما وُضِعَ لهُ ) خرج الغلط ( أَوَّلًا ) خرج المجاز ( وهيَ لُغَوِيَّةٌ ) بأن وضعها أهل اللغة كالأسد للحيوان المفترس ( وعُرْفِيَّةٌ ) بأن وضعها أهل العرف العام كدابة لذوات الأربع أو الخاص كالفاعل للاسم المعروف عند النحاة ( وَوقَعتا ) في الكلام خلافا لقوم أنكروا وقوع العرفية العامة ( وشَرْعِيَّةٌ ) بأن وضعها الشارع كالصلاة للعبادة المعروفة ( والمختارُ وقوعُ الفرعِيَّةِ منها ) أي من الشرعية وهي المتعلقة بفروع الدين كالصلاة والصوم ( لا الدِّيْنِيَّةِ ) أي المتعلقة بأصول الدين، فالمصنف اختار أن الألفاظ الشرعية في باب أصول الدين مستعملة في معناها اللغوي كالإيمان فإن معناه في اللغة هو التصديق، وهو في الشرع تصديق القلب، وإن اعتبر الشارع في الاعتداد به التلفظ بالشهادتين من القادر، وهذا بناء على مذهب الأشاعرة الذين يقولون إن ماهية الإيمان هي تصديق القلب فقط، وأما النطق فهو شرط على القادر وقيل ليس بشرط، وأما العمل فخارج عن حقيقة الإيمان وليس هو شطرا ولا شرطًا، وهو خلاف مذهب السلف القائل بأن حقيقة الإيمان مركبة من ثلاثة أركان تصديق ونطق وعمل فهذه ذاتيات للإيمان، وقال قوم إن الحقيقة الشرعية لم تقع في الكلام وتحمل ألفاظ الشرع على المعنى اللغوي مع شروط ضمها إليه الشارع ( والمجازُ ) اللغوي ( لفظٌ استُعْمِلَ ) خرج المهمل ( بِوَضْعٍ ) خرج الغلط ( ثانٍ ) خرجت الحقيقة ( لِعَلاقَةٍ ) بين ما وضع له أولا وما وضع له ثانيا، كالعلاقة بين الأسد والرجل الشجاع وهي المشابهة بينهما في الشجاعة، وخرج العلم المنقول كالفضل فإنه وضع أولا واستعمل كمصدر بمعنى الزيادة ثم نقل وجعل اسما لرجل فهذا ليس من المجاز لعدم وجود علاقة بين المنقول منه والمنقول إليه ( فيجبُ سبْقُ الوضْعِ جزمًا لا الاستعمالِ في الأَصحِّ ) أي أنه ظهر من تعريف المجاز أنه لا بد من وضع أولا لمعنى ما ثم يستعمل في معنى آخر مجازي ولكن هل يجب أن يكون اللفظ المتجوَّز فيه قد استعمل أولا على وجه الحقيقة قبل استعماله على وجه المجاز ؟ فيه خلاف: فقيل يجب استعماله في المعنى الحقيقي قبل التجوز فيه، وهو الأشهر، وقيل لا يجب فيكفي أن يوضع الأسد للحيوان المعروف وإن لم يستعمل فيه وهو اختيار المصنف وفيه نظر ( وهوَ ) أي المجاز ( واقِعٌ ) في اللغة وفي الشرع ( في الأَصَحِّ ) وقيل هو غير واقع في اللغة وغير واقع في الشرع، وقيل هو واقع في اللغة وغير واقع في الشرع ( ويُعْدَلُ إِليهِ ) أي ويعدل عن الحقيقة إلى المجاز ( لِثِقَلِ الحقيقةِ ) على اللسان كالخَنْفَقِيقِ للداهية يعدل عنه إلى الموت مثلا ( أَو بشاعَتِها ) كاللفظ الدال على الخارج من بطن الإنسان يعدل عنه لبشاعته إلى الغائط وهو المكان المنخفض من الأرض ( أَو جهلِها ) للمتكلم أو المخاطب فيعدل عن اللفظ الحقيقي المجهول إلى المجاز المعلوم ( أَو بلاغَتِهِ ) أي بلاغة المجاز نحو زيد أسد فإنه أبلغ من شجاع ( أَو شُهْرَتِهِ ) أي شهرة اللفظ المجازي دون المعنى الحقيقي كالراوية فإنها في ظرف الماء أشهر من الدابة التي يستقى عليها الماء ( أَو غيرِ ذلكَ ) من الأغراض كمراعاة السجع.


الموضوع الأصلي: http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=8#ixzz4Rb549ASI

تميم بن عليم
2016-12-01, 05:35 PM
الدرس العشرون- مباحث الكتاب

مسائل المجاز


أولا: ليس المجاز هو الغالب على اللغات بل الأكثر في الكلام هو الحقيقة.
ثانيا: لا يعوّل على المجاز إذا كان حمل اللفظ على حقيقته مستحيلًا، مثاله: إذا قال السيد لعبد أكبر منه سنا: هذا ابني، فإن الحقيقة هنا مستحيلة فكيف يكون الابن أكبر من أبيه، فيكون لفظه هذا لاغيًا، ولا يترتب عليه أي حكم؛ لأن هذا الشخص القائل هو من آحاد الناس فلا توجد ضرورة لتصحيح كلامه بحمله على المجاز بل نعده لغوا من الكلام.
ثالثا: المجاز والنقل كلّ منهما خلاف الأصل، والأصل هو الحقيقة والمنقول منه، فإذا احتمل لفظ معناه الحقيقي والمجازي فالأصل حمله على معناه الحقيقي، وإذا احتمل لفظ معناه اللغوي ومعناه الشرعي أو العرفي المنقول من المعنى اللغوي فالأصل حمله على المعنى اللغوي نحو: رأيت أسدًا وصليّتُ، أي رأيت حيوانا مفترسا ودعوت الله بالسلامة منه، فالأسد احتمل معناه الحقيقي والمجازي الذي هو الرجل الشجاع فحملناه على الحقيقي لأنه هو الأصل، والصلاة احتملت معناها اللغوي ومعناها الشرعي الذي هو العبادة المخصوصة وهي منقولة من المعنى اللغوي، فحملناها على المعنى اللغوي لأنه هو الأصل.
رابعا: المجاز والنقل أولى من الاشتراك، فإذا أطلق لفظ يحتمل أن يراد به المجاز أو النقل كما يحتمل أن يكون مشتركا بين معنيين فالأولى حمله على المجاز أو النقل دون الاشتراك؛ لأن المجاز أكثر ورودا في الكلام من الاشتراك، والحمل على الأكثر أولى، ولأن حمله على النقل لا يمنع العمل به، بخلاف حمله على الاشتراك فإنه لا يعمل به إلا بقرينة تعين أحد معنييه.
مثال احتمال المجاز والاشتراك: لفظ ( النكاح ) فإنه حقيقة في العقد على المرأة مجاز في الوطء عند قوم، وحقيقة مشتركة في كلا المعنيين عند آخرين، وحمله على المجاز أولى من الصيرورة إلى الإشتراك.
ومثال احتمال النقل والاشتراك: لفظ ( الزكاة ) فإنه منقول إلى الزكاة الشرعية، ويحتمل أن يكون مشتركا بين المعنى الحقيقي للزكاة وهو النماء والمعنى الشرعي وهو ما يُخرَج من المال، فحمله على النقل أولى.
خامسا: التخصيص أولى من المجاز والنقل، فإذا احتمل كلام أن يكون فيه تخصيص ومجاز، أو احتمل تخصيصا ونقلا، فالأولى حمله على التخصيص.
مثال احتمال التخصيص والمجاز: قوله تعالى: ( ولا تأكلوا مما لمْ يُذْكَرْ اسمُ اللهِ عليهِ ) فإنه يحتمل أن يكون نهيا عن أكل ما لم يُسَمَّ اللهُ عليه عند ذبحه، ويخصّ منه الناسي فيجوز أكل ذبيحته، ويحتمل أن يكون المقصود هو النهي عن الأكل عما لم يذبح أصلا، على اعتبار أن الذبح يقارن التسمية غالبا، فأطلقت التسمية وأريد بها الذبح مجازًا، فالمصير إلى التخصيص أولى.
ومثال احتمال التخصيص والنقل: قوله تعالى: ( وأَحلَّ اللهُ البيعَ ) فقيل: المراد بالبيع معناه اللغوي وهو المبادلة مطلقا ولكن خص منه الفاسد مما لم يستوف الشروط الشرعية، فيكون البيع في الآية عاما مخصوصا، وقيل هو منقول إلى المعنى الشرعي وهو البيع الصحيح المستجمع شروط الصحة، فهذا حمله على التخصيص أولى.
سادسا: الإضمار أولى من النقل، كقوله تعالى: ( وَحرَّمَ الرِّبا ) فالربا في اللغة الزيادة وهي لا توصف بحل ولا حرمة فكان لا بد من تأويل في الآية فقيل هنالك إضمار والمعنى وحرمَ الله أخذ الزيادة، فالمضمر هو الأخذ، والربا المراد به معناه اللغوي، وقيل بل هو منقول إلى المعنى الشرعي وهو عقد الربا أي حرم الله عقد الربا، فالمصير إلى الإضمار أولى من النقل.
سابعا: الإضمار مساو للمجاز، مثل قول السيد لغلامه الأصغر منه سنا: هذا ابني، فإنه يحتمل أن يكون عبر عن العتق بالبنوة؛ لأن من ولد له من أمته فإنه حر كأبيه، فيكون السيد عبر عن العتق بالبنوة مجازا فيعتق العبد بهذا اللفظ، ويحتمل أن يكون في الكلام إضمار ويكون المضمر هو مثل أي هذا مثل ابني في العطف والحنوّ، فلا يعتق العبد بهذا، والإضمار يساوي المجاز لأن كلا منهما يحتاج إلى قرينة فيكون اللفظ مجملا فلا يحمل على واحد من الأمرين حتى يدل عليه دليل، وقد رجح الأول وهو عتقه لمرجح آخر وهو أن الشارع يتشوّف إلى العتق.


( شرح النص )


وَالأَصحُّ أَنَّهُ ليسَ غالبًا على الحقيقةِ، ولا معتمدًا حيثُ تستحيلُ، وهُوَ والنَّقْلُ خلافُ الأصْلِ، وأَولى من الاشتراكِ، والتخصيصُ أولى منهما، والأَصحُّ أَنَّ الإضمارَ أولى مِنَ النقلِ، وأَنَّ المجازَ مساوٍ للإضمارِ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( وَالأَصحُّ أَنَّهُ ) أي المجاز ( ليسَ غالبًا على الحقيقةِ ) في اللغات بل الأكثر فيها هو الحقيقة، وقيل هو الغالب عليها في كل لغة ( و ) الأصح أن المجاز ( لا ) أي ليس ( معتمدًا ) أي معولا عليه في ترتب الأحكام ( حيثُ تستحيلُ ) الحقيقة، فاللفظ إنما يصار للمجاز فيه إذا أمكنت حقيقته لا إذا استحالت خلافا للإمام أبي حنيفة رحمه الله حيث قال فيما لو قال سيد لعبد أكبر منه سنا هذا ابني إنه يحمل على لازم البنوة وهو العتق فيعتق ذلك العبد بقول سيده هذا ابني صونا للكلام عن الإلغاء، وأجيب بأنه لا ضرورة في تصحيحه أصلا لأنه ليس من كلام الشارع بل هو من كلام آحاد الناس فلا يترتب عليه العتق ( وهُوَ ) أي المجاز ( والنَّقْلُ ) الحاصل بالحقيقة الشرعية والعرفية لأنهما منقولان كما هو معلوم من المعنى اللغوي ( خلافُ الأصْلِ ) الراجح فإذا احتمل لفظ معناه الحقيقي والمجازي فالأصل حمله على الحقيقي لعدم الحاجة فيه إلى قرينة، وإذا احتمل لفظ معناه المنقول عنه والمنقول إليه فالأصل حمله على المعنى المنقول عنه استصحابا للمعنى الموضوع له اللفظ أولا، مثالهما: رأيتُ أسدًا وصليتُ، أي رأيت حيوانا مفترسا ودعوت الله بالسلامة منه، ويحتمل أن المراد بالأسد الرجل الشجاع وبالصلاة الصلاة الشرعية وحمله على الحقيقة وعدم النقل هو الأولى ( و ) المجاز والنقل ( أَولى من الاشتراكِ ) فإذا أطلق لفظ يحتمل أن يراد به المجاز أو النقل كما يحتمل أن يكون مشتركا بين معنيين فالأولى حمله على المجاز أو النقل دون الاشتراك؛ كلفظ النكاح فإنه حقيقة في العقد على المرأة مجاز في الوطء عند قوم، وحقيقة مشتركة في كلا المعنيين عند آخرين، وحمله على المجاز أولى من الصيرورة إلى الإشتراك، وكلفظ الزكاة فإنه منقول إلى الزكاة الشرعية، ويحتمل أن يكون مشتركا بين المعنى اللغوي للزكاة وهو النماء والمعنى الشرعي وهو ما يُخرَج من المال، فحمله على النقل أولى ( والتخصيصُ أولى منهما ) أي من المجاز والنقل فإذا احتمل كلام أن يكون فيه تخصيص ومجاز، أو احتمل تخصيصا ونقلا، فالأولى حمله على التخصيص، كقوله تعالى: ولا تأكلوا مما لمْ يُذْكَرْ اسمُ اللهِ عليهِ فإنه يحتمل أن يكون نهيا عن أكل ما لم يُسَمَّ اللهُ عليه عند ذبحه، ويخصّ منه الناسي فيجوز أكل ذبيحته، ويحتمل أن يكون المقصود هو النهي عن الأكل عما لم يذبح أصلا، على اعتبار أن الذبح يقارن التسمية غالبا، فأطلقت التسمية وأريد بها الذبح مجازًا، فالمصير إلى التخصيص أولى، وكقوله تعالى وأَحلَّ اللهُ البيعَ فقيل: المراد بالبيع معناه اللغوي وهو المبادلة مطلقا ولكن خص منه الفاسد مما لم يستوف الشروط الشرعية، فيكون البيع في الآية عاما مخصوصا، وقيل هو منقول إلى المعنى الشرعي وهو البيع الصحيح المستجمع شروط الصحة، فهذا حمله على التخصيص أولى ( والأَصحُّ أَنَّ الإضمارَ أولى مِنَ النقلِ ) كقوله تعالى وَحرَّمَ الرِّبا فالربا في اللغة الزيادة وهي لا توصف بحل ولا حرمة فكان لا بد من تأويل في الآية فقيل هنالك إضمار والمعنى وحرمَ الله أخذ الزيادة، فالمضمر هو الأخذ، والربا المراد به معناه اللغوي، وقيل بل هو منقول إلى المعنى الشرعي وهو عقد الربا أي حرم الله عقد الربا، فالمصير إلى الإضمار أولى من النقل، وقيل إن النقل أولى من الإضمار ( و ) الأصح ( أَنَّ المجازَ مساوٍ للإضمارِ ) لأن كلا منهما يحتاج إلى قرينة فيكون اللفظ مجملا فلا يحمل على واحد من الأمرين حتى يدل عليه دليل مثل قول السيد لغلامه الأصغر منه سنا: هذا ابني، فإنه يحتمل أن يكون عبر عن العتق بالبنوة مجازا فيعتق العبد بهذا اللفظ، ويحتمل أن يكون في الكلام إضمار ويكون المضمر هو مثل أي هذا مثل ابني في العطف والحنوّ، فلا يعتق العبد بهذا، فظهر بذلك الفرق بين قوله لمن هو أكبر منه سنا هذا ابني، وبين قوله ذلك لمن هو أصغر منه سنا، فإنه في الصورة الأولى الحقيقة مستحيلة، بخلاف الثانية فإنها ممكنة وإذا أمكنت الحقيقة أمكن مراعاة المجاز، هذا وقيل: إن المجاز أولى من الإضمار، وقيل إن الإضمار أولى من المجاز.
تنبيهان: الأول: هذه الخمسة أعني: الاشتراك، والنقل، والمجاز، والإضمار، والتخصيص تعرف بأنها مخلّات الفهم لأن المتكلم حينما يستعملها يختل فهم السامع في مراد المتكلم فإنها جميعا خلاف الأصل فمثلا إذا استعمل اللفظ المشترك تحير في المراد من معنييه، فإذا تعارضت فيما بينها فهنالك عشر صور: تعارض الاشتراك مع النقل، تعارض الاشتراك مع المجاز، تعارض الاشتراك مع الإضمار، تعارض الاشتراك مع التخصيص، تعارض النقل مع المجاز، تعارض النقل مع الإضمار، تعارض النقل مع التخصيص، تعارض المجاز مع الإضمار، تعارض المجاز مع التخصيص، تعارض الإضمار مع التخصيص، والمصنف بين بعضها صراحة وبين بعضها بدلالة الالتزام بيانه: يؤخذ من سرد كلامه ما يلي: التخصيص أولى من المجاز والمجاز أولى من الاشتراك، فيكون التخصيص أولى من الاشتراك لأن الأولى من أولى من شيء هو أولى من ذلك الشيء، ويؤخذ من قوله إن المجاز مساو للإضمار أن التخصيص أولى من الإضمار لأنه إذا كان: أ أولى من ب، وب = ج، يكون أ أولى من ج، ويؤخذ من قوله الإضمار أولى من المجاز والمجاز أولى من الاشتراك أن الإضمار أولى من الاشتراك، ويؤخذ من قوله المجاز مساو للإضمار والإضمار أولى من النقل أن المجاز أولى من النقل لأنه إذا كان أ = ب، وب أولى من ج، يكون أ أولى من ج فتأمل.
الثاني: حينما يحصل تعارض بين هذه الأمور ونقول يقدم كذا على كذا أو أن كذا يساوي كذا يعني هذا أن هذه هي القاعدة العامة ولكن قد تخالف هذه القاعدة حيث وجد مرجح في بعض الصور والأمثلة، فمثلا: قد قالوا إن الإضمار مساو للمجاز ومع هذا رجحوا في قول السيد لغلامه الأصغر منه سنا هذا ابني، أنه يعتق وذلك لمرجح آخر وهو تشوف الشارع إلى العتق فافهم حتى لا تتعارض عليك القاعدة مع بعض الفروع الفقهية.


الموضوع الأصلي: http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=8#ixzz4Rb5EfxU3

تميم بن عليم
2016-12-09, 06:37 PM
الدرس الحادي والعشرون- مباحث الكتاب

أنواع المجاز


أولا: المجاز نوعان: مجاز في الإفراد، ومجاز في الإسناد، فالمجاز في الإفراد هو: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة، كالأسد للرجل الشجاع، والمجاز في الإسناد هو: إسناد الكلمة إلى غير من هي له، نحو: بنى الأميرُ المدينةَ، فالبنيان والأمير والمدينة مستعملات في معانيها الحقيقية، والمجاز هو في إسناد البناء إلى الأمير، والمعنى هو بنى العمال المدينة بأمره.
ثانيا: العلاقة في المجاز هي:
1- المشابهة، نحو رأيتُ أسدًا يحمل سيفه، أي رجلا شجاعا، والعلاقة بين الحيوان المفترس والرجل الشجاع هي المشابهة في الشجاعة أي الجرأة، ومن المشابهة قولنا: هذا زيدٌ لصورته على الورق؛ لأن الصورة تشبه الحقيقة، ويسمى هذا النوع- أي ما كانت علاقته المشابهة- عند علماء البلاغة بالاستعارة.
2- اعتبار ما سيكون ويسمى مجاز الأَوْل، مثل: ( إنّك ميّتٌ وإنهم ميتون ) أي ستموت ويموتون، وهذا سيكون قطعا، ومثل ( إني أراني أعصرُ خمرًا ) أي عصيرا سيكون خمرا ظنا، فهذا هو المعتبر لا ما يحتمل أن يكون احتمالا مرجوحا أو مساويا كإطلاق لفظ الحر على العبد باعتبار أنه سيعتق فيكون حرًا فلا يجوز.
3- اعتبار ما كان، مثل: ( وآتوا اليتامى أموالهم ) فمن المعلوم أنه يدفع إليهم أموالهم بعد بلوغهم الحلم، ولا يتم بعد حلم، فالمقصود وآتوا الذين كانوا يتامى أموالهم.
4- إطلاق الضد على ضده، كإطلاق المفازة على البرية المهلكة، تفاؤلا في الفوز بالنجاة منها.
5- المجاورة، مثل: جرى الميزابُ، أي جرى الماء المجاور للميزاب، والميزاب هو جزء من معدن ونحوه يثبت في أعلى السطح ينزل منه ماء المطر كي لا يتجمع الماء على السطح، ويسمى عندنا في العراق بالمرزيب.
6- الزيادة، مثل: ( ليسَ كمثله شيء ) أي ليس مثله شيء فالكاف زائدة للتوكيد.
7- النقصان، ويسمى مجاز الحذف مثل: ( واسأل القرية ) أي أهلها.
8- إطلاق السبب على المسبب، مثل: للأمير يد أي قدرة لأن اليد سبب القدرة.
9- إطلاق المسبب على السبب، مثل: أمطرت السماء نباتا أي ماء ينبت به النبات.
10- إطلاق الكل على الجزء، مثل: ( يجعلونَ أصابعهم في آذانهم ) أطلق الأصابع على الأنامل.
11- إطلاق الجزء على الكل، مثل: لفلان ألفُ رأس من الغنم أي هو يملك ألفا من الغنم لا رؤوسها فقط.
12- إطلاق المتعلِّق على المتعلَّق، كما في قوله تعالى: ( هذا خلقُ اللهِ ) أي مخلوقه، فأطلق الخلق وأراد المخلوق؛ لأن الخلق متعلِّق بالمخلوق؛ فإن المصدر كالخلق يتعلق باسم المفعول كالمخلوق، ويتعلق باسم الفاعل كتعلق العدل بالعادل في قولنا: زيدٌ عدلٌ أي عادل.
13- إطلاق المتعلَّق على المتعلِّق، كقولك: ما أسرعَ مكتوبَ زيدٍ! أي ما أسرع كتابته فأطلق المفعول وأريد المصدر.
14- إطلاق ما بالفعل على ما بالقوة، كإطلاق المسكر على الخمر، فإن الخمر مسكر بالقوة ولا يكون مسكرا بالفعل إلا بعد تناوله.
ثالثا: يشترط سماع العلاقة عن العرب لصحة التجوز، بمعنى أنه من المتفق عليه وجوب وجود العلاقة في المجاز كالمشابهة والمجاورة والسببية وغيرها مما سبق، فلا يجوز أن نقول: جرى الماء في الميزابِ مثلا إلا إذا سمعنا أنهم تجوزوا في المجاورة، ومن المتفق عليه كذلك عدم وجوب السماع في آحاد المجاز، ففي جرى الماء في الميزاب صح التجوز وإن لم نسمع أنهم تجوزوا فيه بذاته.
رابعا: المجاز يجري في المشتقات، كالأفعال فإنها مشتقات من مصادرها، مثل قوله تعالى: ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) أي سيأتي فعبر عن المستقبل بالماضي لتحققه.
خامسا: المجاز يجري في الحروف، مثل قوله تعالى: ( فهل ترى لهم من باقية ) أي ما ترى فعبر بالاستفهام عن النفي.
سادسا: المجاز لا يجري في الأعلام، سواء أكانت مرتجلة كسعاد أم منقولة كفضل وحارث؛ لأن الأعلام وضعت للتمييز بين الذوات، فمثلا الحارث هو الذي يحرث الأرض فإذا نقل وسمي به شخص لم يكن ذلك النقل من معناه الحقيقي إلى معناه العلَمي مجازًا.
سابعا: للمجاز علامات يعرف بها هي:
1- تبادر غيره إلى الفهم لولا وجود القرينة، فالمتبادر من قولك: رأيت أسدًا، أنك رأيت الحيوان المفترس المعروف، فإذا قلت رأيت أسدًا يرمي، فإن يرمي قرينة على التجوز، بخلاف الحقيقة فإنها تتبادر إلى الفهم بلا قرينة.
2- صحة نفيه، فإذا قلت عن بليد: هو حمار، صح أن تقول عنه: هو ليس بحمار، لأنه ليس بحيوان ناهق.
3- عدم وجوب الإطراد، بخلاف الحقيقة ففي ( واسألْ القرية ) أي أهلها، لا يصح أن نقول واسأل البساط أي أهله.
4- جمعه بخلاف جمع الحقيقة، فلفظ الأمر حقيقة في القول، مجاز في الفعل، وقد جمعوا الأول على أوامر لإرادة الحقيقة، وجمعوا الثاني على أمور لإرادة المجاز.
5- التزام تقييد اللفظ الدال عليه، كجناح الذل فالجناح يقصد به معناه المجازي فلزم تقييده إلى الذل، بخلاف الحقيقة فالمشترك مثل لفظ العين يقيد بالعين الجارية وقد لا يقيد.
6- توقفه على ذكر المسمى الآخر الحقيقي، مثل لو قيل لشخص: ماذا نطبخ لك ؟ فقال اطبخوا لي قميصا، أي خيطوا لي قميصا، فتجوز بالطبخ لمشاكلته للفظ الحقيقي الذي ذكر معه في الجملة، ولولا ذكره لما صح أن نتجوز بالطبخ عن الخياطة.
7- إطلاقه على المستحيل، مثل: واسأل القرية، فإن سؤال القرية مستحيل إذْ هي عبارة عن الأبنية المجتمعة.
فالمجاز يعرف بواحد من هذه الأمور، إن لم يعرف بهذا عُرِفَ بغيره، وليس المقصود أن لا بد من تحققها كلها في المجاز الواحد.


( شرح النص )

وَيكونُ بشَكْلٍ، وصِفَةٍ ظاهِرَةٍ، واعتبارِ ما يكونُ قطعًا أَو ظَنًّا، ومُضادَّةٍ، ومُجاوَرَةٍ، وزيادةٍ، ونقصٍ، وسَبَبٍ لمُسَبَّبٍ، وكُلٍّ لبعضٍ، ومُتَعَلِّقٍ لمُتَعَلَّقٍ، والعكوسِ، وما بالفعلِ على ما بالقُوَّةِ.
والأصحُّ أَنَّهُ يكونُ في الإسنادِ والمشتَقِّ والحرفِ لا العلَمِ، وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ سَمْعٌ في نوعِهِ، ويُعْرَفُ بتبادُرِ غيرِهِ لولا القرينةُ، وصِحَّةِ النَّفْيِ، وعَدَمِ لُزومِ الاطِّرَادِ، وجمعهِ على خلافِ جمعِ الحقيقةِ، والتزامِ تقييدِهِ، وتَوَقُّفِهِ على المسمَّى الآخَرِ، والإطلاقِ على المستحيلِ.
......................... ......................... ......................... ......................... ..
( وَيكونُ ) المجاز من حيث العلاقة ( بشَكْلٍ ) أي بالمشابهة في الشكل كالفرس لصورته المنقوشة على جدار مثلا ( وصِفَةٍ ظاهِرَةٍ ) كالأسد للرجل الشجاع دون الأبخر- وهو كريه رائحة الفم- لظهور الشجاعة دون البخر في الأسد، فالبخر للأسد صفة غير ظاهرة لكل أحد فلا يصح التجوّز فيها بإطلاق الأسد على الرجل الأبخر، هذا وقضية عطف الصفة على الشكل أنها نوع آخر وليس كذلك فإن المشابهة هي الاشتراك في صفة ظاهرة إما صفة معنوية كالشجاعة كما في إطلاق الأسد على الشجاع أو صفة محسوسة كالصورة والشكل كما في إطلاق الأسد على المنقوش على الجدار، فظهر أن الاشتراك في الشكل هو من قبيل الاشتراك في الصفة الظاهرة، وما كانت العلاقة فيه المشابهة يسمى استعارة عند البيانيين، ويسمى مجاز المشابهة عند الأصوليين اهـ ملخصا بتصرف من حاشية العطار على الجمع ( واعتبارِ ما يكونُ ) في المستقبل وذلك إما أن يكون ( قطعًا ) نحو إنك ميّت وإنهم ميتون ( أَو ظَنًّا ) كالخمر للعصير في قوله تعالى: إني أراني أعصرُ خمرًا، بخلاف ما يكون في المستقبل احتمالا مرجوحا أو مساويا فلا يجوز كتسمية العبد حرا، أما اعتبار ما كان في الماضي فقد ذكره المصنف في مبحث الاشتقاق عند قوله: والأصح أن يشترط بقاء المشتق منه في كون المشتق حقيقة ( ومُضادَّةٍ ) كالمفازة للبرية المهلكة ( ومُجاوَرَةٍ ) كالراوية لظرف الماء المعروف تسمية له باسم ما يحمله من جمل أو نحوه ( وزيادةٍ ) نحو ليس كمثله شيء فالكاف زائدة وإلا فهي بمعنى مثل فيكون المعنى ليسَ مثلَ مثلِ اللهِ شيءٌ فيكون له تعالى مثل وهو محال والقصد بالآية نفي المثل ( ونقصٍ ) نحو واسأل القرية أي أهلها ( وسَبَبٍ لمُسَبَّبٍ ) نحو للأمير يد أي قدرة، فاليد سبب، والقدرة مسبب، فذكر السبب وأريد به المسبب مجازًا ( وكُلٍّ لبعضٍ ) نحو يجعلون أصابعهم في آذانهم أي أناملهم ( ومُتَعَلِّقٍ ) بكسر اللام ( لمُتَعَلَّقٍ ) بفتح اللام نحو هذا خلق الله أي مخلوقه وهذه تسمى علاقة التعلق كتعلق الخلق بالمخلوق ( والعكوسِ ) للثلاثة الأخيرة أي مسبب لسبب كالموت للمرض الشديد لأنه سبب له عادة، وبعض لكل نحو فلان يملك ألف رأس من الغنم ، ومتعلَّق بفتح اللام لمتعلِّق بكسرها نحو قوله تعالى: بأيّكم المفتون، أي الفتنة بمعنى الجنون والمعنى هو بأيكم الجنون ؟ ( وما بالفعلِ على ما بالقُوَّةِ ) كالمسكر للخمر ( والأصحُّ أَنَّهُ ) أي مطلق المجاز ( يكونُ في الإسنادِ ) ويسمى المجاز الإسنادي والمجاز العقلي نحو بنى الأمير المدينةَ، وقيل لا وجود للمجاز في الإسناد بل هو راجع إلى المجاز في الكلمة إما في المسند وإما في المسند إليه، كأن يكون المقصود ببنى في المثال هو الأمر به، أو يكون المقصود بالأمير هم عماله ( و ) الأصح أن المجاز يكون في ( المشتَقِّ ) من المصدر كالفعل واسم الفاعل نحو ونادى أصحاب الجنة أي ينادي، وقيل لا يكون المجاز في المشتق إلا بعد جريانه في مصدره بمعنى أن المجاز يقع في المصدر أولا ثم يشتق منه المشتق ( و ) الأصح أن المجاز يكون في ( الحرفِ ) نحو فهل ترى لهم من باقية أي ما ترى ( لا ) في ( العلَمِ ) أي لا يكون المجاز فيه على الأصح، وقيل يكون ( وَ ) الأصح ( أَنَّهُ يُشْتَرَطُ سَمْعٌ في نوعِهِ ) أي نوع المجاز فلا يتجوز في نوع منه كالسبب للمسبب إلا إذا سمع من العرب صورة منه، وقيل لا يشترط سماع نوع العلاقة في كل نوع بل يكفي السماع في نوع لصحة التجوز في نوع آخر يشاكله فإذا سمعنا التجوز بالسبب عن المسبب جاز لنا أن نتجوز بعكسه أي بالمسبب عن السبب ( ويُعْرَفُ ) المجاز ( بتبادُرِ غيرِهِ ) منه إلى الفهم ( لولا القرينةُ ) بخلاف الحقيقة فإنها تعرف بالتبادر إلى الفهم بلا قرينة ( وصِحَّةِ النَّفْيِ ) للمعنى الحقيقي في الواقع كما في قولك للبليد هذا حمار فإنه يصح نفي الحمار عنه ( وعَدَمِ لُزومِ الاطِّرَادِ ) في اللفظ الذي يدل على المعنى المجازي كما في واسأل القرية أي أهلها ولا يقال واسأل البساط أي أهله، ولكن هنا إشكال ذكره العلامة العطار في حاشيته على الجمع وهو أنهم صرحوا بأن المعتبر في العلاقة المجازية نوعها لا آحادها فحينئذ لم لا يجوز الاطراد ونقول اسأل البساط أي أهله، واسأل السيارة أي صاحبها ( وجمعهِ ) أي جمع اللفظ الدال على المجاز ( على خلافِ ) صيغة ( جمعِ الحقيقةِ ) كالأمر بمعنى الفعل مجازًا يجمع على أمور بخلافه بمعنى القول حقيقة فيجمع على أوامر ( والتزامِ تقييدِهِ ) أي اللفظ الدال على المجاز كجناح الذل أي لين الجانب بخلاف المشترك من الحقيقة فإنه يقيد من غير التزام كالعين الجارية ( وتَوَقُّفِهِ ) في إطلاق اللفظ عليه ( على المسمَّى الآخَرِ ) الحقيقي ويسمى هذا في علم البديع بالمشاكلة وهي التعبير عن الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا نحو: ومكروا ومكر الله، أي جازاهم على مكرهم، أو تقديرا نحو: أفأمنوا مكر الله، أي مجازاته لهم على مكرهم إذْ التقدير أفأمنوا حين مكروا مكر الله، فإطلاق المكر على المجازاة على المكر مجاز متوقف على وجود المكر الحقيقي معه تحقيقا أو تقديرا، كذا مثل أهل الأصول، والمثال منتقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: وقد قيل: إن تسمية ذلك مكرًا وكيدًا واستهزاء وخداعًا من باب الاستعارة ومجاز المقابلة، وقيل - وهو أصوب-: بل تسمية ذلك حقيقة على بابه؛ فإن المكر: إيصال الشر إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان: قبيح وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه، وحسن وهو إيصاله إلى مستحقه عقوبة له، فالأول مذموم والثاني ممدوح، والرب إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلًا منه وحكمة اهـ باختصار، فإن قيل فهل يوصف الله بالمكر؟ قلنا: يوصف به مقيدا لا مطلقا فيقال: هو يمكر بمن يمكر بأوليائه.
( والإطلاقِ ) للفظ ( على المستحيلِ ) نحو واسأل القرية فاطلاق المسئول عليها مستحيل لأنها الأبنية المجتمعة، وإنما المسؤول أهلها.


الموضوع الأصلي: http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=8#ixzz4SM74YSQ5

تميم بن عليم
2016-12-09, 06:37 PM
الدرس الثاني والعشرون- مباحث الكتاب

المُعَرَّب- مسائل متفرقة في الحقيقة والمجاز- الكناية والتعريض


أولا: المُعَرَّبُ هو: لفظٌ غيرُ عربيّ استعملته العرب في كلامها في المعنى الذي وُضِع له في غير لغتهم بعد تغيير ما لا ينطبق على قواعدهم وحروفهم.
فلا يخفى أننا اليوم نستعمل ألفاظا كثيرة من الإنجليزية وغيرها، وكذلك الحال مع العرب الأوائل ربما استعلموا كلمات هي غير عربية الأصل وعدّلوا فيها قليلا لكي تتلائم مع قانون لغتهم وهذا هو المعرّب نحو الفَيْرُوز اسم لحجر نفيس.
وقد اختلف العلماء في وقوع المعرّب في القرآن الكريم فقال فريق من العلماء: يوجد فيه نحو لفظة المشكاة فهي حبشية وقيل هندية، والسجّيل فهي فارسية، والقسطاس وهي رومية، وقال الأكثرون لم يقع المعرب في القرآن الكريم لأن الله تعالى قال: ( إنّا أنزلناه قرآنا عربيا ) وأجابوا عن تلك الألفاظ بأنها مما اتفقت فيه اللغات، وتكون تلك الألفاظ نظير التنور والصابون ونحوهما مما استعملت في أكثر من لغة فهي عربية للعرب وغير عربية لغيرهم.
والخلاف في غير الأعلام فإنها واقعة في القرآن الكريم اتفاقا إذْ لا بد عند التحدث عن الأشخاص والأماكن من ذكر أسمائها كإبراهيم وإسماعيل وموسى.
ثانيا: اللفظ المستعمل إما حقيقة فقط كالأسد للحيوان المفترس، أو مجاز فقط كالأسد للحيوان المفترس، وقد يكون نفس المعنى حقيقة ومجازًا باعتبارين، كأن يكون موضوعا في اللغة لمعنى عام ثم يخصه الشرع أو العرف بنوع من ذلك العام، كالصوم فإنه لغة مطلق الإمساك، ثم خصّه الشرع بالإمساك المخصوص في الوقت المخصوص، فالصوم إذا استعمل في مطلق الإمساك فهو حقيقة لغوية مجاز شرعي، وإذا استعمل في الإمساك المخصوص فهو مجاز لغوي حقيقة شرعية، وكالدابة فإنها لغة لكل ما يدب على الأرض، ثم خصّها العرف العام لذوات الأربع، فاستعمالها في معناها العام حقيقة لغوية مجاز عرفي، واستعمالها في معناها الخاص حقيقة عرفية مجاز لغوي.
واللفظ قبل الاستعمال ليس حقيقة ولا مجازا إذْ لا يقال على لفظ هو حقيقة إلا إذا استعمل فيما وضع له أولا، ولا مجاز إلا إذا استعمل فيما وضع له ثانيا، فالاستعمال قيد مأخوذ في تعريفيهما، فإذا انتفى انتفيا.
ثالثا: الكلام يحمل على عرف المتكلم دائما، فإذا ورد لفظٌ في كلام أهل اللغة حمل على المعنى اللغوي لأنه عرفه، وإذا ورد في العرف العام أو الخاص حمل على المعنى العرفي لأنه عرفه، وإذا ورد في الشرع حُمِلَ على المعنى الشرعي؛ لأنه عرفه، فإذا لم يكن لذلك اللفظ معنى شرعي حمل على المعنى العرفي؛ لأنه الذي تعارف الناس عليه، فإن لم يكن له معنى شرعي ولا عرفي حمل على المعنى اللغوي.
رابعا: إذا تعارض المجاز والحقيقة يؤخذ بالحقيقة لأنها هي الأصل، لكن إذا كان المجاز راجحا استعماله وتعارض مع الحقيقة المرجوحة وذلك بأن يكون الغالب في استعمال اللفظ هو المجاز فهل نقدم الحقيقة نظرا لأنها الأصل، أو نقدم المجاز نظرا لأنه هو الغالب في الاستعمال؟ أقوال، فقيل يقدم الحقيقة، وقيل يقدم المجاز، وقيل هما متساويان فلا يحمل على أحدهما إلا بقرينة، ومثلوا لذلك: بما لو حلف شخص لا يشرب من هذا النهر، فالشرب حقيقته هو الكرع بالفم مباشرة كما يفعل كثير من الرعاء، ولكن المجاز الغالب أن يغترف بشيء كالإناء فيشرب منه، فلو اغترف فشرب، فقيل: لا يحنث لأنه لم يشرب حملا للشرب على معناه الحقيقي، وقيل يحنث لأن هذا هو الغالب في الاستعمال، وقيل لا يحنث بواحد منهما فإن فعلهما معا حنث يقينا.
أما إذا كانت الحقيقة مهجورة فالأخذ بالمجاز متفق عليه، مثاله: أن يحلف شخص لا يأكل من هذه النخلة، فالمعنى الحقيقي هو أن يأكل من جذعها أو سعفها، ولكن هذا المعنى مهجور والمفهوم هو الأكل من تمرها فلو أكل من سعفها مثلا فلا يحنث، بخلاف ما لو أكل من تمرها.
خامسا: إذا ثبت حكم بالإجماع وكان هنالك نص شرعي يحتمل الحقيقة والمجاز يصلح بحمله على المجاز أن يكون مستند ذلك الإجماع فلا يدل ذلك على أن المراد من النص الشرعي هو ذلك المعنى المجازي بل يبقى اللفظ على حقيقته.
مثال: ثبت بالإجماع وجوب التيمم على الجنب الفاقد للماء، وقال الله تعالى: ( .. أو لامستم النساءَ فلم تجدوا ماءً فتيمّموا ) والملامسة حقيقة في الجسّ باليد، مجاز في الجماع، فإذا قلنا: إن الملامسة الواردة في الآية المقصود بها هو معناها المجازي وهو الجماع، تكون الآية مستندًا للإجماع المذكور، ولا تبقى دالة على الجس باليد فلا يستدل بها على نقض الوضوء بذلك.
وإذا قلنا: إن ذلك لا يستلزم حمل النص على مجازه لجواز أن يكون مستند الإجماع المذكور لم ينقل إلينا اكتفاءً بالإجماع وليس تلك الآية، فعلى هذا تبقى الآية دليلًا على نقض الوضوء بالملامسة أي تبقى الملامسة على معناها الحقيقي.
ثم إذا قامت قرينة على أن الملامسة في الآية يراد بها معناها الحقيقي والمجازي معا كما قال الإمام الشافعي حملا للفظ على حقيقته ومجازه فحينئذ تكون الآية مستند الإجماع كما أنها مستند نقض الوضوء بالجس باليد، وإن لم تقم قرينة فإن الآية تبقى على حقيقتها.
سادسا: الكناية: اللفظ المستعمل في معناه الحقيقي لينتقل منه إلى لازمه، مثل قولك: زيدٌ طويلُ النِّجادِ، أي طويلٌ القامة، والنجاد حمائل السيف التي يعلق بها السيف وتلبس، فإذا كان النجاد طويلا فيلزم منه أن صاحبه طويل، فطويل النجاد مستعمل في معناه الحقيقي وهو طول حمالة السيف لكن لا لذاته بل لأجل أن ينتقل منه إلى لازمه وهو طول صاحبه.
هذا والمشهور أن الكناية من الحقيقة، والحقيقة صريحة نحو زيدٌ طويلٌ وغير صريحة نحو زيدٌ طويل النِّجادِ، وقيل إن الكناية من المجاز، وقيل إن الكناية قسم ثالث فلا هي حقيقة ولا هي مجاز.
سابعًا: التعريضُ: لفظٌ مستعمل في معناه ليشار به إلى معنى آخر يفهم من السياق، مثل قولك لمن علمتَ منه عقوق الوالدين: إنني بارّ بوالديّ، تريد أن تعرّض به، فقولك إنني بار بوالدي يفيد في اللغة معناه الموضوع له وهو أنك تحسن إلى والديك ولكن ذكره في ذلك المقام للإشارة والتلويح به إلى أن صاحبك ليس ببار بوالديه، فالمعنى التعريضي لم يستفد من اللفظ كما هو الحال في الكناية بل فهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال.


( شرح النص )

مسأَلَةٌ: المُعَرَّبُ: لفظٌ غيرُ عَلَمٍ استعملتْهُ العربُ فيما وُضِعَ لهُ في غيرِ لغتِهِمْ، والأَصحُّ أَنَّهُ ليسَ في القرآنِ.
مسأَلَةٌ: اللفظُ حقيقةٌ أَو مجازٌ أَو هما باعتبارينِ، وهما منتفيانِ قبلَ الاستعمالِ، ثُمَّ هوَ محمولٌ على عُرْفِ المخاطِبِ، ففي الشَّرْعِ الشَّرْعِيُّ، فالعُرفِيُّ، فاللغَوِيُّ في الأصحِّ، والأَصحُّ أَنه إذا تعارضَ مجازٌ راجِحٌ وحقيقةٌ مرجوحَةٌ تساوَيَا، وَأَنَّ ثُبُوتَ حكْمٍ يمكِنُ كونُهُ مرادًا مِنْ خِطابٍ لَكِنْ مجازًا لا يدلُّ على أَنَّهُ المرادُ منهُ فيبقى الخِطابُ على حقيقَتِهِ.
مسَأَلَةٌ: اللفظُ إِنْ استُعْمِلَ في معناهُ الحقيقيِّ للانتقالِ إلى لازِمِهِ فكِنايَةٌ فهي حقيقةٌ، أَو مطلقًا للتلويحِ بغيرِ معناهُ فتَعْرِيضٌ فهوَ حقيقةٌ ومجازٌ وكِنايةٌ.
......................... ......................... ......................... ......................... ........
( مسأَلَةٌ المُعَرَّبُ: لفظٌ غيرُ عَلَمٍ ) احترز به عن العلم الأعجمي الذي استعملته العرب نحو إبراهيم وإسماعيل فهو لا يسمى معرّبا، وقيل يسمى معربا وهو أقرب ( استعملتْهُ العربُ فيما ) أي في معنى ( وُضِعَ لهُ في غيرِ لغتِهِمْ ) قيد احترز به عن الحقيقة والمجاز فإن كلا منهما استعملته العرب فيما وضع له في لغتهم ( والأَصحُّ أَنَّهُ ) أي المعرّب ( ليسَ ) واقعا ( في القرآنِ ) وإلا لاشتمل على غير عربي فلا يكون كله عربيا وقد قال تعالى: إنّا أنزلنا قرآنا عربيا، وقيل إنه فيه كاستبرق كلمة فارسية للديباج الغليظ وهو نوع من أنواع الحرير، والقسطاس كلمة رومية للميزان، وأجيب بأن هذه الألفاظ ونحوها اتفق فيها لغة العرب ولغة غيرهم ( مسأَلَةٌ اللفظُ ) المستعمل في معنى إما ( حقيقةٌ ) فقط كالأسد للحيوان المفترس المعروف ( أَو مجازٌ ) فقط كالأسد للرجل الشجاع ( أَو هما ) حقيقة ومجاز ( باعتبارينِ ) أي بوضعين لواضعين كأن وضع لغة لمعنى عام ثم خصّه الشرع أو العرف العام أو العرف الخاص بنوع منه، كالصوم وضع في اللغة لمطلق الإمساك، ثم خصّه الشرع بالإمساك المعروف، وكالدابة وضعت في اللغة لكل ما يدب على الأرض ثم خصها العرف العام بذوات الأربع، وكالفاعل وضع في اللغة لكل مَن فعل شيئا ثم خصّه أهل النحو بالاسم المعروف، ويمتنع أن يكون اللفظ حقيقة ومجازًا باعتبار واحد للتنافي بين الوضع أولا والوضع ثانيا ( وهما ) أي الحقيقة والمجاز ( منتفيانِ ) عن اللفظ ( قبلَ الاستعمالِ ) لأن الاستعمال مأخوذ في حدّ الحقيقة والمجاز فإذا انتفى انتفيا ( ثُمَّ هوَ ) أي اللفظ ( محمولٌ على عُرْفِ المخاطِبِ ) أي على اصطلاحه ووضعه ( ففي ) خطاب ( الشَّرْعِ ) الذي يحمل عليه هو المعنى ( الشَّرْعِيُّ، فالعُرفِيُّ، فاللغَوِيُّ في الأصحِّ ) وقيل الذي يحمل عليه هو المعنى الشرعي في حالة الإثبات أما في حالة النهي فالذي يحمل عليه اللفظ هو المعنى اللغوي عند الإمام الآمدي، ويصير اللفظ مجملا عند الإمام الغزالي، فإذا قيل لا تصم يوم كذا، فعلى الأصح يحمل الصوم على معناه الشرعي، وعند الآمدي على المعنى اللغوي الذي هو مطلق الإمساك، وعند الغزالي يكون اللفظ مجملا يحتاج إلى بيان ( والأَصحُّ أَنه إذا تعارضَ مجازٌ راجِحٌ وحقيقةٌ مرجوحَةٌ ) بأن كان استعمال المجاز هو الغالب في الاستعمال ( تساوَيَا ) فلا يقدم أحدهما على الآخر بل يحتاج إلى قرينة، وذلك لرجحان كل منهما من وجه فإن الحقيقة رجحت بحسب الأصل وضعفت بقلة الاستعمال، ورجح المجاز لغلبة الاستعمال وضعف لأنه خلاف الأصل، فيتعادلان، وقيل يقدم الحقيقة المرجوحة، وقيل يقدم المجاز الراجح ( وَ ) الأصح ( أَنَّ ثُبُوتَ حكْمٍ ) بالإجماع ( يمكِنُ كونُهُ ) أي الحكم ( مرادًا مِنْ خِطابٍ ) له حقيقة ومجاز ( لَكِنْ مجازًا ) أي لكن الخطاب إنما يدل على حكم الإجماع إذا حمل على المعنى المجازي دون الحقيقي ( لا يدلُّ ) ذلك الثبوت ( على أَنَّهُ ) أي الحكم المذكور هو ( المرادُ منهُ ) أي من الخطاب ( فيبقى الخِطابُ على حقيقَتِهِ ) لعدم وجود الصارف عنه، وقال جماعة: إنه يدل عليه فلا يبقى الخطاب على حقيقته لأنه لم يظهر للاجماع مستند غيره، مثاله وجوب التيمم على المجامع الفاقد للماء اجماعا يمكن كونه مرادا من آية أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا، بحمل الملامسة على المعنى المجازي لأنها حقيقة في الجس باليد مجاز في الجماع، فقالوا المراد من الملامسة هو الجماع فتكون الآية مستند الإجماع إذْ لا مستند غيرها وإلا لذكر، فلا تدل الآية على أن اللمس ينقض الوضوء، قلنا: يجوز أن يكون المستند غيرها واستغنى عن ذكره بذكر الإجماع فاللمس فيها على حقيقته فتدل على نقضه الوضوء ( مسَأَلَةٌ اللفظُ إِنْ استُعْمِلَ في معناهُ الحقيقيِّ ) لا لذاته بل ( للانتقالِ ) منه ( إلى لازِمِهِ فـ ) هو ( كِنايَةٌ ) نحو زيدٌ طويلُ النِّجادِ مرادًا به طويل القامة ( فهي ) أي الكناية ( حقيقةٌ ) غير صريحة، وقيل مجاز، وقيل واسطة بينهما ( أَو ) استعمل اللفظ في معناه ( مطلقًا ) أي الحقيقي والمجازي والكنائي ( للتلويحِ ) أي الإشارة ( بغيرِ معناهُ فَـ ) هو ( تَعْرِيضٌ ) فالتعريض هو اللفظ المستعمل في معناه الحقيقي أو المجازي أو الكنائي للتلويح به بغير معناه ( فهوَ ) أي التعريض ثلاثة أقسام ( حقيقةٌ ومجازٌ وكِنايةٌ ) وحاصله أنه يوجد عندنا في التعريض شيئان: المعنى الأصلي الموضوع له اللفظ، والمعنى التعريضي المراد الإشارة إليه، والمعنى الأصلي قد يكون حقيقة صريحة نحو: إني بارّ بوالدي، للتعريض بعاقّ، فهذا القول حقيقة أما المعنى التعريضي فلا يوصف بحقيقة ولا مجاز لأنه لم يفده اللفظ وإنما أفاده سياق الكلام، وقد يكون مجازًا كقولك: إنيّ أخفض جناح الذل لوالديّ للتعريض بعاقّ أيضا، فهذا القول مجاز والمعنى التعريضي لا يوصف بحقيقة ولا مجاز كما تقدم، وقد يكون كناية كقولك: إني أمسح التراب عن أقدام والديّ للتعريض بعاق أيضا، فهذا القول كناية عن البر، أما المعنى التعريضي فلا يوصف بكونه حقيقة أو مجازا أو كناية فافهم.


الموضوع الأصلي: http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=9#ixzz4SM7EuEbu

تميم بن عليم
2016-12-09, 06:38 PM
الدرس الثالث والعشرون- مباحث الكتاب

الحروف


الأول: إذَنْ: وتكتب بالنون، وتكتب بالألف إذًا، وهي حرف جواب وجزاء؛ لأن الكلام الذي تدخله يكون جوابا وجزاءً لمضمون كلام آخر، فإذا قال لك شخص: سأساعِدُكَ، فقلتَ له: إِذَنْ أُكرمَكَ، كان قولك هذا جوابا لقول ذلك الشخص، وجزاءً لوعده بالمساعدة، وكون ( إذن ) للجواب والجزاء هو ما قاله سيبويهِ، ولم يذكر هل هي للجواب والجزاء دائما، فقال أبو علي الشَّلَوْبِينُ: هي لهما دائما، وقال أبو علي الفارسي: هي لذلك غالبا، وقد تتمحض للجواب كما لو قال لك شخص: أحبُّكَ، فقلتَ له: إذن أَظُنُّكَ صادِقًا، كانَ ذلك جوابا لا جزاء فيه.
الثاني: إِنْ وترد لمعان:
1- الشرط كما في قوله تعالى: ( إِنْ ينتهُوا يُغفرْ لهم ما قدْ سلفَ ).
2- النفي كما في قوله تعالى: ( إنِ الكافرونَ إلا في غُرور ) أي ما.
3- التوكيد وهي التي تكون زائدة، وأكثر زيادتها بعد ما النافية، مثل: ما إنْ زيدٌ قائمٌ، أي ما زيدٌ قائمٌ.
الثالث: أَوْ العاطفة وترد لمعان:
1- الشك من المتكلم، مثل: ( قالوا لبثنا يومًا أو بعضَ يومٍ ).
2- الإبهام على السامع، مثل: ( أَتاها أَمْرُنا ليلًا أَو نهارًا ) أي أن المتكلم يعلم الزمن المعين ولكن أراد إخفاءه على السامع.
3- التخيير إذا وقعت بعد طلب، مثل: تزوّج هندًا أو اختَها.
4- مطلق الجمع أي تكون كالواو، كما في قول توبةَ بنِ الحُمَيِّرِ: وقدْ زعمتْ ليلى بأني فاجرٌ.. لنفسي تُقاها أو عليها فجورها، أي و عليها فجورها.
5- للتقسيم، مثل: الكلمة اسمٌ أو فعلٌ أو حرفٌ.
6- بمعنى إلى، مثل: لأَلزمَنَّكَ أَو تقضيَني حقي، أي إلى أن تقضيني.
7- الاضراب كبَلْ، مثل: ( وأرسلناه إلى مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ ) أي بل يزيدون.
الرابع: أَيْ، وتأتي على وجهين:
1- للتفسير، تقول: عندي عَسْجَدٌ، أي ذهبٌ.
2- لنداء البعيد، مثل: أَيْ بُنَيَّ قمْ بواجبِكَ.
الخامس: أَيٌّ، وترد لمعان:
1- الشرط، مثل: أَيُّ خيرٍ تفعلْهُ ينفعْكَ.
2- الاستفهام، مثل: ( أَيُّكمْ يأتيني بعرشِها ؟).
3- موصولة، مثل: ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كلِّ شِيعَةٍ أَيُّهمْ أَشدُّ ) أي الذي هو أشدُّ.
4- دالة على معنى الكمال، مثل: مررتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ، أي كامل في صفات الرجولية.
5- وصْلَة لنداء ما فيه أل، مثل: يا أيّها الرجلُ، يا أيّها الناسُ، قولنا: وصلة: أي وسيلة لأنه لا يجوز الجمع بين يا وأل على التوالي فتوصل لذلك بأيّ، والهاء حرف للتنبيه.
السادس: إِذْ، وتكون اسما وفعلا على ما يلي:
1- تقع ظرف زمان للماضي، وهذا هو الغالب فيها، كما في قوله تعالى: ( فقدْ نَصَرَهُ اللهُ إذْ أَخرجَهُ الذينَ كَفروا ) أي وقت إخراجهم له.
2- تقع مفعولا به، كما في قوله تعالى: ( واذكروا إذْ كنتم قليلًا فكثّركم ) أي اذكروا وقتَ كونكم قليلا.
3- تقع بدلا من المفعول به، مثل: ( اذكروا نعمةَ اللهِ عليكم إذْ جعلَ فيكم أنبياءَ ) فإذْ في محل نصب على البدلية من نعمة، أي اذكروا النعمة التي هي الجعل المذكور.
4- تقع مضافا إليه، مثل: ( ربَّنا لا تُزِغْ قلوبَنا بعدَ إذْ هديتَنا ) فبعدُ مضاف، وإذْ في محل جر مضاف إليه.
5- تقع ظرفا للمستقبل، مثل: ( فسوفَ يعلمونَ إذْ الأغلالُ في أعناقِهمْ ) أي وقت تكون الأغلال، وذلك يوم القيامة.
6- ترد حرفا للتعليل، مثل: ضربتُ الغلامَ إذْ أساءَ أي لإساءَتِه.
7- ترد حرفا للمفاجأة، وهي الواقعة بعد بينما أو بينا، تقول: بينما أو بينا أنا واقفٌ إذْ هجمَ أسدٌ.
السابع: إذا، وترد على وجهين:
1- للمفاجأة، وتقع بين جملتين ثانيتهما اسمية، مثل: خرجتُ فإذا المطرُ نازلٌ، وهي في هذا المعنى حرف.
2- ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط غالبا، مثل: ( إذا جاءَ نصرُ اللهِ والفتحُ )، وقد لا تتضمن معنى الشرط بل تتمحض للظرفية نحو: آتيكَ إذا انتصفَ النهارُ أي وقت انتصافه.
أما مجيئها للزمان الماضي فنادر، قالوا ومنه قوله تعالى: ( وإذا رأوا تجارةً أو لهوا انفضُّوا إليها ) ويدل على أنها للماضي أنها نزلت بعد الرؤية والانفضاض.
وكذلك ندر مجيئها للحال نحو ( والليل إذا يغشى ) فإن الغشيان مقارن لليل، ولا شرط هنا، والمعنى اقسم بالليل حال كونه وقت الغشيان.


( شرح النص )


الحروفُ


إذَنْ للجوابِ والجزاءِ قيلَ دائمًا، وقيلَ غالبًا، وإنْ للشرطِ وللنفيِ وللتوكيدِ، وأَوْ للشكِّ وللإبهامِ وللتخييرِ ولمطلقِ الجمعِ وللتقسيمِ وبمعنى إلى وللإضرابِ، وأَيْ بالفتحِ والتخفيفِ للتفسيرِ ولنداءِ البعيدِ في الأصحِّ، وبالتشديدِ للشرطِ وللاستفهامِ وموصولةً ودالّةً على كمالٍ ووُصْلَةً لنداءِ ما فيهِ أَلْ، وإِذْ للماضي ظرفًا ومفعولًا به وبَدَلًا مِنْهُ ومضافًا إليها اسمُ زمانٍ، وكذا للمستقبلِ وللتعليلِ حرفًا وللمُفاجَأَةِ كذلكَ في الأَصَحِّ، وإِذا للمُفاجأَةِ حرفًا في الأَصحِّ، وللمستقبلِ ظرفًا مُضَمَّنَةً معنى الشرطِ غالبًا وللماضي والحالِ نادرًا.
......................... ......................... ......................... ......................... .....
قال الشيخ العلامة عبد الكريم الدَّبَان رحمه الله في شرحه على جمع الجوامع: جرت عادة بعض الأصوليين أن يبحثوا في الحروف والأسماء التي ترد في الأدلة كثيرا، وعلى قدر ما يتعلق بذلك، ولم يستقصوا في سردها ولا في معانيها؛ لأن لذلك علمًا خاصا به. وقد بحث ابن الحاجب في الواو العاطفة دون غيرها. أما المصنف- صاحب الجمع- فقد أكثر منها واستقصى معاني بعضها مما لا يلائم مثل مختصره. وأورد مع الحروف بعض الأسماء وأطلق الحروف على الكل تغليبا للحروف. اهـ ( الحروفُ ) أي هذا مبحث الحروف التي يحتاج الفقيه إلى معرفة معانيها، أَحدها ( إذَنْ ) من نواصب المضارع ( للجوابِ والجزاءِ قيلَ دائمًا، وقيلَ غالبًا ) وقد تتمحض للجواب، فإذا قلت لمن قال أزورُكَ: إذَنْ أُكرمَكَ، فقد أجبته وجعلت إكرامك له جزاءً لزيارته أي إن زرتني أكرمتك، وإذا قلتَ لمن قالَ أُحِبُّكَ: إذَنْ أُصَدِّقُكَ، فقد أجبته فقط على القول الثاني القائل بأنها للغالب، والمضارع حينئذ يرفع لانتفاء استقباله المشترط في نصبه ( و ) الثاني ( إنْ للشرط ) وهو تعليق أمر على آخر نحو: إِنْ ينتهوا يُغفرْ لهم ما قد سلف ( وللنفيِ ) نحو إنْ أَردنا إلا الحسنى أي ما ( وللتوكيدِ ) وهي الزائدة نحو: ما إنْ زيدٌ قائمٌ، وما إِنْ رأيتُ زيدًا ( و ) الثالث ( أَوْ ) من حروف العطف ( للشكِّ ) من المتكلم نحو: قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم ( وللإبهامِ ) على السامع نحو: أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ( وللتخييرِ ) بين المتعاطفين سواء امتنع الجمع بينهما نحو: خذْ من مالي درهما أو دينارًا، أَم جازَ نحو: جالسْ العلماءَ أو الزهّادَ، وقصر ابن مالك وغيره التخيير على الأول وسموا الثاني بالإباحة ( ولمطلقِ الجمعِ ) كالواو نحو: وقدْ زعمَتْ ليلى بأنيّ فاجرٌ.. لنفسي تقاها أَو عليها فجورُها، أي وعليها ( وللتقسيمِ ) نحو: الكلمة اسمٌ أو فعلٌ أو حرفٌ ( وبمعنى إلى ) فينصب بعدها المضارع بأن مضمرة نحو لألزمنّك أو تقضيَني حقّي، أي إلى إن تقضينيه ( وللإضرابِ ) كبل نحو: وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، أي بل يزيدون أخبر عنهم أولا بأنهم مائة ألف نظرا لغلط الناس مع علمه تعالى بأنهم يزيدون عليها، ثم أخبر عنهم ثانيا بأنهم يزيدون نظرا للواقع ضاربا عن غلط الناس، وما ذكر من أنّ أَوْ للمعاني المذكورات هو مذهب المتأخرين، وأما مذهب المتقدمين فهي لأحد الشيئين أو الأشياء وغيره إنما يفهم بالقرائن، وقال ابن هشام والسعد التفتازاني إنه التحقيق ( و ) الرابع ( أَيْ بالفتحِ والتخفيفِ ) أي فتح الهمزة وتخفيف الياء أي عدم تشديدها ( للتفسيرِ ) إما تفسير مفرد بمفرد نحو: عندي عسْجَدٌ أي ذهبٌ، وإعرابه بدل أو عطف بيان، أو تفسير جملة بجملة نحو: وترمينني بالطرف أي أنتَ مذنبٌ، فأنت مذنب تفسير لسبب رميها بالطرف ونظرها إليه نظرة غضب ( ولنداءِ البعيدِ ) نحو أَيْ زيدُ أقبلْ، فإن نودي بها القريب كان مجازًا ( في الأصحِّ ) وقيل هي لنداء القريب، وقيل لنداء المتوسط ( و ) الخامس أي بالفتح للهمزة و ( بالتشديدِ ) للياء اسم ( للشرطِ ) نحو: أيما الأجلينِ قضيتُ فلا عدوانَ عليّ ( وللاستفهامِ ) نحو: أَيّكم زادته هذه إيمانا ( و ) تأتي ( موصولةً ) بمعنى الذي نحو لننزعنّ من كل شيعة أيهم أشدُّ، أي الذي هو أشد ( ودالّةً على كمالٍ ) بأن تأتي صفة لنكرة أو حالا من معرفة نحو: مررتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ، أي كامل في صفات الرجولية، ومررتُ بزيدٍ أيَّ رجلٍ، أي كاملا في صفات الرجولية ( ووُصْلَةً ) أي وسيلة ( لنداءِ ما فيهِ أَلْ ) نحو يا أيّها الرسولُ، أما إِي بالكسر فحرف جواب بمعنى نعم ولا يجاب بها إلا مع القسم نحو ويستنبئونكَ أحقّ هو قل إِي وربّي، وتركت لقلة احتياج الفقيه إليها ( و ) السادس ( إِذْ ) اسم ( للماضي ظرفًا ) وهو الغالب نحو: فقد نَصَرَهُ الله إذْ أخرجه الذين كفروا، أي وقت إخراجهم له ( ومفعولًا به ) نحو واذكروا إذْ كنتم قليلا فكثّركم، أي اذكروا وقت كونكم قليلا ( وبَدَلًا مِنْهُ ) من المفعول به نحو اذكروا نعمة الله عليكم إذْ جعلَ فيكم أنبياءَ، أي اذكروا النعمةَ التي هي الجعل المذكور ( ومضافًا إليها اسمُ زمانٍ ) نحو يومئذٍ ( وكذا للمستقبلِ ) ظرفا في الأصح نحو: فسوفَ يعلمونَ إذْ الأغلالُ في أعناقهم، وقيل ليست للمستقبل واستعمالها في هذه الآية لتحقق وقوعه كالماضي في قوله تعالى: أتى أمرُ الله ( وللتعليلِ حرفًا ) في الأصح كلام التعليل، نحو ضربتُ زيدًا إذْ أساءَ أي لإساءته، وقيل هي ظرف بمعنى وقت والتعليل مستفاد من قوة الكلام ففي قولنا ضربت زيدًا إذْ أساءَ التقدير وقت إساءته ( وللمُفاجَأَةِ ) بأن يكون بعد بينا أو بينما نحو: بينا أو بينما أنا واقف إذْ جاءَ زيدٌ ( كذلكَ ) أي حرفا ( في الأَصَحِّ ) وقيل ظرف مكان، وقيل ظرف زمان ( و ) السابع ( إِذا للمُفاجأَةِ ) بأن تكون بين جملتين ثانيتهما اسمية ( حرفًا في الأَصحِّ ) لأن المفاجأة معنى من المعاني كالاستفهام والنفي والأصل فيها أن تؤدى بالحروف، وقيل ظرف مكان، وقيل ظرف زمان، نحو: خرجتُ فإذا زيدٌ واقفٌ ( وللمستقبلِ ظرفًا مُضَمَّنَةً معنى الشرطِ غالبًا ) فيجاب بما يجاب به الشرط نحو إذا جاءَ نصر الله والفتح.. الآية، وقد لا تضمن معنى الشرط نحو آتيك إذا احمّر البسر أي وقت احمراره، والبسر هو التمر قبل أن يرطب ( وللماضي والحالِ نادرًا ) نحو: وإذا رأوا تجارة.. الآية فإنها نزلت بعد الرؤية والانفضاض، ونحو والليلِ إذا يغشى، إذْ غشيانه أي طمسه آثار النهار مقارن لليل.


الموضوع الأصلي: http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=9#ixzz4SM7Lssfr

تميم بن عليم
2016-12-09, 06:39 PM
الدرس الرابع والعشرون- مباحث الكتاب

تكملة الحروف


الثامن: الباء، ولها ثلاثة عشر معنى هي:
1- الإلصاق وهو : إيصال شيء بآخر بجعله مماسا له، مثل: أمسكتُ بيدك، ومثل: بزيدٍ داءٌ، فإن الداء مخالط له، وهذا هو الإلصاق الحقيقي، وأما الإلصاق المجازي فبأن لا تحصل مماسة حقيقية لمدخول الباء، نحو: مررتُ بزيدٍ، أي بمكان يقرب منه إذ المرور لم يلصق بزيد.
2- التعدية: بأن تتضمن الباء معنى التصيير والجعل، نحو ذهبَ زيدٌ، فإذا دخلت الباء وقلنا: ذهبتُ بزيدٍ، كان المعنى صيرته وجعلته ذاهبا، فهي كالهمزة في تصيير الفاعل مفعولا كقولك: أذهبتُ زيدًا، وتسمى باء النقل أيضا.
3- السببية: وهي الداخلة على سبب الفعل وعلته التي من أجلها حصل، نحو: ماتَ بالجوعِ، أي بسببه، ومن السببية الاستعانة بأن تدخل الباء على المستعان به - أي الواسطة في حصول الفعل- نحو: كتبتُ بالقلمِ.
4- المصاحبة: وهي التي يصلح في محلها مع، نحو: بعتُكَ الفرسَ بسرجِهِ، أي مع سرجه، ومنه قوله تعالى: ( اهبطْ بسلامٍ ) أي معه.
5- الظرفية: المكانية أو الزمانية وتكون بمعنى في، نحو: ( ولقدْ نَصَرَكُمْ اللهُ ببدرٍ ) أي فيه، وقوله: ( ونجّيناهم بِسَحَرٍ ) أي فيه.
6- البدلية: بأن يحل محلها لفظ البدل، نحو: ليت لي بك صديقا ذكيا، أي بدلك.
7- المقابلة: وهي الداخلة على الأعواض، نحو: اشتريتُ هذا بألف.
8- المجاوزة: بمعنى عن، كما في قوله تعالى: ( يوم تَشَقَّقُ السماءُ بالغَمَامِ ) أي عنه.
9- الاستعلاء: بمعنى على، كما في قوله تعالى: ( ومِن أهلِ الكتابِ مَنْ إِن تأْمنهُ بدينارٍ لا يؤدِّه إليكَ ) أي على دينار.
10- القسَم: نحو: باللهِ لأفعلنّ كذا، وهي أصل حروف القسم.
11- الغاية: بمعنى إلى، كما في قوله تعالى على لسان يوسف: ( وقدْ أحسنَ بي إذْ أخرجَني من السجنِ ) أي أحسن إلي.
12- التوكيد: أي الزيادة في اللفظ للتقوية، كما في قوله تعالى: ( وكفى باللهِ شهيدًا ) أي كفى الله شهيدا.
13- التبعيض: بمعنى مِن، كما في قوله تعالى: ( عينًا يشربُ بها عبادُ اللهِ ) أي منها.
التاسع: بل، وهي تفيد الإضراب وهو: العدول عن شيء إلى شيء آخر، وتكون حرف عطف إذا وقع بعدها مفرد، وحرف ابتداء إذا وقعت بعدها جملة، فالإضراب إما مع العطف، أو بدون عطف فهي على وجهين:
1- حرف عطف، فإذا وقعت بعد إيجاب مثل: جاءَ زيدٌ بل عمرٌو، وأَكرمْ زيدًا بل عمرًا، فالحكم الإيجابي ثابت لما بعدها، ويكون ما قبلها مسكوتا عنه، فالجائي في الجملة الأولى عمرو لا زيد، والمطلوب إكرامه في الجملة الثانية عمرو لا زيد.
وإذا وقعت بعد نفي مثل: ما جاءَ زيدٌ بل عمرٌو، ولا تكرمْ زيدًا بل عمرًا، فالحكم السلبي ثابت لما قبلها، وضده وهو الحكم الإيجابي ثابت لما بعدها، فزيدٌ لم يجئْ وعمرو قد جاء في الأولى، وزيدٌ لا يكرم بل عمرو هو الذي يكرم في الثانية.
2- حرف ابتداء، يفيد الإضراب وهو: إما للإبطال أي إبطال ما قبلها وإثبات ما بعدها، مثل: ( وقالوا اتّخذَ الرحمنُ ولدًا سبْحانَهُ بلْ عِبادٌ مكرمونَ ) فـ ( بلْ ) هنا وليها جملة، وعبادٌ خبر لمبتدأ محذوف والتقدير هم عبادٌ، وقد أبطلت الحكم الأول وهو قولهم اتخذ الرحمن ولدًا، واثبتت الحكم الثاني وهو أن الملائكة عباد مكرمون، وإما للانتقال أي الانتقال من موضوع إلى موضوع آخر بلا إبطال للحكم الأول، مثل: ( قدْ أفلحَ مَن تزكّى وذكرَ اسمَ ربِّهِ فصلّى بل تؤثرونَ الحياةَ الدنيا ) فـ ( بلْ ) هنا لم تبطل ما قبلها بل أبقته على حاله، وانتقلت إلى بيان موضوع آخر.
العاشر: بَيْدَ، وهو اسم ملازم للنصب والإضافة إلى أَنّ ومعموليها، وترد لمعنيين هما:
1- بمعنى غير، ونصبها حينئذ على الاستثناء، مثل: فلانٌ كثيرُ المالِ بيدَ أَنَّه بخيلٌ، أي غير أنه بخيل.
2- بمعنى مِنْ أجل، ومنه ما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا أفصحُ الناسِ بيدَ أني من قريش، أي من أجل أني من قريش، والحديث المذكور لا أصلَ له وإن كان معناه صحيحا.
الحادي عشر: ثُمَّ، وهي حرف عطف تفيد تشريك ما بعدها لما قبلها في الحكم والإعراب، وتقتضي الترتيب والمهلة، تقول: جاءَ زيدٌ ثم عمرٌو، أي جاء الاثنان، لكن مجيء عمرو حصل بعد مجيء زيد متراخيا عنه بزمن.
الثاني عشر: حتى، وترد لمعان هي:
1- انتهاء الغاية مثل إلى وهو المعنى الغالب عليها، مثل: ( حتى مطلعِ الفجرِ ).
2- التعليل مثل اللام، تقول لغير المسلم: أسلمْ حتى تدخل الجنة، أي لتدخلها.
3- الاستثناء بمعنى إلا ومن النادر مجيئها له، كما في قول الشاعر:
ليسَ العطاءُ من الفضولِ سماحةً... حتى تجودَ وما لديكَ قليلُ، أي إلا أن تجود وهو استثناء منقطع بمعنى لكن.
الثالث عشر: رُبَّ، وترد للتكثير وللتقليل، فمن الأول قوله تعالى: ( رُبَمَا يودُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمينَ ) أي يكثر تمني الكافرين للإسلام عندما يشاهدون يوم القيامة فوز المسلمين وخسران الكافرين، ومن الثاني قول الشاعر:
إلا ربّ مولودٍ وليسَ له أبُ... وذي ولدٍ لمْ يلدْه أبوانِ، يقصد عيسى وآدم عليهما السلام.


( شرح النص )

والباءُ للإلصاقِ حقيقةً ومجازًا، وللتَّعْديةِ، وللسَّببيةِ، وللمصاحبةِ، وللظَّرفيةِ، وللبدليَّةِ، وللمُقَابَلةِ، وللمجاوزةِ، وللاستعلاءِ، وللقسمِ، وللغايةِ، وللتَّوكيد، وكذا للتبعيضِ في الأصحِّ.
وبلْ للعطفِ بإضرابٍ، وللإضرابِ فقطْ، إما للإبطالِ أو للانتقالِ من غرضٍ إلى آخرَ.
وبيدَ بمعنى غيرِ، وبمعنى منْ أجلِ، ومنهُ بيدَ أَنِّي مِنْ قُرَيشٍ في الأصحِّ.
وثُم َحرفُ عطفٍ للتَّشريكِ والمهلةِ والترتيبِ في الأصحِّ.
وحتى لانتهاءِ الغايةِ غالبًا، وللاستثناءِ نادرًا، وللتعليلِ.
ورُبَّ حرفٌ في الأصحِّ للتكثيرِ وللتقليلِ، ولا تختصُّ بأحدِهما في الأصحِّ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( و ) الثامن ( الباء للإلصاقِ ) وهو أصل معانيها ( حقيقةً ) نحو به داءٌ، أى أُلصق به ( ومجازًا ) نحو مررتُ بزيد، أى ألصقت مرورى بمكان يقرب منه المرور اذ المرور لم يلصق بزيد ( وللتَّعديةِ ) كالهمزة فى تصيير الفاعل مفعولا نحو: ذهبَ اللهُ بنورِهم أي أذهبه ( وللسَّببيةِ ) نحو: فكلّا أخذنا بذنبِه، ومن السببية الاستعانة بأن تدخل الباء على المستعان به في حصول الفعل نحو: كتبتُ بالقلمِ ( وللمصاحبةِ ) بأن تكون الباء بمعنى مع، أوتغني عنها وعن مصحوبها الحال، ولهذا تسمى بباء الحال نحو: قدْ جاءَكم الرسولُ بالحقِّ، أى مع الحق أو محقا ( وللظَّرفيةِ ) المكانية أو الزمانية نحو: ولقدْ نصرَكُم اللهُ ببدرٍ وقوله: ونجّيناهم بسحرٍ ( وللبدليةِ ) بأن يحل محلها لفظ بدل كقول عمر رضى الله عنه: ما يسرنى انّ لي بها الدنيا، أى بدلها، قاله حين استأذن النبى صلى الله عليه وسلم فى العمرة فأذن له وقال صلى الله عليه وسلم: لا تنسنا يا أُخَيَّ من دعائك. وضمير بها راجع الى كلمة النبى المذكورة وأخيّ مصغر لتقريب المنزلة، والحديث رواه الترمذي وغيره وفيه ضعف ( وللمُقَابَلةِ ) وهى الداخلة على الأعواض نحو اشتريت فرسا بدرهم، وقوله تعالى: لاتشتروا بآياتى ثمنا قليلا ( وللمجاوزةِ ) كعن نحو: سألَ سائلٌ بعذابٍ واقعٍ، أى عنه ( وللاستعلاءِ ) كعلى نحو: ومنْ أهل الكتابِ مَنْ إنْ تأمنه بقنطارٍ.. أى عليه ( وللقسمِ ) نحو بالله لأفعلنّ كذا ( وللغايةِ ) كإلى نحو: وقد أَحسنَ بي، أى اليّ ( وللتوكيدِ ) وهى الزائدة مع الفاعل، أو المفعول به، أو المبتدأ، أو الخبر، والأمثلة على الترتيب: كفى باللهِ شهيدا، وهزّي اليكِ بجذع النخلةِ، وبحسبِكَ درهمٌ، و أليسَ اللهُ بكافٍ عبدَهُ ( وكذا للتبعيضِ ) كمِنْ ( في الأصحِّ ) نحو: عينًا يشربُ بها عبادُ اللهِ، أى منها وقيل لا تأتي للتبعيض ( و ) التاسع ( بلِ للعطفِ بإضرابٍ ) أى مع إضراب بأن وليها مفرد سواء أوليت كلاما موجبا وذلك في الخبر والأمر أم سالبا وذلك في النهي والنفي ففى الموجب نحو: جاء زيد بل عمرو، واضربْ زيدا بل عمرا، تبين بل حكم المعطوف وأما المعطوف عليه فيصير مسكوتا عنه، وفى السالب نحو: ما جاء زيد بل عمرو، ولاتضربْ زيدا بل عمرا، تقرر حكم المعطوف عليه وتجعل ضده للمعطوف ( وللإضرابِ فقطْ ) أى بدون عطف بأن وليها جملة، والحاصل أن بل للعطف والإضراب إن وليها مفرد وللإضراب فقط ان وليها جملة وهى فيه حرف ابتداء لا عاطفة، والإضراب إذا وليها جملة ( إما للإبطالِ ) لما وليته نحو " يقولون به جِنَّةٌ بلْ جاءَهم بالحقِّ، وبل هنا أبطلت الحكم الأول وهو قولهم به جنة، واثبتت الحكم الثاني وهو أن الرسول جاءهم بالحق ( أو للانتقالِ من غرضٍ الى آخرَ ) أي الانتقال من موضوع لآخر من غير إبطال الأول، نحو: ولدينا كتابٌ ينطقُ بالحقِّ وهمْ لا يظلمونَ بلْ قلوبُهم في غَمرةٍ، أي في غفلة فما قبل بل وهو كونهم لا يظلمون باق فيها على حاله من غير إبطال ( و ) العاشر ( بَيْدَ ) اسم ملازم للنصب والإضافة إلى أَنّ ومعموليها ( بمعنى غيرِ ) نحو إنَّهُ كثيرُ المالِ بيدَ أنّه بخيلٌ، أي غير أنه بخيل ( و ) بمعنى ( مِنْ أجلِ ومنهُ ) خبر أنا أفصحُ مَن نطقَ بالضاد ( بيدَ أَنّي مِن قريشٍ ) أى الذين هم أفصح من نطق بها وأنا أفصحهم وخصها بالذكر لعسرها على غير العرب، والمعنى أنا أفصح العرب من أجل أني من قريش، والخبر المذكور قال عنه الحافظ ابن كثير في تفسيره لا أصل له فذكره له من غير بيان حاله لا يليق ( فى الأصحِّ ) وقيل إن بيد في الخبر بمعنى غير وأنه من تأكيد المدح بما يشبه الذم، وهو أسلوب عربي يستعمله المتكلم بأن يبالغ في المدح إلى أن يأتي بعبارة يتوهم السامع في بادئ الأمر أنه ذم وهو في الحقيقة صفة مدح فكونه صلى الله عليه وسلم من قريش صفة مدح، ومنه قول الشاعر: فتىً كَمُلَتْ أوصافُهُ غيرَ أَنه.. جوادٌ فما يُبقي على المالِ باقيا ( و ) الحادي عشر ( ثُمَّ حرفُ عطفٍ للتشريكِ ) فى الإعراب والحكم ( والمهلةِ والترتيبِ ) تقول جاءَ زيدٌ ثم عمروٌ، اذا شارك زيدا في المجيء وتراخى مجيئه عن مجيئه ( في الأصحِّ ) وقيل: لا تفيد المهلة، وقيل لاتفيد الترتيب ( و ) الثانى عشر ( حتى لانتهاءِ الغايةِ غالبًا ) وهي حينئذ إمّا جارة لاسم صريح، نحو: سلامٌ هيَ حتى مطلعِ الفجرِ، أو مؤول من أن والفعل نحو: لن نبرحَ عليه عاكفينَ حتى يرجعَ الينا موسى، أى إلى رجوعه، وإما عاطفة لأعلى على أدنى، أو أدنى على أعلى، نحو: ماتَ الناسُ حتى الأنبياءُ، وقدِمَ الحجّاجُ حتى المشاةُ، وإما ابتدائية بأن يستأنف بعدها جملة إما اسمية نحو: لقدَ اسوَدَّ قلبُ الكافرِ حتى الموعظةُ غير نافعةٍ، أو فعلية نحو: مرِضَ فلانٌ حتى لا يَرجونَهُ ( وللاستثناءِ نادرًا ) نحو: ليسَ العطاءُ من الفضولِ سماحةً.. حتى تجودَ وما لديكَ قليلُ، أى إلا أن تجود وهو استثناء منقطع بمعنى لكن ( وللتعليلِ ) نحو أسلمْ حتى تدخلَ الجنةَ أى لتدخلها، وعلامتها أن يصلح موضعها كي ( و ) الثالث عشر ( ربّ حرفٌ فى الأصحِّ ) وقيل اسم وعلى الوجهين ترد ( للتكثيرِ ) نحو: رُبَما يودُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمينَ، اذ يكثر منهم تمني ذلك يوم القيامة اذا عاينوا حالهم وحال المسلمين ( وللتقليلِ ) كقولِه: ألا رُبّ مولودٍ وليسَ لهُ أبٌ.. وذي ولدٍ لم يلدْه أبوانِ، أراد عيسى وآدم عليهما الصلاة والسلام واختار ابن مالك أن ورودها للتكثير أكثر من ورودها للتقليل ( ولاتختصُّ بأحدِهما فى الأصحِّ ) وقيل تختص بالتكثير، وقيل تختص بالتقليل.


الموضوع الأصلي: http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=9#ixzz4SM7RnIFW

تميم بن عليم
2016-12-09, 06:39 PM
الدرس الخامس والعشرون- مباحث الكتاب

تكملة الحروف


الرابع عشر: على، وترد لمعان هي:
1- بمعنى فوق، وهي حينئذ اسم وعلامتها أن تدخل عليها مِنْ، مثل: نزلَ العصفورُ مِن على الغصنِ، أي من فوقه.
2- للعلو، مثل: ( وعليها وعلى الفُلكِ تُحملونَ ).
3- للمصاحبة، فتكون مثل ( مع ) كما في قوله تعالى: ( وآتى المالَ على حبِّهِ ) أي مع حبه.
4- للمجاوزة، فتكون مثل ( عنْ )، كما في قول الشاعر: إذا رضيتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ.. أي عني.
5- للتعليل، فتكون ( كاللام )، مثل: ( ولتكبّروا الله على ما هداكم ) أي لهدايتكم.
6- للظرفية، مثل ( في )، مثل: ( ودخلَ المدينةَ على حينِ غفلةٍ ) أي في حين.
7- للاستدراك، مثل ( لكن )، تقول: فلانٌ عاصٍ على أَنَّه غيرُ قانِطٍ، أي لكنه.
8- الزيادة، مثل: لا أَحلفُ على يمينٍ، أي يمينًا.
وترد اسم فعل أمر بمعنى الزم، مثل: عليكَ نفسَكَ فتِّشْ عن معايبها، أي الزمها.
أما علا يعلو ففعل مثل: ( إنّ فرعونَ علا في الأرضِ ).
الخامس عشر: الفاء العاطفة، وترد لمعان هي:
1- الترتيب، وهو نوعان:
أ- ( معنويّ ) إذا حصل ما بعدها بعد ما قبلها، مثل: جاءَ زيدٌ فعمرٌو، فمجيء عمرٌو عقب مجيء زيد.
ب- و( ذكريّ ) إذا كان ما بعدها كلاما مرتبا في الذكر والإخبار على ما قبلها، مثل: ( فقدْ سألوا موسى أكبرَ مِنْ ذلكَ فقالوا أَرِنا اللهَ جهرةً ) فالجملة الثانية قالوا أرنا .. معطوفة على الجملة الأولى سألوا موسى، وهو عطف مفصّل على مجمل، أي أن الجملة الثانية بينت وفصلت سؤالهم، ولا يوجد ترتيب زمني بين الجملتين.
2- التعقيب، والمشهور في تفسيره أنه حصول ما بعدها بعد ما قبلها مباشرة، والصحيح أنه بعد كل شيء بحسبه، تقول: غابت الشمسُ فأفطرنا، أي حصل الإفطار بعد غروب الشمس بلا فاصل، وتقول: تزوّج فلانٌ فوُلِدَ له، إذا لم يكن بين الزواج والولادة غير مدة الحمل، لا أنها ولدت بعد الزواج مباشرة.
3- السببية، وهذا هو المعنى الغالب فيها، مثل: ( فوكزَهُ موسى فقضى عليه )، ومثل: سها فسجَدَ.
السادس عشر: في، حرف جر يرد لمعان هي:
1- الظرفية الزمانية والمكانية، مثل: ( واذكروا اللهَ في أيّامٍ معدوداتٍ ) ومثل: ( وأنتم عاكفونَ في المساجِدِ ).
2- المصاحبة، فتكون مثل ( مع ) كما في قوله تعالى: ( قالَ ادخلوا في أممٍ ) أي مع أمم.
3- التعليل، كما في قوله تعالى: ( لَمَسَّكمْ فيما أفضتم ) أي لما أفضتم.
4- العلو، فتكون مثل ( على ) كما في قوله تعالى على لسان فرعون: ( لأصلّبنكم في جذوعِ النخلِ ) أي عليها.
5- التوكيد، أي الزيادة للتقوية مثل: ( قالَ اركبوا فيها ) أي اركبوها.
6- التعويض عن في أخرى محذوفة، مثل: ضربتُ فيمَنْ رَغِبْتَ، والأصل: ضربتُ مَنْ رَغِبْتَ فيه.
7- بمعنى الباء، مثل: ( جعلَ لكم مِن أنفسِكم أَزواجًا ومِنْ الأنعامِ أزواجًا يَذْرَؤُكُمْ فيه ) أي يخلقكم به، ويخلقكم هنا بمعنى يكثّركم أي يكثركم بسبب هذا الجعل بالتوالد بينكم.
8- بمعنى إلى، كما في قوله تعالى: ( فَرَدُّوا أيديَهُم في أفواهِهم ) أي إلى أفواههم.
9- بمعنى مِنْ، كما إذا رأيت عيبا في ثواب واسع فأردت تعييبه بذلك، فيقال لك: هذا أصبع فيه، أي منه، أي أن هذا مقدار قليل منه فلا يعيبه ذلك.
السابع عشر: كي، حرف يرد على وجهين:
1- التعليل، فيكون ( كاللام )، مثل: جئتُ كي أتعلمَ، أي لأن أتعلمَ.
2- بمعنى أَنْ المصدرية، بأن تدخل عليها اللام، مثل: جئتُ لكي أتعلمَ، أي لأن أتعلمَ.
الثامن عشر: كلّ، اسم لاستغراق أفراد المضاف إليه، أو استغراق أجزاء المضاف إليه، فالأول إذا كان المضاف إليه مفردا نكرة، نحو: ( كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ ) وكذلك إذا كان جمعا معرّفا، مثل: كلُّ الدراهمِ صُرفَتْ، والثاني إذا كان المضاف إليه مفردا معرفة، مثل: كلُّ البيتِ حَسَنٌ، أي كل أجزائه.


( شرح النص )

وعلى، الأصحُّ أَنَّها قدْ ترِدُ اسمًا بمعنى فوقَ، وحرفًا للعلوِّ، وللمصاحبةِ، وللمجاوزةِ، وللتعليلِ، وللظرفيّةِ، وللاستدراكِ، وللتَّوكيدِ، وبمعنى الباءِ،ومِنْ، أَمَّا علا يعلو فَفِعْلٌ.
والفاءُ العاطِفةُ للترتيبِ، وللتعقيبِ، وللسَّببيةِ.
وفي للظَّرفيةِ، وللمصاحبةِ، وللتَّعليلِ، وللعُلُوِّ، وللتوكيد، وللتَّعويضِ، وبمعنى الباءِ، وإلى، ومِنْ.
وكيْ للتعليلِ، وبمعنى أَنِ المصدريَّةِ.
وكُلٌّ، اسمٌ لاستغراقِ أفرادِ المنَكَّرِ والمعرَّفِ المجموعِ وأجزاءِ المعرَّفِ المفردِ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( و ) الرابع عشر ( على ) و ( الأصحُّ أَنَّها قدْ ترِدُ ) بقلة ( اسمًا بمعنى فوقَ ) بأن تدخل عليها مِنْ: نحو: نزلَ العصفورُ مِن على الغصنِ، أي من فوقه ( و ) ترد بكثرة ( حرفًا للعلوِّ ) حِسّا كان نحو: كلُّ مَن عليها فان، أو معنىً نحو: فضّلنا بعضهم على بعض ( وللمصاحبةِ ) كمع نحو: وآتى المال على حبه، أي مع حبه ( وللمجاوزةِ ) كعن نحو: رضيت عليه أي عنه ( وللتعليلِ ) نحو: ولتكبروا الله على ما هداكم، أي لهدايته إياكم ( وللظرفيةِ ) كفي نحو: ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها، أي في وقت غفلتهم ( وللاستدراكِ ) مثل لكن نحو: فلان لا يدخل الجنة لسوء فعله على أنه لا ييأس مِن رحمة الله، أي لكنه ( وللتوكيدِ ) كخبر: لا أحلفُ على يمين ثم أرى خيرا منها.. أي يمينا، متفق عليه ( وبمعنى الباءِ ) نحو: حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق، أي حقيق بأن لا أقول ( و ) بمعنى ( مِنْ ) نحو: إذا اكتالوا على الناس يستوفون، أي منهم، وقيل: هي اسم أبدا لدخول حرف الجرّ عليها، وقيل: هي حرف أبدا ( أمَّا علا يعلو ففِعلٌ ) نحو: إنّ فرعون علا في الأرض، ونحو: ولعلا بعضهم على بعض، فقد استكملت على في الأصح أقسام الكلمة لمجيئها اسما وفعلا وحرفا ( و ) الخامس عشر ( الفاءُ العاطِفةُ للترتيبِ ) المعنويّ والذكري، فالأول مثل: جاءَ زيدٌ فعمرٌو، فمجيء عمرٌو عقب مجيء زيد، والثاني مثل: فقدْ سألوا موسى أكبرَ مِنْ ذلكَ فقالوا أَرِنا اللهَ جهرةً فالجملة الثانية قالوا أرنا .. معطوفة على الجملة الأولى سألوا موسى، وهو عطف مفصّل على مجمل ( وللتعقيبِ ) في كل شيء بحسبه تقول: قام زيد فعمرو، إذا أعقب قيامه قيام زيد، ودخلت البصرة فالكوفة، إذا لم يقم بالبصرة ولا بين البصرة والكوفة، وتزوّج فلان فولد له، إذا لم يكن بين التزوّج والولادة إلا مدة الحمل مع لحظة الوطء ومقدماته ( وللسَّببيةِ ) ويلزمها التعقيب نحو: فوكزه موسى فقضى عليه، فخرج بقولنا العاطفة الرابطة للجواب فقد يتراخى الجواب عن الشرط نحو: إن يسلمْ فلان فهو يدخل الجنة، فلا تعقيب فيها ( و ) السادس عشر ( في للظَّرفيةِ ) الزمانية نحو: واذكروا الله في أيام معدودات، والمكانية نحو: وأنتم عاكفون في المساجد ( وللمصاحبةِ ) نحو: قال ادخلوا في أمم، أي معهم ( وللتعليلِ ) نحو: لمسّكم فيما أفضتم فيه، أي لأجل ما أفضتم فيه ( وللعلوّ ) نحو: لأصلبنكم في جذوع النخل، أي عليها ( وللتوكيدِ ) نحو: وقال اركبوا فيها، وأصله اركبوها ( وللتعويضِ ) عن أخرى محذوفة نحو: ضربتُ فيمن رغبتَ، وأصله ضربت مَن رغبتَ فيه ( وبمعنى الباءِ ) نحو: جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه، أي يخلقكم بمعنى يكثركم بسبب هذا الجعل بالتوالد ( و ) بمعنى ( إلى ) نحو: فردّوا أيديهم في أفواههم، أي إليها ليعضوا عليها من شدّة الغيظ ( و ) بمعنى ( مِنْ ) نحو: هذا ذراع في الثوب، أي من الثوب، يعني فلا يعيبه لقلته ( و ) السابع عشر ( كي للتعليلِ ) فينصب المضارع بأن مضمرة نحو: جئت كي تكرمني، أي لأن تكرمني ( وبمعنى أنْ المصدريةِ ) بأن تدخل عليها اللام نحو: جئت لكي تكرمني، أي لأن تكرمني ( و ) الثامن عشر ( كُلٌّ ) وهو ( اسمٌ لاستغراقِ أفرادِ ) المضاف إليه المفرد ( المنَكَّرِ ) نحو: كل نفس ذائقة الموت ( و ) لاستغراق أفراد المضاف إليه ( المعرَّفِ المجموعِ ) نحو: كل العبيد جاءوا ( و ) لاستغراق ( أجزاءِ ) المضاف إليه ( المعرَّفِ المفردِ ) نحو: كلُّ زيدٍ أو الرجلِ حسنٌ، أي كل أجزائه.


الموضوع الأصلي: http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=9#ixzz4SM7iBgUU

تميم بن عليم
2016-12-11, 08:49 PM
الدرس السادس والعشرون- مباحث الكتاب

تكملة الحروف


التاسع عشر: اللام الجارّة، وترد لمعان هي:
1- التعليل، مثل: ( وأنزلنا إليك الذكرَ لتبيّنَ للنّاسِ ) أي لأجل أن تبين لهم.
2- الاستحقاق، مثل: النارُ للكافرينَ، أي عذابها مستحق لهم.
3- الاختصاص، مثل: الجنةُ للمتقينَ، أي نعيمها مختص بهم.
4- الملك، مثل: ( للهِ ما في السمواتِ والأرضِ ).
واعلم أن بين الاستحقاق والاختصاص عموما وخصوصا مطلقا، فالاستحقاق أعم مطلقا من الاختصاص، فكل اختصاص استحقاق ولا ينعكس كما تراه في المثالين المذكورين، فإن النار مع كونها مستحقة للكفار ليسوا مختصين بها بل يشاركهم فيها عصاة المؤمنين وإن كان تأبيدها مختصا بالكفار، بخلاف الجنة فإنها مع كونها مختصة بالمؤمنين مستحقة لهم، وأما الملك فهو أخص من كل منهما مطلقا فكل مملوك فهو مختص بمالكه ومستحق له ولا عكس. اهـ حاشية البناني.
5- الصيرورة، أي العاقبة، مثل: ( فالتقَطَهُ آلُ فرعونَ ليكونَ لهم عَدُوًّا وحَزَنا ) أي صارت عاقبته كذلك لا أنهم التقطوه من أجل ذلك.
6- التمليك، مثل: الغلامُ لكَ، أي ملكتك إياه.
7- شبه التمليك، مثل: ( واللهُ جعلَ لكم من أنفسكم أزواجًا، وجعلَ لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) فالزوجات والبنين والحفدة ليسوا مملوكين للرجال، ولكن من حيث نفوذ الأمر والنهي ونحوه عليهم.
8- توكيد النفي، وهي المسبوقة بكون منفي، ويسميها النحاة لام الجحود، مثل: ( وما كانَ ليعذبهم وأنت فيهم ).
9- التعدية، مثل: ما أضربَ زيدًا لعمرٍو!، والأصلُ ما أضربَ زيدًا ! تريد التعجب من ضربه، ولا يجوز أن تقول: ما أضربَ زيدًا عمرًا، فلما دخلت اللام تعدى الفعل لعمرو باللام.
10- التوكيد، أي الزيادة للتقوية كالداخلة لتقوية عامل ضعف بسبب تأخيره، مثل: ( إن كنتم للرؤيا تعبُرونَ ) والأصل إن كنتم تعبرون الرؤيا، فلما تقدم المفعول به ضعف تسلط عامله عليه فاحتيج إلى تقويته بهذه اللام الزائدة.
11- بمعنى إلى، مثل: ( فَسُقْناهُ لبلدٍ ميّتٍ ) أي إلى بلد.
12- بمعنى على، مثل: ( ويخرون للأذقان ) أي عليها.
13- بمعنى في، مثل: ( ونضعُ الموازينَ القِسْطَ ليومِ القيامةِ ) أي فيها.
14- بمعنى عند، مثل: كتبتُه لخمس بقين من صَفَر، أي عند خمس.
15- بمعنى بعد، مثل: ( أقمْ الصلاةَ لدلوك الشمس ) أي بعد زوال الشمس لأن فعل الصلاة بعد الزوال لا عنده.
16- بمعنى مِنْ، مثل: سمعتُ له صُراخًا، أي منه.
17- بمعنى عنْ، مثل: قالَ للكافرينَ إنهم معذّبونَ، أي قال عنهم، إذْ ليسَ الخطاب موجها لهم وإلا لقال: إنكم معذبون.
العشرون: لولا، وهي حرف يرد لمعان هي:
1- الامتناع، أي امتناع الجواب لوجود الشرط، وذلك إذا دخلت على الجملة الاسمية مثل: لولا زيدٌ لسافرتُ، أي امتنع سفري لوجود زيد.
2- التحضيض، أي الطلب بشدة، وذلك إذا دخلت على جملة فعلية فعلها مضارع مثل: ( لولا تستغفرونَ اللهَ ) أي استغفروه ولا بُدَّ.
3- العَرْضُ، أي الطلب بلين، وذلك إذا دخلت على جملة فعلية فعلها مضارع أيضا ولو تأويلا مثل: ( لولا أَخَّرْتَنِي إلى أجلٍ قريبٍ ) فأَخَّرَ فعل ماض لدخول تاء الفاعل عليه، ولكنه في الآية بتأويل مضارع أي لولا تؤخرني لأن المراد هو التأخير الآن يقول ذلك حينما يرى الموت، ولهذا قال بعدها: ولن يؤخر اللهُ نفسًا إذا جاءَ أجلها.
4- التوبيخ، إذا دخلت على جملة فعلية فعلها ماض مثل: ( فلولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ) وبّخهم الله على عدم المجيء بالشهداء بما قالوه من الإفك.


( شرح النص )

واللامُ الجارَّةُ للتعليلِ، وللاستحقاقِ، وللاختصاصِ، وللمِلكِ، وللصيرورةِ، وللتمليكِ، وشِبْهِهِ، ولتوكيدِ النفيِ، وللتعديةِ، وللتوكيدِ، وبمعنى إلى، وعلى، وفي، وعِنْدَ، وبعدَ، ومِنْ، وعَنْ.
ولولا حرفٌ معناهُ في الجملةِ الاسميَّةِ: امتناعُ جوابِهِ لوجودِ شرْطِهِ، وفي المضارِعِيَّةِ التَّحْضيضُ والعَرْضُ، والماضيةِ التوبيخُ، ولا تَرِدُ للنَّفْيِ ولا للاستفهامِ في الأَصحِّ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( و ) التاسع عشر ( اللامُ الجارةُّ ) وخرج بالجارة الجازمة، نحو: لينفق ذو سعة من سعته، وغير العاملة كلام الابتداء نحو: لأنتم أشدّ رهبة ( للتعليلِ ) نحو: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس، أي لأجل أن تبين لهم ( وللاستحقاقِ ) نحو: النارُ للكافرينَ، أي عذابها مستحق لهم ( وللاختصاصِ ) نحو: الجنة للمؤمنين، أي نعيمها مختص بهم ( وللملكِ ) نحو: لله ما في السموات وما في الأرض ( وللصيرورةِ ) أي العاقبة نحو: فالتقطة آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزنا، فهذا عاقبة التقاطهم له لا علته إذْ هم التقطوه لتبنيه ( وللتمليكِ ) نحو: وهبت له ثوبا أي ملكته إياه ( وشبههِ ) أي التمليك نحو: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ( ولتوكيدِ النفيِ ) نحو: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، فهي في هذا ونحوه لتوكيد نفي الخبر ( وللتعديةِ ) نحو: ما أضربَ زيدًا لعمرٍو ( وللتوكيدِ ) وهي الزائدة كأن تأتي لتقوية عامل ضعف بالتأخير نحو: إن كنتم للرؤيا تعبرون، والأصل إن كنتم تعبرون الرؤيا، أو لكونه فرعا في العمل وذلك في الاسم المشتق نحو: إن ربك فعّال لما يريد، والأصل فعّال ما يريد، وما اسم موصول مفعول به لفعال، فلا يوجد تقديم ولكن لما كان الأصل في الاسم أنه غير عامل وإنما يعمل فرعا عن الفعل قوّي باللام ( وبمعنى إلى ) نحو: فسقناه لبلد ميت، أي إليه ( و ) بمعنى ( على ) نحو: يخرون للأذقان سجدا، أي عليها ( و ) بمعنى ( في ) نحو: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، أي فيه ( و ) بمعنى ( عندَ ) نحو: يا ليتني قدّمت لحياتي، أي عندها ( و ) بمعنى ( بعدَ ) نحو: أقم الصلاة لدلوك الشمس، أي بعده ( و ) بمعنى ( مِن ) نحو: سمعت له صراخا، أي منه ( و ) بمعنى ( عنْ ) نحو: وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه، أي عنهم وقوله لو كان أي الإيمان ( و ) العشرون ( لولا حرفٌ معناهُ في ) دخوله على ( الجملةِ الاسميةِ امتناعُ جوابِه لوجودِ شرطِهِ ) نحو: لولا زيدٌ- أي موجود- لأهنتكَ، امتنعت الإهانة لوجود زيد، وزيد مبتدأ محذوف الخبر وجوبا ( وفي ) دخوله على الجملة ( المضارعِيَّةِ التحضيضُ ) أي الطلب بحثّ نحو: لولا تستغفرون الله، أي استغفروه ولا بد ( والعَرْضُ ) وهو طلب بلين نحو: لولا أخرتني- أي تؤخرني - إلى أجل قريب ( و ) في دخوله على الجملة ( الماضيةِ التوبيخُ ) نحو: لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء، وبَّخَهم الله على عدم المجيء بالشهداء بما قالوه من الإفك ( ولا تردُ ) لولا ( للنفيِ ولا للاستفهامِ في الأصحِّ) وقيل ترد للنفي كآية: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس، أي فما آمنت قرية أي أهلها عند مجيء العذاب إلا قوم يونس، وردّ بأنها في الآية للتوبيخ على ترك الإيمان قبل مجيء العذاب، وكأنه قيل: فلولا آمنت قرية قبل مجيئه فنفعها إيمانها، والاستثناء حينذ منقطع فإلا فيه بمعنى لكن، وقيل ترد للاستفهام كقوله تعالى: لولا أنزل عليه ملك، وردّ بأنها فيه للتحضيض أي هلا أنزل بمعنى ينزل.


الموضوع الأصلي: http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=9#ixzz4SYLTyL7t

تميم بن عليم
2016-12-25, 09:06 AM
الدرس السابع والعشرون- مباحث الكتاب

تكملة الحروف


الحادي والعشرون: لو، حرف شرط غير جازم، وأكثر وقوعه للحصول في الماضي، مثل: لو جاءني البارحةَ لأكرمتُهُ، ويقلّ للمستقبل، مثل: لا تهجرْ أخاكَ ولو أساءَ، أي وإن أساء في المستقبل، فأساء فعل ماض ولكنه صرف إلى الاستقبال بسبب لو وتكون حينئذ بمعنى إنْ.
وترد لمعان هي:
1- العَرْضُ، أي الطلب برفق، ولا بد أن يكون لها حينئذ جواب شرط منصوب بعد فاء السببية بأن مضمرة، نحو: لو تأتينا فنُكرِمَكَ، وقد يحذف جوابها لدليل يدل عليه كقول عائشة رضي الله عنها لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تخبر أبيها أن يؤم الناس فقالت: فلو أَمَّرْتَ عُمَرَ. متفق عليه. أي فلو أمرّت عمر فيكون أقدر من أبي بكر؛ لأنه رجل رقيق القلب كثير البكاء.
2- التحضيض، أي الطلب بشدة، ولا بد أن يكون لها حينئذ جواب شرط منصوب بعد فاء السببية بأن مضمرة أيضا، كقول الأب لولده: لو تجتهدُ في دروسِكَ فتنجحَ.
3- التمني، أي طلب ما لا مطمع في حصوله، ولا بد أن يكون لها حينئذ جواب شرط منصوب بعد فاء السببية بأن مضمرة أيضا، مثل: ( فلو أَنَّ لنا كرةً فنكونَ من المؤمنينَ ).
4- التقليل، مثل: اتقوا النارَ ولو بِشِقِّ تمرَةٍ، أي ولو كان ما تتقون به النار نصف تمرة تعطونها.
5- المصدرية، مثل أَنْ المصدرية فتنسبك مع ما بعدها بمصدر، مثل: ( يودُّ أحدُهم لو يعمّرُ ألفَ سنةٍ ) أي يود أحدهم تعمير ألف سنة، وعلامتها أنه لو حذفتها ووضعت محلها أَنْ المصدرية لاستقام المعنى.
6- الشرطية، وهو المعنى الغالب عليها -وإنما أخرتها لطول الكلام عليها- والشرط هو الربط بين أمرين بحيث لو وقع أحدهما لوقع الآخر، وهي على ثلاثة أنواع:
أ- السببية وهي: التي تدل على انتفاء الجواب في الواقع بسبب انتفاء الشرط، مثل: لو حضرتَ لأكرمتُك، انتفى الإكرام في الواقع بسبب انتفاء الحضور. فهي تذكر لبيان السببية.
ب- الاستدلالية وهي: التي يستدل بانتفاء جوابها على انتفاء شرطها، مثل أن يقال لك: هل زيدٌ في البلد؟ فتقول: لا إذْ لو كان فيها لحضرَ مجلسنا، فتستدل بعدم حضوره في المجلس على عدم كونه في البلد، فهي تذكر في مقام الاستدلال لا لبيان السببية، وذلك إذا كان انتفاء الجواب معلوما وانتفاء الشرط غير معلوم فيوتى بلو للاستدلال بالمعلوم وهو انتفاء الجواب على المجهول وهو انتفاء الشرط، ومنه قوله تعالى: ( لو كانَ فيهما آلهةٌ إلا اللهُ لفسدتا ) فيستدل بعدم انتفاء الفساد واختلال النظام في السموات والأرض على أنه لا إله إلا الله، لأن امتناع الفساد في السموات والأرض معلوم بالمشاهدة لديهم فاستدل به على نفي تعدد الآلهة المجهول لديهم.
ج- ما تدل على ثبوت جوابها على تقدير انتفاء شرطها وعلى تقدير وجوده أيضا، مثل قولك لمن سألك مالًا: لو كان لي مالٌ ما أعطيتكَ منه، أي فكيف وأنا لا مال لي، فالجواب وهو عدم الإعطاء ثابت في الحالتين والشرط وهو وجود المال منتف، والمقصود بهذا النوع هو الإخبار عن تحقق الجواب واستمراره دائما سواء وجد الشرط المذكور أم انتفى.
وهذا النوع له ثلاثة أقسام:
1- أن يكون انتفاء الشرط أولى من الشرط، نحو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أو عمر رضي الله عنه قال لصهيب رضي الله عنه: نعم العبدُ صهيبٌ لو لم يخف اللهَ لمْ يعصِه، أي أنه حتى لو لم يخف الله سبحانه لم يعصه؛ لأنه يستحي منه حق الحياء، وليس معناه أنه لا يخافه سبحانه بل هو يخافه ولكن على معنى أن هنالك سببا آخر يحول بينه وبين العصيان، فلو قدر أنه انتفى أحدهما ثبت الآخر، فهنا نقيض الشرط وهو الخوف من الله وما يلزمه عدم العصيان أولى من وجود الشرط وهو عدم الخوف بأن يكون لا يعصيه حياءً، ووجه الأولوية أن أكثر خلق الله ممن يمتنعون عن المعاصي يحملهم على ذلك الخوف، أما من يحمله خالص الحياء والحب فهم أقل عددا، فالأولوية هي بين الامتناع عن المعاصي خوفا وبين الامتناع عن المعاصي حياء وحبا، هذا وذكر الحافظ العراقي والسيوطي وغيرهما أن الأثر المذكور لا أصل له.
2- أن يكون انتفاء الشرط مساويا للشرط، نحو قوله صلى الله عليه وسلم لما بلغه تحدث النساء أنه يريد أن يتزوج بنت أم سلمة أم المؤمنين- بناء على تجويزهن أن ذلك من خصائصه التي ينفرد بها عن الناس-: ( لو لم تكنْ ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة ) رواه الشيخان. فهنالك سببان يمنعان حلها عليه كونها ربيبته، وكونها بنت أخيه بالرضاعة فإذا قدر انتفاء الأول فالثاني موجود فهي محرمة عليه على كل حال، فهنا نقيض الشرط وهو كونها ربيبته وما يترتب عليه من عدم حلها عليه مساو لوجود الشرط بأن لم تكن ربيبته بل كانت بنت أخيه من الرضاعة وما يترتب عليه من عدم حلها عليه، فهما متساويان إذْ الحرمة بالمصاهرة مساوية للحرمة بالرضاع.
3- أن يكون انتفاء الشرط أدون من الشرط، نحو: لو لم تكن أختي من الرضاعة لما حلت لي إنها أختي من النسب، فهنالك سببان يمنعان حلها عليه كونها أخته من الرضاعة، وكونها أخته من النسب، فإذا قدر انتفاء الأول فالثاني موجود فهي محرمة عليه على كل حال، فهنا نقيض الشرط وهو كونها أخته من الرضاعة وما يترتب عليه من عدم حلها عليه أدون من وجود الشرط بأن لم تكن أخته من الرضاعة بل كانت أخته من النسب فقط وما يترتب عليه من من عدم حلها عليه، ومعلوم أن الحرمة بالرضاع أدون من الحرمة بالنسب.


( شرح النص )

ولو شرطٌ للماضي كثيرًا، ثُمَّ قيلَ: هيَ لمجردِ الرَّبْطِ، والأصحُّ أَنها لانتفاءِ جوابِها بانتفاءِ شرطِها خارجًا، وقدْ تَرِدُ لِعَكْسِهِ عِلْمًا، ولاثباتِ جوابِها إنْ ناسَبَ انتفاءَ شَرْطِها بالأولى كـ لو لمْ يَخَفْ لمْ يعْصِ، أَو المساوي كـ لو لمْ تكنْ ربيبةً ما حَلَّتْ للرّضاعِ، أَو الأَدونِ كـ لو انتفتْ أُخوَّةُ الرّضاعِ ما حلّت للنسبِ، وللتَّمَنِّي، وللتَّحضيضِ، وللعَرضِ، وللتَّقليلِ نحو: ولوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ، ومصدَرِيَّةً.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( و ) الحادي والعشرون ( لو شرطٌ ) أي حرف شرط ( للماضي ) أي للحصول في الزمن الماضي ( كثيرًا ) نحو : لو جاءَ زيدٌ لأكرمتُهُ، وللمستقبل قليلا نحو: وليخشَ الذين لو تركوا ذرية ضِعافًا خافوا عليهم، أي إن تركوا ذرية.. ( ثُمَّ قيلَ ) في معناها على كونها حرف شرط للماضي أما على كونها حرف شرط للمستقبل فهي بمعنى إن التي لمجرد الربط لا تدل على انتفاء أو ثبوت ( هيَ ) أي لو ( لمجردِ الرَّبْطِ ) أي ربط الجواب بالشرط من غير دلالة على انتفاء أحدهما، وما يستفاد من الانتفاء هو مستفاد من خصوص الأمثلة وليس من أصل وضع لو، فتكون لو مثل إنْ التي لمجرد ربط الجواب بالشرط لكن إن للربط في المستقبل ولو للربط في الماضي، وهو قول ضعيف لأن كل من يسمع لو فعل كذا يعلم مباشرة انتفاء وقوع الفعل من غير تردد ( والأصحُّ أَنها ) ترد لأحد ثلاثة معان، المعنى الأول هو الأصل فيها أي الكثير الغالب في الاستعمال العربي الفصيح وهو ( لانتفاءِ جوابِها بانتفاءِ شرطِها خارجًا ) أي في الواقع الخارجي نحو: لو حضرتَ لأكرمتُك، انتفى الإكرام في الواقع بسبب انتفاء الحضور ( وقدْ تَرِدُ ) بنحو أقل من الأول وهو المعنى الثاني ( لِعَكْسِهِ ) أي عكس المذكور أي انتفاء شرطها بانتفاء جوابها ( عِلْمًا ) أي بانتفاء العلم بجوابها، مثل أن يقال لك: هل زيدٌ في البلد؟ فتقول: لا إذْ لو كان فيها لحضرَ مجلسنا، فتستدل بعدم حضوره في المجلس على عدم كونه في البلد ( و ) ترد أيضا بنحو أقل من الأول والثاني على ما قاله السيد الشريف في حواشي المطول وهو المعنى الثالث لها ( لاثباتِ جوابِها ) مع انتفاء شرطها وذلك ( إنْ ناسَبَ ) ثبوتُ جوابها ( انتفاءَ شَرْطِها ) أي إن تحققت مناسبة بين ثبوت الجواب ونقيض الشرط مثل: لو كان عندي مال ما أعطيتك، فثبوت عدم العطاء لا ينافي عدم وجود المال، بل على العكس هو أنسب فمن لا يملك المال لا يرجى منه العطاء، وهذا بخلاف أمثلة القسم الأول والثاني فمثلا إذا قلنا: لو حضر زيدٌ لأكرمته، فالإكرام لا يناسب عدم الحضور، ولو كان في البلدة لحضر مجلسنا، حضور المجلس لا يناسب عدم الوجود في البلدة بل ينافيه، وتلك المناسبة بين ثبوت الجواب وانتفاء الشرط على ثلاثة أنحاء إما ( بالأولى ) أي بطريق الأولى بأن يكون نقيض الشرط أولى من الشرط في ترتّب الجواب عليه ( كـ لو لمْ يَخَفْ لمْ يعْصِ ) يشير إلى أثر قيل لصهيب ولا أصل له: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، رتب عدم العصيان على عدم الخوف، ونقيض الشرط وهو الخوف من الله وما يترتب عليه من الكف عن المعاصي أولى من عدم الخوف بأن وجد بدله الحياء والحب وما يترتب عليه من عدم المعاصي ووجه الأولوية كون المعنى الأول أكثر أفرادا في الواقع ( أَو المساوي كـ لو لمْ تكنْ ربيبةً ما حَلَّتْ للرّضاعِ ) المأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم في دُرَّة بنت أم سلمة لما بلغه تحدث النساء أنه يريد أن ينكحها بناء على تجويزهن أن ذلك من خصائصه: إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة. رواه الشيخان. رتّب عدم حلها على عدم كونها ربيبته، فهنا نقيض الشرط وهو كونها ربيبته وما يترتب عليه من عدم حلها عليه مساو لوجود الشرط بأن لم تكن ربيبته بل كانت بنت أخيه من الرضاعة وما يترتب عليه من عدم حلها عليه، فهما متساويان إذْ الحرمة بالمصاهرة مساوية للحرمة بالرضاع ( أَو الأَدونِ كـ ) قولك في امرأة عرض عليك الزواج منها ( لو انتفتْ أُخوَّةُ الرّضاعِ ) بيني وبينها ( ما حلّت ) لي ( للنسبِ ) بيني وبينها بالأخوّة، رتب عدم حلها على عدم أخوتها من الرضاع، فهنا نقيض الشرط وهو كونها أخته من الرضاعة وما يترتب عليه من عدم حلها عليه أدون من وجود الشرط بأن لم تكن أخته من الرضاعة بل كانت أخته من النسب فقط وما يترتب عليه من من عدم حلها عليه لأن حرمة الرضاع أدون من حرمة النسب ( و ) ترد ( للتَّمَنِّي ) نحو قول الفقير المعدم: لو كان لي مالٌ فأحجَّ ( وللتَّحضيضِ ) نحو: لو تجتهدُ في دروسِكَ فتنجحَ ( وللعَرضِ ) نحو: لو تأتينا فنُكرِمَكَ ( وللتَّقليلِ نحو ) خبر: ردُّوا السائلَ ( ولوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ ) والمعنى تصدقوا بما تيسر من كثير أو قليل ولو بلغ في القلة إلى الظلف مثلا فإنه خير من العدم، والظِلف هو بمنزلة الظفر لقدم البقر والغنم والمعز، والمحرق أي المشوي أي لا تردوا السائل إلا بشيء ولو لم تجدوا إلا ظِلفا محرقا، والأثر المذكور قال عنه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي واللفظ له من حديث أم بُجَيْدٍ وقال ابن عبد البر مضطرب. اهـ ( و ) ترد ( مصدَرِيَّةً ) نحو: يودُّ أحدُهم لو يعمّرُ ألفَ سنةٍ، أي يود أحدهم تعمير ألف سنة.


الموضوع الأصلي: http://feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=10#ixzz4TpLncqFd

تميم بن عليم
2016-12-25, 09:07 AM
الدرس الثامن والعشرون- مباحث الكتاب

خاتمة الحروف


الثاني والعشرون: لنْ، حرف نفي ونصب واستقبال، أي ينفي المضارع وينصبه ويخصصه لزمن الاستقبال بعد أن كان صالحا للحال والاستقبال، مثل: ( ولنْ يفلحَ الساحرُ ) ولا تفيد لن توكيد النفي ولا تأبيد النفي خلافا للعلامة الزمخشري، وتأتي أيضا لإفادة الدعاء على ما ذكره العلامة ابن عصفور وغيره نحو: لنْ تزالَ بخيرٍ، أي لا زلت.
الثالث والعشرون: ما، وترد اسمية وحرفية، فالاسمية ترد:
1- موصولة، بمعنى الذي مثل: ( ما عندكم ينفدُ وما عندَ اللهِ باقٍ ) أي الذي عندكم ينفد والذي عند الله باق.
2- نكرة موصوفة، أي تفسر باسم نكرة ويقع بعدها صفة لها مثل: ربَّ ما كرِهتَهُ تحقّقَ فيه نفعُكَ، أي ربّ شيءٍ كرهته.
3- تعجبية، مثل: ما أحسنَ قولَكَ!.
4- تمييزية، وهي اللاحقة لنعم وبئس، نحو: ( إنْ تُبْدوا الصَّدقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) فما نكرة تامة- أي لا تحتاج صفة بعدها- مبنية على السكون في محل نصب تمييز، أي نعم شيئًا هيَ أي ابداؤها.
5- مُبالَغِيَّة، وهي للمبالغة في الإخبار عن أحد بالإكثار من فعل، نحو: إنَّ زيدًا مِمَّا أَنْ يكتبَ، أي أن زيدا مخلوق من أمر وذلك الأمر هو الكتابة، فخبر إن محذوف تقديره مخلوق ومِن الجارة متعلقة به، وما نكرة تامة بمعنى أمر في محل جر بمن، وأن المصدرية والفعل بعدها بتأويل مصدر مجرور هو بدل من أمر، ومثل: إني مما أنْ أفيَ بعهدي، أي أنني مخلوق من أمر وذلك الأمر هو الوفاء بالعهد، فجعل نفسه لكثرة وفائه كأنه مخلوق منه وذلك على سبيل المبالغة، مثل قوله تعالى: خلق الإنسان من عجل، جعل لفرط استعجاله كأنه مخلوق منها.
6- استفهامية، مثل: ( فما خطبُكم أيُّها المرسلونَ ) ؟.
7- شرطية، وهذه إما زمانية مثل: ( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) أي استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، أو غير زمانية مثل: ( وما تفعلوا من خيرٍ يعلَمْهُ اللهُ ).
والحرفية ترد:
1- مصدرية، وهذه إما زمانية مثل: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) أي مدة استطاعتكم، أو غير زمانية مثل: ( فذوقوا بما نسيتم ) أي بنسيانكم.
2- نافية، وهذه إما عاملة عمل ليس مثل: ( ما هذا بشرًا )، أو غير عاملة مثل: ( ما أنتم إلا بشرٌ مثلنا ).
3- زائدة، وهي إما كافة عن العمل مثل: ( إنما اللهُ إلهٌ واحدٌ ) فما كفّت إنّ عن عملها، أو غير كافة مثل: ( فبما رحمةٍ مِن اللهِ لِنْتَ لهم ) وأصله فبرحمة.
الرابع والعشرون: مِنْ، حرف جر يرد للمعاني الآتية:
1- ابتداء الغاية في المكان مثل: ( مِن المسجدِ الحرامِ )، والزمان مثل: ( لمسجدٌ أُسِّسَ على التقوى مِن أولِ يومٍ ).
2- انتهاء الغاية، فتكون مثل إلى، تقول: اقتربَ العدوُّ منكَ، أي إليكَ.
3- التبعيض، مثل: ( لنْ تنالوا البرَّ حتى تُنفِقوا مما تحبونَ ) أي من بعض ما تحبون.
4- التبيين، مثل: ( فاجتنبوا الرِّجْسَ من الأوثانِ ) أي الذي هو الأوثان.
5- التعليل، مثل: ( يجعلونَ أصابعَهم في آذانهم من الصواعقِ ) أي لأجل الصواعق.
6- البدل، مثل: ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرةِ ) أي بدلها.
7- تنصيص العموم، مثل: ما في الدار من رجل، هي للعموم بدون مِنْ لكن بزيادة مِن تنصيص للعموم.
8- توكيد التنصيص على العموم، مثل: ما في الدارِ من أحد، فإن المثال بدون مِن يفيد التنصيص على العموم فإذا زدت مِن أكدت ذلك.
9- الفصل، أي للتمييز بأن تدخل على ثاني المتضادَّين مثل: ( واللهُ يعلمُ المفسِدَ مِنَ المصلِحِ ).
10- بمعنى الباء، مثل: ( ينظرون إليك من طرف خفيّ ) أي بطرف.
11- بمعنى عَنْ، مثل: ( قد كنا في غفلةٍ من هذا ) أي عن هذا.
12- بمعنى في، مثل: ( إذا نودي للصلاةِ من يومِ الجمعة ) أي فيه.
13- بمعنى عند، مثل: ( لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللهِ شيئا ) أي عند الله.
14- بمعنى على، مثل: ( ونصرناه من القومِ الذينَ كذّبوا بآياتنا ) أي نصرناه عليهم.
الخامس والعشرون: مَنْ، وتكون:
1- موصولة، مثل: ( وللهِ يسجد مَن في السموات والأرض ).
2- نكرة موصوفة، مثل: رُب مَنْ نصحتهُ استفاد من نُصْحك، أي ربّ إنسان.
3- شرطية، مثل: ( من يعمل سوءً يجز به ).
4- استفهامية، مثل: ( مَن بعثنا من مرقدنا )؟.
السادس والعشرون: هل، حرف استفهام يطلب به التصديق كثيرا مثل: هل جاء زيدٌ؟، وقد يطلب بها التصور قليلا مثل: هل جاءَ زيدٌ أم عمرٌو ؟ فتكون بمعنى الهمزة حينئذ.
السابع والعشرون: الواو العاطفة، وهي لمطلق الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، ولا تفيد ترتيبا ولامعيّة، تقول: جاءَ زيدٌ وعمرٌو، إذا جاء الاثنان، سواء جاءا معا، أم جاء زيدٌ قبل عمرو أو بالعكس، وسواء جاء الثاني بعد الأول مباشرة أو بعد مهلة.


( شرح النص )

ولَنْ حرفُ نصبٍ ونفيٍ واستقبالٍ، والأَصحُّ أنَّها لا تفيدُ توكيدَ النَّفيِ ولا تأبيدَهُ، وأنَّها للدُّعاءِ.
وما ترِدُ اسمًا موصولةً، أو نكرةً موصوفةً، وتامَّةً تعجبيّةً وتمييزيّةً ومُبَالَغِيَّةً ، واستفهاميّةً، وشرطيَّةً زمانِيَّةً وغيرَ زمانيَّةٍ، وحرفًا مَصْدَرِيَّةً كذلكَ، ونافيةً، وزائدةً كافَّةً وغيرَ كافَّةٍ.
ومِنْ لابتداءِ الغايةِ غالبًا، ولانتهائِها، وللتبعيضِ، وللتبيينِ، وللتعليلِ، وللبدلِ، ولتنصيصِ العمومِ، ولتوكيدِهِ، وللفَصْلِ، وبمعنى الباءِ، وعَنْ، وفي، وعِندَ، وعلى.
ومَنْ موصولةً، أَو نكرةً موصوفةً، وتامَّةً شرطِيَّةً، واستفهاميَّةً، وتمييزيَّةً.
وهلْ لطلبِ التَّصديقِ كثيرًا، والتَّصوُّرِ قليلًا.
والواوُ العاطِفَةُ لمطلقِ الجمعِ في الأصحِّ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( و ) الثاني والعشرون ( لَنْ حرفُ نصبٍ ونفيٍ واستقبالٍ ) للمضارع ( والأَصحُّ أنَّها لا تفيدُ ) مع ذلك ( توكيدَ النَّفيِ ولا تأبيدَهُ ) لقوله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: لن تراني، ومعلوم أنه كغيره من المؤمنين يراه في الآخرة، وقيل: تفيدهما ( و ) الأصح ( أنَّها ) ترد بواسطة الفعل بعدها ( للدُّعاءِ ) وفاقا لابن عصفور وغيره، خلافا لمن نفى ذلك ( و ) الثالث والعشرون ( ما ترِدُ اسمًا ) إما أن تكون ( موصولةً ) نحو: ما عندكم ينفد وما عند الله باق، أي الذي، وهي حينئذ تكون معرفة بخلاف البواقي ( أو نكرةً موصوفةً ) بمعنى شيء ويقع بعدها صفة لها مثل: ربَّ ما كرِهتَهُ تحقّقَ فيه نفعُكَ، أي ربّ شيءٍ كرهته ( وتامَّةً ) معطوفة على موصوفة أي ونكرة تامة أي التي تكون مستغنية عن الصفة بعدها مثل: أكرمْ رجلًا ما ( تعجبيّةً) نحو: ما أحسنَ زيدًا ! فما: نكرة تامة تعجبية بمعنى شيء عظيم مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ، وأحسنَ: فعل ماض مبني على الفتح، والفاعل ضمير مستتر يعود على ما، وزيدًا: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة في آخره ( وتمييزيّةً ) معطوفة على تعجبية أي وتامة تمييزية وهي اللاحقة لنعم وبئس، نحو: إنْ تُبْدوا الصَّدقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، فما نكرة تامة مبنية على السكون في محل نصب تمييز، أي نعم شيئًا هيَ أي ابداؤها، ونحو: بئس ما اشتروا به أنفسهم، أي بئس شيئا ( ومُبَالَغِيَّةً ) معطوفة على تعجبية أي وتامة مبالغية وهي للمبالغة في الإخبار عن أحد بالإكثار من فعل، نحو: إنَّ زيدًا مِمَّا أَنْ يكتبَ، أي أن زيدا مخلوق من أمر وذلك الأمر هو الكتابة، فخبر إن محذوف تقديره مخلوق ومِن الجارة متعلقة به، وما نكرة تامة بمعنى أمر في محل جر بمن، فجعل لكثرة كتابته كأنه مخلوق منها على سبيل المبالغة، نظير قوله تعالى: خلق الإنسان من عجل ( واستفهاميّةً ) نحو: ما هو عملك؟ ( وشرطيَّةً زمانِيَّةً ) نحو: فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، أي استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ( وغيرَ زمانيَّةٍ ) نحو: وما تفعلوا من خيرٍ يعلَمْهُ اللهُ ( و ) ترد ( حرفًا مَصْدَرِيَّةً كذلكَ ) أي زمانية نحو فاتقوا الله ما استطعتم، أي مدة استطاعتكم، وغير زمانية نحو: فذوقوا بما نسيتم، أي بنسيانكم ( ونافيةً ) إما عاملة عمل ليس مثل: ما هذا بشرًا، أو غير عاملة مثل: ما أنتم إلا بشرٌ مثلنا ( وزائدةً كافَّةً ) أى مانعة من عمل ما قبلها لما بعدها نحو: إنما الله إله واحد ( وغيرَ كافَّةٍ ) نحو: فبما رحمةٍ مِن اللهِ لِنْتَ لهم، وأصله فبرحمةٍ ( و ) الرابع والعشرون ( لابتداءِ الغايةِ ) بمعنى المسافة من مكان نحو: من المسجد الحرام، وزمان نحو: من أول يوم، وغيرهما بان ترد لمحض الابتداء من غير اعتبار زمان أو مكان نحو: إنه من سليمانَ ( غالبًا ) أي ورودها لهذا المعنى وهو الابتداء أكثر من ورودها لغيره ( ولانتهائِها ) أي انتهاء الغاية نحو: اقتربَ منكَ، أي إليك ( وللتبعيضِ ) نحو: حتى تنفقوا مما تحبونَ، أي بعضه ( وللتبيينِ ) نحو: فاجتنبوا الرِّجْسَ من الأوثانِ، أي الذي هو الأوثان ( وللتعليلِ ) نحو: يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق، أي لأجلها ( وللبدلِ ) نحو: أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، أي بدلها ( ولتنصيصِ العمومِ ) وهي الداخلة على نكرة لا تختص بالنفي نحو: ما في الدار من رجل، فهو بدون مِنْ ظاهر في العموم محتمل لنفي الواحد فقط، وبها يتعين النفي لاستغراق الجنس ( ولتوكيدِهِ ) أي لتوكيد تنصيص العموم وهي الداخلة على نكرة تختص بالنفي نحو: ما في الدار من أحد، فإن كلمة أحد نكرة لا تستعمل إلا في النفي على ما ذكر بعض النحاة، فإذا قلت: ما في الدار أحدٌ، كان هذا نصا في العموم فإذا زدت مِن أفادت توكيده ( وللفصلِ ) أي للتمييز بأن تدخل على ثاني المتضادّين نحو: والله يعلم المفسد من المصلح ( وبمعنى الباءِ ) نحو: ينظرون من طرف خفي، أي بطرف ( و ) بمعنى ( عنْ ) نحو: قد كنا في غفلة من هذا، أي عنه ( و ) بمعنى ( في ) نحو: أروني ماذا خلقوا من الأرض، أي فيها ( و) بمعنى ( عندَ ) نحو: لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، أي عند الله ( و ) بمعنى ( على ) نحو: ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا، أي نصرناه عليهم ( و ) الخامس والعشرون ( مَنْ ) إما أن تكون ( موصولةً ) نحو: ولله يسجد من في السموات والأرض ( أو نكرةً موصوفةً ) رُبَّ مَنْ نصحتهُ استفاد من نُصْحك، أي ربّ إنسان ( وتامَّةً ) معطوفة على موصوفة ( شرطيةً ) نحو: من يعمل سوءً يجز به ( واستفهاميةً ) نحو: فمن ربكما يا موسى ؟ ( وتمييزيةً ) نحو قول الشاعر يمدح بشر بن مروان: ونِعْمَ مَنْ هُوَ في سِرٍّ وإعلانِ، ففاعل نعم ضمير مستتر يعود على بشر، ومن تمييز بمعنى رجل، والضمير هوَ هو المخصوص بالمدح راجع إلى بشر، وهذا على مذهب الإمام أبي علي الفارسي، وأما غيره فنفى ذلك وقال إن ما اسم موصول بمعنى الذي فاعل نعم، وهذا هو المشهور ( و ) السادس والعشرون ( هلْ لطلبِ التَّصديقِ كثيرًا ) مثل: هل جاء زيدٌ؟ ( و ) لطلب ( التَّصوُّرِ قليلًا ) مثل: هل جاءَ زيدٌ أم عمرٌو ؟ فتكون بمعنى الهمزة حينئذ كما قال الإمام ابن مالك رحمه الله ( و ) السابع والعشرون ( الواوُ العاطِفَةُ لمطلقِ الجمعِ ) بين المعطوفين في الحكم نحو جاءَ زيدٌ وعمرُو، سواء أجاء عمرو مع زيد أو بعده أو قبله ( في الأصحِّ ) وقيل تفيد الترتيب، وقيل تفيد المعية.


الموضوع الأصلي: http://feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=10#ixzz4TpM2H5Mv

تميم بن عليم
2016-12-25, 09:08 AM
الدرس التاسع والعشرون- مباحث الكتاب

الأمر


أولا: اللفظ المنتظم من أحرف ( أ-م- ر ) حقيقة في اللغة للقول المخصوص وهو افعل كذا، مجازٌ في الفعل؛ لأن المتبادر من لفظ الأمر إلى الذهن هو القول دون الفعل والتبادر علامة الحقيقة، مثال القول: ( وأمرْ أهلكَ بالصلاة ) أي قلْ لهم: صلوا، ومثال الفعل: ( وشاورهمْ في الأمرِ ) أي في الفعل الذي تعزم عليه، وكذا هو مجاز في الشأن نحو: ( وما أمر فرعون برشيد ) أي شأنه، وفي الشيء نحو: لأمرٍ ما حصل هذا، أي لشيء ما، وفي الصفة نحو: لأمر ما يسودُ مَنْ يسودُ، أي لصفة من الصفات.
ثانيا: حدّ الأمر هو: اللفظُ الدالُّ على طلبِ فعل ٍغيرِ كَفٍّ مدلولٍ عليه بغيرِ نحوِ كُفَّ. مثل: ( اتَّقُوا اللهَ ).
قولنا: ( طلب ) الطلب معناه بديهي يفهم بمجرد التفات النفس إليه بلا نظر إذْ كل عاقل يفرق بينه وبين غيره من أنواع الكلام كالخبر فلا يحتاج إلى تعريف.
وقولنا: ( فعلٍ غيرِ كَفٍّ ) احتراز عن النهي فقد تقدم أنه طلب كف النفس وهو فعل لا ترك محض، فحينئذ إذا لم نضف قيد غير كف دخل فيه النهي فأفسد التعريف فـ ( غير كفّ ) قيد يراد منه الإخراج.
وقولنا: ( مدلول عليه بغير نحوِ كُفَّ ) أي مدلول على الكف بغير صيغة كفّ، وهذا قيد يراد منه الإدخال، وذلك أن الكف عن الفعل تارة يُدل عليه بصيغة لا تفعل نحو: لا تشربْ الخمرَ، وتارة يدل عليه بلفظ كُفَّ نحو: كُفَّ عن شربِ الخمر، أو ما في معنى كُفَّ نحو: ذَر الخمرَ، ودع السرقةَ، واترك فعلَ المنكراتِ، فالكف بصيغة لا تفعل هو النهي، والكف بصيغة كُفَّ هو من الأمر.
فاتضح أن الأمر نوعان:
1- اللفظ الدال على طلب الفعل بغير لفظ كُفَّ ونحوها، مثل: اكتب وصلّ ولينفقْ وصَهْ.
2- اللفظ الدال على طلب الفعل بلفظ كُفَّ ونحوها، مثل: كُفَّ ودعْ وذرْ واتركْ، فإنها أوامر اصطلاحا وإن كانت في المعنى نهيا، فكُفَّ عن شرب الخمر، ولا تشرب الخمر، بمعنى واحد والأول أمر والثاني نهي.
ثالثا: لا يشترط في الأمر ( العلو- الاستعلاء- إرادة الطلب ).
فالعلو بأن يكون الطالب عالي الرتبة على المطلوب منه، كالسيد وعبده، والأمير ورعيته.
والاستعلاء بأن يكون الطلب فيه تعاظم أي فيه إظهار نوع سلطة على المأمور، ويظهر الاستعلاء في كيفية النطق باللفظ بأن يكون بصوت مرتفع مع غلظة.
والدليل على عدم اعتبارهما في حد الأمر قوله تعالى حكاية عن فرعون: ( فماذا تأمرونَ ) فليسوا بأعلى منه رتبة لا حقيقة ولا ادعاءً لأنه يستبعد أن يظهروا الاستعلاء عليه في وقت المشورة وهم كانوا يعدونه إلها، فقد وجد الأمر من غير علو ولا استعلاء.
وأما إرادة الطلب بأن يكون الطالب قد قصد بلفظه توجيه الطلب للشخص فقد قيل إذا لم يقصد الطلب لم يكن أمرا لأنه يستعمل في غير الطلب كالتهديد، وأجيب بأن الأمر متى ما خرج لغير الطلب كالتهديد كقوله تعالى: ( افعلوا ما شئتم ) عدّ مجازا، وتعريفنا المتقدم للأمر هو تعريف لحقيقة الأمر لا لمجازه فلا حاجة لاعتبار قيد إرادة الطلب في حد الأمر.
رابعا: الأمر بشيء لا يستلزم إرادة وقوعه، بيانه:
إن الإرادة نوعان: إرادة كونية تقتضي وجود الشيء في الواقع، وإرادة دينية تقتضي محبة الشيء، فإذا أمر الله تعالى عباده بأمر كالإيمان والصلاة والزكاة اقتضى أمره هذا محبته لوجود ذلك الشيء وإلا لما أمر به، ولا يقتضي دائما إرادة وقوعه في الواقع فإن الله أمر أبا لهب بالإيمان ولم يرد وقوعه.
خامسا: قد تقدم أن الأشاعرة قالوا بالكلام النفسي الأزلي ومعلوم أن الأمر والنهي هما قسمان من الكلام فيكون هنالك أمر نفسي ونهي نفسي فالأمر النفسي هو: اقتضاء- أي طلب- فعل غير كفّ مدلول عليه بغير نحو كُفَّ.
وأهل الحديث والمعتزلة لا يثبتون من الأمر والنهي إلا افعل ولا تفعل أي الصيغة اللفظية الدالة على معنى الطلب.


( شرح النص )


الأمرُ

أَ مَ رَ حقيقةٌ في القولِ المخصوصِ مجازٌ في الفعلِ في الأَصَحِّ، والنَّفْسيُّ اقتضاءُ فعلٍ غيرِ كَفٍّ مدلولٍ عليهِ بغيرِ نحوِ كُفَّ.
ولا يُعْتَبَرُ في الأَمرِ عُلُوٌّ ولا استعلاءٌ ولا إرادةُ الطَّلبِ في الأصحِّ، والطَّلبُ بديهيٌّ، والنَّفْسِيُّ غيرُ الإرادةِ عِندَنا.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
شرع في مباحث الأقوال بادئا بالأمر فقال: ( الأمرُ ) أي هذا مبحث الأمر ( أَ مَ رَ ) أي اللفظ المنتظم من هذه الأحرف المسماة بألف ميم راء وتقرأ بصيغة الماضي مفككا للتنصيص على إرادة لفظه ( حقيقةٌ في القولِ المخصوصِ ) نحو: وأمر أهلك بالصلاة، أي: قل لهم صلوا ( مجازٌ في الفعلِ في الأصحِّ ) نحو: وشاورهم في الأمر، أي الفعل الذي تعزم عليه، لتبادر القول دون الفعل من لفظ الأمر إلى الذهن، وقيل هو مشترك بينهما يقال على كل منهما حقيقة، وقيل غير ذلك، ولما كان الأمر عند الأشاعرة على نوعين نفسي ولفظي بيّن ذلك بقوله: ( و ) الأمر ( النفسيُّ اقتضاءُ ) أي طلب ( فعلٍ غيرِ كفٍّ ) خرج بالكف النهي لأنه طلب كفّ ( مدلولٍ عليهِ ) أي الكفّ ( بغيرِ نحوِ كُفَّ ) لأن ما دلّ عليه بكف ونحوها كذر ودع من الأمر لا النهي، وأما حد الأمر اللفظي فيؤخذ من تعريف النفسي فهو: اللفظ المقتضي لفعل غير كف مدلول عليه بغير نحو كُفَّ ( ولا يعتبرُ في الأمرِ ) بقسميه النفسي واللفظي فلا يعترض على عدم اشتمال التعريف عليها ( علوٌّ ) بأن يكون الطالب عالي الرتبة على المطلوب منه ( ولا استعلاءٌ ) بأن يكون الطلب بعظمة أي تعاظم لإطلاق الأمر بدونهما قال تعالى حكاية عن فرعون فماذا تأمرون ( ولا إرادةُ الطلبِ ) باللفظ لأن استعمال الأمر في غير الطلب كالتهديد مجاز فلا حاجة إلى اعتبار إرادة الطلب فيه ( في الأصحِّ ) وقيل: يعتبر العلو، وقيل يعتبر الاستعلاء، وقيل يعتبر إرادة الطلب ( والطلبُ بديهيٌّ ) أي متصوّر بمجرد التفات النفس إليه بلا نظر، إذ كل عاقل يفرق بالبديهة بينه وبين غيره كالإخبار وما ذاك إلا لبداهته، وهذا جواب سؤال تقديره إن معرفة المحدود متوقفة على معرفة الحد، فلا بد أن يكون الحد بجميع أجزائه معلوما وأجلى من المحدود، وقد أخذ الاقتضاء الذي معناه الطلب في تعريف الأمر وهو خفي يحتاج إلى بيان فالتعريف به تعريف بالخفي وهو لا يجوز، والجواب إن قولكم هذا مبني على أن الطلب نظري يحتاج إلى تعريف ولا نسلم ذلك بل هو بديهي ( و ) الأمر ( النفسيُّ ) المعرَّف باقتضاء فعل إلى آخره ( غيرُ الإرادةِ ) لذلك الفعل ( عندنا ) خلافا للمعتزلة فإنه تعالى أمر من علم أنه لا يؤمن كأبي لهب بالإيمان ولم يرده منه لامتناعه والممتنع غير مراد، أما عند المعتزلة فاقتضاء الفعل معناه إرادته لأنهم ينكرون الكلام النفسي ويثبتون الإرادة فردوا الطلب إلى الإرادة الكونية، فاعترض عليهم بأن الله إذا أراد شيئا وقع فيلزم أنه أراد الإيمان من أبي لهب ولم تتحقق إرادته، وهذه المسألة يعبرون عنها بأن الطلب هل هو عين الإرادة أو غيرها؟


الموضوع الأصلي: http://feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=10#ixzz4TpMAijx3

تميم بن عليم
2016-12-25, 09:09 AM
الدرس الثلاثون- مباحث الكتاب

صيغة افعل


أولا: هل للأمر النفسي- وهو الطلب القائم في النفس- صيغة لفظية وضعت في اللغة لتدل عليه ؟
فقال بعض القائلين بالكلام النفسي: ليس للطلب صيغة مخصوصة تدل عليه، وصيغة افعل نحو اكتب وقم وصهْ ولينفق تستعمل حقيقة على نحو الاشتراك في الطلب وغير الطلب، فلا تدل صيغة افعل على الأمر إلا بقرينة كأن يقال: صلّ لزوما، فالنتيجة لم تضع العرب صيغة افعل لتدل على خصوص الطلب.
وصحّح آخرون من القائلين بالكلام النفسي أن صيغة افعل موضوعة للأمر النفسي الذي هو الطلب، لا يفهم منها غيره عند تجردها عن القرائن، فالنتيجة للأمر النفسي صيغة لفظية مخصوصة تدل عليه.
وأما غير القائلين بالكلام النفسي فهذه المسألة لا موقع لها؛ لأن الأمر والنهي وسائر أقسام الكلام ليس إلا العبارات اللفظية نحو ادرسْ ولا تتكاسلْ.
ثانيا: ترد صيغة افعل لستة وعشرين معنى وهي:
1- الوجوب، مثل: ( وأقيموا الصلاةَ ).
2- الندب، مثل: ( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا )
3- الإباحة، مثل: ( كلوا من الطيّباتِ ).
4- التهديد، مثل: ( اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير ).
5- الإرشاد، مثل: ( واستشهدوا شهيدينِ من رجالكم ) والفرق بينه وبين الندب أن المصلحة فيه دنيوية بخلاف الندب، ويترتب عليه أنه لا ثواب في الإرشاد فإن قصد الشخص بالاستشهاد مثلا الامتثال والانقياد إلى الله تعالى أثيب عليه لكن لأمر خارج، وكذا إن قصد الثواب ومصلحة دنيوية كحفظ ماله من الضياع فإنه يثاب عليه لكن ثوابه فيه دون ما قبله.
6- إرادة الامتثال، كقولك لصاحبك وأنت عطشان: اسقني ماءً، فإنه لا غرض للآمر هنا إلا إرادة الامتثال.
7- الإذن بالفعل، كقولك لمن يطرق الباب: ادخلْ، وهذا يكون في غير الشارع كي يتميز عن الإباحة لأنها حكم شرعي، وبعضهم أدرج هذا في الإباحة.
8- التأديب، مثل: قوله صلى الله عليه وسلم للغلام: ( كلْ مما يليكَ ) رواه الشيخان، وهو غير مكلف فيحمل على التأديب أي تهذيب الأخلاق وإصلاح العادات.
9- الإنذار، مثل: ( قلْ تمتّعوا فإن مصيركم إلى النار ) فليس القصد إباحة التمتع للكفار بل القصد تخويفهم، والفرق بينه وبين التهديد ذكر الوعيد - كالنار- بخلاف التهديد، وبعضهم لم يفرق بينهما وجعل الإنذار من التهديد، وهو الأظهر.
10- الامتنان، مثل: ( وكلوا مما رزقكم اللهُ ) والفرق بينه وبين الإباحة أنه في الامتنان يذكر ما يحتاج إليه الخلق كالرزق في الآية فإنه به قوام حياتهم ولا غنى لهم عنه.
11- الإكرام، مثل: ( ادخلوها بسلام آمنين ) فالسلام والأمن المذكوران في الآية قرينة على أن القصد بالأمر هو الإكرام.
12- التسخير، أي الذلة والامتهان والانتقال من حالة حسنة إلى حالة ممتهنة مثل: ( كونوا قردةً خاسئينَ ).
13- التكوين، أي الإيجاد من عدم بسرعة، مثل: ( كنْ فيكون ) والفرق بين التسخير والتكوين أن التكوين فيه سرعة الانتقال من عدم إلى وجود وليس فيه انتقال من حالة إلى حالة بخلاف التسخير.
14- التعجيز، أي إظهار العجز، مثل: ( فأتوا بسورةٍ من مثله ).
15- الإهانة، مثل: ( ذقْ إنكَ أنت العزيزُ الحكيمُ ).
16- التسوية، مثل: ( فاصبروا أو لا تصبروا ).
17- الدعاء، مثل: ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ).
18- التمني، مثل: انجلِ أيها الليل الطويل.
19- الاحتقار، وهو عدم المبالاة، مثل: ( ألقوا ما أنتم ملقون ) والفرق بينه وبين الإهانة أن الإهانة تكون بقول أو فعل أو تركهما كعدم إجابته أو عدم القيام له، بخلاف الاحتقار فإنه يكون في القلب مع خلو الصيغة بما يشعر من إهانتهم فإن قوله ألقوا إنما يدل على عدم الاكتراث بشأنهم وقلة المبالاة.
20- الخبر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا لم تستحِ فاصنع ما شئتَ ) رواه البخاري، أي صنعتَ ما شئت.
21- الإنعام، أي تذكير النعمة،مثل: ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ) والفرق بينه وبين الامتنان أن فيه ذكر لأعلى ما يحتاج إليه كطيبات الرزق، بخلاف الامتنان ففيه ذكر أدنى ما يحتاج إليه كالرزق في الآية السابقة، وبعضهم لم يفرق بينهما وهو أقرب.
22- التفويض، وهو رد الأمر إلى غيرك ويسمى التسليم، مثل: ( فاقض ما أنت قاضٍ ).
23- التعجيب، مثل: ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال ) والمقصود بانظر هو طلب التعجب من صنيعهم.
24- التكذيب، مثل: ( قل هلمّ شهدائكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ).
25- المشورة، مثل: ( فانظر ماذا ترى ).
26- الاعتبار، مثل: ( انظروا إلى ثمره إذا أثمر ) .
ثالثا: ذهب الجمهور إلى أن الوجوب هو المعنى الحقيقي لصيغة افعل وبقية المعاني مجازية تحتاج لقرينة، وهل الوجوب مستفاد من الصيغة لغة أو شرعا أو عقلا ؟ أقوال: فقال بعضهم: إن الوجوب مستفاد من اللغة بدليل أن أهل اللغة يحكمون بالمخالفة على من قال له أبوه مثلا: افعل كذا، فلم يفعل، وقال بعضهم: إن الوجوب مستفاد من الشرع لأن استحقاق العقاب على العاصي إنما هو بحكم الشرع به، وقال بعضهم: إن الوجوب مستفاد من العقل بدليل أنها لو لم تكن للوجوب لكان معناها افعل إن شئت.
رابعا: الصواب أنه يجب اعتقاد الوجوب في صيغة افعل قبل البحث عن القرائن الصارفة، فإن ثبتت قرينة تغير الاعتقاد وإلا فلا.


( شرح النص )

مسألةٌ

الأَصحُّ أَنَّ صيغةَ افعَلْ مختصةٌ بالأمرِ النفسيِّ، وترِدُ للوجوبِ، وللندبِ، وللإباحةِ، وللتهديدِ، وللإرشادِ، ولإرادةِ الامتثالِ، وللإذنِ، وللتأديبِ، وللإنذارِ، وللامتنانِ، وللإكرامِ، وللتسخيرِ، وللتكوينِ، وللتعجيزِ، وللإهانةِ، وللتسويةِ، وللدعاءِ، وللتمني، وللاحتقارِ، وللخبرِ، وللإنعامِ، وللتفويضِ، وللتَّعَجيبِ، وللتكذيبِ، وللمشورةِ، وللاعتبارِ.
والأَصحُّ أنها حقيقةٌ في الوجوبِ لغةً على الأصحِّ، وأَنهُ يجبُ اعتقادُ الوجوبِ بها قبلَ البحثِ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
هذه ( مسألةٌ ) في صيغة افعل ( الأصحُّ ) على القول بإثبات الكلام النفسي ( أنَّ صيغةَ افعلْ ) والمراد بها فعل الأمر نحو: اكتب وصلّ، واسم فعل الامر نحو: صهْ، والفعل المضارع المقرون باللام نحو: لينفق ( مختصةٌ بالأمرِ النفسيِّ ) الذي هو طلب الفعل القائم بالنفس، ومعنى اختصاصها به بأن تدل عليه وضعا دون غيره من المعاني كالتهديد، وقيل لا تختص به فلا تدل عليه إلا بقرينة كصلّ لزوما، أو صمْ وإلا عاقبتك، أما المنكرون للنفسي فلا حقيقة للأمر وسائر أقسام الكلام عندهم إلا العبارات ( وتردُ ) صيغة افعل لستة وعشرين معنى على ما في الأصل، وإلا فقد أوصلها بعضهم لنيّفٍ وثلاثين معنى، ويتميز بعضها عن بعض بالقرائن ( للوجوبِ ) نحو: أقيموا الصلاةَ ( وللندبِ ) نحو: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ( وللإباحةِ ) نحو: كلوا من طيبات ما رزقناكم، إن أريد بالطيبات المستلذات، فإن أريد بها الحلال كان الأمر للوجوب ( وللتهديدِ ) نحو: اعملوا ما شئتم ( وللإرشادِ ) نحو: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، والمصلحة فيه دنيوية بخلافها في الندب ( ولإرادةِ الامتثالِ ) كقولك لصاحبك عند العطش: اسقني ماء ( وللإذنِ ) كقولك لمن طرق الباب: ادخل، وبعضهم أدرج هذا في الإباحة (وللتأديبِ ) كقولك لغير مكلف: كل مما يليكَ، وبعضهم أدرج هذا في الندب، والأوّل- أي القائل بعدم إدراج الأدب في الندب- فرق بأن الأدب متعلق بمحاسن الأخلاق وإصلاح العادات، والندب بثواب الآخرة ( وللإنذارِ ) نحو: قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار، ويفارق التهديد بوجوب اقترانه بالوعيد كما في الآية فقد اقترنت بذكر المصير ( وللامتنانِ ) نحو: وكلوا مما رزقكم الله، ويفارق الإباحة باقترانه بذكر ما يحتاج إليه كالرزق فإنه يضطر الخلق إلى تحصيله ( وللإكرامِ ) نحو: ادخلوها بسلام آمنين ( وللتسخيرِ ) أي التذليل والامتهان نحو: كونوا قردة خاسئين ( وللتكوينِ ) أي الإيجاد عن العدم بسرعة نحو: كن فيكون ( وللتعجيزِ ) أي إظهار العجز نحو: فأتوا بسورة من مثله ( وللإهانةِ ) ويعبر عنها بالتهكم نحو: ذق إنك أنت العزيز الكريم (وللتسويةِ ) بين الفعل والترك نحو: فاصبروا أو لا تصبروا ( وللدعاءِ ) نحو: ربنا افتح بيننا وبين قومنا ( وللتمني ) نحو: انجلِ أيها الليل الطويل ( وللاحتقارِ ) نحو: ألقوا ما أنتم ملقون، إذ ما يلقونه من السحر وإن عظم محتقر بالنظر إلى معجزة موسى عليه الصلاة والسلام، وفرق بينه وبين الإهانة بأن محل الإهانة القلب ومحله الاحتقار الظاهر ( وللخبرِ ) كخبر إذا لَم تَستحِ فاصْنَعْ ما شئتَ. رواه البخاري، أي صنعت، ويمكن أن يكون هذا للتهديد، وبعضهم فرق بأن التهديد فيه قرينة نحو اعملوا ما شئتم لاقترانه بقوله: إنه بما تعملون بصير بخلاف هذا. اهـ حاشية العطار على الجمع ( وللإنعامِ ) بمعنى تذكير النعمة نحو: كلوا من طيبات ما رزقناكم ( وللتفويضِ ) وهو ردّ الأمر إلى غيرك ويسمى التحكيم والتسليم نحو: فاقض ما أنت قاض (وللتعجيبِ ) نحو: انظر كيف ضربوا لك الأمثال ( وللتكذيبِ ) نحو: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ( وللمشورةِ ) نحو: فانظر ماذا ترى ( وللاعتبارِ ) نحو: انظروا إلى ثمره إذا أثمر، قال العلامة العطار: وبالجملة فلا يخلو عد هذه المعاني من تسامح اهـ حاشية العطار ( والأصحُّ أنها ) أي صيغة افعل ( حقيقةٌ في الوجوبِ ) فقط مجاز في الباقي كما عليه الشافعي والجمهور، لأن الأئمة كانوا يستدلون بها مجردة عن القرائن على الوجوب، وقيل هي حقيقة للندب فقط، وقيل هي لطلب الفعل الشامل للوجوب والندب، وقيل غير ذلك، وعلى الأصح هي حقيقة في الوجوب ( لغةً على الأصحِّ ) وهو المنقول عن الشافعي وغيره، لأن أهل اللغة يحكمون باستحقاق مخالفِ أمر سيده مثلا للعقاب، وقيل شرعا لأنها لغة لمجرد الطلب وأما الجزم المحقق للوجوب بأن ترتب العقاب على الترك إنما يستفاد من أمره أو أمر من أوجب طاعته، وقيل عقلا لأن ما يفيده الأمر لغة من الطلب يتعين أن يكون هو الوجوب دون غيره لأن حمله على الندب يصير المعنى افعل إن شئت، وليس هذا القيد أعني إن شئت مذكورا في الكلام فهو خلاف الأصل، واعترض عليه بمثله في الحمل على الوجوب فإنه يصير المعنى افعل من غير تجويز ترك، وليس هذا القيد أعني من غير تجويز ترك مذكورا فهو خلاف الأصل أيضا ( و ) الأصح ( أنهُ يجبُ اعتقادُ الوجوبِ ) في المطلوب ( بها قبلَ البحثِ ) عما يصرفها عنه إن وجد الصارف، وقيل لا يجب.


الموضوع الأصلي: http://feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=10#ixzz4TpMOkBLe

صفاء الدين العراقي
2017-03-12, 08:05 PM
الدرس الحادي والثلاثون- مباحث الكتاب

مسائل في الأمر


أولا: إذا ورد أمرٌ بفعل شيء ما بعد ورود نهي عن فعله فهل الأمر المذكور يفيد الوجوب أو الإباحة أو غيرهما ؟
الأصحّ أنه للإباحة وهذا قول أكثر العلماء لغلبة الاستعمال في ذلك؛ فإن المتتبع للأوامر التي وردت بعد نهي يجدها تفيد الإباحة، من ذلك قوله تعالى: ( وإذا حللتم فاصطادوا ) ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) بعد النهي عن البيع عند النداء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا وادّخروا ما بدا لكم ) رواه مسلم.
وكذا يكون للإباحة بعد استئذان، كما لو قيل لك: هلْ أفعلُ لكَ كذا ؟ فقلتَ: افعلْ.
أما إذا ورد العكس أعني وردَ نهيٌ عن فعل شيء بعد ورود أمر بفعله فالأصح أنه للتحريم على ماهو الأصل في النهي، فلو قال السيد لغلامه: ادخلْ هذه الدارَ، ثم قال له: لا تدخلها، فإنه يعتبر للتحريم.
ثانيا: الأصحّ أن صيغة افعل لطلب الماهية فقط لا لتكرار ولا لمرة ولا لفور ولا لتراخ.
فإذا قيل لك: اكتبْ الدرسَ، فاكتب موضوعة في اللغة لطلب حقيقة الفعل فقط وهو الكتابة، فلم يطلب منك إلا أن توجد الكتابة ولم يتعرض لبيان فعلها مرات عديدة أو مرة واحدة فقط، وكذا لم يتعرض لبيان هل يجب الامتثال على الفور أو على التراخي.
واعلم أن صيغة افعل إن قيدت بتكرار أو بفور أو تراخ كانت بحسب ما قيدت به بلا خلاف، وإنما الخلاف فيما إذا لم تقيد فتحمل على ماذا.
فإن قيل: يجب أن تكون صيغة افعل موضوعة لطلب المرة الواحدة لأنه لا يمكن أن تتحقق الماهية في الخارج بأقل من فعلها مرة واحدة.
قلنا: نعم إن المرة ضرورية لتحقق الماهية في الخارج ولكن دلالة صيغة افعل على المرة من جهة الالتزام لا أن المرة جزء من مدلولها الوضعي.
ثالثا: مَنْ امتثلَ الأمر فورا فقد برأت ذمته وعدّ ممتثلًا، وقيل لا يكون ممتثلا بناء على أن الأمر موضوع للتراخي وجوبا فمن بادر لم يمتثل، وليس بشيء.
رابعا: الأمر بشي مؤقت لا يستلزم الأمر بقضائه إذا لم يفعل في وقته، بل إنما يجب القضاء بأمر جديد، كالأمر في خبر الصحيحين: ( مَنْ نامَ عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ).
خامسا: الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر به يستلزم الإجزاء أي الكفاية في سقوط الطلب.
سادسا: الأصح أن أمر المخاطَب بأن يأمر غيره بفعل ليس أمرًا لذلك الغير.
مثاله أمر الله للولي بأن يأمر ولده غير البالغ بالصلاة، فلا يكون أمرًا من الله للولد بالصلاة وإلا صار مكلفا.
سابعا: مَن أمرَ غيره بلفظ عام يتناول الآمِر كما يتناول غيره لا يدخل الآمر فيه لأنه يبعد أن يريد الآمر نفسه بأمره.
مثال: لو قال زيدٌ لغلامه: أَكرمْ مَن أحسنَ إليكَ، فقوله: مَن أحسن، لفظ عام يتناول زيدًا كما يتناول غيره، فهل يكون أمر زيدٍ هذا يتناوله هو أيضا في حالة لو أحسن هو لغلامه ؟ والجواب: الأصح لا لأنه يبعد أن يقصد الآمر نفسه.
ثامنا: الأصح أنه يجوز عقلا للمكلف بعبادة بدنية أن ينيب غيره بفعلها بدلا عنه.
وكلامنا هو من حيث الجواز العقلي إذ لا مانع منه عقلا، وأما في الشرع فلم تقع النيابة في العبادة إلا في الحج والعمرة وكذا في الصوم بعد الموت، وأما في العبادة المالية كالزكاة فيجوز ذلك اتفاقا.


( شرح النص )

وأَنَّها إنْ وردتْ بعدَ حظرٍ أَو استئذانٍ فللإباحةِ، وأَنَّ صيغةَ النَّهيِ بعدَ وجوبٍ للتَّحريمِ.
مسألةٌ
الأَصحُّ أَنَّها لطلبِ الماهيَّةِ، والمرَّةُ ضروريةٌ، وأَن المبادِرَ ممتَثِلٌ.
مسألةٌ
الأصحُّ أَنَّ الأمرَ لا يستلزِمُ القضاءَ بل يجبُ بأمرٍ جديدٍ، وأَنَّ الإتيانَ بالمأمورِ بهِ يستلزِمُ الإجزاءَ، وأَنَّ الأمرَ بالأمرِ بشيءٍ ليس أمرًا بهِ، وأَن الآمِرَ بلفظٍ يصلُحُ لهُ غيرُ داخلٍ فيهِ، ويجوزُ عندنا عقلًا النيابَةُ في العبادةِ البدَنِيَّةِ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( و ) الأصحّ ( أَنَّها ) أي صيغة افعل ( إنْ وردتْ بعدَ حظرٍ ) نحو: وإذا حللتم فاصطادوا ( أَو ) بعد ( استئذانٍ ) كأن يقال لمن قالَ لكَ أَفعلُ لكَ كذا ؟ افعلْ ( فللإباحةِ ) الشرعية، وقيل للوجوب كما هو الحال في غير ذلك من الحالات، وقيل للوقف فلا نحكم بشيء ( و ) الأصح ( أَنَّ صيغةَ النَّهيِ ) أي لا تفعلْ الواردة ( بعدَ وجوبٍ للتَّحريمِ ) كما هو الحال في غير ذلك من الحالات، ويختلف هذا عما سبق في المسألة السابقة من القول بأن الأمر بعد النهي يفيد الإباحة وذلك لأن النهي لدفع المفسدة والأمر لتحصيل المصلحة، واعتناء الشارع بالأول أشد، وقيل للكراهة، وقيل للإباحة ( مسألةٌ الأَصحُّ أنَّها ) أي صيغة افعل ( لطلبِ الماهيَّةِ ) لا لتكرار ولا لمرة ولا لفور ولا لتراخ، وقيل للمرة، وقيل للتكرار، وقيل للفور، وقيل للتراخي ( والمرَّةُ ضروريةٌ ) إذ لا توجد الماهية بأقل منها، ولكن هذا لا يعني أنها وضعت للمرة بل يدل على أنها تستلزم المرة وفرق بين الأمرين ( و ) الأصح ( أَن المبادِرَ ) بالفعل ( ممتَثِلٌ ) وقيل لا يكون ممتثلا بناءً على أن الأمر للتراخي وجوبا، وردّ بأنه مخالف للإجماع ( مسألةٌ: الأَصحُّ أَنَّ الأمرَ ) بشيء مؤقت ( لا يستلزمُ القضاءَ ) له إذا لم يفعل في وقته ( بل ) إنما ( يجبُ ) القضاء ( بأمرٍ جديدٍ ) كالأمر في خبر الصحيحين: مَنْ نامَ عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، وقيل: الأمر يستلزم القضاء لإشعار الأمر بطلب استدراكه فإن القصد منه الفعل فحيث لم يفعل في وقته يطلب منه القضاء ( و ) الأصح ( أَنَّ الإتيانَ بالمأمورِ بهِ ) على الوجه الذي أمر به ( يستلزِمُ الإجزاءَ ) للمأتي به أي سقوط الطلب، وقيل لا يستلزم الإجزاءَ بناء على أن الإجزاء هو سقوط القضاء وقد يمتثل الشخص الأمر ولا يسقط القضاء عنه كمن صلى الظهر وهو يظن طهره ثم تبين له بعد الصلاة أنه محدث، وأجيب بأن من صلى على ظن طهارته فقد أتى بالمأمور به وسقط الطلب عنه فإذا تبين له بعد ذلك حدثه فقد توجّه له أمر آخر ( و ) الأصح ( أَنَّ الأمرَ ) للمخاطب ( بالأمرِ ) لغيره ( بشيءٍ ليس أمرًا ) لذلك الغير ( بهِ ) أي بالشيء كما في أمر الله الولي بأمر ولده بالصلاة لا يكون أمرًا من الله للصبي، نعم قد تقوم قرينة على أن ذلك الغير مأمور بذلك الشيء كما في خبر الصحيحين أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: مره فليراجعها. فيكون ابن عمر رضي الله عنهما مأمورًا منه صلى الله عليه وسلم بمراجعتها، وقيل هو أمر لذلك الغير ورد بأنه يلزم عليه تكليف الصبي ( و ) الأصح ( أَن الآمِرَ بلفظٍ يصلُحُ لهُ ) أي يصلح للآمر نفسه ( غيرُ داخلٍ فيه ) أي في ذلك اللفظ، فإذا قال السيد لغلامه: أَكرمْ مَن أحسنَ إليكَ، فأحسن السيد لغلامه، لا يكون أمرًا بالإحسان لنفسه، وقيل: يكون داخلا فيه ( ويجوزُ عندنا عقلًا النيابَةُ في العبادةِ البدَنِيَّةِ ) ومنعه المعتزلة، وكلامنا هو في الجواز العقلي إذْ لا مانع عقلا مِن أَن يأمر الله بالصلاة ويجيز لهم أن يأمروا غيرهم بفعلها نيابة عنهم، وأما في الشرع فلم تقع النيابة البدنية إلا في الحج والعمرة والصوم عن الميت، وأما في المالية فجائزة اتفاقا، فيجوز للمأمور بالزكاة أن يكلف غيره بأن يزكي عنه، فلو وجبت الزكاة على زيد فطلب من عمرو أن يزكي عنه من مال عمرو الخاص فزكى عنه صح وسقطت الزكاة عنه.

صفاء الدين العراقي
2017-03-12, 08:06 PM
الدرس الثاني والثلاثون- مباحث الكتاب

الأمر بالشيء نهي عن ضده- تكرر الأمر


أولا: الأمر بشيء ما هل هو نهي عن فعل ضده أو لا ؟
بداية ما هو المقصود بالضد هنا ؟
والجواب: تارة يراد بالضد هو ترك ذلك الفعل وهذا هو الضد العدمي، فضد الصلاة هو تركها، وضد الحج هو تركه. وتارة يراد بالضد كل فعل ينافي الأركان والشرائط المعتبرة فيه، فيكون للفعل الواحد أضداد كثيرة جدا وهذا هو الضد الوجودي، فمن أضداد الصلاة مثلا: المشي، والنوم، والأكل، والكلام، وغير ذلك.
فالأمر بالشيء نهي عن تركه قطعا. هذا هو الضد بالمعنى الأول.
وأما الضد بالمعنى الثاني فوقع الخلاف فيه بين العلماء والكلام فيه في مقامين:
1- الأمر النفسي- على القول به- وفيه أقوال:
أ- الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده، فمثلا إذا أراد السيد أن يأمر غلامه بالكتابة فطلبه الكتابة هو عين طلبه الكف عن النوم والمشي ونحوهما، بمعنى أنهما حصلا بطلب واحد لا بطلبين، فطلب فعل الشيء هو نفسه طلب ترك أضداده.
ب- الأمر بالشيء ليس هو عين النهي عن ضده، إذْ أَن طلب هذا غير طلب الكف عن ذاك كما هو ظاهر، ولكنه يستلزمه فطلب الكتابة يستلزم الكف عن أضدادها.
ج- الأمر بالشيء لا هو عين النهي عن ضده ولا يستلزمه، لأنه قد لا يخطر بقلب الآمِر ضده أصلا فكيف يكون قاصدا للنهي عن ضده!.
2- الأمر اللفظي، كأن يقول السيد: اكتب، فهذا قطعا ليس هو عين لا تنم ولا تمش ونحوهما؛ فإن الأمر اللفظي غير النهي اللفظي ولكن قيل:
أ- هو يستلزمه، بمعنى أنه إذا قيل اكتب فكأنه قيل: لا تنم، لا تمش؛ لأنه لا تتحقق الكتابة بدون الكف عن النوم والمشي.
ب- هو لا يستلزمه، لأنه وإن توقف تحقق الكتابة على الكف عن أضدادها إلا أنها قد لا تخطر ببال الآمر.
واعلم أن القائل بهذا القول أعني عدم الاستلزام يسلم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن الضد تركه واجب لتحقيق الأمر الواجب ولكن يقول تسميته نهيا يقتضي أن الناهي قاصد لتوجيه النهي عن تلك الأشياء وكيف ينهى عن شيء وهو لم يخطر بباله.
ومثل ما قيل في الأمر يقال في النهي بقسميه النفسي واللفظي.
فقد قيل إن النهي عن شيء هو أمر بفعل ضده، كالنهي عن الزنا أمر بالزواج أو التعفف، وقيل هو يستلزمه، وقيل ليس نهيا عن ضده ولا يستلزمه؛ لأن تلك الأضداد قد لا تخطر ببال الناهي.
ثم إنه في الأمر بفعل شيء لا بد من ترك جميع الأضداد، أما في النهي عن فعل شيء فيكفي فعل واحد من الأضداد.
ثانيا: إذا ورد أمر بعد أمر- كأن قيل: اكتبْ الدرسَ اكتبْ الدرسَ- وجب أن ننظر فيما يلي:
1- هل ورد الأمران متعاقبينِ أي ورد أحدهما بعد الآخر مباشرة، أو غير متعاقبين، أي ورد أحدهما بعد الآخر بمهلة؟
2- هل كان الأمران بشيئين متماثلين، كتكرار الأمر بالصلاة مثلا، أو بشيئين متخالفين، كالأمر بالصلاة والأمر بالصدقة؟
3- هل ورد الثاني معطوفا على الأول نحو: صلّ ركعتين وصل ركعتين، أو لا نحو: صلّ ركعتين صلّ ركعتين.
4- هل هناك مانع من حمل المعنى على التكرار وتعدد الفعل والمانع قد يكون عقليا مثل: اقتلْ زيدًا اقتل زيدًا، فإن إزهاق الروح شيء واحد فإزهاقه ثانيا لا يمكن لأنه تحصيل للحاصل، وقد يكون شرعيا مثل: اعتقْ عبدَك اعتقْ عبدَك، فإن الاعتاق إذا حصل أول مرة لم يتأت حصوله مرة أخرى، وقد يكون عاديا مثل: اسقني ماءً اسقني ماءً، فإن العادة جرت باندفاع الحاجة وهي العطش بأول شربة فلا حاجة للتكرار، أو لا يكون هنالك مانع مثل: صلّ ركعتين صل ركعتين فأي مانع من أن يراد منه أن يصلي أربع ركعات.
فإذا تقرر هذا فإليك الأحكام:
1- إذا ورد الأمران غير متعاقبين فهما متغايران فيجب العمل بهما، سواء كانا متماثلين كأن يقال لك: صلّ ركعتين، وبعد مهلة يقال: صلّ ركعتين، فيجب أن تصلي أربع ركعات، أم كانا متخالفين مثل: صلّ ركعتين، تصدّق بدرهم، فيجب أن تصلي وتتصدق.
2- إذا ورد الأمران متعاقبين فهنا أحوال:
أ- أن يكونا متخالفين فهما متغايران فيجب العمل بهما، سواء كانا متعاطفين نحو: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، أو غير متعاطفين نحو: اضربْ زيدًا أعطه درهما.
ب- أن يكونا متماثلين ولم يمنع من التكرار مانع فهما متغايران أيضا فيجب العمل بهما، سواء كانا متعاطفين نحو: صلّ ركعين وصلّ ركعتين، فيلزمه أربع ركعات، أو غير متعاطفين نحو: صلّ ركعتين صلّ ركعتين.
ج- أن يكونا متماثلين ومنع مانع عادي من التكرار وكانا متعاطفين فيتوقف حينئذ فيهما، مثل: اسقني ماءً واسقني ماءً، فهنا مانع عادي من التكرار فالحمل على التوكيد - أي بأن يراد بالأمر الثاني تقوية الأمر الأول لا تحصيل الفعل مرتين- هو الظاهر، وهذا الظاهر عارضه أمر آخر وهو العطف فإن العطف يقتضي المغايرة فحينئذ يتوقف في الأمر فلا ندري أيراد بالأمر الثاني هو التوكيد أو التأسيس بأن يراد تحصيل الفعل مرتين.
د- أن يكونا متماثلين ومنع مانع عقلي أو شرعي، أو عادي ولم يعارضه عطف، فالأمر الثاني للتوكيد.
مثال المانع العقلي: اقتل زيدًا اقتل زيدًا بدون عطف أو مع عطف فالحكم واحد وهو أن الأمر الثاني للتوكيد لاستحالة الذهاب للتأسيس.
ومثال المانع الشرعي: اعتق عبدك اعتق عبدك بدون عطف أو مع عطف فالحكم واحد وهو أن الأمر الثاني للتوكيد لامتناع الذهاب للتأسيس.
ومثال المانع العادي الذي لم يعارضه عطف: اسقني ماءً اسقني ماءً، فالأمر الثاني يراد به التوكيد.


( شرح النص )

مسألةٌ

المختارُ أَنَّ الأمرَ النفسيَّ بمُعَيَّنٍ ليسَ نهيًا عن ضِدِّهِ ولا يستلزِمُهُ، وأَنَّ النهيَ كالأمرِ.

مسألةٌ
الأمرانِ إنْ لم يتعاقَبَا، أو تعاقَبَا بغيرِ متماثلينِ فغيرانِ، وكذا بمتماثلينِ ولا مانعَ مِنَ التَّكرارِ في الأَصحِّ، فإنْ كانَ مانعٌ عاديُّ وعارضَهُ عطفٌ فالوقفُ، وإلَّا فالثاني تأكيدٌ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
هذه ( مسألةٌ ) في أن الأمر بالشيء نهي عن ضده أو لا، القول ( المختارُ ) تبعا لإمام الحرمين والإمام الغزالي والنووي وغيرهم رحمهم الله ( أَنَّ الأمرَ النفسيَّ ) وهو طلب الفعل القائم في النفس ( بـ ) شيء ( مُعَيَّنٍ ) إيجابا أو ندبا ( ليسَ نهيًا عن ضِدِّهِ ولا يستلزِمُهُ ) لجواز أن لا يخطر الضد بالبال حال الأمر، سواء كان الضد واحدا كضد السكون وهو الحركة، أو متعددا كضد القيام وهو القعود والاضطجاع، فالأمر بالسكون مثلا ليس نهيا عن ضده وهو التحرك ولا يستلزمه على المختار أي أن طلب السكون ليس هو نفس الكف عن التحرك ولا مستلزما له، وقيل: نهي عن ضده، وقيل: يستلزمه، وخرج بالأمر النفسي الأمر اللفظي فليس هو عين النهي اللفظي قطعا بلا خلاف، ولا يستلزمه أيضا على الأصح، وقيل: يستلزمه ( و ) المختار ( أَنَّ النهيَ ) النفسي عن شيء معين تحريما أو كراهة ( كالأمرِ ) فيما ذكر فيه فالنهي عن فعل ليس أمرا بضده ولا يستلزمه، وقيل: عينه، وقيل: يستلزمه، والنهي اللفظي كالأمر اللفظي فليس هو عين الأمر اللفظي قطعا، ولا يستلزمه على الأصح، وقيل: يستلزمه، هذه ( مسألةٌ ) في تكرر الأمر ( الأمرانِ إنْ لم يتعاقَبَا ) بأن تأخر ورود الثاني عن الأول، سواء أكانا متماثلين كالأمر بالصلاة أو متخالفين كالأمر بالصلاة والزكاة ( أو تعاقَبَا ) لكن ( بغيرِ متماثلينِ ) أي بمتخالفين سواء أكانا متعاطفين كأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، أو غير متعاطفين كاضربْ زيدًا أعطِه درهما ( فغيرانِ ) أي فالأمران غيران يجب العمل بهما ( وكذا ) إن تعاقبا ( بمتماثلينِ ولا مانعَ مِنَ التَّكرارِ ) من عقل أو شرع أو عادة، فهما غيران ( في الأَصحِّ ) من الأقوال سواء مع العطف نحو صلّ ركعتين وصل ركعتين أو بدونه كصل ركعتين صل ركعتين، وقيل: الأمر الثاني للتوكيد ( فإنْ كانَ ) ثَمَّ ( مانعٌ عاديُّ ) من التكرار ( وعارضَهُ عطفٌ ) مثل: اسقني ماء واسقني ماء ( فـ ) حكم الأمر الثاني هو ( الوقفُ ) عن التأسيس بأن يراد تكرار الفعل وعن التوكيد، لأن وجود المانع العادي يقتضي التوكيد، ووجود العطف يقتضي التأسيس فتعارضا فتوقف فيهما حيث لا مرجح فإن وجد مرجح فيصار إليه ( وإلَّا ) بأن كان ثَمّ مانع عقلي نحو اقتل زيدا اقتل زيدا أو شرعي نحو اعتق عبدك اعتق عبدك، أو كان ثَمَّ مانع عادي ولكن لم يعارضه عطف نحو اسقني ماء اسقني ماء ( فـ ) الأمر ( الثاني تأكيدٌ ) للأمر الأول.

صفاء الدين العراقي
2017-03-12, 08:06 PM
الدرس الثالث والثلاثون- مباحث الكتاب

النهي


أولا: حد النهي هو: اللفظ الدال على طلب كف عن فعل لا بلفظ كُفَّ ونحوه.
فدخل في الحد نهي التحريم ونهي الكراهة، وخرج بقوله: طلب كفّ عن فعل، طلب فعل غير كف نحو: أقيموا الصلاة.
وخرج بقوله: لا بلفظ كفّ ونحوه، نحو: كُفَّ عن المعصية، اتركْ شربَ الخمر، دعِ السرقةَ، ذروا ظاهرَ الإثمِ وباطنه، فإنها أوامر وليست بنهي كما سبق إيضاحه في الأمر.
ثانيا: النهي كالأمر لا يعتبر فيه علو ولا استعلاء على الأصح.
وإذا ورد نهي عن فعل شيء فهو نهي عنه دائما. هذا في النهي المطلق. أما المقيد فيلزم منه الدوام مدة القيد فقط، مثل: لا تسافر اليومَ.
ثالثا: ترد صيغة النهي لا تفعل لمعان منها:
1- التحريم، مثل: لا تقربوا الزنا.
2- الكراهة، مثل: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقونَ، أي لا تعمدوا إلى الخبيث أي الرديء كالخبز اليابس الذي تعافه النفس فتتصدقوا به إذْ المطلوب أن يتصدق الإنسان بما يستحسنه لنفسه كما قال تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.
3- الإرشاد، مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن النفخ في الشراب. رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، فالمقصود هو الإرشاد إلى ترك النفخ في الطعام مخافة أن يقع فيه شيء من ريقه فيتقذره الآكل منه.
والفرق بين الكراهة والإرشاد أن المفسدة المطلوب درؤها في الكراهة دينية وفي الإرشاد دنيوية.
4- الدعاء، مثل: ربَّنا لا تُزِغْ قلوبَنا بعدَ إذْ هَدَيتَنا.
5- بيان العاقبة، مثل: ولا تحسبَنَّ الذين قُتِلوا في سبيلِ اللهِ أمواتًا، أي عاقبة الجهاد الحياة لا الموت.
6- التقليل، مثل: ولا تمدنّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم، أي فهو قليل بخلاف ما عند الله.
7- الاحتقار، مثل: لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم، أي فأنتم أحقر شأنا من أن يسمع لكم.
والفرق بين التقليل والاحتقار أن الأول متعلق بالمنهي عنه وهو في المثال مد العينين إلى متاع الدنيا، والثاني متعلق بالمنهي أي المخاطب بالنهي كالكفار في آية لا تعتذروا.
8- التأييس: مثل: لا تعتذروا اليومَ.
ثالثا: لا يشترط في النهي إرادة الطلب بأن يكون الطالب قد قصد بلفظه توجيه الطلب للشخص فقد قيل إذا لم يقصد الطلب لم يكن نهيا لأنه يستعمل في غير الطلب كبيان العاقبة، وأجيب بأن النهي متى ما خرج لغير الطلب عدّ مجازا، وتعريفنا المتقدم للنهي هو تعريف لحقيقة النهي لا لمجازه فلا حاجة لاعتبار قيد إرادة الطلب في حد النهي.
رابعا: ذهب الجمهور إلى أن التحريم هو المعنى الحقيقي لصيغة لا تفعل وبقية المعاني مجازية تحتاج لقرينة، وهل التحريم مستفاد من الصيغة لغة أو شرعا أو عقلا ؟ أقوال: فقال بعضهم: إن التحريم مستفاد من اللغة بدليل أن أهل اللغة يحكمون بالمخالفة على من قال له أبوه مثلا: لا تفعل كذا، ففعل، وقال بعضهم: إن النهي مستفاد من الشرع لأن استحقاق العقاب على العاصي إنما هو بحكم الشرع به، وقال بعضهم: إن النهي مستفاد من العقل بدليل أنها لو لم تكن للتحريم لكان معناها لا تفعل إن شئت.
خامسا: النهي قد يكون عن فعل شيء واحد نحو لا تنم عن واجبك وهو الغالب، وقد يكون عن أكثر من واحد.
وما نهي فيه عن أكثر من واحد قد يكون المنهي هو الجمع بينهما وهو الحرام المخيّر نحو لا تفعل هذا أو ذاك، فعليه ترك أحدهما فقط فلا مخالفة إلا بفعلهما فالمحرم فعل الجميع لا فعل أحدهما فقط.
وقد يكون المنهي هو التفريق بينهما بأن يفعل أحدهما فقط فالواجب فعلهما معا أو تركهما معا ولا يفرّق، ومثال هذا ما ورد في الصحيحين من النهي عن المشي بنعل واحدة، فالواجب إما لبسهما معا أو نزعهما معا.
وقد يكون المنهي هو الجميع فيحرم فعل الجميع نحو: لا تزنِ ولا تسرق، فكل منهما منهي عنه.


( شرح النص )

مسألةٌ
النَّهيُ: اقتضاءُ كفٍّ عن فعلٍ لا بنحوِ كُفَّ، وقضيتُهُ الدَّوامُ ما لم يُقَيَّدْ بغيرِهِ في الأصحِّ، وترِدُ صيغتُهُ للتَّحريمِ، وللكراهةِ، وللإرشادِ، وللدُّعاءِ، ولبيانِ العاقبةِ، وللتقليلِ، وللاحتقارِ، ولليأسِ، وفي الإرادةِ والتحريمِ ما في الأمرِ، وقد يكونُ عن واحدٍ، وعن متعدِّدٍ جَمعًا كالحرامِ المُخَيَّرِ، وفَرْقًا كالنَّعلينِ تُلبسانِ أَو تُنزعانِ ولا يُفَرِّقُ بينهما، وجميعًا كالزِّنا والسَّرِقَةِ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
لما فرغ من الأمر شرع في النهي فقال: ( مسألةٌ النَّهيُ ) النفسي ( اقتضاءُ ) أي طلب ( كفٍّ عن فعلٍ لا بنحوِ كُفَّ ) ودع واترك وذر فإنها أوامر، وأما النهي اللفظي فهو اللفظ الدال على طلب كف عن فعل لا بنحو كُفّ، ولا يشترط في النهي علو ولا استعلاء في الأصح كالأمر ( وقضيتُهُ الدَّوامُ ) أي لازم معناه وهو المنع الدوام على الكف ( ما لم يُقَيَّدْ بغيرِهِ ) أي بغير الدوام بأن يقيد بمدة كأن يقال: لا تسافر اليوم، فيكون قضيته حينئذ هو الكف عن السفر ذلك اليوم فقط ( في الأصحِّ ) وقيل قضيته الدوام مطلقا وتقييده بغير الداوم يصرفه عن قضيته الموضوع هو لها فيكون مجازًا، بخلافه على الأصح فإنه يكون حقيقة متى قيد بمدة ( وترِدُ صيغتُهُ ) أي النهي وهي لا تفعل ( للتَّحريمِ ) نحو: ولا تقربوا الزنا ( وللكراهةِ ) نحو: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، والخبيث هنا هو الرديء لا الحرام ( وللإرشادِ ) كالنهي عن النفخ في الشراب ( وللدُّعاءِ ) نحو: ربَّنا لا تُزِغْ قلوبَنا بعدَ إذْ هَدَيتَنا ( ولبيانِ العاقبةِ ) نحو: ولا تحسبَنَّ الذين قُتِلوا في سبيلِ اللهِ أمواتًا، أي عاقبة الجهاد الحياة لا الموت ( وللتقليلِ ) نحو: ولا تمدنّ عينيك إلى ما متّعنا به أزواجا منهم، أي فهو قليل بخلاف ما عند الله ( وللاحتقارِ ) نحو: لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم، أي فأنتم أحقر شأنا من أن يسمع لكم، والفرق بين التقليل والاحتقار أن الأول متعلق بالمنهي عنه، والثاني متعلق بالمنهي أي المخاطب بالنهي ( ولليأسِ ) أي إيقاع اليأس في نفوسهم ولو عبر بالإياس أو التأييس لكان أولى، نحو: لا تعتذروا اليومَ ( وفي الإرادةِ والتحريمِ ما في الأمرِ ) من الخلاف فقيل لا تدل صيغة لا تفعل على الطلب إلا إذا أريد بها الطلب، والأصح أن الصيغة تدل على الطلب بلا إرادة، وأنها حقيقة في التحريم لغة وقيل شرعا وقيل عقلا ( وقد يكونُ ) النهي ( عن ) شيء ( واحدٍ ) نحو: لا تزنِ ( وعن متعدِّدٍ جَمعًا كالحرامِ المُخَيَّرِ ) نحو: لا تفعل هذا أو ذاك، فعليه ترك أحدهما فقط فلا مخالفة إلا بفعلهما فالمحرم فعلهما لا فعل أحدهما فقط ( وفَرْقًا كالنَّعلينِ تُلبسانِ أَو تُنزعانِ ولا يُفَرِّقُ بينهما ) بلبس أو نزع إحداهما فقط فإنه منهي عنه أخذا من خبر الصحيحين: لايمشين أحدكم فى نعل واحدة لينعلهما جميعا أو ليخلعهما جميعا. فهما منهي عنهما لبسا أو نزعا من جهة التفريق بينهما فى ذلك ( وجميعًا كالزِّنا والسَّرِقَةِ ) فكل منهما منهي عنه فبالنظر اليهما معا يصدق أن النهي عن متعدد، وإن صدق بالنظر إلى كل واحد منهما أن النهي عن واحد.

صفاء الدين العراقي
2017-03-12, 08:07 PM
الدرس الرابع والثلاثون- مباحث الكتاب

اقتضاء النهي الفساد


أولا: النهي قد يكون مقيدا وقد يكون مطلقا، فالمقيّد هو الذي قيّد بما يدل على فساد أو صحة كأن يقال: لا تفعل كذا وإلا بطل عملك، أو لا تفعل كذا فإن فعلت أجزأك، فهذا حكمه معلوم وهو أنه ما دل على فساده الدليل فهو فاسد وما دل على صحته فهو صحيح، من ذلك النهي عن الطلاق في الحيض مع أمره صلى الله عليه وسلم ابن عمر بمراجعة زوجته لمّا طلقها وهي حائض. رواه الشيخان. فإن الأمر بمراجعتها دليل على انتفاء الفساد إذْ لو لم يصح لما احتيج إلى مراجعتها فيقع الطلاق في الحيض.
وأما النهي المطلق فهو الذي لم يقيّد بما يدل على فساد أو صحة.
ثانيا: النهي المطلق عن شيء إن رجع النهي فيه إلى عينه أو جزئه أو لازمه المساوي أو جهل مرجعه فهو مقتض للفساد، وإن رجع إلى أمر خارج عنه فهو غير مقتض للفساد. توضيحه:
إن الشيء إنما ينهى عنه لمفسدة فيه فتلك المفسدة هي علة النهي، فمعنى رجوع النهي إلى شيء كون ذلك الشيء هو علة وسبب النهي عنه أي أن مرجع النهي علته فإذا كانت علة النهي عن فعل شيء ما هي نفسه وعينه قيل إن النهي يرجع إلى عينه أو كانت علة النهي جزءًا من ذلك الفعل قيل إن النهي يرجع إلى جزئه أو كانت العلة هي لازمة لذلك الشيء قيل إن النهي يرجع إلى لازمه أو كانت العلة غير لازمة قيل إن النهي يرجع إلى أمر خارج.
وبعبارة مختصرة إن علة النهي إما أن تتعلق بذات الشيء أو بخارج عنه فما كان لذات الشيء يشمل العين والجزء وما كان لخارج عنه يشمل اللازم له وغير اللازم.
مثال ما رجع النهي فيه إلى عينه: الزنا فهو قبيح لذاته فنفس الزنا هو قبيح لم يشرع أصلا في أي حال من الأحوال.
ومثال ما رجع النهي فيه إلى جزئه: ما فقد فيه ركن أو شرط من شروطه كالصلاة بلا ركوع أو طهارة، ومثل: النهي عن بيع الملاقيح أي الأجنة في بطون الأمهات رواه البزار وفيه مقال. فهنا النهي لانعدام المبيع وهو ركن من أركان البيع.
ومثال ما رجع النهي فيه إلى أمر خارج لكنه لازم له: صوم العيدين فإن الصوم في أصله مشروع ولا يوجد خلل في أركان أو شروطه ولكن اقترن به في ذلك الزمان وصف هو الإعراض عن ضيافة الرحمن سبحانه هو علة النهي عنه، وهذا الوصف خارج عن حقيقة الصوم ولكنه لازم له فكلما وجد الصيام في العيدين وجد الإعراض، وكلما وجد الإعراض عن ضيافة الرحمن وجد الصوم في العيدين فهو لازم مساو لتحققه من الطرفين.
ومثال ما رجع النهي فيه لأمر خارج: البيع في وقت النداء فإن النهي فيه لمخافة تفويت الجمعة وهو أمر ليس بلازم لجواز العقد على بيع شيء وهو في طريقه إلى الجمعة ولا تفوته، وكذا لو كان النهي لأمر لازم ولكنه لازم أعم مثل النهي عن الصلاة في المكان المغصوب للغصب فكلما صلى في المكان المغصوب فقد تحقق الغصب وشغل حيز الغير ظلما ولكن هذا اللازم ليس مساويا بل هو أعم؛ لأن الغصب كما يتحقق بالصلاة في الأرض المغصوبة يتحقق بغير الصلاة كمن ينام ويجلس في أرض مغصوبة فليس كلما وجد الغصب وجدت الصلاة بل قد يتحقق الغصب مع الصلاة ومع غيرها فيكون لازما أعم فلا يقتضي فساد المنهي عنه أي تصح الصلاة في المكان المغصوب لأن النهي لم يتوجه للصلاة بل إلى الغصب بأي صورة كان، فظهر أن النهي لأمر خارج يشمل صورتين ما ليس بلازم أصلا وما كان لازما أعم.
فإن جهل مرجع النهي هل هو راجع إلى ذاته أو لخارج عنه غير لازم فيقتضي الفساد أيضا تغليبا لجانب الفساد على ما لا يقتضيه احتياطا مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه رواه الشيخان أي أن يشتري شخص طعاما وقبل أن يقبضه إليه يعقد صفقة أخرى ويبيعه لشخص آخر فيحتمل أن النهي لأمر داخل فيه إن كان الركن هو المبيع المقبوض ويحتمل أن يعود إلى خارج عنه إن كان الركن هو ذات المبيع فيكون القبض وصفا خارجا عن ذات المنهي عنه فهنا حكموا بفساد البيع تغليبا لجانب الفساد.
ثالثا: لا فرق في اقتضاء النهي الفساد بين كون النهي عن الشيء نهي تحريم أو نهي كراهة؛ لأن كون الشيء مكروها لا إثم فيه إنْ فعلَ لا يمنع من فساد ما فعل وعدم الاعتداد به كالنهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة فقد قيل إن النهي للتحريم وهو الأصح وقيل للكراهة وعلى القولين لا تصح الصلاة في تلك الأوقات.
رابعا: الفساد المذكور هو من حيث الشرع؛ إذْ لا يفهم ذلك إلا من حيث الشرع. وقيل: من حيث اللغة؛ لأن أهل اللغة يفهمون فساده من مجرد اللفظ. وقيل من حيث العقل؛ لأن الشيء إنما ينهي عنه بسبب ما اشتمل عليه مما يقتضي فساده لو وقع.
خامسا: ما نفي القبول فيه عن شيء فقيل: دليل على صحته لو وقع؛ لأن الظاهر أن المقصود هو نفي الثواب دون الاعتداد. وقيل: دليل على فساده؛ لأن نفي قبوله يدل على عدم الاعتداد به.
مثال الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: مَن أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة. رواه مسلم. والظاهر أن نفي القبول في هذا الحديث ونحوه لنفي الثواب لا لنفي الاعتداد به.
ومثال الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ. متفق عليه.
والظاهر هو عدم الترجيح لأن نفي القبول ورد تارة بالمعنى الاول وورد تارة بالمعنى الثاني.
أما إذا نفي الإجزاء عن فعل فحكمه حكم نفي القبول فيما تقدم من الخلاف وقيل بل هو أولى بالفساد لتبادر عدم الاعتداد بالفعل الذي حكم بأنه غير مجزئ.
مثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بأمّ القرآن. رواه الدارقطني وابن خزيمة وابن حبان وصححه ابن قَطَّان.


( شرح النص )

والأصحُّ أَنَّ مطلقَ النهيِ ولو تنزيهًا للفسادِ شرعًا في المنهيّ عنه إنْ رجعَ النهيُ إليهِ أو إلى جزئِه أو لازمِه أو جُهِلَ مَرْجِعُهُ.
أمَّا نفيُ القبولِ فقيلَ: دليلُ الصحةِ، وقيلَ: الفسادِ، ومثلُهُ نفيُ الإجزاءِ، وقيلَ أولى بالفسادِ.
......................... ......................... ......................... ......................... ...
( والأصحُّ أَنَّ مطلقَ النهيِ ) احتراز عن النهي المقيد بما يدل على فساد المنهي عنه أو صحته فإن حكمه معلوم ( ولو تنزيها ) أي كان النهي للكراهة وليس للتحريم ( للفسادِ ) أي مقتض لعدم الاعتداد في المنهي عنه ( شرعًا ) أي يفهم ذلك من الشرع، وقيل لغة لفهم أهلها ذلك من مجرد اللفظ، وقيل عقلا وهو أن الشيء إنما ينهى عنه إذا اشتمل على ما يقتضي فساده ( في المنهيّ عنهُ ) مطلقا من عبادة أو معاملة ( إنْ رجعَ النهيُ إليهِ ) أي إلى عين المنهي عنه كالنهي عن الزنا ( أو إلى جزئِهِ ) كالنهي عن بيع الملاقيح أي الأجنة في بطون الأمهات لانعدام المبيع وهو ركن في البيع ( أو ) إلى ( لازمِهِ ) كالنهي عن صوم العيدين للاعراض عن ضيافة الرحمن، واعلم أن المقصود باللازم في هذا الموضوع هو اللازم المساوي الذي يتحقق من الطرفين كاللزوم بين الشمس والنهار، أما اللازم الأعم كلزوم الزوجية للأربعة وغيرها فهو مندرج في ما كان النهي فيه إلى أمر خارج فتنبه ( أو جُهِلَ مَرْجِعُهُ ) فلم يدر أهو يعود إلى داخل فيه فيقتضي الفساد أو خارج عنه فلا يقتضي الفساد وذلك من باب الاحتياط لأن الأصل في النهي هو الفساد ولا يخرج عنه إلا لدليل بأن كان النهي غير لازم له أصلا كالنهي عن البيع بعد النداء أو هو لازم أعم كالنهي عن الصلاة المغصوبة، مثال ما جهل مرجعه النهي عن بيع الطعام قبل قبضه فيحتمل أن النهي لأمر داخل فيه إن كان الركن هو المبيع المقبوض ويحتمل أن يعود إلى خارج عنه إن كان الركن هو ذات المبيع فيكون القبض وصفا خارجا عن ذات المنهي عنه فنحكم عليه بالفساد ( أمَّا نفيُ القبولِ ) عن شيء (فقيلَ دليلُ الصحةِ ) له لظهور النفي في عدم الثواب دون الاعتداد كما حمل عليه نحو خبر مسلم: مَن أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة. والظاهر أن نفي القبول في هذا الحديث ونحوه لنفي الثواب لا لنفي الاعتداد به ( وقيلَ ) دليل ( الفسادِ ) لظهور النفي في عدم الاعتداد ولأن القبول والصحة متلازمان فإذا نفي أحدهما نفي الآخر كما حمل عليه خبر الصحيحين: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ، قال العلامة البرماوي: فهذان القولان متكافئان لا ترجيح لأحدهما على الآخر؛ لأن نفي القبول ورد تارة في الشرع بمعنى نفي الصحة، وأخرى بمعنى نفي القبول مع وجود الصحة. اهـ نقلا عن حاشية العطار ( ومثلُهُ ) أي نفي القبول ( نفيُ الإجزاءِ ) في أنه دليل الصحة أو الفساد قولان ( وقيلَ ) هو ( أولى بالفسادِ ) من نفي القبول لتبادر عدم الاعتداد منه إلى الذهن كخبر الدارقطني وابن خزيمة وابن حبان وصححه ابن قَطَّان: لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بأمّ القرآن.

صفاء الدين العراقي
2017-03-12, 08:08 PM
الدرس الخامس والثلاثون- مباحث الكتاب

العام


أولا: حد العام هو: لفظ يستغرق الصالح له بلا حصر.
مثل قوله تعالى: قدْ أفلحَ المؤمنونَ، فالمؤمنونَ لفظ عام يشمل جميع أفراد المؤمنين.
قولنا: ( يستغرق الصالح له ) أي يتناول المعنى الذي يصلح له دفعة واحدة، بخلاف المطلق كالنكرة في سياق الإثبات نحو: أكرمْ رجلًا، فإنه لا يشمل جميع أفراد الرجال دفعة واحدة، بل على البدل أي أكرمْ هذا أو ذاك فلا يسمى عاما.
وقولنا: ( بلا حصر ) خرج به اسم العدد كعشرة نحو أكرم عشرة رجال فإنها تستغرق الأفراد العشرة ولكن مع حصر فشرط العام أن لا يكون اللفظ محصورا بمقدار معين.
ثانيا: هل يتناول العام الصورة النادرة وغير المقصودة أَوْ لا ؟ الأصح أنه يتناولهما.
مثال الصورة النادرة: ما ورد في حديث أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن القَطَّان: لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ أَو حَافِرٍ أو نَصْلٍ. أي لا مسابقة بمال إلا فيما ذكر من الحيوانات ذوات الأخفاف كالإبل، أو ذوات الحافر كالخيل أو بالرمي بالسهام.
والفيل من ذوات الأخفاف فالصحيح دخوله في عموم ذوات الأخفاف وإن كان السباق فيه نادرًا فيصح السَبَقُ فيه.
ومثال الصورة غير المقصودة للمتكلم: ما لو وكّل زيد شخصا بشراء عبيد فلان وفيهم مَن يعتق على زيد لزوما من أقربائه كأولاده وأولاد أولاده ولم يعلم بكونهم عبيدا عند فلان فإذا اشتراه الوكيل فإنه يعتق على زيد وإن لم يقصده بالشراء.
ثالثا: العام كما يكون في الحقيقة كالمؤمنين في الآية السابقة يكون في المجاز أيضا نحو: جاءني الأسودُ الرماةُ.
رابعا: العموم من عوارض الألفاظ أي توصف به الألفاظ حقيقة فيقال هذا لفظ عام وهذا محل اتفاق ولكنهم اختلفوا هل توصف المعاني بالعموم أيضا فيقال هذا المعنى عام ؟
ذهب بعضهم إلى أن العموم يعرض للمعاني أيضا، وذهب بعضهم إلى أنه يعرض للألفاظ فقط ووصف المعاني به مجاز.
كالإنسان فكما يقال لفظ الإنسان عام يتناول جميع أفراده كزيد وعمرو وهند، هل يقال معناه وهو الحيوان الناطق عام ؟
خامسا: إذا وقع العام في جملة محكوما عليه بحكم ما فإن الحكم يتعلق بكل فرد من أفراده على وجه المطابقة.
مثال: جاءَ المؤمنونَ، فهنا اللفظ العام المؤمنونَ وقع في الجملة محكوما عليه بالمجيء فيتعلق الحكم بكل أفراده مطابقة أي تكون عندنا قضايا كثيرة بعدد الأفراد أي جاءَ زيدٌ، وجاءَ عمرٌو، وجاءَ بكرٌ.. فقولنا: جاءَ المؤمنونَ، قضيةٌ كلية موجبة.
مثال: لنْ يفلحَ الكفّارُ، أي لن يفلح هذا الكافر، ولن يفلح ذاك الكافر.. فقولنا: لن يفلح الكفّارُ، قضية كلية سالبة.
سادسا: دلالة العام على أصل معناه دلالة قطعية وعلى كل فرد ظنيّة.
أي أن اللفظ العام كالرجال مثلا يدل على كل فرد من أفراد الرجال دلالة ظنية؛ لاحتمال أن يكون قد خصص بمخصص وإن لم يظهر لنا لكثرة التخصيص في العام. أما دلالته على أصل معناه أي على أقل الجمع وهو ثلاثة أفراد فهو دلالة قطعية.
فإذا قيل: أكرمْ رجال القرية، فشمول الحكم لجميع الأفراد هو الظاهر المعمول به لكن تبقى دلالته على إكرام الجميع ظنية لاحتمال وجود مخصص للمتكلم استثنى فيه المتكلم زيدًا مثلا من الإكرام. ولكن التخصيص لا يمكن أن ينتهي إلى حد لا يستوعب ثلاثة من الرجال وإلا كان نسخا لا تخصيصا.
وذهب الحنفية إلى أن دلالته على كل فرد قطعية كدلالته على أصل معناه.
ومن المتفق عليه أنه إذا قام دليل على انتفاء التخصيص في قضية ما فالدلالة قطعية، كدلالة العقل والنقل على انتفاء التخصيص في قوله تعالى: ( والله بكل شيء عليم ).
سابعا: عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة والأمكنة.
أي أن ثبوت الحكم في العام على كل شخص- كما سبق- يستلزم أن يكون الحكم على أية حال وفي أي مكان أو زمان، فقوله تعالى: ( ولا تقربوا الزنا ) يعني لا يقربه أي أحد في أي وقت وفي أي زمان وعلى أية حال.


( شرح النص )


العَامُّ
لفظٌ يَسْتَغْرِقُ الصَّالِحَ لهُ بِلا حَصْرٍ، والأصحُّ دخولُ النَّادِرَةِ وغيرِ المقصودةِ فيهِ، وأَنَّهُ قدْ يكونُ مجازًا، وأَنَّهُ مِن عوارضِ الألفاظِ فَقَطْ، ويقالُ للمعنى: أَعمُّ، ولِلَّفظِ: عامٌّ، ومَدلولهُ كُليّةٌ أي محكومٌ فيه على كلِّ فردٍ مطابقةً إثباتًا أو سلبًا، ودلالتُهُ على أصلِ المعنى قطعيَّةٌ، وعلى كلِّ فردٍ ظَنِّيَّةٌ في الأصحِّ، وعمومُ الأشخاصِ يستلزمُ عمومَ الأحوالِ والأزمنةِ والأمكنةِ على المختارِ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
لا زال الكلام في مباحث الأقوال وقد فرغ من الأمر والنهي وشرع في العام فقال: ( العَامُّ ) أي هذا مبحث العام، وهو ( لفظٌ يَسْتَغْرِقُ ) المعنى ( الصَّالِحَ لهُ ) معنى استغراق اللفظ هو تناوله لمعناه الموضوع له دفعة واحدة فتخرج النكرة في الإثبات نحو: أكرمْ رجلا، فإنه لا يشمل كل رجل دفعة بل المقصود أكرم رجلا على البدل أي هذا أو ذاك ( بِلا حَصْرٍ ) يخرج اسم العدد نحو: أكرم عشرة رجال، فإنها تستغرق الأفراد العشرة ولكن مع حصر ( والأصحُّ دخولُ ) الصورة ( النَّادِرَةِ وغيرِ المقصودةِ ) للمتكلم ( فيهِ ) أي في العام فيشملهما حكمه نظرًا لعموم اللفظ، وقيل: لا يدخلان فيه نظرًا للمقصود عادة في مثل ذلك فإنه لم تجر العادة بقصد الصورة النادرة، مثال الصورة النادرة : حديث: لا سبَق إلا في خُف أو حافر أو نصل، فيدخل السبق على الفيل لأنه من ذوي الخف وإن كانت المسابقة فيه نادرة، ومثال الصورة غير المقصودة للمتكلم: ما لو وكّل زيد شخصا بشراء عبيد فلان وفيهم مَن يعتق على زيد ولم يعلم به فإذا اشتراه الوكيل فإنه يعتق على زيد وإن لم يقصده بالشراء ( و ) الأصح ( أَنَّهُ ) أي العام ( قدْ يكونُ مجازًا ) بأن يستعمل اللفظ العام في المعنى المجازي نحو: جاءني الأسودُ الرماةُ، وقيل: لا يكون العام مجازًا إلا بقرينة كما لو قيل: جاءني الأسود الرماة إلا زيدًا، فإن الاستثناء دليل على إرادة العموم ( و ) الأصح ( أَنَّهُ ) أي العموم ( مِن عوارضِ الألفاظِ فَقَطْ ) أي دون المعاني، وقيل: من عوارض الألفاظ والمعاني معا ( ويقالُ ) اصطلاحا ( للمعنى: أَعمُّ ) وأخص ( ولِلَّفظِ: عامٌّ ) وخاص، وهذا اصطلاح أصولي فرقوا فيه بين اللفظ فخصوه بالعام والمعنى فخصوه بأفعل التفضيل فقالوا أعم فيقال للفظ المؤمنين عام ولمعناه أعم، فإن قيل فيلزم على هذا أن يكون المعنى يوصف بالعموم وقد صحح المصنف أن العموم من عوارض الألفاظ؟ قلنا إن المراد بالعموم هنا هو الشمول لمتعدد ولا شك أن المعنى الكلي يصدق على متعدد، بخلافه عند قولهم إن العموم من عوارض الألفاظ فالمراد به العموم الاصطلاحي فتأمل ( ومَدلولهُ ) أي العام إذا وقع في التركيب من حيث الحكم عليه ( كُليّةٌ أي محكومٌ فيه على كلِّ فردٍ مطابقةً إثباتًا أو سلبًا ) فقولنا: جاءَ أولادي، في قوة قولنا: جاءَ زيد وعمرو وسعيد، وقولنا: لم يجئ أولادي، في قوة قولنا: لم يجئ زيد ولا عمرو ولا سعيد، وفي ذلك رد على قول العلامة القرافي إن دلالة العام على كل فرد فرد من أفراده خارجة عن الدلالات الثلاث: المطابقة والتضمن والالتزام؛ لأنها مندرجة في دلالة المطابقة ( ودلالتُهُ ) أي العام ( على أصلِ المعنى ) أي أصل معنى اللفظ بدون عموم فقولنا: أكرم العالم، إذا أريد بأل فيه الاستغراق كان المعنى أكرم كل عالم، فأصل المعنى هو العالم الواحد، وقولنا: أكرم العلماء، أصل المعنى هو أقل الجمع وهو ثلاثة ( قطعيَّةٌ ) اتفاقا ( و ) دلالته ( على كلِّ فردٍ ) منه بخصوصه ( ظَنِّيَّةٌ في الأصحِّ ) لاحتماله التخصيص وإن لم يظهر مخصص لكثرة التخصيص في العمومات، وقيل: قطعية فيشمل كل فرد قطعا حتى يظهر خلافه من مخصص للعام ( وعمومُ الأشخاصِ يستلزمُ عمومَ الأحوالِ والأزمنةِ والأمكنةِ على المختارِ ) أي أن عموم العام لجميع أفراده يدل بالإلتزام لا بالمطابقة على عموم الأحوال والأزمنة والأمكنة لأنه لا غنى للأشخاص عنها فقوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، أي على أي حال من طول أو قصر وبياض أو سواد وغير ذلك من الأحوال وفي أي زمان كان وفي أي مكان كان، وخصّ منه المحصن فيرجم أي خرج المحصن من عموم الأحوال لكل زان، وقيل: إن العموم هو في الأفراد فقط ويكون مطلقا في الأحوال والأزمنة والأمكنة لانتفاء صيغة العموم فيها، فقوله تعالى في الآية السابقة يعم كل زانية وزان لكن لا يعم الأحوال حتى يجلد في حال الإحصان وعدمه ولا يعم الأمكنة حتى يعم الزنا في كل بقاع الأرض ولا الأزمنة حتى يعم جميع الأيام، فالدليل المبين لخروج المحصن مخصص للعام على القول الأول، مبين للمطلق على القول الثاني فإن الزاني مطلق من حيث الإحصان وعدمه فإذا دل دليل على خروج المحصن حمل الزاني في الآية على غير المحصن فلا يوجد تخصيص من أصله.

صفاء الدين العراقي
2017-03-12, 08:08 PM
الدرس السادس والثلاثون- مباحث الكتاب

صيغ العموم


أولا: صيغ العموم هي:
1- كل، كقوله تعالى: ( كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ ). والعموم فيها إنما هو عموم ماتضاف إليه. وتقدمت في مبحث الحروف.
2-3- الذي والتي، نحو: أكرمْ الذي يأتيكَ، والتي تأتيكَ.
4- 5- أيّ وما الشرطيتان، والاستفهاميتان، والموصولتان.
مثال الشرطيتين: ( أيما الأجلينِ قضيتُ فلا عدوانَ عليّ )، ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ).
ومثال الاستفهاميتين: ( أيهم زادته إيمانا )، ( قال: فما خطبكم ).
ومثال الموصوليتين: ( لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا )، ( ما عندكم ينفد وما عند الله باق ).
6- متى الشرطية والاستفهامية، نحو: متى تجيئني ؟، ومتى جئتني أكرمتك.
7- أين الشرطية والاستفهامية، نحو: ( أينما تكونوا يدرككم الموت )، وأينَ كنتَ؟
8- حيثما الشرطية، نحو: حيثما كنت آتِكَ.
9- الجمع المعرّف باللام أو الإضافة، نحو: ( والله يحب المحسنين ) أي كل المحسنين، ( يوصيكم الله في أولادكم ) أي في كل أولادكم، وذلك بشرط أن لا يتحقق عهد أي لا تكون أل أو الإضافة لشيء معهود فيصرف إليه. بيانه:
إن أل ومثلها الإضافة تكون للاستغراق والعهد والجنس.
مثال الاستغراق: أكرم العلماء المسلمين أي كلهم، وأكرم علماء المسلمين.
ومثال العهد: جاءَ القضاةُ أي قضاة معينون يعرفهم المخاطب، وجاءَ قضاةُ البلد، تريد طائفة معينة منهم.
ومثال الجنس: تزوجْ من العفيفات، أي من هذا الجنس الصادق بأي عفيفة، وتزوجْ من عفيفاتِ النساءِ.
فإذا علم هذا فإن أل والإضافة تحمل على الاستغراق ما لم يقم دليل على إرادة العهد أو الجنس.
10- المفرد المعرف باللام أو الإضافة، نحو: ( وأحلَّ الله البيعَ ) أي كل بيع، ( فليحذر الذين يخالفونَ عن أمره ) أي عن كل أمر من أوامره صلى الله عليه وسلم، وذلك ما لم يتحقق عهد أيضا.
11- النكرة في سياق النفي، مثل: ماجاءَ رجلٌ. وإفادة العموم تكون إما نصا أو ظاهرا.
فالنص إذا وقعت النكرة اسما للا النافية للجنس مثل: لا رجلَ في الدارِ.
والظاهر في غير ذلك مثل: لا رجلٌ حاضرًا، وما في الدارِ رجلٌ؛ إلا إذا زيدت فيها مِنْ فتكون نصا نحو: ( ما مِنْ إلهٍ إلا الله ).
ومثل النفي النهي والاستفهام الإنكاري نحو: ( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدًا )، ( هل تعلمُ له سَمِيًّا ).
12- النكرة في سياق الشرط، نحو: ( إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا ).
ثانيا: قد يستفاد العموم من اللفظ لا بطريق الوضع بل من طريق العرف أو العقل.
مثال العموم العرفي: مفهوم الموافقة على رأي بعض العلماء فقد ذكرنا -سابقا- أنه قد اختلف في مفهوم الموافقة على قولين: الأول أنه مستفاد بطريق القياس أي أن الدلالة ليست من المنطوق ولا من المفهوم، والثاني أنه مستفاد من مفهوم اللفظ والدلالة عليه مفهومية وهذا القول هو الذي اختاره المصنف، وثمة قول ثالث وهو أن الدلالة عليه ليست مأخوذة من المفهوم بل من المنطوق بأن نقلَ العرفُ اللفظَ للدلالة على معنى أعم، وعليه فتكون الدلالة عليه من المنطوق.
فقوله تعالى: ( فلا تقل لهما أفٍّ ) دلالة التأفيف على تحريم الضرب من مفهوم الموافقة الأولى على المختار، وقيل بل دلالته عليه قياسية فلا هي من المنطوق ولا هي من المفهوم، وقيل: بل دلالته عليه دلالة لفظية لأن المراد من التأفيف ليس خصوص ذلك القول الذي يقوله المرء عند الضجر بل نقل إلى معنى أعم وهو المنع من الإيذاء بأي شكل كان وعليه فالدلالة منطوقية. فإذا علم هذا فعلى هذا القول الثالث يكون اللفظ قد عمّم بطريق العرف، فهذا نوع آخر من أنواع العموم غير العموم المستفاد من وضع الألفاظ نحو كل والذي والتي.
ومثله قوله تعالى: ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) دلالة الأكل على تحريم حرق الأموال وسائر أنواع الإتلاف من مفهوم الموافقة المساوي على المختار، وقيل: بل دلالته عليه قياسية، وقيل بل لفظية منطوقية بأن نقل العرف لفظ الأكل إلى معنى أعم فلم يرد به خصوص أكل الطعام بل المراد به كل أنواع الإتلاف.
فالتمثيل بالعموم العرفي إنما يتأتى على القول الثالث.
وكذا قوله تعالى: ( حرمت عليكم أمهاتكم ) فهذه الآية من دلالة الاقتضاء وفي الآية حذف والأصل حرم عليكم نكاح أمهاتكم على قول، وقيل: بل هو من باب العموم العرفي حيث نقل العرف اللفظ من تحريم العين إلى تحريم جميع الاستمتاعات المقصودة من النساء من الوطء وغيره.
ومثال العموم العقلي: دلالة التنبيه والإيماء كقوله تعالى: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) فإنه يعم كل سارق وسارقة لأن ترتيب الحكم وهو القطع على وصف وهو السرقة يفيد أن الوصف علة الحكم، وكلما وجدت العلة وجد الحكم، فهذا مثال التعميم العقلي.
وكذا مفهوم المخالفة على قول، فقد تقدم أن دلالة المخالفة حجة بطريق اللغة، وقيل بل الدلالة عليه من الشرع أي يعرف من تتبع موارد الشرع، وقيل بل الدلالة عليه عقلية وهو أنه لو لم ينف المذكور الحكم عن المسكوت لم يكن لذكره فائدة، فمثلا: في الغنم السائمة زكاة، المختار أن الدلالة على عدم الزكاة في الغنم غير السائمة مأخوذة من اللغة، وقيل من الشرع، وقيل من العقل.
وعليه فإن المفهوم هو أن كل غنم غير سائمة لا زكاة فيها أخذ من حكم العقل بذلك فيكون هذا مثال العموم العقلي على القول الثالث.


( شرح النص )

مَسْأَلَةٌ

كلٌّ والذي والتي وأيٌّ وما ومتى وأينَ وحيثما ونحوُها للعمومِ حقيقةً في الأصحِّ، كالجمعِ المعرَّفِ باللامِ أوِ الإضافةِ ما لم يتحقَّقْ عهدٌ، والمفردُ كذلكَ.
والنكرةُ في سياقِ النَّفيِ للعمومِ وضعًا في الأصحِّ نَصًّا إنْ بُنيتْ على الفتحِ، وظاهرًا إنْ لم تُبْنَ، وقدْ يَعُمُّ اللفظُ عرفًا كالموافقةِ على قولٍ مرَّ، وحُرِّمَتْ عليكم أُمَّهَاتُكُمْ، أَو معنىً كترتيبِ حكمٍ على وصفٍ كالمخالفةِ على قولٍ مرَّ، والخلافُ في أَنَّ المفهومَ لا عمومَ لهُ لفظِيٌّ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
هذه ( مَسْأَلَةٌ ) في صيغ العموم ( كلٌّ ) وتقدمت في مبحث الحروف ( والذي والتي ) نحو: أكرم الذي يأتيك والتي تأتيك أي كل آت وآتية لك ( وأيٌّ وما ) الشرطيتان والاستفهاميتان والموصولتان وتقدمتا ( ومتى ) للزمان المبهم استفهامية أو شرطية نحو: متى تجيئني؟ ومتى جئتني أكرمتك ( وأينَ وحيثما ) للمكان شرطيتين نحو: أين أو حيثما كنت آتك، وتزيد أين بالاستفهام نحو أين كنت؟ ( ونحوُها ) مما يدل على العموم لغة كجميع، وكالذين واللاتي، وكمَن الاستفهامية والشرطية والموصولة وتقدمت، وكل من المذكورات ( للعمومِ حقيقةً في الأصحِّ ) لتبادره إلى الذهن، وقيل للخصوص حقيقة أي للواحد في المفرد، وللاثنين في المثنى، وللثلاثة في الجمع، لأنه المتيقن واستعماله في العموم مجاز، فإذا قيل مثلا: أكرمْ الذي يزورك أي شخصا واحدًا وإذا قيل أكرم الذينِ يزورانِكَ أي شخصين فقط وإذا قيل أكرم الذي يزورونكَ أي ثلاثة أشخاص، ولا يخفى بعده ( كالجمعِ المعرَّفِ باللامِ ) نحو: قد أفلح المؤمنون ( أوِ الإضافةِ ) نحو: يوصيكم الله في أولادكم أي فيهم كلهم فإنه للعموم حقيقة في الأصح ( ما لم يتحقَّقْ عهدٌ ) أي ما لم يقم دليل على أن أل يراد بها العهد فإن تحقق ذلك حمل عليه، وقيل ليس للعموم مطلقا بل للجنس الصادق ببعض الأفراد كما في تزوجت النساء ( والمفردُ كذلكَ ) أي المفرد المعرف باللام أو الإضافة كالجمع في أنه للعموم حقيقة ما لم يتحقق عهد نحو: أحل الله البيع، أي كل بيع وخص منه البيع الفاسد كالربا، ونحو: فليحذر الذين يخالفون عن أمره، أي كل أمر له وخص منه أمر الندب، وقيل ليس للعموم مطلقا بل للجنس الصادق بالبعض كما في لبست الثوب، ولبست ثوب الناس، لأنه المتيقن ما لم تقم قرينة على العموم كما في إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا، فإن الاستثناء قرينة على العموم ( والنكرةُ في سياقِ النَّفيِ ) وفي معناه النهي والاستفهام الإنكاري ( للعمومِ وضعًا في الأصحِّ ) بأن تدل عليه بالمطابقة كما مر من أن الحكم في العام على كل فرد مطابقة، وقيل للعموم لزوما نظرا إلى أن النفي أوّلًا للماهية، ويلزمه نفي كل فرد، وعموم النكرة يكون ( نَصًّا إنْ بُنيتْ على الفتحِ ) نحو: لا رجلَ في الدار ( وظاهرًا إنْ لم تُبْنَ ) نحو ما في الدار رجلٌ، لاحتماله نفي الواحد فقط، فإن زيد فيها مِنْ كانت نصا أيضا كما مر في الحروف، والنكرة في سياق الامتنان للعموم نحو: وأنزلنا من السماء ماء طهورًا، قاله القاضي أبو الطيب، وفي سياق الشرط للعموم نحو: وإن أحد من المشركين استجارك، أي كل واحد منهم ( وقدْ يَعُمُّ اللفظُ ) إما ( عُرفًا كـ ) اللفظ الدال على مفهوم ( الموافقةِ ) بقسميه الأولى والمساوي ( على قولٍ مرّ ) في مبحث المفهوم كقوله تعالى: فلا تقل لهما أفّ، إن الذين يأكلون أموال اليتامى.. الآية قيل نقلهما العرف إلى تحريم جميع الإيذاءات والإتلافات ( وَ ) نحو: حرمت عليكم أمهاتكم، نقله العرف من تحريم العين إلى تحريم جميع التمتعات المقصودة من النساء، وسيأتي قول إنه مجمل، وقيل العموم فيه من باب الاقتضاء لاستحالة تحريم الأعيان فيضمر ما يصح به الكلام ( أَو معنىً ) أي عقلا ( كترتيبِ حكمٍ على وصفٍ ) فإنه يفيد علية الوصف للحكم كما يأتي في القياس، فيفيد العموم بالمعنى بمعنى أنه كلما وجدت العلة وجد المعلول نحو: الزانية والزاني فاجلدوا.. الآية، و( كـ ) اللفظ الدال على مفهوم ( المخالفةِ على قولٍ مرَّ ) في مبحث المفهوم وهو أن دلالة مفهوم المخالفة بالعقل لا باللفظ لأنه لو لم ينف الحكم عما عداه لم يكن لذكره فائدة كما في خبر الصحيحين: مطل الغني ظلم. أي بخلاف مطل غيره ( والخلافُ في أنَّ المفهومَ لا عمومَ له لفظيٌّ ) أي عائد إلى اللفظ والتسمية أي هل يسمى عاما أو لا بناء على أن العموم من عوارض الألفاظ والمعاني أو الألفاظ فقط، وأما من جهة المعنى فهو شامل لجميع الصور فمثلا في آية التأفيف من المتفق عليه أن كل صور إيذاء الوالدين محرمة وإن اختلفوا في أن هذا الشمول يسمى عاما أو لا.

صفاء الدين العراقي
2017-03-12, 08:09 PM
الدرس السابع والثلاثون- مباحث الكتاب

مسائل العموم


أولا: معيار العموم الاستثناء أي ضابط العموم صحة الاستثناء منه، فكل ما صحّ الاستثناء منه مما لا حصر فيه فهو عام.
مثال: جاءَ الرجالُ إلا زيدًا. إذْ يلزم من صحة الاستثناء أن يكون المستثنى من أفراد المستثنى منه فأُخرِج بالاستثناء.
وقولنا: مما لا حصر فيه هو احتراز عن اسم العدد نحو: عندي عشرةٌ إلا واحدًا، فإنه وإن صح الاستثناء منه لكن مع الحصر فلا يسمى عاما.
ثانيا: الأصح أن الجمع المنكَّر في الإثبات ليس بعام، نحو: جاءَ رجالٌ، وقيل هو عام.
ثالثا: الأصح أن أقل الجمع ثلاثة، فإذا قيل: جاءَ رجالٌ أي ثلاثة فأكثر، وقيل: أقله اثنانِ.
رابعا: الأصح أن الجمع في الاستعمال المجازي يصدق بالواحد، كما في مثل قول رجل لامرأته وقد رآها تتبرج لرجل أتتبرجينَ للرجال؟! لاستواء الواحد والجمع في كراهة التبرج له.
خامسا: إذا سيق العامُ لغرض ما فإنه يبقى على عمومه ما لم يعارضه عام آخر.
مثال: قال الله تعالى: ( إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم ) فالأبرار سيق لغرض المدح، والفجار سيق لغرض الذم ومع هذا يبقى اللفظ على عمومه.
مثال: قال الله تعالى: ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ) فهذا سيق للمدح، وهو بظاهره يعم جميع ملك اليمين حتى الأختين، لكنه عارضه نص آخر لم يسق للمدح وهو قوله تعالى: ( وأن تجمعوا بين الأختين ) وهو شامل لملك اليمين وغيره، فيحمل النص الأول على غير الجمع بين الأختين؛ فلا تحل الأختان مطلقا.
والخلاصة أنه إذا سيق العام لغرض كمدح وذم ولم يعارضه عام آخر فإن يبقى على عمومه كآية الأبرار، وإذا سيق لغرض وعارضه عام آخر فإنه لا يعم كما في الآية الثانية.
سادسا: الأصح أن نفي المساوة بين أمرين فأكثر يعم جميع أوجه المساواة الممكنة، وقيل لا يعم.
مثال: قال الله تعالى: ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) فهنا نفى الله سبحانه الاستواء بين المؤمن والكافر فهل يعم جميع أوجه المساواة في جميع الأحكام أو المقصود هو نفي المساواة بينهما في المصير فالأول للجنة والثاني للنار ؟
فيلزم على القول الأول أنه لا يقتل مسلم بذمي لأن الله نفى الاستواء بينهما فيعم جميع أوجه المساواة ومنها المساواة في القصاص، وعلى القول الثاني لا يلزم ذلك بل يقتل به.
سابعا: الأصح أنَّ من العام ورودَ النفي على فعل متعدٍّ لم يذكر مفعوله.
مثال: قال زيدٌ: واللهِ لا أَكلتُ، فهنا وردَ النفي على فعل متعد وهو الأكل ولم يذكر مفعوله فلم يذكر شيئا مأكولا بعينه كخبز أو سمك فهل يكون النفي عاما أو لا ؟ الأصح أنه عام في جميع المأكولات. ويحنث الحالف بأكل شيء منها، ويجوز تخصيص شيء منها بالنية بأن يكون قد نوى أن لا يأكل من طعام البحر مثلا فلا يحنث بأكل غيره.
وكذا مثل النفي لو وقع الفعل في سياق الشرط نحو قول زيد: إنْ أكلتُ فزوجتي طالقٌ، فتطلق بأكل أي من المأكول.
ثامنا: لا عموم في المقتضي.
مثاله: رفُعِ عن أمتي الخطأ والنسيان. لا يستقيم إلا بتقدير إذْ الخطأ والنسيان واقعان من أفراد الأمة، وما وقع لا يُرفَعُ، فقدروا المؤاخذة أو العقوبة أو الإثم أو نحو ذلك، فالمقدر ليس عاما على الصحيح، وقيل نقدر شيئا عاما يعم الجميع كأن نقول رفع عن أمتي حكم الخطأ والنسيان.
والمقتضي بالكسر هو الكلام المحتاج لتقدير وذلك المقدر هو المقتضَى بالفتح.
تاسعا: الأصح أن العطف على العام لا يوجب أن يكون المعطوف عاما أيضا. وقيل يكون عاما.
مثاله: حديث أبي داود والنسائي : ( لا يقتلُ مسلمٌ بكافر ولا ذو عهد في عهده ) حسّنه الحافظ في الفتح.
فذهب الحنفية إلى القول بعموم المعطوف وجعلوا التقدير: ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر. وعلى عموم الكافر يلزم أن لا يُقتل المعاهد ولو قتل ذميا أو معاهدا وهو باطل ولذا قالوا هذا العام مخصوص بالحربي ليكون المعنى لا يقتل ذو عهد في عهده بكافر حربي. وذهب الشافعية إلى عدم عموم المعطوف وجعلوا التقدير: ولا يقتل ذو عهد في عهده بحربيّ. فقدروا الحربي من أول مرة ولم يحتاجوا إلى التعميم ثم التخصيص.
فالخلاصة أن متعلق العام لا يجب أن يقدر مثله في المعطوف.
عاشرا: لا عموم في الفعل المثبت ولو مع كان.
مثاله بدون كان: حديث الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى داخل الكعبة. فلا يدل الفعل صلى على أكثر من صلاة واحدة فلا يعم الفرض والنفل.
ومثاله مع كان: حديث البخاري عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع في السفر. فلا يدل الفعل يجمع على أكثر من جمع واحد فلا يعم جمع التقديم والتأخير.
أحد عشر: الحكم المعلّق بعلة لا يعم كل محل وجدت فيه تلك العلة لفظا بل يعم قياسا.
مثال ذلك: ما لو قال الشارع: حرمّت الخمر لإسكارها. فلا يعم كل مسكر غير الخمر من ناحية اللفظ، بل يعمه من ناحية القياس، بأن يقال: بما أن الخمر إنما حرمت لإسكارها والنبيذ مثلها فيحرم هو الآخر.


( شرح النص )

ومِعيارُ العمومِ الاستثناءُ، والأصحُّ أَنَّ الجمعَ المُنَكَّرَ ليسَ بعامٍّ، وأَنَّ أَقَلَّ الجمعِ ثلاثةٌ، وأَنَّهُ يَصْدُقُ بالواحدِ مجازًا، وتعميمُ عامٍّ سِيقَ لِغَرَضٍ ولمْ يُعارضْهُ عامٌّ آخرَ، وتعميمُ نحوِ: لا يستوونَ ولا أكلتُ وإنْ أَكلتُ، لا المقْتَضِي، والمعطوفِ على العامِّ، والفعلِ المثبتِ ولو معَ كانَ، والمُعَلَّقِ لِعِلَّةٍ لفظًا لكنْ معنىً.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( ومِعيارُ العمومِ ) أي ضابطه ( الاستثناءُ ) فكل ما صح الاستثناء منه مما لا حصر فيه فهو عام نحو: جاءَ الرجالُ إلا زيدًا، وخرج بقولنا: مما لا حصر فيه اسم العدد نحو: جاء عشرة رجال إلا واحدًا، فلا يسمى عاما ( والأصحُّ أَنَّ الجمعَ المُنَكَّرَ ) في الاثبات ( ليسَ بعامٍّ ) نحو جاءَ رجالٌ، فيصدق على أقل الجمع وهو ثلاثة، وقيل: هو عام ( و ) الأصح ( أَنَّ أَقَلَّ ) مسمى ( الجمعِ ) كرجال ومسلمين ( ثلاثةٌ ) لتبادره إلى الذهن، وقيل: أقله اثنان ( و ) الأصح ( أَنَّهُ ) أي الجمع ( يَصْدُقُ بالواحدِ مجازًا ) لاستعماله فيه كما في مثل قول رجل لامرأته وقد رآها تتبرج لرجل أتتبرجينَ للرجال؟! لاستواء الواحد والجمع في كراهة التبرج له، وقيل: لايصدق بالواحد ولم يستعمل فيه والجمع في هذا المثال على بابه لأن من برزت لرجل تبرز لغيره عادة ( و ) الأصح ( تعميمُ عامٍّ سِيقَ لِغَرَضٍ ) كمدح وذم وبيان مقدار ( ولمْ يُعارضْهُ عامٌّ آخرَ ) لم يسق لذلك، فإن عارضه لم يعم فيما عورض فيه جمعا بينهما، وقيل: لايعم مطلقا لأنه لم يسق لغرض التعميم، مثاله ولا معارض: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم، ومثاله مع المعارض: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فإنه وقد سيق للمدح يعم بظاهره إباحة الجمع بين الأختين بملك اليمين، وعارضه في ذلك: وأن تجمعوا بين الأختين، فإنه لم يسق للمدح بل لبيان الحكم وهو شامل لحرمة جمع الأختين بملك اليمين، فيحمل النص الأول على غير الجمع بين الأختين؛ فلا تحل الأختان مطلقا ( و ) الأصح ( تعميمُ نحوِ: لا يستوونَ ) من قوله تعالى: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون، وقوله تعالى: لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، فهو لنفي جميع أوجه الاستواء الممكن نفيها وذلك لأن الفعل المنفي يتضمن مصدرا منكّرا فقوله لايستوون في قوة لا استواءَ فيعم، وقيل: لا يعم، ثم المراد بقوله: نحو لا يستوون كل ما دل على نفي الاستواء أو نحوه كالمساواة والتماثل والمماثلة ( و ) الأصح تعميم نحو: ( لا أكلتُ ) من قولك: والله لا أكلتُ فهو لنفي جميع المأكول بنفي جميع أفراد الأكل (و ) تعميم نحو ( إنْ أَكلتُ ) فزوجتي- أي زوجة زيد-طالق، مثلا فهو للمنع من جميع المأكولات فيصح تخصيص بعضها في المسألتين بالنية، وقيل لا يصح التخصيص بالنية فيبقى النفي على عمومه فيحنث بأكل أي شيء ( لا المقْتَضِي ) فإنه لا تعميم فيه، والمقتضي وهو ما لا يستقيم من الكلام إلا بتقدير شيء، مثاله: رفُعِ عن أمتي الخطأ والنسيان. لا يستقيم إلا بتقدير إذْ الخطأ والنسيان واقعان من أفراد الأمة، وما وقع لا يُرفَعُ، فقدروا المؤاخذة أو العقوبة أو الإثم أو نحو ذلك، فالمقدر ليس عاما على الصحيح، وقيل نقدر شيئا عاما يعم الجميع كأن نقول رفع عن أمتي حكم الخطأ والنسيان ( و ) لا ( المعطوفِ على العامِّ ) فلا يعم، وقيل يعم، مثاله: حديث أبي داود والنسائي : لا يقتلُ مسلمٌ بكافر ولا ذو عهد في عهده. حسّنه الحافظ في الفتح. قيل: يعني ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر، وخص منه غير الحربي فيقتل به، قلنا: لا حاجة إلى ذلك بل نقدر بحربي من أول مرة ( و ) لا ( الفعلِ المثبتِ ولو معَ كانَ ) فلا يعم، وقيل: يعم، مثاله بدون كان: حديث الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى داخل الكعبة. فلا يدل الفعل صلى على أكثر من صلاة واحدة فلا يعم الفرض والنفل، ومثاله مع كان: حديث البخاري عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع في السفر. فلا يدل الفعل يجمع على أكثر من جمع واحد فلا يعم جمع التقديم والتأخير ( و ) لا الحكم ( المُعَلَّقِ لِعِلَّةٍ ) فلا يعم كل محل وجدت فيه العلة ( لفظًا لكنْ ) يعمه ( معنىً ) كأن يقول الشارع:حرمت الخمر لاسكارها. فلا يعم كل مسكر لفظا بل قياسا، وقيل: يعمه لفظا لذكر العلة فكأنه قال: حرمت المسكر.

صفاء الدين العراقي
2017-03-12, 08:10 PM
الدرس الثامن والثلاثون- مباحث الكتاب

تكملة مسائل العموم


أولا: ترك الاستفصال ينزّل منزلة العموم.
بمعنى أنه إذا عُرضت على الشارع حالة فحكم فيها بحكم ولم يستفصل- أي لم يطلب تفاصيل عن الحالة قبل أن يحكم فيها- فإن ذلك ينزّل منزلة العموم في القول.
مثاله قصة غيلان بن أسلم رضي الله عنه، فإنه أسلم وله عشر زوجات، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أسلمت على عشر نسوة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( أَمسِكْ أربعًا وفارقْ سائرهن ) رواه الشافعي والترمذي. ففي هذه المسألة لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم هل كان عقد عليهن معا أو واحدة بعد الأخرى، فلولا أن الحكم يعم الحالين لما أطلق الكلام لامتناع الإطلاق في موضع التفصيل، فالحكم ينزل منزلة العموم فله أن يمسك من شاء ويفارق من شاء.
ثانيا: الأصح أن مثل قوله تعالى: ( يا أيها النبي- يا أيها المزمل ) لا يشمل جميع الأمة لأنها موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقيل: بل هو عام فيكون خطابا له وللأمة.
ثالثا: الأصح أن مثل قوله تعالى: ( يا أيها الناس- يا أيها الذين آمنوا ) يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم سواء اقترن بقل أو لم يقترن بها.
رابعا: الأصح أن مثل قوله تعالى: ( يا أيها الناس ) يعم الحر والعبد والمؤمن والكافر.
وهل أنه يتناول الموجودين من الخلق عند ورود النص دون من يأتي بعدهم، أو هو يعمهم إلى قيام الساعة؟.
قيل: هو خاص بهم بمعنى أن نفس الخطاب لا يتناولهم وإنما نحتاج لدليل آخر وقد ثبت بالإجماع أن الذين وجدوا بعد ورود الخطاب مكلفون بمضمونه.
وقيل: هو غير خاص بهم بمعنى أن نفس الخطاب يشمل كل مكلف ولا نحتاج لدليل آخر.
خامسا: الأصح أن ( مَنْ ) تتناول الإناث كما تتناول الذكور. وقيل: هي خاصة بالذكور.
ومن المسائل الفرعية المبنية على ذلك ما ورد في حديث صحيح مسلم: مَن اطّلَعَ في بيت قومٍ بغير إذنهم فقد حلّ لهم أن يفقأوا عينه. فعلى القول بالشمول إذا تطلّعت امرأة جاز رميها. وعلى القول بعدم الشمول لا يجوز رميها.
خامسا: الأصح أن جمع المذكر السالم كالمؤمنين والمسلمين لا يدخل فيه النساء إلا بقرينة تدل على أن الخطاب موجه لهن أيضا.
سادسا: الأصح أن الخطاب الموجّه إلى شخص واحد في مسألة لا يتعداه إلى غيره بمقتضى اللفظ بل يثبت الحكم في حق غيره بالقياس.
فإذا قال الشارع لشخص معين اعتق رقبة أو افعل كذا فالخطاب موجّه لشخص معين فلا يتناول غيره لأن اللفظ خاص وليس عاما ولكن يقاس غيره عليه. وقيل: هو عام بنفسه أي يتناولهم اللفظ لجريان العادة بمخاطبة الواحد وإرادة الجمع فيما يتشاركون فيه، وأجيب بأن هذا مجاز يحتاج لقرينة وكلامنا في تناول اللفظ بمقتضى الحقيقة.
سابعا: الأصح أن الخطاب بيا أهل الكتاب مما ورد في القرآن أو الحديث النبوي لا يتناول المسلمين.
كقوله تعالى: ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ) . وقيل يتناول المسلمين فيما يصح أن يشتركوا فيه كما في قوله تعالى: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) وهو موجّه إلى أهل الكتاب.
ثامنا: الأصح أنه إذا اجتمعت صيغة تبعيض مع جمع معّرف باللام أو الإضافة فإنه يجب حمل الجمع على جميع أنواعه.
مثاله قوله تعالى: ( خذْ مِن أموالهم صدقة ) فالأموال جمع مضاف إلى ضمير فيقتضي العموم- كما تقدم في صيغ العموم- فيقتضي ظاهر اللفظ أن يأخذ بعضا من كل نوع من أموالهم، وقيل بل صيغة التبعيض تبطل العموم فيكفي الأخذ من نوع واحد من أموال كل شخص، فعلى الأول ينظر إلى جميع المال، وعلى الثاني ينظر إلى مجموعه.
هذا والكلام في الآية إنما هو بالنظر للفظ في حد ذاته وإلا فلا خلاف في أنه لا تجب الزكاة إلا في أموال مخصوصة، فلو لم ترد السنة ببيان أنواع معينة لوجب الاخذ من الكل على حد سواء، ففي الحيوانات مثلا لولا دلالة السنة لاقتضى ظاهر لفظ الآية وجوب الزكاة في الدجاج والطيور والغزلان ونحوها لعموم الأموال على القول الأصح.


( شرح النص )

وتركَ الاستفصالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلةَ العمومِ، وأَنَّ نحوَ: يا أيُّها النبيُّ لايشملُ الأمّةَ، وأَنَّ نحوَ: يا أيُّها الناسُ يشملُ الرسولَ وإِنْ اقترنَ بقُلْ، وأَنَّهُ يَعُمُّ العبدَ ويشملُ الموجودينَ فقطْ، وأَنَّ مَنْ تشملُ النساءَ، وأَنَّ جمعَ المذكّرِ السالمَ لايشملُهُّنَّ ظاهرًا، وأَنَّ خطابَ الواحدِ لايتعدَّاهُ، وَأَنَّ الخطابَ بيا أَهلِ الكتابِ لا يشملُ الأمَّةَ، ونحوَ: خذْ منْ أموالِهم يقتضي الأخذَ مِنْ كلِ نوعٍ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( و ) الأصح أن ( تركَ الاستفصالِ ) في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ( يُنَزَّلُ مَنْزِلةَ العمومِ ) في المقال كما في خبر الشافعي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن سلمة الثقفي وقد أسلم على عشر نسوة أمسك أربعا وفارق سائرهن. فإنه صلى الله وعليه وسلم لم يستفصله هل تزوجهن معا أو مرتبا فلولا أن الحكم يعم الحالين لما أطلق لامتناع الإطلاق في محل التفصيل وقيل لا ينزّل منزلة العموم بل يكون الكلام مجملًا ( و ) الأصح ( أَنَّ نحوَ: يا أيُّها النبيُّ ) اتق الله، ويا أيها المزمل ( لايشملُ الأمّةَ ) لاختصاص الصيغة به، وقيل يشملهم لأن الأمر للمتبوع أمر لأتباعه عرفا كما في أمر السلطان الأمير بفتح بلد هو أمر لأتباع الأمير ( و ) الأصح ( أَنَّ نحوَ: يا أيُّها الناسُ ) والذين آمنوا ( يشملُ الرسولَ ) عليه الصلاة والسلام ( وإِنْ اقترنَ بقُلْ ) نحو: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، لمساواتهم له فى الحكم، وقيل لايشمله مطلقا لأنه ورد على لسانه للتبليغ لغيره، وقيل إن اقترن بقل لم يشمله لظهوره فى التبليغ وإلا شمله ( و ) الأصح ( أَنهُ ) أى نحو: يا أيها الناس ( يَعُمُّ العبدَ ) وقيل: لا يعمه ( و ) الأصح أنه ( يشملُ الموجودينَ ) وقت وروده ( فقطْ ) أى لا من بعدهم، وقيل يشملهم أيضا ( و ) الأصح ( أَنَّ مَنْ ) شرطية كانت أو استفهامية أو موصولة أو موصوفة وقد تقدمت أمثلتها في مبحث الحروف ( تشملُ النساءَ ) لقوله تعالى: ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى، وقيل تختص بالذكور، فلو نظرت امرأة فى بيت أجنبى جاز رميها على القول الأول لخبر مسلم: مَن اطّلَعَ في بيت قومٍ بغير إذنهم فقد حلّ لهم أن يفقأوا عينه. ولا يجوز على الثاني ( و ) الأصح ( أَنَّ جمعَ المذكّرِ السالمَ لايشملُهُّنَّ ) أى النساء ( ظاهرًا ) وإنما يشملهن بقرينة تغليبا للذكور، وقيل يشملهن ظاهرا لأنه لما كثر فى الشرع مشاركتهن للذكور فى الأحكام أشعر بأن الشارع لايقصد بخطاب الذكور قصر الأحكام عليهم ( و ) الأصح ( أَنَّ خطابَ الواحدِ ) مثلا أو الاثنين أو الجماعة المعينة بحكم في مسألة ( لايتعدَّاهُ ) الى غيره بمقتضى اللفظ، وقيل يعم غيره لجريان عادة الناس بخطاب الواحد وإرادة الجميع فيما يتشاركون فيه، قلنا: هذا مجاز يحتاج إلى قرينة وكلامنا في الحقيقة ( و ) الأصح ( أَنَّ الخطابَ بيا أَهلِ الكتابِ ) وهم اليهود والنصارى نحو قوله تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ( لا يشملُ الأمَّةَ ) أى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: يشملهم فيما تحصل فيه المشاركة بين أهل الكتاب والأمة كقوله تعالى: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم. فإن النهي عن تلك الحال ليس مختصا بأمة دون أخرى ( و ) الأصح أن ( نحوَ: خذْ منْ أموالِهم ) من كل جمع معرف باللام أو الإضافة مجرور بمن التبعيضية ( يقتضي الأخذَ مِنْ كلِ نوعٍ ) من أنواع المجرور مالم يخص بدليل، وقيل لا بل يمتثل بالأخذ من نوع واحد والأول نظر إلى أن المعنى من جميع الأنواع والثاني إلى أنه من مجموعها.

صفاء الدين العراقي
2017-03-12, 08:11 PM
الدرس التاسع والثلاثون- مباحث الكتاب

التخصيص


أولا: حد التخصيص هو: قصر حكم العام على بعض أفراده.
نحو: إن الإنسانَ لفي خسر إلا الذين آمنوا ..الآية. فلولا الاستثناء لشملت الخسارة كل انسان.
وما يقبل التخصيص هو الحكم الذي ثبت لمتعدد كالإنسان الذي يشمل كل أفراده، فالمراد بالعام في مبحث التخصيص هو كل ما يدل على متعدد فيشمل أسماء العدد فإنها يدخلها التخصيص نحو: أكرم عشرة رجال إلا واحدًا، مع أنه قد تقدم أن أسماء العدد ليست من العام.
ثانيا: الأصح جواز التخصيص إلى واحد إذا كان العام غير جمع، وإلى ثلاثة إن كان جمعا.
مثال غير الجمع مَنْ والمفرد المعرف بأل نحو: مَنْ جاءَ مِن بني عمي فأكرمه. فهذا لفظ عام يجوز أن تخصصه كأن تقول: إلا فلانا وفلانا فلا يبقى يشمل إلا واحدًا.
ومثال الجمع المسلمون والمسلمات والعلماء نحو: أكتب عن العلماءَ الذين صحبتهم. فهذا لفظ عام يجوز أن تخصصه كأن تقول: إلا فلانا وفلانا بحيث يبقى يشمل ثلاثة أفراد فقط ولا يجوز التخصيص أقل من ذلك لأنه أقل الجمع.
ثالثا: العام ثلاثة أقسام وهي:
1- العام الباقي على عمومه. أي الذي لم يدخله التخصيص إطلاقا، وهذا قليل جدا، حتى قال بعضهم: ما مِن عام إلا وقد خصّ إلا نادرًا. ومن الباقي على عمومه قوله تعالى: ( والله بكل شيء عليم ) وقوله: ( ولا يظلم ربك أحدا ) وقوله: ( حرمت عليكم أمهاتكم ).
2- العام المراد به الخصوص. مثل قوله تعالى: ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ) فقد ذكر أهل التفسير أن القائل واحد وهو نعيم بن مسعود الأشجعي.
3- العام المخصوص. وأمثلته كثيرة جدا كآية إن الإنسان لفي خسر.
والفرق بين العام المخصوص والعام المراد به الخصوص: أن العام المخصوص عمومه مرادٌ تناولا لا حكما نحو: ( فاقتلوا المشركين ) يعم كل المشركين ولكن جاءت نصوص أخرى فأخرجت أهل الذمة، فإخراج أهل الذمة من قوله فاقتلوا المشركين هو من إباحة القتل الذي هو الحكم لا من تناول لفظ المشركين لهم لأنهم مشركون حقيقة كالوثنيين غير أنهم طرأ لهم وصف الذمة فمنع قتلهم.
أما العام المراد به الخصوص عمومه ليس مرادًا لا تناولا ولا حكما أي لا يوجد عموم من أصله بل هو لفظ كلي كلفظ الناس استعمل في جزئي أي في فرد واحد وهو نعيم بن مسعود فهو مجاز قطعا كاستعمال الكل وإرادة الجزء في قوله تعالى: يجعلون أصابعم في آذانهم. فالأصبع كلّ يشمل كل أجزاء الأصبع ولكنه أريد جزء مخصوص منه وهو الأنملة لأنه لا يتأتى إدخال كامل الأصبع في الأذن.
رابعا: الأصح أن العام المخصوص حقيقة في الباقي بعد التخصيص فهو حجة.
أي أن اللفظ العام بعد تخصيصه لايصير مجازا بل يبقى عاما يستغرق جميع الصور إلا ما دلّ الدليل على خروجه من عمومه فيحتج به بعد التخصيص على أي صورة لم يثبت تخصيصها.
خامسا: يعمل بالعام قبل البحث عن المخصّص ولو بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
أي إذا جاء نص عام فإنا نعمل به ولا نتوقف عن العمل به إلى حين ثبوت عدم المخصص لأن الأصل عدمه لا فرق في ذلك في عمل الصحابة بالعام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو عمل المسلمين به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.


( شرح النص )

التخصيصُ

قصرُ العامِّ على بعضِ أفرادِهِ، وقَابِلُهُ حكمٌ ثبتَ لمتعَدِّدٍ، والأصحُّ جوازُهُ إلى واحدٍ إنْ لمْ يكنْ العامُّ جمعًا، وأقلِّ الجمعِ إنْ كانَ، والعامُّ المخصوصُ عمومُهُ مرادٌ تناولًا لا حكمًا، والمرادُ بهِ الخصوصُ ليس مرادًا بلْ كليٌّ استُعمِلَ في جزئيٍّ فهوَ مجازٌ قطعًا، والأصحُّ أنَّ الأوَّلَ حقيقةٌ فهوَ حُجَّةٌ، ويعملُ بالعامِّ ولوَ بعدَ وفاةِ النبيِّ قبلَ البحثِ عنِ المخصِّصِ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( التخصيصُ ) أي هذا مبحثه وهو ( قصرُ العامِّ ) أي قصر حكمه ( على بعضِ أفرادِهِ ) بأن لا يراد منه البعض الآخر ( وقَابِلُهُ ) أي التخصيص ( حكمٌ ثبتَ لمتعَدِّدٍ ) كقوله تعالى: فاقتلوا المشركين. خص منه الذمي ونحوه كالمعاهد ( والأصحُّ جوازُهُ ) أي التخصيص ( إلى واحدٍ إنْ لمْ يكنْ العامُّ جمعًا ) كمَن والمفرد المعرف ( و ) إلى ( أقلِّ الجمعِ ) وهو ثلاثة على المختار (إنْ كانَ ) جمعا كالمسلمين والمسلمات، وقيل يجوز إلى واحد مطلقا أي سواء أكانت صيغة الجمع مفردة أم جمعا، وقيل لا يجوز إلى واحد مطلقا وهو قول شاذ ( والعامُّ المخصوصُ عمومُهُ مرادٌ تناولًا ) بأن يشمله لفظه ( لا حكمًا ) لأن بعض الأفراد لا يشمله الحكم نظرا للمخصص ( و ) العام ( المرادُ بهِ الخصوصُ ليسَ ) عمومه ( مرادًا ) تناولاً ولا حكما ( بلْ ) هو (كليٌّ ) من حيث إن له أفرادا بحسب أصله ( استُعمِلَ في جزئيٍّ ) أي فرد منها ( فهوَ مجازٌ قطعًا ) بلا خلاف كقوله تعالى: الذين قال لهم الناس .. الآية أي نعيم بن مسعود الأشجعي لقيامه مقام كثير في تثبيطه المؤمنين عن ملاقاة أبي سفيان وأصحابه ( والأصحُّ أنَّ الأوَّلَ ) أي العام المخصوص ( حقيقةٌ ) في الباقي بعد التخصيص، وقيل حقيقة إن كان الباقي غير منحصر بعدد معين لبقاء خاصة العموم وهو عدم الانحصار وإلا فمجاز، وقيل غير ذلك ( فهوَ ) أي الأول وهو العام المخصوص على القول بأنه حقيقة ( حُجَّةٌ ) جزما لاستدلال الصحابة به من غير نكير، وعلى القول بأنه مجاز الأصح أنه حجة أيضا، وقيل غير حجة ( ويعملُ بالعامِّ ولوَ بعدَ وفاةِ النبيِّ ) صلى الله عليه وسلّم ( قبلَ البحثِ عنِ المخصِّصِ ) لأن الأصل عدمه ولأن احتماله مرجوح وظاهر العموم راجح والعمل بالراجح واجب، وقيل لا يعمل به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم قبل البحث لاحتمال التخصيص، وعلى القول الثاني يكفي في البحث عن ذلك الظن بأنه لا مخصص على الأصح، وقيل: بل لا بد من البحث حتى يقطع بأنه لا وجود للمخصص.

صفاء الدين العراقي
2017-03-12, 08:12 PM
الدرس الأربعون- مباحث الكتاب

المُخَصِّص- الاستثناء


أولا: المخصص للعام قسمان: متصل - أي لايوجد منفردا عن العام كالمستثنى فإنه مخصص للعام ولا يوجد إلا مع المستثنى منه- ومنفصل- أي يستقل بنفسه ولا يذكر مع العام-والمتصل خمسة أقسام: الاستثناء، والشرط، والصفة، والغاية، والبدل.
ثانيا: الاستثناء هو: الإخراج مِن متعدد بإلا أو إحدى أخواتها، كغير وسوى وخلا وغيرها.
ويشترط للاعتداد به شرطان:
1- أن يصدر المستثنى والمستثنى منه من متكلم واحد. فلو قال شخص: إلا عمرًا، عقب قول غيره: جاءَ الرجالُ، يكون لغوًا.
2- أن يتصل المستثنى بالمستثنى منه بحسب العادة، فلا تضر سكتة قصيرة لنحو تنفس أو سعال، فإن انفصل بغير ذلك كان الاستثناء لغوا.
ولا بد أيضا من نية الاستثناء قبل الفراغ من المستثنى منه، فلو قال زيدٌ: عليّ الطلاقُ لا أكلمها أبدا إن شاء الله، يجب إرادة الإتيان بالمشيئة التي هي استثناء قبل الفراغ من يمين الطلاق، فلو تكلم بالطلاق ثم حالا خطر له أن يقول إن شاء الله لا ينفعه هذا الاستثناء كما هو مصرح به في كتب الفقه.
ثالثا: الاستثناء المنقطع إطلاق اسم الاستثناء عليه مجازٌ.
الاستثناء المنقطع هو: ما لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه. مثل: ما جاءَ القوم إلا حمارًا.
وهل الاستثناء يعم المتصل والمنفصل أو هو حقيقة في المتصل مجاز في المنفصل ؟ قولان.
رابعا: لو قال شخص: لزيدٍ عليّ عشرةُ دنانير إلا ثلاثة. فظاهر هذا الكلام ونحوه التناقض لأنه أثبت الثلاثة في ضمن العشرة- فإن العشرة تشتمل على الثلاثة بدلالة التضمن- ثم نفاها بقوله إلا ثلاثة.
ويدفع بأن المراد بالعشرة هو حقيقتها فتشمل كل أفرادها ثم أخرجت منها ثلاثة فبقي سبعة ثم وقع الإسناد، أي أن التناقض حصل لأنه فهم أنه يوجد حكمان: إثبات ونفي أي أننا أثبتنا لزيد عليه عشرة دنانير كاملة ثم نفينا ثبوتها كاملة، ولكن في الحقيقة الاستثناء - أي الإخراج- قبل الإسناد أي أننا نطرح 10 من 3= 7 ثم نسند الكلام مع السبعة فلا يوجد إلا حكم واحد فكأنه قال: لزيد عليّ الباقي من عشرة أخرجت منها ثلاثة.
وقيل: بل المراد بالعشرة ليس حقيقتها بل المراد بعضها وهو سبعة مجازًا من إطلاق الكل وهو عشرة وإرادة البعض وهو سبعة والقرينة هو إلا ثلاثة.
خامسا: لا يجوز الاستثناء إذا استغرق المستثنى المستثنى منه. فلو قال: له عليّ عشرة إلا عشرة. عدّ لغوا ولزمته عشرة.
أما إذا لم يستغرق فهو جائز سواء كان الباقي أقل أم أكثر أم مساويا. نحو: له علي عشرة إلا تسعة أو إلا ثلاثة أو إلا خمسة.
سادسا: الأصح أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي.
إذا قلنا: قامَ القومُ ، فهنا شيئان: القيام، والحكم بوقوعه من القوم. فإذا استثنينا وقلنا إلا زيدًا فهل المستثنى مُخْرَج من القيام أو من الحكم به ؟ ذهب الجمهور إلى الأول وذهب الحنفية إلى الثاني.
فإذا قلنا: قامَ القومُ إلا زيدًا. فعلى الأصح نكون قد أثبتنا القيام للقوم ونفيناه عن زيد، وعند الحنفية نكون قد أثبتنا القيام لزيد وسكتنا عن زيد فقد يكون قائما كالقوم وقد لا يكون.
وإذا قلنا: ما قامَ القومُ إلا زيدًا. فعلى الأصح نكون قد نفينا القيام عن القوم وأثبتناه لزيد، وعند الحنفية نكون قد نفينا القيام عن القوم وسكتنا عن زيد فقد يكون قائما وقد لا يكون.
سابعا: الاستثناءات المتعددة إن عطف بعضها على بعض عادت إلى الأول منها.
مثل: له عليّ عشرة إلا أربعة وإلا ثلاثة وإلا اثنين، فيلزمه واحد فقط؛ لأن 10-4-3-2=1 أي نخرج مجموع الاستثناءات وهي تسعة من العشرة.
وإن لم يعطف بعضها على بعض عاد كل واحد إلى ما يليه ما لم يستغرقه.
مثل: له عليّ عشرة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين، فيلزمه سبعة؛ لأنا نخرج الاثنين من الثلاثة 3-2=1، ثم نخرج الباقي وهو واحد من الأربعة 4-1=3، ثم نخرج الباقي وهو ثلاثة من العشرة 10-3=7.
أما إذا استغرق كل واحد ما يليه فهو باطل مثل: له عليّ عشرة إلا عشرة إلا إحدى عشر.
إلا إذا استغرق ما يليه لكنه لم يستغرق العدد الأول فإنه يصح. نحو: له عليّ عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة إلا أربعة، فهنا كل عدد ما عدا العشرة أكبر مما قبله ويستغرقه ولكن لم يستغرق العشرة فيخرج المجموع من العدد الأول أي 2+3+4= 9 تخرج من العشرة 10-9= 1 فيلزمه واحد أي يكون الحال كما هو في مسألة الاستثناءات المتعاطفة.
ثامنا: الأصح أن الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة يعود للكل إذا لم يدل دليل على خلافه.
نحو: أكرمْ العلماءَ وحبّسْ دياركَ -جمع دور- على أقاربك واعتق عبيدك إلا الفسقة منهم.
فهل استثناء الفسقة يعود على الكل أي على العلماء والأقارب والعبيد أو يعود على الأخير فقط ؟
الظاهر عوده على الكل، وقيل: يعود إلى الأخير فقط.
فإن دلّ دليل على كونه يعود إلى شيء ما فإنه يصار إليه كقوله تعالى: ( ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا ) فلا خلاف في أن الاستثناء يعود إلى الأخير أي الدية لا على الكفارة.
تاسعا: قرن الجملتين لفظا بعطف إحداهما على الأخرى لا يقتضي التسوية بينهما إلا في الحكم المذكور أما الحكم المعلوم لإحداهما من الخارج فلا يستويان فيه.
مثال ذلك: حديث أحمد وأبي داود : ( لا يبولنّ أحدُكم في الماءِ الدائمِ ولا يغتسلْ فيه مِن الجنابةِ ).
فالحكم المذكور هو النهي عن البول والاغتسال في الماء الدائم هما مشتركان فيه أي أن كلا منهما منهي عنه، والحكم الذي لم يذكر هو تنجيس الماء المعلوم من الخارج أنه ثابت للبول، فلا يقتضي هذا أن يكون الاغتسال من الجنابة ينجس الماء.


( شرح النص )

وهوَ قسمانِ: متصلٌ وهوَ خمسةٌ: الاستثناءُ وهوَ: إخراجٌ بنحوِ إلا مِن متكلمٍ واحدٍ في الأصحِّ، ويجبُ اتِّصالُهُ عادةً في الأصحِّ، أَمَّا في المنقطِعِ فمجازٌ في الأصحِّ، والأَصحُّ أَنَّ المرادَ بعَشَرَةٍ في: عليَّ عشرةٌ إلا ثلاثةً العَشَرَةُ باعتبارِ الآحادِ ثُمَّ أُخرجَتْ ثلاثةٌ ثمَّ أُسْنِدَ إلى الباقي تقديرًا وإن كانَ قبلَهُ ذكرًا، ولا يَصِحُّ مُسْتَغْرِقٌ، والأصحُّ صِحَّةُ استثناءِ الأكثرِ والمساوي والعَقْدِ الصحيحِ، وأَنَّ الاستثناءَ مِن النفيِ اثباتٌ وبالعكسِ، والمتعَدِّدَةُ إن تعاطفتْ فلِلْمُستثنى مِنهُ، وإلا فكلٌ لما يليهِ ما لمْ يستغْرِقْهُ، والأصحُّ أنَّهُ يعودُ للمتعَاطِفَاتِ بِمُشَرِّكٍ، وأنَّ القِرانَ بينَ جملتينِ لفظًا لا يقتضي التسويةَ بينهما في حكمٍ لم يذكرْ.
......................... ......................... ......................... ......................
( وهوَ ) أي المخصص للعام ( قسمانِ ) أحدهما ( متصلٌ ) أي ما لا يستقل بنفسه من اللفظ بأن يقارن العام ( وهوَ خمسةٌ ) أحدها ( الاستثناءُ ) بمعنى صيغته ( وهوَ ) أي الاستثناء نفسه ( إخراجٌ ) من متعدّد ( بنحوِ إلا ) من أدوات الإخراج وضعا كخلا وعدا وسوى واقعا ذلك الإخراج مع المخرج منه ( مِن متكلمٍ واحدٍ في الأصحِّ ) وقيل: لا يشترط وقوعه من واحد، فقول القائل: إلا زيدا عقب قول غيره: جاء الرجال، استثناء على الثاني لغو على الأول ( ويجبُ ) أي يشترط ( اتِّصالُهُ ) أي الاستثناء بمعنى صيغته بالمستثنى منه ( عادةً في الأصحِّ ) فلا يضر انفصاله بنحو تنفس أو سعال فإن انفصل بغير ذلك كان لغوا، وقيل: يجوز ما دام في المجلس، وقيل: يجوز ما لم يشرع في كلام آخر، وقيل: يجوز انفصاله إلى شهر، وقيل إلى سنة، ولا بد من نية الاستثناء قبل الفراغ من المستثنى منه ( أَمَّا ) الاستثناء بمعنى صيغته ( في المنقطِعِ ) وهو ما لا يكون المستثنى فيه بعض المستثنى منه نحو: ما في الدار إنسان إلا الحمار ( فمجازٌ ) فيه أي في المنقطع ( في الأصحِّ ) لتبادره في المتصل إلى الذهن، وقيل حقيقة فيهما، ولا يعدّ المنقطع من المخصصات. ثم لما كان في الكلام الاستثنائي شبه التناقض حيث يدخل المستثنى في المستثنى منه، ثم ينفى وكان ذلك أظهر في العدد لنصوصيته في آحاده دفعوا ذلك فيه بما ذكرته بقولي: ( والأَصحُّ أَنَّ المرادَ بعَشَرَةٍ في ) قولك: لزيد ( عليَّ عشرةٌ إلا ثلاثةً العَشَرَةُ باعتبارِ الآحادِ ) جميعها ( ثُمَّ أُخرجَتْ ثلاثةٌ ) بقولك: إلا ثلاثة ( ثمَّ أُسْنِدَ إلى الباقي ) وهو سبعة ( تقديرًا وإن كانَ ) الإسناد ( قبلَهُ ) أي قبل إخراج الثلاثة ( ذكرًا ) أي لفظا فكأنه قال: له عليّ الباقي من عشرة أخرج منها ثلاثة، وليس في هذا إلا إثبات ولا نفي أصلا فلا تناقض، وقيل المراد بعشرة في ذلك سبعة، وقوله إلا ثلاثة قرينة لذلك بيّنت إرادة الجزء باسم الكل مجازا ( ولا يَصِحُّ ) استثناء ( مُسْتَغْرِقٌ ) بأن يستغرق المستثنى المستثنى منه فلو قال: له عليّ عشرة إلا عشرة لزمه عشرة ( والأصحُّ صِحَّةُ استثناءِ الأكثرِ ) من الباقي نحو له عليّ عشرة إلا تسعة ( و ) صحة استثناء ( المساوي ) نحو له عشرة إلا خمسة ( و ) صحة استثناء ( العَقْدِ الصحيحِ ) نحو: له مائة إلا عشرة، والعقد نحو العشرة والعشرين والثلاثين، وخرج بالعقد غيره كاثني عشر فلم يختلف فيه، وخرج بالصحيح المكسر نحو: له مائة إلا عشرة ونصف فلم يختلف فيه أيضا، وقيل: لا يصح في الأكثر، وقيل: لا يصح في المساوي، وقيل: لا يصح في العقد الصحيح فلا يقال مثلا: له علي مائة إلا عشرة بل يقال: له عليّ تسعون ( و ) الأصح ( أَنَّ الاستثناءَ مِن النفيِ اثباتٌ وبالعكسِ ) وقيل: لا بل المستثنى من حيث الحكم مسكوت عنه وهو منقول عن الحنفية، قال الشيخ محمد أسعد عبه جي رحمه الله في سلم الوصول: ولما ورد عليهم - أي على الحنفية- الإثباتُ في كلمة التوحيدِ لاشكَّ فيه وإلا لم يدخل في الإسلامِ أجابوا: بأن الإثبات في كلمة التوحيد هو بعرف الشرع أي لا بوضع اللغة فيه، وردّه ابن دقيق العيد: بأن الشارع قد خاطب الناس بهذه الكلمة عموما لإثبات التوحيد، وحصل الفهم لذلك منهم من غير احتياج إلى أمر زائد، ولو كان وضع اللفظ لا يقتضي ذلك لبيّن الشارع ما يحتاج إليه، فالحق أن هذا من أصل وضعها. اهـ. عطار ( و ) الاستثناءات ( المتعَدِّدَةُ إنْ تعاطفتْ فـ ) هي عائدة ( للمستثنى منهُ ) لتعذر عود كل منها إلى ما يليه بوجود العاطف نحو: له عليّ عشرة إلا أربعة وإلا ثلاثة وإلا اثنين، فيلزمه واحد فقط، ونحو: له علي عشرة إلا عشرة وإلا ثلاثة وإلا اثنين فيلزمه العشرة للاستغراق ( وإلا ) أي وإن لم تتعاطف ( فكلٌّ ) منها عائد ( لما يليهِ ) نحو: له عشرة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة فيلزمه ستة ( ما لمْ يستغْرِقْهُ ) فإن استغرق كل ما يليه بطل الكل نحو: له عليّ عشرة إلا عشرة إلا إحدى عشر، إلا إذا استغرق ما يليه لكنه لم يستغرق العدد الأول فإنه يصح نحو: له عليّ عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة إلا أربعة فيلزمه واحد ( والأصحُّ أنَّهُ ) أي الاستثناء ( يعودُ للمتعَاطِفَاتِ ) أي لكل منها حيث يصلح الإستثناء لذلك بأن لا يكون ثمة دليل على ارادة البعض منها ( بـ ) حرف ( مُشَرِّكٍ ) بين المتعاطفات كالواو والفاء سواء كانت المتعاطفات جملا كأكرم العلماء وحبّسْ ديارك وأعتق عبيدك إلا الفسقة منهم أم مفردات كتصدق على الفقراء والمساكين والعلماء إلا الفسقة منهم، وقيل للأخير فقط لأنه المتيقن، وحيث وجد الدليل الذي يعين عود الاستثناء فلا خلاف كما في قوله تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب. فإنه عائد للكل بلا خلاف، وقوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ.. إلى قوله إلا أن يصدقوا. فإنه عائد إلى الأخير أي الدية دون الكفارة بلا خلاف، وخرج بالحرف المشرّك غيره كبل ولكن وأو فلا يعود ذلك إلا للأخير ( و ) الأصح ( أنَّ القِرانَ بينَ جملتينِ لفظًا ) بأن تعطف إحداهما على الأخرى ( لا يقتضي التسويةَ ) بينهما ( في حكمٍ لم يذكرْ ) وهو معلوم لإحداهما من خارج مثاله خبر أبي داود: لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة. فالبول فيه ينجسه بشرطه -وهو كونه أقل من قلتين أو كان أكثر من قلتين وتغير فيه- كما هو معلوم من الأدلة الأخرى ولا يقتضي هذا أن الاغتسال من الجناية تنجس الماء الدائم كذلك، وقيل يقتضي التسوية بينهما فيه، ولذا ذهب بعضهم إلى أن الاغتسال في الماء من الجنابة ينجسه للقران بينهما.

صفاء الدين العراقي
2017-03-12, 08:12 PM
الدرس الحادي والأربعون- مباحث الكتاب

المُخَصِّص- تتمة المتصل


أولا: ومن المخصصات المتصلة الشرط وهو: تعليق أمر بأمر كل منهما في المستقبل.
نحو: أَكرمْ بني تميم إِنْ جاءوا. أي الجائين منهم.
والشرط كالاستثناء في مسائله:
1- في وجوب اتصال الشرط بالعام عادة فلا يضر نحو تنفس أو سعال، فإن انفصل بغير ذلك كان لغوا، ولا بد من الإتيان بنية الشرط قبل الفراغ من الصيغة كما تقدم في الاستثناء.
2- في كونه عائدًا لكل المتعاطفات نحو: أَكرمْ طلبةَ العلمِ، وساعدْ أصحابَكَ، وأَحسنْ إلى الغرباءِ إنْ حضروا.
3- في كونه يصح إخراج الأكثر به وبقاء الأقل نحو: أكرم بني تميم إن كانوا علماء، ومعلوم أن العلماء منهم أقل من عوامهم.
ثانيا: ومن المخصصات الصفة المعتبر مفهومها نحو: أكرمْ بني تميم الفقهاء، خرج بالفقهاء غيرهم، وخرج بقولنا المعتبر مفهومها التي لم يعتبر مفهومها كالتي خرجت مخرج الغالب أو سيقت جوابا لسؤال أو حادثة كما تقدم في بحث المفهوم.
والصفة كالاستثناء في المسائل الثلاث المذكورة في الشرط من الاتصال مع النية، والعود للكل في المتعاطفات نحو: وقفتُ على أولادي وأولادهم المحتاجين، وصحة إخراج الأكثر بها.
ثالثا: ومن المخصصات الغاية نحو: أكرمْ بني تميم إلى أن يعصوا. أي فإن عصوا لا يكرمون.
والمراد بالغاية هنا غاية تقدمها عموم يشملها لو لم تذكر كقوله تعالى: ( قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية ) فلو لم يذكر حتى يعطوا الجزية لوجب قتالهم على كل حال أعطوا الجزية أم لم يعطوها.
وأما الغاية التي لايشملها العموم لو لم تذكر فليست للتخصيص بل لتحقيق العموم كما في قوله تعالى: ( سلام هي حتى مطلع الفجر ) فالليلة شاملة لجميع أجزائها وتنتهي بطلوع الفجر والفجر ليس جزءًا منها فهو غير داخل فيها سواء ذكرت الغاية أم لم تذكر لكن ذكرها أفاد أن الحكم يعم جميع أجزاء الليلة فلا يحتمل أن يكون المقصود بعضها.
ومثل: قُطِعتْ أصابعُ فلانٍ من الخنصر إلى الإبهام، فالأصابع تشمل الكل ولو لم نذكر من الخنصر إلى الإبهام لبقي الشمول ولكن فائدته التنصيص على العموم.
والغاية كالاستثناء في المسائل الثلاث المذكورة في الشرط من الاتصال مع النية، والعود للكل في المتعاطفات وصحة إخراج الأكثر بها.
خامسا: البدل أي بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال مثال الأول: أكرم الناسَ العلماءَ منهم, أي أكرم الناس إن كانوا علماء، ومثال الثاني: أعجبني زيدٌ علمُهُ، أي تخصص الإعجاب بعلمه فقط دون لون بشرته أو جسمه أو ماله مثلا.


( شرح النص )

والشَّرْطُ وهوَ: تعليقُ أمرٍ بأمرٍ كلٌّ منهما في المستقبَلِ أو ما يدُلُّ عليه، وهوَ كالاستثناءِ.
والصِّفَةُ والغايةُ وهما كالاستثناءِ، والمرادُ غايةٌ صَحِبَها عمومٌ يشمَلُها ولمْ يُرَدْ بها تحقيقُهُ مثلُ: حتى يُعْطوا الجزيةَ، وأَمَّا مثلُ: حتى مَطلَعِ الفجرِ، وقُطِعَتْ أصابِعُهُ من الخِنصِرِ إلى الإِبهامِ فلتحقيقِ العمومِ.
وبدلُ بعضٍ أو اشتمالٍ، ولم يذكرْهُ الأكثرُ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( و ) ثاني المخصصات المتصلة ( الشَّرْطُ ) والمراد به الشرط اللغوي لا الشرط الأصولي وهو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ( وهو ) أي الشرط اللغوي ( تعليقُ أمرٍ بأمرٍ كلٌّ منهما في المستقبَلِ أو ما يدُلُّ عليهِ ) من صيغة نحو أكرم بني تميم إن جاءوا أي الجائين منهم، بمعنى أن الشرط يراد به أحد معنيين إما نفس التعليق المعنوي أو الصيغة اللفظية أي إن جاءوا في المثال السابق ( وهوَ ) أي الشرط المخصص ( كالاستثناءِ ) اتصالًا وعودا لكل المتعاطفات وصحة إخراج الأكثر به ( و ) ثالثها ( الصِّفَةُ ) المعتبر مفهومها كأكرم بني تميم الفقهاء خرج بالفقهاء غيرهم ( و ) رابعها ( الغايةُ ) كأكرم بني تميم إلى أن يعصوا خرج حال عصيانهم فلا يكرمون فيه ( وهما ) أي الصفة والغاية ( كالاستثناءِ ) اتصالًا وعودا، وصحة إخراج الأكثر بهما ( والمرادُ ) بالغاية ( غايةٌ صَحِبَها عمومٌ يشمَلُها ) أي يشمل تلك الغاية ظاهرا ( ولمْ يُرَدْ بها تحقيقُهُ ) أي تحقيق العموم بل أريد بها الإخراج ( مثلُ ) قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون إلى قوله ( حتى يُعْطوا الجزيةَ ) فإنها لو لم تأت لقاتلناهم أعطوا الجزية أم لا ( وأَمَّا مثلُ ) قوله تعالى: سلام هي ( حتى مَطلَعِ الفجرِ ) من غاية لم يشملها عموم صحبها، إذ طلوع الفجر ليس من الليلة حتى تشمله ( و ) مثل قولهم: ( قُطِعَتْ أصابِعُهُ من الخِنصِرِ إلى الإِبهامِ ) من غاية شملها عموم صحبها لو لم تذكر وأريد بها تحقيقه ( فلتحقيقِ ) أي فالغاية فيه لتحقيق ( العمومِ ) فيما قبلها لا لتخصيصه فتحقيق العموم في الأول أن الليلة سلام في جميع أجزائها، وفي الثاني أن الأصابع قطعت كلها، والفرق في المثالين أن الفجر أي الغاية لم يدخل في الليل أي في المغيّا، بخلافه في الثاني فإن الإبهام من الأصابع ( و ) خامسها ( بدلُ بعضٍ ) من كل كما ذكره ابن الحاجب كـقوله تعالى: لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ( أو ) بدل ( اشتمالٍ ) كما نقله مع ما قبله البرماوي عن أبي حيان عن الشافعي كأعجبني زيد علمه ( ولم يذكرْهُ ) أي البدل بشقيه ( الأكثرُ ) من الأصوليين بل أنكره جماعة منهم الشمس الأصفهاني.

صفاء الدين العراقي
2017-03-12, 08:13 PM
الدرس الثاني والأربعون- مباحث الكتاب

المُخَصِّص- المنفصل


المخصص المنفصل إما أن يكون بالعقل أو بالسمع أي النقل.
أولا: التخصيص بالعقل مثاله : قوله تعالى: ( الله خالق كل شيء ) فالعقل يدرك أن المقصود ما عدا الله تعالى.
ومثاله أيضا: قوله تعالى في الريح التي سخرها على قوم عاد: ( تدمر كل شيء ) فالعقل يدرك بواسطة المشاهدة بالبصر أن السماء مثلا لم تدمر.
ثانيا: التخصيص بالسمع، والمراد به ما كان متوقفا على السمع من الكتاب والسنة وغيرهما وله أقسام هي:
1- تخصيص الكتاب بالكتاب مثاله: قوله تعالى: ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) فهذا عام في المطلقات سواء كن حوامل أم لا، فخص الحوامل بقوله تعالى: ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ).
2- تخصيص السنة بالسنة مثاله: حديث البخاري: ( فيما سقت السماء العشر ) فهو عام في كثير الناتج وقليله، وقد خص بحديث الصحيحين: ( ليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقةٌ ).
3- تخصيص الكتاب بالسنة مثاله: قوله تعالى: ( يوصيكم الله في أولادكم.. ) الآية. فهذا شامل للولد المؤمن والولد الكافر، فخص بحديث الصحيحين: ( لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ).
4- تخصيص السنة بالكتاب مثاله: خبر مسلم: ( البكر بالبكر جلد مائة ) فهذا شامل للأمة، فخص بقوله تعالى: ( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ).
5- تخصيص الكتاب بالقياس مثاله: قوله تعالى: ( الزانية والزاني فاجلدوا .. ) الآية فهذا شامل للعبد وللأمة، فأما الأمة فخصت بقوله تعالى: ( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) وأما العبد فمقيس عليها، فيكون تنصيف العذاب على العبيد الثابت بالقياس مخصص لقوله تعالى.. والزاني.
6- تخصيص السنة بالقياس مثاله: خبر مسلم السابق: ( البكر بالبكر جلد مائة ) فهذا شامل للعبد، فخص منه العبد بالقياس على الامة.
7- تخصيص المنطوق بمفهوم المخالفة مثاله: حديث ابن ماجه وغيره: ( إن الماء لا ينجسه شيء ) فهذا عام في كثير الماء وقليله، وورد في حديث أحمد والأربعة: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا ) فإن مفهومه المخالف أن ما كان دون القلتين يحمل الخبث فيخص به عموم الحديث الأول ليكون الماء الذي لاينجسه شيء هو ما كان قلتين فأكثر بخلاف ما كان دونهما.
8- تخصيص المنطوق بمفهوم الموافقة مثاله: خبر أبي داود والبخاري معلقا: ( لَيُّ الواجِدِ يحل عرضه وعقوبته ) أي حبسه وليّ الواجد أي مماطلة الموسر بالدين فهذا شامل للوالدين وغيرهما خص بغير الوالدين لمفهوم قوله تعالى: ( فلا تقل لهما أف ) فإنه إذا كان يحرم التأفيف فمن باب أولى يحرم حبسهما.


( شرح النص )

ومنفَصِلٌ فيجوزُ في الأصحِّ التخصيصُ بالعقلِ، وتخصيصُ الكتابِ به، والسُّنةِ بها، وكلٍّ بالآخَرِ، وبالقياسِ، وبدليلِ الخطابِ، ويجوزُ بالفحوى.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( و ) القسم الثاني من المخصص ( منفَصِلٌ ) أي ما يستقل بنفسه من لفظ أو غيره وهو العقل ( فيجوزُ في الأصحِّ التخصيصُ بالعقلِ ) سواء أكان بواسطة الحس من مشاهدة وغيرها من الحواس الظاهرة أم بدونها فالأول كقوله تعالى في الريح المرسلة على عاد: تدمر كل شيء، أي تهلكه، فإن العقل يدرك بواسطة الحس أي المشاهدة ما لا تدمير فيه كالسماء، والثاني كقوله تعالى: خالق كل شيء، فإن العقل يدرك بالضرورة أنه تعالى ليس خالقا لنفسه ولا لصفاته الذاتية، وكقوله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، فإن العقل يدرك بالنظر أن الطفل والمجنون لا يدخلان لعدم الخطاب، وقيل لا يجوز ذلك لأن ما نفي العقل حكم العام عنه لم يشمله العام إذ لا تصح إرادته، وبما تقرر علم أن التخصيص بالعقل شامل للحس كما سلكه ابن الحاجب، لأن الحاكم فيه إنما هو العقل فلا حاجة إلى إفراده بالذكر خلافا لما سلكه الأصل فإنه جعل المخصص المنفصل ثلاثة عقل وحس وسمع ( و ) يجوز في الأصح ( تخصيصُ الكتابِ به ) أي بالكتاب كتخصيص قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء، الشامل للحوامل ولغير المدخول بهنّ بقوله: وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ، وبقوله: يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ فما لكم عليهنّ من عدة تعتدونها، وقيل لا يجوز ذلك ( و ) يجوز في الأصح تخصيص ( السُّنةِ ) المتواترة وغيرها ( بها ) أي بالسنة كذلك كتخصيص خبر البخاري: فيما سقت السماء العشر، بخبر الصحيحين: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة. وقيل لا يجوز ( و ) يجوز في الأصح تخصيص ( كلٍّ ) من الكتاب والسنة ( بالآخرِ ) فالأول كتخصيص آية المواريث الشاملة للولد الكافر بخبر الصحيحين: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم. فهذا تخصيص بخبر الواحد فبالمتواترة أولى، وقيل لا يجوز بخبر الواحد، والثاني كتخصيص خبر مسلم: البكر بالبكر جلد مائة. الشامل للأمة بقوله تعالى: فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب. وقيل لا يجوز ذلك، ومن السنة فعل النبي وتقريره، فيجوز في الأصح التخصيص بهما، وذلك كأن يقول الوصال حرام على كل مسلم، ثم يفعله أو يقر من فعله ( و ) يجوز في الأصح تخصيص كل من الكتاب والسنة ( بالقياسِ ) المستند إلى نص خاص ولو خبر واحد كتخصيص آية الزانية والزاني الشاملة للأمة بقوله تعالى: فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، وقيس بالأمة العبد، وقيل لا يجوز ذلك ( وبدليلِ الخطابِ ) أي مفهوم المخالفة كتخصيص خبر ابن ماجه وغيره: الماء لا ينجسه شيء، بمفهوم حديث: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. رواه أحمد والأربعة، وقيل لا يخصص مفهوم المخالفة المنطوق ( ويجوزُ ) التخصيص ( بالفحوى ) أي مفهوم الموافقة، كتخصيص خبر أبي داود وغيره: ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته. أي حبسه بمفهوم قوله تعالى: فلا تقل لهما أف، فيحرم حبسهما للولد وهو ما نقل عن المعظم من الأصحاب وصححه النووي.

صفاء الدين العراقي
2017-03-12, 09:05 PM
الدرس الثالث والأربعون- مباحث الكتاب

مسائل في التخصيص


أولا: الأصح أن عطف العام على الخاص لا يخصص العام.
مثاله: لو قيل: لا يُقتَلُ الذميُّ بحربيّ ولا المسلم بكافر. فالحربي خاص، والكافر عام في كل كافر فيبقى هذا على عمومه في الأصح، وقيل: بل يخصص به ليكون المعنى: لا يقتل الذمي بحربي ولا يقتل المسلم بكافر حربي، ولذا أجازوا قتل المسلم بالذمي.
وكذا عطف الخاص على العام لا يخصص العام المعطوف عليه في الأصح، كما في حديث أبي داود والنسائي المتقدم : ( لا يقتلُ مسلمٌ بكافر ولا ذو عهد في عهده ) أي بحربي فلا يقتضي هذا أن يكون الكافر خاصا أيضا بالحربي أي أن المعنى لا يقتل مسلم بكافر أي كافر كان ذميا أو حربيا بينما لا يقتل المعاهد بحربي.
ثانيا: الأصح أن رجوع الضمير إلى بعض العام لايخصص ذلك العام.
مثاله: قوله تعالى: ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ) فالضمير في بعولتهن يرجع إلى الرجعيات من المطلقات. وهذا خاص، والمطلقات في الأول عام في الرجعيات والبوائن. فيبقى هذا على عمومه، ولا يقتضي أن يراد بالمطلقات المأمورات بالتربص الرجعيات فقط.
ثالثا: الأصح أن مذهب الراوي لايخصص النص العام الذي رواه ولو كان صحابيا. وقيل يخصصه إن كان صحابيا وإلا فلا.
مثال ذلك حديث البخاري من رواية ابن عباس مرفوعا: ( مَنْ بدّل دينه فاقتلوه ) فهذا نص عام في المرتد رجلا كان أو امرأة. وروى ابن أبي شيبة والدارقطني في سننه عن ابن عباس قال: لا تقتل النساء إذا هن ارتددن. فمذهبه هذا لا يخصص عموم الحديث الذي رواه لأنه يكون فهما له.
رابعا: الأصح أن ذكر بعض أفراد العام لا يخصص ذلك العام بذلك البعض.
مثاله: حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بشاة ميتة فقال: ( هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ) فقالوا: إنها ميتة. فقال: إنما حرم أكلها. وحديث الترمذي وغيره: (أيما إهاب دبغ فقد طهر ). فالأول خاص بإهاب الشاة الميتة، والثاني عام في إهاب كل ميتة, فعلى الأصح لايكون ذكر الشاة تخصيصا للنص العام بل يبقى على عمومه.
فمتى ذكر الشارع لفظا عاما وحكم عليه بحكم ما، ثم حكم على فرد من أفراده بنفس الحكم فلا يكون تخصيصا للعام.
خامسا: العام لا يقصر على المعتاد السابق وروده.
مثاله: كما لو كانت عادة الناس تناول البر كقوت ثم ورد نهي عن بيع الطعام بنفس جنسه متفاضلا، فهل يقصر النهي على الطعام المعتاد وهو البر فيكون هو المنهي عنه دون غيره أو يبقى على عمومه؟ الأصح يبقى على عمومه.
وكذا لا يقصر العام على غير المعتاد.
مثاله: لو كانت عادة الناس جارية ببيع البر بجنسه متفاضلا ثم ورد نهي عن بيع الطعام بجنسه متفاضلا، فهل يقصر النهي على غير البر المعتاد أو يبقى على عمومه ؟ الأصح يبقى على عمومه.
والفرق في المسألتين أن المعتاد في الأولى غير داخل في العام؛ إذْ المعتاد هو تناول البر والعام هو البيع، أما الثانية فالمعتاد فيها داخل في العام لأنه البيع في النص والعادة.
والقصد أن عادة الناس لا تؤثر في تخصيص العام على الأصح.
سادسا: أن مثل قول الصحابي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا أو قضى بكذا لا يدل على العموم.
مثاله: قول أبي هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر. رواه مسلم. فالغرر لفظ عام يعم كل أنواعه فقيل بالعموم، واعترض بأن أبا هريرة لم ينقل لنا لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن نهيه كان عن بيع غرر معين فلا يشمل كل بيع غرر. وأجيب بأن الصحابي ثقة عارف باللغة واستنباط الأحكام فلا ينقل لفظا عاما إلا وقد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على العموم. واعترض بأن قد يكون هذا بحسب اجتهاده وما ظهر له. والله أعلم.


( شرح النص )

والأَصحُّ أَنَّ عطفَ العامِّ على الخاصِّ، ورجوعَ ضميرٍ إلى بعضٍ، ومذهبَ الرَّاوي، وذكرَ بعضِ أَفرادِ العامِّ لايُخَصِّصُ، وأَنَّ العامَّ لا يُقْصَرُ على المعتادِ ولا على ما وراءَهُ، وأَنَّ نحوَ: نَهَى عنْ بيعِ الغَرَرِ لايَعُمُّ.
......................... ......................... ......................... .......................
( والأَصحُّ أَنَّ عطفَ العامِّ على الخاصِّ ) وعكسه وهو عطف الخاص على العام لا يخصص العام، وقال الحنفي يخصصه أي يقصره على الخاص، مثال عطف العام على الخاص لو قيل: لا يُقتَلُ الذميُّ بحربيّ ولا المسلمُ بكافر. فالحربي خاص، والكافر عام في كل كافر فيبقى هذا على عمومه في الأصح، فالمسلم معطوف على الذمي وبكافر معطوف على بحربي بواسطة الواو في قوله ولا المسلم فهو من عطف المفردات عطف المسلم على الذمي وعطف بكافر على بحربي، ومثال عطف الخاص على العام حديث أبي داود والنسائي: لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ ولا ذو عهدٍ في عهدِهِ. أي بحربي، فالكافر عام، والحربي خاص فيبقى العام على عمومه، فذو عهد معطوف على مسلم وبحربي المقدر معطوف على بكافر ( و ) الأصح أن ( رجوعَ ضميرٍ إلى بعضٍ ) من العام لا يخصصه مثاله قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء. مع قوله بعده: وبعولتهن أحق بردهن. فضمير وبعولتهن للرجعيات بينما يشمل قوله والمطلقات الرجعيات والبوائن، وقيل: لا يشملهن ويؤخذ حكمهن من دليل آخر كالإجماع ( و ) الأصح أن ( مذهبَ الرَّاوي ) للعام بخلافه لا يخصصه ولو كان صحابيا، وقيل يخصصه مطلقا أي سواء كان الراوي صحابيا أم لا، وقيل يخصصه إن كان صحابيا، وذلك كخبر البخاري من رواية ابن عباس مرفوعا: من بدل دينه فاقتلوه. مع قوله إن صح عنه أن المرتدة لا تقتل ( و ) الأصح أن ( ذكرَ بعضِ أَفرادِ العامِّ) بحكم العام ( لا يخصِّصُ ) العام، وقيل يخصصه، مثاله خبر الترمذي وغيره: أيما إهاب دبغ فقد طهر. مع خبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلّم مر بشاة ميتة فقال: هلا أخذتم إهابها فدبتغموه فانتفعتم به. فقالوا إنها ميتة. فقال: إنما حرم أكلها
( و ) الأصح ( أَنَّ العامَّ لا يُقْصَرُ على المعتادِ ) السابق ورود العام ( ولا على ما وراءَهُ ) أي المعتاد بل يجري العام على عمومه فيهما، وقيل: يقصر على ذلك، فالأول: كأن كانت عادتهم تناول البر، ثم نهي عن بيع الطعام بجنسه متفاضلًا، فقيل: يقصر الطعام على البر المعتاد، والثاني: كأن كانت عادتهم بيع البر بالبر متفاضلًا، ثم نهى عن بيع الطعام بجنسه متفاضلًا، فقيل: يقصر الطعام على غير البر المعتاد، والأصح لا يقصر في الحالتين ( و ) الأصح ( أنَّ نحوَ ) قول الصحابي إنه صلى الله عليه وسلّم ( نَهَى عن بيعِ الغرر ِ) كما رواه مسلم من رواية أبي هريرة ( لا يَعُمُّ ) كل غرر وقيل يعمه لأن قائله عدل عارف باللغة واستنباط الأحكام الشرعية، فلولا ظهور عموم الحكم مما قاله النبي صلى الله عليه وسلّم لم يأت هو في الحكاية له بلفظ عام كالغرر، قلنا ظهور عموم الحكم بحسب ظنه ولا يلزمنا اتباعه في ذلك، إذ يحتمل أن يكون النهي عن بيع الغرر بصفة يختص بها فتوهمه الراوي عاما، ومثل نهيه عن شيء لو قال قضى رسول الله صلى الله عليم وسلم بكذا وجاء بلفظ عام فإنه يرد عليه الاحتمال.

صفاء الدين العراقي
2017-04-12, 06:55 PM
الدرس الرابع والأربعون- مباحث الكتاب

تكملة مسائل التخصيص


الكلام الوارد جوابا لسؤال إمّا أن يكون مستقلا بإفادة المعنى- بأن لا يحتاج إلى ذكر السؤال- وإما أن لايستقل.
أولا: جواب السؤال غير المستقل أي الذي لا يفيد بدون ذكر السؤال كنعم وبلى تابع للسؤال في عمومه وخصوصه؛ لأن السؤال معاد في الجواب.
كما لو سئل: هل في الحبوب زكاة ؟ فقيل: نعم؛ فيعم كل حبّ، أو سئل: هل في الحنطة زكاة؟ فقيل: بلى فيختص بها.
ثانيا: جواب السؤال المستقل إما أن يكون أعم من السؤال، وإما أن يكون اخص منه، وإما ان يكون مساويا.
1- إن كان الجواب مساويا للسؤال في العموم والخصوص فأمره واضح أي في كونه تابعا للسؤال عموما وخصوصا.
مثاله أن يقال: ماذا على مَن جامع في نهار رمضان ؟فيجاب: بأن مَن جامع في نهار رمضان فعليه كفارة. فواضح أن الجواب عام يشمل كل مجامع.
ومثل أن يقال جامعتُ في نهار رمضان فماذا عليّ ؟ فيقال عليكَ إن جامعتَ في نهار رمضان كفارة. فهذا خاص.
2- وإن كان الجواب أخص من السؤال فهذا إما أن يمكن معرفة حكم المسكوت عنه كما لو قال قائل: ماذا على مَن أفطر رمضان بغير عذر ؟ فيقال له: مَن جامع في نهار رمضان فعليه كفارة. فالجواب أخص من السؤال ولكن المفهوم من قوله: جامع أنه لا كفارة بغير الجماع. فهذا جائز.
أو لم يمكن معرفة حكم المسكوت عنه فهذا غير جائز؛ لأن فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة.
3- وإن كان الجواب أعم من السؤال فهي المسألة المعروفة بـ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
مثاله حديث الترمذي وغيره: قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء. فالسؤال خاص بماء بئر بضاعة والجواب عام فيعم كل ماء.
ثالثا: صورة السبب قطعية.
أي أن الصورة التي هي سبب ورود النص العام كماء بئر بضاعة في الحديث المتقدم قطعية الدخول في النص العام فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد.
ويقرب من صورة السبب فتكون قطعية مثلها ما إذا ورد في القرآن خاص وتلاه في رسم المصحف عام للمناسبة بينهما فإنه يفهم منه أن ذلك الخاص داخل في الحكم العام قطعا.
مثاله: قوله تعالى: ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت.. ) الآية فإنها نزلت في شأن اليهود الذين يكتمون الأمانة التي رعوها ببيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي في كتبهم، ثم قال بعدها : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) فهذا عام في كل أمانة وتدخل أمانة بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم قطعا، فهي تشبه سبب النزول، مع أنهما لم يتحدا في النزول فقد ذكروا أن قوله تعالى إن الله يأمركم.. نزل بعد ست سنين من نزول قوله ألم تر..
رابعا: إذا ورد نص عام وبعد وقت العمل بموجبه ورد خاص معارض له فإن هذا الخاص ناسخ للعام بالنسبة لما تعارضا فيه. وهذا يسمى بالنسخ الجزئي.
مثاله قوله تعالى: ( اقتلوا المشركين ) ثم ورد النهي عن قتل أهل الذمة فإن هذا ينسخ الأمر بقتلهم الذي دل عليه عموم المشركين.
فإن لم يكن الخاص ورد بعد وقت العمل بالعام لم يكن ناسخا له بل كان مخصصا له فتشمل هذه ما يلي:
1- أن يرد الخاص بعد العام ولكنه يرد قبل دخول وقت العمل بالعام.
2- أن يرد العام بعد الخاص أي أن يتقدم الخاص ثم يأتي بعده عام عكس ماسبق.
3- أن يتقارن العام والخاص في الورود بأن عقبَ أحدهما الآخر.
4- أن يجهل تاريخ المتقدم والمتأخر.
ففي كل هذه الحالات يخصص الخاص العام.
فإن قيل: فما الفرق حينئذ بين النسخ الجزئي وبين التخصيص ولمَ لمْ تعتبروا النسخ تخصيصا ؟
قلنا: إن التخصيص بيان للمراد من العام- أي أن تلك الصورة الخاصة ليست مندرجة في الحكم العام- وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فإنا لو قلنا: إن النص الخاص الذي ورد بعد العمل بالعام مخصص للعام لكان فيه تأخير للبيان عن وقت الحاجة وهو وقت العمل بالنص، ولكن لو قلنا: هذا نسخ فهذا يعني أن المثال الخاص كان مندرجا في النص العام ثم نسخ وأخرج من العام، ففي التخصيص بيان أن الصورة الخاصة لم تدخل في العام، وفي النسخ دخول أولي فيه ثم إخراجها منه.
خامسا: إذا ورد نصان كل منهما عام من وجه وخاص من وجه آخر وبينهما تعارض فإنه يصار حينئذ إلى الترجيح بينهما.
مثاله: حديث البخاري: من بدل دينه فاقتلوه، مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء. رواه البخاري ومسلم.
فالأول عام في الرجال والنساء خاص بأهل الردة، والثاني خاص بالنساء عام في الحربيات والمرتدات. فيصار إلى الترجيح وقد ترجح الأول بقيام القرينة على اختصاص الحديث الثاني بسببه وهن الحربيات فإنه صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة فى بعض غزواته فقال لم قتلت وهى لا تقاتل ونهى عن قتل النساء. كما في سنن أبي داود وغيره فعلم انه أراد بهن الحربيات.


( شرح النص )

مسألةٌ: جوابُ السؤالِ غيرُ المستقلِ دونَهُ تابعٌ لهُ في عمومِهِ، والمستقلُ الأخصُّ جائزٌ إنْ أمكنَتْ معرفةُ المسكوتِ عنهُ والمساوي واضحٌ والأصحُّ أنَّ العامَ على سببٍ خاصٍّ معتبرٌ عمومُهُ، وأنَّ صورةَ السببِ قطعيةُ الدخولِ فلا تخصُّ بالاجتهادِ، ويقربُ منها خاصٌّ في القرآنِ تلاهُ في الرَّسْمِ عامٌّ لمناسبةٍ.
مسألةٌ: الأصحُّ إنْ لمْ يتأخرْ الخاصُّ عن العملِ خَصَّصَ العامَّ وإلا نَسَخَهُ، وإنْ كانَ كلٌّ عامًا مِنْ وجهٍ فالتَّرجيحُ.
......................... ......................... ......................... ....................
هذه ( مسألةٌ: جوابُ السؤالِ غيرُ المستقلِ دونَهُ ) أي دون السؤال كنعم وبلى وغيرهما مما لو ابتدىء به لم يفد ( تابعٌ لهُ ) أي للسؤال ( في عمومِهِ ) وخصوصه، لأن السؤال معاد في الجواب، فالأول كخبر الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وسلّم سئل عن بيع الرطب بالتمر؟ فقال: أينقص الرطب إذا يبس. قالوا: نعم. قال: فلا إذًا . فيعم كل بيع للرطب بالتمر سواء صدر من السائل أو من غيره، والثاني كقوله تعالى: فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم. فالكلام على خصوص أولئك المخاطبين فلا يعم غيرهم ( والمستقِلُّ ) دون السؤال ثلاثة أقسام: أخص من السؤال، ومساوٍ له، وأعم. فـ ( الأخصُّ ) منه ( جائزٌ إنْ أمكنتْ معرفةُ ) الحكم ( المسكوتِ عنهُ ) منه كأن يقول النبي صلى الله عليه وسلّم: مَن جامع في نهار رمضان فعليه كفارة كالمظاهِر. في جواب مَن أفطر في نهار رمضان ماذا عليه ؟ فيفهم من قوله جامع أن الإفطار بغير جماع لا كفارة فيه، فإن لم يمكن معرفة المسكوت عنه من الجواب لم يجز لتأخير البيان عن وقت الحاجة ( والمساوي ) له في العموم والخصوص ( واضحٌ ) في كونه يتبعه عموما وخصوصا مثال العموم: كأن يقال لمن قال: ما على من جامع في نهار رمضان؟ من جامع في نهار رمضان فعليه كفارة كالظهار، ومثال الخصوص: كأن يقال لمن قال: جامعت في نهار رمضان ماذا عليّ ؟ عليكَ إن جامعت في نهار رمضان كفارة كالظهار، وأما الأعم منه فمذكور في قولي: ( والأصحُّ أنَّ العامَّ ) الوارد ( على سببٍ خاصٍّ ) في سؤال أو غيره ( معتبرٌ عمومُهُ ) نظرا لظاهر اللفظ، وقيل: مقصور على السبب لوروده فيه سواء أوجدت قرينة التعميم أم لا. فالأول كقوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما. إذ سبب نزوله على ما قيل أن رجلاً سرق رداء صفوان بن أمية، فذكر السارقة قرينة على أنه لم يرد بالسارق ذلك الرجل فقط، والثاني - وهو ما لم توجد فيه قرينة التعميم- كخبر الترمذي وغيره عن أبي سعيد الخدريّ قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء. أي مما ذكر من الحيض ولحوم الكلاب والنتن وغيرها من النجاسات، وقيل: مما ذكر وهو ساكت عن غيره، وقد تقوم قرينة على الاختصاص بالسبب كالنهي عن قتل النساء في الصحيحين، فإن سببه أنه عليه الصلاة والسلام رأى امرأة حربية في بعض مغازيه مقتولة، وذلك يدل على اختصاصه بالحربيات فلا يتناول المرتدة ( و ) الأصح (أنَّ صورةَ السببِ ) التي ورد عليها العام ( قطعيةُ الدخولِ ) فيه أي في العام لوروده فيها ( فلا تخصُّ ) منه ( بالاجتهادِ ) وقيل: ظنية كغيرها فيجوز إخراجها منه بالاجتهاد. قال التقي السبكي والد تاج الدين السبكي: ( ويقربُ منها ) أي من صورة السبب حتى يكون قطعي الدخول على الأصح أو ظنيه على القول الثاني ( خاصٌّ في القرآنِ تلاهُ في الرَّسمِ ) أي رسم القرآن وإن لم يتله في النزول ( عامٌّ لمناسبةٍ ) بين التالي والمتلوّ كما في آية: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت. فإنها إشارة إلى كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود لما قدموا مكة وشاهدوا قتلى بدر حرّضوا المشركين على الأخذ بثأرهم، ومحاربة النبيّ صلى الله عليه وسلّم فسألوهم من أهدى سبيلا محمد وأصحابه أم نحن فقالوا: أنتم مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبيّ صلى الله عليه وسلّم المنطبق عليه، وأخذ المواثيق عليهم أن لا يكتموه فكان ذلك أمانة لازمة لهم ولم يؤدّوها حيث قالوا للمشركين ما ذكر حسدا للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، وقد تضمنت الآية أداء الأمانة التي هي بيان صفة النبيّ صلى الله عليه وسلّم وذلك مناسب لقوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدُّوا الأمانات إلى أهلها. فهذا عام في كل أمانة وذاك خاص بأمانة هي بيان صفة النبيّ صلى الله عليه وسلّم بما ذكر والعام تال للخاص في الرسم متراخ عنه في النزول لست سنين مدة ما بين بدر وفتح مكة. هذه ( مسألةٌ الأصحُّ ) أنه ( إنْ لمْ يتأخرْ الخاصُّ عن ) وقت ( العملِ ) بالعام المعارض له بأن تأخر الخاص عن ورود العام ولكن قبل دخول وقت العمل، أو تأخر العام عن الخاص، أو تقارنا بأن عقب أحدهما الآخر، أو جهل تاريخهما ( خَصَّصَ ) الخاص ( العامَّ ) وقالت الحنفية وإمام الحرمين العام المتأخر عن الخاص ناسخ له كعكسه، مثال العام: فاقتلوا المشركين. والخاص أن يقال: لا تقتلوا الذمي ( وإلا ) بأن تأخر الخاص عما ذكر ( نَسَخَهُ ) أي نسخ الخاص العام بالنسبة لما تعارضا فيه، وإنما لم يجعل ذلك تخصيصا، لأن التخصيص بيان للمراد بالعام وتأخير البيان عن وقت العمل ممتنع كما سيأتي ( و ) الأصح أنه ( إنْ كانَ كلٌّ ) من المتعارضين ( عامًا مِن وجهٍ ) خاصا من وجه (فالترجيحُ ) بينهما من خارج واجبٌ لتعادلهما تقارنا أو تأخر أحدهما أو جهل تاريخهما. وقالت الحنفية: المتأخر ناسخ للمتقدم. مثال ذلك خبر البخاري: من بدّل دينه فاقتلوه. وخبر الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلّم نهى عن قتل النساء. فالأوّل عام في الرجال والنساء خاص بأهل الردّة، والثاني خاص بالنساء عام في الحربيات والمرتدات، وقد ترجّح الأوّل بقيام القرينة على اختصاص الثاني بسببه وهو الحربيات.

صفاء الدين العراقي
2017-04-12, 06:56 PM
الدرس الخامس والأربعون- مباحث الكتاب

المطلق والمقيّد


أولا: المطلق: لفظ دلّ على الماهيّة بلا قيد. نحو: أكرمْ رجلًا، فالرجل لفظ دل على ماهية هي الذكر البالغ من بني آدم، ولم يذكر معه قيد زائد يخصصه بحصة معينة من الرجل نحو: أكرم رجلًا مؤمنا أو عالما أو فقيرا ونحوه، فيكون الرجل مطلقا.
وكذا إذا قيل: ( رجل- امرأة -ذئب- سيارة- ثلاجة- بيت- قميص- طائرة... ) كل هذه الألفاظ تدل على معنى ومفهوم كلي أي ماهية عارية عن كل قيد فتكون مطلقة ويسمى المطلق باسم الجنس أيضا.
وقولنا: بلا قيد أي من وحدة أو كثرة أو غيرهما من القيود كالرجل يراد به حقيقته الذهنية مجردة من التقييد بكونه واحدا أو أكثر طويلا أو قصيرا مؤمنا أو كافرا بل ينظر إلى محض معناه وهو الذكر البالغ.
فاحترزنا بقولنا بلا قيد عما يلي:
1- المقيد بقيد التعيين الذهني وهو علم الجنس كأسامة فإنه ليس من المطلق.
2- المقيد بقيد الوحدة الخارجية المعينة كزيد وهذا الرجل.
3- المقيد بقيد الوحدة غير المعينة وهو النكرة كرجل.
4- المقيد بقيد الكثرة المحصورة وهو اسم العدد كعشرين.
5- المقيد بقيد الكثرة غير المحصورة أي المستغرقة لجميع الأفراد وهو العام كأكرم كل رجل.
ثانيا: النكرة هي: لفظ دال على الماهية مع قيد الوحدة غير المعينة أي هي الفرد المنتشر والشائع في جنسه. كرجل.
فالفرق بين المطلق والنكرة فرق اعتباري لا حقيقي لاتحادهما في نفس الأمثلة كرجل ورقبة وكتاب وسيارة، فلفظ رجل مثلا من حيث دلالته على محض معناه الذهني مطلقا من كل قيد حتى قيد الوحدة فهو مطلق، ومن حيث دلالته على فرد واحد خارجي غير معين أي على هذا الرجل أو ذاك فهو نكرة.
ثالثا: المطلوب تحصيله في المطلق هو الماهية والوحدة ضرورية إذْ لا وجود للماهية المطلوبة بأقل من واحد.
فإذا قيل: اعتقْ رقبةً، فالمطلوب تحقيق ماهية العتق ولا يوجد ذلك في الخارج إلا بعتق رقبة واحدة، فالمطلق يدل على الوحدة ولكن ليس بالمطابقة بل بالالتزام.
رابعا: المقيّد هو: لفظ دال على الماهية مع قيد من القيود، نحو أكرم رجلًا عالما، واعتق رقبة مؤمنة، فالمقيد هو المطلق مع إضافة قيد عليه كقوله تعالى: ( فصيام شهرين متتابعينِ ).
خامسا: الإطلاق والتقييد يجتعان في لفظ واحد بجهتين مختلفتين كقوله تعالى: ( فتحرير رقبة مؤمنة ) فهذا لفظ مقيد من جهة الدين ولكنه مطلق من جهة أخرى كالذكورة والأنوثة والصغر والكبر.
سادسا: ذهب الأمدي وابن الحاجب وغيرهما من الأعلام إلى عدم التفريق بين المطلق والنكرة ولا حتى بالاعتبار فالمطلق عندهم هو: لفظ دال على واحد لا بعينه من أفراد الجنس. فهو موضوع للوحدة مطابقة لا التزاما.
وكونه موضوعا للواحد حيث لم يثن اللفظ أو يجمع كرجلين ورجال نحو: أكرم رجلين، وأكرم رجالا فهو من المطلق الذي هو النكرة فإذا قيل أكرم رجلين أي اثنين غير معينين من الجنس وإذا قيل أكرم رجالا أي ثلاثة فأكثر غير معينين من أفراد الجنس.
سابعا: المطلق والمقيّد كالعام والخاص، فما جاز تخصيص العام به جاز تقييد المطلق به، فيجوز تقييد الكتاب بالكتاب، وتقييد الكتاب بالسنة وبالقياس وبالمفهوم، ويجوز تقييد السنة بالسنة، وتقييد السنة بالكتاب وبالقياس وبالمفهوم.
مثاله: قال تعالى: ( حرمت عليكم الميتة والدم ) قيد الدم بالمسفوح في قوله تعالى: ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا ).


( شرح النص )

المطلقُ والمقيَّدُ
المختارُ أَنَّ المطلقَ ما دلَّ على الماهيةِ بلا قيدٍ.
والمطلقُ والمقيَّدُ كالعامِّ والخاصِّ.
......................... ......................... ......................... ...............
( المطلقُ والمقيَّدُ ) أي هذا مبحثهما ( المختارُ أَنَّ المطلقَ ) ويسمى اسم جنس أيضا ( ما ) أي لفظ ( دلّ على الماهيةِ بلا قيدٍ ) من وحدة وغيرها فهو كلي، وقال الآمدي وابن الحاجب هو: ما دل على شائع في جنسه. ومذهبهم هذا هو الموافق لأهل العربية قال العلامة العطار: ... وبه تعلم ترجيح ما ذكره ابن الحاجب والآمدي وأن ما قالاه هو الموافق لأسلوب الأصوليين؛ لأن كلامهم في قواعد استنباط أحكام أفعال المكلفين، والتكليف متعلق بالأفراد دون المفهومات الكلية التي هي أمور عقلية فتدبر. اهـ وعلى مختار المصنف اللفظ في المطلق والنكرة واحد، والفرق بينهما بالاعتبار إن اعتبر في اللفظ دلالته على الماهية بلا قيد يسمى مطلقا واسم جنس أيضا، أو مع قيد الشيوع يسمى نكرة، والقائل بالقول الثاني ينكر اعتبار الأوّل في مسمى المطلق ( والمطلقُ والمقيَّدُ كالعامِّ والخاصِّ ) فيما مرّ فما يخص به العام يقيد به المطلق وما لا فلا؛ لأن المطلق عام من حيث المعنى فيجوز تقييد الكتاب به وبالسنة والسنة بها وبالكتاب، وتقييدهما بالقياس والمفهومين.

صفاء الدين العراقي
2017-04-12, 06:57 PM
الدرس السادس والأربعون- مباحث الكتاب

حالات المطلق والمقيّد


إذا جاء نص مطلق ولم يأت ما يقيده فأمره واضح يبقى على إطلاقه، وإذا جاء نص مقيد ولم يأت في موضع آخر مطلقا فأمره واضح أيضا وهو أن يعمل بالقيد، ولكن إذا جاء نص مطلق وفي موضع آخر مقيد فما هو العمل ؟ فهذه المسألة لها عدة حالات يختلف الجواب باختلافها وهي:
أولا: اتحاد الحكم والسبب. ولهما في هذه الحالة صور:
1- أن يكونا مثبتين. كأن يقال في كفارة الظهار في محل: اعتق رقبة، ويقال في محل آخر: اعتق رقبة مؤمنة، فهنا كلا النصين مثبتان والحكم فيهما واحد وهو وجوب عتق رقبة، وسببهما واحد وهو ظهار الزوجة. فالحكم ينظر فيه:
إن ورد المقيد بعد دخول وقت العمل بالمطلق، فحينئذ يكون المقيد ناسخا للمطلق فيجب عتق رقبة مؤمنة.
فإن لم يكن المقيد ورد بعد وقت العمل بالمطلق لم يكن ناسخا له بل كان مقيدا له فتشمل هذه ما يلي:
أ- أن يرد المقيد بعد المطلق ولكنه يرد قبل دخول وقت العمل بالمطلق.
ب- أن يرد المطلق بعد المقيد أي أن يتقدم المقيد ثم يأتي بعده مطلق عكس ماسبق.
ج- أن يتقارن المطلق والمقيد في الورود بأن عقبَ أحدهما الآخر.
د- أن يجهل تاريخ المتقدم والمتأخر.
ففي كل ما سبق يحمل المطلق على المقيد أي يعمل بالمقيد فيجب عتق رقبة مؤمنة.
2- أن يكون أحدهما مثبتا والآخر منفيا. كأن يقال في محل: اعتق رقبة، ويقال في محل آخر: لا تعتق رقبة كافرة، أو يقال: اعتق رقبة مؤمنة، وفي محل آخر: لا تعتق رقبة.
وفي هذه الصورة يقيد المطلق بضد الصفة التي قيد بها المطلق، فيجب اعتاق رقبة مؤمنة وينهى عن اعتاق رقبة كافرة.
3- أن يكونا منفيين أي غير مثبتين. كأن يقال في محل: لا تعتق مكاتبا، ويقال في محل آخر: لا تعتق مكاتبا كافرا. فيحمل المطلق على المقيد، وحاصله: أنه لايعتق مكاتبا كافرا.
ويلاحظ أن المسألة في هذه الصورة تكون من قبيل العام والخاص لأن مكاتبا نكرة في سياق النهي فيعم، فتكون المسألة من باب تخصيص العام لا تقييد المطلق وإن عبر بهما مجازا.
ثانيا: أن يتحد حكمهما ويختلف سببهما. مثل ما ورد في كفارة الظهار: ( فتحرير رقبة ) بالإطلاق، وفي كفارة القتل: ( فتحرير رقبة مؤمنة ) بالتقييد. فالحكم وجوب الرقبة في الحالتين والسبب في الأولى الظهار وفي الثانية القتل.
فيحمل المطلق على المقيد قياسا أي تقيد كفارة القتل بالإيمان قياسا على كفارة الظهار والجامع هو حرمة سببهما وهو الظهار والقتل.
وقالت الحنفية: لا يحمل المطلق على المقيد لاختلاف السبب فيهما فتجب رقبة مؤمنة في الظهار وتجوز الكافرة في القتل.
ثالثا: أن يختلف حكمهما ويتحد سببهما. مثاله: ما ورد في التيمم من مسح اليدين بالإطلاق، وفي الوضوء بالتقييد إلى المرافق. فالسبب هنا واحد فيهما وهو الحدث، والحكم مختلف وهو المسح في التيمم والغسل في الوضوء.
فيحمل المطلق على المقيد قياسا، بعلة جامعة بينهما، وهي هنا الحدث الموجب للحكمين المسح والغسل، فتقيد الأيدي في التيمم بالمرافق حملا لها على الأيدي في الوضوء المقيدة بالمرافق.
وخالفت الحنفية أيضا فقالوا لا يحمل المطلق على المقيد لاختلاف السبب.
رابعا: أن يختلف حكمهما وسببهما. كما في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم اذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ) فقيد الشاهدين بالعدل. وقال تعالى: ( والذين يظاهرون من نسائهم .. ) الآية فأطلق الرقبة، فالحكم في الأول الإشهاد وفي الثاني العتق، والسبب فيهما مختلف فهو في الأول الوصية وفي الثاني الظهار. فواضح أنه لا علاقة لأحدهما بالآخر فيبقى المطلق على إطلاقه.
خامسا: أن يطلق في موضع ويقيد في موضع ثان بقيد ويقيد في موضع ثالث بقيد مختلف. فهذا له صورتان:
1- ألا يكون المطلق أولى بالتقييد بأحدهما من حيث القياس بل يكون القيدان على السواء فيبقى المطلق على إطلاقه.
مثاله: ما ورد في قضاء صيام رمضان: ( فعدة من أيام أخر ) بالإطلاق. وورد في كفارة الظهار ( فصيام شهرين متتابعين ) مقيدا بالتتابع. وورد في صيام التمتع بالحج: ( فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ) بالتفريق.
فالحكم واحد وهو وجوب الصيام ولكن السبب مختلف في كل منها فيعمل بكل حالة على ما ورد فيها من غير تقييد.
2- أن يكون المطلق أولى بالتقييد بأحدهما من الآخر من حيث القياس بأن وجد الجامع بين المطلق وبين أحد المقيدين فإنه يقيد به حينئذ قياسا.
مثاله: ما ورد في صيام كفارة اليمين بالإطلاق. وفي كفارة الظهار بالتتابع. وفي صيام التمتع بالتفريق. فيقيد صيام كفارة اليمين بما قيّد به صيام كفارة الظهار؛ لأن اليمين منهي عنه كالظهار بخلاف التمتع بالحج.
وهذا المثال إنما هو على القول القديم للإمام الشافعي القائل بوجوب التتابع وإلا فالمذهب الجديد المفتى به لا يجب التتابع في صيام الكفارة لدليل آخر.


( شرح النص )

وَأَنَّهما في الأَصحِّ إِنِ اتَّحَدَ حكمُهُما وسَبَبُهُ وكانا مثبتينِ فإنْ تأخَّرَ المقيَّدُ عن العملِ بالمطلقِ نَسَخَهُ وإلا قيَّدَهُ، وإنْ كانَ أحدُهما مثبتًا والآخرُ خلافَهُ قُيِّدَ المطلقُ بضِدِّ الصِّفَةِ، وإلا قُيِّدَ بها في الأصحِّ وهيَ خاصٌ وعامٌّ، وإنْ اختلفَ حكمُهُمَا أو سبَبُهُما ولمْ يكنْ ثَمَّ مُقَيَّدٌ بمتنافيينِ أَو كانَ أولى بأحدِهما قُيِّدَ قياسًا في الأصحِّ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( وَأَنهما ) أي المطلق والمقيد ( في الأَصحِّ إِنِ اتَّحَدَ حكمُهُما وسَبَبُهُ ) أي سبب حكمهما ( وكانا مثبتينِ ) كأن يقال في كفارة الظهار في محل أعتق رقبة، وفي آخر أعتق رقبة مؤمنة (فإنْ تأخَّرَ المقيَّدُ ) بأن علم تأخره ( عن ) وقت ( العملِ بالمطلقِ نَسَخَهُ ) أي المطلق ( وإلا ) بأن تأخر المقيد عن وقت الخطاب بالمطلق دون العمل، أو تأخر المطلق عن المقيد، أو تقارنا، أو جهل تاريخهما ( قيَّدَهُ ) أي المطلق جمعا بين الدليلين، وقيل: يحمل المقيد على المطلق بأن يلغى القيد ( وإنْ كانَ أحدُهما مثبتًا والآخرُ خلافَهُ ) نحو: أعتق رقبة لا تعتق رقبة كافرة، أو أعتق رقبة مؤمنة لا تعتق رقبة ( قُيِّدَ المطلقُ بضِدِّ الصِّفَةِ ) في المقيد ليجتمعا فيقيد في المثال الأول بالإيمان، وفي الأخير بالكفر ( وإلا ) بأن كانا منفيين نحو: لا يجزىء عتق مكاتب لا يجزىء عتق مكاتب كافر ( قُيِّدَ ) المطلق ( بها ) أي بالصفة ( في الأصحِّ ) وقيل: يعمل بالمطلق ( وهيَ ) أي المسألة حينئذ ( خاصُّ وعامٌّ ) لعموم المطلق في سياق النفي الشامل للنهي ويكون المقيد مخصصا لا مقيدا. ويكون التعبير عنهما بالمطلق والمقيد مجازا في الاصطلاح كما ذكره العلامة العطار في حاشيته ( وإنْ اختلفَ حكمُهُمَا ) مع اتحاد سببهما كما في قوله تعالى في التيمم: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. وفي الوضوء: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق. وسببهما الحدث مع القيام إلى الصلاة أو نحوها وحكمهما مختلف من مسح المطلق وغسل المقيد بالمرفق ( أو ) اختلف ( سبَبُهُما ) مع اتحاد حكمهما ( ولمْ يكنْ ثَمَّ مُقَيَّدٌ ) في محلين ( بمتنافيينِ ) كما في قوله تعالى في كفارة الظهار: فتحرير رقبة. وفي كفارة القتل: فتحرير رقبة مؤمنة ( أو ) كان ثم مقيد بقيدين متنافيين، و ( كانَ ) المطلق ( أولى ) بالتقييد ( بأحدِهما ) من الآخر من حيث القياس كما في قوله تعالى في كفارة اليمين: فصيام ثلاثة أيام. وفي كفارة الظهار: فصيام شهرين متتابعين. وفي صوم التمتع: فصيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم ( قُيِّدَ ) المطلق بالقيد أي حمل عليه ( قياسًا في الأصحِّ ) فلا بد من جامع بينهما وهو في المثال الأول أي مثال التيمم والوضوء موجب الطهر وهو الحدث، وفي الثاني وهو مثال الظهار والقتل حرمة سببهما من الظهار والقتل، وفي الثالث وهو المقيد بقيدين متنافيين النهي عن اليمين والظهار فحمل المطلق فيه على كفارة الظهار في التتابع أولى من حمله على صوم المتمتع في التفريق لاتحادهما في الجامع، والتمثيل به إنما هو على قول قديم للشافعي وهو القول بوجوب التتابع في كفارة اليمين، أما القول الجديد في المذهب المفتى به فلا، وقال الحنفية لا يحمل المطلق على المقيد لاختلاف الحكم أو السبب فيبقى المطلق على إطلاقه. أما إذا كان ثم مقيد في محلين بمتنافيين ولم يكن المطلق في ثالث أولى بالتقييد بأحدهما من حيث القياس كما في قوله تعالى في قضاء رمضان: فعدة من أيام أخر. وفي كفارة الظهار: فصيام شهرين متتابعين. وفي صوم التمتع: فصيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم. فيبقى المطلق على إطلاقه لامتناع تقييده بهما لتنافيهما وبواحد منهما لانتفاء مرجحه، فلا يجب في قضاء رمضان تتابع ولا تفريق، ولو اختلف سببهما وحكمهما كتقييد الشاهد بالعدالة وإطلاق الرقبة في الكفارة لم يحمل المطلق على المقيد اتفاقا.

صفاء الدين العراقي
2017-04-12, 07:00 PM
الدرس السابع والأربعون- مباحث الكتاب

الظاهر والمؤول


أولا: الظاهر: لفظ يدل على معناه دلالة ظنية، أي راجحة، ويحتمل المعنى المرجوح.
فلفظ أسد راجح في الحيوان المفترس المعروف ومرجوح في الرجل الشجاع. أي إن لم تكن قرينة.
ثانيا: المؤول: لفظ حُمِلَ فيه الظاهر على المعنى المرجوح لدليل.
كحمل الأسد على الرجل الشجاع في قولنا: رأيتُ أسدًا يحمل سيفا، لوجود القرينة.
فالتأويل: حمل الظاهر على المعنى المرجوح.
وهو صحيح إن كان لدليل، وفاسد إن كان لما يُظَنُّ دليلًا مع أنه في الواقع ليس كذلك أي لشبهة.
أما إذا كان حمله على المرجوح لا لدليل ولا لما يظن دليلا فهو لَعِبٌ لا تأويلٌ.
ثالثا: التأويل قسمان:
1- قريب وهو: ما يترجح على الظاهر بأدنى دليل.
كتأويل قوله تعالى: ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا .. ) الآية. فإنها بظاهرها تدل على الأمر بالوضوء حال التلبس بالقيام إلى الصلاة والدخول فيها. لكن الشرط يطلب تحصيله قبل التلبس بالمشروط.لذلك أوّلوا القيام بالعزم عليه.
ونظيره قوله تعالى: ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) فإنها بظاهرها تدل على أن الأستعاذة بعد الفراغ من القراءة، بينما المراد هو إذا عزمتم على القراءة.
2- بعيد وهو: ما لا يترجح على الظاهر بأدنى دليل بل يترجح عليه بدليل أقوى منه بحيث يقدم عليه. أي يعترف الخصم ببعده لكن ارتكبه لدليل عنده رجّحه.
مثال: ورد في حديث الترمذي وغيره قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أسلم وله عشر نسوة: ( أَمسِكْ أربعًا وفارقْ سائرهن ) فظاهره أن يُبقِي أربعا ويفارق الباقيات، سواء عقد عليهن معًا أم مرتبًا؛ لأن ترك الاستفصال ينزل منزل العموم كما سبق ذكر هذا.
وقال الحنفية: المراد ابتدئ العقد على أربع أي جدد العقد على أربع وذلك في حالة كونه عقد على العشرة معا، فإن كان تزوجهن مرتبا فإن المعنى أمسك الأربع الأوائل وفارق الباقيات.
وهذا تأويل بعيد؛ لأن معنى الإمساك الاستدامة لا الابتداء. ثم يبعد أن يخاطب حديث عهد بالإسلام بأمسك ويراد ابتدئ وهو لا يعرف شروط النكاح مع حاجته إلى ذلك.
مثال آخر: ورد في الكفارة قوله تعالى: ( فإطعام ستين مسكينا ) وظاهره واضح لا يحتاج لتأويل.
وقال الحنفية: المعنى: فإطعامُ طعامِ ستين مسكينا، فأجازوا دفع ستين مدا من الطعام لمسكين واحد. وهذا بعيد؛ لأن فيه اعتبار شيء لم يرد في النص وهو تقدير ( طعام ) وإلغاء ما ورد من عدد المساكين، أي عدد من يعطى.
مثال آخر: ورد في حديث أبي داود والترمذي: ( لاصيامَ لمنْ لمْ يُبيت النيّة من الليل ). فإنه يدل بظاهره على وجوب تبييت نية الصيام مطلقا.
وقال الحنفية: المعنى: لا صيام لمن لم يبيت النية من الليل إذا كان يقضي صياما أو نذر الصيام؛ لأنه يصح أن يصوم في غيرهما بنية في النهار.
وهذا بعيد؛ لأن الصيام نكرة في الحديث ورد بعد نفي فيعم وإذا بنيت النكرة على الفتح كانت نصا في العموم كما هو الحال هنا. نعم ورد نص بجواز النية في النهار لصيام النفل خاصة.
مثال آخر: ورد في حديث أبي داود والترمذي: ( ذكاة الجنين ذكاة أمه ). فظاهره أن ذكاة الأم هي ذكاة للجنين. أي يكتفى بذكاتها عن ذكاته فيما إذا وجد الجنين ميتا.
وقال الإمام أبو حنيفة: المعنى: ذكاة الجنين كذكاة أمه. أي يجب أن يذكى إذا نزل الجنين حيا، فإن كان ميتا فلا يجوز أكله.
وعند الإمام الشافعي وصاحبي أبي حنيفة الإمام أبي يوسف والإمام محمد بن الحسن الشيباني يجوز أكل الجنين الميت.
ولا يخفى بعده واستغناء النص عن التقدير.


( شرح النص )

الظاهِرُ والمؤولُ

الظاهِرُ: ما دلَّ دلالةً ظنيّةً، والتأويلُ: حملُ الظاهرِ على المحْتَمَلِ المرجوحِ، فإنْ حُمِلَ لدليلٍ فصحيحٌ أَوْ لما يُظَنُّ دليلًا ففاسِدٌ أَو لا لشيءٍ فَلَعِبٌ، والأَوَّلُ قريبٌ وبعيدٌ كتأويلِ أَمْسِكْ بابتدئ في المعيِّةِ، وستيّنَ مسكينًا بستينَ مُدًّا، ولا صيامَ لمنْ لمْ يُبَيِّتْ بالقضاءِ والنَّذرِ، وذكاةُ الجنينِ ذكاةُ أمِّهِ بالتَّشبيهِ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( الظاهِرُ والمؤولُ ) أي هذا مبحثهما ( الظاهِرُ ) لغة الواضح واصطلاحا ( ما ) أي لفظ ( دلَّ ) على المعنى ( دلالةً ظنيّةً ) أي راجحة بوضع اللغة أو الشرع أو العرف، يحتمل غير ذلك المعنى مرجوحا كما مر أوائل الكتاب الأول كالأسد راجح في الحيوان المفترس لغة مرجوح في الرجل الشجاع، والصلاة راجحة في ذات الركوع والسجود شرعا مرجوحة في الدعاء الموضوعة له لغة، والغائط راجح في الخارج المستقذر عرفا مرجوح في المكان المطمئن الموضوع له لغة، وخرج المجمل لتساوي الدلالة فيه، والمؤول لأنه مرجوح، والنص كزيد لأن دلالته قطعية ( والتأويلُ: حملُ الظاهرِ على المحْتَمَلِ المرجوحِ فإنْ حُمِلَ ) عليه ( لدليلٍ فصحيحٌ ) حمله ( أَوْ لما يُظَنُّ دليلًا ) وليس دليلا في الواقع ( ففاسِدٌ أَوْ لا لشيءٍ فَلَعِبٌ ) لا تأويل
( والأَوَّلُ ) أي التأويل قسمان ( قريبٌ ) يترجح على الظاهر بأدنى دليل نحو: إذا قمتم إلى الصلاة. أي عزمتم على القيام إليها وقوله: إذا قرأت القرآن. أي أردت قراءته ( وبعيدٌ ) لا يترجح على الظاهر إلا بأقوى منه أي بدليل أقوى من الظاهر ( كتأويلِ ) الحنفية ( أَمسِكْ ) من قوله صلى الله عليه وسلّم لغيلان لما أسلم على عشر نسوة: أمسك أربعا وفارق سائرهن. رواه الترمذي وغيره ( بابتدئ ) نكاح أربع منهن ( في المعيِّةِ ) أي فيما إذا نكحهن معا لبطلانه كالمسلم بخلاف نكاحهن مرتبا فيمسك الأربع الأوائل، ووجه بعده أن المخاطب بقوله أمسك قريب عهد بالإسلام لم يسبق له بيان شروط النكاح مع حاجته إلى ذلك، ولم ينقل تجديد نكاح منه ولا من غيره ممن أسلم مع كثرتهم وتوفر دواعي حملة الشرع على نقله لو وقع ( و ) كتأويل الحنفية ( ستيّنَ مسكينًا ) من قوله تعالى: فإطعام ستين مسكينا ( بستينَ مُدًّا ) بتقدير مضاف أي فإطعام طعام ستين مسكينا وهو ستون مدا فيجوز إعطاؤه لمسكين واحد في ستين يوما كما يجوز إعطاؤه لستين مسكينا في يوم واحد، لأن القصد بإعطائه دفع الحاجة ودفع حاجة الواحد في ستين يوما كدفع حاجة الستين في يوم واحد، ووجه بعده أنه اعتبر في النص ما لم يذكر فيه من المضاف وألغى فيه ما ذكر من عدد المساكين الظاهر قصده لفضل الجماعة وبركتهم وتظافر قلوبهم على الدعاء للمحسن ( و ) كتأويل الحنفية خبر أبي داود وغيره ( لا صيامَ لمنْ لمْ يُبَيِّتْ ) أي الصيام من الليل ( بالقضاءِ والنَّذرِ ) لصحة غيرهما بنية من النهار عندهم ووجه بعده أنه قصر للعام النص في العموم -حيث إن صيام نكرة مبنية على الفتح- على أمر نادر لندرة القضاء والنذر ( و ) كتأويل الإمام أبي حنيفة خبر أبي داود والترمذي ( ذكاةُ الجنينِ ذكاةُ أمِّهِ بالتَّشبيهِ ) أي مثل ذكاتها أو كذكاتها فالمراد بالجنين الحي لحرمة الميت عنده وأحله صاحباه أبو يوسف والشيباني كالشافعي، ووجه بعده ما فيه من التقدير المستغنى عنه، إذْ أن الجنين خبر لما بعده أي ذكاة أم الجنين ذكاة له فيحل تبعا لها.

صفاء الدين العراقي
2017-04-12, 07:01 PM
الدرس الثامن والأربعون- مباحث الكتاب

المجمل


أولا: المجمل هو: ما لم تتضح دلالته من قول أو فعل. أي هو له معنى متردد بين شيئين فأكثر فيحتاج إلى بيان ليرتفع الإجمال، وملاك تحديد أن هذا الأمر مجمل أو لا هو عدم وجود ظهور له في أحد المعنيين، فمتى وجد الظهور فلا إجمال.
مثال المجمل: المشترك كالقرء فإنه محتمل للطهر والحيض، فحمله الإمام الشافعي على الطهر، والإمام أبو حنيفة على الحيض، لما قام عندهما من الدليل الذي رفع الإجمال.
ومثل قيامه صلى الله عليه وسلم من الركعة الثانية بلا تشهد. متفق عليه، فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم تركه متعمدا فيدل على جواز الترك أي أن التشهد ليس واجبا، ويحتمل أنه تركه ناسيا فلا يدل على أنه غير واجب.
ثانيا: الإجمال له أسباب منها:
1- الاشتراك. كالقرء. فكل مشترك مجمل ولكن ليس كل مجمل مشتركا.
2- الإعلال. وذلك كلفظ مختار فإنه متردد بين أن يكون اسم فاعل أو اسم مفعول من الاختيار، فإن أصله مُخْتَيِر بكسر الباء فيكون اسم فاعل، أو مُخْتَيَر بفتح الباء فيكون اسم مفعول، وفي كلا الحالين تنقلب الياء إلى ألف لتحركها وانفتاح ما قبلها. ومثله مقتاد ومعتاد.
3- تركيب اللفظ. كقوله تعالى: ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) فإن الذي بيده عقدة النكاح تركيب مجمل لأن كلا من ولي المرأة والزوج بيده عقدة النكاح.
4- استثناء مجهول. وذلك كما في قوله تعالى: ( أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) فهذا المستثنى الذي لم يحله الله تعالى مجهول، فبالتالي لا ندري أي بهيمة الأنعام تحل وأيها تستثنى. ثم نزل البيان بقوله تعالى: ( حرمت عليكم الميتة والدم..) الآية.
5- احتمال الحرف لمعان. وذلك كقوله تعالى: ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) فالواو في قوله: ( والراسخون ) متردد بين العطف والابتداء فإن حملناه على العطف كان الراسخون في العلم يعلمون تأويله، وإن حملناه على الابتداء كان المعنى: لايعلم تأويله إلا الله، وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنا به.
6- مرجع الضمير. وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يمنع أحدكم جارَه أن يغرز خشبة في جدارِه ) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم. فالضمير في جداره متردد بين أن يرجع إلى أحدكم وإن يرجع إلى جاره، فيحتمل أن يكون المعنى: لا يمنع أحدكم جاره أن يستخدم جدار جاره فيضع عليه خشبته، ويحتمل أن يكون المعنى: لا يمنع أحدكم جاره من استخدام جداره هو ووضع خشبته عليه، لأنه ماله وله أن يستعمله كما يشاء.
7- مرجع الصفة. وذلك كقولنا: زيدٌ طبيبٌ ماهرٌ، فإن الصفة وهي ( ماهر ) يحتمل أن ترجع إلى زيد فيكون هو الماهر فتكون خبرا ثانيا لزيد، ويحتمل أن ترجع إلى طبيب، فيكون هو الماهر، أي طبه فهي نعت لطبيب، فهو مجمل بسبب تردده بين المهارة مطلقا وبين المهارة في الطب خاصة.
ثالثا: الأصح أنه لا إجمال فيما يلي:
1- قوله تعالى: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) قال الجمهور لا إجمال فيها؛ إذْ لو كان لكان الإجمال إما في القطع أو في اليد. أما القطع فحقيقته اللغوية إبانة شيء متصل فلا إجمال فيه، وأما اليد فحقيقتها العضو إلى المنكب فلا إجمال فيها.
وقال بعض من الحنفية: هي من المجمل، فإن القطع يطلق على الإبانة وعلى الجرح. واليد تطلق على جميع العضو وعلى البعض إلى الكوع وإلى المرفقين. والجواب إن إطلاق القطع على الجرح مجاز فالظاهر هو المتعين، وإطلاق اليد على بعضها مجاز أيضا لكن قامت القرينة هنا على أن المراد البعض وهو إلى الكوع.
2- قوله تعالى: ( حرمت عليكم أمهاتكم ) وقوله: (حرمت عليكم الميتة ) ونحو ذلك مما فيه تحريم العين، فالجمهور على أنه لا إجمال فيه، إذْ قد علم باستقراء كلام العرب أن مرادهم في مثل ذلك تحريم الفعل المقصود منه كالأكل في المأكولات واللبس في الملبوسات. وقال جماعة: هو مجمل لأنه لما لم يمكن حمل التحريم على الأعيان وهي الأمهات والميتة كان لابد من تقدير مضاف فلا يدرى هل المقصود تحريم أكل الميتة أو تحريم بيعها أو مسّها أو غير ذلك كما أنه في الأم يحتمل نكاحها ويحتمل تملكها وغير ذلك.
وردّ قولهم بأن عرف الاستعمال قاض بإرادة النكاح من تحريم الأمهات والأكل من تحريم الميتة فلا إجمال.
3- قوله تعالى: ( وامسحوا برؤوسكم ) فذهب بعضهم إلى أن المسح مجمل، وذلك لتردده بين مسح جميع الرأس ومسح بعضه على السواء، وردّ بأنه لا تردد فيه لأن المسح في الآية إنما هو لمطلق المسح الصادق بالقليل والكثير.
4- روى ابن ماجه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وذكر في كتب الفقه والأصول بلفظ: رُفِع عن أمتي. ولم يثبت. فالحديث لا إجمال فيه. وقال بعضهم: هو مجمل؛ إذْ لا يصح رفع المذكورات مع وقوعها من أفراد الأمة فلا بد من تقدير شيء كرفع المؤاخذة أو العقوبة أو الضمان. ولا مرجح فهو مجمل. والجواب: أن المرجح موجود وهو العرف، فإنه يقتضي أن المراد رفع المؤاخذة.
5- قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا نكاح إلا بوليّ ) رواه أبو داود والترمذي وحسّنه. قيل: إنه مجمل إذْ لا يصح نفي النكاح بدون ولي مع أنه موجود حسا فلا بد من تقدير شيء كنفي الصحة أو نفي الكمال ولا مرجح بدون بيان فهو مجمل. والجواب: تقدير نفي الصحة هو الأقرب إلى نفي الذات من نفي الكمال وذلك كاف في الترجيح.


( شرح النص )

المجملُ: ما لمْ تتَّضِحْ دَلالَتُهُ، فلا إجمالَ في الأصحِّ في آيةِ السَّرِقةِ، ونحوِ: حُرِّمَتْ عليكُمُ الميتَةُ، وامْسَحُوا برؤوسِكم، ورُفِعَ عن أمتي الخطأُ، ولا نكاحَ إلا بوليٍّ، لوضوحِ دَلالةِ الكلِّ، بلْ في مثلِ: القرءِ، والنورِ، والجسمِ، والمختارِ، وقولِه تعالى: أَو يعفوَا الذي بيدِه عُقْدَةُ النِّكاحِ، وإلا ما يُتلى عليكم، والراسخونَ، وقولِه عليهُ الصلاةُ والسلامُ: لا يمنعُ أحدُكُم جارَه أنْ يضعَ خَشَبَةً في جدارِه، وقولِكَ: زيدٌ طبيبٌ ماهِرٌ، والثلاثةُ زوجٌ وفردٌ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( المجملُ: ما لمْ تتَّضِحْ دَلالَتُهُ ) من قول أو فعل كقيامه صلى الله عليه وسلّم من الركعة الثانية بلا تشهد لاحتماله العمد والسهو، وخرج المهمل إذ لا دلالة له، والمبيّن لاتضاح دلالته ( فلا إجمالَ في الأصحِّ في آيةِ السَّرِقةِ ) وهي: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما. لا في اليد ولا في القطع، وقيل مجملة فيهما؛ لأن اليد تطلق على العضو إلى الكوع وإلى المرفق وإلى المنكب، والقطع يطلق على الإبانة وعلى الجرح، ولا ظهور لواحد من ذلك، وإبانة الشارع من الكوع مبينة لذلك الإجمال الذي في اليد وفي القطع. قلنا: لا نسلم عدم ظهور واحد، لأن اليد ظاهرة في العضو إلى المنكب، والقطع ظاهر في الإبانة، وإبانة الشارع من الكوع دليل على أن المراد من اليد البعض فتكون الآية من قبيل الظاهر والمؤول لا من قبيل المجمل والمبين ( و ) لا في نحو: ( حُرِّمَتْ عليكُمُ الميتَةُ ) كحرمت عليكم أمهاتكم، وقيل مجمل. إذ لا يصح إسناد التحريم إلى العين لأنه إنما يتعلق بالفعل فلا بد من تقديره، وهو محتمل لأمور لا حاجة إلى جميعها ولا مرجح لبعضها فكان مجملًا. قلنا: المرجح موجود وهو العرف فإنه قاض، بأن المراد في الأول تحريم الأكل ونحوه، وفي الثاني تحريم التمتع بوطء ونحوه ( و ) لا في قوله تعالى: ( امْسَحُوا برؤوسِكم ) وقيل: مجمل لتردده بين مسح الكل والبعض، ومسح الشارع الناصية مبين لذلك. قلنا: لا نسلم تردده بين ذلك، وإنما هو لمطلق المسح الصادق بأقلّ ما ينطلق عليه الاسم وبغيره، ومسح الشارع الناصية من ذلك ( و ) لا في خبر- على تقدير ثبوته بهذا اللفظ-: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. وقيل: مجمل، إذ لا يصح رفعها مع وجودها حسا فلا بد من تقدير شيء وهو متردد بين أمور لا حاجة إلى جميعها ولا مرجح لبعضها فكان مجملا. قلنا: المرجح موجود وهو العرف فإنه قاض بأن المراد منه رفع المؤاخذة ( و ) لا في خبر الترمذي وغيره: لا نكاح إلا بولي. وقيل: مجمل، إذ لا يصح النفي لنكاح بلا ولي مع وجوده حسا فلا بد من تقدير شيء وهو متردد بين الصحة والكمال ولا مرجح لواحد منهما، فكان مجملا. قلنا: المنفي هو النكاح الشرعي أي عقد النكاح لا وجود صورته، وبتقدير تسليم ذلك- أي من عدم صحة نفي النكاح بلا ولي في الواقع- نقول: إن المرجح لنفي الصحة موجود وهو قربه من نفي الذات إذ ما انتفت صحته لا يعتد به، فيكون كالمعدوم بخلاف ما انتفى كماله ( لوضوحِ دَلالةِ الكلِّ ) كما مرّ بيانه فلا إجمال في شيء منه ( بلْ ) الإجمال ( في مثلِ القرءِ ) لتردده بين الطهر والحيض لاشتراكه بينهما، وحمله الشافعي على الطهر، والحنفي على الحيض لما قام عندهما من دليل ( و ) مثل ( النورِ ) لأنه صالح للعقل ونور الشمس مثلًا لتشابههما في الاهتداء بكل منهما. وفيه أن إطلاق النور على نور الشمس حقيقي وعلى نور العقل مجازي فلا إجمال فيه ( و ) مثل ( الجسمِ ) لأنه صالح للسماء والأرض مثلا لتماثلهما سعة وعددا. وفيه أن الجسم من المتواطئ وهو الكلي الذي ينطبق على مصاديقه بالتساوي كالإنسان يطلق على زيد وعمرو بالتساوي فحينئذ لا إجمال فيه ( و ) مثل ( المختارِ ) كمنقادٍ لتردده بين اسم الفاعل والمفعول بإعلاله بقلب يائه المكسورة أو المفتوحة ألفا ( و ) مثل ( قولِه تعالى: أَو يعفوَا الذي بيدِه عُقْدَةُ النِّكاحِ ) لتردده بين الزوج والولي وحمله الشافعي على الزوج ومالك على الولي لما قام عندهما من دليل ( و ) مثل قوله تعالى: أحلت لكم بهيمة الأنعام ( إلا ما يتلى عليكم ) للجهل بمعناه قبل نزول مبينه وهو حرمت عليكم الميتة.. الآية ويسري الإجمال إلى المستثنى منه وهو :أحلت لكم بهيمة الأنعام. لأننا لا ندري أي بهيمة الأنعام قد أحلت وأيها قد استثنيت ( و ) مثل قوله تعالى ( الراسخونَ ) من قوله تعالى: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به. لتردده بين العطف والابتداء وحمله الجمهور على الابتداء لما قام عندهم من دليل ( و ) مثل ( قوله عليه الصلاة والسلام ) في خبر الصحيحين وغيرهما ( لا يمنعُ أحدُكُم جارَه أنْ يضعَ خَشَبَةً في جدارِه ) لتردد ضمير جداره بين عوده إلى الجار أو إلى الأحد. وتردد الشافعي في القديم في المنع لذلك، والمذهب الجديد المنع من وضع الخشبة بدون إذن جاره لخبر الحاكم بإسناد صحيح في خطبة حجة الوداع: لا يحل لامرىء من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس ( و ) مثل ( قولِكَ: زيدٌ طبيبٌ ماهِرٌ ) لتردد ماهر بين رجوعه إلى طبيب وإلى زيد ( و ) مثل قولك ( الثلاثةُ زوجٌ وفردٌ ) فالحكم بالزوجية والفردية معا يراد به اتصاف أجزاء الثلاثة بهما فالاثنان زوج والواحد فرد فيكون الكلام صادقا، ويراد به- بالنظر لظاهر الكلام ومفهومه بغض النظر عن الواقع- أن الثلاثة تتصف بالزوجية والفردية معا فيكون الكلام كاذبا فللتردد بالنظر إلى مفهوم الكلام عدّ مجملا، وقد يقال: إن كذب الاحتمال الثاني قرينة ظاهرة على تعين حمل الكلام على الاحتمال الأول فلا إجمال.

صفاء الدين العراقي
2017-04-12, 07:02 PM
الدرس التاسع والأربعون- مباحث الكتاب

مسائل في المجمل


أولا: الأصح وقوع المجمل في الكتاب والسنة وقد تقدمت أمثلة لذلك.
وقيل: لم يقع وناقشوا تلك الأمثلة فقيل: لا إجمال في قوله تعالى: ( يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) فإنه الزوج لأنه المالك للنكاح، وفي قوله تعالى: ( إلا ما يتلى عليكم ) إنه مقترن بتفسيره وهو ( حرمت عليكم الميتة.. ) الآية، وفي قوله تعالى: ( الراسخون في العلم ) إنه ظاهر في الاستئناف. وفي حديث: ( خشبة في جداره ) إنه ظاهر في عود الضمير إلى أحدكم لأنه المنهي عن المنع.
ثانيا: اللفظ الوارد في لسان إذا كان له مسمى شرعي ومسمى لغوي كالصلاة والصوم يحمل على الشرعي، فلا إجمال في ذلك؛ لأن الوارد في لسان الشرع إنما هو لبيان الشرعيات لا اللغويات. كما مر بيانه في مبحث الحقيقة والمجاز.
فإن ورد لفظ في لسان الشرع وتعذر حمله على المعنى الشرعي حقيقة فإنه يحمل على المجاز الشرعي بإيجاد علاقة بينه وبين المعنى الشرعي محافظة على المعنى الشرعي ما أمكن. وقيل: يكون مجملا لتردده بين الحقيقة اللغوية والمجاز الشرعي. وقيل: بل يحمل على المعنى اللغوي تقديما للحقيقة على المجاز.
مثاله: حديث الترمذي وغيره: ( الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحلّ فيه الكلام ) فحمل الصلاة على الصلاة الحقيقية متعذر. فعلى القول الأول وهو الحمل على المجاز الشرعي يقال: الطواف كالصلاة أي في الطهارة والنية مثلا.
وعلى القول الثاني مجمل يحتاج إلى بيان من خارج.
وعلى القول الثالث يحمل على معنى الصلاة اللغوي وهو الدعاء؛ لاشتمال الطواف على الدعاء وإن كان غير واجب.
ثالثا: إذا ورد لفظ عن الشارع له معنيان إن حُمِلَ على أحدهما أفاد معنى واحدا، وإن حمل على الآخر أفاد معنيين ليس المعنى الأول أحدهما فإنه يكون مجملا. وقيل: يحمل على ما له معنيان لكثرة الفائدة.
مثاله: حديث مسلم: ( لا يَنْكِحُ المحرِمُ ولا يُنْكِحُ ) فالنكاح - بناء على أنه مشترك- له معنيان: الوطء والعقد، فإن حمل على الوطء أفاد في الحديث معنى واحدا وهو حرمة الجماع أي أن الرجل المحرم لا يطأ وأن المرأة المحرمة لا توطئ أي لا تمكن نفسها، وإن حمل على العقد أفاد معنيين وهما أن المحرم لا يعقد لنفسه ولا يعقد لغيره، فهنا يكون الحديث مجملا يحتاج لبيان لاحتماله الوطء والعقد. وقيل: يحمل على معنى العقد لأن له مدلولين فيكون أكثر فائدة.
فإذا كان المعنى الأول أحد المعنيين عمل بالأول لأنه مذكور في كلا الحالتين، ويوقف الثاني.
مثاله: حديث مسلم: ( الثيّب أحق بنفسها من وليّها ) فالأحقية صادقة بأمرين: الأول أن تعقد لنفسها لا غير، والثاني متضمن لمعنيين: أن تعقد لنفسها كالأول، وأن تأذن لمن يعقد لها ولا يجبرها. فيحمل على أن تعقد لنفسها لأنه مذكور في الحالتين كما قال به الإمام أبو حنيفة وكذا بعض أصحابنا في مكان لا ولي فيه ولا حاكم. وتبقى صورة أن تأذن لغيرها موقوفة.


( شرح النص )

والأصحُّ وقوعُهُ في الكتابِ والسّنةِ، وأَنَّ المسمّى الشرعيَّ أوضحُ من اللغويِّ وقدْ مرَّ، وأَنَّهُ إِنْ تعذَّرَ حقيقةً رُدَّ إليهِ بتجوُّزٍ، وأَنَّ اللفظَ المستعملَ لمعنىً تارةً ولمعنيينِ ليسَ ذلكَ المعنى أحدَهما مجملٌ، فإنْ كانَ أحدَهما عُمِلَ به ووُقِفَ الآخرُ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( والأصحُّ وقوعُهُ ) أي المجمل ( في الكتابِ والسّنةِ ) للأمثلة السابقة منهما، ومنعه داود الظاهري، قيل: ويمكن أن ينفصل عنها بأن الأول ظاهر في الزوج لأنه المالك للنكاح. والثاني مقترن بمفسره، والثالث ظاهر في الابتداء، والرابع ظاهر في عوده إلى الأحد لأنه محط الكلام ( و ) الأصح ( أَنَّ المسمّى الشرعيَّ ) للفظ ( أوضحُ من ) المسمى ( اللغويِّ ) له في عرف الشرع لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الشرعيات لا اللغويات، فيحمل على الشرعي، وقيل لا يحمل على الشرعي في النهي فقيل: هو مجمل، وقيل: يحمل على اللغوي ( وقد مرَّ ) ذلك في مسألة اللفظ إما حقيقة أو مجاز، وإنما ذكر هنا توطئة لقولي ( و ) الأصح ( أَنَّهُ إِنْ تعذَّرَ ) أي المسمى الشرعي لِلَفظ ( حقيقةً رُدَّ إليهِ بتجوُّزٍ ) محافظة على الشرع ما أمكن، وقيل: هو مجمل لتردده بين المجاز الشرعي والمسمى اللغوي، وقيل: يحمل على اللغوي تقديما للحقيقة على المجاز، مثاله خبر الترمذي وغيره: الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه الكلام. تعذر فيه مسمى الصلاة شرعا فيرد إليه بتجوّز بأن يقال: الطواف كالصلاة في اعتبار الطهر والنية ونحوهما كستر العورة، وقيل: يحمل على المسمى اللغوي وهو الدعاء بخير لاشتمال الطواف عليه فلا يعتبر فيه ما ذكر من الطهر والنية وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وقيل: مجمل لتردّده بين الأمرين ( و ) الأصح ( أَنَّ اللفظَ المستعملَ لمعنىً تارةً ولمعنيينِ ليسَ ذلكَ المعنى أحدَهما ) تارة أخرى ( مجملٌ ) لتردده بين المعنى والمعنيين، وقيل يترجح المعنيان لأنه أكثر فائدة ( فإنْ كانَ ) ذلك المعنى ( أحدَهما عُمِلَ به ) جزما لوجوده في الاستعمالين ( ووُقِفَ الآخرُ ) للتردد فيه، وقيل يعمل به أيضا لأنه أكثر فائدة مثال الأول خبر مسلم: لا يَنكح المحرم ولا يُنكح. بناء على أن النكاح مشترك بين العقد والوطء، فإنه إن حمل على الوطء استفيد منه معنى واحد، وهو أن المحرم لا يطء ولا يوطىء أي لا يمكن غيره من وطئه، أو على العقد استفيد منه معنيان بينهما قدر مشترك، وهما أن المحرم لا يعقد لنفسه ولا يعقد لغيره، ومثال الثاني خبر مسلم: الثيب أحق بنفسها من وليها. أي بأن تعقد لنفسها وهذا المعنى الواحد، أو بأن تعقد لنفسها أو تأذن لوليها فيعقد لها ولا يجبرها وهذا المعنيان، وقد قال تعقد لنفسها أبو حنيفة، وكذا بعض أصحابنا، لكن إذا كان في مكان لا وليّ فيه ولا حاكم وليس مطلقا.

صفاء الدين العراقي
2017-04-12, 07:03 PM
الدرس الخمسون- مباحث الكتاب

البيان


أولا: البيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي. والمراد بالحيّز الصفة أي إخراجه من صفة الإشكال إلى صفة الإيضاح. فما كان ظاهرا بنفسه من غير سبق إشكال كقوله تعالى: ( ولا تقربوا الزنى ) لايسمى إصطلاحا بيانا.
مثاله: قوله تعالى: ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب ) في بيان قوله تعالى: ( أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) والنص الأول يسمى مبيِّنا بالكسر، والثاني مبيَّنا بالفتح وهو المجمل الذي وقع فيه الإشكال.
ثانيا: يجب بيان المجمل لمن يحتاجه.كمن يحتاجه للعمل كمن أمر بالصلاة يجب أن يبين له كيف يصلي، أو من يحتاجه للفتيا كرجل يفتي النساء في مسائل الحيض. أما مَن لا يحتاجه فلا يجب له البيان كبيان الحروف المقطعة أوائل السور. وقد تقدّم ما له علاقة بذلك.
ثالثا: البيان قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل. فمثال القول كما في المثال السابق حرمت عليكم الميتة.. الآية.
ومثال الفعل: بيانه صلى الله عليه وسلم الصلاة بفعله إذْ صلى وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي. رواه البخاري.
رابعا: الأصح أن مظنون الورود كبعض خبر الآحاد يبين قطعي الورود كالقرآن والسنة المتواترة.
كبيان قوله تعالى: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) بقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) متفق عليه.
خامسا: إذا ورد نص مجمل وورد بعده قول وفعل كلاهما يصلح أن يكون بيانا للمجمل فهنا حالان:
1- أن يتفق القول والفعل في الدلالة بلا زيادة من أحدهما أو نقصان فالمتقدم منهما هو المبيّن ويكون الثاني توكيدا له.
كما لو قلنا إن في آية السرقة إجمالا- على القول الثاني- فيحتمل القطع من الكوع أو من المرفق أو من المنكب، فإذا فرضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن القطع من الكوع، وقطع يد المخزومية التي سرقت من الكوع. رواه مسلم. فهنا السابق منهما ورودا قولا كان أو فعلا يكون هو المبيّن ويكون الثاني توكيدا له.
2- أن لا يتفق القول والفعل في الدلالة بأن يزيد أحدهما على الآخر أو ينقص عنه فحينئذ يكون القول هو المبيّن ويكون الفعل خاصا به صلى الله عليه وسلم.
مثل أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد نزول قوله تعالى: ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) مَن يقرن الحج إلى العمرة فليطف لهما طوافا واحدا وليسع لهما سعيا واحدا، ثم يقرن الحج إلى العمرة ويطوف طوافين ويسعى سعيين. فالقول هو المبين سواء تقدم أم تأخر، ويكون طوافه صلى الله عليه وسلم وسعيه اثنين خاصا به ويكون مأمورا به وجوبا أو ندبا شدد عليه دون غيره.
فإذا فرضنا العكس وهو أنه صلى الله عليه وسلم أمر بطوافين وسعيين للحج والعمرة، ثم قرن وطاف طوافا واحدا وسعى سعيا واحدا فالقول أيضا هو المبين ويكون فعله خاصا به صلى الله عليه وسلم خفف عليه دون غيره.


( شرح النص )

البيانُ: إخراجُ الشيء من حَيِّزِ الإشكالِ إلى حيِّز التجلي، وإنما يجبُ لِمَنْ أُريدَ فهمُهُ، والأَصحُّ أَنَّهُ يكونُ بالفعلِ.
والمظنونَ يبيِّنُ المعلومَ، والمتَقَدِّمَ من القولِ والفعلِ هو البيانُ هذا إِنْ اتفقا، وإلا فالقولُ، وفِعْلُهُ مندوبٌ أَو واجِبٌ أَو تخفيفٌ.
.......................... ......................... ...........
( البيانُ ) بمعنى التبيين لغة الإظهار أو الفصل واصطلاحا ( إخراجُ الشيء من حَيِّزِ الإشكالِ إلى حيِّز التجلي ) أي الإيضاح فالإتيان بالظاهر من غير سبق اشكال لا يسمى بيانا اصطلاحا ( وإنما يجبُ ) البيان ( لِمَنْ أُريدَ فهمُهُ ) أي أريد منه أن يفهم المشكل لحاجته اليه بأن يعمل به أو يفتي به بخلاف غيره ممن لا يحتاجه لعمل أو فتيا فلا يجب ( والأَصحُّ أَنَّهُ ) أي البيان قد ( يكونُ بالفعلِ ) كالقول بل أولى، لأنه أدل بيانا لمشاهدته كبيان الصلاة بفعلها أمامهم، وقيل: لا يكون بالفعل لطول زمنه فيتأخر البيان به مع إمكان تعجيله بالقول وذلك ممتنع. قلنا لا نسلم امتناعه. والبيان بالقول كقوله تعالى: صفراء فاقع لونها. بيان لقوله: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، وبالفعل كخبر البخاري: صلوا كما رأيتموني أصلي. ففعله بيان لقوله تعالى: أقيموا الصلاة. وقوله: صلوا كما.. الخ. ليس بيانا، وإنما دل على أن الفعل بيان، ومن الفعل التقرير والإشارة والكتابة ( و ) الأصح أن ( المظنونَ) وهو خبر الآحاد ( يبيِّنُ المعلومَ ) وهو الكتاب والسنة المتواترة. وقيل: لا لأنه دونه فكيف يبينه. قلنا لوضوحه ( و ) الأصح أن ( المتَقَدِّمَ من القولِ والفعلِ هو البيانُ ) أي المبيّن والآخر تأكيد له ( هذا إِنْ اتفقا ) أي القول والفعل في البيان كأن طاف صلى الله عليه وسلّم بعد نزول آية الحج المشتملة على الطواف وهي قوله تعالى: وأذن في الناس بالحج إلى قوله وليطوفوا بالبيت العتيق. طوافا واحدا وأمر بطواف واحد ( وإلا ) بأن زاد الفعل على مقتضى القول، كأن طاف صلى الله عليه وسلّم بعد نزول آية الحج طوافين، وأمر بواحد، أو بأن نقص الفعل عن مقتضى القول كأن طاف واحدا وأمر باثنين ( فالقولُ ) أي فالبيان هو القول ( وفِعْلُهُ مندوبٌ أَو واجِبٌ ) في حقه صلى الله عليه وسلم دون أمته ( أَو تخفيفٌ ) في حقه إن نقص عنه سواء أكان القول متقدما على الفعل أو متأخرا عنه جمعا بين الدليلين، وقيل: البيان هو المتقدم منهما كما لو اتفقا، فإن كان المتقدم القول فحكم الفعل ما مر وهو أنه يكون واجبا أو مندوبا في حقه صلى الله عليه وسلم، وإن كان المتقدم الفعل فالقول ناسخ للزائد منه وطالب لما زاده عليه. قلنا: عدم النسخ أولى.

أبو البراء محمد علاوة
2017-04-12, 07:52 PM
http://www.feqhweb.com/vb/showthread...ll=1#post77891 (http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=11309&p=77891&viewfull=1#post77891)


[CENTER]الكلام النفسي واللفظي

ذهب المتكلمون من الأشاعرة إلى أن الله سبحانه وتعالى لا يتكلم بكلام لفظي صوتي مسموع بل هو متكلم بكلام نفسي توضيحه:
إن كل متكلم يرتّب الكلام في نفسه قبل أن ينطق به، فذلك الكلام اللفظي المسموع يكشف عن وجود مثله في النفس فالذي في النفس كلام نفسي والذي في الخارج كلام لفظي.
مثال: إذا أراد شخص أن يطلب ماء من شخص آخر فقبل أن يحرك لسانه قد قام بنفسه هذا المعنى فذلك المعنى النفسي الذي لا تختلف به اللغات هو الكلام النفسي.
والله سبحانه تكلم بالقرآن والإنجيل والتوراة والزبور وصحف إبراهيم وموسى بكلام نفسي معنوي لا لفظي مسموع فكل تلك الألفاظ التي تتلى معانيها قائمة بنفسه سبحانه منذ الأزل قبل أن يخلق الخلق ويبعث الرسل.
فخطاب الله المتعلق بفعل المكلفين هو كلامه النفسي الأزلي، والقرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها من الأدلة المعتبرة تكشف عن ذلك الخطاب الأزلي وتدل عليه لا أنها نفسه.


فما ذهب إليه الأشاعرة في هذه المسألة أمر لا يقبله العقل ولا يسوغه الشرع، وذلك قولهم: إن كلام الله معنى واحد قائم بالنفس، يستوي فيه الأمر والنهي والخبر والإنشاء، وهذا في غاية العجب، ويلزم منه أن :قل هو الله أحد هي بعينها :تبت يدا أبي لهب وتب ،ولا تقربوا الزنا
ثم قالوا عن هذا المعنى النفسي: إن عُبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة.
ويلزم من هذا أن ما في القرآن من المعاني هو ما في التوراة والإنجيل، وهذا باطل يكفي في بطلانه مجرد تصوره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وجمهور العقلاء يقولون: إن فساد هذا معلوم بالضرورة بعد التصور التام، نحن إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن معناهما معنى القرآن، بل معاني هذا ليست معاني هذا، وكذلك (قل هو الله أحد) ليس هو معنى (تبت يدا أبي لهب) ولا معنى آية الكرسي ولا آية الدين. انتهى من مجموع الفتاوى 12/122.
ثم هم يختلفون في المعبر من هو؟ فمنهم من يقول: المعبر هو جبريل، ومنهم من يقول: المعبر هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مشابهة لمن قال عن القرآن: إنه قول البشر.
والحاصل أن الذي أوقع الأشاعرة في هذا الانحراف العجيب إنكارهم أن الله تعالى يتكلم بكلام ملفوظ مسموع بحرف وصوت، واختراعهم لهذا الوهم المسمى بالكلام النفسي الذي اخترعوا له هذه الصفات الباطلة: معنى واحد، يستوي فيه الأمر والنهي...... ألخ
وهذا مصير منهم إلى أن الله تعالى لا يتكلم حقيقة، إذ الكلام في لغة العرب هو اللفظ والمعنى، ومصير منهم إلى أن القرآن المتعبد بتلاوته مخلوق لم يتكلم به الله، وهذا ما صرح به بعض أئمتهم لكن قالوا: لا يقال هذا إلا في مقام التعليم، وهذا لدفع الشناعة عليهم، قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله- في روضة الناظر في مبحث الأمر: وزعمت فرقة من المبتدعة أنه لا صيغة للأمر، بناء على خيالهم أن الكلام معنى قائم في النفس، فخالفوا الكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف، أما الكتاب فإن الله تعالى قال لزكريا : قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً [مريم : 10-11].
فلم يسم إشارته إليهم كلاماً. وقال لمريم : فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً [مريم:26]. فالحجة فيه مثل الحجة في الأول.
وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عفا لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل به. وقال: وإذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين. ولم يرد بذلك ما في النفس.
وأما أهل اللسان فإنهم اتفقوا عن آخرهم على أن الكلام: اسم وفعل وحرف.
واتفق الفقهاء بأجمعهم على أن من حلف لا يتكلم فحدث نفسه بشيء دون أن ينطق بلسانه لم يحنث، ولو نطق حنث، وأهل العرف كلهم يسمون الناطق متكلماً ومن عداه ساكتاً أو أخرس.
ومن خالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الناس كلهم على اختلاف طبقاتهم فلا يعتد بخلافه. انتهى كلام ابن قدامة.
والله أعلم.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:10 PM
الدرس الحادي والخمسون- مباحث الكتاب

تأخير البيان


أولا: البيان يكون لمجمل لم يتضح معناه، ولظاهر لم يرد ظاهره.
فالأول: كمشترك يبين أحد معانييه، والثاني: كعام يبين تخصيصه، ومطلق يبين تقييده، ودال على حكم يبين نسخه.
ثانيا: تأخير البيان لمجمل أو لظاهر غير مراد ظاهره عن وقت العمل غير واقع في الشريعة؛ فلا يوجد في الشريعة خطاب كلفنا بالعمل به إلا وقد بيّن.
وأما تأخير البيان عن وقت الخطاب فواقع في الأصح.
وصورة المسألة: أن يرد خطاب مجمل ولا يرد معه البيان لعدم الحاجة إليه حينذاك إذْ أَن وقت العمل به لم يحن بعد، ثم يرد بعد ذلك بيانه متراخيا عنه.
كما في إيجاب الله سبحانه الصلاة في ليلة الإسراء والمعراج ولم يبين أوقاتها، ثم نزل جبريل عليه السلام فبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات. متفق عليه.
ثالثا: وقع خلاف في جواز- لا في وقوع- تأخير البيان عن وقت الحاجة فقد أجازه قوم بناء على جواز التكليف بالمحال ابتلاء من الله تعالى، ومنعه قوم لأنه لا فائدة منه، وقد تقدم ما له صلة بالموضوع.
رابعا: يجوز للرسول تأخير تبليغ ما أوحي إليه إلى وقت العمل فلا يبلغ حتى يحين وقت التكليف لأن وجوب المعرفة للعمل ولا حاجة إليه قبل العمل.
وقال قوم: لا يجوز ذلك لأن الله تعالى يقول: ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) أي على الفور بناء على أن الأمر للفور.
خامسا: يجوز أن لا يعلم المكلف الموجود وقت الخطاب بوجود المخصص فيعلم بالنص العام ولا يعلم بالمخصِّص.
كما وقع للسيدة فاطمة رضي الله عنها فقد جاءت إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأله ميراثها مما تركه أبوها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعموم قوله تعالى: ( يوصيكم الله في أولادكم .. ) الآية. فاحتجّ أبو بكر بقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا نورث ما تركناه صدقة ) متفق عليه.
فالبيان هنا لم يتأخر وإنما تأخر علم المكلف به.


( شرح النص )

مسألةٌ: تأخيرُ البيانِ عنْ وقتِ الفعلِ غيرُ واقِعٍ وإنْ جازَ، وإلى وقتِهِ واقِعٌ في الأصحِّ سواءٌ أكانَ للمبيَّنِ ظاهِرٌ أم لا.
وللرسولِ تأخيرُ التبليغِ إلى الوقتِ، ويجوزُ أنْ لايعلمَ المكلفُ الموجودُ بالمخصِّصِ ولا بأنَّهُ مخصِّصٌ ولو على المنعِ.
......................... ......................... ......................... .........................

هذه ( مسألةٌ ) في تأخير البيان ( تأخيرُ البيانِ ) لمجمل أو ظاهر لم يرد ظاهره ( عنْ وقتِ الفعلِ غيرُ واقِعٍ وإنْ جازَ ) وقوعه عند جمهور الأشاعرة ومنعه غيرهم ( و ) تأخيره عن وقت الخطاب ( إلى وقتِهِ ) أى وقت الفعل أي إلى الزمن الذي جعله الشارع وقتا لبدء الفعل جائز و ( واقِعٌ في الأصحِّ سواءٌ أكانَ للمبيَّنِ ظاهِرٌ ) وهو غير المجمل كعام يبين تخصيصه ومطلق يبين مقيده ودال على حكم يبين نسخه ( أمْ لا ) وهو المجمل كالمشترك يبين أحد معنييه مثلا، وقيل يمتنع تأخير البيان ولو إلى وقت الفعل لإخلاله بفهم المراد من النص وقت الخطاب لأنه في المجمل لا يتضح المراد منه وفي الظاهر يتبادر منه غير المقصود ( و ) يجوز ( للرسولِ ) صلى الله عليه وسلم ( تأخيرُ التبليغِ ) لما أوحى اليه من قرآن أو غيره ( إلى الوقتِ ) أى وقت العمل ولو على القول بامتناع تأخير البيان عن وقت الخطاب لانتفاء المحذور السابق عنه وهو إخلاله بفهم المراد من النص وقت الخطاب لأنه لم يبلغه بعد، ولأن وجوب معرفته إنما هو للعمل ولاحاجة له قبل العمل، وقيل: لا يجوز عل القول بامتناع تأخير البيان مطلقا لقوله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك. أى فورا ( ويجوزُ أنْ لايعلمَ ) المكلف أي بعض المكلفين ( الموجودُ ) وقت الخطاب (بالمخصِّصِ ولا بأنَّهُ مخصِّصٌ ) أى يجوز أن لايعلم بوجود ذات المخصص، أو يعلم المخصص لكن لابوصف أنه مخصص مع علمه بذاته كأن يكون المخصص للنص هو العقل، فالدليل العقلي حاصل في الفطرة وإنما التقصير من جهة السامع لم يتنبّه له ( ولو على المنعِ ) أى يجوز ذلك ولو على القول بامتناع تأخير البيان، وقيل: لايجوز على القول بذلك بالنسبة للمخصص السمعي- من كتاب وسنة- لما فيه من تأخير إعلامه بالبيان. قلنا: المحذور إنما هو تأخير البيان وهو منتف هنا، وعدم علم المكلف بالمخصص بأن لم يبحث عنه تقصير منه فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ كل أحدٍّ بعينه بل بلغ البعض وقال: ليبلغ الشاهدُ الغائبَ. متفق عليه. أما العقل فاتفقوا على جواز أن يسمع الله المكلفَ العامَ من غير أن يعلمه بذات العقل بأنه ثمة مايخصصه وكولا إلى نظره، وقد وقع أن بعض الصحابة لم يسمع المخصص السمعي إلا بعد حين منهم السيدة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم طلبت ميراثها مما تركه أبوها لعموم قوله تعالى: يوصيكم الله فى أولادكم. فاحتج عليها أبو بكر رضي الله عنه بما رواه لها من خبر الصحيحين: لانورث ما تركناه صدقة. وبما تقرر علم أن قوله: ولو على المنع راجع الى المسألتين: أي مسألة جواز تأخير تبليغ الوحي إلى وقت العمل، ومسألة عدم علم المكلف بالمخصص.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:12 PM
الدرس الثاني والخمسون- مباحث الكتاب

النسخ


أولا: النسخ: رفع حكم شرعي بدليل شرعي. كنسخ التوجه بالصلاة إلى بيت المقدس بقوله تعالى: ( فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ).
فقولنا: رفع أي أن خطاب الله تعلق بالفعل بحيث لولا طريان الناسخ لكان الحكم باقيا مستمرا لكن الناسخ رفعه أي قطع تعلقه بالفعل.
وقولنا: حكم شرعي خرج به الحكم العقلي كالبراءة الأصلية الثابتة بالعقل قبل إيجاب الأحكام بالشرع فإن رفعها بتشريع العبادة لا يعتبر نسخا لأنها لم تثبت بحكم شرعي وذلك كوجوب الزكاة فإنه رفع إباحة منعها الثابتة بالعقل قبل الشرع.
وقولنا: بدليل شرعي يخرج به رفع الحكم عن الميت والمجنون والنائم بالموت والجنون والنوم فلا يسمى ذلك الرفع نسخا.
ثانيا: يجوز نسخ بعض آيات القرآن إما تلاوة وحكما، أو تلاوة فقط، أو حكما فقط.
مثال نسخ التلاوة والحكم معا: ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: كان فيما أُنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرّمن فنسخن بخمس معلومات.
ومثال نسخ التلاوة فقط: ما رواه الشافعي وغيره عن عمر رضي الله عنه: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. فإنا قد قرأناها. والمقصود بالشيخ والشيخة المحصنان.
ومثال نسخ الحكم فقط: قوله تعالى: ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول ) فقد نسخ بقوله تعالى: ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ).
ثالثا: يجوز نسخ الفعل قبل التمكن منه. بأن يطلب شيء من المكلف ثم قبل دخول وقت الفعل أو بعد دخوله وقبل مضي مقدار من الزمن يتسع لفعله ينسخ الطلب.
ومثاله أمر الله سبحانه لإبراهيم عليه السلام بذبح ابنه إسماعيل ثم قبل أن يتمكن من الفعل نسخ وفدي بذبح عظيم.
رابعا: القرآن والسنة ينسخ بعضهما البعض.
فيجوز نسخ القرآن بالقرآن كما مر التمثيل بآيتي عدة الوفاة.
ويجوز نسخ السنة بالقرآن كما مر التمثيل بنسخ التوجه إلى بيت المقدس الثابت بالسنة بالقرآن.
ويجوز نسخ القرآن بالسنة متواترة وآحادا كنسخ الخبر الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره: لا وصيّة لوارث.لآية: ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إنْ ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين ).
ويجوز نسخ السنة بالسنة المتواترة بمثلها وبالآحاد، والآحاد بمثلها وبالمتواترة ومن ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور ثم قوله بعد ذلك: كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها. رواه مسلم.
وحيث وقع نسخ للقرآن بالسنة فمع السنة قرآن عاضد لها يبين توافقهما كنسخ الوصية للوارث عضدها من القرآن آية المواريث يوصيكم الله في أولادكم... الآية.
وحيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمع القرآن سنة أيضا كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بقوله تعالى: فول وجهك.. الآية معها من السنة فعل النبي صلى الله عليه وسلم واستقباله للكعبة الثابت بالتواتر.


( شرح النص )

النسخُ: رفعُ حكمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ، ويجوزُ في الأَصحِّ نسخُ بعضِ القرآنِ، والفعلِ قبلَ التَّمَكُّنِ، ونسخُ السُّنَّةِ بالقرآنِ كهوَ بهِ، ونسخُهُ بها، ولم يقعْ إلا بالمتواترةِ في الأصحِّ، وحيثُ وقعَ بالسنة فمعها قرآنٌ عاضِدٌ لها، أَو بالقرآنِ فمعَهُ سُنَّةٌ.
......................... ......................... ......................... ......................... ..
النسخ لغة: الإزالة كنسخت الشمس الظلّ أي أزالته، والنقل مع بقاء الأول كنسخت الكتاب أي نقلته، واصطلاحا ( رفعُ ) تعلق ( حكمٍ شرعيٍّ ) بفعل ( بدليلٍ شرعيٍّ ) والقول بأن النسخ: بيان لانتهاء أمد حكم شرعي. يرجع إلى ذلك فلا خلاف في المعنى. قال العلامة البرماوي: فإن قلتَ: سيأتي أن من أقسام النسخ ما ينسخ لفظه دون حكمه ولا رفع فيه لحكم. قلت: رفع اللفظ يتضمن رفع أحكام كثيرة كتعبد بتلاوته وإجراء حكم القرآن عليه من منع الجنب ونحوه من قراءته، ومسّ المحدث وحمله له وغير ذلك. وخرج بالشرعي أي المأخوذ من الشرع رفع البراءة الأصلية أي المأخوذة من العقل، وبدليل شرعي رفع الحكم كالصلاة بالموت والجنون والنوم فإن رفعها لعارض من العوارض وليس بدليل شرعي ( ويجوزُ في الأَصحِّ نسخُ بعضِ القرآنِ ) تلاوة وحكما، أو أحدهما دون الآخر والثلاثة واقعة. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها: كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات. فهذا منسوخ التلاوة والحكم. وروى الشافعي وغيره عن عمر رضي الله عنه: لولا أن تقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها: الشيخ والشيخة- أي المحصنان-إذا زنيا فارجموهما ألبتة. فإنا قد قرأناها. فهذا منسوخ التلاوة دون الحكم لأمره صلى الله عليه وسلّم برجم المحصن رواه الشيخان. وعكسه وهو نسخ الحكم دون التلاوة هو الكثير كقوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول. نسخ بقوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا. لتأخره في النزول عن الأول وإن تقدمه في التلاوة، وقيل: لا يجوز نسخ بعضه كما لا يجوز نسخ كله، وقيل: لا يجوز نسخ التلاوة دون الحكم وعكسه وهو نسخ الحكم دون التلاوة ( و ) يجوز في الأصح نسخ ( الفعلِ قبلَ التَّمَكُّنِ ) منه بأن لم يدخل وقته أو دخل ولم يمض منه ما يسعه، وقيل لايجوز لعدم استقرار التكليف، قلنا: يكفي للنسخ وجود أصل التكليف فينقطع بنسخه، وقد وقع ذلك في قصة الذبيح فإن الخليل أمر بذبح ابنه عليهما الصلاة والسلام لقوله تعالى حكاية عنه:يا بنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك..الآية ثم نسخ ذبحه قبل التمكن منه بقوله: وفديناه بذبح عظيم ( و ) يجوز في الأصح ( نسخُ السُّنَّةِ بالقرآنِ ) كنسخ تحريم مباشرة الصائم أهله ليلا الثابت بالسنة بقوله تعالى:أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم. وقيل لا يجوز نسخ السنة بالقرآن لقوله تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم. جعله مبينا للقرآن فلا يكون القرآن مبينا لسنته. قلنا لا مانع لأنهما من عند الله قال تعالى: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. ويدل للجواز قوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء (كهو ) أي كما يجوز نسخ القرآن ( بهِ ) أي بالقرآن جزما كما مرّ التمثيل له بايتي عدّة الوفاة ( و ) يجوز في الأصح ( نسخُهُ ) أي القرآن ( بها ) أي بالسنة متواترة أو آحادا قال تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم. وقيل: لا يجوز لقوله تعالى: قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي. والنسخ بالسنة تبديل من تلقاء نفسه، قلنا: ممنوع قال تعالى: وما ينطق عن الهوى. وقيل: لا يجوز نسخ القرآن بالآحاد لأن القرآن مقطوع والآحاد مظنون. قلنا: محل النسخ الحكم ودلالة للقرآن عليه ظنية ( و ) لكن نسخ القرآن بالسنة ( لم يقعْ إلا بالمتواترةِ في الأصحِّ ) فمع تجويزنا النسخ بالآحاد إلا أنه لم يقع مثال صحيح لذلك. وقيل وقع بالآحاد كنسخ خبر الترمذي وغيره: لا وصية لوارث. لآية: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية. قلنا: لا نسلم عدم تواتر ذلك ونحوه للمجتهدين الحاكمين بالنسخ لقربهم من زمن الوحي. ويجوز نسخ السنة المتواترة بمثلها والآحاد بمثلها وبالمتواترة، وكذا المتواترة بالآحاد على الأصح كما مرّ من نسخ القرآن بالآحاد ( وحيثُ وقعَ ) نسخ القرآن ( بالسنة فمعها قرآنٌ عاضِدٌ لها ) على النسخ يبين توافقهما لتقوم الحجة على الناس بهما معا، ولئلا يتوهم انفراد أحدهما عن الآخر، إذ كل منهما من عند الله ( أو ) وقع نسخ السنة ( بالقرآنِ فمعَهُ سُنَّةٌ ) عاضدة له تبين توافقهما لما مرّ، كما في نسخ التوجه في الصلاة إلى بيت المقدس الثابت بفعله صلى الله عليه وسلّم بقوله تعالى: فولّ وجهك شطر المسجد الحرام. وقد فعله صلى الله عليه وسلّم ونقل عنه بالتواتر.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:13 PM
الدرس الثالث والخمسون- مباحث الكتاب

مسائل في النسخ


أولا: يجوز في الأصح نسخ القياس الموجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بنص أو قياس أجلى من القياس الأول.
مثال الأول: ما لو ورد نص بتحريم بيع الذرة متفاضلا، فيقاس عليها الأرز بجامع الطعم في كلّ، ثم يرد نص بجواز بيع الذرة متفاضلا، فهذا من قبيل نسخ القياس بالنص.
ومثال الثاني: ما لو ورد نص بتحريم بيع الذرة متفاضلا، فيقاس عليها الأرز بجامع الطعم في كلّ، ثم يرد نص بجواز بيع البر متفاضلا، فيقاس عليه جواز بيع الأرز متفاضلا ورأينا أن العلة الجامعة بين البر والأرز أقوى منها بين الذرة والأرز، فيكون قياس الأرز على البر ناسخا للقياس الأول. ولا يخفى أن هذه الأمثلة مبنية على فرض صحتها لإيضاح القاعدة.
ثانيا: ويجوز نسخ مفهوم الموافقة دون نسخ منطوقه إن تعرض النص لبقاء المنطوق، ويجوز العكس وهو نسخ المنطوق دون المفهوم إن تعرض النص لبقاء المفهوم.
مثال الأول: كأن يقال: لا تشتم زيدًا فهذا منطوق يفهم منه حرمة ضربه، فإذا قيل بعد ذلك: لا تشتم زيدًا ولكن اضربه، فهنا نسخ مفهوم الموافقة مع التعرض لبقاء أصله المنطوق.
ومثال الثاني: كأن يقال: لا تشتم زيدًا فهذا منطوق يفهم منه حرمة ضربه، فإذا قيل بعد ذلك: اشتم زيدًا لكن لا تضربه.
فهنا نسخ المنطوق مع التعرض لبقاء المفهوم.
ثالثا: يجوز نسخ النص بمفهوم الموافقة.
كأن يقال: اضرب زيدًا، ثم يقال بعد ذلك: لا تقلْ لزيدٍ أفّ فيفهم منه حرمة ضربه، فيكون هذا المفهوم ناسخا للأمر الأول بضرب زيد.
رابعا: يجوز نسخ مفهوم المخالفة دون أصله المنطوق، ولا يجوز العكس وهو نسخ المنطوق دون مفهوم المخالفة.
مثاله: ما ورد في صحيح مسلم: ( إنما الماء من الماء ) فإن المفهوم منه عدم وجوب الغسل إذا لم يحصل إنزال. فهذا المفهوم منسوخ بحديث البخاري ومسلم: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل ) شعبها الأربع يداها ورجلاها. فهنا نسخ مفهوم المخالفة دون أصله المنطوق وهو وجوب الماء من الماء. وقد يناقش في صحة المثال.
وأما نسخ المنطوق دون مفهوم المخالفة فلا يجوز؛ لأن المخالفة تابعة للنص فترتفع بارتفاعه، ولا يرتفع هو بارتفاعها.
خامسا: لا يجوز نسخ النص بمفهوم المخالفة. لضعف مفهوم المخالفة عن مقاومة النص.
سادسا: لا يجوز نسخ النص بالقياس. لأن في جوازه تقديما له على النص.


( شرح النص )

ونسخُ القياسِ في زمنِ النبيِّ بنصٍ أو قياسٍ أجلى، ونسخُ الفحوى دونَ أصلِهِ إنْ تُعُرِّضَ لِبقائِهِ وعكسُهُ، والنسخُ بهِ لا نسخُ النصِّ بالقياسِ، ويجوزُ نسخُ المخالفةِ دونَ أصلِها لا عكسُهُ، ولا النسخُ بها في الأصحِّ.
......................... ......................... ......................... ...................
( و ) يجوز في الأصح ( نسخُ القياسِ ) الموجود ( في زمنِ النبيِّ ) صلى الله عليه وسلّم ( بنصٍ أو قياسٍ أجلى ) من القياس المنسوخ به، فالأول كأن يقول صلى الله عليه وسلّم: المفاضلة في البرّ حرام لأنه مطعوم. فيقاس به الأرز، ثم يقول: بيعوا الأرز بالأرز متفاضلا. والثاني كأن يأتي بعد القياس المذكور نص بجواز بيع الذرة بالذرة متفاضلا فيقاس به بيع الأرز بالأرز متفاضلا، وقيل: لا يجوز نسخ القياس لأنه مستند إلى نص فيدوم بدوامه، قلنا لا نسلم لزوم دوامه كما لا يلزم دوام حكم النص بأن ينسخ، وخرج بالأجلى غيره، فلا يكفي القياس الأدون لانتفاء المقاومة، ولا المساوي لانتفاء المرجح، وقيل: يكفيان ( و ) يجوز في الأصح ( نسخُ الفحوى ) أي مفهوم الموافقة بقسميه الأولى والمساوي ( دونَ أصلِهِ ) أي المنطوق ( إنْ تُعُرِّضَ لِبقائِهِ ) أي بقاء أصله ( وعكسُهُ ) أي نسخ أصل الفحوى المنطوق دون الفحوى إن تعرض لبقائه لأنهما مدلولان متغايران فجاز فيهما ذلك كما لو فرض نسخ تحريم الضرب دون تحريم التأفيف، والعكس كما لو فرض نسخ تحريم التأفيف دون الضرب، وقيل: لا يجوز ذلك لأن الفحوى لازم لأصله فلا ينسخ أحدهما دون الآخر لمنافاة ذلك للزوم بينهما، أما نسخهما معا فيجوز اتفاقا، فإن لم يتعرض للبقاء فعن الأكثر الامتناع بناء على أن نسخ كل منهما يستلزم نسخ الآخر ( و ) يجوز في الأصح ( النسخُ بهِ ) أي بالفحوى كأصله، وقيل: لا بناء على أنه قياس وأن القياس لا يكون ناسخا ( لا نسخُ النصِ بالقياسِ ) فلا يجوز في الأصح حذرا من تقديم القياس على النص وعلى هذا جمهور أصحابنا. ونقله أبو إسحاق المروزي عن نص الإمام الشافعي. وقال القاضي حسين: إنه المذهب، وقيل: وصححه الأصل يجوز لاستناده إلى النص فكأنه الناسخ ( ويجوزُ نسخُ ) مفهوم ( المخالفةِ دونَ أصلِها ) كنسخ مفهوم خبر مسلم: إنما الماء من الماء. بخبر الترمذي: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ( لا عكسُهُ ) أي لا نسخ الأصل دونها، فلا يجوز في الأصح؛ لأنها تابعة له فترتفع بارتفاعه ولا يرتفع هو بارتفاعها، وقيل: يجوز ( ولا ) يجوز ( النسخُ بها ) أي بالمخالفة ( في الأصحِّ ) لضعفها عن مقاومة النص، وقيل يجوز كما في المنطوق.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:14 PM
الدرس الرابع والخمسون- مباحث الكتاب

تكملة مسائل النسخ


أولا: لا يجوز نسخ الخبر.
أي أن النسخ إنما يرد على الإنشاء كافعل كذا أو لا تفعل كذا ولا يرد على الخبر فإذا أخبر الشرع بخبر استحال أن يخبر بنقيضه ولا يقال إن هذا من باب النسخ لأنه يوهم الكذب.
وقيل: يجوز النسخ في الخبر إن كان عن شيء متغير سيقع في المستقبل مثل أن يقال: سيكون كذا بعد شهر، فيجوز أن يتغير حاله فيقول لن يكون ذلك بعد شهر.
والصواب لا يجوز لأن الله سبحانه يعلم كل شيء فتناقض الأخبار يوهم الكذب وهو محال في حق الله تعالى.
ثانيا: يجوز النسخ في الإنشاء ولو كان خبرا في لفظه أو اقترن بما يدل على التأبيد.
لأن النظر هو للمعنى وليس للفظ فإذا ورد إنشاء وتكليف بصيغة الخبر فهذا يصلح أن يدخله النسخ مثل قوله الله تعالى: ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) فهذا وإن كان خبرا في صيغته لكن معناه هو ليتربصن فيقبل النسخ.
ومثل الإنشاء إذا اقترن بلفظ قضى مثل: قضى ربكُ أن افعلوا كذا. أي أمر.
وكذا إذا ورد الإنشاء بلفظ التأبيد أو نحوه نحو: صوموا أبدا أو صوموا حتما أو صوموا دائما، فكل هذه إنشاءات تقبل النسخ؛ لأن التأبيد قد يستعمل فيما لايراد به التأبيد وذلك كقول القائل: لازمْ غريمك أبدا، ويريد به إلى أن يقضيك دينك، وكذلك هنا يجوز أن يقيد الحكم بالتأبيد ونحوه ويريد به إلى وقت النسخ.
ثالثا: يجوز نسخ طلب الإخبار بشيء وذلك بإيجاب الإخبار بنقيضه.
أي يجوز أن يوجب الشارع على شخص الإخبار بشيء كأن يقول له: أخبرْ بقيام زيد، وقبل الإخبار بذلك ينسخه ويقول له: أخبرْ بعدم قيامِ زيد؛ لأن هذا من باب الإنشاء فيجوز أن يتغير حال زيد من القيام إلى القعود مثلا.
وهنا مسألة مهمة وهي: هل يجوز أن يكلف الشارع أحدا بالإخبار بشيء لا يتغير كحدوث العالم ثم ينسخه بالتكليف بالإخبار بنقيضه؟
قال كثيرون: لا يجوز لأنه تكليف بالكذب الصريح وهو لا يجوز.
وقال آخرون: يجوز لأنه قد يدعو إلى الكذب مصلحة كإنقاذ حياة مسلم.
رابعا: يجوز النسخ ببدل وبغير بدل.
فالنسخ ببدل هو أن ينسخ الحكم القديم بحكم آخر جديد، وهذا الحكم الجديد قد يكون أخف من الحكم القديم، وقد يكون مساويا له، وقد يكون أثقل منه.
مثال الأخف: نسخ العدة على الأرملة سنة كاملة إلى أربعة أشهر وعشرة أيام.
ومثال المساوي: نسخ التوجه إلى بيت المقدس، بالتوجه إلى الكعبة.
ومثال الأثقل: نسخ التخيير بين الصوم والفدية في بداية الإسلام في قوله تعالى: ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) بوجوب الصوم على من شهد الشهر في قوله تعالى: ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ).
وأما النسخ بلا بدل فهو أن ينسخ الشارع الحكم السابق، دون أن يأتي بحكم جديد بدل عنه. فأجازه قوم وقالوا مع جوازه عقلا إلا أنه لم يقع شرعا، ومنع جوازه آخرون.


( شرح النص )

ويجوزُ نسخُ الإنشاءِ ولو بلفظِ قضاءٍ أَوْ بصيغةِ خبرٍ أَو قُيِّدِ بتأبيدٍ أو نحوِهِ، والإخبارِ بشيءٍ ولو مما لا يتغيَّرُ بإيجابِ الإخبارِ بنقيضِهِ، لا الخبرِ وإنْ كانَ مما يتغيَّرُ، ويجوزُ عندنا النسخُ ببدلٍ أثقلَ وبلا بدلٍ ولم يقعْ في الأصحِّ.
......................... ......................... ......................... ......................
( ويجوزُ نسخُ الإنشاءِ ولو ) كان مقترنا ( بلفظِ قضاءٍ ) وقيل: لا يجوز بناء على أن القضاء إنما يستعمل فيما لا يتغير نحو: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه. أي أمر ( أَوْ بصيغةِ خبرٍ ) نحو: والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء. أي ليتربصن نظرا للمعنى، وقيل: لا يجوز نظرا للفظ ( أَو قُيِّدِ بتأبيدٍ أو نحوِه ِ) كصوموا أبدا، صوموا حتما، صوموا دائما، وقيل: لا لمنافاة النسخ التقييد بذلك. قلنا لا نسلم كما يقال لازم غريمك أبدا أي إلى أن يعطي الحق وليس أبد الدهر ( و ) يجوز نسخ إيجاب ( الإخبارِ بشيءٍ ولو مما لا يتغيَّرُ بإيجابِ الإخبارِ بنقيضِهِ ) كأن يوجب الاخبار بقيام زيد ثم بعدم قيامه قبل الإخبار بقيامه لجواز أن يتغير حاله من القيام إلى عدمه، ومنعت المعتزلة وغيرهم ذلك فيما لا يتغير كحدوث العالم لأنه تكليف بالكذب فينزه الباري عنه، قلنا: قد يدعو إلى الكذب غرض صحيح فلا يكون التكليف به قبيحا بل حسنا، كما لو طالبه ظالم بوديعة عنده أو بمظلوم خبأه عنده فيجب عليه إنكاره، ويجوز له الحلف عنه ويكفر عن يمينه ( لا ) نسخ ( الخبر ِ) أي مدلوله فلا يجوز ( وإنْ كانَ مما يتغيَّرُ ) لأنه يوهم الكذب حيث يخبر بالشيء ثم بنقيضه، وذلك محال على الله تعالى، وقيل: يجوز في المتغير إن كان خبرا عن مستقبل بناء على القول بأن الكذب لا يكون في المستقبل لجواز المحو لله فيما يقدّره. قال الله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت ( ويجوزُ عندنا النسخُ ببدلٍ أثقلَ ) كما يجوز بمساوٍ وبأخف، وقال بعض المعتزلة: لا يجوز بالأثقل إذ لا مصلحة في الانتقال من سهل إلى عسر. قلنا: لا نسلم وقد وقع كنسخ وجوب الكف عن الكفار الثابت بقوله تعالى: ودع أذاهم. بقوله: اقتلوا المشركين ( و ) يجوز عندنا النسخ ( بلا بدلٍ ) وقال بعض المعتزلة: لا إذ لا مصلحة في ذلك. قلنا: لا نسلم ذلك ( و ) لكنه ( لم يقعْ في الأصحِّ ) وقيل: وقع كنسخ وجوب تقديم الصدقة على مناجاة النبي الثابت بقوله: إذا ناجيتم الرسول.. الآية. إذ لا بدل لوجوبه فيرجع الأمر إلى ما كان قبله مما دل عليه الدليل العام من تحريم الفعل إن كان مضرة أو إباحته إن كان منفعة. قلنا: لا نسلم أنه لا بدل للوجوب بل بدله الجواز الصادق هنا بالإباحة أو الندب فتبقى الصدقة مباحة أو مندوبة.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:14 PM
الدرس الخامس والخمسون- مباحث الكتاب

مسائل متفرقة في النسخ


أولا: أجمع المسلمون على جواز النسخ ووقوعه. وقال أبو مسلم الأصفهاني المعتزلي: النسخ جائز لكنه لم يقع. أما ما ذكرتم من الأمثلة فليس نسخًا، بل تخصيصًا، إذْ هو قصر الحكم على زمن؛ فإن الله تعالى يعلم أن هذا الحكم ينتهي في وقت كذا. وعلى هذا يكون خلاف الأصفهاني لفظيا، فما سميناه نسخا سماه تخصيصًا.
ثانيا: إذا نسخ حكم الأصل لا يبقى حكم الفرع الذي قيس عليه.
فإذا ثبت الحكم في عين وعرفنا علة الحكم ثم قسنا عليها غيرها مما يشاركها في هذه العلة فإنه إذا نسخ حكم الأصل يبطل حكم الفرع المقيس عليه إذْ بانتفاء حكم الأصل تنتفي العلة التي ثبت بها الفرع.
مثاله: أن يرد النص بحرمة الربا فى البر، فيقاس عليه الأرز بجامع الإقتيات مثلا، ثم يرد نص بحل ذلك الربا فى البر فلا يبقى حينئذ حكم الأرز.
ثالثا: كل حكم شرعي يقبل النسخ فيجوز نسخ كل التكاليف حتى وجوب معرفة الله سبحانه. هذا من حيث الجواز العقلي وأما من حيث الوقوع الشرعي فأجمع المسلمون أن ذلك لم يقع.
ومنع الإمام الغزالي رحمه الله نسخ جميع التكاليف لأن العلم بنسخها جميعا يتوقف على ثبوت الناسخ لها وهو من خطاب الشرع أيضا فلا يتأتى القول بجواز نسخ الكل.
ومنع المعتزلة نسخ وجوب معرفة الله لثبوته بالعقل. وهذا الفرع مبني على مسألة التحسين والتقبيح وقد تقدمت.
رابعا: إذا علم النبي صلى الله عليه وسلم أن حكما ما قد نسخ فلا يثبت الناسخ في حق الأمة قبل تبليغه لهم لعدم علمهم به قبل التبليغ.
خامسا: المختار أن الزيادة على النص ليست نسخا.
بيانه:
إذا ورد نص من الشارع بحكم ما، ثم ورد نص آخر فيه زيادة حكم جديد، فهذا الأمر الجديد له ثلاث صور:
1- أن تكون الزيادة التي وردت فيه مستقلة لا علاقة لها بالنص السابق وليست من جنسه، كزيادة وجوب الزكاة بنص جديد على وجوب الصلاة بالنص القديم. وهذه الصورة لا خلاف بين المسلمين أنها ليست نسخا.
2- أن تكون الزيادة التي وردت فيه مستقلة عن المزيد عليه إلا أنها من جنسه، كما لو زيدت صلاة على الصلوات الخمس، وهذه أيضا ليست بنسخ على ما ذهب إليه الجمهور لأنه ليس فيها رفع لحكم سابق، وإنما هو بيان لواجب جديد بأمر جديد.
3- أن تكون الزيادة التي وردت فيه غير مستقلة عن المزيد عليه بل هي متعلقة به كما في قوله تعالى: ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) ثم جاءت السنة كما في البخاري ومسلم بزيادة التغريب عام على البكر. فهنا الزيادة مرتبطة بالحد وليست مستقلة عنه فهذه هي التي وقع فيها خلاف كبير بين العلماء.
فذهب جمهور العلماء إلى أنها ليست نسخا لأن الزيادة لم ترفع الحكم السابق فهو لا يزال قائما وإنما زيد فيه، سواء كانت الزيادة زيادة جزء كما لو زيدت ركعة في صلاة أو جلدة في حد الزنا، أو زيادة شرط كما لو شرط في غسل اليد أن يبلغ العضد، أو زيادة صفة كزيادة الإيمان في رقبة الكفارة.
وذهب الحنفية إلى أنها نسخ، وقالوا: نحن لا نجيز نسخ القرآن بحديث الآحاد لئلا يلزم نسخ اليقيني بالظني، وبناء عليه فلا نثبت التغريب في حد الجلد.
ولهم فروع عديدة ردوا فيها أحاديث الآحاد بهذه الحجة وهي: أن هذا الحديث يزيد على النص، والزيادة على النص نسخ، ولا نسخ بحديث الآحاد للقرآن، فلا نأخذ بتلك الروايات.
ومثل الزيادة على النص النقص منه، كما لو نقصت ركعة من الصلاة، أو نقص شرط كما لو نقص الوضوء من الصلاة، أو نقص صفة كما لو نقص الإيمان من كفارة القتل.
فذهب الجمهور إلى أن النقص من النص يعتبر نسخا لمحل الزيادة فقط دون الكل.
وذهب الحنفية إلى ان النقص يعتبر نسخا للكل بمعنى أن الحكم الأول المشتمل على الزيادة قد نسخ وثبت بدله الحكم الناقص.
مثاله: إذا فرض أن المغرب نقص منها ركعة، فعند الحنفية أن الثلاثة قد ارتفعت إلى بدل وهو الاثنان، وعند الجمهور أن الذي ارتفع هو الركعة الثالثة فقط.


( شرح النص )

مسألةٌ: النسخُ واقعٌ عندَ كلِّ المسلمينَ وسماهُ أبو مسلمٍ تخصيصًا، فالخُلْفُ لفظِيٌّ، والمختارُ أَنَّ نسخَ حكمِ أصلٍ لا يبقى مَعَهُ حكمُ فَرْعِهِ، وأَنَّ كلَّ شرعيٍّ يقبلُ النسخَ، ولم يقعْ نسخُ كلِّ التكاليفِ، ووجوبِ المعرفةِ إجماعًا، وأَنَّ الناسِخَ قبلَ تبليغِ النبيِّ الأمَّةَ لا يثبُتُ في حَقِّهِمْ، وأَنَّ زيادةَ جزءٍ أو شرطٍ أو صفةٍ على النص ليستْ بِنسخٍ، وكذا نَقْصُهُ.
......................... ......................... ......................... ....................
هذه ( مسألةٌ النسخُ ) جائز ( واقعٌ عندَ كلِّ المسلمينَ ) إجماعا ( وسماهُ أبو مسلمٍ ) الأصفهاني من المعتزلة ( تخصيصًا ) إذْ هو قصر الحكم على زمن؛ فإن الله تعالى يعلم أن هذا الحكم ينتهي في وقت كذا ( فالخُلْفُ ) في نفيه النسخ ( لفظِيّ ) فما سميناه نسخا سماه تخصيصًا ( والمختارُ أَنَّ نسخَ حكمِ أصلٍ لا يبقى مَعَهُ حكمُ فَرْعِهِ ) لانتفاء العلة التي ثبت بها بانتفاء حكم الأصل، وقالت الحنفية يبقى لأن القياس مظهر لحكم الفرع لا مثبت فإذا نسخ الأصل بقي الفرع على ما دلّ عليه ( و ) المختار ( أَنَّ كلَّ شرعيٍّ يقبلُ النسخَ ) فيجوز نسخ كل التكاليف وبعضها حتى وجوب معرفة الله تعالى، ومنعت المعتزلة والغزالي نسخ كل التكاليف، ومنعت المعتزلة أيضا نسخ وجوب معرفة الله تعالى ( ولم يقعْ نسخُ كلِّ التكاليفِ ووجوبِ المعرفةِ ) أي معرفة الله تعالى ( إجماعًا ) فعلم أن الخلاف السابق إنما هو في الجواز أي العقلي ( و ) المختار ( أَنَّ الناسِخَ قبلَ تبليغِ النبيِّ ) صلى الله عليه وسلّم ( الأمَّةَ ) له ( لا يثبُتُ ) حكمه ( في حَقِّهِمْ ) لعدم علمهم به، وقيل: هو حكم قد تجدد فيثبت في حقهم ويستقر في الذمة، كالنائم وقت الصلاة، ولا يعني ذلك وجوب الامتثال فإنه متوقف على العلم، أما بعد التبليغ فيثبت اتفاقا في حق من بلغه وكذا من لم يبلغه إن تمكن من علمه ( و ) المختار وهو ما عليه الجمهور ( أَنَّ زيادةَ جزءٍ أو شرطٍ أو صفةٍ على النص ) كزيادة ركعة أو غسل عضد في الوضوء أو إيمان في رقبة الكفارة ( ليستْ بنسخٍ ) للمزيد عليه، وقالت الحنفية: إنها نسخ، ومنشأ الخلاف أن الزيادة هل رفعت حكما شرعيا أو لا ؟ فعندنا لا، وعندهم نعم نظرا إلى أن الأمر السابق بما دون الزيادة اقتضى تركها فالزيادة رافعة لذلك المقتضى، وبنوا على ذلك أنه لا يعمل بأخبار الآحاد في زيادتها على القرآن كزيادة التغريب على الجلد الثابتة بخبر الصحيحين بناء على أن المتواتر لا ينسخ بالآحاد ( وكذا نَقْصُهُ ) أي نقص جزء أو شرط أو صفة من مقتضى النص كنقص ركعة أو وضوء أو الإيمان في رقبة الكفارة، فقيل: إنه نسخ لها إلى الناقص، وقال الجمهور: لا. والنسخ إنما هو للجزء أو الشرط أو الصفة فقط، لأنه الذي يترك لا للكل.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:15 PM
الدرس السادس والخمسون- نهاية مباحث الكتاب

طرق معرفة النسخ


أولا: الطرق المقبولة في معرفة النسخ هي:
1- الإجماع على أن هذا الحكم منسوخ بذاك، كإجماعهم على أن وجوب صوم يوم عاشوراء منسوخ بوجوب رمضان.
2- النص من النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا الحكم منسوخ بذاك.
3- أن يتعارض الدليلان من كل وجه، ويعرف المتأخر منهما، فالمتأخر حينئذ هو الناسخ.
ثانيا: طرق معرفة المتأخر من الدليلين ليحكم له بأنه ناسخ هي:
1- الإجماع بأن تجمع الأمة على أن هذا متأخر عن ذاك.
2- نص النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا متأخر عن ذاك.
3- قول الرسول صلى الله عليه وسلم كنت نهيتكم عن كذا فافعلوه كما تقدم في حديث زيارة القبور.
4- أن يوجد في النص ما يشير إلى أنه متأخر عنه كقوله تعالى: ( الآن خفف الله عنكم .. ) الآية.
5- نقل الصحابي أن هذا متأخر عن ذاك؛ لأن هذا الأمر لا دخل فيه للاجتهاد وإنما هو نقل.
6- النص من النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف نص معروف قبل ذلك، كأن يقال في شيء معروف أنه حرام: هو مباح؛ لأن وصفه في الزمن الثاني بخلاف ما وُصِفَ به في الزمن الأول يستلزم تأخرّ مشروعيته.
ثالثا: الطرق غير المقبولة في معرفة النسخ هي:
1- موافقة أحد الحكمين للبراءة الأصلية.
وصورة ذلك: أن يرد نص موجب لحكم ما، ونص آخر مبيح له، فالأول مخالف للبراءة الأصلية، والثاني موافق.
فهذه الموافقة للبراءة الأصلية لا توجب للثاني أن يكون متأخرا عن الأول حتى يكون ناسخا له وذلك بأن يظن أن الحكم الأول الموجب جاء مخالفا للبراءة الأصلية، ثم جاء الثاني فأعاد الوضع إلى ما كان عليه موافقا لها.
وذلك لأنه من المحتمل أن يكون الحكم الأول قد جاء موافقا للبراءة الأصلية، ثم جاء الثاني بعده مخالفا لها.
مثاله: حكم الخمر على البراءة الأصلية حلها، ثم لو ورد نص بتحريمها فقيل: الخمر حرام. فهذا مخالف للبراءة الأصلية فلو ورد نص بحلها فقيل: الخمر حلال. فهذا موافق للبراءة الأصلية، والحال أنه لم يعلم تأخر أحدهما عن الآخر.
فهنا لا يعتمد أن النص الموافق للبراءة ناسخ للنص المخالف للبراءة على الرغم من أن غالب الموافق متأخر عن المخالف.
2- ورود آية بعد أخرى في ترتيب المصحف فلا يدل على أن الثانية ناسخة للأولى؛ لأن المصحف لم يرتب حسب النزول.
3- تأخر إسلام الراوي للحديث فإنه لا يدل على أن ما رواه هو المتأخر؛ إذْ قد يروي عمن سمعه قبل ذلك.
4- قول الصحابي أن هذا الحكم منسوخ بكذا لأن ذلك قد يكون اجتهادا منه وذلك غير ملزم لغيره. نعم إذا علم أن هذا الحكم منسوخ ولكننا جهلنا ناسخه فقال الصحابي: هذا ناسخه فإنه يقبل لضعف احتمال كونه حينئذ صدر عن اجتهاد.


( شرح النص )
خاتِمَةٌ
يتعيَّنُ النَّاسِخُ بتأخُّرِهِ، ويُعْلَمُ بالإجماعِ، وقولِ النبيِّ هذا ناسِخٌ أَو بعدَ ذاكَ، أَو كنتُ نهيتُ عَنْ كذا فافعلوهُ، أَو نَصِّهِ على خِلافِ النَّصِّ الأوَّلِ، أَو قولِ الراوِي: هذا متأخِرٌ، لا بموافقةِ أحَدِ النَّصَّينِ للأصلِ، وثبوتِ إحدى آيتينِ في المصحفِ، وتأخُّرِ إسلامِ الراوِي، وقولِهِ: هذا ناسِخٌ في الأصحِّ لا النَّاسِخُ.
......................... ......................... ......................... ...............
هذه ( خاتِمَةٌ ) للنسخ يعلم بها الناسخ من المنسوخ ( يتعيَّنُ النَّاسِخُ ) لشيء ( بتأخُّرِهِ ) عنه ( ويُعْلَمُ ) تأخره ( بالإجماعِ ) على أنه متأخر عنه، أو أنه ناسخ له (وقولِ النبيِّ ) صلى الله عليه وسلّم ( هذا ناسِخٌ ) لذاك ( أو ) هذا ( بعدَ ذاكَ ) أو هو سابق عليه ( أَو كنتُ نهيتُـ ) ـكم ( عَنْ كذا فافعلوهُ، أَو نَصِّهِ ) صلى الله عليه وسلم ( على خِلافِ النَّصِّ الأوَّلِ ) أي أن يذكر الشيء بحكم على خلاف ما ذكره فيه أوّلا ( أَو قولِ الراوِي: هذا متأخِرٌ ) عن ذاك أو سابق عليه ( لا بموافقةِ أحَدِ النَّصَّينِ للأصلِ ) أي البراءة الأصلية فلا يعلم التأخر به في الأصح، وقيل: يعلم لأن الأصل مخالفة الشرع لها، فيكون المخالف سابقا على الموافق. قلنا: هذا مسلم في أغلب الموارد لكنه ليس بلازم لجواز العكس ( و ) لا ( ثبوتِ إحدى آيتينِ في المصحفِ ) بعد الأخرى فلا يعلم به التأخرية في الأصح، وقيل: يعلم لأن الأصل موافقة الوضع للنزول. قلنا لكنه غير لازم لجواز المخالفة كما مر في آيتي عدة الوفاة ( و ) لا ( تأخُّرِ إسلامِ الراوِي ) لمرويه عن إسلام الراوي للآخر فلا يعلم التأخر به في الأصح، وقيل: يعلم لأنه الظاهر. قلنا: لكنه بتقدير تسليمه غير لازم لجواز العكس ( و ) لا ( قولِهِ ) أي الراوي ( هذا ناسِخٌ ) فلا يكون ناسخا ( في الأصحِّ ) وقيل: يكون وعليه المحدِّثون لأنه لعدالته لا يقول ذلك إلا إذا ثبت عنده. قلنا ثبوته عنده يجوز أن يكون باجتهاد لا يوافق عليه ( لا ) بقوله هذا ( الناسخ ) لما علم أنه منسوخ وجهل ناسخه فيعلم به أنه ناسخ له لضعف احتمال كونه حينئذ عن اجتهاد فإننا نعلم النسخ يقينا وقول الصحابي عيّن لنا الناسخ.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:49 PM
الدرس السابع والخمسون- السنة

مقدمة


أولا: السُّنَّةُ: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله. وتقريراته من جملة أفعاله؛ إذْ هي كفه عن الإنكار، والكفّ فعل.
ثانيا: الأنبياء معصومون عن كبائر الذنوب اتفاقا وكذا عن صغائر الذنوب المستقبحة كسرقة لقمة.
وأما الصغائر غير المستقبحة فالجمهور على جوازها عليهم. وقيل: إنهم معصومون عنها ولو سهوا وأوّلوا كل النصوص التي ظاهرها وقوع الذنب منهم كقوله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى ).
ثالثا: لا يُقِرُّ النبي صلى الله عليه وسلم أحدا على باطل فسكوته على فعل دليل على جوازه شرعا للفاعل ولغيره.
لا فرق بين أن يكون حال سكوته مستبشرا مسرورا أو لا، ولا فرق بين أن يكون الفاعل مسلما أو كافرا.
رابعا: فعله صلى الله عليه وسلم غير محرم ولا مكروه وما فعله من مكروه بالنسبة لنا كالشرب قائما فإنما فعله لبيان الجواز فيكون صلى الله عليه وسلم فاعلا للطاعة ومبيّنا للشريعة.
خامسا: أفعاله صلى الله عليه وسلم على عدة أنحاء هي:
1- أفعاله الجبليّة كالقيام والقعود والنوم والأكل فهذه مباحة له ولأمته.
2- ما تردد بين الجبلة والشرع كحجه راكبا فهل فعله بمقتضى الجبلة لكون الركوب هو الأيسر أو إنما فعله لكونه مطلوبا شرعا؟ فهذا يحمل على الندب. وقيل: على الإباحة.
3- ما وقع بيانا لنص شرعي فهو يأخذ حكم المبيّن فإن كان بيانا للواجب كالصلوات الخمس فهو واجب في حقنا وإن كان بيانا للمندوب كصلاة الكسوف والخسوف كان مندوبا في حقنا.
4- ما كان خاصا به كزيادته في النكاح على أربع فهذا لا يقتدى به لاختصاصه به.
5- ما فعله من غير ما سبق وعلمت صفته من وجوب أو ندب أو إباحة فأمته مثله.
6- ما فعله وجهلت صفته فقيل: هو للوجوب في حقه وحقنا لأنه الأحوط، وقيل: هو للندب، وقيل: للإباحة.
سادسا: تعلم صفة الفعل بعدة طرق منها:
أ- التنصيص على الفعل أنه واجب أو مندوب أو مباح.
ب- أن يسوي بين الفعل وبين فعل آخر معلوم الصفة، كأن يقول: هذا الفعل كالفعل الفلاني. وقد علم أنه مباح مثلا.
ج- أن يقع الفعل بيانا لنص دال على وجوب أو ندب أو إباحة، فيكون حكمه حكم ذلك النص.
سابعا: تعلم صفة الوجوب بخصوصها بعدة طرق منها:
أ- العلامة الدالة على الوجوب، كالأذان والإقامة فإنه لا يؤتى بهما إلا في المكتوبة دون غيرها كالعيد والاستسقاء.
ب- كونه في الأصل ممنوعا من فعله لإيذائه فلما فعله دل على أنه واجب كإقامة الحد وكالختان.
ثامنا: تعلم صفة الندب بخصوصها إن فعل فعلا لقصد القربة من صلاة وصوم وذكر وغيرها ولا يوجد دليل على خصوص الوجوب، فإنه يكون مندوبا لأن الأصل عدم الوجوب.


( شرح النص )


الكتابُ الثاني في السنةِ

وهيَ: أَقوالُ النبيِّ وأَفعالُهُ. الأنبياءُ معصومونَ حتى عن صغيرةٍ سهوًا؛ فلا يُقِرُّ نبيُّنا أحدًا على باطلٍ، فسكوتُهُ ولو غيرَ مستبْشِرٍ على الفعلِ مطلقًا دليلُ الجوازِ للفاعِلِ ولغيرِهِ في الأصحِّ، وفعلُهُ غيرُ مكروهٍ، وما كانَ جِبِلِّيًا أَو مُتَرَدِّدًا أَو بيانًا أَو مُخَصَّصًا بهِ فواضِحٌ، وما سِواهُ إنْ عُلِمَتْ صِفَتُهُ فأُمَّتُهُ مِثْلُهُ في الأصحِّ، وتُعلَمُ بنصٍّ وتسويةٍ بمعلومِ الجهةِ ووقوعِهِ بيانا أَو امتثالًا لِدالٍّ على وجوبٍ أَو ندبٍ أَو إباحةٍ، ويَخُصُّ الوجوبَ أَمارتُهُ كالصلاةِ بأذانٍ وكونُهُ ممنوعًا لوْ لم يجبْ كالحدِّ، والنَّدْبَ مُجَرَّدُ قصدِ القُرْبَةِ، وإن جُهِلَتْ فللوجوبِ في الأصحِّ.
......................... ......................... ......................... ........................
لما فرغ من الدليل الأول من أدلة التشريع وهو الكتاب شرع في الدليل الثاني فقال: ( الكتابُ الثاني في السنةِ وهيَ: أَقوالُ النبيِّ ) صلى الله عليه وسلّم ( وأَفعالُهُ ) ومنها تقريره لأنه كف عن الإنكار والكف فعل كما مر، وتقدمت مباحث الأقوال التي تشترك فيها السنة والكتاب، من الأمر والنهي والعام والخاص وغيرها، والكلام هنا في غير ذلك، ولتوقف حجية السنة على عصمة النبي بدأوا بها مع عصمة سائر الأنبياء زيادة للفائدة، وإلا فأصل هذا المبحث هو كتب العقائد فقال: ( الأنبياءُ ) عليهم الصلاة والسلام ( معصومونَ حتى عن صغيرةٍ سهوًا ) فلا يصدر عنهم ذنب لا كبيرة ولا صغيرة لا عمدا ولا سهوا، هكذا قال! والأكثر على جواز صدور الصغيرة عنهم إلا الدالة على الخسة كسرقة لقمة والتطفيف بتمرة، وينبهون عليها لو صدرت ويوفقون للتوبة والإنابة، وإذا تقرر أن نبينا معصوم كغيره من الأنبياء ( فلا يُقِرُّ نبيُّنا) محمد صلى الله عليه وسلّم ( أحدًا على باطلٍ فسكوتُهُ ولو ) كان حال سكوته ( غيرَ مستبْشِرٍ ) أي غير مسرور ( على ) الإنكار على ( الفعلِ مطلقًا ) أي سواء صدر من مسلم أو من غيره، وممن إذا أنكر عليه يغريه ويدفعه إنكاره عليه على تكرار ذلك الفعل عنادا أو لا، وقيل: إلا فعل من يغريه الإنكار بناء على سقوط الإنكار عليه، وقيل: إلا الكافر بناء على أنه غير مكلف بالفروع ( دليلُ الجوازِ للفاعِلِ ) بمعنى الإذن له فيه؛ لأن سكوته صلى الله عليه وسلّم على الفعل تقرير له ( ولغيرِهِ في الأصحِّ ) وقيل: لا، لأن السكوت ليس بخطاب لفظي حتى يعمّ. قلنا هو كالخطاب أي في قوته فيعم ( وفعلُهُ ) صلى الله عليه وسلّم ( غيرُ مكروهٍ ) بالمعنى الشامل للمحرم ولخلاف الأولى لعصمته، ولقلة وقوع المكروه وخلاف الأولى من التقي من أمته فكيف يقع منه، ولا ينافيه وقوع المكروه بيانا لجوازه كشربه قائما، لأنه ليس مكروها حينئذ، بل واجب في حقه ( وما كانَ ) من أفعاله صلى الله عليه وسلم ( جِبِلِّيًا ) أي واقعا بجهة جبلة البشر أي خلقتهم كقيامه وقعوده وأكله وشربه ( أَو مُتَرَدِّدًا ) بين الجبلي والشرعي كحجه راكبا وجلسته للاستراحة في الصلاة ( أَو بيانًا ) كقطعه السارق من الكوع بيانا لمحل القطع في آية السرقة ( أَو مُخَصَّصًا بهِ ) كزيادته في النكاح على أربع نسوة ( فواضِحٌ ) حكمه وهو أن الرابع وهو المخصص به لسنا مخاطبين به، وأن غير الرابع من الثلاثة الأول دليل في حقنا، لأنه صلى الله عليه وسلّم بعث لبيان الشرعيات فيباح لنا في الأول وهو الجبلي، ويندب في الثاني وهو ما تردد بين الجبلي والشرعي، وقيل: يباح، ويندب أو يجب أو يباح بحسب المبيَّن في الثالث وهو ما فعله بيانا ( وما سِواهُ ) أي سوى ما ذكر من الأقسام الأربعة ( إنْ عُلِمَتْ صِفَتُهُ ) من وجوب أو ندب أو إباحة ( فأُمَّتُهُ مِثْلُهُ ) في ذلك ( في الأصحِّ ) عبادة كان أو لا. وقيل: مثله في العبادة فقط، وقيل: ليس مثله مطلقا في عبادة أو غيرها بل يكون كمجهول الصفة الذي سيأتي بعد قليل (وتُعلَمُ ) صفة فعله ( بنصٍّ ) عليها كقوله: هذا واجب مثلا ( وتسويةٍ بمعلومِ الجهةِ ) كقوله هذا الفعل مساوٍ لكذا في حكمه وكان قد علم حكمه من قبل ( ووقوعِهِ بيانا أَو امتثالًا لِدالٍّ على وجوبٍ أَو ندبٍ أَو إباحةٍ ) فيكون حكمه حكم المبين أو الممتثل وجوبا أو ندبا أو إباحة، وصورة البيان: أن لا تعلم صفة المأمور به فيفعله النبي لتعلم صفته كأن يطوف بعد إيجاب الطواف لتعلم صفته فنعلم وجوب هذا الطواف لكونه بيانا للواجب، وصورة الإمتثال: أن يكون المأمور به معلوما صفته لكن يأتي به لامتثال الأمر به كما لو تصدق بدرهم امتثالا لإيجاب التصدق فيعلم وجوب فعله حينئذ من وقوعه امتثالا للأمر بالتصدق ( ويَخُصُّ الوجوبَ ) أي يميزه عن غيره من الندب والإباحة ( أَمارتُهُ كالصلاةِ بأذانٍ ) لأنه ثبت باستقراء الشريعة أن ما يؤذن لها واجبة بخلاف غيرها، كصلاة العيد والخسوف ( وكونُهُ ) أي الفعل ( ممنوعًا ) منه (لوْ لم يجبْ كالحدِّ ) والختان فإنهما في الأصل ممنوعان لما فيهما من الأذية ( و ) يخص ( النَّدْبَ ) أي يميزه عن غيره من الوجوب والإباحة ( مُجَرَّدُ قصدِ القُرْبَةِ ) بأن تدل قرينة على أنه قصد بذلك الفعل القربة ولا دليل على الوجوب، وذلك كصلاة وصوم وقراءة ونحوها من التطوعات ( وإن جُهِلَتْ ) صفته أي حكمه ( فللوجوبِ في الأصحِّ ) في حقه وحقنا، لأنه الأحوط، وقيل: للندب لأنه المتحقق بعد الطلب، وقيل: للإباحة لأن الأصل عدم الطلب، وقيل بالوقف لتعارض الأدلة.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:49 PM
الدرس الثامن والخمسون- السنة

تعارض الفعل والقول


إذا تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله فلهذه الحالة صور كثيرة منها:
أولا: أن يدل دليل على تكرر مقتضى القول- بأن يطلب فعله متكررا وليس لمرة واحدة- وكان مقتضى ذلك القول مختصا به صلى الله عليه وسلم، وفعل فعلا مخالفا له.
مثل أن يقول: صوم عاشوراء واجب عليّ كلَّ سنةٍ. ثم أفطر في سنة من السنين.
فإن علم المتقدم والمتأخر، فالمتأخر ناسخ للمتقدم منهما، وإن جُهِل فيتوقف عن ترجيح أحدهما حتى يتبين التاريخ.
ولا معارضة حينئذ في حق الأمة لأن مقتضى القول مختص به، وأما فعله فإن دل دليل على تأسينا به عملنا به، وإن لم يدل فالأمر واضح أن القول والفعل لا يتناولان الأمة.
ثانيا: أن يكون مقتضى القول مختصا بالأمة وفعل فعلا مخالفا له.
مثل أن يقول: يجب عليكم صوم عاشوراء في كل سنة، وأفطر في سنة من السنين، فلا تعارض في حقه صلى الله عليه وسلم لأنه ليس مخاطبا بهذا القول.
أما في حقنا فإن دلّ دليل على التأسي بفعله فهنا يتعارض القول والفعل في حقنا فإن علمنا المتقدم والمتأخر فالمتأخر ناسخ للمتقدم منهما، وإن جهلنا نعمل بالقول على الأصح لأنه أقوى دلالة على الحكم من الفعل المجرد.
وإن لم يدل دليل على التأسي بفعله فلا تعارض حينئذ فنعمل بمقتضى القول.
ثالثا: أن يكون مقتضى القول شاملا للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة وفعل فعلا مخالفا له.
مثل أن يقول: يجب عليّ وعليكم صوم عاشوراء في كل سنة، وأفطر في سنة من السنين.
فإن علمنا المتقدم والمتأخر فالمتأخر ناسخ للمتقدم منهما، في حقه وفي حقنا.
وإن جهلنا نعمل بالقول في حقنا، ونتوقف في حقه عليه الصلاة والسلام.
هذا إن دلّ دليل على التأسي بفعله فإن لم يدل دليل على التأسي به فلا تعارض فنعمل بالقول.
ولكن تستثنى حالة إذا كان شمول القول له ليس نصا بل ظاهرا كما لو قال: يجب على كل مسلم صوم عاشوراء في كل سنة- فهنا ظاهر الحكم شموله له ولكن ليس نصا كما في الحالة الأولى- وأفطر في سنة من السنين.
فالفعل في هذه الحالة مخصص للقول في حقه عليه الصلاة والسلام، تقدم أو تأخر أو جهل التأريخ، فيكون الفعل مختصا به أي أنه غير داخل في عموم القول. ويكون القول هو الموجّه للأمة فنعمل به.


( شرح النص )

وإذا تعارضَ الفعلُ والقولُ ودلَّ دليلٌ على تكَرُّرِ مُقتضاهُ فإنِ اختصَّ بهِ فالمتأَخِّرُ ناسِخٌ، فإنْ جُهِلَ فالوقفُ في الأصحِّ ولا تعارُضَ، وإنِ اختصَّ بنا فلا تعارُضَ فيهِ، وفينا المتأخِّرُ ناسِخٌ إنْ دلَّ دليلٌ على تأسِّينا، فإنْ جُهِلَ عُمِلَ بالقولِ في الأصحِّ وإنْ عَمَّنا وعَمَّهُ فحكمُهما كما مرَّ إلا أنْ يكونَ العامُ ظاهرًا فيهِ فالفعلُ مُخَصِّصٌ.
......................... ......................... ......................... ...........
( وإذا تعارضَ الفعلُ والقولُ ) أي تخالفا بتخالف مقتضيهما بأن يدل الفعل على أمر ويدل القول على خلافه ( ودلَّ دليلٌ على تكَرُّرِ مُقتضاهُ ) أي القول ( فإنِ اختصَّ ) القول ( بهِ ) صلى الله عليه وسلّم كأن قال: يجب عليّ صوم عاشوراء في كل سنة، وأفطر في سنة من السنين ( فالمتأَخِّرُ ) من الفعل أو القول إن علم ( ناسِخٌ ) للمتقدم منهما في حقه ( فإنْ جُهِلَ ) المتأخر منهما ( فالوقفُ ) عن ترجيح أحدهما على الآخر في حقه صلى الله عليه وسلم إلى تبين التاريخ ( في الأصحِّ ) لاستوائهما في احتمال تقدم كل منهما على الآخر، وقيل: يرجح القول، وقيل: يرجح الفعل ( ولا تعارُضَ ) في حقنا حيث دل دليل على تأسينا به في الفعل لعدم تناول القول لنا، وإن لم يدل دليل على تأسينا به في الفعل فلا يتوهم التعارض أصلا ( وإنِ اختصَّ ) القول ( بنا ) كأن قال: يجب عليكم صوم عاشوراء في كل سنة، وأفطر في سنة من السنين ( فلا تعارُضَ فيهِ ) أي في حقه صلى الله عليه وسلّم بين الفعل والقول لعدم تناوله له ( وفينا ) أي في حقنا ( المتأخِّرُ ) منهما بأن علم ( ناسِخٌ ) للمتقدم ( إنْ دلَّ دليلٌ على تأسِّينا ) به في الفعل ( فإنْ جُهِلَ ) المتأخر ( عُمِلَ بالقولِ في الأصحِّ ) وقيل: بالفعل، وقيل: بالوقف، فإن قيل: لم صححتم هنا العمل بالقول وفيما سبق صححتم الوقف ؟ قلنا: لأنا متعبدون فيما يتعلق بنا بالعلم بحكمه لنعمل به فالوقف لن يعين لنا العمل، بخلاف ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا ضرورة إلى الترجيح فيه فنتوقف إذْ هي حينئذ مسألة عملية بحتة ، فإن لم يدل دليل على تأسينا به في الفعل فلا تعارض في حقنا لعدم ثبوت حكم الفعل في حقنا ( وإنْ عَمَّنا وعَمَّهُ ) القول كأن قال: يجب عليّ وعليكم صوم عاشوراء في كل سنة، وأفطر في سنة من السنين ( فحكمُهما ) أي الفعل والقول (كما مرَّ ) مِنْ أن المتأخر منهما إن علم ناسخ للمتقدم في حقه، وكذا في حقنا إن دلّ دليل على تأسينا به في الفعل، وإلا فلا تعارض في حقنا، وإن جهل المتأخر فالأصح في حقه الوقف، وفي حقنا تقديم القول ( إلا أنْ يكونَ ) القول ( العامُّ ظاهرًا فيهِ ) صلى الله عليه وسلّم لا نصا، كأن قال: يجب على كل مكلف صوم عاشوراء في كل سنة وأفطر في سنة من السنين ( فالفعلُ مُخَصِّصٌ ) للقول في حقه فيختص الفعل به صلى الله عليه وسلم تقدم عل القول أو تأخر عنه أو جهل ذلك، ولا نسخ لأن التخصيص أهون منه لما فيه من إعمال الدليلين بخلاف النسخ.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:50 PM
الدرس التاسع والخمسون- السنة

الأخبار


أولا: اللفظ المركب إما مهمل وإما مستعمل.
والمهمل: ما لا يكون له معنى. وهو موجود وذلك كالمركب الذي يصدق عليه لفظ الهذيان كالذي يصدر من السكران، ولكنه ليس موضوعا لمعنى وهذا معلوم من كونه مهملا.
والمستعمل- أي المركب الذي له معنى- موضوع على القول المختار، فقولك: قامَ زيدٌ كلام موضوع كما أن لفظتي زيد وقام موضوعتان اتفاقا، وهذا ما يسمى بالوضع النوعي وهو: تعيين اللفظ لا بخصوصه للمعنى بل في ضمن قاعدة كلية.
بأن يقال: إن العرب وضعت هيئة الجملة الفعلية لكل من يصدر منه فعل فتنطبق هذه القاعدة على قام زيد وجاء عمرو ونحوهما، كما أنها وضعت هيئة الجملة الاسمية لكل اسم أسند إليه خبر فتنطبق هذه القاعدة على زيدٌ قائمٌ وعمروٌ جالسٌ ونحوهما.
وقيل: إن الوضع للمفردات دون المركبات وهو المسمى بالوضع الشخصي وهو: تعيين اللفظ بخصوصه للمعنى. كوضع قام وزيد وسماء وأرض وماء ونحوها لمعانيها.
ثانيا: الكلام: لفظ تضمّن اسنادًا مفيدًا مقصودًا لذاته. فخرج ما لم يتضمن اسنادا مثل قولك عند العدّ: واحد اثنان ثلاثة، كما خرج ما تضمن اسنادا مفيدا لكنه غير مقصود لذاته كصلة الموصول نحو: جاءَ الذي قامَ أبوه، فجملة قام أبوه وإن تضمنت اسنادا لكنه غير مقصودا لذاته بل لغرض توضيح معنى الاسم الموصول.
وأما الكلام النفسي فهو: معنى قائم في النفس يعبر عنه باللفظ.
وقد اختلف الناس في الكلام فقيل: هو يستعمل حقيقة في لغة العرب في اللفظي والنفسي، وقيل: هو حقيقة في النفسي مجاز في اللفظي على اعتبار أن الكلام في الفؤاد وإنما جعل القول عليه دليلا، وقيل: هو حقيقة في اللفظي مجاز في النفسي فمتى أطلق الكلام انصرف للفظي ولا يستعمل في النفسي إلا مقيدا كأن يقال: في نفسي كلام. وهذا هو الصحيح.
ثم لا يخفى أن بحث الأصولي إنما هو عن الكلام اللفظي الذي يستنبط منه الأحكام.
ثالثا: هنالك طريقتان للعلماء في تعريف الخبر والإنشاء وما يتفرع عنهما وهما:
1- الطريقة الثنائية وهي التي عليها علماء البلاغة وهي المشهورة وحاصلها أن الكلام ينقسم إلى خبر وإنشاء.
فالإنشاء هو: كلام يحصل به مدلوله في الخارج، والخبر: كلام لا يحصل به مدلوله في الخارج. توضيحه:
إذا قلت لزيد: قمْ فإنك لا تخبر عن شيء بل أنت تطلب منه القيام، وطلب القيام الذي هو مدلول كلامك حصل بقولك تلك الجملة ( قمْ ) ولهذا يكون هذا النوع من الكلام لا يحتمل الصدق والكذب لأنك لا تحكي عن واقع. وله أقسام عديدة كالاستفهام والأمر والنهي والترجي، وإذا قلت: قامَ زيدٌ، فمدلول كلامك هو قيام زيد وهو لم يحصل بلفظك بل أنت تحكي عن حالة واقعية ولذلك يحتمل كلامك الصدق إن طابق الواقع والكذب إن لم يطابقه.
2- الطريقة الثلاثية وهي التي عليها الإمام الرازي ومن تبعه وحاصلها أن الكلام ينقسم إلى طلب وإنشاء وخبر.
فالكلام إما أن يدل على الطلب كالاستفهام والأمر والنهي وإما أن لا يدل على الطلب وهو إما أن لا يحتمل الصدق والكذب كالترجي والقَسَم وهو الإنشاء، وإما أن يحتمل الصدق والكذب وهو الخبر.
رابعا: الخبر لا يخرج عن أن يكون صادقا أو كاذبا فلا واسطة بينهما، أي لا يوجد خبر لا صادق ولا كاذب. هذا هو القول الراجح الذي عليه أكثر العلماء.
وقيل: بوجود الواسطة بينهما فقيل: الصادق ما كان مطابقا للواقع ومطابقا لاعتقاد المتكلم، والكاذب: ما كان غير مطابق للواقع وغير مطابق لاعتقاد المتكلم. وعلى هذا فالأمر يتبع الاعتقاد فإذا طابق الخبر الواقع ولم يعتقد المخبر مطابقته يكون واسطة.


( شرح النص )


الكلامُ في الأَخْبارِ
المركبُ إمَّا مُهْمَلٌ وليسَ موضوعًا وهوَ موجودٌ في الأصحِّ، أَو مستعمَلٌ والمختارُ أنَّهُ موضوعٌ. والكلامُ اللسانيُّ: لفظٌ تضمَّنَ إسنادًا مفيدًا مقصودًا لذاتِهِ، والنفسانِيُّ معنىً في النفسِ يُعَبَّرُ عنهُ باللسانيِّ، والأصحُّ عندنا أنَّهُ مشترَكٌ، والأصوليُّ إنما يتكلمُ فيهِ، فإنْ أفادَ بالوضعِ طلبًا فطلبُ ذكرِ الماهيةِ استفهامٌ وتحصيلِها أو تحصيلِ الكفِّ عنها أمرٌ أو نهيٌ ولو مِن ملتَمِسٍ وسائِلٍ، وإلا فما لا يحتملُ صدقًا وكذبًا تنبيهٌ وإنشاءٌ، ومحتمِلُهما خبرٌ، وقدْ يقالُ الإنشاءُ: ما يحصلُ بهِ مدلولُهُ في الخارجِ، والخبرُ خِلافُهُ، ولا مَخْرجَ لهُ عن الصدقِ والكذبِ لأنَّهُ إمَّا مطابقٌ للخارجِ أَو لا فلا واسِطةَ في الأصحِّ.
......................... ......................... ......................... ........................
( الكلامُ في الأَخْبارِ ) بفتح الهمزة جمع خبر ( المركبُ ) من اللفظ ( إمَّا مُهْمَلٌ ) بأن لا يكون له معنى ( وليسَ موضوعًا ) اتفاقا ( وهوَ موجودٌ في الأصحِّ ) كمدلول لفظ الهذيان فإنه لفظ مركب مهمل كضرب من الهوس أو غيره مما لا يقصد به الدلالة على شيء، ونفاه الإمام الرازي قائلا: إن التركيب إنما يصار إليه للإفادة، فحيث انتفت انتفى. فمرجع خلافه إلى أن مثل ما ذكر من لفظ الهذيان لا يسمى مركبا ( أَو مستعمَلٌ ) بأن يكون له معنى ( والمختارُ أنَّهُ موضوعٌ ) أي بالوضع النوعي، وقيل: لا والموضوع هو مفردات الكلام فقط ( والكلامُ اللسانيُّ: لفظٌ تضمَّنَ إسنادًا مفيدًا مقصودًا لذاتِهِ ) فخرج باللفظ: الخط والرمز والعقد والإشارة والنصب، وخرج بتضمن إسنادا المفرد كزيد، وبالمفيد غير المفيد كالنار حارة وتكلم رجل ورجل يتكلم لعدم الفائدة الجديدة على قول ابن مالك، وبالمقصود غير المقصود كالصادر من نائم، والمقصود لذاته المقصود لغيره كصلة الموصول نحو جاء الذي قام أبوه، فإنها مفيدة بالضم إلى الاسم الموصول مع ما معه مقصودة لإيضاح معناه ( و ) الكلام (النفسانِيُّ معنىً في النفسِ ) أي قائم بها ( يُعَبَّرُ عنهُ باللسانيِّ ) أي ما صدقاته كلفظ جاء زيدٌ يعبر به عما قام في النفس من معنى الجملة ( والأصحُّ عندنا ) أي عند كثير من الأشاعرة ( أنَّهُ ) أي الكلام ( مشترَكٌ ) بين اللساني والنفساني، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة. قال الإمام الرازي وعليه المحققون منا. وقيل: إنه حقيقة في النفساني مجاز في اللساني، واختاره الأصل. وقيل: إنه حقيقة في اللفظي مجاز في النفسي وهو المختار ( والأصوليُّ إنما يتكلمُ فيهِ ) أي في اللساني لأن بحثه فيه لا في المعنى النفسي ( فإنْ أفادَ ) أي ما صدق اللساني ( بالوضعِ طلبًا فطلبُ ذكرِ الماهيةِ ) أي فاللفظ المفيد لطلب ذكرها ( استفهامٌ ) نحو: ما هذا ؟ ومَن ذا أزيد أم عمرو ؟ ( و ) طلب ( تحصيلِها أو تحصيلِ الكفِّ عنها ) أي اللفظ المفيد لذلك ( أمرٌ أو نهيٌ ) نحو: قمْ ولا تقمْ ( ولو ) كان طلب تحصيل ذلك ( مِن ملتَمِسٍ ) أي مساوٍ للمطلوب منه رتبة ( وسائِلٍ ) أي دون المطلوب منه رتبة نحو: اغفر لي فإن اللفظ المفيد لذلك منهما يسمى أمرا ونهيا، وقيل: لا بل يسمى من الأول التماسا، ومن الثاني سؤالا ودعاء، وإلى الخلاف أشار بقوله ولو مِن.. فإنه يؤتى بلو هنا للإشارة إلى خلاف ( وإلا ) أي وإن لم يفد بالوضع طلبا (فما لا يحتمِلُ ) منه ( صدقًا وكذبًا ) في مدلوله ( تنبيهٌ وإنشاءٌ ) أي يسمى بكل منهما سواء أفاد طلبا باللازم كالتمني والترجي نحو: ليت الشباب يعود، ولعلّ الله يعفو عني، أم لم يفد طلبا نحو: أنت طالق ( ومحتمِلُهما ) أي الصدق والكذب من حيث هو ( خبرٌ ) وقد يقطع بصدقه أو كذبه لأمور خارجة عنه كخبر الله ورسوله صلى الله وعليه وسلم ( وقدْ يقالُ ) وهو للبيانيين ( الإنشاءُ ما ) أي كلام ( يحصلُ بهِ مدلولُهُ في الخارجِ ) كأنت طالق، وقمْ ولا تقم، فإن مدلولها من إيقاع الطلاق وطلب القيام وعدمه يحصل بالكلام لا بغيره، فالإنشاء بهذا المعنى أعم منه بالمعنى الأول لشموله الطلب بأقسامه السابقة من الاستفهام والأمر والنهي بخلافه بالمعنى الأول فإنه قسيم للطلب وللخبر فلا يشمل الاستفهام والأمر والنهي ( والخبرُ خِلافُهُ ) أي ما يحصل بغيره مدلوله في الخارج بأن يكون له خارج صدق أو كذب نحو: قام زيد فإن مدلوله أي مضمونه من قيام زيد يحصل بغيره، وهو محتمل لأن يكون واقعا في الخارج فيكون هو صدقا وغير واقع فيكون هو كذبا ( ولا مَخْرجَ لهُ) أي للخبر من حيث مضمونه ( عن الصدقِ والكذبِ لأنَّهُ إمَّا مطابقٌ للخارجِ ) فالصدق ( أَو لا ) فالكذب ( فلا واسطةَ ) بينهما ( في الأصحِّ ) وقيل بوجود الواسطة. وفي القول بها أقوال: منها قول عمرو بن بحر الجاحظ: الخبر إن طابق الخارج مع اعتقاد المخبر المطابقة فصدق، أو لم يطابقه مع اعتقاد عدمها فكذب، وما سواهما واسطة بينهما وهو أربعة: أن ينتفي اعتقاده المطابقة في المطابق بأن يعتقد عدم المطابقة، أو لم يعتقد شيئا، وأن ينتفي اعتقاده عدمها في غير المطابق بأن يعتقد المطابقة أو لم يعتقد شيئا، فلو قال: زيدٌ قائمٌ، وكان قائما واعتقد المخبر ذلك فهذا صدق، وإن كان واقعا غير قائم واعتقد المخبر عدم قيامه فهذا كذب، وإن كان قائما بالفعل ولكن اعتقد المخبر عدم قيامه أو لم يعتقد شيئا كأن كان شاكا فواسطة، وكذا إن كان غير قائم بالفعل ولكن اعتقد المخبر قيامه أو لم يعتقد شيئا فواسطة أيضا، فظهر أن للكلام ست حالات اثنتان منها صدق أو كذب وأربعة منها واسطة على قول الجاحظ.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:51 PM
الدرس الستون- السنة

مدلول الخبر


أولا: إذا قيل: زيدٌ قائمٌ، فالموضوع هو زيد والمحمول هو قائم والنسبة هي ثبوت القيام لزيد، وأما الحكم فهو الإذعان والجزم بثبوت النسبة أي الإذعان بثبوت القيام لزيد في الواقع.
فإذا علم هذا فهل ما يفيده الخبر هو ثبوت القيام لزيد في الواقع أو هو الحكم بثبوت القيام له في الواقع ؟ قولان.
فقيل: إن ما يفيده الخبر هو ثبوت القيام له في الواقع.
وقيل: إن ما يفيده الخبر هو الحكم بثبوت القيام له في الواقع.
فعلى القول الأول وضعت العرب لفظ الخبر ليدل على ثبوت الفعل في الواقع أي ليحكي عن كون زيد واقفا على قدميه في المثال، وعلى القول الثاني وضعت العرب لفظ الخبر ليدل على حكم المتكلم بثبوت الفعل في الواقع.
فالقول الأول يجعل الخبر موضوعا لإفادة ما في الخارج فلذا يكون دليلا على الصدق دائما لأنه يفترض به أن يكشف الواقع بما هو، والقول الثاني يجعل الخبر موضوعا لإفادة ما في الذهن وهو حكم النفس بثبوت ما في الخارج فإن طابق الحكم ما في الخارج فهو صادق وإلا فهو كاذب فهو يحكي عن الحالة النفسية للمتكلم وأنه جازم بالوقوع أما كون زيد في الواقع قائما أو غير قائم فالخبر لم يوضع لذلك.
ثانيا: مورد الصدق والكذب هو النسبة التي تضمنها الخبر فقط لا القيود التي يقيد بها المسند إليه.
فإذا قيل: زيدٌ قائمٌ فالصدق والكذب يردان على النسبة التي هو ثبوت القيام لزيد.
وإذا قيل: زيدُ بن عمرٍو قائمٌ، فالصدق والكذب منصب على ثبوت القيام لزيد فإذا كان قائما في الواقع فهو صادق وإلا فهو كاذب، فإذا كان زيد في الواقع هو ليس ابن عمرو مثلا ولكنه قائم فهذا الخبر صادق لأن صدق الخبر لا علاقة له بالقيود الفرعية، وذلك القيد قصد به تعريف زيد وتعيينه.
ولهذا قال الإمام مالك وبعض الشافعية إن الشهاد بمثل: ( زيد بن عمرو أوكل فلانا ) هي شهادة بالوكالة فقط، دون بنوة زيد لعمرو.
والمذهب عند الشافعية أن ذلك شهادة بالوكالة أصالة وبنوة زيد لعمرو ضمنا.
والتحقيق أن هنالك نسبتين: نسبة مقصودة بالذات وهي النسبة الإسنادية ونسبة مقصودة بالتبع وهي النسبة التقييدية فإذا قيل: ( زيد بن عمرو أوكل فلانا ) فالنسبة الأصلية هي ثبوت الوكالة لزيد، والنسبة التبعية هي زيد هو ابنٌ لعمرو، والصدق والكذب إنما يرد على النسبة المقصودة بالذات، ولكن هذا لا يعني أن المتكلم غير جازم بالقيود والنسبة الفرعية.
فيوجد إخباران: خبر أصلي مساق له الكلام وهو مورد الصدق والكذب موضوع له الخبر بالمطابقة، وخبر ثاني يؤخذ من القيود يدل عليه الخبر بالالتزام، والصدق والكذب لا يرد عليه، وكونه لا يرد عليه لا يعني إطلاقا عدم صحة الإخبار تلك القيود وهذا هو وجه مذهب الشافعية.


( شرح النص )

ومدلولُ الخبرِ ثبوتُ النسبةِ لا الحكمُ بها، ومَورِدُ الصدقِ والكذبِ النسبةُ التي تضمَّنَها فقطْ كقيامِ زيدٍ في: قامَ زيدُ بنُ عمرٍو لا بنوتِه، فالشهادةُ بتوكيلِ فلانِ بنِ فلانٍ فلانًا شهادةٌ بالتوكيلِ فقطْ، والرَّاجِحُ بالنَّسَبِ ضِمْنًا وبالتوكيلِ أصلًا.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
( ومدلولُ الخبرِ ) في الإثبات أي في القضية الموجبة ( ثبوتُ النسبةِ ) في الخارج كقيام زيد في قولنا: قامَ زيدٌ، وهذا ما رجحه السعد التفتازاني وردّ ما عداه. ( لا الحكمُ بها ) وقيل: هو الحكم بها ورجحه الأصل وفاقا للإمام الرازي، ويقاس بالخبر في الإثبات الخبر في النفي أي القضية السالبة، فيقال مدلوله انتفاء النسبة لا الحكم به ( ومَورِدُ الصدقِ والكذبِ ) في الخبر ( النسبةُ التي تضمَّنَها فقطْ ) أي دون غيرها ( كقيامِ زيدٍ في: قامَ زيدُ بنُ عمرٍو لا بنوتِه ) لعمرو أيضا، فمورد الصدق والكذب في الخبر المذكور النسبة، وهي قيام زيد لا بنوّته لعمرو فيه أيضا إذ لم يقصد به الاخبار بها، وعليه ( فالشهادةُ بتوكيلِ فلانِ بنِ فلانٍ فلانًا شهادةٌ بالتوكيلِ فقطْ ) أي دون نسب الموكل كما هو قولٌ مرجوح عندنا لبعض أصحابنا الشافعية وقال به الإمام مالك ( و ) لكن ( الرَّاجِحُ ) عندنا أنها شهادة ( بالنَّسَبِ ) للموكل (ضِمْنًا وبالتوكيلِ أصلًا ) لتضمن ثبوت التوكيل المقصود لثبوت نسب الموكل لغيبته عن مجلس الحكم، ولهذا استدل الإمام الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بقوله: وقالت امرأة فرعون .. الآية على صحة أنكحة الكفار لأن الله جعلها امرأة له، فالقضية هي: امرأة فرعون قالت، النسبة الأصلية فيه هي صدور القول من المرأة، والنسبة الفرعية أن تلك المرأة هي زوجة لفرعون.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:52 PM
الدرس الحادي والستون- السنة

أقسام الخبر


بما أن الخبر يحتمل الصدق والكذب لذاته، وقد يقطع بصدقه أو كذبه لقرينة خارجية، قسّم الأصوليون الخبر إلى ثلاثة أقسام: مقطوع بكذبه، ومقطوع بصدقه، ومظنون صدقه.
وللقطع بكذب الخبر طرق متعددة منها:
1- الخبر المعلوم خلافه بالضرورة نحو: النقيضان يجتمعان أو يرتفعان.
2- الخبر المعلوم خلافه بالاستدلال كقول بعض الفلاسفة:العالم قديم، فإنا قطعنا عن طريق الاستدلال بأن العالم حادث.
3- كل خبر نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأوهم باطلا ولم يقبل التأويل فإنه إما موضوع عليه، أو أن ذلك الخبر قد نقص منه كلمة فأوهم الباطل.
مثال الأول: ما روي أن الله خلق نفسه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ومثال الثاني: ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلّم قام فقال:أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد. قال ابن عمر: فوَهَلَ الناس في مقالته. أي غلطوا حيث لم يسمعوا لفظة اليوم فرووها بلا لفظة اليوم وذلك يوهم الباطل وهو قيام القيامة بعد مائة سنة. فالرواية بلا لفظة اليوم قد نقص منها ما أوهم الباطل.
ولوضع الحديث أسباب عديدة ليس هذا محل تفصيلها ولكن نذكر منها:
أ- نسيان الراوي لمرويه فيذكر غيره ظانا أنه مروِيُّه.
ب- التنفير كوضع الزنادقة أحاديث باطلة تنفيرا للناس عن الإسلام أو تشكيكا فيه.
ج- غلط الراوي بأن يسبق لسانه إلى شيء غلطا فيرويه الناس عنه.
4- خبر مدعي النبوة من غير معجزة أو تصديق نبي له. لأن النبوة أمر مخالف للعادة، والعادة تقضي بكذب مدعيها بلا دليل قاطع. والكلام يتصور قبل العلم بأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين. أما بعد ذلك فلا يصدق ولو أتى بما يشبه المعجزة ويقطع بكذب خبره، كما قطعنا بكذب مسيلمة الكذاب وغيره ولم نطالبهم بالمعجزة، وكما يقطع المسلم بكذب غلام أحمد القادياني.
5- ما لا أثر له في كتب الحديث كبعض الأحاديث التي تشتهر عند بعض الجهلة اليوم ولا أثر لها في كتب السنة النبوية.
6- خبر نقل آحادا مع توفر الدواعي على نقله، والذي لو كان صحيحا لكان متواترا.
كشخص ينقل أنه قد أطلق الرصاص يوم الجمعة على الخطيب وهو يخطب فوق منبره في المسجد الجامع، فوقع ميتا، فإن هذا الخبر لو كان صحيحا لنقله كل مَن صلى الجمعة في ذلك المسجد لغرابته وتوفر الدواعي على نقله فكونه لم ينقله إلا رجل واحد مع هذه القرائن التي حفت به دليل على أنه كذب قطعا.


( شرح النص )

مسألةٌ: الخبرُ إمَّا مقطوعٌ بكذِبِهِ قطعًا كالمعلومِ خِلافُهُ ضرورةً أو استدلالًا. وكلُّ خبرٍ أوهَمَ باطلًا ولم يقبلْ تأويلًا فموضوعٌ أَو نُقِصَ مِنهُ ما يزيلُ الوهْمَ. وسببُ وضعِهِ نسيانٌ أو تنفيرٌ أو غلَطٌ أو غيرُها. أو في الأصحِّ كخبرِ مُدَّعِي الرسالةِ بلا معجزةٍ وتصديقِ الصَّادقِ، وخبرٍ نُقِّبَ عنهُ ولمْ يوجدْ عندَ أهلِهِ، وما نُقِلَ آحادًا فيما تَتَوَفَّرُ الدواعي على نقلِهِ.
......................... ......................... ......................... .....................
( مسألةٌ: الخبرُ ) بالنظر لأمور خارجة عنه ( إمَّا مقطوعٌ بكذِبِهِ ) إما ( قطعًا ) أي اتفاقا ( كالمعلومِ خِلافُهُ ) إما ( ضرورةً ) نحو: النقيضان يجتمعان أو يرتفعان ( أو استدلالًا ) كقول الفلسفي: العالم قديم ( وكلُّ خبرٍ ) نقل عنه صلى الله عليه وسلّم ( أوهَمَ باطلًا ) أي أوقع الباطل في الوهم أي الذهن ( ولم يقبلْ تأويلًا فـ ) ـهو إما ( موضوعٌ ) أي مكذوب عليه صلى الله عليه وسلّم لعصمته كما روي أنه تعالى خلق نفسه فهو كذب لإيهامه باطلا وهو حدوثه سبحانه وقد دل العقل القاطع على أنه تعالى منزه عن الحدوث ( أَو نُقِصَ مِنهُ ) من جهة راويه ( ما يزيلُ الوهْمَ ) الحاصل بالنقصان منه كما في خبر الصحيحين عن ابن عمر قال صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلّم صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد. قال ابن عمر: فوهَل الناس في مقالته. أي غلطوا في فهم المراد منها حيث لم يسمعوا لفظة اليوم، ويوافق هذا الخبر في إثبات لفظة اليوم خبر مسلم عن أبي سعيد لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم. وقوله منفوسة أي مولودة احترز به عن الملائكة ( وسببُ وضعِهِ ) أي الخبر ( نسيانٌ ) من الراوي لمرويه فيذكر غيره ظانا أنه مرويه ( أو تنفيرٌ ) كوضع الزنادقة أخبارا تخالف العقول تنفيرا للعقلاء عن شريعته المطهرة ( أو غلَطٌ ) من الراوي بأن يسبق لسانه إلى غير مرويه، أو يضع مكانه ما يظنّ أنه يؤدّي معناه أو يروي ما يظنه حديثا ( أو غيرُها ) كما في وضع بعضهم أخبارا في الترغيب في الطاعة والترهيب عن المعصية ( أو) مقطوع بكذبه ( في الأصحِّ كخبرِ مُدَّعِي الرسالةِ ) أي أنه رسول عن الله إلى الناس ( بلا معجزةٍ ) تبين صدقه ( و ) لا ( تصديقِ الصادقِ ) له أي النبي الذي جاء قبله؛ لأن الرسالة عن الله على خلاف العادة والعادة تقضي بكذب من يدّعي ما يخالفها بلا دليل، وقيل: لا يقطع بكذبه لتجويز العقل صدقه، وظاهر أن محله قبل نزول أنه صلى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، أما بعده فيقطع بكذبه اتفاقا لقيام الدليل القاطع على أنه خاتم النبيين ( وخبرٍ نُقِّبَ ) بضم أوّله وتشديد ثانيه وكسره أي فتش ( عنهُ ) في كتب الحديث ( ولمْ يوجدْ عندَ أهلِهِ ) من الرواة لقضاء العادة بكذب ناقله، وقيل: لا يقطع بكذبه لتجويز العقل صدق ناقله، وهذا بعد استقرار الأخبار، أما قبله كما في عصر الصحابة فلأحدهم أن يروي ما ليس عند غيره كما قاله الإمام الرازي ( وما نُقِلَ آحادًا فيما تَتَوَفَّرُ الدواعي على نقلِهِ ) تواترا كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة، وقيل: لا يقطع بكذبه.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:52 PM
الدرس الثاني والستون- السنة

الخبر المقطوع بصدقه


وأما الخبر المقطوع بصدقه فله أنواع منها:
أولا: الخبر المعلوم وجوده بالضرورة نحو الواحد نصف الاثنين.
ثانيا: الخبر المعلوم وجوده بالاستدلال كقولنا: العالم حادث.
ثالثا: خبر الله تعالى وخبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
رابعا: بعض ما نقل إلينا من خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنا نقطع بصدوره عنه وهذا يحكم به على الإبهام أي أننا كما نقطع بأن بعضا مما نقل عنه كذب نقطع على جهة الإجمال بأن بعضا مما نقل عنه حق كالخبر المتواتر فثبوت البعض في الجملة قطعي.
خامسا: الخبر المتواتر وهو: خبر جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عن محسوس، واحترزنا بقولنا: عن محسوس ما كان عن معقول كخبر الفلاسفة بقدم العالم وكخبر النصارى بإلوهية المسيح تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ثم المتواتر ينقسم إلى: لفظي ومعنوي، فالأول أن يتفق الجمع المذكور في اللفظ والمعنى بأن يتفق الجمع الغفير على لفظ واحد في الرواية وهو عزيز الوجود، والثاني أن يتفقوا في القدر المشترك كجود حاتم المعلوم من كثرة الوقائع المنقولة في ذلك، وإن كانت كل واحدة لا توجب القطع.
ومتى ما حصل العلم في النفوس بمضمون خبر ما فذلك علامة على اجتماع شرائط التواتر فيه.
ومن مسائل المتواتر ما يلي:
1- الأصح أنه ليس للمتواتر عدد معين. وقال بعضهم أقله أربعة كشهود الزنا، وقال آخرون: أقله خمسة.
2- لا يشترط في المتواتر إسلام رواته ولا عدالتهم أو أن يكونوا من بلدان متفرقة؛ لأن الكثرة الكثيرة مانعة من احتمال التواطؤ على الكذب.
3- أنه يفيد العلم الضروري أي الذي تضطر النفوس إليه ولا تستطيع النفس دفعه.
4- إذا أخبر رواة المتواتر عن أمر عاينوه بأنفسهم فذلك كاف لحصول العلم بخبرهم. وإن أخبروا عن عيان غيرهم- أي أخبروا عمن عاين الحدث- فيشترط أن يكون المعاينون ومن نقل عنهم في كل الطبقات كثرة يمتنع تواطؤهم على الكذب، فإن لم يكونوا كذلك ولو في طبقة واحدة فليس خبرهم متواترا.
5- تارة يحصل العلم بالمتواتر بسبب الكثرة الكثيرة فمثل هذا مما يشترك الناس في حصول العلم به كخبر نقله 1000 شخص، وتارة يحصل بأن ينضم إلى أقل المتواتر من القرائن ما تجعل الناظر يقطع به فإذا قلنا إن أقل المتواتر خمسة مثلا وانضاف إلى قلة رواته قرائن عديدة كعدالتهم وشدة تدينهم وتفرق بلدانهم وانعدام المصلحة بالكذب فهذا من المتواتر وهذا لا يشترك كل الناس بالعلم به لأنه موقوف على العلم بتلك القرائن وهي قد تقوم عند شخص دون آخر، ولهذا كان من الحديث ما يقطع أهل الحديث بتواتره ويظن غيره من أهل الكلام أنه لا يفيد العلم.


( شرح النص )

وإمَّا بصِدْقِهِ كخبرِ الصَّادِقِ، وبعضِ المنسوبِ للنَّبيِّ، والمتواترِ وهو: خبرُ جمعٍ يمتنعُ تواطُؤُهمْ على الكذبِ عنْ محسوسٍ، وحصولُ العلمِ آيةُ اجتماعِ شرائِطِهِ، ولا تكفي الأربعةُ، والأصحُّ أَنَّ ما زادَ عليها صالحٌ مِنْ غيرِ ضبطٍ وأنَّهُ لا يُشترطُ فيهِ إسلامٌ ولا عدمُ احتواءِ بلدٍ، وأَنَّ العلمَ فيهِ ضروريٌ، ثُمَّ إنْ أَخبروا عن محسوسٍ لهمْ فذاكَ، وإلا كفى ذلكَ، وأَنَّ عِلْمَهُ لكثرةِ العددِ مُتَّفِقٌ، وللقرائنِ قدْ يختلِفُ.
......................... ......................... ......................... ......................... ...
( وإمَّا ) مقطوع ( بصِدْقِهِ كخبرِ الصَّادِقِ ) أي الله تعالى لتنزهه عن الكذب ورسوله لعصمته عنه ( وبعضِ المنسوبِ للنَّبيِّ ) صلى الله عليه وسلّم وإن لم نعلم عينه أي نحكم بصدق بعض لا بعينه ( والمتواترِ ) معنى أو لفظا ( وهو ) أي المتواتر ( خبرُ جمعٍ يمتنعُ ) عادة ( تواطُؤُهمْ ) أي توافقهم ( على الكذبِ عنْ محسوسٍ ) لا عن معقول لجواز الغلط فيه كخبر الفلاسفة بقدم العالم، فإن اتفق الجمع المذكور في اللفظ، والمعنى فهو لفظي، وإن اختلفوا فيهما مع وجود معنى كلي فهو معنوي، كما لو أخبر واحد عن حاتم بأنه أعطى دينارا وآخر بأنه أعطى فرسا وآخر بأنه أعطى بعيرا وهكذا. فقد اتفقوا على معنى كلي وهو الإعطاء، وقول: عن محسوس متعلق بخبر ( وحصولُ العلمِ ) بمضمون خبر ( آيةُ ) أي علامة ( اجتماعِ شرائِطِهِ ) أي المتواتر في ذلك الخبر. أي الأمور المحققة له، وهي كما يؤخذ من تعريفه: كونه خبر جمع، وكونهم بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب، وكونه عن محسوس ( ولا تكفي الأربعةُ ) في عدد الجمع المذكور لاحتياجهم إلى التزكية فيما لو شهدوا بالزنا فلا يفيد قولهم العلم فإن شهود الزنا لا تقبل شهادتهم إذا لم يكونوا عدولا ( والأصحُّ أَنَّ ما زادَ عليها ) أي على الأربعة ( صالحٌ ) لأن يكفي في جمع المتواتر ( مِنْ غيرِ ضبطٍ ) أي حصر بعدد معين فأقل عدده خمسة. كذا قال وقيل: عشرة، وقيل غير ذلك ( و ) الأصح ( أنَّهُ ) أي المتواتر ( لا يُشترطُ فيهِ إسلامٌ ) فى رواته ولاعدالتهم ولا اختلاف أنسابهم كما فهما بالأولى من عدم اشتراط الإسلام ( ولا عدمُ احتواءِ بلدٍ ) أي واحد عليهم فيجوز أن يكونوا كفارا وفسقة و أقارب وأن يحويهم بلد، وقيل: لا يجوز ذلك لجواز تواطئهم على الكذب فلا يفيد خبرهم العلم، قلنا: الكثرة مانعة من التواطؤ على الكذب ( و ) الأصح ( أَنَّ العلمَ فيهِ ) أي في المتواتر ( ضروريٌ ) أي يحصل عند سماعه من غير احتياج إلى نظر لحصوله لمن لا يتأتى منه النظر كالبله والصبيان، وقيل: نظري ( ثُمَّ إنْ أَخبروا ) أي أهل الخبر المتواتر كلهم ( عن محسوسٍ لهمْ ) بأن كانوا طبقة واحدة ( فذاكَ ) أي إخبارهم عن محسوس لهم واضح في حصول التواتر ( وإلا ) أي وإن لم يخبروا كلهم عن محسوس لهم بأن كانوا طبقات فلم يخبر عن محسوس إلا الطبقة الأولى منهم ( كفى ) في حصول التواتر ( ذلكَ ) أي إخبار الأولى عن محسوس لها مع كون كل طبقة من غيرها جمعا يؤمن تواطؤهم على الكذب كما علم مما مر من شروط تؤخذ من التعريف، بخلاف ما لو لم يكونوا كذلك فلا يفيد خبرهم التواتر، وبهذا بان أن المتواتر في الطبقة الأولى قد يكون آحادا فيما بعدها كما في القراءات الشاذة فإنها قد تكون متواترة في طبقة الصحابة ثم تصير آحادا في ما بعدها من الطبقات ( و) الأصح ( أَنَّ عِلْمَهُ ) أي المتواتر أي العلم الحاصل منه ( لكثرةِ العددِ ) في راويه ( مُتَّفِقٌ ) للسامعين له فيجب حصوله لكل منهم ( وللقرائنِ ) الزائدة على أقل العدد الصالح له ( قدْ يختلِفُ ) فيحصل لزيد دون غيره من السامعين؛ لأن القرائن قد تقوم عند شخص دون آخر، أما الخبر المفيد للعلم بالقرائن المنفصلة عنه فليس بمتواتر، وقيل: يجب حصول العلم من المتواتر مطلقا أي لكثرة العدد أو للقرائن للجميع على السواء، وقيل: لا يجب ذلك مطلقا فلا يشترط في المتواتر أن يحصل العلم به للجميع لا عند كثرة العدد ولا عند وجود القرائن فقد يحصل للبعض دون البعض الآخر.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:53 PM
الدرس الثالث والستون- السنة

ما اختلف في كونه من المقطوع بصدقه


أولا: إجماع الأمة على وفق خبر آحاد ما لا يدل على كونه قطعي الصدور، بمعنى أن الخبر المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أجمعت الأمة على ما تضمنه من حكم، فإنه ليس بالضرورة يكون هذا دليلا على قطعية صدور ذلك الخبر عنه صلى الله عليه وسلم لجواز أن يكون مستند الإجماع نص آخر. وقيل: يدل على صدقه لأن الظاهر أن المجمعين استندوا عليه.
ثانيا: بقاء خبر الآحاد الذي تتوفر الدواعي على إبطاله لا يدل على كونه قطعي الصدور.
مثاله: ما رواه الشيخان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبي. وقد احتج الزيدية على أنه قطعي الصدور بما يلي:
إن هذا الخبر قد سمعه بنو أمية فلم يبطلوه مع ما في نفوسهم من علي فلو أمكنهم أن يبطلوه لفعلوا فدل على أن هذا الحديث كان معلوما عند الناس ولا سبيل لهم لإبطاله، فالحال إنه وإن وصل إلينا آحادا فهو دليل على قطعي الصدور.
والجواب هو: أن هذا ليس بدليل على قطعيته بل هو دليل على ظنهم صدقه أي أنهم ظنوا صدقه فلم يردوه، فالاتفاق على القبول دليل على ظن ثبوته وليس على قطعيته، ثم على أي أساس تم افتراض أنهم كانوا يريدون التلاعب بالنصوص فالحق أن هذا بمجرده لا يدل على أن الخبر قطعي الصدور.
والحديث المذكور ورد عندما تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم للخروج في إحدى الغزوات فخرج معه أصحابه وترك عليا على المدينة فقال أتجعلني بمنزلة النساء والصبيان. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
ثالثا: افتراق العلماء بين الاحتجاج بخبر وبين تأويله لا يدل على قطعية صدوره. فإن اتفاقهم هذا وعدم ذهاب أحد منهم إلى إبطاله لا يدل على أكثر من أنهم ظنوا صحة الخبر- كما في المسألة التي قبلها- ولا يدل على قطعيته فإننا مأمورون باتباع المظنون كالمعلوم. وقيل: يفيد العلم.
رابعا: إذا أخبر شخص عن أمر محسوس بحضور قوم بالغين حد التواتر ولا حامل لهم عن السكوت عن تكذيبه- كخوف أو طمع- فلم يكذبوه فخبره صادق قطعا. وقيل: لا يلزم صدقه.
خامسا: إذا أخبر شخص بخبر والنبي صلى الله عليه وسلم يسمعه فلم ينكر عليه فهذا دليل على صدق هذا الخبر قطعا سواء أخبر بأمر دنيوي أو أخروي. وقيل: لا يلزم صدقه.


( شرح النص )

وأنَّ الإجماعَ على وَفْقِ خبرٍ، وبقاءَ خبرٍ تتوفرُ الدواعي على إبطالِهِ، وافتراقَ العلماءِ بينَ مؤولٍ ومحتجٍّ لا يدلُّ على صدقِهِ، وأنَّ المخبِرَ بحضرةِ عددِ التواترِ ولم يكذبوهُ ولا حاملَ على سكوتِهم، أَو بمسمَعٍ من النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ولا حامِلَ على سكوتِه صادقٌ.
......................... ......................... ......................... ......................
( و ) الأصح ( أنَّ الإجماعَ على وَفْقِ خبرٍ ) لا يدل على صدقه في نفس الأمر مطلقا لاحتمال أن يكون للإجماع مستند آخر، وقيل: يدل عليه مطلقا لأن الظاهر استناد المجمعين إليه لعدم ظهور مستند غيره، وقيل: يدل إن تلقوه بالقبول بأن تعرضوا للاستناد إليه بأن قالوا إن دليلنا على إجماعنا هو هذا الخبر، وإلا فلا يدل لجواز استنادهم إلى غيره ( و ) الأصح أن ( بقاءَ خبرٍ تتوفرُ الدواعي على إبطالِهِ ) بأن لم يبطله ذوو الدواعي مع سماعهم له آحادا لا يدل على صدقه، وقيل: يدل عليه للاتفاق على قبوله حينئذ. قلنا: الاتفاق على قبوله إنما يدل على ظنهم صدقه، ولا يلزم منه صدقه في نفس الأمر مثاله قوله صلى الله عليه وسلّم لعلي رضي الله عنه: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. رواه الشيخان. فإن دواعي بني أمية وقد سمعوه متوفرة على إبطاله لدلالته على خلافة علي رضي الله عنه كما قيل كخلافة هارون عن موسى بقوله اخلفني في قومي وإن مات قبله، ولم يبطلوه وأجوبة ذلك مذكورة في كتب أصول الدين ( و ) الأصح أن ( افتراقَ العلماءِ ) في خبر ( بينَ مؤولٍ ) له ( ومحتجٍّ ) به ( لا يدلُّ على صدقِهِ ) وقيل: يدلّ عليه للاتفاق على قبوله حينئذ. قلنا جوابه ما مر آنفا وهو أنه يدل على ظنهم صدقه ( و ) الأصح ( أنَّ المخبِرَ ) عن محسوس ( بحضرةِ عددِ التواترِ ولم يكذبوهُ ولا حاملَ ) لهم ( على سكوتِهم ) عن تكذيبه مِن نحو خوف أو طمع في شيء منه أو عدمِ علمٍ بخبره ككونه غريبا لا يقف عليه إلا الأفراد من الناس صادقٌ فيما أخبر به، لأن سكوتهم تصديق له عادة فيكون الخبر صدقا، وقيل: لا إذ لا يلزم من سكوتهم تصديقه لجواز سكوتهم عن تكذيبه لا لشيء ( أو ) أي والأصحّ أن المخبر عن محسوس ( بمسمَعٍ من النبي صلى الله عليه وسلّم ) أي بمكان يسمعه منه النبيّ ( ولا حامِلَ ) له ( على سكوتِه ) عن تكذيبه ( صادقٌ ) فيما أخبر به دينيا كان أو دنيويا، لأن النبي لا يقر أحدا على كذب، وقيل: لا إذ لا يدل سكوته على صدق المخبر أما في الدين، فلجواز أن يكون النبي بيّنه من قبل أو أخّر بيانه بما يخالف ما أخبر به المخبر، وأما في الدنيوي، فلجواز أن لا يكون النبي يعلم حاله كما في إلقاح النخل، روى مسلم عن أنس أنه صلى الله عليه وسلّم مرّ بقوم يلقحون فقال: لو لم تفعلوا لصلح. قال فخرج شيصا- أي رديئا- فمرّ بهم فقال: ما لنخلكم ؟ قالوا قلت كذا وكذا. قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم. أما إذا وجد حامل على ما ذكر كأن كان المخبر ممن يعاند ولا ينفع فيه الإنكار فلا يكون صادقا قطعا.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:54 PM
الدرس الرابع والستون- السنة

الخبر المظنون صدقه


أولا: الخبر المظنون صدقه هو خبر الواحد وهو: ما لم ينتهِ إلى حد التواتر. سواء كان راويه واحدا أم أكثر.
ومن خبر الواحد ما يعرف بالمستفيض والمشهور وهو: الشائع بين الناس وقد صدر عن أصل. توضيحه:
إن الأصل المذكور هو السند فإذا ذاع الحديث وشاع بين الناس وكان قد صدر عن سند ينحصر من حيث العدد في اثنين أو أكثر فهو المستفيض وإن كان شائعا لا عن أصل فإنه مقطوع بكذبه.
وفي المستفيض أقوال:
1- من يجعله قسما من الآحاد وعليه فالقسمة ثنائية فالخبر إما آحاد وإما متواتر، ومن الآحاد المستفيض وغيره.
2- إن القسمة ثلاثية آحاد ومستفيض ومتواتر، والمستفيض هو: ما نقله عدد كثير يربو على الآحاد وينحط عن عدد التواتر. فالمستفيض رتبة متوسطة بين المتواتر والآحاد.
3- إنه والمتواتر بمعنى واحد.
وفي أقل عدد رواة المستفيض أقوال:
1- اثنان وهو قول الفقهاء.
2- ثلاثة وهو قول المحدثين.
3- أربعة وهو قول الأصوليين.
ثانيا: خبر الواحد العدل يفيد الظن الذي يوجب العمل، وقد يفيد العلم بقرائن تنضم إليه.
كما لو أخبر رجل بموت ولده المشرف على الموت مع قرينة البكاء واحضار الكفن والنعش.
كذا مثلوا والحقيقة إن احتمال تزوير الحقيقة في مثل ذلك الموقف لا يزال قائما كما يحصل في عصرنا.
ثالثا: في وجوب العمل بخبر الواحد تفصيل:
1- فيجب العمل به في الفتوى والشهادة إجماعا.
أي يجب العمل إجماعا بما يفتي به المفتي وكذا الحاكم ولو كان واحدا وكذا ما يشهد به الشهود ولو كانوا آحادا.
2- ويجب العمل به في باقي الأمور الدينية والدنيوية في الأصح كالإخبار بدخول وقت الصلاة، وكإخبار طبيب بمضرة شيء أو نفعه.
ولو كان خبر الواحد يعارضه القياس فإنه يعمل بالخبر ولا يلتفت للقياس. وقيل: بالقياس إن لم يكن راوي الخبر فقيها.
وهنا مسألة: هل وجوب العمل بمقتضى خبر الواحد ثبت بالدليل السمعي أو بالدليل العقلي؟
فقيل: سمعا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث أفرادًا إلى القبائل والملوك، فلو لم يجب العمل بأخبارهم لم يكن واجبا على المبعوث إليهم أن يمتثلوا. وقيل: هو واجب سمعا وعقلا، وهو أنه لو لم يجب العمل به لتعطلت وقائع الأحكام المروية بالآحاد ولا سبيل إلى ذلك.


( شرح النص )

وأَمَّا مظنونُ الصِّدقِ فخبرُ الواحدِ وهو: ما لم ينتهِ إلى التواترِ، ومنهُ المستفيضُ وهو: الشائعُ عن أصلٍ. وقد يسمى مشهورًا، وأقلُّهُ اثنانِ، وقيلَ: ما زادَ على ثلاثةٍ.
مسألةٌ: الأَصحُّ أَنَّ خبرَ الواحِدِ يُفيدُ العلمَ بقرينةٍ ويجبُ العملُ بهِ في الفتوى والشهادةِ إجماعًا، وفي باقي الأمورِ الدينيّةِ والدنيويةِ في الأصحِّ سمعًا، وقيلَ: وعقلًا.
......................... ......................... ......................... ........................
( وأَمَّا مظنونُ الصِّدقِ فخبرُ الواحدِ وهو: ما لم ينتهِ إلى التواترِ ) سواء أكان راويه واحدا أم أكثر أفاد العلم بالقرائن المنفصلة أو لا ( ومنهُ ) أي خبر الواحد ( المستفيضُ وهو: الشائعُ ) بين الناس ( عن أصلٍ ) بخلاف الشائع لا عن أصل فإنه مقطوع بكذبه ( وقد يسمى ) المستفيض ( مشهورًا ) فهما بمعنى واحد، وقيل: المشهور بمعنى المتواتر، وقيل: قسم ثالث غير المتواتر والآحاد ( وأقلُّهُ ) أي المستفيض أي أقلّ عدد راويه ( اثنانِ ) وهو قول الفقهاء ( وقيلَ: ما زادَ على ثلاثةٍ ) وهو قول الأصوليين، وقيل: ثلاثة وهو قول المحدثين. ( مسألةٌ: الأَصحُّ أَنَّ خبرَ الواحِدِ يُفيدُ العلمَ بقرينةٍ ) كما في إخبار رجل بموت ولده المشرف على الموت مع قرينة البكاء وإحضار الكفن والنعش، وقيل: لا يفيد العلم مطلقا أي مع قرينة أو لا، وعليه الأكثر من الأصوليين ( ويجبُ العملُ بهِ ) أي بخبر الواحد ( في الفتوى والشهادةِ ) أي ما يفتي به المفتي ويشهد به الشاهد بشرطه، وفي معنى الفتوى الحكم ( إجماعًا وفي باقي الأمورِ الدينيةِ والدنيويةِ في الأصحِّ ) وإن عارضه قياس كالإخبار بدخول وقت الصلاة أو بتنجس الماء وكإخبار طبيب أو غيره بمضرة شيء أو نفعه، وقيل: يمتنع العمل به مطلقا لأنه إنما يفيد الظن، وقيل: إن لم يعارضه قياس ولم يكن راويه فقيها، وإذا قلنا بأنه يجب العمل به فيجب ( سمعًا ) لأنه صلى الله عليه وسلّم كان يبعث الآحاد إلى القبائل والنواحي لتبليغ الأحكام، فلولا أنه يجب العمل بخبرهم لم يكن لبعثهم فائدة ( قيل: وعقلًا ) أيضا، وهو أنه لو لم يجب العمل به لتعطلت وقائع الأحكام المروية بالآحاد ولا سبيل إلى القول بذلك.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:55 PM
الدرس الخامس والستون- السنة

الخبر المظنون صدقه


أولا: إذا روى عدل عن عدل حديثا فكذّب الأصل الفرع، أي كذب المرويُّ عنه الراوي، كأن قال: ما رويتُ له هذا، وكان الراوي جازما كأن قال: رويت عنه هذا، فالمختارُ أن ذلك لا يسقط الخبرَ المروي؛ لاحتمال نسيان الشيخ، وكذلك لا تسقط عدالة هذا ولا ذاك. ومن أجل عدم سقوط عدالتهما لا ترد شهادتهما لو اجتمعا في شهادة على شيء. وقيل: يرد الخبر.
ثانيا: إذا روى العدل حديثا، وزاد فيه زيادة لم يروها غيره من العدول الذين شاركوه في رواية الحديث، فهذه المسألة تعرف بزيادة الثقة، مثالها: ما ورد في صحيح مسلم ( جُعلِت لنا الأرض مسجدا وطهورا ) رواه هكذا أكثر الرواة. ورواه مسلم أيضا عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة عنه صلى الله عليه وسلم: (جعلت لنا الأرض مسجدا وتربتها طهورا ) فزاد أبو مالك وتربتها.
هذه صورة المسألة وفيها خلاف طويل وخلاصة ما قرره المصنف هو:
1- إن المجلس الذي سُمعت فيه هذه الرواية إما أن يعلم اتحاده- أي كان هنالك مجلس واحد بأن لم يحدث المروي عنه بذلك الحديث إلا مرة واحدة- أو يعلم تعدده، أو يجهل الحال بأن لم يعلم اتحاد المجلس ولا تعدده، فإن علم تعدد المجلس قبلت الزيادة؛ لاحتمال أن النبي صلى الله وعليه وسلم قالها في مجلس وسكت عنها في مجلس. وكذا تقبل إذا جهل الحال؛ لأن الغالب في مثل ذلك هو التعدد.
2- إن علم اتحاد المجلس فإن كان الذين سكتوا عن الزيادة ولم يرووها عددا لا يجوز عليهم أن يغفلوا عما زاده الواحد، أو كانت الزيادة يغفل مثلهم عنها ولكنها كانت مما تتوفر دواعي من سمعها على نقلها- ككونها تعلقت بأمر غريب عادة- فلا تقبل الزيادة في تلك الحال.
وإن لم يكن كذلك قبلت الزيادة بثلاثة شروط:
أ- أن لا يكون الساكت عن الزيادة أضبط ممن رواها. فإن كان أضبط تعارض الخبران فيصار إلى الترجيح بينهما.
ب- أن لا يصرح الساكت عن الزيادة بنفيها بأن قال: ما سمعت هذه الزيادة، فإنه والحال ذلك يتعارض الخبران فيصار إلى الترجيح بينهما.
ج- أن لا تكون الزيادة تغير الإعراب والمعنى. فإن غيرت حصل التعارض فيصار للترجيح.
مثال ما غيرت الزيادة: حديث الصحيحين: ( فرضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا مِن تمر.. ) فلو رُوي ( فرض رسول... نصفَ صاعٍ ) فلفظة نصف غيرت إعراب الصاع من النصب إلى الجر.
ثالثا: ما ذكرناه من زيادة الثقة صورته أن ينفرد راو عن عدد بزيادة، فماذا يكون الحال لو انفرد راو عن راو واحد بزيادة ؟
الجواب: تقبل الزيادة وإن علم اتحاد المجلس لأن مع راوي الزيادة زيادة علم.
رابعا: الراوي الواحد إذا روى الحديث تارة بدون زيادة، وتارة أخرى مع الزيادة قبلت الزيادة.
خامسا: يجوز حذف بعض الخبر عند أكثر العلماء، إلا إذا تعلّق بالمحذوف البعض الآخر، فهذا لا يجوز لإخلاله بالمعنى.
مثال ما لا يجوز حذفه ما ورد في حديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها. فلا يجوز حذف ( حتى يبدو صلاحها ).
ومثال ما يجوز حذفه ما في أبي داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر: هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته. فيجوز حذف ( الحل ميتته ) لأنه لا تعلق لأحد الحكمين بالآخر.


( شرح النص )

مسألةٌ: المختارُ أنَّ تكذيبَ الأصلِ الفرعَ وهوَ جازِمٌ لا يُسقِطُ مَرْوِيَّهُ لأنَّهما لو اجتمعا في شهادةٍ لم تُرَدَّ.
وزيادةُ العدلِ مقبولةٌ إنْ لمْ يُعْلَمْ اتحادُ المجلِسِ وإلا فالمختارُ المنعُ إنْ كانَ غيرُهُ لا يَغْفُلُ مثلُهم عن مثلِها عادةً أو كانتْ الدواعي تتوفرُ على نقلِها فإنْ كانَ الساكِتُ أضبطَ أو صرَّحَ بنفيها على وجهٍ يقبلُ تعارضا.
والأصحُّ أنهُ لو رواها مرة وتركَ أخرى، أَو انفردَ واحدٌ عن واحدٍ قُبِلتْ، وأنَّهُ إنْ غيرتْ إعرابَ الباقي تعارضَا، وأنَّ حذفَ بعضِ الخبرِ جائزٌ إلا أنْ يتعلَّقَ به الباقي.
......................... ......................... ......................... ..................
( مسألةٌ: المختارُ أنَّ تكذيبَ الأصلِ الفرعَ ) فيما رواه عنه ( وهوَ جازِمٌ ) به كأن قال: رويت هذا عنه، فقال: ما رويته له (لا يُسقِطُ مَرْوِيَّهُ ) عن القبول وقيل: يسقطه؛ لأن أحدهما كاذب ويحتمل أن يكون هو الفرع فلا يثبت مرويه، قلنا: يحتمل نسيان الأصل له بعد روايته للفرع فلا يكون واحد منهما بتكذيب الآخر له مجروحا ( لأنَّهما لو اجتمعا في شهادةٍ لم تردَّ ) دليل على ترجيحه عدم سقوط مرويه ( وزيادةُ العدلِ ) فيما رواه على غيره من العدول ( مقبولةٌ إنْ لمْ يُعْلَمْ اتحادُ المجلِسِ ) بأن علم تعدده لجواز أن يكون النبي ذكرها في مجلس وسكت عنها في آخر، أو لم يعلم تعدده ولا اتحاده، لأن الغالب في مثل ذلك التعدد ( وإلا ) أي وإن علم اتحاده (فالمختارُ المنعُ ) أي منع قبولها ( إنْ كانَ غيرُه ) أي غير من زاد ( لا يَغْفُلُ مثلُهم عن مثلِها عادةً أو كانتْ الدواعي تتوفرُ على نقلِها ) وإلا قبلت، وقيل: لا تقبل مطلقا لجواز خطأ من زاد فيها، وقيل: تقبل مطلقا، وهو ما اشتهر عن الشافعي، ونقل عن جمهور الفقهاء والمحدثين لجواز غفلة من لم يزد عنها ( فإنْ كانَ الساكِتُ ) عنها فيما إذا علم اتحاد المجلس ( أضبطَ ) ممن ذكرها ( أو صرّحَ بنفيها على وجهٍ يقبلُ ) كأن قال: ما سمعتها ( تعارضا ) أي خبر الزيادة وخبر عدمها، بخلاف ما إذا نفاها على وجه لا يقبل بأن مَحَّض النفي فقال: لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلّم. فإنه لايقبل لأنه لم يصرح بنفي السماع فلعله قال ذلك بناء على ظنه هو واجتهاده أي أن نفي الزيادة كان بناء على ما بدا له، بخلاف نفي السماع المتقدم فإنه يقطع بنفي السماع لها ( والأصحُّ أنهُ لو رواها ) الراوي ( مرة وتركَـ ) ـها ( أخرى أوانفردَ ) بها ( واحدٌ عن واحدٍ ) فيما روياه ( قُبِلتْ ) وإن علم اتحاد المجلس لجواز السهو في الترك في المسألة الأولى وهي رواها مرة وتركها أخرى، ولأن مع راويها زيادة علم في المسألة الثانية وهي انفراد واحد عن واحد، وقيل: لا يقبل لجواز الخطأ فيها في الأولى، ولمخالفة رفيقه في الثانية ( و ) الأصح ( أنَّهُ إنْ غيرتْ ) زيادة العدل ( إعرابَ الباقي تعارضَا ) أي الخبران لاختلاف المعنى حينئذ كما لو روي في خبر الصحيحين: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم زكاة الفطر صاعا من تمر. نصف صاع، وقيل: تقبل الزيادة كما إذا لم يتغير الإعراب ( و ) الأصح ( أنَّ حذفَ بعضِ الخبرِ جائزٌ إلا أنْ يتعلَّقَ به الباقي ) فلا يجوز حذفه اتفاقا لإخلاله بالمعنى المقصود كأن يكون غاية أو مستثنى بخلاف ما لا يتعلق به الباقي فيجوز حذفه، لأنه كخبر مستقلّ، وقيل: لا يجوز لاحتمال أن يكون للضمّ فائدة تفوت بالتفريق مثاله حديث السنن في البحر: هو الطهور ماؤه الحل ميتته. إذ قوله الحل ميتته لا تعلق له بما قبله.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:56 PM
الدرس السادس والستون- السنة

زيادة الثقة في السند - حمل الصحابي الخبر على أحد معنييه


أولا: لو روى جماعة حديثا مرسلا بأن لم يذكر الصحابي ورواه واحد مسندا، أو رواه جماعة موقوفا ورفعه واحد فحكم هذه الزيادة كحكم الزيادة في المتن التي سبقت.
فيقال: إن علم تعدد مجلس السماع من الشيخ قُبِلَ الإسناد أو الرفع؛ لجواز أن يفعل الشيخ ذلك مرة دون أخرى، وكذا إن لم يعلم تعدد المجلس ولا اتحاده لأن الغالب فى مثل ذلك التعدد.
وإن اتحد ففيه تفصيل فيقال: إن كان مثل المرسلين أو الواقفين لايغفل عادة عن مثل الإسناد أو الرفع لم يقبل، وإلا قُبِلَ ما لم يكونوا أضبط، أو صرحوا بنفي الإسناد أو الرفع على وجه يقبل كأن قالوا: ما سمعنا الشيخ أسند الحديث أو رفعه فإنه يتعارض الصنيعان فيصار إلى الترجيح.
ثانيا: إذا روى الصحابي حديثا يحتمل معنيين فأكثر فحمله هو على أحدهما فهل يؤخذ بحمله لتعيين معنى الحديث ؟
فيه تفصيل كالتالي:
1- أن يكون المعنيان متنافيين كالقرء له معنيان متنافيان وهما: الطهر والحيض، ثم لو حمله الصحابي الذي روى حديث القرء على أحدهما فحينئذ يحمل الخبر عليه؛ لأن الظاهر أنه لا يحمله عليه إلا لقرينة تدل عليه لمشاهدته صاحب الشريعة.
2- أن يكون المعنيان غير متنافيين، ثم حمله الصحابي على أحد معنييه فحينئذ يكون كحمل المشترك على معنييه معا- وقد تقدمت المسألة في مباحث الكتاب- فنحمل الخبر على المعنيين معا، وإنما لم نأخذ بحمل الصحابي لأنه لا حصر في كلامه وإنما هو أخذ بمصداق من مصاديق ذلك المشترك فيحتمل أنه يقول بالآخر أيضا واقتصر على الأول لا لغرض الحصر بل للتمثيل، وذلك كلفظ العين فلو حمله على الجارية لم يمنع من حمله على الباصرة أيضا حملا للفظ المشترك على كلا معنييه.
3- أن يكون المعنيان غير متساويين بل أحدهما هو الظاهر كالحقيقة والمجاز، ثم حمله الصحابي الذي روى الحديث الذي فيه اللفظ الظاهر في أحد المعنيين على غير المعنى الظاهر كأن حمله على المجاز أو حمل الأمر على الندب وظاهره الوجوب فأكثر العلماء يحملونه على الظاهر ولا يأخذون بما حمله الصحابي عملا بظاهر الحديث ما لم تكن هنالك قرينة.


( شرح النص )

ولَوْ أَسْنَدَ وأَرسَلُوا أو رفعَ ووقَفُوا فكالزيادةِ، وإذا حَمَلَ صحابيٌّ مَرْوِيَّهُ على أَحَدِ مَحْمَلَيهِ حُمِلَ عليهِ إِنْ تنافيا، وإلا فكالمشتركِ في حملِهِ على معنييهِ، فإنْ حَمَلَهُ على غيرِ ظاهرِهِ حُمِلَ على ظاهِرِهِ في الأَصحِّ.
......................... ......................... ......................... ..................
( ولَوْ أَسْنَدَ وأَرسَلُوا ) أي أسند الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم واحد من رواته وأرسله الباقون بأن لم يذكروا الصحابي ( أو رفعَ ووقَفُوا ) أي رفع الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم واحد من رواته ووقفه الباقون على الصحابي ( فكالزيادةِ ) أي فالإسناد في المسألة الأولى والرفع في المسألة الثانية كالزيادة في المتن فيما مرّ من التفصيل- وكذا الخلاف- فيقال: إن علم تعدد مجلس السماع من الشيخ قُبِلَ الإسناد أو الرفع؛ لجواز أن يفعل الشيخ ذلك مرة دون أخرى، وكذا إن لم يعلم تعدد المجلس ولا اتحاده لأن الغالب فى مثل ذلك التعدد، وإن علم اتحاد المجلس ففيه تفصيل فيقال: إن كان مثل المرسلين أو الواقفين لايغفل عادة عن مثل الإسناد أو الرفع لم يقبل، وإلا قُبِلَ ما لم يكونوا أضبط، أو صرحوا بنفي الإسناد أو الرفع على وجه يقبل كأن قالوا: ما سمعنا الشيخ أسند الحديث أو رفعه فإنه يتعارض الصنيعان فيصار إلى الترجيح، ومعلوم أن التفصيل بين ما تتوفر الدواعي على نقله ولا تتوفر لا يمكن مجيئه هنا، كما أن التفصيل بين ما يغير الإعراب أو لا يغيره لا يمكن مجيئه هنا أيضا، ويعتبر تعدد مجلس السماع من الشيخ هنا كتعدد مجلس السماع من النبي صلى الله عليه وسلم ثَمَّ ( وإذا حَمَلَ صحابيٌّ مَرْوِيَّهُ على أَحَدِ مَحْمَلَيهِ حُمِلَ عليهِ إِنْ تنافيا ) كالقرء يحمله على الطهر أو الحيض، لأن الظاهر أنه إنما حمله عليه لقرينة، وتوقف الشيخ أبو إسحاق الشيرازي فقال في اللمع: فيه نظر أي لاحتمال أن يكون حمله لموافقة رأيه لا لقرينة. وخرج بالصحابي غيره، وقيل: مثله التابعي، والفرق على الأصح أن ظهور القرينة للصحابي أقرب (وإلا ) أي وإن لم يتنافيا ( فكالمشتركِ في حملِهِ على معنييهِ ) أي فحكمه حكم المشترك المتقدم وقد تقدم أن الأصح أنه يحمل على كلا المعنيين فحينئذ يحمل المرويُّ على محمليه معا ولا يختص بحمل الصحابي إلا على القول بمنع حمل المشترك على معنييه فإن قلنا به فحينئذ يحمل عل ما حمله الصحابي ( فإنْ حَمَلَهُ ) أي حمل الصحابي مرويه فيما لو تنافى المحملان ( على غيرِ ظاهرِهِ ) كأن حمل اللفظ على معناه المجازى دون الحقيقي ( حُمِلَ على ظاهِرِهِ في الأَصحِّ ) اعتبارا بالظاهر، وفيه وفي أمثاله قال الشافعي: كيف أترك الحديث بقول من لو عاصرته لحججته، وقيل: يحمل على حمله لأنه لم يفعله إلا لدليل. قلنا: في ظنه وليس لغيره اتباعه فيه؛ لأن المجتهد لا يقلد مجتهدا فإن ذكر دليلاً عمل به، أما إذا لم يتناف المحملان فظاهرٌ حمله على حقيقته ومجازه بناء على الراجح من استعمال اللفظ فيهما.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:57 PM
الدرس السابع والستون- السنة

مَن لا تقبل أو تقبل روايته


أولا: لا تقبل رواية كافر ولو علمنا تحرزه من الكذب؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب؛ ولأنه لا يؤمن كيده للإسلام، وإذا كان خبر الفاسق يرد لفسقه فالكافر من باب أولى.فالإسلام شرط.
إلا أن الكافر إذا أسلم وكان قد سمع شيئا أثناء كفره ثم أداه بعد إسلامه فإنه يقبل منه.
ثانيا: لا تقبل رواية المجنون سواء أطبق جنونه أم تقطّع. فالعقل شرط.
ثالثا: لا تقبل رواية الصبي مميزا كان أو غير مميز؛ لأنه لعدم تكليفه قد يقدم على الكذب؛ فلا يمكن الوثوق بخبره إلا أن الصبي إذا تحمّل شيئا في صباه ثم أداه بعد البلوغ قبل منه؛ إذْ الأصل فيه بعد البلوغ العدالة والضبط وأنه لا يروي إلا ما عقله وحفظه. فالبلوغ شرط.
رابعا: تقبل رواية المبتدع بشروط:
1- أن لا تكون بدعته مكفّرة.
2- أن يكون يحرّم الكذب.
3- أن لا يكون داعيا إلى البدعة. ولم يشترطه بعضهم لأن المدار على الصدق فإذا تحققنا صدقه فلا يضر دعوته لها لا سيما إذا لم يرو ما يقوي بدعته.
خامسا: تقبل رواية مَن ليس فقيها. وقال الحنفية: نقبل روايته إلا فيما خالف القياس، ونوقش بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رُبَّ حامِل فقهٍ ليس بفقيه. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
سادسا: تقبل رواية مَتساهل في غير الحديث، وهو من يروي كلام الناس وينقله وهو غير واثق من ثبوته على عادة أكثر الناس في التساهل، ولكنه غير متساهل في رواية الحديث فلا يروي إلا ما هو واثق فيه فهذا تقبل روايته.
سابعا: تقبل رواية المكثر من الرواية، وإن كانت مخالطته للمحدثين قليلة، لكن بشرط أن يكون تحصيله لما رواه ممكنا في المدة التي خالط فيها المحدثين، وإلا فلا تقبل لظهور كذبه في بعض غير معين منها.


( شرح النص )

مسألةٌ: لايُقْبَلُ مُخْتَلٌ وكافرٌ في الأصحِّ وكذا صبيٌّ في الأصحِّ، والأصحُّ أنَّهُ يقبلُ صبيٌّ تَحَمَّلَ فَبَلَغَ فأَدَّى، ومبتدِعٌ يُحَرِّمُ الكذبَ وليسَ بداعيةٍ ولا يُكفّرُ ببدعتِهِ، ومَن ليسَ فقيهًا وإنْ خالفَ القياسَ، ومتساهِلٌ في غيرِ الحديثِ، ويقبَلُ مُكْثِرٌ وإنْ نَدَرَتْ مخالَطَتُهُ للمحدِّثينِ إنْ أمكنَ تحصيلُ ذلكَ القدرُ في ذلكَ الزمنِ.
......................... ......................... ......................... ..................
( مسألةٌ: لايُقْبَلُ ) في الرواية ( مُخْتَلٌ ) في عقله كمجنون وإن تقطّع جنونه، وكمفيق من جنونه وأثّر في زمن إفاقته أي أنه قد أفاق من الجنون ولكن الجنون السابق قد أثر في عقله وإن لم يصر مجنونا فلا تقبل روايته إذ لا يمكنه التحرز عن الخلل ( و ) لا ( كافرٌ ) وإن علم منه التدين والتحرز عن الكذب، إذ لا وثوق به في الجملة، مع شرف منصب الرواية عن الكافر وهو لا يستحقه ( وكذا صبيٌّ ) يميز ( في الأصحِّ ) إذْ لا وثوقَ بهِ لأنه لعلمه بعدم تكليفه قد لا يحترز عن الكذب، وقيل: يقبل إن علم منه التحرز عنه، أما غير المميز فلا يقبل قطعا كالمجنون ( والأصحُّ أنَّهُ يقبلُ صبيٌّ ) مميز ( تَحَمَّلَ فَبَلَغَ فأَدَّى ) ما تحمله لانتفاء المحذور السابق، وقيل: لا إذ الصغر مظنة عدم الضبط ويستمر المحفوظ بحاله أي أنه قد حفظ حفظا غير دقيق وبقي في ذهنه على هذا الوصف إلى أن بلغ، ولو تحمل كافر فأسلم فأدّى أو فاسق فتاب فأدى قبل ( و ) الأصح أنه يقبل ( مبتدِعٌ يُحَرِّمُ الكذبَ وليسَ بداعيةٍ ولا يُكفّرُ ببدعتِهِ ) لأمنه من الكذب مع تأويله في الابتداع، بخلاف من لا يحرم الكذب أو يكون داعية بأن يدعو الناس إلى بدعته أو يكفر ببدعته كمنكر حدوث العالم والبعث، وعلم الله بالمعدوم وبالجزئيات فلا يقبل واحد من الثلاثة، وقيل: يقبل ممن يحرم الكذب وإن كان داعية لما مر وهو الذي رجحه الأصل، ومراده إذا لم يكفر ببدعته، وقيل: يقبل ممن يحرم الكذب وإن كفر ببدعته، وقيل لا يقبل مطلقا لابتداعه المفسق له ( و ) الأصح أنه يقبل ( مَن ليسَ فقيهًا وإنْ خالفَ القياسَ ) خلافا للحنفية فيما يخالف القياس قالوا لأن مخالفته ترجح احتمال الكذب، قلنا: لا نسلم لأن عدالته تمنعه من الكذب ( و ) الأصح أنه يقبل ( متساهلٌ في غيرِ الحديثِ ) بأن يتساهل في حديث الناس، ويتحرز في الحديث النبوي لأمن الخلل فيه بخلاف المتساهل فيه فيرد، وقيل: لا يقبل المتساهل مطلقا لأن التساهل في غير الحديث النبوي يجرّ إلى التساهل فيه ( ويقبلُ مكثِرٌ ) من الرواية ( وإنْ نَدَرَتْ مخالَطَتُهُ للمحدِّثينِ إنْ أمكنَ تحصيلُ ذلكَ القدرِ ) الكثير الذي رواه من الحديث ( في ذلكَ الزمنِ ) الذي خالطهم فيه فإن لم يمكن لم يقبل في شيء مما رواه لظهور كذبه في بعض لا نعلم عينه.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:57 PM
الدرس الثامن والستون- السنة

العدالة


أولا: شرط الراوي العدالة وهي: ملكةٌ تمنع صاحبها اقتراف الكبائر وصغائر الخسّة والرذائل المباحة.
فالكبائر كالزنا والسرقة وشرب الخمر، والصغائر نوعان: صغائر دالة على خسة صاحبها كسرقة لقمة والتطفيف في الميزان بتمرة، وصغائر غير دالة على الخسة كنظرة إلى أجنبية وكذبة لم يتعلق بها ضرر، فالأولى تسقط العدالة بخلاف الثانية فإنها لا يخلو منها غير معصوم، والرذائل المباحة كالبول في الطريق فإنه مكروه ولكنه رذيلة تؤثر على العدالة.
ثانيا: لا تقبل رواية من لم نتحقق فيه العدالة وهو المجهول، وهو ثلاثة أقسام:
1- مجهول العين.
2- مجهول الظاهر والباطن.
3- مجهول الباطن دون الظاهر.
فالأول: هو مَن عرف اسمه ولم يرو عنه إلا راو واحد ولم ينقل فيه جرح ولا تعديل.
والثاني: هو من عرف اسمه وروى عنه راويان ولم تعرف عدالته ظاهرا ولا باطنا، ومعرفة عدالته الظاهرة تحصل بأن يعلم عدم الفسق منه، ومعرفة عدالته الباطنة تحصل بأقوال المزكين له في كتب الجرح والتعديل، فهو روى عنه اثنان وارتفعت عنه جهالة العين ولكن لم تتحقق عدالته الظاهرة والباطنة. ( الظاهرة بالعلم بعدم الفسق والباطنة بأقوال المزكين ).
والثالث: هو من عرف اسمه وروى عنه راويان فأكثر وعلم عدم فسقه ولكن لم تعلم عدالته الباطنة بأقوال المزكين.
فحديث هؤلاء جميعا من الضعيف المردود، وكذا حديث المبهم وهو من لا يعرف اسمه بأن يقال في السند حدثني رجل، وهذا يقبل حديثه إذا وثقه إمام من أئمة الحديث كالشافعي كأن قال حدثني رجل ثقة أو مَن لا أتهمه.
وكثير من العلماء لايرضى بهذا التوثيق وقالوا فليذكر لنا من هو فقد يكون ثقة عنده هو دون غيره.
رابعا: الأصح قبول رواية مَن أقدم على فعل مفسّق بعذر كجهل أو تأويل. كمَن شرب الخمر جهلا بحرمتها أو شرب النبيذ ظنا منه إباحته متأولا في ذلك.
خامسا: الكبيرة هي: ما توعد الشارع على فعله بخصوصه بغضب أو لعن ونحوه.
والكبائر كثيرة أفردت بالتصنيف ولنذكر منها ما يلي:
القتل، والزنا، واللواط، وشرب الخمر، وشرب المسكر غير الخمر كالنبيذ، والسرقة لما قيمته ربع مثقال من الذهب، أما سرقة دون ذلك فصغيرة، والغصب للمال، والسرقة تحصل خفية والغصب جهارا، والقذف بزنا أو لواط، والنميمة وهي نقل كلام بعض الناس إلى بعض على وجه الإفساد بينهم، وشهادة الزور، واليمين الفاجرة وهي اليمين الكاذبة التي يقتطع بها حق غيره، وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم بغير حق، والخيانة بوزن أو كيل وهم المطففون في الميزان ومن الخيانة الغلول في الغنيمة، وتقديم الصلاةٍ على وقتها، وتأخيرها عنه بلا عذر، والكذب عمدا على نبيٍّ، وضرب المسلم بلا حق، وسب أحد الصحابة، وكتم الشهادة، والرشوة وهي: أن يبذل مالا ليحق باطلا أو يبطل حقا، والدياثة: وهي الرضى بفعل أهله الفاحشة ودخول الرجال عليهم، والقيادة والقواد: مَن يجمع بين الرجال والنساء في الحرام أي من غير أهله، والسعاية وهي: أن يذهب بشخص إلى ظالم ليؤذيه بما يقوله في حقه، ومنع الزكاة، واليأس من رحمة الله أي استبعاد العفو عن الذنوب لاستعظامها لا إنكار سعة رحمته للذنوب، فإنه كفر، والأمن من مكر الله بالاسترسال في المعاصي والاتكال على العفو، والظهار كقوله لزوجته أنت عليّ كظهر أمي، وأكل لحمِ ميتةٍ وخنزيرٍ، والفطر في رمضانَ ولو يوما بلا عذر، والحرابة وهي قطع الطريق على المارّين بإخافتهم، والسحر، والربا، والإدمان على الصغيرة أي الإصرار عليها من نوع واحد أو أنواع حيث لم تغلب طاعاته معاصيه.


( شرح النص )

وشرطُ الراوي العدالةُ وهيَ: مَلَكَةٌ تمنعُ اقترافَ الكبائرِ وصغائرِ الخِسَّةِ كسرقةِ لقمةٍ والرذائلِ المباحةِ كبولٍ بطريقٍ، فلا يقبلُ في الأصحِّ مجهولٌ باطنًا وهوَ المستورُ ومجهولٌ مطلقًا ومجهولُ العينِ، فإنْ وصَفَهُ نحوُ الشافعيِّ بالثقةِ أو بنفي التهمةِ قُبلَ في الأصحِّ كمَن أقدمَ معذورًا على مُفسّقٍ مظنونٍ أو مقطوعٍ. والمختارُ أنَّ الكبيرةَ: ما تُوعِّدَ عليهِ بخصوصِهِ غالبًا، كقتلٍ وزنًا ولواطٍ وشربِ خمرٍ ومسكرٍ وسرقةٍ وغصبٍ وقذفٍ ونميمةٍ وشهادةِ زورٍ ويمينٍ فاجرةٍ وقطيعةِ رحمٍ وعقوقٍ وفرارٍ ومالِ يتيمٍ وخيانةٍ وتقديمِ صلاةٍ وتأخيرِها وكذبٍ على نبيٍّ وضربِ مسلمٍ وسبِّ صحابيٍّ وكتمِ شهادةٍ ورشوةٍ ودياثةٍ وقيادةٍ وسِعايةٍ ومنعِ زكاةٍ ويأسِ رحمةٍ وأمنِ مكرٍ وظِهارٍ ولحمِ ميتَةٍ وخنزيرٍ وفطرٍ في رمضانَ وحِرابةٍ وسحرٍ وربا وإدمانِ صغيرةٍ.
......................... ......................... ......................... ..................
( وشرطُ الراوي العدالةُ وهيَ ) لغة: التوسط في الأمر من غير إفراط إلى طرفي الزيادة والنقصان. وشرعا بالمعنى الشامل للمروءة ( ملكةٌ ) أي هيئة راسخة في النفس ( تمنعُ اقترافَ ) أي ارتكاب ( الكبائرِ وصغائرِ الخِسَّةِ كسرقةِ لقمةٍ ) وتطفيف تمرة ( والرذائلِ المباحةِ ) أي الجائزة بالمعنى الأعم أي المأذون في فعلها لا بمعنى مستوية الطرفين ليشمل المكروه ( كبولٍ بطريقٍ ) وهو مكروه ونحو ذلك مما يخلّ بالمروءة. ومعنى التعريف المذكور أنه يمنع اقتراف كل فرد من أفراد ما ذكر فباقتراف فرد منه تنتفي العدالة، أما صغائر غير الخسة ككذبة لا يتعلق بها ضرر ونظرة إلى أجنبية، فلا يشترط المنع من اقتراف كل فرد منها. فلا تنتفي العدالة باقتراف شيء منها إلا أن يصرّ عليه ولم تغلب طاعاته، وإذا تقرر أن العدالة شرط في الرواية ( فلا يقبلُ في الأصحِّ مجهولٌ باطنًا وهوَ المستورُ ) أى مستور العدالة بأن روى عنه اثنان فصاعدا ولم يوثق فهو مجهول الباطن عدل الظاهر ( و ) لا ( مجهولٌ مطلقًا ) أي باطنا وظاهرا وهو من روى عنه عدلان ولم تعلم عدالته الظاهرة بتحقق عدم ظهور الفسق منه ولا عدالته الباطنة بأقوال المزكين ( و ) لا ( مجهولُ العينِ ) كأن يقال عن رجل لانتفاء تحقق العدالة- والمشهور عند المحدثين أن من لم يسم هو المبهم وأما مجهول العين فهو من سمي ولم يرو عنه إلا راو واحد- وقيل: يقبلون اكتفاء بظنّ حصولها في الأول وتحسينا للظنّ بالأخيرين ( فإنْ وصَفَهُ ) أي الأخير وهو مجهول العين ( نحوُ الشافعيِّ ) من أئمة الحديث الراوي عنه ( بالثقةِ أو بنفي التهمةِ ) كقوله أخبرني الثقة أو من لا أتهمه ( قُبلَ في الأصحِّ ) وإن كان الثاني- وهو قوله مَن لا أتهمه- دون الأوّل- وهو قوله الثقة- رتبة وذلك لأن واصفه من أئمة الحديث لا يصفه بذلك إلا وهو كذلك، وقيل لا يقبل لجواز أن يكون فيه جارح ولم يطلع عليه الواصف ( كمَن أقدمَ معذورًا ) بنحو تأويل أو جهل بالحرمة -ككونه حديث عهد بإسلام- خلا عن التدين بالكذب، أو إكراه ( على ) فعل ( مُفسّقٍ مظنونٍ ) كشرب نبيذ ( أو مقطوعٍ ) كشرب خمر فيقبل في الأصح سواء اعتقد الإباحة أم لم يعتقد لا الإباحة ولا الحرمة وذلك لعذره، وقيل: لا يقبل لارتكابه المفسق وإن اعتقد الإباحة، وقيل: يقبل في المظنون دون المقطوع، وخرج بالمعذور من أقدم عالما بالتحريم باختياره أو متدينا بالكذب فلا يقبل قطعا ( والمختارُ أنَّ الكبيرةَ: ما تُوعِّدَ عليهِ ) بنحو غضب أو لعن أو نار أو عذاب ( بخصوصِهِ ) في الكتاب أو السنة أي زيادة على مطلق الوعيد الوارد في المخالفة ( غالبًا ) احتراز عما ورد فيه وعيد بخصوصه وليس بكبيرة كالغيبة، وقيل: هي ما فيه حدّ ( كقتلٍ ) ظلما ( وزنًا ولواطٍ وشربِ خمرٍ ) وإن لم يسكر لقلتها وهي المسكر من ماء العنب ( ومسكرٍ ) ولو غير خمر كالمسكر من نقيع الزبيب المسمى بالنبيذ ( وسرقةٍ ) لربع مثقال أو ما قيمته ذلك، أما سرقة ما دون ذلك فصغيرة ( وغصبٍ ) لمال أو نحوه من الحقوق ( وقذفٍ) لرجل أو امرأة بزنا أو لواط ( ونميمةٍ ) وهي نقل كلام بعض الناس إلى بعض على وجه الإفساد بينهم ، أما الغيبة وهي ذكرك لإنسان بما يكرهه وإن كان فيه وعيد فصغيرة قاله صاحب العدة الكبرى شرح الإبانة الحسين بن علي الطبري، وأقرّه الرافعي ومن تبعه كالنووي لعموم البلوى بها. وقال القرطبي في تفسيره إنها كبيرة بلا خلاف ( وشهادة زورٍ ويمينٍ فاجرةٍ ) وهي اليمين الكاذبة التي يقتطع بها حق غيره ( وقطيعةِ رحمٍ وعقوقٍ وفرارٍ ) من الزحف ( ومالِ يتيمٍ ) أي أخذه بلا حق (وخيانةٍ ) بوزن أو كيل وهم المطففون في الميزان، ومنها الغلول في الغنيمة، وهذا في غير الشيء التافه أما في التافه فصغيرة ( وتقديمِ صلاةٍ ) على وقتها (وتأخيرِها ) عنه بلا عذر كسفر ( وكذبٍ ) عمدا ( على نبيٍّ وضربِ مسلمٍ ) بلا حق ( وسبِ صحابيٍّ وكتمِ شهادةٍ ورشوةٍ ) وهي أن يبذل مالا ليحق باطلا أو يبطل حقا ( ودياثةٍ ) وهي الرضى بفعل أهله الفاحشة ودخول الرجال عليهم ( وقيادةٍ ) والقواد: مَن يجمع بين الرجال والنساء في الحرام أي من غير أهله ( وسعايةٍ ) وهي أن يذهب بشخص إلى ظالم ليؤذيه بما يقوله في حقه ( ومنعِ زكاةٍ ويأسِ رحمةٍ ) والمراد باليأس من رحمة الله استبعاد العفو عن الذنوب لاستعظامها لا إنكار سعة رحمته للذنوب، فإنه كفر ( وأمنِ مكرٍ ) بالاسترسال في المعاصي والاتكال على العفو ( وظهارٍ ) كقوله لزوجته أنت عليّ كظهر أمي ( ولحمِ ميتةٍ وخنزيرٍ ) أي تناوله بلا ضرورة ( وفطرٍ في رمضانَ ) ولو يوما بلا عذر ( وحرابةٍ ) وهي قطع الطريق على المارّين بإخافتهم ( وسحرٍ وربًا وإدمانِ صغيرةٍ ) أي إصرار عليها من نوع واحد أو أنواع حيث لم تغلب طاعاته معاصيه، وليست الكبائر منحصرة في المذكورات، كما أفهمه ذكر الكاف في أولها نسأل الله أن يجنبنا ظاهر الإثم وباطنه وأن يغفر لنا ذنوبنا.
V (http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=22873&page=18#ixzz4hM93XxIV)

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:58 PM
الدرس التاسع والستون- السنة

الفرق بين الرواية والشهادة- مسائل في الجرح والتعديل


أولا: الفرق بين الرواية والشهادة هو أن الرواية هي: الإخبار بشيء عام لا ترافع فيه إلى الحكّام، كقول الرواي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما الأعمال بالنيات. متفق عليه. فهذا عام متعلق بكل أحد؛ وليس خاصا بشخص دون شخص، وليس في قوله هذا شهادة لأحد عند الحاكم.
وأما الشهادة فهي: الإخبار بشيء خاص عند الحاكم إنْ كان حقا لغير المخبِرِ على غيره.
كقول الشاهد: أشهد بأنَّ لفلان عند فلان كذا من المال.
فإن كان حقا للمخبِر على غيره فهو دعوى، وإن كان اعترافا بحق لغيره عليه فهو إقرار وإن لم يكن عند حاكم.
ثانيا: إذا قال شخص أَشهدُ بكذا فهل هو إنشاء أو خبر؟
فقيل: هو محض إنشاء لأنه ينطبق عليه حد الإنشاء فإن مضمونه لا وجود له في الخارج إلا بالتلفظ به، فإذا تلفظ وقال أشهد بكذا وجد مدلوله وتحقق.
وقيل: هو خبر محض بالنظر إلى متعلقه أي المشهود به، فلو قال شخص: أشهدُ بأن لزيدِ عند عمرو 10 دنانير فهو إخبار بالحق.
وقيل: هو إنشاء تضمّن إخبارًا، فهو بالنظر إلى لفظه إنشاء؛ لأن مضمونه لا وجود له في الخارح، وبالنظر إلى متعلقه وهو المشهود به إخبار.
ثالثا: صيغ العقود كبعت واشتريت وزوّجت كلها من قبيل الإنشاء؛ لأن مضمونها لا وجود له في الخارج ليخبر عنه.
رابعا: يثبت الجرح والتعديل بقول واحد، وأما في الشهادة فلا بد من شهادة اثنين. وقيل لا بد فيهما من اثنين.
خامسا: يكفي الإطلاق في التعديل من غير بيان سبب.
أما في الجرح فلا بد من بيان السبب؛ للاختلاف في أسبابه فقد يكون بعضها جارحا عند المتكلم دون غيره من الأئمة، ولكن يكفي الإطلاق في الجرح- كأن يقول: هو ضعيف - إذا علم مذهبه وأنه لايجرح إلا بشيء قادح.
سادسا: إذا تعارض الجرح والتعديل فالجرح مقدم إن كان عدد الجارحين أكثر من المعدلين إتفاقا، أما إذا تساويا أو كان عدد الجارحين أقل فيقدم الجرح أيضا على الأصح لاطلاع الجارح على ما لم يطلّع عليه المعدّل.
سابعا: من طرق التعديل حكم الحاكم بمقتضى شهادة شخص، فمتى حكم القاضي في قضية بشهادة فلان فهذا تعديل ضمني له.
ثامنا: قيل: من طرق التعديل أيضا عمل العالِم بمقتضى رواية شخص فإنه يعتبر تعديلا له وإلا لما عمل بروايته.
وقيل: ليس تعديلا له والعمل بروايته يجوز أن يكون احتياطا.
تاسعا: من طرق التعديل أيضا رواية من لا يروي إلا عن عدل بأن صرح بذلك أو عرف أن من عادته أن لايروي إلا عن عدل.


( شرح النص )

مسألةٌ: الإخبارُ بعامٍّ روايةٌ، وبخاصٍّ عندَ حاكمٍ شهادةٌ إنْ كانَ حقًّا لغيرِ المخبِرِ على غيرِهِ والمختارُ أنَّ أشهدُ إنشاءٌ تضمَّنَ إخبارًا، وأنَّ صيغَ العقودِ والحُلولِ كبِعتُ وأَعتقتُ إنشاءٌ. وأنَّهُ يثبتُ الجرحُ والتعديلُ بواحدٍ في الروايةِ فقطْ، وأنَّهُ يشترطُ ذكرُ سببِ الجرحِ فيهما، ويكفي إطلاقُهُ في الروايةِ إنْ عُرِفَ مذهبُ الجارِحِ، والجرحُ مقدمٌ إنْ زادَ عددُ الجارحِ على المعدِّلِ وكذا إنْ لم يزدْ عليهِ في الأصحِّ، ومِنَ التعديلِ حكمُ مشترِطِ العدالةِ بالشهادةِ، وكذا عَمَلُ العالِمِ، وروايةُ مَنْ لايروي إلا عنْ عدلٍ في الأصحِّ.
......................... ......................... ......................... ....
( مسألةٌ: الإخبارُ بعامٍّ ) أي بشيء عام ( روايةٌ ) سواء أكان مدلول الرواية خبرا أو إنشاء كالأمر بالصلاة ( و ) الاخبار ( بخاصٍّ عندَ حاكمٍ شهادةٌ إنْ كانَ حقًّا لغيرِ المخبِرِ على غيرِهِ ) فإن كان للمخبر على غيره فدعوى، أو لغيره عليه وإن لم يكن عند حاكم فإقرار ( والمختارُ أنَّ أشهدُ إنشاءٌ تضمَّنَ إخبارًا ) نظرا إلى اللفظ لوجود مضمونه في الخارج به، ونظرا إلى متعلقه وهو المشهود به، وقيل: محض إخبار نظرا إلى متعلقه فقط، وقيل: محض إنشاء نظرا إلى اللفظ فقط ( و ) المختار ( أنَّ صيغَ العقودِ والحُلولِ كبِعتُ ) واشتريت ( وأَعتقتُ إنشاءٌ ) لوجود مضمونها في الخارج بها، ويقصد بالحلول الألفاظ التي تدل على الفسخ لا الإبرام كطلقت وأعتقت، وقال أبو حنيفة إنها إخبار على أصلها فإن قيل ولكن لا وجود لمضمونها في الخارج قال نقدر وجود مضمونها في الخارج قبيل التلفظ بها ثم نخبر عنها ( و ) المختار (أنَّهُ يثبتُ الجرحُ والتعديلُ بواحدٍ في الروايةِ فقطْ ) أي بخلاف الشهادة لا يثبتان فيها إلا بعدد أي اثنين فأكثر كما في الشهادة بالزنا، وقيل: لا يكفي واحد في الرواية كالشهادة ( و ) المختار ( أنَّهُ يشترطُ ذكرُ سببِ الجرحِ فيهما ) أي في الرواية والشهادة للاختلاف فيه بخلاف سبب التعديل ( و ) لكن ( يكفي إطلاقُهُ ) أي الجرح (في الروايةِ ) كالتعديل كأن يقول الجارح فلان ضعيف أو ليس بشيء ( إنْ عُرِفَ مذهبُ الجارِحِ ) من أنه لا يجرح إلا بقادح، فعلم أنه لا يكفي الإطلاق في الرواية إذا لم يعرف مذهب الجارح، ولا في الشهادة مطلقا أي سواء عرف مذهب الجارح أم لا لتعلق الحق فيها بالمشهود له فيحتاط فيها ما لا يحتاط في الرواية، وقيل: يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل في الرواية والشهادة ولو من العالم بأسباب الجرح والتعديل، فلا يكفي إطلاقهما فيهما لاحتمال أن يجرح بما ليس بجارح وأن يبادر إلى التعديل عملا بالظاهر لا بما يحقق العدالة ( والجرحُ مقدمٌ ) عند التعارض على التعديل ( إنْ زادَ عددُ الجارحِ على ) عدد ( المعدِّلِ ) إجماعا ( وكذا إنْ لم يزدْ عليهِ ) بأن ساواه أو نقص عنه ( في الأصحِّ ) لاطلاع الجارح على ما لم يطلع عليه المعدل، وقضية هذا التعليل: أنه لو اطلع المعدل على السبب الذي جرح به وعلم توبته منه قدم على الجارح وهو كذلك لأن مع المعدل حينئذ زيادة علم، وقيل: في حالة تساوي عدد الجارحين والمعدلين أو نقص عدد الجارحين فإنه يصار إلى الترجيح بينهما بحسب القرائن ولا يحكم بحكم عام ( ومِنَ التعديلِ ) لشخص ( حكمُ ) الحاكم ( مشترِطِ العدالةِ ) في الشاهد ( بالشهادةِ ) من ذلك الشخص إذ لو لم يكن عدلا عنده لما حكم بشهادته فالحكم بشهاته يتضمن عدالته ( وكذا عَمَلُ العالِمِ ) المشترط للعدالة في الراوي برواية شخص هي تعديل له في الأصح، وإلا لما عمل بروايته وقيل: ليس تعديلا، والعمل بروايته يجوز أن يكون احتياطا ( و ) كذا ( روايةُ مَن لا يروي إلا عنْ عدلٍ ) بأن صرح بذلك أو عرف من عادته بالاستقراء أنه لا يروي إلا عن عدل ( في الأصحِّ ) كما لو قال هو عدل، وقيل: يجوز أن يترك عادته في بعض الأحيان فلا تكون روايته عنه تعديلا له.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:59 PM
الدرس السبعون- السنة

تكملة مسائل الجرح والتعديل- الصحابي والتابعي


أولا: هناك أمور قيل إنها من جملة ما يجرح به الرواة والشهود والأصح أنها ليست مما يجرح به. ومن هذه الأمور:
1- إذا ترك العالم العمل بمقتضى رواية شخص، أو ترك الحاكم الحكم بمقتضى شهادة شخص؛ لأنه يجوز أن يكون الترك لوجود معارض لترك الرواية أو الشهادة لا لجرح في الراوي أو الشاهد.
2- إذا أقيم الحد على الشاهد بالزنا فليس ذلك جرحا للشاهد؛ لأنه قد يكون ذلك لعدم اكتمال نصاب الشهادة لا لتحقق كذب الشاهد.
وكذا إذا أقيم الحد على شارب النبيذ ونحوه من الأمور الإجتهادية؛ إذْ قد يكون مذهبه جواز ذلك.
3- إذا دلّس الراوي اسم مَن روى عنه بأن سماه بغير ما اشتهر به حتى لا يعرف.
وقيل: لا يعتبر جرحا بشرط إذا سئل عنه يبينه باسمه الذي يعرفه به الناس فإن لم يبينه فهو جرح.
ومن ذلك ما لو كنّى شخصا أو لقبه بما اشتهر به غيره. ومن ذلك قول صاحب جمع الجوامع: أخبرنا ( أبو عبد الله الحافظ) يقصد به شيخه الذهبي. مع أن المعروف أن البيهقي كان يقول: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، يقصد به الحاكم صاحب المستدرك.
ومن ذلك ما يوهم اللقاء كأن يقول الراوي: قال الزهري وهو لم يلقه، يوهم أنه قد لقيه.
ومن ذلك ما يوهم الرحلة كأن يقول: ( حدثنا فلان وراء النهر ) وهو يريد الفرات مثلا، مع أن المعروف عند المحدثين أن من قال: حدثنا وراء النهر، أنه يقصد نهر جيحون على الحدود بين أفغانستان وطاجكستان.
أما مدلس المتون وهو: مَن يدرج كلامه مع متن الحديث بحيث لا يتميزان. فهو مجروح لإيقاع غيره في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: الصحابيّ: مَن اجتمع مؤمنا مميزا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته.
وإن لم يرو عنه شيئا، وإن لم يطل اجتماعه به، أو كان أنثى، أو أعمى كابن أم مكتوم.
فخرج من اجتمع به كافرا، أو غير مميز، وقيل: لا يشترط التمييز، أو بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمى صحابيا.
والتابعي: مَن اجتمع مؤمنا مميزا بالصحابي في حياته. وقيل: يشترط في التابعي أن يطول صحبته للصحابي.
والصحابة كلهم عدول فلا يبحث عن عدالتهم في رواية أو شهادة لتزكية الله لهم.
ولو ادعى مَن عاصر النبي صلى الله عليه وسلم وكان عدلا أنه اجتمع به ثبتت صحبته.


( شرح النص )

وليسَ من الجَرحِ تركُ عملٍ بِمَروِيِّهِ وحُكمٍ بمشهودِهِ، ولا حدٌّ في شهادةِ زنًا ونحوِ شربِ نبيذٍ، ولا تدليسٌ بتسميةٍ غيرِ مشهورةٍ، قيلَ إلا أن يكونَ بحيثُ لو سُئِلَ لم يبيّنْهُ، ولا بإعطاءِ شخصٍ اسما آخرَ تشبيهًا كقولِ الأصل: أبو عبد اللهِ الحافِظُ يعني الذهبي تشبيهًا بالبيهقيِّ يعني الحاكِمَ، ولا بإيهامِ اللقي والرحلةِ، أمَّا مُدِلِّسُ المتونِ فمجروحٌ.
مسألةٌ: الصحابيُّ: مَن اجتمعَ مؤمنًا بالنبيِّ. وإنْ لمْ يروِ ولم يطلْ كالتابعيّ معهُ.
والأصحُّ أنهُ لو ادّعى معاصِرٌ عدلٌ صحبةً قُبِلَ، وأنَّ الصحابةَ عدولٌ.
......................... ......................... ......................... .................
( وليسَ من الجَرحِ ) لشخص ( تركُ عملٍ بِمَروِيِّهِ و ) لا ترك ( حُكمٍ بمشهودِهِ ) لجواز أن يكون الترك لمعارض لا لجرح ( ولا حدٌّ ) له ( في شهادةِ زنًا ) بأن لم يكمل نصابها؛ لأنه لانتفاء النصاب لا لمعنى في الشاهد يقتضي جرحه ( و ) لا في ( نحوِ شربِ نبيذٍ ) أي في القدر الذي لايسكر منه وأما القدر الذي يسكر منه فالحد به محل وفاق، ونحو ذلك من المسائل الاجتهادية المختلف فيها لجواز أن يعتقد إباحة ذلك ( ولا تدليسٌ ) فيمن روى عنه ( بتسميةٍ غيرِ مشهورةٍ ) له حتى لا يعرف، ويسمى هذا بتدليس الشيوخ ( قيلَ ) أي قال ابن السمعاني ( إلا أن يكونَ بحيثُ لو سُئِلَ ) عنه ( لم يبيّنْهُ ) فإن صنيعه حينئذ جرح له لظهور الكذب فيه، وأجيب بمنع ذلك لجواز أن يكون إخفاءه لغرض من الأغراض ( ولا ) تدليس ( بإعطاءِ شخصٍ اسما آخرَ تشبيهًا ) له بشخص آخر ( كقولِ ) صاحب ( الأصلِ ) أخبرنا ( أبو عبدُ اللهِ الحافظُ يعني ) به ( الذهبي تشبيهًا بالبيهقيِّ ) في قوله أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ( يعني ) به ( الحاكمَ ) لظهور المقصود وذلك صدق في نفس الأمر وهذا من تدليس الشيوخ أيضا ( ولا ) تدليس ( بإيهامِ اللقي والرحلةِ ) الأول ويسمى تدليس الإسناد كأن يقول من عاصر الزهري مثلاً ولم يلقه. قال الزهري أو عن الزهري موهما أنه سمعه، فإن لم يأت بلفظ موهم بل صرح بالسماع ممن لم يسمع منه فهو كذب، والثاني ويسمى تدليس البلدان وهو من أقسام تدليس الشيوخ كأن يقول حدّثنا فلان وراء النهر موهما جيحون، والمراد نهر مصر مثلا كأن يكون بالجيزة لأن ذلك من المعاريض لا كذب فيه ( أمَّا مُدِلِّسُ المتونِ ) وهو من يدرج كلامه معها بحيث لا يتميزان ( فمجروحٌ ) لإيقاعه غيره في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم ( مسألةٌ: الصحابيُّ ) أي صاحب النبي صلى الله عليه وسلّم ( مَن اجتمعَ مؤمنًا ) مميزا ( بالنبيِّ ) صلى الله عليه وسلم في حياته ( وإن لم يروِ ) عنه شيئا ( ولم يطلْ ) أي اجتماعه به أو كان أنثى أو أعمى كابن أم مكتوم، فخرج من اجتمع به كافرا أو غير مميز أو بعد وفاة النبي، لكن قال البرماوي في غير المميز إنه صحابي وإن اختار جماعة خلاف ذلك، وقيل يشترط في صدق اسم الصحابي الرواية ولو لحديث واحد وإطالة الاجتماع نظرا في الإطالة إلى العرف، وفي الرواية إلى أنها المقصود الاعظم من صحبة النبي صلى الله عليه وسلّم لتبليغ الأحكام (كالتابعيِّ معهُ ) أي مع الصحابي فيكفي في صدق اسم التابعي على الشخص اجتماعه مؤمنا بالصحابي في حياته، وهذا ما رجحه ابن الصلاح والنووي وغيرهما، وقيل: لا يكفي ذلك من غير إطالة للاجتماع به وبه جزم الأصل تبعا للخطيب البغدادي، وفرق بأن الاجتماع بالنبي يؤثر من النور القلبي أضعاف ما يؤثره الاجتماع الطويل بالصحابي وغيره من الأخيار ( والأصحُّ أنهُ لو ادّعى معاصِرٌ ) للنبي صلى الله عليه وسلّم ( عدلٌ صحبةً قُبِلَ ) لأن عدالته تمنعه من الكذب في ذلك، وقيل لا يقبل لادّعائه لنفسه رتبة هو فيها متهم كما لو قال أنا عدل فإنه لا يقبل منه ذلك ( و ) الأصح ( أنَّ الصحابةَ عدولٌ ) فلا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة لأنهم خير الأمة لقوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس. وقوله: وكذلك جعلناكم أمة وسطا. فإن المراد بهم الصحابة، ولخبر الصحيحين: خير أمتي قرني. وقيل: هم كغيرهم فيبحث عن عدالتهم في ذلك إلا من كان ظاهر العدالة أو مقطوعها كالشيخين رضي الله عنهما.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 07:59 PM
الدرس الحادي والسبعون- السنة

المرسل


أولا: الحديث المرسل: قول غير صحابي- تابعيا كان أم من بعده- قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا. باسقاط الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم. هذا اصطلاح الأصوليين.
وأما اصطلاح المحدثين فهو: قول التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم. أي بإسقاط الصحابي. أما قول مَن بعد التابعي فهو معضل.
ثانيا: لا يحتج بالمرسل للجهل بالواسطة ولكن يحتج به إذا كان المرسِل من كبار التابعين كقيس بن أبي حازم وأبي عثمان النهدي بشرط أن يعضد ذلك المرسَل واحد مما يلي:
1- أن يكون ذلك الراوي المرسِل لا يروي إلا عن عدل كأبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، فحينئذ لا يضر الجهل بالواسطة ويعتبر الحديث في حكم الحديث المسنَد المتصل.
2- أن يوافق قول صحابي أو فعله.
3- أن يقول به الأكثر من أهل العلم.
4- أن يروى من طريق آخر مسند صحيحا كان أم ضعيفا.
5- أن يكون هنالك مرسِل آخر قد أرسل نفس الحديث وكان شيخ الاول غير شيخ الثاني.
6- أن ينتشر بين العلماء ويشتهر من غير نكير.
7- أن يوافقه قياس.
8- أن يعمل به أهل العصر أي ولم يصل إلى حد الإجماع فإنه حينئذ يكون حجة بنفسه.
ثالثا: الحجة ليس في المرسل وحده ولا فيما عضده وحده بل بمجموعهما معا يكونان دليلا واحدا، إلا إذا عضد المرسل مسند صحيح فإنه يكون لنا دليلان: المسند الصحيح وذلك المرسل.
وتظهر الفائدة عند التعارض والبحث عن المرجحات فإذا عارض دليل واحد هذا المرسل الذي تقوى بمسند صحيح ترجح لاجتماع دليلين.
رابعا: أن المرسَل إذا تقوى بعاضد - غير الحديث الصحيح - فهو مع الاحتجاج به أضعف من الحديث المسند الذي لم يسقط منه أحد فعند التعارض يقدم المسند على المرسل الذي تقوى بعاضد.
خامسا: إذا تجرد المرسل عن عاضد يعضده ولم يكن في الباب سوى هذا المرسل وكان مقتضى هذا المرسل هو المنع من شيء فإنه يجب الكف عنه احتياطا. وقيل: لا يجب.


( شرح النص )

مسألةٌ: المرسَلُ: مرفوعُ غيرِ صحابيٍّ إلى النبيِّ، والأصحُّ أنَّهُ لا يُقبَلُ إلا إنْ كانَ مُرْسِلُهُ من كبارِ التابعينَ وعَضَدَهُ كونُ مُرْسِلِهِ لا يروي إلا عنْ عدلٍ وهُوَ مُسنَدٌ، أو عَضَدَهُ قولُ صحابيٍ أو فِعلُهُ أو قولُ الأكثرِ أو مسنَدٌ أو مُرسَلٌ أو انتشارٌ أو قياسٌ أو عملُ العصرِ أو نحوُها. والمجموعُ حجّةٌ إنْ لم يحتجَّ بالعاضِدِ، وإلا فدليلانِ، وأنَّهُ باعتضادِهِ بضعيفٍ أضعفُ مِنْ المسنَدِ، فإنْ تَجَرَّدَ ولا دليلَ سواهُ فالأصحُّ الانكفافُ لأجلِهِ.
......................... ......................... ......................... ..................
( مسألةٌ: المرسَلُ ) المشهور عند الأصوليين والفقهاء وبعض المحدثين ( مرفوعُ غيرِ صحابيٍّ ) تابعيا كان أو من بعده ( إلى النبيِّ ) صلى الله عليه وسلّم مسقطا لواسطة بينه وبين النبي، وعند أكثر المحدّثين مرفوع تابعي إلى النبي، وعندهم المعضل: ما سقط منه راويان فأكثر، والمنقطع: ما سقط منه من غير الصحابة راوٍ ( والأصحُّ أنَّهُ لا يُقبَلُ ) أي لا يحتج به للجهل بعدالة الساقط ( إلا إنْ كانَ مُرْسِلُهُ من كبارِ التابعينَ ) كقيس بن أبي حازم وأبي عثمان النهدي ( وعَضَدَهُ كونُ مُرْسِلِهِ لايروي إلا عنْ عدلٍ ) كأن عرف ذلك من عادته كأبي سلمة بن عبد الرحمن يروي عن أبي هريرة رضي الله عنه ( وهوَ ) حينئذ ( مُسْنَدٌ ) حكما لأن إسقاط العدل كذكره ( أو عَضَدَهُ قولُ صحابيٍ أو فعلُهُ أو قولُ الأكثرِ ) من العلماء لا صحابيَّ فيهم ( أو مسنَدٌ ) سواء أسنده المرسِل أم غيره ( أو مرسَلٌ ) بأن يرسله آخر يروي عن غير شيوخ الأوّل ( أو انتشارٌ ) له من غير نكير ( أو قياسٌ أو عملُ ) أهل ( العصرِ ) على وفقه ( أو نحوُها ) ككون مرسله إذا شارك الحفاظ في أحاديثهم وافقهم فيها ولم يخالفهم إلا بنقص لفظ من ألفاظهم بحيث لا يختل به المعنى. وهذا في حقيقته شرط يعود إلى الراوي فإنه يشترط فيه أن يكون من كبار التابعين وأن يكون يوافق الحفاظ في حفظهم فإن كان يشذ عنهم رد المرسل، ثم بعد ذلك يعضده عاضد فإن المرسل حينئذ يقبل، وقيل: يقبل مطلقا لأن العدل لا يسقط الواسطة إلا وهو عدل عنده وإلا كان ذلك تلبيسا قادحا فيه، وقيل: لا يقبل مطلقا ( والمجموعُ ) من المرسل وعاضده ( حجةٌ ) لا مجرد المرسل ولا مجرد عاضده لضعف كل منهما منفردا، ولا يلزم من ذلك ضعف المجموع، لأنه يحصل من اجتماع الضعيفين قوة مفيدة للظن هذا ( إنْ لمْ يحتجَّ بالعاضِدِ ) وحده ( وإلا ) بأن كان يحتج به كمسند صحيح ( فـ ) ـهما ( دليلانِ ) إذ العاضد حينئذ دليل برأسه والمرسل لما اعتضد به صار دليلا آخر فيرجح بهما عند معارضة حديث واحد لهما ( و ) الأصح ( أنَّهُ) أي المرسل ( باعتضادِهِ ) أي مع اعتضاده ( بضعيفٍ ) يقصد بالضعيف ما لا يحتج به لوحده كقول الصحابي أو فعله أو عمل الأكثر ( أضعفُ من المسنَدِ ) المحتج به، وقيل: أقوى منه لأن العدل لا يسقط إلا من يجزم بعدالته، بخلاف من يذكره فيحيل الأمر فيه على غيره. قلنا: لا نسلم ذلك أما إذا اعتضد بصحيح، فلا يكون أضعف من مسند يعارضه بل هو أقوى منه، كما علم مما مر، أما مرسل صغار التابعين كالزهري فباق على عدم قبوله مع عاضده لشدة ضعفه، وقيد القبول بكبار التابعين؛ لأن غالب رواياتهم عن الصحابة فيغلب على الظن أن الساقط صحابي، فإذا انضم إليه عاضد كان أقرب إلى القبول وعليه ينبغي ضبط الكبير بمن أكثر رواياته عن الصحابة والصغير بمن أكثر رواياته عن التابعين على أن ابن الصلاح والنووي لم يقيدا بالكبار فقبلوا المرسل حيثما اعتضد وهو قول قوي، واعلم أن هذا التفصيل كله في مرسل غير صحابي كما عرفت، أما مرسله فمحكوم بصحته على المذهب لأن أكثر رواية الصحابة عن الصحابة وكلهم عدول كما مرّ ( فإنْ تجرَّدَ ) هذا المرسل عن عاضد ( ولا دليلَ ) في الباب ( سِواهُ ) ومدلوله المنع من شيء أي الحظر عن فعله ( فالأصحُّ ) أنه يجب ( الانكفافُ ) عن ذلك الشيء ( لأجلِهِ ) أي لأجل المرسل احتياطا لأن ذلك يحدث شبهة توجب التوقف، وقيل: لا يجب لأنه ليس بحجة حينئذ، أما إذا كان ثم دليل سواه فيجب الانكفاف قطعا إن وافقه وإلا عمل بمقتضى الدليل.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 08:00 PM
الدرس الثاني والسبعون- السنة

نقل الحديث بالمعنى- طرق رواية الصحابي


أولا: يجوز نقل الحديث بالمعنى لعارف بمدلولات الألفاظ ومواقِع الكلام.
فالمعرفة بمدلولات الألفاظ يعني: معرفة معنى المفردات الواردة في الحديث ليتمكن من تبديل لفظ بآخر مساو له في المعنى، والمعرفة بمواقع الكلام يعني: معرفة الأحوال الداعية إلى إيراد الكلام على وفقها ومقتضاها. كالإنكار المقتضي لإيراد الكلام مؤكدا وجوبا، والتردد المقتضي إيراد الكلام مؤكدا استحسانا، وخلو الذهن المقتضي لإيراد الكلام خاليا من التوكيد، إلى غير ذلك من الأحوال المقتضية لإيراد الكلام مشتملا على خصوصية مناسبة للحال كما تقرر في علم المعاني.
فإن لم يكن عارفا بما ذكر لم يجز له أن يروي الحديث بمعناه خشية إفساده.
ثانيا: إذا قال الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو عن رسول الله كذا فالظاهر أنه سمعه منه صلى الله عليه وسلم فهو حجة.
ثالثا: إذا قال الصحابي سمعت النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكذا أو نهى عن كذا فهو حجة. وقيل: لا لأنه لم ينقل إلينا لفظه فلعل الصحابي لم يرد بالأمر والنهي حقيقته وأطلق عليهما لفظ الأمر والنهي تسمحا ومجازا. ولا يخفى ضعفه.
رابعا: إذا قال الصحابي أُمِرنا ونُهينا عن كذا- بالبناء للمجهول- فهو حجة؛ لأن الظاهر أن الآمر والناهي هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
خامسا: إذا قال الصحابي من السنة كذا فالأكثر من العلماء يحتج به؛ لأن الظاهر أن المقصود سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: لا يحتج بذلك؛ لاحتمال أن يقصد بالسنة سنة البلد.
سادسا: إذا قال الصحابي ما يلي:
1- كنا معاشر الناس نفعل في عهده صلى الله عليه وسلم كذا.
2- كان الناس يفعلون في عهده صلى الله عليه وسلم كذا.
3- كنا نفعل في عهده صلى الله عليه وسلم كذا.
فهو حجة لظهور تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لهم.
وقيل: ليس بحجة لجواز أن لا يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم به.
سابعا: إذا قال الصحابي كان الناس يفعلون كذا من غير أن يذكر في عهده صلى الله عليه وسلم فهو حجة أيضا لأن الظاهر أن المراد بالناس جميعهم فيكون هذا حكما بإجماع الصحابة على أمر. ومن هذا القبيل لو قال الصحابي: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه. أي كانوا لايقطعون يد السارق إذا سرق التافه القيمة كرغيف خبز ونحوه فلا بد من النصاب الشرعي وهو ربع دينار من الذهب فهذا حجة لظهور الإجماع. وقيل: ليس بحجة لاحتمال أن يكون المراد بعض الناس لا جميعهم.


( شرح النص )

مسألةٌ: الأصحُّ جوازُ نقلِ الحديثِ بالمعنى لعارِفٍ، وأنَّهُ يُحتجُّ بقولِ الصحابيِّ قالَ النبيُّ، فعنه، فسمعتُه أمرَ ونهى أو أُمِرنا أو نحوُه ومِن السنَّةِ، فكانَ معاشِرَ النَّاسِ، أو كانَ النَّاسُ يفعلونَ، فكنَّا نفعَلُ في عهدِهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فكانَ الناسُ يفعلونَ، فكانوا لا يقطعونَ في التَّافِهِ.
......................... ......................... ......................... ..................
( مسألةٌ: الأصحُّ جوازُ نقلِ الحديثِ بالمعنى لعارِفٍ ) بمعاني الألفاظ ومواقع الكلام وذلك بأن يأتي بلفظ بدل آخر مساو له في المراد والفهم، وإن لم يَنْسَ اللفظ الآخر أو لم يرادفه؛ لأن المقصود المعنى واللفظ آلة، وقيل: لا يجوز إن لم ينس لفظ النبي صلى الله عليه وسلم لفوت الفصاحة في كلام النبي، وقيل: إنما يجوز بلفظ مرادف بخلاف غير المرادف؛ لأنه قد لا يوفي بالمقصود، وقيل: لا يجوز مطلقا. أما غير العارف فلا يجوز له تغيير اللفظ قطعا ( و ) الأصح ( أنَّهُ يُحتجُّ بقولِ الصحابيِّ قالَ النبيُّ ) صلى الله عليه وسلّم، لأنه ظاهر في سماعه منه، وقيل لا. لاحتمال أن يكون بينهما واسطة من تابعي أو صحابي آخر، وقلنا نبحث عن عدالة الصحابة على القول الآخر في المسألة ( فـ ) ـبقوله ( عنه ) أي عن النبي لما مر، وقيل: لا لظهوره في الواسطة. ( فـ ) ـبقوله ( سمعتُه أمَرَ ونهى ) لظهوره في صدور أمر ونهي منه، وقيل: لا لجواز أن يطلقهما الراوي على ما ليس بأمر ولا نهي تسمحا ( أو ) بقوله ( أُمِرنا أو نحوهُ ) مما بني للمفعول كنهينا أو أوجب أو حرّم علينا أو رخص لنا لظهور أن فاعلها النبي، وقيل: لا. لاحتمال أن يكون الآمر والناهي بعض الولاة وأن يكون الإيجاب والتحريم والترخيص استنباطا من قائله وفهما له ( و ) بقوله ( مِن السنةِ ) كذا لظهوره في سنة النبي، وقيل: لا لجواز إرادة سنة البلد ( فكانَ معاشِرَ الناسِ ) نفعل في عهده صلى الله عليه وسلّم ( أو كانَ النَّاسُ يفعلونَ ) في عهده صلى الله عليه وسلّم ( فكنَّا نفعَلُ في عهدِهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ) لظهوره في تقرير النبي عليه، وقيل: لا لجواز أن لا يعلم به ( فكانَ الناسُ يفعلونَ، فكانوا لا يقطعونَ في ) الشيء ( التَّافِهِ ) قالته عائشة رضي الله عنها لظهور ذلك في جميع الناس الذي هو إجماع، وقيل: لا لجواز إرادة ناس مخصوصين، وعطف الصور بالفاء إشارة إلى أن كل صورة دون ما قبلها رتبة. تنبيه: الأثر المذكور عن أم المؤمنين عائشة لم أقف عليه بذلك اللفظ والثابت هو ما في مصنف ابن أبي شيبة وغيره: لم يكن يقطع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 08:01 PM
الدرس الثالث والسبعون- خاتمة السنة

طرق تحمل الرواية


تقدّم ذكر ألفاظ الصحابي حينما يروي الحديث كقوله: قال أو عن أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والغالب الأعم أن يكون سماعه منه صلى الله عليه وسلم.
وأما غير الصحابي فله في تحمل وأداء الرواية عدة طرق بعضها أعلى رتبة من بعض وهي:
أولا: الإملاء وهي: أن يقوم الشيخ بقراءة الأحاديث على الطلاب وهم يكتبون. سواء أكان يقرأ من كتابه أو من حفظه.
ثانيا: التحديث وهو: أن يقرأ الشيخ الأحاديث من غير إملاء عليهم. سواء أكان يقرأ من كتاب أو من حفظه.
ثالثا: قراءة الطالب على الشيخ وهو يسمعه.
رابعا: سماع الطالب الحديث من قراءة غيره من طلاب الحديث على الشيخ.
خامسا: المناولة أو المكاتبة مع الإجازة: كأن يناول الشيخ الطالب مسموعاته مكتوبة ويقول له أجزت لك روايتها عني، أو أن يكتب الشيخ مروياته أو بعضها ثم يدفعها للطالب الحاضر في المجلس أو يرسلها له إذا كان غائبا ويجيزه أيضا.
سادسا: الإجازة بلا مناولة أي أن يجيزه من غير أن يدفع له مكتوبا وهي على أنواع:
1- إجازة خاصة به في شيء خاص كأن يقول له أجزتُ لكَ رواية صحيح البخاري عني. فهي إجازة لطالب معين في شيء معين.
2- إجازة خاصة في شيء عام كأن يقول له أجزتُ لك رواية جميع مسموعاتي.
3- إجازة عامة في شيء خاص كأن يقول أجزت لمن عاصرني رواية صحيح البخاري عني.
4- إجازة عامة في شيء عام كأن يقول أجزت لمن عاصرني رواية جميع مسموعاتي.
سابعا: المناولة أو المكاتبة من غير إجازة كأن يقول هذه مسموعاتي ويدفعها للطالب من غير أن يقول أجزت لك.
ثامنا: الإعلام بلا إجازة كأن يقول للطالب هذا الكتاب من مسموعاتي على فلان.
تاسعا: الوصية كأن يوصي بكتاب إلى غيره ليرويه عنه عند سفره أو موته.
عاشرا : الوجادة كأن يجد كتابا بخط شيخ معروف.
والمختار جواز رواية الحديث بأي طريقة تحمل بها الحديث من الطرق السابقة.
وللمحدثين ألفاظ يستعملونها في الأداء منها: 1- أملى عليّ، 2- حدثني، 3- قرأت عليه، 4- قُرِئ عليه وأنا أسمع، 5-أخبرني إجازة ومناولة أو أخبرني إجازة ومكاتبة 6- أخبرني إجازة 7- أنبأني مناولة أو مكاتبة ، 8- أخبرني إعلاما، 9- أوصى إليّ، 10- وجدت بخطه.


( شرح النص )


خَاتِمَةٌ
مُسْتَنَدُ غيرِ الصحابيِّ: قراءةُ الشيخِ إملاءً، فتحديثًا، فقِراءَتُهُ عليهِ، فسَماعُهُ،، فمناوَلَةٌ أو مُكاتَبَةٌ معَ إجازةٍ، فإجازةٌ لخاصٍّ في خاصِّ، فخاصٍّ في عامٍّ، فعامٍّ في خاصٍّ، ففي عامٍّ، فَلِفُلانٍ ومَنْ يوجَدُ مِن نَسْلِه، فمناوَلَةٌ أَو مُكاتَبَةٌ، فإعلامٌ، فوصِيَّةٌ، فوِجَادَةٌ. والمختارُ جوازُ الرِّوايةِ بالمذكوراتِ لا إجازةِ مَنْ يوجدُ مِنْ نَسْلِ فلانٍ، وألفاظُ الأداءِ مِن صِناعةِ المحدِّثينَ.
......................... ......................... ......................... .....
هذه ( خَاتِمَةٌ ) في مراتب التحمّل أي أخذ الحديث عن الشيخ ( مُسْتَنَدُ ) أي ما استند إليه في تلقي الحديث ( غيرِ الصحابيِّ ) من التابعين فمن بعدهم، وقيد بغير الصحابي لأن الصحابي يتلقى الحديث غالبا بطريق السماع المباشر من النبي صلى الله عليه وسلم بلا قراءة من كتاب أو مناولة أو غيرها من التفصيلات ( قراءةُ الشيخِ ) على الطالب من حفظه أو من كتابه ( إملاءً ) أي والطالب يكتب ( فتحديثًا ) بلا إملاء سواء حدثه من حفظه أو من كتاب ( فقِراءَتُهُ عليهِ ) أي على الشيخ (فسَماعُهُ ) بقراءة غيره على الشيخ ويسمى هذا والذي قبله بالعَرْض ( فمناوَلَةٌ أو مُكاتَبَةٌ معَ إجازةٍ ) كأن يدفع له الشيخ أصل سماعه أو نسخة مقابلة به، أو يكتب شيئا من حديثه لحاضر عنده أو غائب عنه، ويقول له أجزت لك روايته عني ( فإجازةٌ ) بلا مناولة ولا مكاتبة ( لخاصٍّ في خاصِّ ) أي لخاص من الرواة بشيء خاص من حديثه كأجزتُ لك رواية البخاري ( فخاصٍّ في عامٍّ ) كأجزت لك رواية جميع مسموعاتي ( فعامٍّ في خاصٍّ ) كأجزت لمن أدركني أي أدرك زمني رواية مسلم ( فـ) ـعام ( في عامٍّ ) كأجزت لمن عاصرني رواية جميع مروياتي ( فَلِفُلانٍ ومَنْ يوجَدُ مِن نَسْلِه ) تبعا له ( فمناوَلَةٌ أَو مُكاتَبَةٌ ) بلا إجازة إن قال معها هذا من سماعي (فإعلامٌ ) بلا إجازة ولا مناولة كأن يقول هذا الكتاب من مسموعاتي على فلان أي من غير أن يأذن في روايته عنه ( فوصِيَّةٌ ) كأن يوصي بكتاب إلى غيره ليرويه عنه عند سفره أو موته ( فوِجَادَةٌ ) كأن يجد حديثا أو كتابا بخط شيخ معروف ( والمختارُ جوازُ الرِّوايةِ بالمذكوراتِ ) وأما القول بامتناع الرواية بالأربعة التي قبل الوجادة فمردود بأنها أرفع من الوجادة والرواية بها جائزة عند الشافعي وغيره، فالأربعة أولى أي أنهم إذا أجازوا الوجادة وهي أدون الجميع فجواز غيرها من باب أولى ( لا إجازةِ مَنْ يوجدُ مِنْ نَسْلِ فلانٍ ) بأن يقول أجزت من سيوجد من نسل زيد رواية البخاري مثلا فلا يجوز بخلاف لو قال: أجزت زيدًا ومن سيوجد من نسله تبعا له فإنها تجوز للمعدوم بالتبع كما تقدم، وقيل: تجوز، وقيل: لا تجوز الرواية بالإجازة بأقسامها ( وألفاظُ الأداءِ ) أي الألفاظ التي تؤدى بها الرواية ( مِن صِناعةِ المحدِّثينَ ) لا الأصوليين فلتطلب منهم ومنها على ترتيب ما مر: أملى عليّ، حدثني، قرأت عليه، قرىء عليه وأنا أسمع، أخبرني إجازة ومناولة أو مكاتبة، أخبرني إجازة، أنبأني مناولة أو مكاتبة، أخبرني إعلاما، أوصى إليّ، وجدت بخطه.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 08:02 PM
الدرس الرابع والسبعون- الإجماع

مقدمة


أولا: الإجماع: اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور على أي أمر.
وقد علم من هذا التعريف أمور:
1- اختصاص الإجماع بالمجتهدين فلا عبرة باتفاق غيرهم قطعا، ولا عبرة بموافقة أو مخالفة الغير للمجتهدين.
2- اختصاصه بالمسلمين لأن الإسلام شرط في المجتهد فلا عبرة بوفاق الكافر ولا بخلافه.
3- أنه لا بد من إجماع كل المجتهدين؛ فيضر مخالفة الواحد، وعلم من هذا أنه لا يكفي إجماع أهل مكة فقط، أو المدينة فقط، أو أهل الحرمين.
4- عدم انعقاده في حياته صلى الله عليه وسلم لأنه إن وافقهم فالحجة في قوله وإن لم يوافقهم فلا عبرة بقولهم دونه.
وأما بعد عصره فالعصور جميعا سواء في إمكانية الإجماع وحجيته لا فرق بين عصر الصحابة وعصر غيرهم من الناس.
5- أن اتفاق الأمم السابقة على أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليس إجماعا- بناء على أن الإجماع من خصائص هذه الأمة- وليس بحجة علينا لأن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا في الأصح.
6- أن إجماع المجتهدين قد يكون في ديني: كصلاة وزكاة، وقد يكون في دنيوي كتدبير الجيش وأمور الرعية، وفي عقلي كحدوث العالم، وفي لغوي ككون الفاء للتعقيب.
وعلم أنه ليس المراد بالمجتهد هو خصوص الفقيه بل يرجع في كل أمر إلى أهله فالمجتهدون في اللغة مثلا إجماعهم في مسائل اللغة معتبر وإن لم يعتبر قولهم في الشرعيات وهكذا في كل فن من الفنون وهكذا في الأمور الدنيوية يرجع فيها إلى أهل الاختصاص.
ثانيا: لا يشترط في الإجماع ما يلي:
1- لا يشترط وجود معصوم بين أهل الإجماع خلافا للروافض فإنهم يعتدون بالإجماع لا بناء على حجية اتفاق الأمة بل بناء على وجود الإمام المعصوم بينهم.
2- لا يشترط في أهل الإجماع أن يكونوا عددا كثيرا يحصل بنقلهم التواتر. وأقل ما يحصل به الإجماع اثنان فلو لم يكن في الأمة إلا مجتهد واحد فلا ينعقد الإجماع بقوله وليس قوله بحجة لأنه لا يؤمن عليه الخطأ.
3- لا تشترط العدالة في المجتهد- على ما اختاره الأكثر- وبناء عليه لو كان المجتهد فاسقا وخالف بقية المجمعين فهل يعتبر بقوله بحيث لا ينعقد الإجماع بدونه ؟ الجواب نعم فلا بد من أن يتفق معهم.
4- لا يشترط طول الوقت بعد الإجماع بل ينعقد الإجماع بلحظة اتفاقهم ولهذا قالوا لو مات المجمعون عقب إجماعهم كأن خرّ السقف عليهم انعقد.
5- لا يشترط انقراض عصر المجمعين بأن يموت أهله بل ينعقد بلحظة اجماعهم. وعليه فلا يجوز للمجتهد منهم الرجوع عن قوله بأن طرأ عليه ما جعله يغير اجتهاده، كما أنه لو تأهّل بعد إجماعهم عالم آخر وصار مجتهدا فإنه لا يحل له خرق إجماعهم السابق لأنه لم يكن حينها مجتهدا، وأما ما بعد ذلك من المسائل فلا بد من قوله معهم.


( شرح النص )


الكتابُ الثالِثُ في الإجماعِ

وهُوَ اتفاقُ مجتهدي الأُمَّةِ بعدَ وفاةِ محمدٍ في عصرٍ على أيِّ أمرٍ. ولو بلا إمامٍ معصومٍ أو بلوغِ عددِ التواترِ أو عدولٍ أو غيرَ صحابيٍّ أو قَصُرَ الزمَنُ. فَعُلِمَ اختصاصُهُ بالمجتهدينَ فلا عبرةَ باتفاقِ غيرِهِم قطعًا ولا بوفاقِهِ لهم في الأصحِّ، وبالمسلمينَ وأنَّهُ لا بدَّ مِن الكلِّ وهو الأصحُّ، وعدمُ انعقادِه في حياةِ محمدٍ، وأنَّهُ لو لم يكنْ إلا واحدٌ لم يكنْ قولُهُ إجماعًا وليسَ حجةً على المختارِ، وأنَّ انقراضَ العصرِ لايشترطُ.
......................... ......................... ......................... ...........
لما فرغ من الكتاب والسنة شرع في الدليل الثالث فقال: ( الكتابُ الثالِثُ في الإجماعِ وهُوَ اتفاقُ مجتهدي الأُمَّةِ بعدَ وفاةِ محمدٍ ) صلى الله عليه وسلّم ( في عصرٍ على أيِّ أمرٍ ) كان من ديني ودنيوي وعقلي ( ولو بلا إمامٍ معصومٍ ) وقالت الروافض: لا بد منه ولا يخلو الزمان عنه وإن لم تعلم عينه بأن كان متخفيا فنحن نعلم وجوده إجمالا وإن لم نتحقق شخصه والحجة في قوله فقط وغيره تبع له، هذا وحكاية الأقوال عنهم لمجرد العلم وإلا فليس لخلافهم اعتبار ( أو ) بلا ( بلوغِ عددِ تواترٍ) وقيل: يشترط ( أو ) بلا ( عدولٍ ) بناء على أن العدالة ليست ركنا في المجتهد وهو الأصح، وقيل: يعتبر كون المجتهدين عدولا بناء على أن العدالة ركن في المجتهد فعليه لا يعتبر وفاق الفاسق ( أو ) كان المجتهد ( غيرَ صحابيٍّ ) فلا يختصّ الإجماع بالصحابة، وقالت الظاهرية: يختص بهم لكثرة غيرهم كثرة لا تنضبط فيبعد اتفاقهم على شيء ( أو قَصُرَ الزمَنُ ) كأن مات المجمعون عقب إجماعهم بخرور سقف عليهم، وقيل: يشترط طوله في الإجماع الظني- كالإجماع السكوتي الذي سيأتي الكلام عليه- بخلاف القطعي ( فَعُلِمَ ) من الحد زيادة على ما مر ( اختصاصُهُ ) أي الإجماع ( بالمجتهدينَ ) بأن لا يتجاوزهم إلى غيرهم ( فلا عبرةَ باتفاقِ غيرِهِم ) وهم العوام ( قطعًا ) أي اتفاقا ( ولا بوفاقِهِ لهم في الأصحِّ ) أي أن عدم اعتبار إجماع العوام محل وفاق ولكن وقع خلاف في أنه هل يشترط أن ينضم العوام للمجتهدين في الإجماع كي يصدق أن الأمة بأسرها أجمعت أو لا يشترط ذلك ؟ الأصح أنه لايشترط، وقيل: يشترط ( و ) علم اختصاصه ( بالمسلمينَ ) لأن الإسلام شرط في المجتهد فلا عبرة بوفاق الكافر - ولو كفر ببدعة - ولا بخلافه ( و ) علم ( أنَّهُ لا بدَّ مِن ) اتفاق ( الكلِّ ) لأن إضافة مجتهد إلى الأمة تفيد العموم ( وهوَ الأصحُّ ) فيضر مخالفة الواحد ولو تابعيا بأن كان مجتهدا وقت اتفاق الصحابة، وقيل: يضر مخالفة الاثنين دون الواحد، وقيل يكفي اتفاق كل من أهل مكة وأهل المدينة وأهل الحرمين، وقيل غير ذلك. فعلم أن اتفاق كل من هؤلاء ليس بحجة في الأصح وهو ما صرح به الأصل، لأنه اتفاق بعض مجتهدي الأمة لا كلهم ( و) علم ( عدمُ انعقادِه في حياةِ محمدٍ ) صلى الله عليه وسلّم، لأنه إن وافقهم فالحجة في قوله وإلا فلا اعتبار بقولهم دونه ( و ) علم ( أنَّهُ لو لم يكنْ ) في العصر (إلا ) مجتهد ( واحدٌ لم يكنْ قولُهُ إجماعًا ) إذ أقل ما يصدق به اتفاق مجتهد الأمة اثنان ( وليسَ ) قوله ( حجّةً على المختارِ ) لانتفاء الإجماع عن الواحد، وقيل: حجة وإن لم يكن إجماعا لانحصار الاجتهاد فيه ( و ) علم ( أنَّ انقراضَ ) أهل ( العصرِ ) بموتهم ( لا يشترطُ ) في انعقاد الإجماع لصدق حد الإجماع مع بقاء المجمعين ومعاصريهم وهو الأصح كما سيأتي، وقيل: يشترط انقراضهم .

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 08:03 PM
الدرس الخامس والسبعون- الإجماع

مسائل في الإجماع


أولا: لا بدَّ للإجماع من مستند من كتاب أو سنة أو قياس فإجماعهم يكشف عن تشريع لا أنهم المشرعون. وقيل: لا يكون عن قياس.
ثانيا: إذا اختلف المجتهدون في مسألة على قولين أو أكثر فخلافهم إما أن يستقر أو لا يستقر.
والخلاف المستقر هو: أن يمضي بعد الخلاف زمن طويل عرفا يعلم به أن كل قائل مصمم على قوله.
والخلاف غير المستقر هو: أن يمضي بعد الخلاف زمن قصير عرفا لا يتحقق معه تصميم كل قائل على قوله. فقد يرجعون عنه ويتفقون بعد اختلافهم.
ثالثا: إذا اختلف أهل عصر في مسألة على قولين فهل يجوز بعد ذلك الاتفاق على أحدهما؟ فيه تفصيل:
1- إذا حصل الاتفاق من قبل المختلفين أنفسهم بأن اختلفوا في مسألة ثم اتفقوا هم أنفسهم على أحد القولين المختلف فيهما فيصح الإجماع حينئذ سواء استقر الخلاف أم لم يستقر لجواز ظهور مستند جليّ يرفع الخلاف بينهم. وقد اتفق الصحابة على دفن رسول الله في بيت عائشة بعد أن اختلفوا في مكان دفنه. كما اتفقوا على خلافة أبي بكر بعد اختلافهم على الخليفة.
2- إذا حصل الاتفاق ليس من المختلفين أنفسهم بل ممن جاء بعدهم فينظر:
أ- إذا لم يستقر الخلاف فيجوز لمن بعدهم أن يتفقوا على ما اختلف به من قبلهم وصورة المسألة أن يختلف أهل عصر على قولين أو أكثر ثم يموتوا قبل أن يمضي زمن طويل يتحقق به خلافهم ثم يجمع من بعدهم على أحد القولين فيكون الزمن بين اختلاف الأولين وإتفاق الآخرين قصيرا عرفا لا يستقر معه الخلاف بمعنى أن المجتهدين الأوائل قد اختلفوا ولكنهم كانوا في مهلة النظر والتدقيق فلم يتحقق خلافهم وتثبت أقوالهم فماتوا في هذه المدة وجاء من بعدهم فظهر لهم قوة أحد القولين فأجمعوا عليه فهذا جائز.
ب- إذا استقر الخلاف فحينئذ لا يجوز لمن بعدهم الاتفاق على قول لأن اختلافهم المستقر ينبئ عن إتفاقهم على جواز الأخذ بكل من القولين، أي أنهم أجمعوا على الخلاف فلا يجوز الإجماع على خلاف الإجماع الأول.
رابعا: التمسك بأقل ما قيل في مسألة ما حق ومسلك صحيح عند عدم وجود دليل في المسألة؛ لأنه تمسك بما أجمعوا عليه مع ضميمة أن الأصل عدم وجوب الزائد.
مثاله: اختلاف العلماء في دية الذمي الواجبة على قاتله، فقيل: كدية المسلم، وقيل: كنصفها، وقيل: كثلثها، وقد أخذ الشافعي بالثلث لأنهم مجمعون على وجوب الثلث على أقل تقدير والأصل عدم وجوب الزائد وبراءة الذمة فأخذ بالثلث.


( شرح النص )

وأنَّهُ قَدْ يكونُ عنْ قياسٍ وهوَ الأصحُّ فيهما، وأنَّ اتفاقَ السابقينَ غيرُ إجماعٍ وليسَ حُجّةً في الأصحِّ وأنَّ اتفاقَهم على أحدِ قولينِ قبلَ استقرارِ الخلافِ جائزٌ ولو مِن الحادِثِ بعدَ ذوي القولينِ وكذا اتفاقُ هؤلاءِ لا مَن بعدَهم بعدَهُ في الأصحِّ، وأنَّ التَّمسُّكَ بأقلِ ما قيلَ حَقٌّ، وأنَّهُ يكونُ في دينيٍّ ودنيويٍّ وعقليٍّ لا تتوقَّفُ صحتُه عليهِ ولغويٍّ، وأنَّهُ لا بدَّ لهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ وهوَ الأصحُّ.
......................... ......................... ......................... ..................
( و ) علم ( أنَّهُ ) أي الإجماع ( قدْ يكونُ عنْ قياسٍ ) لأن الاجتهاد المأخوذ في حد الإجماع لا بدّ له من مستند كما سيأتي، والقياس من جملته وذلك كإجماعهم على تحريم أكل شحم الخنزير قياسا على لحمه ( وهوَ الأصحُّ ) وقيل: لا يجوز أن يكون عن قياس ( فيهما ) أي ما ذكر هو الأصح في المسألتين وهما لا يشترط انقراض العصر وجواز استناد الإجماع إلى قياس ( و ) علم ( أنَّ اتفاقَ ) الأمم ( السابقينَ ) على أمة محمد صلى الله عليه وسلّم ( غيرُ إجماعٍ وليس حجةً ) في ملته ( في الأصحِّ ) لاختصاص دليل حجية الإجماع بأمته لخبر ابن ماجه وغيره: إن أمتي لا تجتمع على ضلالة. وقيل: إنه حجة بناء على أن شرعهم شرع لنا وسيأتي بيانه ( و ) علم ( أنَّ اتفاقَهُمْ ) أي المجتهدين في عصر ( على أحدِ قولينِ ) لهم أى كأن يقول جماعة منهم بحرمة شيء وأخرى بحله ثم اتفقوا على حرمته أو حله ( قبلَ استقرارِ الخلافِ ) بينهم بأن قصر الزمن بين الاختلاف والاتفاق ( جائزٌ ولو ) كان الاتفاق ( مِنَ الحادثِ ) أي ممن جاء ( بعدَ ذوي القولينِ ) بأن مات أهل العصر الأول أصحاب الخلاف ونشأ غيرهم وكانت المدة بين اختلاف الأولين واتفاق الآخرين قصيرة عرفا لا يستقر فيها خلاف وذلك لجواز أن يظهر مستند جلى يجتمعون عليه، وقد أجمعت الصحابة على دفنه صلى الله عليه وسلّم في بيت عائشة بعد اختلافهم الذي لم يستقر ( وكذا اتفاقُ هؤلاءِ ) أي ذوي القولين (لا مَنْ ) جاء ( بعدهم بعدَه ) أي بعد استقرار الخلاف بأن طال زمنه فإنه جائز لا اتفاق من بعدهم ( في الأصحِّ ) وهذا ما صححه النووي في شرح مسلم، وقيل: لا لأن استقرار الخلاف بينهم يتضمن اتفاقهم على جواز الأخذ بكل من شقي الخلاف باجتهاد أو تقليد، فيمتنع اتفاقهم على أحدهما. قلنا: تضمن ما ذكر مشروط بعدم الاتفاق على أحدهما بعده فإذا وجد فلا اتفاق قبله، والحاصل أنه إن لم يستقر الخلاف فيجوز بعد اتفاق المختلفين أنفسهم أو من جاء بعدهم، وإن استقر الخلاف فيجوز للمختلفين أنفسم الاتفاق ولا يجوز لمن جاء بعدهم ( و ) علم ( أنَّ التَّمَسُّكَ بأقلِّ ما قيلَ ) من أقوال العلماء حيث لا دليل سواه ( حقٌّ ) لأنه تمسك بما أجمع عليه مع كون الأصل عدم وجوب ما زاد عليه كاختلاف العلماء في دية الذمي الكتابي، فقيل كدية المسلم، وقيل كنصفها، وقيل كثلثها فأخذ به الشافعي لذلك، فإن دل دليل على وجوب الأكثر أخذ به كغسلات ولوغ الكلب قيل إنها ثلاث، وقيل سبع ودل عليه خير الصحيحين فأخذ به ( و ) علم ( أنَّهُ ) أي الإجماع قد ( يكونُ فيدينيٍّ ) كصلاة وزكاة ( ودنيويٍّ ) كتدبير الجيوش وأمور الرعية ( وعقليٍّ لا تتوقّفُ صِحّتُهُ ) أي الإجماع ( عليهِ ) كحدوث العالم ووحدة الصانع، فإن توقفت صحة الإجماع عليه كثبوت الباري والنبوة لم يحتج فيه بالاجماع وإلا لزم الدور وتوضيحه سيأتي قريبا ( ولغويٍّ ) ككون الفاء للتعقيب ( و ) علم ( أنَّهُ ) أي الإجماع ( لا بدَّ لهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ ) أي دليل، وإلا لم يكن لقيد الاجتهاد المأخوذ في حده معنى ( وهُوَ الأصحُّ ) لأن القول في الأحكام بلا مستند خطأ، وقيل: يجوز حصوله بغير مستند بأن يلهموا الاتفاق على صواب. وخلاصة ما قيل في الإجماع في العقليات- أي في أمور العقائد- إننا لا يجوز أن نحتج على وجود الله سبحانه أو على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع الأمة للزوم الدور وهو باطل فإنه إذا قيل بمَ أثبتم وجود الله والنبوة لنبيكم ؟ وقلنا: بإجماع علمائنا المجتهدين. فسيقال: وبم ثبتت حجية إجماعهم. فنقول: بالكتاب والسنة. فيقال: وبم عرفتم نبوة من جاء بالكتاب والسنة ووجود الخالق الذي أرسله. فنقول: بالإجماع، فصار دورا باطلا. أما ما عدا القدر الذي يثبت به وجود البارئ وثبوت النبوة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيمكن أن يثبت بالإجماع لعدم لزوم الدور.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 08:03 PM
الدرس السادس والسبعون- الإجماع

الإجماع السكوتيّ


الإجماع نوعان:
أولا: الإجماع الصريح وله صور هي:
1- أن يعبر جميع المجتهدين عن آرائهم بصريح القول بما تتفق به كلمتهم.
2- أن يصرح بعضهم بالقول ويفعل البقية مقتضى القول. كأن يفتي بعضهم بحل شيء ويفعله بقيتهم.
3- أن لا يوجد تصريح بالقول ولكن يتفق الجميع على فعل شيء فيعلم جوازه.
ثانيا: الإجماع السكوتي وله صورتان:
1- أن يقول بعض المجتهدين قولا ويسكت الباقون عليه.
2- أن يفعل بعض المجتهدين فعلا ويسكت الباقون عليه.
ويشترط للإجماع السكوتي شروط هي:
1- أن يعلم الساكتون بالحكم، فإن لم يعلموا بالحكم فلا يعد سكوتهم إجماعا.
2- أن يكون السكوت مجردا عن إمارة الرضى والسخط، فإن اقترن بأمارة الرضى فهو إجماع قطعا، وإن اقترن بأمارة السخط فهو ليس بإجماع قطعا.
3- أن يكون الحكم اجتهاديا تكليفيا، فإن لم يكن الحكم اجتهاديا بل كان قطعيا، فالسكوت حينئذ لا يدل على شيء لبداهة المسألة فليست هي من الإجماع السكوتي الذي كلامنا فيه، وكذا لو لم تكن المسألة تكليفية: كما لو قيل: عمار بن ياسر أفضل من حذيفة بن اليمان فالسكوت لايدل على شيء.
4- أن يكون قد مضت مدة كافية عادة للنظر، فإن لم تمض فلا يعتبر سكوتهم إقرارا فلعلهم لا يزالون يقلبون المسألة وينظرون فيها.
ثالثا: اختلف العلماء في الإجماع السكوتي على أقوال منها:
1- هو ليس بإجماع ولا حجة يحتج بها.
2- هو حجة يحتج بها ولكنه ليس بإجماع؛ لأن الإجماع ينصرف عند الإطلاق إلى المقطوع فيه بالموافقة لكنه حجة؛ لأن سكوت الباقين علامة رضا إذا لم يكن هنالك مانع من إبداء المعارضة.
3- هو إجماع وحجة؛ لأن سكوت الباقين بعد علمهم تظن به الموافقة عادة.


( شرح النص )

أمَّا السكوتيُّ بأن يأتيَ بعضُهُم بحكمٍ ويسكتَ الباقونَ عنهُ وقدْ عَلِموا به وكان السكوتُ مجردًا عن أمارةِ رِضًا وسُخْطٍ والحكمُ اجتهاديٌّ تكليفيٌّ ومضى مُهلةِ النَّظرِ عادةً فإجماعٌ وحُجَّةٌ في الأصحِّ.
......................... ......................... ......................... ..................
( أمَّا السكوتيُّ بأن يأتيَ بعضُهُم ) أي بعض المجتهدين ( بحكمٍ ) وإتيانهم به قد يكون بالقول أو الفعل ولذا عبر بيأتي دون يقول ( ويسكتَ الباقونَ عنهُ وقدْ عَلِموا به ) خرج ما لو لم يعلم الساكتون بالحكم فليس من محل الإجماع السكوتي؛ لأن صورة الإجماع السكوتي تتحقق بأن ينتشر ويبلغ الحكم الجميع، ولكن هنا مسألة وهي: إذا قال بعض المجتهدين بحكم ولم ينتشر قولهم هذا ليبلغ جميع المجتهدين على وجه الأرض ولكن لم ينقل أي خلاف في المسألة فهل يدل عدم وجود الخلاف على أنه حجة -وإن لم نسمه إجماعا سكوتيا- أو لا ؟ فيه خلاف فقيل: حجة لعدم ظهور خلاف فيه، وقيل- وهو اختيار المصنف- ليس بحجة لأن الساكتين ربما لم يخوضوا في المسألة وينظروا فيها من الأصل فلعلهم إذا نظروا وجمعوا الأدلة قالوا بخلاف ما قاله الأولون ( وكان السكوتُ مجردًا عن أمارةِ رِضًا وسُخْطٍ ) خرج ما لو اقترن السكوت بأمارة الرضى فإجماع قطعا أو بأمارة السخط فليس بإجماع قطعا ( والحكمُ اجتهاديٌّ تكليفيٌّ ) خرج ما لو كان الحكم قطعيا لا اجتهاديا أو لم يكن تكليفيا نحو عمار أفضل من حذيفة أو عكسه -أي حذيفة أفضل من عمار- فالسكوت فيهما لا يدل على شيء ( ومضى مُهلةِ النَّظرِ عادةً ) خرج ما لو لم يمض زمن مهلة النظر عادة فلا يكون ذلك إجماعا ( فإجماعٌ وحُجَّةٌ في الأصحِّ ) لأن سكوت العلماء في مثل ذلك يظن منه الموافقة عادة، وقيل: ليس بإجماع ولا حجة لاحتمال السكوت لغير الموافقة كالخوف والمهابة والتردد في الحكم وعزي هذا للشافعي، وقيل: ليس بإجماع بل حجة لاختصاص مطلق اسم الاجماع عند هذا القائل بالقطعي أي المقطوع فيه بالموافقة وذلك بتصريح الكل وإن كان هو عنده إجماعا حقيقة كما يفيده كونه حجة عنده، وقيل: حجة بشرط انقراض العصر، وقيل: غير ذلك.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 08:05 PM
الدرس السابع والسبعون- الإجماع

خاتمة مسائل الإجماع


أولا: أجمعت الأمة على امتناع ارتداد جميع الأمة الإسلامية في عصر من العصور لحديث ابن ماجه وغيره: لا تجتمع أمتي على ضلالة. فالارتداد لا يقع قطعا وإن كان العقل يجيزه فإن ساحة التجويز العقلي أكبر بكثير مما هو في الواقع.
ثانيا: لا يجوز أن تجهل الأمة كلها شيئا كلفت بالعمل به، وإن جاز أن تجهل شيئا لم يقع تكليفها به.
ثالثا: هل يجوز أن تفترق الأمة في مسألتين متشابهتين لهما نفس الحكم إلى فرقتين كل منهما يخطئ في مسألة ؟
كما في مسألة إرث العبد وإرث القاتل فالصواب أن كليهما لا يرث، فهل يجوز أن تذهب نصف الأمة إلى أن العبد يرث والقاتل لا يرث، ويذهب النصف الآخر إلى العكس وهو أن العبد لا يرث والقاتل يرث.
فإذا نظرنا إلى مجموع المسألتين فجميع الأمة أخطأت فيهما ولذا قال بعض العلماء إن هذا لا يجوز على الأمة.
وإذا نظرنا إلى كل مسألة على حدة فلم يخطئ الجميع ولذا قال بعض العلماء إن هذا جائز.
رابعا: الإجماع لا يضادّ إجماعا قبله وهذا علم من قولنا يحرم خرق الإجماع فإذا أجمعت الأمة في عصر من العصور على حكم فهو ملزم لكل الأمة إلى قيام الساعة فلا يجوز أن تجتمع الأمة بعد ذلك وتنقض الإجماع السابق.
خامسا: لا يجوز أن يعارض الإجماع دليل، لأن الدليل إن كان قطعيا فيستحيل معارضته الإجماع لأن الحجة القطعية لا تعارض الحجة القطعية أبدا، وإن كان الدليل ظنيا فلا يثبت أمام الإجماع.
سادسا: الإجماع لا بد له من مستند ولكن ليس بالضرورة أن ينقل مع الإجماع دليله وعليه فإذا وجد خبر يوافق مضمونه الإجماع فلا يدل هذا على أنه هو مستند المجمعين فقد يكون لهم مستند آخر لم نعلمه.
مثاله: كما إذا أجمعوا على وجوب النية في الصلاة فقد وافق إجماعهم خبر: إنما الأعمال بالنيات. متفق عليه. فهذه الموافقة لا تدل على أنهم مستندون في إجماعهم على الخبر المذكور. لكن إذا بحثنا واستقرأنا ولم نجد غير ذلك الخبر فالظاهر أنه هو مستند الإجماع مع بقاء نسبة احتمال أن يكون غيره وأننا لم نظفر به لأنه لم ينقل إلينا.
سابعا: الأمر المجمع عليه إن كان معلوما من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة فجاحده كافر قطعا، فإن لم يكن معلوما من الدين بالضرورة كفساد الحج بالوطء قبل الوقوف بعرفة فلا يكفر جاحده، كما لا يكفر جاحد المجمع عليه من غير الامور الدينية.


( شرح النص )

وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ ارتِدادُ الأمةِ سمعًا، لا اتفاقُها على جهلِ ما لم تُكَلَّفْ بهِ، ولا انقسامُها فِرقتينِ كلٌّ يُخْطِئُ في مسألةٍ، وأنَّ الإجماعَ لايضادُّ إجماعًا قبلَهُ وهوَ الأصحُّ في الكلِّ، ولا يُعَارِضُهُ دليلٌ وموافَقَتُه خبرًا لا تَدُل على أنَّهُ عنهُ لكنَّهُ الظاهِرُ إنْ لمْ يوجدْ غيرُهُ.
خاتِمَةٌ: جاحِدُ مُجْمَعٍ عليهِ معلومٍ من الدينِ ضرورةً كافرٌ إنْ كانَ فيهِ نصٌّ وكذا إنْ لم يكنْ في الأصحِّ.
......................... ......................... ......................... .............
( و ) علم من حرمة خرق الإجماع ( أَنَّهُ يَمْتَنِعُ ارتِدادُ الأمةِ ) في عصر ( سمعًا ) لخرقه إجماع من قبلهم على وجوب استمرار الإيمان، وقيل: لا يمتنع سمعا كما لا يمتنع عقلا اتفاقا ( لا اتفاقُها ) أي الأمة في عصر ( على جهلِ ما ) أي شيء ( لم تُكَلَّفْ بهِ ) بأن لم تعلمه كالتفضيل بين عمار وحذيفة فلا يمتنع إذ لا خطأ فيه لعدم التكليف به، وقيل: يمتنع ( ولا انقسامُها ) أي الأمة ( فِرقتينِ ) في كل مِن مسألتين متشابهتين ( كلٌّ ) من الفرقتين ( يُخْطِئُ في مسألةٍ ) من المسألتين كاتفاق إحدى الفرقتين على وجوب الترتيب في الوضوء وعلى عدم وجوبه في الصلاة الفائتة، والأخرى على العكس، فلا يمتنع نظرا في ذلك إلى أنه لم يخطىء إلا بعض الأمة بالنظر إلى كل مسألة على حدتها، وقيل: يمتنع نظرا إلى أنها أخطأت في مجموع المسألتين والخطأ منفي عنها بالخبر السابق ( و ) علم ( أنَّ الإجماعَ لايضادُّ إجماعًا ) أي لا يجوز انعقاده على ما يضاد ما انعقد عليه إجماع ( قبلَهُ ) لاستلزامه تعارض قاطعين، وقيل: يجوز إذ لا مانع من كون الأوّل مغيا بالثاني أي أن تكون مدة صلاحية الإجماع الأول إلى حين ظهور إجماع آخر ( وهوَ ) أى ما ذكر من المعلومات من حرمة إحداث ثالث وتفصيل فما بعدها ( الأصحُّ في الكلِّ ) أي كل من المسائل الست وهي: حرمة إحداث ثالث وتفصيل، وجواز إحداث دليل أو تأويل أو علة، وامتناع ارتداد الأمة، وجواز اتفاق الأمة على جهل ما لم تكلف به، وجواز انقسام الأمة فرقتين كلّ يخطئ في مسألة، وامتناع معارضة الإجماع لإجماع قبله ( ولا يُعَارِضُهُ ) أي الإجماع بناء على الأصح أنه قطعيّ ( دليلٌ ) قطعي ولا ظني، إذْ لا تعارض بين قاطعين لاستحالته، إذ التعارض بين شيئين يقتضي خطأ أحدهما، ولا بين قاطع ومظنون لإلغاء المظنون في مقابلة القاطع، أما الإجماع الظني فيجوز معارضته بظني آخر ( وموافَقَتُهُ ) أي الإجماع ( خبرًا ) أي حديثا ( لا تَدُلُّ ) تلك الموافقة ( على أنَّهُ ) أي الإجماع ناشئ ( عنهُ ) أي عن ذلك الخبر؛ لجوازِ أن يكون ناشئا عن غيره ولم ينقل لنا استغناء بنقل الإجماع عنه ( لكنَّهُ ) أي كونه عنه هو ( الظاهِرُ إنْ لمْ يوجدْ غيرُهُ ) بمعناه، إذ لا بد له من مستند كما مر، فإن وجد غيره فلا لجواز أن يكون الإجماع عن ذلك الغير، وقيل: موافقته له تدل على أنه عنه ( خاتِمَةٌ جاحِدُ مُجْمَعٍ عليهِ معلومٍ من الدينِ ضرورةً ) وهو ما يعرفه منه الخواص والعوام من غير قبول تشكيك كوجوب الصلاة والصوم وحرمة الزنا والخمر ( كافرٌ ) بلا خلاف ( إنْ كانَ فيهِ نصٌّ ) من كتاب وسنة لأن جحده يستلزم تكذيب النبي صلى الله عليه وسلّم فيه ( وكذا إنْ لم يكنْ ) فيه نصّ جاحده كافر ( في الأصحِّ ) لما مر من كونه معلوما من الدين بالضرورة، وقيل: لا لعدم النص وخرج بالمجمع عليه غيره وإن كان فيه نص، وخرج بالمعلوم ضرورة غيره كفساد الحج بالوطء قبل الوقوف بعرفة، وإن كان فيه نص كاستحقاق بنت الابن السدس مع البنت لقضاء النبي صلى الله عليه وسلّم به، كما رواه البخاري. وخرج بالدين المجمع عليه المعلوم من غير الدين ضرورة كوجود بغداد، فلا يكفر جاحدها في المسائل الثلاثة المذكورة.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 08:05 PM
الدرس الثامن والسبعون- القياس

مقدمة


أولا: القياس: حمل معلوم على معلوم لمساواته له في علة حكمه عند الحامل.
كقياس النبيذ على الخمر في الحرمة بجامع الإسكار.
فقولنا: حمل معلوم على معلوم المقصود بالمعلوم الأول هو المقيس كالنبيذ والمقصود بالمعلوم الثاني هو المقيس عليه كالخمر، والمقصود بالحمل هو الإلحاق والتسوية بينهما في الحكم.
وقولنا: لمساواته له في علة الحكم أي لوجود علة الحكم كالإسكار في المقيس.
وقولنا: عند الحامِل أي أن المساواة في العلة هي عند الحامل والقائس وهو المجتهد، وقد يكون في الواقع ليست تلك علة الحكم فيكون القياس فاسدا، فعلم أن التعريف يشمل كل قياس شرعي عند المجتهد وإن كان لم يصب فيه حكم الله، فإن أريد تخصيص الحد بالقياس الصحيح فليرفع قيد عند الحامل لتكون المساواة واقعية لا بحسب ظن المجتهد فقط.
ثانيا: القياس حجة فيما يلي:
1- الأمور الدنيوية كالأغذية والأدوية، كقياس نفع هذا الدواء في معالجة مريض معين على مريض مثله، والبحوث العلمية والتكنولوجيا لا تستغني عن القياس.
2- الأمور الشرعية لعمل كثير من الصحابة به متكررا شائعا بلا إنكار من أحد.
ثالثا: تستثنى أمور لا يحتج فيها بالقياس وهي:
1- الأمور العادية والخِلْقية، أي التي ترجع إلى العادة والخلقة. مثل: أقل الحيض وأكثره وكذلك النفاس والحمل ونحو ذلك. فإنها لا تثبت بالقياس؛ لأنها لا يدرك المعنى والعلة فيها بل يرجع فيها إلى قول من يوثق به وهي تختلف من شخص لآخر، فلا يقال مثلا: النفاس أقله يوم وليلة قياسا على الحيض.
2- بعض الأحكام الشرعية التي لا يدرك المعنى فيها، فليس كل الأمور الشرعية يجري القياس فيها؛ لأنه مبني على إدراك العلة في الأصل والفرع وحيث لم يعلم فلا قياس.
3- المنسوخ من الأحكام؛ إذْ بالنسخ ينتفي اعتبار الوصف الجامع فلا يمكن القياس حينئذ.
رابعا: إذا نص الشارع على علة حكم معين هل يكون نصه على العلة أمرا بالقياس فيجب إثبات نفس الحكم في كل موضوع وجدت فيه العلة أو لا ؟
مثاله: إذا قال الشارع: حرّمت الخمرَ لإسكارها. هل يكون تنصيصه على العلة في هذه المسألة دليلا على إيجاب قياس كل المواد المسكرة على الخمر في الحرمة أو ليس لوحده دليلا كافيا ؟
قيل: هو دليل على وجوب القياس.
وقيل: لا لأن الشارع قد يكون نصّ على العلة لبيان سبب تشريع الحكم ليكون أوقع في النفس وأدعى للامتثال.
وحاصل المسألة أنه لو لم يرد أمر من الشارع بالتعبد بالقياس لكنه في موضع نصّ على علة حكم فهل يكون ذلك أذنا منه في هذا القياس المخصوص وإعلاما منه بحجية القياس وإيجابا للعمل بموجبه أو لا؟
وفائدة هذه المسألة تظهر في أن أكثر مَن منع حجية القياس لم يخالف في الأخذ بالقياس في حالة النص بالعلة حتى لو لم يسمه قياسا. وأما الجمهور فرغم احتجاجهم بالقياس فلم يعتبروا صورة النص على العلة دليلا كافيا للاحتجاج بالقياس مع اعترافهم بأن أقوى صور القياس ما ثبتت علته بالنص.
والخلاصة أن التنصيص على العلة لا يكفي دليلا على حجية القياس.


( شرح النص )



الكتابُ الرابعُ في القياسِ

وهُوَ حمْلُ معلومٍ على معلومٍ لمساواتِهِ في علةِ حكمهِ عندَ الحامِلِ، وإنْ خُصَّ بالصحيحِ حُذِفَ الأخيرُ، وهوَ حجّةٌ في الأمورِ الدنيويةِ وكذا في غيرِها في الأصحِّ إلا في العاديَّةِ والخِلْقِيَّةِ، وإلا في كلِّ الأحكامِ، وإلا القياسَ على منسوخٍ فيمتنِعُ في الأصحِّ، وليسَ النصُّ على العلةِ أمرًا بالقياسِ في الأصحِّ.
......................... ......................... ......................... .................
لما فرغ من الكتاب والسنة والإجماع شرع في الدليل الرابع فقال: ( الكتابُ الرابعُ في القياسِ ) الفقهي ( وهُوَ ) لغة: التقدير والمساواة، يقال: قست الثوب بالذراع أي قدرته به، ويقال: فلان لا يقاس بفلان أي لايساوى به، واصطلاحا ( حمْلُ معلومٍ على معلومٍ ) أي إلحاقه به في حكمه، والمقصود بالمعلوم هو الشيء الذي يمكن أن يعلم، فالقياس هو إلحاق شيء بشيء، ولكنه عبر بالمعلوم ولم يعبر بالشيء ليشمل الحد القياس في المعدومات فإن الشيء ينصرف للموجود والقياس يمكن أن يجري في الذهن بين شيئين معدومين ( لمساواتِهِ ) له ( في علةِ حكمهِ ) بأن توجد في الفرع المحمول ( عندَ الحامِلِ ) وهو المجتهد سواء وافق ما في نفس الأمر أو لا، بأن ظهر غلطه، فتناول الحد القياس الفاسد كالصحيح ( وإنْ خُصَّ ) المحدود ( بالصحيحِ حُذِفَ ) من الحدّ ( الأخيرُ ) وهو عند الحامل فلا يتناول حينئذ إلا الصحيح لانصراف المساواة المطلقة إلى ما في نفس الأمر والفاسد قبل ظهور فساده للمجتهد معمول به كالصحيح ( وهوَ ) أي القياس ( حجّةٌ في الأمورِ الدنيويةِ ) كالأغذية ( وكذا في غيرِها ) كالشرعية ( في الأصحِّ ) لعمل كثير من الصحابة به متكررا شائعا مع سكوت الباقين فيكون إجماعا، ولقوله تعالى: فاعتبروا. والاعتبار: قياس الشيء بالشيء، فيجوز القياس في ذلك، وقيل: لا يجوز ( إلا في العاديَّةِ والخِلْقِيَّةِ ) أي التي ترجع إلى العادة والخلقة كأقل الحيض أو النفاس أو الحمل وأكثره فيمتنع ثبوتها بالقياس في الأصح، لأنها لا يدرك المعنى فيها، بل يرجع فيها إلى قول من يوثق به، وقيل: يجوز لأنه قد يدرك المعنى فيها ( وإلا في كلِّ الأحكامِ ) فيمتنع ثبوتها جميعا بالقياس في الأصح؛ لأن منها ما لا يدرك معناه كوجوب دية الخطأ على العاقلة مع أنهم لم يقتلوا، وقيل: يجوز حتى إن كلا من الأحكام صالح لأن يثبت بالقياس بأن يدرك معناه ووجوب الدية على العاقلة له معنى يدرك، وهو إعانة الجاني فيما هو معذور فيه، كما يعان الغارم لأصلاح ذات البين بما يصرف إليه من الزكاة ( وإلا القياسَ على منسوخٍ فيمتنِعُ ) القياس فيه ( في الأصحِّ ) لانتفاء اعتبار الوصف الجامع بالنسخ، وقيل: يجوز فيه ( وليسَ النصُّ على العلةِ) لحكم نحو: الخمر حرام لإسكارها ( أمرًا بالقياسِ ) أي ليس أمرا به، والقصد من هذه المسألة بيان أن هذا التنصيص على العلة لا يصلح أن يكون دليلا على حجية القياس ( في الأصحِّ ) وقيل: إنه أمر به.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 08:06 PM
الدرس التاسع والسبعون- القياس

أركان القياس

أولا: أركان القياس أربعة:
1- الأصل وهو: الصورة المقيس عليها والتي نصّ الشارع على حكمها.
2- الثاني: الفرع وهو: الصورة المقيسة التي نبحث لها عن حكم.
3- حكم الأصل وهو: خطاب الله الوارد على الأصل والثابت بالكتاب أو السنة أو الإجماع.
4- العلة: وهي الوصف الجامع بين الأصل والفرع بوجوده فيهما، والتي بواسطتها سنعدِّي حكم الأصل إلى الفرع.
ثانيا: اختلف في تحديد الأصل على أقوال:
1- هو محلُ الحكمِ المشبّهُ بهِ أي هو الصورة التي ثبت لها الحكم أولا والتي يشبه بها الفرع فإن القياس قائم على التشبيه فالأصل هو المشبه به، والفرع هو المشبه، والعلة هي وجه الشبه، بعبارة أخرى الأصل هو المقيس عليه. وهو الأصح.
2- هو دليل الحكم.
3- نفس الحكم.
مثاله: قياس البيرة على الخمر لعلة الإسكار، فالأصل على القول الأول هو الخمر، وعلى القول الثاني فهو ما دل على تحريم الخمر وهو قوله تعالى: ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشطان فاجتنبوه )، وعلى القول الثالث هو الحرمة.
ثالثا: لا يشترط في الأصل ما يلي:
1- قيام دليل يدل على جواز القياس عليه بنوعه أو شخصه. وقيل: يشترط ذلك.
فمثلا البيع نوع له عقود كثيرة يشملها اسم البيع ولكل عقد منه له مسائل مخصوصه فلا يشترط إذا أردنا أن نقيس في مسألة من مسائل البيع أن يوجد دليل يدل على جواز القياس لا في شخص المسألة ولا في نوعها بأن يرد دليل على جواز القياس في البيوع، وكذا إذا أردنا أن نقيس في مسائل النكاح فلا يشترط أن يوجد دليل من الشرع على جواز القياس في تلك المسألة بخصوصها ولا في باب النكاح، بخلاف من اشترط فعنده لا بد من دليل، فمثلا إذا أردنا أن نقيس على مسألة من مسائل الطلاق فلا بد من وجود دليل على جواز القياس في باب النكاح.
2- الإجماع على وجود العلة في الأصل، فيصح القياس على أصل اختلف العلماء في وجود علته.
والاختلاف يكون في موضعين:
أ- في كون الأصل معللا أو لا أي تعرف له علة أو لا، كما لو قيس اللائط على الزاني في الحد، فاعترض الحنفية بأن القياس لا يجري في الحدود فهي غير معللة أصلا عندهم.
ب- في كون الأصل قد وجدت فية العلة أو لا، فلا يشترط اتفاقهم على أن العلة في الأصل هي كذا، كما في تحريم ربا الفضل في التمر والبر والشعير والملح ، فقيل: هي الكيل أو الوزن ولو لم تكن مطعومة، وقيل: هي الطعم فما ليس بمطعوم لايجري فيه الربا، وقيل: هي القوت والادخار.


( شرح النص )

وأَركانُهُ أَربَعَةٌ: الأَوَّلُ الأَصلُ والأصحُّ أَنَّهُ مَحَلُ الحكمِ المشبَّهُ بهِ، وأَنَّهُ لا يُشتَرَطُ دالٌّ على جوازِ القياسِ عليهِ بنوعِهِ أَو شخصِهِ، ولا الِاتِّفاقُ على وجودِ العِلَّةِ فيهِ.
......................... ......................... ......................... .
( وأَركانُهُ ) أي القياس ( أَربَعَةٌ ) مقيس عليه، ومقيس، ومعنى مشترك بينهما، وحكم للمقيس عليه يتعدّى بواسطة المشترك إلى المقيس ( الأَوَّلُ ) وهو المقيس عليه ( الأَصلُ ) أي يسمى به كما يسمى المقيس بالفرع كما سيأتي ( والأصحُّ أَنَّهُ ) أي الأصل المقيس عليه ( مَحَلُ الحكمِ المشبَّهُ بهِ ) أي المقيس عليه، وقيل هو حكم المحل، وقيل دليل الحكم ( و ) الأصح ( أَنَّهُ لا يُشتَرَطُ ) في الأصل المذكور ( دالٌّ ) أي دليل ( على جوازِ القياسِ عليهِ بنوعِهِ أَو شخصِهِ، ولا الِاتِّفاقُ على وجودِ العِلَّةِ ) المعينة ( فيهِ ) وقيل: يشترطان، فعلى اشتراط الأول لا يقاس في مسائل البيع مثلا إلا إذا قام دليل على جواز القياس فيه بنوعه أو شخصه، وعلى اشتراط الثاني لا يقاس فيما اختلف في وجود العلة فيه، بل لا بدّ من الاتفاق على ذلك بعد الاتفاق على أن حكم الأصل معلل بأن يتفقوا على أن علته كذا، وكل من القولين مردود بأنه لا دليل عليه.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 08:07 PM
الدرس الثمانون- القياس

شروط حكم الأصل


أولا: يشترط في حكم الأصل ما يلي:
1- أن يكون ثابتا للأصل بغير قياس؛ إذْ لوثبت بالقياس على أصل آخر كان القياس الثاني لغوا للاستغناء عنه بالقياس على الأول رأسًا.
مثال: لا يقاس الوضوء على الغسل في وجوب النية، والنية في الغسل إنما وجبت بالقياس على الصلاة بجامع أن كلا منها قربة، بل يقاس وجوب النية في الوضوء على الصلاة رأسا.
فلا بد من ثبوت حكم الأصل إما بنص أو إجماع.
2- أن لا يكون متعبدا فيه بالقطع، أي أن لا يجري فيما يطلب فيه اليقين كالعقائد، فهي يطلب فيها القطع واليقين، والحال أن القياس الفقهي لا يفيد سوى الظن.
فما يتعبّد فيه بالعلم اليقيني لا يجوز إثباته بالقياس كإثبات حجيّة خبر الواحد بالقياس على قبول شهادة الشاهدين.
وهذا الشرط محل نظر لأن القياس قد يفيد اليقين إذا علم حكم الأصل وعلمت العلة وتحقق وجودها في الفرع وقد تقدم أن القياس قد يجري في العقليات وهي يطلب منها اليقين.
3- أن يكون مِن جنس حكم الفرع فيشترط كونه شرعيا إن كان المطلوب إثباته حكما شرعيا، وكونه عقليا إن كان المطلوب إثباته حكما عقليا، وكونه لغويا إن كان المطلوب إثباته حكما لغويا.
4- أن يكون جاريا على سنن القياس وطريقته بأن يكون مشتملا على معنى يوجب تعديته من الأصل إلى الفرع.
فإن لم يكن كذلك بأن خرج عن سنن القياس فلم يشتمل على المعنى المذكور فلا يقاس على محله وهو الأصل لخصوصيته في هذه الحالة.
مثاله: شهادة خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، فلا يقاس عليه غيره وإن فاقه رتبة كالصدّيق رضي الله عنه لما روى أبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم: جعل شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
5- أن لا يكون دليله شاملا لحكم الفرع؛ فإنه إذا كان دليل حكم الأصل شاملا للفرع لم يكن بحاجة إلى قياس للاستغناء عنه بالنص.
مثاله: لو استدل مستدل على ربوية البر بحديث مسلم: الطعام بالطعامِ مثلا بمثل. ثم قاس الذرة على البر بجامع الطعم، كان هذا القياس مستغنى عنه؛ لأن الطعام الوارد في النص شامل للذرة شموله للبر.
6- أن يكون متفقا عليه بين الخصمين، وهذا معلوم من قانون المناظرة فمتى أراد أن يحتج زيد على عمرو بالقياس فلا بد أن يكون عمرو يسلم بثبوت حكم الأصل.


( شرح النص )

الثاني: حُكمُ الأصلِ وشرطُهُ ثبوتُهُ بغيرِ قياسٍ ولو إجماعًا، وكونُهُ غيرَ مُتَعَبَّدٍ بهِ بالقطعِ في قولٍ، وكونُهُ من جنسِ حكمِ الفرعِ، وأنْ لا يَعْدِلَ عن سَنَنِ القياسِ، ولا يكونَ دليلُهُ شاملًا لحكمِ الفرعِ، وكونُهُ متفقًا عليهِ جزمًا بينَ الخصمينِ فقطْ في الأصحِّ.
......................... ......................... .........................
( الثاني ) من أركان القياس ( حُكمُ الأصلِ وشرطُهُ ثبوتُهُ بغيرِ قياسٍ ) إذ لو ثبت بقياس كان القياس الثاني لغوًا للاستغناء عنه بقياس الفرع فيه على الأصل في الأول كقياس التفاح على البرّ في الربوية بجامع الطعم، ثم قياس السفرجل على التفاح بجامع الطعم، وهو لغو للاستغناء عنه بقياس السفرجل على البر ( ولو إجماعًا ) فيثبت حكم الأصل به ولا يشترط النص من كتاب أو سنة، وقيل: شرط حكم الأصل ثبوته بالنص فلا يثبت بإجماع ( وكونُهُ غيرَ مُتَعَبَّدٍ بهِ بالقطعِ ) أي اليقين (في قولٍ ) مرجوح للإمام الغزالي؛ لأن الحكم الذي تعبد فيه باليقين إنما يقاسُ على محلِه ما يطلبُ فيه اليقين كالعقائد، والقياس لا يفيد اليقين، وردّ بأنه يفيده إذا علم حكم الأصل، وما هو العلة فيه، ووجودها في الفرع ( وكونُهُ من جنسِ حكمِ الفرعِ ) فيشترط كونه شرعيا إن كان المطلوب إثباته حكما شرعيا، وكونه عقليا إن كان المطلوب إثباته حكما عقليا، وكونه لغويا إن كان المطلوب إثباته حكما لغويا ( وأنْ لا يَعْدِلَ ) أي حكم الأصل ( عن سَنَنِ القياسِ ) فما عدل عن سننه أي خرج عن طريقه لا يقاس على محله لتعذر التعدية حينئذ كشهادة خزيمة بن ثابت وحده، فلا يقاس به غيره، وإن فاقه رتبة كالصديق رضي الله عنه ( و ) أن ( لا يكونَ دليلُهُ ) أي دليل حكم الأصل ( شاملًا لحكمِ الفرعِ ) للاستغناء به حينئذ عن القياس، مع أنه ليس جعل بعض الصور أصلا لبعضها أولى من العكس، كما لو استدل على ربوية البر بخبر مسلم: الطعام بالطعام مثلا بمثل. ثم قيس عليه الذرة بجامع الطعم فإن الطعام يشمل الذرة كالبر سواء ( وكونُهُ ) أي حكم الأصل ( متفقًا عليهِ جزمًا ) أي بلا خلاف وإلا احتيج عند منعه إلى إثباته فينتقل إلى مسألة أخرى غير المسألة التي عقد القياس لها، وينتشر الكلام ويطول ويفوت المقصود، وذلك ممنوع منه إلا أن يروم المستدل إثبات حكم الأصل فليس ممنوعا- وإن طال الكلام لأن الأثبات حينئذ مقصود له- كما يعلم مما سيأتي ( بينَ الخصمينِ فقطْ في الأصحِّ ) لأن البحث لا يعدوهما، وقيل: لا بد أن يكون متفقا على ثبوت حكم الأصل بين كل الأمة حتى لا يتأتى المنع أصلًا من أي أحد، وفيه بعد ظاهر. وهنا تنبيهان: الأول: أن القول بأن القياس التمثيلي- وهو القياس الفقهي- لا يفيد اليقين إطلاقا إنما تسرّب لبعض الأصوليين من المنطق الأرسطي ولا يساعده النظر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( .. فيقال‏:‏ تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل، بأن الأول قد يفيد اليقين والثاني لا يفيد إلا الظن، فرق باطل، بل حيث أفاد أحدهما اليقين، أفاد الآخر اليقين‏.‏ وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن، فإن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر، بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين‏.‏ فإن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا، حصل به اليقين، وإن لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنًا، لم يفد إلا الظن‏... )‏ الرد على المنطقيين ص 255.
الثاني: القياس التمثيلي وإن احتج به في العقليات وإن أفاد اليقين في بعض الموارد إلا أنه هو وأخوه القياس الشمولي المنطقي لا يصح استعماله في حق القدوس العظيم جلّ وعلا بل يستعمل في حقه سبحانه قياس الأولى بأن يقال كل كمال ثبت بالدليل لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بالتنزه عنه. قال شيخ الإسلام: (.. وأعظم المطالب العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه،وهذا كله لا تنال خصائصه لا بقياس الشمول ولا بقياس التمثيل فإن الله تعالى لا مثل له فيقاس به ولا يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها فلهذا كانت طريقة القرآن وهي طريقة السلف والأئمة أنهم لا يستعملون في الإلهيات قياس تمثيل وقياس شمول تستوي أفراده بل يستعملون من هذا وهذا قياس الأولى فإن الله له المثل الأعلى.. ) درء تعارض العقل والنقل ج7 ص 318.

صفاء الدين العراقي
2017-05-17, 08:09 PM
الدرس الحادي والثمانون- القياس

تكملة الكلام على حكم الأصل


أولا: لا يشترط مع اتفاق الخصمين اختلاف الأمة. بيانه:
قد تقدم أنه يشترط أن يكون حكم الأصل متفقا عليه بين الخصمين المتناظرين وأنه لا يشترط اتفاق الأمة على الصحيح، ولكن لا يعني هذا أنه من شرط حكم الأصل أن يكون الحكم مختلفا فيه بين كل الأمة بل يجوز أن يكون حكم الأصل مجمعا عليه، كما يجوز أن يكون متفقا عليه بين الخصمين دون كل الأمة.
وقيل: يشترط مع اتفاق الخصمين في حكم الأصل اختلاف الأمة؛ لأنه إذا كان مجمعا عليه فلن يتمكن المانع من منع حكم الأصل أي أنه لن تكون هنالك مناظرة ومباحثة من أصله. وأجيب: بأن الخصمين مع اتفاقهما على حكم الأصل يجوز أن يختلفا في علة حكم الأصل فكل يعين علة غير العلة التي عينها الآخر فتجري بينهما المباحثة.
ثانيا: إذا كان الحكم متفقا عليه بين الخصمين فإما أن يختلفا في تعيين العلة أو في وجودها. فهما حالتان:
1- أن يختلفا في تعيين العلة وصورة المسألة أن يتفق الخصمان على حكم الأصل ولكن أحدهما يعلل ذلك الحكم بعلة، والآخر يعلله بعلة أخرى فهذا يسمى مركب الأصل.
مثاله: اتفاق الشافعية والحنفية على أن حلي الصغيرة لا زكاة فيه، لكن العلة عند الشافعية كونه حليا مباحا، فقاسوا عليه حلي الكبيرة، والعلة عند الحنفية كونه حلي صغيرة لم تبلغ فلا يقاس عليه حلي الكبيرة.
2- أن يختلفا في وجود العلة في الأصل وصورة المسألة أن يتفق الخصمان على حكم الأصل، ولكن العلة التي يثبتها المستدل يقول الخصم إنها غير موجودة في الأصل فهذا يسمى مركب الوصف.
مثاله: اتفاق الشافعية والحنفية على أن من قال: فلانة التي أتزوجها طالق. أن الطلاق لايقع إذا تزوجها.
والعلة في ذلك عند الشافعية تعليق الطلاق قبل ملكه. فقاسوا عليه ما لو قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق. فلا يقع الطلاق.
أما الحنفية فمنعوا وجود العلة في الصورة الأولى وقالوا: هي تنجيز لا تعليق فلا يصح القياس المذكور، بمعنى أننا لو قلنا إن العلة هي تعليق الطلاق قبل ملكه كما قلتم فإننا لا نسلم بصحة القياس لعدم وجود العلة التي ذكرتموها في الأصل فإنه عندما يقول القائل فلانة التي أتزوجها طالق لا يوجد تعليق وشرط في كلامه فالعلة التي ذكرتموها لم تتوفر في الأصل.
فهذان القياسان قياس مركب الأصل وقياس مركب الوصف لا ينهضان حجة على الخصم.
أما في مركب الأصل فلتعيين كل منهما علة غير علة الآخر فبالتالي يمنع الخصم وجود العلة في الفرع فالحنفي يمنع وجود علة الصغر في حلي الكبيرة.
وأما في مركب الوصف فلأن الخصم يمنع وجود العلة في الأصل أي أن الحنفي يمنع وجود التعليق في الأصل الذي هو فلانة التي أتزوجها طالق.


( شرح النص )

والأصحُّ أَنَّهُ لا يُشترَطُ اختلافُ الأمَّةِ، فإنِ اتفقا عليهِ معَ منعِ الخصمِ أَنَّ عِلَّتَهُ كذا فمركَّبُ الأَصلِ، أو وجودَها في الأصلِ فمركّبُ الوصفِ ولا يقبلانِ في الأصحِّ.
......................... ......................... ......................... .
( والأصحُّ أَنَّهُ لا يُشترَطُ ) مع اشتراط اتفاق الخصمين فقط ( اختلافُ الأمَّةِ ) غيرهما في حكم الأصل، بل يجوز اتفاقهم على حكم الأصل كاتفاق الخصمين عليه، وقيل: يشترط اختلافهم فيه ليتأتى للخصم منعه، إذْ لا يتأتى له منع الحكم المتفق عليه بين الأمة، ويجاب: بأن المراد أن يتأتى للخصم منع حكم الأصل من حيث العلة، وإن لم يتأت له منعه من حيث هو لكونه مجمعا عليه ( فإنِ اتفقا عليهِ ) أي على حكم الأصل ( معَ منعِ الخصمِ أَنَّ عِلَّتَهُ كذا ) كما في قياس حلي البالغة على حلي الصبية في عدم وجوب الزكاة، فإن عدم وجوب الزكاة في حلي الصبية متفق عليه بيننا وبين الحنفي، والعلة فيه عندنا كونه حليا مباحا، وعنده كونه مال صبية ( فَـ ) القياس المشتمل على الحكم المذكور ( مركَّبُ الأَصلِ ) سمي به لتركيب الحكم فيه أي بنائه على علتي الأصل بالنظر للخصمين أي لابتناء الحكم على علتين يقول بإحداهما واحد وبالثانية آخر ( أو ) اتفقا على حكم الأصل مع منع الخصم ( وجودَها ) أي وجود العلة ( في الأصلِ ) كما في قياس: إنْ نكحت فلانة- كهند- فهي طالقٌ على فلانة التي أنكحها طالق، في عدم وقوع الطلاق بعد النكاح، فإن عدم وقوع الطلاق في الأصل -الذي هو فلانة التي أتزوجها طالق- متفق عليه بيننا وبين الحنفي، والعلة تعليق الطلاق قبل تملكه، والحنفي يمنع وجودها في الأصل ويقول هو تنجيز أى فلا يصح القياس المذكور لعدم العلة فى الفرع لأنه تعليق والأصل تنجيز ( فـ ) القياس المشتمل على الحكم المذكور ( مركّبُ الوصفِ ) سمي به لتركيب الحكم فيه أي بنائه على الوصف- وهو وجود العلة في الأصل- الذي منع الخصم وجوده في الأصل، كالمثال السابق فإن الحكم بوقوع الطلاق في الفرع الذي هو إن تزوجت فلانة فهي طالق مبني على وجود العلة التي هي تعليق الطلاق في الأصل الذي هو فلانة التي أتزوجها طالق، وظهر- من تفسر التركيب بالبناء- أن لفظ مركب في مركب الأصل ومركب الوصف هو بمعنى البناء أي ترتب شيء على آخر لا بمعنى التركيب الذي هو ضد الإفراد.تأمل ( ولا يقبلانِ ) أي القياسان المذكوران بمعنى لا ينهضان حجة على الخصم في باب المناظرة وإن كان لكل مجتهد أن يأخذ بما نهض حجة عنده سواء وافقه الخصم أو خالفه ( في الأصحِّ ) لمنع الخصم وجود العلة في الفرع في مركب الأصل، ولمنعه وجود العلة في الأصل في مركب الوصف، وقيل: يقبلان نظرا لاتفاق الخصمين على حكم الأصل في القياسين.

صفاء الدين العراقي
2017-07-08, 07:46 PM
الدرس الثاني والثمانون- القياس

المناظرة على علة حكم الأصل

أولا: إذا سلّم الخصم أن علة الحكم هي ما ذكره المستدل فأثبت المستدل وجود العلة في الفرع، أو سلّم الخصم وجود العلة في الفرع فأثبت المستدل أنها هي علة الحكم انتهض الدليل على الخصم.
مثال: لو سلم الخصم أن علة الربا في البر هي الطعم ولكنه لم يسلم وجودها في الأرز فمتى أثبت المستدل وجودها في الأرز انتهض القياس حجة على الخصم.
مثال: لو سلم الخصم أن المطعومية موجودة في الأرز ولكنه لم يسلم أنها هي علة الربا في البر فمتى أثبت المستدل أنها هي علة الحكم انتهض القياس حجة على الخصم.
ثانيا: إذا لم يتفق الخصمان على الأصل من حيث الحكم والعلة وأراد المستدل إثبات حكم الأصل أولا بدليل، ثم إثبات العلة بدليل آخر فالأصح قبول ذلك منه.
وهذه المسألة تقدمت الإشارة إليها فقد ذكرنا أنه يشترط اتفاق الخصمين على حكم الأصل قبل المناظرة وإلا احتيج عند منعه إلى إثباته فينتقل إلى مسألة أخرى غير المسألة التي عقد القياس لها، وينتشر الكلام ويطول، ولكن يستثنى فيما لو أراد المستدل إثبات حكم الأصل وإثبات العلة معا فذلك جائز لأن إثبات المستدل الشيء بمنزلة اعتراف الخصم به.
وقيل: لا يقبل، بل لا بد من اتفاقهما على الأصل أولا، صونا للكلام عن الانتشار.
ثالثا: لا يشترط اتفاق الأمة على أن حكم الأصل معلل، ولا أن تكون العلة منصوصا عليها؛ إذْ لا دليل على اشتراط ذلك. وعليه يكفي إثبات التعليل بدليل وإثبات وجود العلة بدليل.
وهذه المسألة قد تقدمت عند قولنا أنه لا يشترط الإجماع على وجود العلة في الأصل.










( شرح النص )

وَلوْ سَلَّمَ العِلَّةَ فأثبتَ المستَدِلُّ وجودَها أَو سَلَّمَهُ الخصمُ انتهضُ الدليلُ، وإنْ لمْ يتفقا عليهِ وعلى عِلَّتِهِ ورامَ المستدِلُّ إثباتَهُ ثُمَّ العلةِ فالأصحُّ قَبولُهُ، والأصحُّ لا يُشترَطُ الاتفاقُ على أنَّ حكمَ الأصلِ مُعَلَّلٌ أَو النصُّ على العلةِ.
.............................. .............................. .............................. ...........................
( وَلوْ سَلَّمَ ) الخصم ( العِلَّةَ ) للمستدل أي سلم أنها ما ذكره لكنه لم يسلم وجودها في الفرع ( فأثبتَ المستَدِلُّ وجودَها ) فيه ( أَو سَلَّمَهُ الخصمُ ) أي سلم وجودها في الفرع لكنه لم يسلم أن العلة ما ذكره فأثبت المستدل أنها هي العلة ( انتهضُ الدليلُ ) عليه لاعترافه بوجود العلة في الثاني أي فيما إذا سلم وجودها، وقيام الدليل عليه في الأول أي فيما إذا سلم الخصم أن العلة هي ما ذكره المستدل ( وإنْ لمْ يتفقا ) أي الخصمان ( عليهِ ) أي على الحكم ( و ) لا ( على عِلَّتِهِ ورامَ المستدِلُّ إثباتَهُ ) بدليل ( ثُمَّ ) إثبات ( العلةِ ) بطريق أي بمسلك من مسالك العلة ( فالأصحُّ قَبولُهُ ) في ذلك لأن إثباته بالدليل كاعتراف الخصم به، وقيل: لا يقبل بل لا بد من اتفاقهما على حكم الأصل وعلته صونا للكلام عن الانتشار ( والأصحُّ ) أنه ( لا يُشترَطُ ) في القياس ( الاتفاقُ ) أي الإجماع ( على أنَّ حكمَ الأصلِ مُعَلَّلٌ أَو النصُّ على العلةِ ) المستلزم لتعليله- لأنه متى نص على علة فيعني أن الأصل معلل لا تعبدي- إذْ لا دليل على اشتراط ذلك بل يكفي إثبات التعليل بدليل، وقيل: يشترط ذلك، وقد مر أنه لا يشترط الاتفاق على أن علة حكم الأصل كذا على الأصح، قال الشارح: وإنما فرقت كالأصل بين المسألتين لمناسبة المحلين يعني أن المسألة الأولى وهى عدم اشتراط الإتفاق على وجود العلة محلها الأصل لأنه محل وجود العلة فناسب ذكرها فى مباحث الأصل، والثانية وهى عدم اشتراط الإتفاق على أن حكم الأصل معلل محلها حكم الأصل لكونها من مباحثه فناسب ذكرها فيه.

صفاء الدين العراقي
2017-07-08, 07:46 PM
الدرس الثالث والثمانون- القياس

الفرع

أولا: الفرع وهو: المحل المشبّه أي المقيس، كالنبيذ في قياسه على الخمر في الحرمة، وقيل: الفرع هو: حكم المحل المشبّه كالحرمة في المثال المذكور.
ولا يتأتّى هنا أن يقال إنه دليل الحكم كما قيل في الأصل؛ لأن لحكم الأصل دليلا من نص أو إجماع، أما الفرع فدليله القياس، فلا يمكن أن يقال إن الفرع هو القياس أي لا يصح أن يقال إن أحد أركان القياس هو القياس نفسه، فذلك بمثابة من يقول في عد أركان الصلاة إن أركانها هي: النية، والقيام، والصلاة!.
ثانيا: تقبل المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض الحكم الذي ذكره المستدل، أو بما يقتضي ضده، لا بما يقتضي خلافه.
فهي ثلاث حالات:
1- أن يستدل المستدل على حكم بإثبات علة فيقول المعترض هناك علة أخرى تقتضي نقيض الحكم الذي ذكرته.
مثاله: أن يقول المستدل: مسح الرأس في الوضوء ركن فيسن تثليثه كغسل الوجه أي: يسن تثليث مسح الرأس قياسا على غسل الوجه بجامع الركنية فيهما.
فيقول المعترض: هو مسح في الوضوء كمسح الخفّ فلا يسن تثليثه، أي: لا يسن تثليث مسح الرأس قياسا على مسح الخفّ بجامع المسحيّة فيهما.
فهنا نلاحظ أن المستدل جاء بحكم وهو: يسن تثليث مسح الرأس، فعارض المعترض دليله بدليل آخر يثبت نقيض حكمه وهو: لا يسنّ تثليث مسح الرأس. فهذا النوع من المعارضة مقبول.
2- أن يستدل المستدل على حكم بإثبات علة فيقول المعترض هناك علة أخرى تقتضي ضد الحكم الذي ذكرته.
والنقيضان: لا يجتمعان ولا يرتفعان، والضدان: لا يجتمعان ولكنهما يرتفعان.
مثاله: أن يقول المستدل: الوتر واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم فيجب كالتشهد في الصلاة أي: الوتر واجب قياسا على التشهد في الصلاة بجامع المواظبة النبوية عليهما.
فيقول المعترض: الوتر مؤقّت بوقت صلاة مكتوبة- وهي العشاء- فيستحب كسنة الفجر أي: الوتر مستحب قياسا على سنة الفجر بجامع أن كلا منهما يفعل في وقت من أوقات الصلوات الخمس، ولم يعهد من الشارع وضع صلاتينِ واجبتين في وقت واحد.
وهنا المستدل جاء بحكم وهو وجوب الوتر وعارضه المعترض بما يثبت استحباب الوتر، والواجب والمستحب ضدان، وهذا النوع من المعارضة مقبول أيضا.
3- أن يستدل المستدل على حكم بإثبات علة فيقول المعترض هناك علة أخرى تقتضي خلاف الحكم الذي ذكرته.
وضابط الخلافين أنهما متنافيان في حدّ ذاتيهما لا يستحيل اجتماعهما في ذات ثالثة كالسواد والحلاوة، فهما متنافيان في المعنى ولكن لا مانع من اجتماعهما في محل واحد كقطعة نستلة سوداء، وكالبياض والبرودة فهما متنافيان ولكن يتأتى اجتماعهما في ذات واحدة كالثلج.
مثاله: أن يقول المستدل: اليمين الغموس قول يأثم قائله فلا يوجب الكفارة كشهادة الزور أي: لا تجب الكفارة في اليمين الغموس قياسا على شهادة الزور بجامع الإثم في كلّ.
فيقول المعترض: اليمين الغموس قول مؤكِّدٌ للباطل يُظنّ به حقيقته فيوجب التعزير كشهادة الزور أي: يجب التعزيز في اليمين الغموس قياسا على شهادة الزور بجامع أن كلا منهما قول مؤكد للباطل.
فهذه المعارضة غير مقبولة لأنه لا منافاة بين عدم وجوب الكفارة ووجوب التعزير لأنهما يجتمعان.
ثالثا: إذا جاء المستدل بعلة وعارضه المعترض بعلة أخرى فيقبل في دفع المعارضة المذكورة ترجيح علة المستدل على علة المعترض ككون علته قطعية منصوصا عليها وعلة المعترض ظنية إلى غير ذلك من مرجحات القياس التي ستأتي إن شاء الله.
رابعا: إذا جاء المستدل بعلة فلا يشترط أن يذكر معها علة الخصم ويدفعها بل يكفي عرض دليله بدون التعرض لدليل الخصم.
وقيل: يجب لأن تمام الدليل لا يحصل إلا بدفع ما يعارضه.
وأجيب: بأنه عند ذكر الدليل ابتداء لا يوجد ما يدفعه. نعم بعد أن يسمع المستدل اعتراض المعترض فعليه أن يتعرض لما اعترض به الخصم ويدفعه.












( شرح النص )

الثالثُ: الفرعُ وهو: المحلُّ المشبّهُ في الأصحِّ، والمختارُ قَبولُ المعارضةِ فيه بمقتضى نقيضِ الحكمِ أو ضدِّهِ، ودفعُها بالترجيحِ، وأَنَّهُ لا يجبُ الإيماءُ إليهِ في الدليلِ.
.............................. .............................. .............................. .............................
( الثالثُ ) من أركان القياس ( الفرعُ وهو: المحلُّ المشبّهُ ) بالأصل ( في الأصحِّ ) وقيل: حكم المحل المشبّه، ولا يأتي قول ثالث كالأصل بأنه دليل حكم الفرع؛ لأن دليله القياس فيلزم جعل الشيء ركنا من نفسه وهو مستحيل ( والمختارُ قَبولُ المعارضةِ ) وهي: مقابلة دليل المستدل بدليل ينتج ما يبطل مدعاه ( فيه ) أي في الفرع ( بمقتضى نقيضِ الحكمِ أو ضدِّهِ) أي بقياس مقتض للنقيض أو الضد، وقيل: لا يقبل وإلا لانقلب منصب المناظرة، إذ يصير المعترض مستدلا وبالعكس يصير المستدل معترضا، وذلك خروج عما قصد المتناظران بالمناظرة من معرفة صحة نظر المستدل في دليله إلى غيره وهو معرفة صحة نظر المعترض في دليله، قلنا: القصد من المعارضة هدم دليل المستدل لا إثبات مقتضى المعارضة- وهو استدلال المعترض على الحكم- المؤدي إلى ما مرّ من الانقلاب بمعنى أن المعترض يقصد بالمعارضة إبطال دليل الخصم وإن أدى بشكل غير مقصود إلى إثبات مدعاه بالاستدلال عليه، وصورة المعارضة في الفرع أن يقول المعترض للمستدل: ما ذكرتَ من الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع فعندي وصف آخر يقتضي ثبوت نقيضه أو ضده، فالنقيض نحو: المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالوجه، فيقول المعارض: هو مسح في الوضوء فلا يسنّ تثليثه كمسح الخف، والضد نحو: الوتر واظب عليه النبيّ صلى الله عليه وسلّم فيجب كالتشهد، فيقول المعارض: هو مؤقت بوقت صلاة من الخمس فيسن كالفجر، وخرج بالمقتضى لنقيض الحكم أو ضده: المعارضة بالمقتضى لخلاف الحكم فلا يقدح لعدم منافاتها لدليل المستدل، كما يقال: اليمين الغموس قول يأثم قائله فلا يوجب الكفارة، كشهادة الزور، فيقول المعارض: هو قول مؤكد للباطل يظن به حقيقته فيوجب التعزير كشهادة الزور ( و ) المختار في دفع المعارضة المذكورة زيادة على دفعها بكل ما يعترض به على المستدل ابتداء. راجع رسالتي في شرح آداب البحث والمناظرة إن شئت ( دفعُها بالترجيحِ ) لوصف المستدل على وصف المعارض بمرجح مما يأتي في محله لتعين العمل بالراجح، وقيل: لا تدفع به ( و ) المختار بناء على القول بقبول الترجيح في دفع المعارضة ( أَنَّهُ لا يجبُ ) على المستدل ( الإيماءُ إليهِ ) أي إلى الترجيح بين علته وعلة خصمه أي التعرض إليه ( في ) أثناء عرض ( الدليلِ ) ابتداء- أي قبل أن يعارضه المعترض- لأن ترجيح وصف المستدل الذي جعله علة على وصف معارضه خارج عن الدليل، وقيل: يجب لأن الدليل لا يتم بدون دفع المعارض. قلنا: لا معارض حينئذ فلا حاجة إلى دفعه قبل وجوده.

صفاء الدين العراقي
2017-07-08, 07:48 PM
الدرس الرابع والثمانون- القياس

شروط الفرع

أولا: من شروط الفرع أن يوجد فيه تمام العلة التي في الأصل. توضيحه:
إن العلة هي الجسر المشترك الذي بواسطته ينتقل الحكم من الأصل إلى الفرع فإذا لم توجد العلة فيه فلا قياس، وذلك كالإسكار في النبيذ في قياسه على الخمر.
ثم إن العلة قد تكون مفردة وقد تكون مركبة فالعلة المفردة كالإسكار في الخمر، والعلة المركبة هي التي تتركب من أجزاء وذلك كتعليل وجوب القصاص: بالقتل، العمد، العدوان، لمكافئ، غير ولد، فهذه خمسة أوصاف جعلت بمجموعها علة للقصاص الواجب، ولهذا قلنا: أن يوجد فيه تمام العلة وذلك إشارة إلى العلة المركبة فإذا وجد في الفرع بعض من أوصاف علة الأصل لم يتعد الحكم من الأصل إلى الفرع.
ثانيا: إن العلة مع اشتراط وجودها في الأصل والفرع إلا أنه ليس من شرط ذلك عدم وجود زيادة في القوة في الأصل أو الفرع وذلك كالإيذاء الذي هو علة النهي عن التأفيف فإن الفرع وهو الضرب تتواجد فيه العلة على نحو أقوى من الأصل.
ثالثا: إن العلة قد تكون قطعية وقد تكون ظنية فالأولى هي العلة المنصوصة التي نصّ الشارع عليها أو أجمع العلماء عليها ككون علة تحريم الخمر هي الإسكار، والثانية هي التي ليس كذلك ككون علة الربا هي الطعم.
رابعا: القياس قد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا.
فالقطعي هو: ما كانت علته قطعية وقطع بوجودها في الفرع.
والظني هو: ما كانت علته مظنونة أو لم يقطع بوجودها في الفرع.
والقياس القطعي يشمل:
1- القياس الأولى وهو: ما يكون الفرع فيه أولى بالحكم من الأصل لقوة ظهور العلة فيه.
وذلك كقياس الضرب على التأفيف.
2- القياس المساوي وهو: ما تكون العلة فيه متساوية الظهور في الأصل والفرع.
وذلك كقياس النبيذ على الخمر فإن الإسكار متساو فيهما.
والقياس الظني يشمل القياس الأدون وهو: ما كانت العلة في الفرع أخفى منها في الأصل.
وذلك كقياس التفاح على البر في باب الربا بجامع الطعم فيهما. ولاحتمال أن تكون العلة الكيل أو القوت أعتبر ذلك ظنيا.



( شرح النص )

وشرطُهُ وجودُ تمامِ العِلَّةِ فيهِ، فإنْ كانتْ قطعيَّةً فقطْعِيٌّ أَوْ ظنيَّةً فظنيٌّ وأَدْوَنُ كتفاحٍ بِبُرٍّ بجامعِ الطعمِ.
.............................. .............................. .............................. ............................
( وشرطُهُ ) أي الفرع ( وجودُ تمامِ العِلَّةِ ) التي في الأصل ( فيهِ ) أي في الفرع بلا زيادة قوة أو بها، كالإسكار في قياس النبيذ بالخمر، والإيذاء في قياس الضرب بالتأفيف فيتعدّى الحكم إلى الفرع فيهما ( فإنْ كانتْ ) أي العلة ( قطعيَّةً ) بأن قطع بكونها علة في الأصل وبوجودها في الفرع كالإسكار والإيذاء فيما مر ( فقطْعِيٌّ ) قياسها حتى كأن الفرع فيه شمله دليل الأصل، فإن كان دليل حكم الأصل ظنيا فحكم الفرع كذلك بمعنى أن كون القياس قطعيا لا يعني بالضرورة أن يكون الحكم مقطوعا به لأننا مع قطعنا بشمول حكم الأصل للفرع إلا أن نفس دليل الأصل قد يكون ظنيا كخبر الواحد، وإن كان دليل حكم الأصل قطعيا فحكم الفرع كذلك، والقطعي يشمل قياس الأولى والمساوي ( أو ) كانت ( ظنيّةً ) بأن ظن كونها علة في الأصل، وإن قطع بوجودها في الفرع ( فظنيٌّ وأَدْوَنُ ) أي فقياسها ظني وهو قياس الأدون ( كتفاحٍ ) أي كقياسه ( ببرٍّ ) في باب الربا ( بجامعِ الطعمِ ) فإنه العلة عندنا معاشر الشافعية في ربوية البر مع احتمال ما قيل: إنها القوت مع الإدخار أو الكيل، وليس في التفاح إلا الطعم فثبوت الحكم فيه أدون من ثبوته في البر المشتمل على الأوصاف الثلاثة بمعنى أن البر مطعوم مقتات مكيل فهو ربوي على كل الاحتمالات، والتفاح على احتمال واحد وهو كون العلة الطعم ومعلوم أن الثابت مع كل الاحتمالات أقوى من الثابت مع احتمال واحد.

صفاء الدين العراقي
2017-07-08, 07:48 PM
الدرس الخامس والثمانون- القياس

تكملة شروط الفرع

أولا: ومن شروط الفرع أن لا يُعَارض معارضة لا يمكن دفعها. كما مرت الإشارة إليه.
ثانيا: أن لايقوم دليل قاطع على خلافه في الحكم. إذْ لا يعمل بالقياس مع قيام دليل قاطع كنص متواتر وإجماع قطعي على خلاف ما ينتج من القياس لأنه ظني فلا يقوى على معارضة القطعي.
ثالثا: أن لا يقوم خبر الواحد على خلافه. لأن الخبر ولو كان خبر واحد يقدم في العمل على القياس.
رابعا: أن يتحد حكم الفرع بحكم الأصل عينا أو جنسا.
مثال الاتحاد في عين الحكم: قياس القتل بمثقَّلٍ- كالحجر- على القتل بمحدد- كالسيف- في ثبوت القصاص بجامع كونه قتلا عمدا عدوانا. فإن الحكم وهو ثبوت القصاص فيهما واحد.
ومثال الاتحاد في جنس العلة: قياس بضع الصغيرة على مالها في ثبوت ولاية الأب أو الجد بجامع الصغر.
فالحكم وهو ثبوت الولاية جنس لأن ولاية المال ليست عينها ولاية التزويج.
فإذا اعترض معترض بعدم الاتحاد في الحكم فيدفعه المستدل ببيان الاتحاد.
مثاله: أن يقيس الشافعي ظهار الذمي على ظهار المسلم في حرمة قربان المرأة.
فيعترض الحنفي بمخالفة ظهار الذمي لظهار المسلم، فإن حرمة قربان المرأة بالنسبة للمسلم تنتهي بالكفارة، والكافر ليس من أهل الكفارة؛ إذْ لا يمكنه الصوم مثلا لعدم صحته من الكافر فلا تنتهي الحرمة في حقه بخلاف المسلم، فاختلف الحكم فلا يصح القياس
فينفي الشافعي الاختلاف بأن الكافر يصح منه إعتاقه أو إطعامه مع الكفر كما يمكنه أن يسلم فيصوم، فالحكم متحد.
خامسا: أن لا يتقدم حكم الفرع على حكم الأصل في الورود.
مثاله: قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية مثلا، فهذا لا يصح؛ لأن مشروعية الوضوء متقدمة على مشروعية التيمم فيلزم عليه أن ثبوت النية للوضوء قبل تشريع التيمم لا دليل عليه فيكون تكليف المخاطب بالنية في الوضوء تكليفا بما لا يعلم.
نعم إن كان ثمة دليل آخر لثبوت النية في الوضوء غير القياس لم يمتنع حينئذ قياس السابق على اللاحق لانتفاء المحذور.
سادسا: لا يشترط في الفرع ما يلي:
1- ثبوت حكم الفرع بالنص الإجمالي.
بمعنى أن البعض اشترط أن يكون حكم الفرع ثابتا بالنص الإجمالي والقياس إنما يثبت بعض التفاصيل فإن لم يرد نص إجمالي بالفرع لم يصح القياس.
مثاله: ميراث الجد مع الإخوة فلولا ورود ما يثبت أن الجد وارث من الورثة- كالإجماع- لما جاز قياس الجد على الأخ فيشارك الإخوة في الميراث.
وردّ بأن العلماء من الصحابة وغيرهم قاسوا أمورا لم يرد بها نص لا جملة ولا تفصيلا.
ومن ذلك قول الرجل لامرأته: أنت عليّ حرام. فقاسوه على الطلاق أو الظهار أو الإيلاء بحسب اختلافهم فيه.
2- أن لا يوجد نص أو إجماع على حكم يوافق الحكم الحاصل بالقياس.
وهذا اشترطه بعض العلماء لأنه إذا وجد نص أو إجماع فلا حاجة للقياس.
وردّ بأنه لا مانع من اجتماع دليلين على مدلول واحد فيدل على الفرع بالنص والقياس.





















( شرح النص )

وَأَنْ لا يُعارَضَ، ولا يقومَ القاطِعُ على خِلافِهِ، وكذا خبرُ الواحِدِ في الأصحِّ إلا لتجربةِ النظرِ، ويتحِدَ حكمُهُ بحكمِ الأصلِ، ولا يَتَقَدَّمَ على حكمِ الأصلِ حيثُ لا دليلَ لهُ، لا ثبوتُهُ بالنصِّ جملةً ولا انتفاءُ نصٍ أَو اجماعٍ يوافِقُ على المختارِ.
.............................. .............................. .............................. .............................
( وَأَنْ ) أي وشرط الفرع ما ذكر- من وجود تمام العلة فيه- وأن ( لا يُعارَضَ ) الفرعُ معارضة لا يتأتى دفعها كما مرّت الإشارة إليه ( و ) أن ( لا يقومَ ) الدليل ( القاطِعُ على خِلافِهِ ) أي خلاف الفرع في الحكم؛ إذْ لا صحة للقياس في شيء مع قيام دليل قاطع على خلافه ( وكذا خبرُ الواحِدِ ) أي وأن لا يقوم خبر الواحد على خلافه ( في الأصحِّ ) لأن خبر الواحد مقدم على القياس في الأصح كما مرّ في بحث الخبر ( إلا لتجربةِ ) أي تمرين ( النظرِ ) من المستدل، فيجوز القياس المخالف لأنه صحيح في نفسه ولم يعمل به لمعارضة ما ذكر له، ويدل لصحته قولهم: إذا تعارض النص والقياس قدم النص، بمعنى أنه متى عارض الدليل القاطع القياس لم يصح العمل بالقياس ولكن يجوز من باب الرياضة الذهنية أن يقوم الناظر باستعمال القياس في باب المسائل وإن عارض خبر الواحد لا للعمل به؛ فإن القياس في نفسه صحيح بمعنى أن صورة القياس المشتملة على أركان القياس سليمة ولكن حصل التعارض فقدم الخبر، كما يحصل التعارض بين النصوص فيقدم بعضها على بعض فتأمل ( و ) أن ( يتحِدَ حكمُهُ ) أي الفرع ( بحكمِ الأصلِ ) في المعنى المقصود من القياس سواء بعين الحكم أو بجنسه، كما أنه يشترط في الفرع وجود تمام العلة فيه كما مرّ، فإن لم يتحد حكمه بحكم الأصل لم يصح القياس لانتفاء حكم الأصل عن الفرع، وجواب عدم الاتحاد في الحكم يكون ببيان الاتحاد فيه كما يعلم مما يأتي في محله- في مبحث القوادح- كأن يقيس الشافعي ظهار الذمي بظهار المسلم في حرمة وطء الزوجة، فيقول الحنفي: الحرمة في المسلم تنتهي
بالكفارة، والكافر ليس من أهلها إذ لا يمكنه الصوم من خصال الكفارة لفساد نيته فلا تنتهي الحرمة في حقه، فاختلف الحكم، فلا يصح القياس، فيقول الشافعي: يمكنه الصوم بأن يسلم ثم يصوم ويصح إعتاقه وإطعامه مع الكفر اتفاقا، فهو من أهل الكفارة، فالحكم متحد، والقياس صحيح ( و ) أن ( لا يَتَقَدَّمَ ) حكم الفرع ( على حكمِ الأصلِ ) في الظهور للمكلف ( حيثُ لا دليلَ لهُ ) أي للفرع غير القياس على القول المختار، كقياس الوضوء بالتيمم في وجوب النية، وذلك بتقدير أن لا دليل للوضوء غير القياس فإنه تعبد بالوضوء قبل الهجرة، والتيمم إنما تعبد به بعدها؛ إذ لو جاز تقدم حكم الفرع للزم ثبوت حكمه حال تقدمه بلا دليل، وهو ممتنع لأنه تكليف بما لا يعلم، نعم إنْ ذكر إلزاما للخصم -لا استدلالا على الحكم- جاز كقول الشافعي للحنفي: -القائل بوجوب النية في التيمم دون الوضوء- هما طهارتان أنى يفترقان لاتحاد الأصل والفرع في المعنى وهو كونهما طهارة للصلاة، فإن كان له دليل آخر جاز تقدمه لانتفاء المحذور السابق وهو التكليف بما لا يعلم، وبناء على جواز تعدّد الدليل على مدلول واحد، وقيل: لا يجوز تقدمه وإن كان عليه دليل آخر ( لا ثبوتُهُ ) أي حكم الفرع ( بالنصِّ جملةً ) أي بالنص الإجمالي فلا يشترط على المختار وقيل: يشترط ويطلب بالقياس تفصيله فلولا العلم بورود ميراث الجدّ جملة لما جاز القياس في توريثه مع الإخوة والأخوات، وردّ اشتراط ذلك بأن العلماء قاسوا أنت عليّ حرام بالطلاق والظهار والإيلاء بحسب اختلافهم فيه أي هل حرمته كحرمة الطلاق كمذهب مالك، أو حرمته كحرمة الظهار فينتهي بكفارته كأحد القولين عن أحمد، أو كحرمة الإيلاء فيجب فيه كفارة يمين كالمرجح عند الشافعي، ولم يوجد فيه نص لا جملة ولا تفصيلا ( ولا انتفاءُ نصٍ أَو اجماعٍ يوافِقُ ) القياس في الحكم، فلا يشترط، بل يجوز القياس مع موافقة النص والإجماع أو أحدهما له ( على المختارِ ) بناء على جواز تعدّد الدليل، وقيل: يشترط انتفاؤهما وإن جاز تعدّد الدليل نظرا إلى أن الحاجة إلى القياس إنما تدعو عند فقد النص والإجماع، قلنا: أدلة حجية القياس مطلقة عن اشتراط ذلك والأصل عدم التقييد.

صفاء الدين العراقي
2017-07-08, 07:49 PM
الدرس السادس والثمانون- القياس

العلة

أولا: الركن الرابع من أركان القياس العلة وقد اختلفوا في تفسيرها على أقوال:
1- قول الأشاعرة: هي المعرّف للحكم، أي العلامة الدالّة عليه، فمعنى كون الإسكار علة لتحريم الخمر أنه علامة على حرمته.
2- قول المعتزلة: هي المؤثر للحكم بذاته، بمعنى أن العلة كالقتل العمد العدوان توجب على الله تشريع الحكم كالقصاص، وهذا بناء على مذهبهم في كون الحكم تابعا للمصلحة والمفسدة.
3- قول الغزالي: هي المؤثر للحكم بإذن الله تعالى، بمعنى أن الله أجرى العادة بأن يكون الحكم تابعا لتحقق العلة.
4- قول الآمدي وأهل الحديث: هي الباعث على تشريع الحكم، ولذا عرفوها بأنها: وصف مشتمل على حكمة باعثة على تشريع الحكم. ثم كونها باعثة للشارع لا ينافي أنها تعرّف المكلف الحكم.
وأشكل عليه أن الله تعالى منزّه عن الأغراض، وأجيب: بأن ما من تشريع للحق سبحانه إلا وخلفه حكمة، ومصلحة تعود للخلق لا له سبحانه كيف وهو الغني الحميد.
ثانيا: حكم الأصل ثابت بالعلة. وقيل: بالنص.
بمعنى أن حكم الأصل كالحرمة للخمر هل يعرف بالنص الذي بيّن الحكم أو يعرف بالعلة ؟
قيل: بالنص فحرمة الخمر عرفت بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر... الآية.
وقيل: عرفت بالعلة لأن النص وإن كان هو الدال على تحريم الخمر لكنه لوحده لا يكشف لنا أن الخمر أصل يقاس عليه، وإنما الذي عرفنا ذلك هو الإسكار فبما أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما عرفنا أن الخمر أصل يقاس عليه النبيذ.
ثالثا: العلة قد تكون دافعة للحكم، وقد تكون رافعة له، وقد تكون دافعة ورافعة معا.
1- الدافعة هي: التي تمنع ابتداء الحكم.
مثاله: العدة للمرأة فإنها علة تدفع حل نكاح المرأة من غير زوجها، ولكنها لا ترفع النكاح كما لو وطئت الزوجة بشبهة- كأعمى ظن في نائمة أنها زوجته- فهذه عليها العدة ولكنها لا ترفع زواجها من زوجها. فظهر أن العدة دافعة لحلية النكاح وليست رافعة له.
2- الرافعة هي: التي تمنع دوام الحكم.
مثاله: الطلاق فإنه يرفع حل الاستمتاع، ولكن لا يمنع ابتداء الحكم كما لو عقد عليها مرة أخرى بعد طلاقها، فالطلاق علة رافعة غير دافعة.
3- الدافعة الرافعة هي: التي تمنع ابتداء الحكم ودوامه معا.
مثاله: الحدث فإنه يمنع ابتداء الصلاة ويمنع دوامها إذا طرأ في أثنائها.
( شرح النص )

الرابِعُ: العِلَّةُ الأَصحُّ أَنَّها المعرِّفُ، وأَنَّ حكمَ الأصلِ ثابِتٌ بها، وقدْ تكونُ دافعةً للحكمِ أَو رافِعةً أَو فاعلةً لهما.
.............................. .............................. .............................. .............................
( الرابِعُ ) مِن أركان القياس ( العِلَّةُ ) ويعبر عنها بالوصف الجامع بين الأصل والفرع، وفي معناها شرعا أقوال ( الأَصحُّ أَنَّها ) أي العلة ( المعرِّفُ ) للحكم لا المؤثر فيه ولا الباعث عليه، فمعنى كون الإسكار مثلا علة أنه معرف أي علامة على حرمة المسكر. وقالت المعتزلة: هي المؤثر بذاته في الحكم بناء على قاعدتهم من أنه يتبع المصلحة أو المفسدة، وقيل: هي المؤثر فيه بجعله تعالى لا بالذات، وقيل: هي الباعث عليه، وردّ بأنه تعالى لا يبعثه شيء. وفيه نظر كيف والله تعالى يقول: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( و ) الأصح ( أَنَّ حكمَ الأصلِ ثابِتٌ بها ) لا بالنص. وقالت الحنفية: ثابت بالنص؛ لأنه المفيد للحكم. قلنا: لم يفده بقيد كون محله أصلا يقاس به الذي الكلام فيه، والمفيد له العلة لأنها منشأ التعدية المحققة للقياس، فالمراد بثبوت الحكم بها معرفته بها لأنها معرفة له ( وقد تكونُ ) العلة ( دافعةً للحكمِ ) أي لتعلقه كالعدة فإنها تدفع حل النكاح من غير صاحبها ولا ترفع استمرار الزوجية كأن كانت عن شبهة ( أَو رافِعةً ) له كالطلاق فإنه يرفع حل التمتع ولا يدفعه لجواز النكاح بعده ( أَو فاعلةً لهما ) أي الدفع والرفع كالرضاع فإنه يدفع حل النكاح ويرفعه كما لو طرأ أثناء الزوجية كأن يعقد على رضيعة أجنبية ثم ترضعها أمه فتصير أخته من الرضاع فينفسخ العقد.

صفاء الدين العراقي
2017-07-08, 07:49 PM
الدرس السابع والثمانون- القياس

تعريف العلة

أولا: تعرّف العلة بأنها: وصفٌ ظاهِرٌ منضبطٌ باعِثٌ للحكمِ.
فقولنا: ظاهر أي بيّن كالإسكار في الخمر، لا خفيّا كالرضا فإنه لايعلل به المعاملات، لذلك ربطت بصيغ معينة مثل: بعت واشتريت ونحوهما لأنها ظاهرة منضبطة.
وقولنا: منضبط أي محدد لا يختلف باختلاف الأفراد كالمسافة في القصر، بخلاف غير المنضبط كالمشقة.
وقولنا: باعث للحكم أي يشتمل على حكمة تدعو إلى تشريع الحكم، أو معرّف للحكم على الخلاف الذي تقدّم.
ثانيا: الوصف في تعريف العلة على أقسام هي:
1- الوصف الحقيقي هو: ما يتعقل بنفسه من غير توقف على عرف أو لغة أو شرع. ومثاله الإسكار والقتل عمدا عدوانا.
2- الوصف العرفي وهو: ما يكون مستفادا من العرف، كالخسة والشرف في الكفاءة في النكاح فإن مردها إلى العرف.
3- الوصف اللغوي وهو: ما يكون مستفادا من اللغة، كتعليل حرمة النبيذ بأنه يسمى خمرا- كعصير العنب- لتخميره العقل. وهذا بناء على صحة القياس في اللغة. وفيه خلاف قد تقدم.
4- الوصف الشرعي وهو: ما كان حكما شرعيا، كحرمة الانتفاع بالخمر هي علة بطلان بيع الخمر، وكحرمة النظر إلى شعر المرأة بالطلاق وحله بالنكاح هو علة وجود الحياة في الشعر.
ثالثا: الوصف في تعريف العلة قد يكون مفردا كالإسكار وقد يكون مركبا كالقتل العمد العدوان لمكافئ غير ولد.
رابعا: يشترط في العلة لأجل إلحاق الفرع بحكم الأصل بسببها أن تشتمل على حكمة تبعث المكلف على الامتثال وتكون صالحة لربط الحكم بها.
كالقتل العمد العدوان لمكافئ علة القصاص، وقد اشتملت تلك العلة على حكمة ومصلحة هي حفظ النفوس؛فإن مَن علم أنه إذا قَتَلَ اقتُصَّ منه كفَّ عن القتل. وفي ذلك حفظ حياته وحياة مَن أراد قتله. قال تعالى: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ). فيلحق حينئذ القتل بمثقَّل بالقتل بمحدّد في وجوب القصاص لاشتراكهما في العلة المشتملة على الحكمة المذكورة.
خامسا: المانِع للعلةِ هو: وصفٌ وجوديٌّ يخلّ بحكمتِها. كالدين- على القول بأنه مانع من وجوب الزكاة وهو غير المعتمد عندنا- فإنه وصف وجودي يُخل بحكمة العلة؛ فإن ملك النصاب علة لوجوب الزكاة، والحكمة مواساة الفقراء. فإذا كان مالك النصاب مديونا لم يكن مستغنيا بما عنده؛ لاحتياجه إلى وفاء ما عليه من الدين. فكان الدين مخلا بتلك الحكمة.
سادسا: لا يجوز التعليل بالحكمة إن لم تنضبط، ويجوز إذا انضبطت. كالسفر مسافة معينة هو علة إباحة القصر والفطر في رمضان، والحكمة هي دفع المشقة وهي غير منضبطة لاختلافها بحسب الأفراد فأنيط وعلق القصر والفطر بالسفر لا بالمشقة، فإن انضبطت جاز التعليل بها كحفظ النفوس يعلل به وجوب القصاص.
( شرح النص )

وصفًا حقيقيًّا ظاهِرًا مُنضَبِطًا أَو عُرفيًّا مُطَّرِدًا، وكذا في الأصحِّ لُغَوِيًّا أَو حُكمًا شرعيًّا أَو مُركّبًا، وشُرِطَ للإلحاقِ بها: أَنْ تشتمِلَ على حكمةٍ تبعَثُ على الإمتثالِ وتصلُحُ شاهِدًا لإناطةِ الحكمِ، ومانِعُها وَصْفٌ وجوديٌّ يُخِلُّ بحِكمَتِها، ولا يجوزُ في الأصحِّ كونُها الحكمةَ إنْ لم تَنْضَبِطْ.
.............................. .............................. .............................. .............................
وتكون العلة ( وصفًا حقيقيًّا ) وهو: ما يتعقل في نفسه من غير توقف على عرف أو لغة أو شرع ( ظاهِرًا مُنضَبِطًا ) لا خفيا أو مضطربا كالطعم في الربوي فإنه وصف حقيقي لكونه مدركا بالحس ( أَو ) وصفا ( عُرفيًّا مُطَّرِدًا ) أي لا يختلف باختلاف الأوقات كالشرف والخسة في الكفاءة في النكاح ( وكذا ) تكون ( في الأصحِّ ) وصفا ( لغويًّا ) كتعليل حرمة النبيذ بتسميته خمرا بناء على ثبوت اللغة بالقياس، وقيل: لا يعلل الحكم الشرعي بالأمر اللغوي لأنه لا دخل للأمور اللغوية في الشرع ( أَو حُكمًا شرعيًّا ) سواء أكان المعلول كذلك أي حكما شرعيا كتعليل جواز رهن المشاع- أي الحصة غير المقسومة مع شريك آخر كربع عقار- بجواز بيعه، أم أمرا حقيقيا كتعليل ثبوت الحياة للشعر بحرمته بالطلاق وحله بالنكاح كاليد فإنها يحل لمسها بالنكاح ويحرم بالطلاق، وقيل: لا تكون حكما شرعيا ( أَو ) وصفا ( مُركّبًا ) كتعليل وجوب القود أي القصاص بالقتل العمد العدوان لمكافىء، وقيل: لا يكون الوصف المركب علة ( وشُرِطَ للإلحاقِ ) بحكم الأصل ( بها ) أي بسبب العلة ( أَنْ تشتمِلَ على حكمةٍ ) أي مصلحة مقصودة من شرع الحكم ( تبعَثُ ) أي تحمل المكلف حيث يطلع عليها ( على الإمتثالِ وتصلُحُ شاهِدًا ) أي دليلا ( لإناطةِ الحكمِ ) أي تعليق الحكم بالعلة كحفظ النفوس فإنه حكمة ترتب وجود القود على علته السابقة وهي القتل العمد العدوان لمكافئ؛ فإنَّ من علم أن من قَتَلَ اقتُصَّ منه انكفّ عن القتل، وقد لا ينكف عنه توطينا لنفسه على تلفها- إشارة إلى أن الحكمة هنا تقليل مفسدة القتل لا دفعها بالكلية إذْ قد يقدم الإنسان على القتل موطنا نفسه على تلفها- وهذه الحكمة تبعث المكلف من القاتل وولي أمره على امتثال الأمر الذي هو إيجاب القود بأن يمكن كل منهما وارث القتيل من القود، ويصلح شاهدا لإناطة وجوب القود بعلته، فيلحق حينئذ القتل بمثقل بالقتل بمحدد في وجوب القود لاشتراكهما في العلة المشتملة على الحكمة المذكورة ( ومانِعُها ) أي العلة (وَصْفٌ وجوديٌّ يُخِلُّ بحِكمَتِها ) كالدين- على القول بأنه مانع من وجوب الزكاة على المدين وهو مرجوح- فإنه وصف وجودي يخل بحكمة علة وجوب الزكاة وهي الاستغناء بملكه، إذ المدين لا يستغني بملكه لاحتياجه إلى وفاء دينه به (ولا يجوزُ في الأصحِّ كونُها الحكمةَ إنْ لم تَنْضَبِطْ ) كالمشقة في السفر لعدم انضباطها، فإن انضبطت كحفظ النفوس جاز كما رجحه الآمدي وابن الحاجب وغيرهما لانتفاء المحذور، وقيل: يجوز مطلقا انضبطت العلة أو لا؛ لأنها المشروع لها الحكم، وقيل: لا يجوز مطلقا.

صفاء الدين العراقي
2017-07-08, 07:50 PM
الدرس الثامن والثمانون- القياس

التعليل بعلة عدمية

أولا: لا يجوز التعليل بعلة عدمية في الحكم الثبوتي.
بأن يقول الشارع مثلا: حكمت بكذا لعدم كذا، فيكون معللا الحكم الثبوتي الوجودي بانتفاء شيء.
وصور التعليل أربع هي:
1- تعليل الثبوتي بالثبوتي، كتعليل حرمة الخمر بالإسكار.
2- تعليل الثبوتي بالعدمي، كتعليل ضرب السيد غلامه بعدم امتثاله.
3- تعليل العدمي بالعدمي، كتعليل عدم صحة التصرف بعدم العقل.
4- تعليل العدمي بالثبوتي، كتعليل عدم صحة التصرف بالإسراف.
وهذه الصور جائزة عدا الثانية، فالمختار فيها عدم الجواز، وقيل: يجوز فيصح أن يقال: ضربَ فلانٌ عبدَهُ لعدم امتثاله، وأجيب: بمنع صحة التعليل بذلك وإنما يصح بالكف عن امتثاله وهو أمر ثبوتي، ولا يقال أيضا: قُتِلَ المرتدُ لعدمِ إسلامِهِ، بل لكفره.
ثانيا: العدم نوعان:
1- عدم مطلق وهو: عدم الوجود، أي هو مطلق من الإضافة إلى شيء، وهو الذي يقابل الوجود في قولنا: الممكن إما موجود أو معدوم أي اللاموجود.
2- عدم نسبي وهو: عدم مضاف إلى شيء موجود، كعدم الحركة أو عدم العقل أو عدم الذكاء.
ثالثا: الأمور الإضافية هي: نسبة يتوقف تعقلها على نسبة أخرى. كالأبوة فإن أبوة زيد لعمرو إذا أردت تعقلها فلا بد أن تتعقل معها البنوة فكلما تعقلت الأبوة تعقلت البنوة والعكس كلما تعقلت البنوة تعقلت الأبوة، وكذا قل في الفوقية والتحتية، والتقديم والتأخير.
وقد اختلف المتكلمون والفلاسفة هل الإضافات عدمية لا وجود لها أو هي وجودية ؟
فذهب المتكلمون إلى أنها أمور عدمية، وذهب الفلاسفة إلى أنها أمور وجودية.
رابعا: لا خلاف في أنه لا يجوز تعليل الأمر الثبوتي بالعدم المطلق وإنما الخلاف في تعليله بالعدم النسبي.
خامسا: قيل: لا يجوز تعليل الأمر الثبوتي بالأمر الإضافي لأنه عدمي- بناء على اختيار المتكلمين- فلا تعلل ولاية الإجبار بالأبوة مثلا لأنها عدمية، وقيل: يجوز تعليل ذلك لأن الأمر الإضافي وجودي لا عدمي- بناء على اختيار الفلاسفة-.
سادسا: ما كان مركبا من وجود وعدم فهو عدمي فلو علل وجود شيء بعلة مركبة من شيئين أحدهما ثبوتي والآخر عدمي لم يصح.
كما في تعليل وجوب الدية المغلظة في شبه العمد بأنه: قتل بفعل مقصود لا يقتل غالبا.
( شرح النص )

وكونُها عدميَّةً في الثبوتيِّ.
.............................. .............................. .............................. ............................
( و ) لا يجوز في الأصح وفاقا لابن الحاجب وغيره ( كونُها عدميَّةً ) ولو بعدمية جزئها أى جزء العلة بأن تكون مركبة من جزأين مثلا وأحدهما عدمي، كأن يعلل تعين الدية المغلظة فى شبه العمد بأنه قتل بفعل مقصود لايقتل غالبا، أو بإضافتها بأن يتوقف تعقلها على تعقل غيرها كالأبوة والبنوة فإن الإضافة من قبيل العدمي ( في ) الحكم الشرعي أو غيره ( الثبوتيِّ ) فلا يجوز: حكمت بكذا لعدم كذا مثل أن يقال: يجب قتل المرتد لعدم اسلامه، أو للأبوة أي حكمت بكذا للأبوة كتعليل ولاية الإجبار بالأبوة بناء على أن الاضافي عدمي كما سيأتي تصحيحه أواخر الكتاب- وسيأتي إن شاء الله تحقيقه- وذلك لأن العلة بمعنى العلامة يجب أن تكون أجلى من المعلل، والعدمي أخفى من الثبوتي، وقيل: يجوز كونها عدمية في الأمر الثبوتي لصحة أن يقال: ضربَ فلانٌ عبدَهُ لعدم امتثاله أمره. وأجيب: بمنع صحة التعليل بذلك، وإنما يصح بالكف عن امتثاله وهو أمر ثبوتي، والخلاف في العدم المضاف بخلاف العدم المطلق لا يجوز التعليل به قطعا أي بلا خلاف؛ لأن نسبته إلى جميع المحال على السواء، فلا يعقل كونه علة لشيء تأمل، ويجوز وفاقا تعليل الثبوتي بمثله كتعليل حرمة الخمر بالاسكار، والعدمي بمثله كتعليل عدم صحة التصرف بعدم العقل، والعدمي بالثبوتي كتعليل ذلك- أي عدم صحة التصرف- بالإسراف أي التبذير.

صفاء الدين العراقي
2017-07-08, 07:51 PM
الدرس التاسع والثمانون- القياس

ما يجوز التعليل به

أولا: يجوز تعليل حكم شرعي بعلة لم نطلع على وجه الحكمة فيها، كما في تعليل الفقهاء ربوية البر بالطعم أو القوت والادخار أو الكيل. فإن كون العلة تشتمل على حكمة لا يلزم منه اطلاعنا على كل حكمة، لكن عدم اطلاعنا لا يلزم منه منع التعليل بتلك العلة التي لم تظهر لنا حكمتها.
ثانيا: إذا كان الحكم مشتملا على علة نعرف حكمتها ولكن قطعنا بتخلف تلك الحكمة في بعض الجزئيات فلا يضر ذلك الحكم فهو ثابت بثبوت العلة.
مثاله: السفر فهو علة القصر، والحكمة هي دفع المشقة، فإن انتفت المشقة في بعض صور السفر كمن يقطع مسافة القصر بالطائرة، فالحكم وهو جواز القصر ثابت في هذه الصورة؛ لأن السفر مظنة المشقة أي هو الموضع الذي يظن فيه وجود المشقة وإن قطع بانتفائها في صورة معينة اعتبارًا للغالب وإلغاءً للنادر، وعليه يجوز الإلحاق كإلحاق الفطر للصائم بالقصر بالمظنة وهي أن السفر مظنة المشقة المحوجة للفطر وإن عدمت المشقة في بعض الصور.
وقال الجدليون- وهم الخلافيون وهو علم مدون يقارب ما ذكره الأصوليون في باب القياس، وما في علم المناظرة، ودلائله كلها من قبيل الجدل إذْ الغرض منه حفظ مدعى فقهي لإمام من الإئمة المجتهدين وإبطال نقيضه الذي هو مدعى الخصم- لا يثبت الحكم عند انتفاء الحكمة في تلك الصورة إذْ لا عبرة بالمظنة عند تحقق الانتفاء.
ثالثا: يجوز التعليل بالعلة القاصرة. توضيحه:
العلة إما أن تكون متعدية وإما أن تكون قاصرة.
فالعلة المتعدية هي: التي توجد في غير المحل المنصوص عليه بالحكم، وذلك كالإسكار فإنه يوجد في المحل المنصوص عليه وهو الخمر، ويوجد في غيره كالنبيذ.
والعلة القاصرة هي: التي لا توجد في غير المحل المنصوص عليه بالحكم، بل تكون قاصرة عليه لا تتعداه، وذلك كتعليل طهورية الماء بالرقة واللطافة مما هو مختص بالماء ولا يوجد في غيره.
وقد اتفق العلماء على أن شرط القياس أن تكون العلة متعدية ليتعدى الحكم محل النص إلى غيره.
وهل يجوز التعليل بالعلة القاصرة أم لا ؟
الجمهور على أنه يجوز أن يعلل بالعلة القاصرة، والتعدية شرط للقياس، وليست شرطا للتعليل، فالتعليل كما يجوز بالمتعدية يجوز بالقاصرة.
وللتعليل بها فوائد كثيرة منها:
1- معرفة المناسبة بين الحكم ومحله، وهذا أدعى لقبول الحكم؛ لميل النفس إلى الحكم الذي تعرف فيه وجه المصلحة.
2- معرفة اقتصار الحكم على محل النص، وانتفائه عن غيره، وهذا مهم جدا إذْ نمتنع بموجبه عن إلحاق أي أمر بمحلها.
3- تقوية النص الدال على الحكم إذا كان النص غير قطعي. كأن يكون ظاهرا يحتمل التأويل فالتعليل يدفع الاحتمال في الظاهر فيجتمع النص على الحكم والعلة معا فتزيده قوة.
رابعا: تكون العلة القاصرة في مواضع هي:
1- أن تكون محل الحكم.
مثاله: تعليل الربا في الذهب والفضة بالذهبية والفضية.
2- أن تكون جزء محل الحكم الخاص به دون غيره.
مثاله: تعليل نقض الوضوء في الخارج من السبيلين بالخروج من السبيلين؛ لأن الخروج منهما جزء معنى الخارج لأن معنى الخارج ذات ثبت لها الخروج. بمعنى أن العلة في المثال الأول وهي الذهبية والفضية نفس محل الحكم وهو الذهب والفضة، والعلة في المثال الثاني هي الخروج من السبيلين وهو جزء من مفهوم محل الحكم وهو الخارج من السبيلين.
3- أن تكون وصفا لازما لمحل الحكم الخاص به دون غيره.
مثاله: تعليل الربا في الذهب والفضة بكونهما أثمان الأشياء حيث يقال: قيمة هذا الشيء عشرة دنانير مثلا دون أن يقال قيمته عشرة ثياب مثلا وهذا بالنظر للأصل في العرف هو التقويم بهما.
















( شرح النص )

ويجوزُ التَّعليلُ بما لا يُطَّلَعُ على حِكْمَتِهِ، ويثبُتُ الحكمُ فيما يُقْطَعُ بانتفائِها فيهِ للمَظِنَّةِ في الأصحِّ، والأصحُّ جوازُ التَّعليلِ بالقاصِرَةِ لِكونِها مَحَلَّ الحكمِ أَوْ جُزْءَهُ أَو وَصْفَهُ الخاصَّ، ومِن فوائدِها: معرفةُ المناسَبَةِ وتقويةُ النصِّ.
.............................. .............................. .............................. ...........................
( ويجوزُ التَّعليلُ بما ) أي بشيء ( لا يُطَّلَعُ على حِكْمَتِهِ ) كتعليل الربوي بالطعم أو غيره كالقوت والإدخار أو الكيل (ويثبُتُ الحكمُ فيما ) أي في صورة ( يُقْطَعُ بانتفائِها ) أي انتفاء الحكمة ( فيهِ للمَظِنَّةِ ) أي من أجل ظن وجود تلك الحكمة في الجملة ( في الأصحِّ ) لجواز القصر بالسفر لمن ركب سفينة قطعت به مسافة القصر في لحظة- المراد قطعة من الزمن تسع سفره- بلا مشقة، وقيل: لا يثبت الحكم، وعليه الجدليون؛ إذْ لا عبرة بالمظنة عند تحقق انتفاء المَئِنَّة- بمعنى أنه يوجد عندنا مظنة الشيء ومئنته كالمشقة فهي حكمة القصر ولما كانت غير منضبطة أقيمت المظنة وهو السفر موضع المئنة وهي المشقة نفسها، فاعترض الجدليون بأنه لا عبرة بمظنة الشيء عند تحقق انتفائه، ورد عليهم بأن هذا منقوض بسفر الملك المرفّه فإنه يترخص اتفاقا فقد اعتبرت المظنة مع تحقق انتفاء المئنة- وعلى الأوّل يجوز الإلحاق للمظنة كإلحاق الفطر بالقصر فيما ذكر- وهو صورة ركوب السفينة-، فما مر من أنه يشترط في الإلحاق بالعلة اشتمالها على حكمة هو شرط في الجملة فلا يعترض بتخلفها في بعض الصور، أو هو شرط للقطع والجزم بجواز الإلحاق فلا ينافي أن الظن بجواز الإلحاق يحصل ولو تخلفت في بعض الصور فهذان جوابان، ثم ثبوت الحكم فيما ذكر- من المظنة- غير مطرد بل قد ينتفي كمن قام من النوم متيقنا طهارة يده- كأن لبس قفازين- فلا تثبت كراهة غمسها في ماء قليل قبل غسلها ثلاثا، بل تنتفي الكراهة وهو المذهب خلافا لإمام الحرمين ( والأصحُّ جوازُ التَّعليلِ بـ ) العلة ( القاصِرَةِ ) وهي التي لا تتعدى محل النص ( لِكونِها مَحَلَّ الحكمِ أَوْ جُزْءَهُ ) الخاص بأن لا توجد في غيره ( أَو وَصْفَهُ الخاصَّ ) بأن لا يتصف به غيره، فالأوّل كتعليل حرمة الربا في الذهب بكونه ذهبا وفي الفضة كذلك، والثاني كتعليل نقض الوضوء في الخارج من السبيلين بالخروج منهما، والثالث كتعليل حرمة الربا في النقدين بكونهما قيم الأشياء. وخرج بالخاص في الصورتين غير الخاص فلا قصور فيه أي تكون العلة متعدية حينئذ، كتعليل الحنفية نقض الوضوء في الخارج من السبيلين بخروج النجس من البدن الشامل لما ينقض عندهم من دم الفصد والحجامة ونحوه فهو غير خاص بالخارج من السبيلين، وكتعليل ربوية البر بالطعم فإنه غير خاص بالبر فيوجد في الرز مثلا، وقيل: يمتنع التعليل بالقاصرة مطلقا لعدم فائدتها، وقيل: يمتنع إن لم تكن ثابتة بنص أو إجماع لعدم فائدتها ( و ) نحن لا نسلم ذلك بل ( مِن فوائدِها: معرفةُ المناسَبَةِ ) بين الحكم ومحله فيكون أدعى للقبول ( وتقويةُ النصِّ ) الدال على معلولها- وهو الحكم- بأن يكون ظاهرا لا قطعيا فيكون الحكم ثابتا بالنص والعلة معا.

صفاء الدين العراقي
2017-07-08, 07:51 PM
الدرس التسعون- القياس

تكملة ما يجوز التعليل به

أولا: يجوز في الأصح التعليل باسم اللقب وهو: الاسم الجامد الذي لا ينبئ عن صفة مناسبة تصلح أن يضاف الحكم إليها. والمراد به العلم كزيد واسم الجنس كرجل والمصدر كضرب.
مثاله: تعليل الشافعي نجاسة بول ما يؤكل لحمه من الحيوانات بأنه بول كبول الآدمي. فالبول لقب.
ويصح التعليل بالمشتق المأخوذ من فعل كالسارق في قوله تعالى: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) وهو بمعنى قولهم: تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق، فتعليق القطع بالسارق يدل على على علية ما منه الاشتقاق وهو السرقة فسبب القطع هو السرقة.
ثانيا: يجوز أن يعلل حكم واحد بعلتين فأكثر.
مثاله: الحدث فهو حكم معلل بأكثر من علة كالنوم، والخروج من السبيلين، ولمس البشرة، ومس الفرج، وكل منها ينقض الوضوء، فيجوز مثلا أن نعلل انتقاض طهارة زيد باللمس والمس معا إذا مسّ فرج زوجته فقد حصل لمس البشرة ومس الفرج.
وقيل: لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين أو أكثر.
وهذا الخلاف إنما هو في تعليل الحكم الواحد بالشخص، وأما الحكم الواحد بالنوع فيجوز تعدد علله بحسب تعدد أشخاصه بلا خلاف، كتعليل إباحة قتل زيد بالردة، وعمرو بالقصاص، وبكر بالزنا، وسعيد بترك الصلاة.
وكتعليل نقض وضوء زيد بالنوم، وعمرو بالبول، وبكر بلمس بشرة المرأة الأجنبية، وسعيد بمس ذكره.
ثالثا: يجوز تعليل حكمين فأكثر بعلة واحدة. فهو عكس المسألة السابقة.
مثاله في الإثبات: تعليل وجوب قطع يدالسارق ووجوب الغرم إذا تلف المسروق بعلة واحدة وهي السرقة. فقد أثبتنا حكمين بعلة واحدة.
ومثاله في النفي: تعليل حرمة الصوم والصلاة والطواف بالحيض. فقد نفينا صحة المذكورات بعلة واحدة وهي الحيض.
وقيل: لا يجوز ذلك.






( شرح النص )

وباسمِ لقبٍ، وبالمُشتَقِّ، وبعللٍ شرعيّةٍ وهوَ واقِعٌ، وعكسُهُ جائزٌ وواقِعٌ إثباتًا كالسَّرِقَةِ ونفيًا كالحيض.
.............................. .............................. .............................. .............................
( و ) الأصح جواز التعليل ( باسمِ لقبٍ ) والمراد به الاسم الجامد كتعليل الشافعي نجاسة بول ما يؤكل لحمه بأنه بول كبول الآدمي، وقيل: لا يجوز ( و ) الأصح جواز التعليل ( بالمُشتَقِّ ) المأخوذ من فعل أي الفعل اللغوي وهو الحدث كالسارق في قوله تعالى: والسارق والسارقة.. الآية أو من صفة كأبيض فإنه مأخوذ من البياض وهو ليس بحدث، وقيل: يمتنع فيهما ( و ) الأصح جواز التعليل شرعا وعقلا للحكم الواحد الشخصي ( بعللٍ شرعيّةٍ ) اثنتين فأكثر مطلقا أي سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة؛ لأنها علامات ولا مانع من اجتماع علامات على شيء واحد ( وهوَ واقِعٌ ) كما في اللمس والمس والبول الموجب كل منها للحدث، وقيل: يجوز ذلك في العلل المنصوصة دون المستنبطة لأن الأوصاف المستنبطة الصالح كل منها للعلية يجوز أن يكون مجموعها العلة عند الشارع، وقيل: يمتنع شرعا مطلقا، وقيل: يمتنع عقلا وهو الذي صححه الأصل ( وعكسُهُ ) وهو تعليل أحكام- أي حكمين فأكثر- بعلة ( جائزٌ وواقِعٌ إثباتًا كالسَّرِقَةِ ) فإنها علة لوجوب القطع ولوجوب الغرم إن تلف المسروق ( ونفيًا كالحيض ) فإنه علة لعدم جواز الصوم والصلاة وغيرهما كالطواف.

صفاء الدين العراقي
2017-07-08, 07:52 PM
الدرس الحادي والتسعون- القياس

شروط العلة

أولا: من شروط العلة أن لا يكون ثبوتها متأخرا عن ثبوت حكم الأصل المقيس عليه. أي أنه لا بد أن توجد العلة فيترتب عليها الحكم، فمتى تأخر ثبوت العلة عن ثبوت حكم الأصل بأن ثبت الحكم أولا ثم ثبتت علته فسدت تلك العلة وبطل القياس.
مثاله: أن يقول المستدل: عرقُ الكلبِ نجِسٌ كلعابِهِ.
فيقول المعترض: أمنع أن عرق الكلب نجس.
فيقول المستدل: لأنه مستقذر شرعا- أي يجب التنزه عنه- فكان نجسا كبوله.
فيقول المانع: هذه العلة وهي الاستقذار ثبوتها متأخر عن ثبوت حكم الأصل وهي النجاسة؛ لأن الشيء إذا ثبتت نجاسته صار مستقذرا شرعا، فتعليل النجاسة بالاستقذار فاسد.
ثانيا: الشرط السابق يجري سواء فسرت العلة بالباعث على الحكم أو المعرف له. بيانه:
1- إذا فسرت العلة بالباعث على تشريع الحكم- على المختار- فإنه لا يصح أن يتأخر ثبوت العلة عن ثبوت حكم الأصل لأنه سيعني أن الحكم ثبت أولا بلا علة ثم ثبتت علته وهو باطل؛ لأن الفرض أن العلة هي الباعث على تشريع الحكم فكيف يثبت الحكم قبل علته هذا محال.
2- إذا فسّرت العلة بالمعرف للحكم- على مختار الأشاعرة- فإنه لايصح أيضا أن يتأخر ثبوت العلة عن ثبوت حكم الأصل؛ لأن العلة هي المعرفة للحكم فإذا ثبت الحكم وعرف بغير علته للزم أن العلة عرّفت ما هو معروف أي يلزم تحصيل الحاصل وهو محال.
وقال قوم: إذا فسّرت العلة بالمعرف فلا مانع من تأخر ثبوت العلة عن ثبوت الحكم، ولا مانع من تأخر المعرِّف عن المعرَّف فإن الحادث يعرّف القديم، فيقال: العالم دليل على وجود الصانع، وعليه صححوا قياس عرق الكلب على لعابه.








( شرح النص )

وللإلحاقِ أَن لا يكونَ ثبوتُها متأخِرًا عنْ ثبوتِ حكمِ الأَصلِ في الأصحِّ.
.............................. .............................. .............................. .............................
( و ) شرط ( للإلحاقِ ) بالعلة ( أَن لا يكونَ ثبوتُها متأخِرًا عنْ ثبوتِ حكمِ الأَصلِ في الأصحِّ ) سواء أفسرت بالباعث أم بالمعرف؛ لأن الباعث على الشيء لا يتأخر ثبوته عن ذلك الشيء، والمعرف لشيء لا يتأخر عنه وإلا لزم تعريف المعرَّف، وقيل: يجوز تأخر ثبوتها بناء على تفسيرها بالمعرف كما يقال عرق الكلب نجس كلعابه، لأنه مستقذر لأن استقذاره إنما يثبت بعد ثبوت نجاسته.

صفاء الدين العراقي
2017-07-08, 07:53 PM
الدرس الثاني والتسعون- القياس

عود العلة على الأصل بالإبطال

أولا: ومن شروط العلة أن لا تعود على حكم الأصل الذي استنبطت منه بالإبطال؛ لأن الأصل منشؤها فإبطاله إبطال لها.
مثاله: استنباط الحنفية من قوله صلى الله عليه وسلم: في أربعين شاةً شاةٌ. رواه أبو داود. أن العلة في وجوب دفع الشاة هي سد حاجة الفقير، فإن التعليل بذلك يفضي إلى جواز دفع قيمة الشاة فتسد به حاجة الفقير. وحينئذ لا يكون دفع الشاة واجبا، فكانت تلك العلة مبطلة لحكم النص الذي استنبطت منه وهو قوله: في أربعين شاةً شاةٌ.
ثانيا: يجوز غالبا أن تخصصَ العلةُ النصَ الذي استنبطت منه.
مثاله: قوله تعالى: ( أو لامستم النساء ) فظاهره يعم كل النساء، فإذا علل اللمس بمظنة الشهوة خرجت المحارم من النساء فلا ينتقض الوضوء بلمسهن لانتفاء العلة المذكورة.
وقيل: لا يجوز أن تخصص العلة الأصل الذي استنبطت منه، ولهذا نقضوا الوضوء بلمس المحارم عملا بالعموم.
وقولنا: غالبا خرج به تعليل نحو الحكم في خبر الشافعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان.
أي أن يباع اللحم كلحم شاة بحيوان، فيفضي إلى أن يباع مع اللحم غيره كعظم وشحم وجلد وصوف.
فالحديث بظاهره يعم الحيوان الذي من جنس اللحم أو من غير جنسه فتعليل هذا الحكم بأنه بيع الربوي- اللحم- بأصله يقتضي جواز بيع اللحم بحيوان مأكول من غير الجنس كبيع لحم بقر بشاة مثلا. وهو أحد قولي الإمام الشافعي رحمه الله والقول الثاني وهو المعتمد أنه لا يجوز بيع اللحم بالحيوان بجنسه أو غير جنسه نظرا لعموم الخبر. فهنا على القول المعتمد لا تخصص العلة عموم النص.
وأما إذا عادت العلة على النص بالتعميم فهو جائز اتفاقا.
مثاله: تعليل النهي عن الحكم في حالة الغضب في قوله صلى الله عليه وسلم: لا يحكم أحدٌ بين اثنين وهو غضبان. متفق عليه. بتشويش الفكر الشامل لحالة الغضب وغيره من كل ما يشوش.







( شرح النص )

وأَنْ لا تعودَ على الأصلِ بالإبطالِ، ويجوزُ عودُها بالتخصيص في الأصحِّ غالبًا.
.............................. .............................. .............................. .............................
( و ) شرط للإلحاق بالعلة ( أَنْ لا تعودَ على الأصلِ ) الذي استنبطت منه ( بالإبطالِ ) لحكمه لأن الأصل منشؤها فإبطالها له إبطال لها كتعليل الحنفية وجوب الشاة في الزكاة بدفع حاجة الفقير، فإن الدفع المذكور مجوز لإخراج قيمة الشاة وهو مفض إلى عدم وجوبها عينا بالتخيير بينها وبين قيمتها ( ويجوزُ عودُها ) أي العلة على الأصل ( بالتخصيص ) له ( في الأصحِّ غالبًا ) فلا يشترط عدم عودها عليه بالتخصيص كتعليل الحكم في آية: أو لامستم النساء. بأن اللمس مظنة التمتع أي التلذذ، فإنه يخرج من النساء المحارم فلا ينقض لمسهن الوضوء، وقيل: لا يجوز ذلك فيشترط عدم التخصيص، فينقض لمس المحارم الوضوء عملا بعموم الآية وهو أحد قولي الشافعي والقول الآخر عدم النقض وهو الذي رجحه الأصحاب، وخرج بالتخصيص التعميم فيجوز العود به قطعا بلا خلاف كتعليل الحكم في خبر الصحيحين: لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان. بتشويش الفكر فإنه يشمل غير الغضب أيضا، وخرج بقولي غالبا تعليل نحو الحكم في خبر النهي عن بيع اللحم بالحيوان بأنه بيع ربوي بأصله، فإنه يقتضي جواز البيع بغير الجنس من مأكول وغيره- كبيع لحم بقر بضأن ولحم ضأن بحمار- كما هو أحد قولي الشافعي، لكن أظهرهما المنع- أي الحرمة والبطلان- نظرا لعموم الخبر.

صفاء الدين العراقي
2017-07-08, 07:53 PM
الدرس الثالث والتسعون- القياس

معارضة العلة المستنبطة بمناف

أولا: ومن شروط العلة أن لا تكون العلة المستنبطة معارَضَة من قبل الخصم بمعارِض مناف لمقتضاها بأن يقتضي أن موجود ذلك المنافي في الأصل.
مثاله: قياس حليّ البالغة على حليّ الصغيرة في عدم وجوب الزكاة لأنه حليٌ مباحٌ. فالأصل هو حلي الصغيرة، والفرع هو حلي البالغة، وحكم الأصل هو عدم وجوب الزكاة، والعلة المستنبطة هي كونه حليا مباحا.
فيعارضها الحنفي قائلا: إن العلة في عدم وجوب الزكاة في حلي الصغيرة هي كونه حلي صغيرة.
فهذه العلة التي أبدأها الحنفي منافية لمقتضى علة المستدل لإنها لا تقتضي عدم وجوب الزكاة في حلي الكبيرة، وذلك المنافي -أي كونه حلي صغيرة- موجود في الأصل وهو حلي الصغيرة.
ثانيا: وقع التمثيل للمسألة السابقة بمثال آخر وهو: قول الحنفي لا يجب تبييت النية في صوم رمضان والدليل عليه هو: أن صوم رمضان هو صوم مطلوب من كل مكلف على التعيين كالنفل- كعرفة فإنه مطلوب صيامه من كل مكلف على التعيين لأنه سنة عين- فيتأدى صومه بالنية قبل الزوال. فالأصل هو صيام النفل، والفرع هو صيام رمضان، والحكم هو صحة الصوم بنية قبل الزوال، والعلة هي كونه مطلوبا من كل مكلف على التعيين.
فيعارضه الشافعي فيقول: إن العلة هي كونه صيام فرض فيحتاط فيه ولا يبنى على السهولة بخلاف النفل.
وهذا المثال محل نقاش فإننا اشترطنا أن يكون المعارض المنافي موجودا في الأصل وهنا ليس كذلك فإن علة الشافعي وهي الفرضية التي عارض بها العينية على مكلف غير موجودة في الأصل وهو صوم النفل، فالمثال ليس مطابقا للمسألة.
ثالثا: لا يشترط في العلة أن لا تكون معارضة من قبل الخصم بمعارض مناف لمقتضاها موجود في الفرع.
وقيل: يشترط أن تكون العلة المستنبطة لا يعارضها الخصم بمناف موجود في الفرع، بأن تثبت في الفرع علة أخرى توجب خلاف الحكم الثابت فيه بالقياس على أصل آخر.
مثاله: إذا قال الشافعي في مسح الرأس في الوضوء: هو ركن كغسل الوجه فيسن تثليثه. فالأصل هو غسل الوجه، والفرع هو مسح الرأس، وحكم الأصل هو سنية التثليث، والعلة الجامعة هي الركنية في الوضوء.
فيعارضه الحنفي: بأن مسح الرأس كمسح الخف بجامع المسحية فلا يسن تثليثه.
فهنا الوصف المعارض الذي أبداه الحنفي وهو كونه مسحا موجود في الفرع وهو مسح الرأس وهذا يقتضي أن الحكم في مسح الرأس هو عدم التثليث.



( شرح النص )

وأنْ لا تكونَ المستنبَطَةُ مُعارضَةً بمنافٍ موجودٍ في الأصلِ.
.............................. .............................. .............................. ...........................
( و ) شرط للإلحاق بالعلة ( أنْ لا تكونَ ) العلة ( المستنبَطَةُ ) وهي الحاصلة عن رأي المجتهد- وقيّدها بذلك؛ لأن العلة المنصوصة تلغي ما يعارضها- ( مُعارضَةً بمنافٍ ) لمقتضاها ( موجودٍ في الأصلِ ) أي المقيس عليه إذْ لا عمل للعلة- وعملها هو كون المنصوص عليه أصلا يلحق به غيره- مع وجود المعارض إلا بمرجح، ومثّل له بقول الحنفي في نفي وجوب التبييت في صوم رمضان: صوم عين-أي مطلوب من كل ذات من المكلفين- فيتأدى بالنية قبل الزوال كالنفل، فيعارضه الشافعي: بأنه صوم فرض فيحتاط فيه بخلاف النفل فيبنى على السهولة، وهو مثال للمعارِض في الجملة- فإنه معارضة بحسب ما يترتب على كل من العلتين- وليس منافيا ولا موجودا في الأصل- أما كونه غير موجود في الأصل فظاهر فإن الفرضية ليست موجودة في الأصل وهو صوم النفل، وأما كون الوصف غير مناف ففيه منع؛ لأن البناء على الاحتياط الذي هو مقتضى الفرضية ينافي البناء على السهولة الذي هو مقتضى قياس الحنفي-، وخرج بالأصل: الفرع فلا يشترط انتفاء وجود ذلك فيه لصحة العلة، وقيل: يشترط في الفرع أيضا، ومثل للمعارض الموجود في الفرع بقولنا معاشر الشافعية في مسح الرأس: ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه، فيعارضه الخصم بقوله: مسح فلا يسن تثليثه كالمسح على الخفين، وهو مثال للمعارض في الجملة وليس منافيا- وفيه نظر فإنه وإن كان لا منافاة بين العلتين أي كونه مسحا وكونه ركنا إذْ يمكن أن يجتمعا كما في مسح الرأس في الوضوء إلا أن بين مقتضى العلتين تنافيا فإن كونه مسحا يقتضي عدم استحباب التثليث وكونه ركنا يقتضي استحبابه- وإنما ضعّف هذا الشرط وإن لم يثبت الحكم في الفرع عند انتفائه؛ لأن الكلام في شروط العلة، وهذا شرط لثبوت الحكم في الفرع لا للعلة التي الكلام فيها- والخلاصة أن الشرط المذكور هو شرط في الفرع وليس شرطا في العلة ونحن الآن في تقرير شروط العلة فليس هذا موضعه - وإنما قيد المعارض بالمنافي لأنه قد لا ينافي كما سيأتي فلا يشترط انتفاؤه، ويجوز أن يكون هو- أي المعارض غير المنافي- علة أيضا بناء على جواز التعليل بعلل- وسيأتي الكلام عليه قريبا إن شاء الله-.

صفاء الدين العراقي
2017-07-08, 07:54 PM
الدرس الرابع والتسعون- القياس

تكملة شروط العلة

أولا: ومن شروط العلة المستنبطة أن لا تخالف من حيث الحكم المترتب عليها نصا أو إجماعا؛ لأن هذين يقدمان على القياس.
مثال مخالفة النص قول الحنفية: المرأة مالكة لبضعها فيصح أن تزوج نفسها بغير إذن وليها قياسا على بيع سلعتها بجامع مطلق الملك.
وهذا مخالف للنص الوارد في حديث أبي داود وغيره: أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها فنكاحها باطل.
ومثال مخالفة الإجماع: ما لو قيست صلاة المسافر على صومه في عدم وجوب الأداء أثناء السفر بجامع السفر الشاق، فكما جاز للمسافر ترك الصيام ثم قضاؤه، يجوز له ترك الصلاة ثم يقضيها بعد إقامته.
فهذا مخالف للإجماع على وجوب أداء الصلاة في السفر.
ثانيا: ومن شروط العلة أن لا تتضمن العلة المستنبطة زيادة على النص أو الإجماع إذا كانت تلك الزيادة منافية لمقتضاه. بأن يدل النص مثلا على علية وصف ويزيد الاستنباط قيدا فيه منافيا للنص فلا يعمل بذلك الاستنباط؛ لأن النص مقدم عليه.
مثاله: كما لو نصّ على أن عتق العبد الكتابي لا يجزئ لكفره، فيعلل عدم الجواز بأنه عتق كافر يتدين بدين.
فهذا القيد وهو: يتدين بدين، ينافي حكم النص المفهوم منه وهو إجزاء عتق المؤمن المفهوم بالمخالفة، وعدم إجزاء عتق المجوسي المفهوم بالموافقة الأولى.
بمعنى أن النص المفترض- عتق العبد الكتابي لا يجزئ لكفره- يدل على علية وصف وهو لا يجزئ لكفره، فجاء مَن أضاف قيدا في ذلك الوصف ينافي مقتضى النص أي حكمه فإن ذلك النص يدل دلالتين: يدل بمفهوم المخالفة على أن المؤمن يجزئ عتقه، وبمفهوم الموافقة الأولى على أن المجوسي لا يجزئ عتقه فإنه إذا كان الكتابي لا يجزئ عتقه فالمجوسي من باب أولى، بينما زيادة قيد يتدين بدين تنافي ذلك فإنها تدل على أن الكافر إذا لم يكن يتدين بدين يجوز عتقه.
ثالثا: ومن شروط العلة أن تكون معينة، فلا يصح الإلحاق بوصف غير معين؛ لأن العلة هي أساس التعدية التي تحقق القياس الذي تستدل به، ويجب أن يكون الدليل معينا ليستدل به، فكذلك أساسه المحقق له وهو العلة يجب أن يكون معينا.
وقال بعضهم: يجوز التعليل بالمبهم المشترك بين أمرين، إذْ يحصل المقصود بذلك، كأن يقال مثلا: يحرم الربا في البر للطعم أو للقوت.

( شرح النص )

وأَنْ لا تُخالِفَ نصًّا أَوِ إِجماعًا، ولا تتضمَّنُ المستنبَطَةُ زيادةً عليهِ منافيةً مقتضاهُ، وأَنْ تَتَعَيَّنَ.
.............................. .............................. .............................. ............................
( و ) شرط للالحاق بالعلة ( أَنْ لا تُخالِفَ ) أي العلة من حيث مقتضاها وهو الحكم المترتب عليها ( نصًّا أَوِ إِجماعًا ) يعني أن لا يكون ما تثبته العلة في الفرع حكما يخالف نصا أو اجماعا لتقدمهما على القياس، فمخالفة النص: كقول الحنفي المرأة مالكة لبضعها- أي فرجها- فيصح نكاحها بغير إذن وليها قياسا على بيع سلعتها بجامع مطلق الملك، فإنه مخالف لخبر أبي داود وغيره: أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل. ومخالفة الإجماع: كقياس صلاة المسافر على صومه في عدم الوجوب بجامع السفر الشاق، فإنه مخالف للإجماع على وجوب أدائها علي المسافر مع مشقة السفر ( و ) أن ( لا تتضمَّنُ ) العلة ( المستنبَطَةُ زيادةً عليهِ ) أي على النص أو الإجماع ( منافيةً مقتضاهُ ) أي حكمه بأن يدل النص مثلا على علية وصف ويزيد الاستنباط قيدا في الوصف منافيا للنص فلا يعمل بالاستنباط لتقدّم النص عليه ( و ) شرط للإلحاق بالعلة ( أَنْ تَتَعَيَّن ) أي يجب أن تكون وصفا معينا في الأصح، فلا تكفي المبهمة؛ لأن العلة منشأ التعدية المحققة- أي الموجِدة- للقياس الذي هو الدليل، ومن شأن الدليل أن يكون معينا، فكذا منشأ التعدية المحققة له -أي للدليل- وهي العلة، وقيل: يكفي المبهمة من أمرين فأكثر المشتركة بين المقيس والمقيس عليه كأن يقال: يحرم الربا فى البر للطعم أو القوت والإدخار أو الكيل.

صفاء الدين العراقي
2017-07-14, 02:31 PM
تم إكمال الكتاب هنا.
http://majles.alukah.net/t161981/

محمد الدياربكري
2021-06-07, 12:35 PM
تم إكمال الكتاب هنا.
http://majles.alukah.net/t161981/

لا يمكنني مشاهدة باقي الكتاب رغم أني عضو مشارك، ما هو السبب يا إخوة ؟ وهل من سبيل للوصول للكتاب بتمامه ؟