مشاهدة النسخة كاملة : دروس في السيرة النبوية
محمد طه شعبان
2016-06-21, 02:20 PM
الدرس الأول:
اسم النبي ﷺ
نبينا ﷺ هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدٍّ بن عدنان.
وَأُمُّهُ ﷺ هِيَ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ.
محمد طه شعبان
2016-06-21, 02:22 PM
الدرس الثاني
ولادته ﷺ
وقد وُلد ﷺ في مكة المكرمة يوم الاثنين في الثامن من شهر ربيع الأول عام الفيل.
وقد وُلد ﷺ يتيمًا؛ حيث مات أبوه وهو حمل في بطن أمه.
وسمي العام الذي وُلد فيه النبي ﷺ بعام الفيل لوقوع حادثة الفيل المشهورة فيه، والتي قاد فيها أبرهة الأشرم ابن الصباح الحبشي، نائب النجاشي على اليمن، بفيله العظيم جيشَه العرمرم لهدم الكعبة المشرفة بيت الله الحرام؛ ولكن هيهات هيهات، فما قوة أبرهة بفيله العظيم وجيشه العرمرم الكبير بجوار قوة العلي القدير، إلا كقشة ضعيفة تتقاذفها أمواج عظيمة، بل هي أضعف.
فالله تعالى هو الذي خلقهم وهو الذي أعطاهم هذه القوة فهم لا يعجزونه، فما أن وصل أبرهة إلى وادي محسِّر بين مزدلفة ومنيً حتى برك الفيل وعجز عن الحركة إلا لوجهة أخرى غير وجهة الكعبة، وهنالك أرسل عليهم رب البيت طيرًا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول.
وقد حكى الله تعالى ما نزل بهم من عذاب في كتابه العزيز فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 1- 5].
محمد طه شعبان
2016-06-21, 04:28 PM
الدرس الثالث:
مرضعاته ﷺ
وأول مَنْ أرضعته ﷺ ثويبة مولاة أبي لهب، ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية.
وقد ظهر من بركته ﷺ وعلامات نبوته مع حليمة ما ظهر:
فقد قدمت حليمة هي وزوجها ونساء قومها من بني سعد بن بكر إلى مكة بحثًا عن أطفال يُرضعنهم، وكان مع حليمة رضيع يبكي من شدة الجوع، وكان معهم ناقة ليس فيها لبن، وكذلك ليس في ثدي حليمة لبن، فلما قدموا مكة أخذت كل امرأة طفلًا، وما من امرأة عُرِض عليها رسول الله ﷺ إلا وترفضه إذا قيل لها: إنه يتيم؛ وذلك لأنهن كن ينتظرن المعروف من والد الصبي.
فبقيت حليمة لم تجد رضيعًا تأخذه، فقالت لزوجها: سأذهب إلى هذا الطفل اليتيم فآخذه، فقال لها زوجها: خذيه، عسى الله أن يجعل فيه البركة.
فأخذت حليمة رسول الله ﷺ، فلما وضعته في حجرها أقبل عليه ثديها باللبن، فشرب النبي ﷺ وشرب معه رضيعها الذي كان يبكي من شدة الجوع، وقام زوجها إلى الناقة فوجد ضرعها قد امتلأ باللبن، فحلب منها فشرب وشربت معه حليمة حتى شبعا تمامًا.
ثم بعد ذلك ركبت حليمة أتانها – أنثى الحمار - وحملت معها النبي ﷺ، فسبق الأتان جميع الحمْر، بعد أن كانت لا تقوى على السير.
فلما قدموا منازل بني سعد بن بكر، وكانت أرضهم جدباء، لا زرع فيها ولا ماء، إذا أغنام حليمة تسرح وتعود شبعانة ممتلئة باللبن، دون أغنام غيرهم؛ حتى إن قوم حليمة كانوا يقولون لغلمانهم: ويلكم، اسرحوا حيث تسرح غنم حليمة، فيسرحون مع أغنامها، فترجع أغنامهم جياعًا، وتعود غنم حليمة شباعًا.
فلما انتهت رضاعة النبي ﷺ قدموا به على أمه، وكلموها في إبقائه عندهم؛ لِمَا وجدوا منه من البركة، وقالوا لها: نخشى عليه من وباء مكة، فوافقت أمه ورجعوا به ﷺ.
فمكث النبي ﷺ عندهم حتى إذا بلغ أربع سنوات أتاه ملكان وهو يلعب مع الصبيان فشقا صدره ثم استخرجا منه علقة سوداء، وقالوا: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسلا قلبه في طست من ذهب بماء زمزم، ثم خاطا صدره.
فلما رأى الغِلمان هذا المشهد ولَّوا مسرعين إلى حليمة، وقالوا لها: إن محمدًا قد قُتل، ثم وجدوا النبي ﷺ داخلًا عليهم وهو متغير اللون.
فخافت عليه حليمة السعدية، فأخذته إلى أمه، وقصَّت لها ما حدث، فلم تخف أمه ﷺ، وقالت: لقد رأيت حين ولادته كأن نورًا خرج مني أضاءت منه قصور الشام.
أبو البراء محمد علاوة
2016-06-21, 04:54 PM
موفق يا أبا يوسف
محمد طه شعبان
2016-06-21, 05:21 PM
موفق يا أبا يوسف
بارك الله فيك أبا البراء
أبو البراء محمد علاوة
2016-06-21, 05:41 PM
بارك الله فيك أبا البراء
آمين وإياك
محمد طه شعبان
2016-06-27, 05:45 PM
الدرس الرابع
وفاة أمه ثم جدِّه ﷺ
لما بلغ سول الله ﷺ ست سنين ماتت أمه بمكان اسمه الأبواء، بين مكة والمدينة؛ حيث كانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تُزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة.
فلما ماتت أُمُّه ﷺ كفله جدُّه عبد المطلب، وقام برعايته، واهتم به اهتمامًا شديدًا؛ حتى إنه كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، ولا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا له، فكان رسول الله ﷺ يأتي حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامُه ليؤخروه عنه، فيقول لهم عبد المطلب: دعوا ابني فوالله إنَّ له لشأنًا؛ ثم يُجْلِسُه معه على الفراش، ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع.
فلما بلغ رسول الله ﷺ ثماني سنين مات جدُّه عبد المطلب، فكفله عَمُّه أبو طالب وظل رسول الله ﷺ تحت رعايته، ولم يمت أبو طالب إلا في العام العاشر من بعثة النبي ﷺ، وهو العام الذي يسميه المؤرخون بعام الحزن؛ حيث ماتت فيه أيضًا خديجة رضي الله عنها، وكانت هي وأبو طالب يناصران النبي ﷺ في دعوته، ويصدان عنه أذى قريش واعتداءاتهم عليه ﷺ؛ لمكانتهما بين قريش، فلما ماتا حزن النبي ﷺ لموتهما حزنًا شديدًا.
محمد طه شعبان
2016-06-27, 05:45 PM
الدرس الخامس
رحلة النبي ﷺ مع عمه أبي طالب إلى الشام، ولقاؤه بِبَحِيرَاءِ الراهب
ولما بلغ رسول الله ﷺ الثانيةَ عشر مِن عُمُرِهِ خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي ﷺ في أشياخ من قريش، وكان في طريقهم إلى الشام راهب يمرون عليه، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلُّوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب ـ وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت لهم ـ فخرج إليهم الراهب وهم يحلون رحالهم، فجعل الراهب يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله ﷺ، فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما عِلْمُكَ، فقال: إنكم حين أشرفتم مِن العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدًا ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم بالطعام ـ وكان رسول ﷺ في رِعْيَةِ الإبل ـ قال الراهب: أَرْسِلُوا إليه، فأقبل ﷺ وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى ظِلِّ الشجرة، فلما جلس مال ظل الشجرة عليه، فقال الراهب: انظروا إلى ظل الشجرة مال عليه، فقام الراهب يوصيهم ألَّا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت الراهب فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم، فقال لهم الراهب: ما جاء بكم؟
قالوا: علمنا بأن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بُعِث إليه بأناس، وإنا قد أُخْبِرْنا خَبَرَه فبعثنا إلى طريقك هذا.
فقال لهم الراهب: أفرأيتم أمرًا أراد اللهُ أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس ردَّه؟
قالوا: لا. فبايع هؤلاء السبعة رسولَ الله ﷺ وأقاموا معه.
ثم قال الراهب لقافلة قريش: أَنْشُدُكُمْ بالله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى ردَّه أبو طالب إلى مكة خوفًا عليه من الروم، وزوده الراهب من الكعك والزيت.
محمد طه شعبان
2016-06-27, 05:46 PM
الدرس السادس
اشتراكه ﷺ في حِلْف الفضول
ولما بلغ النبي ﷺ عشرين سنة من عمره اشترك مع أبناء عمومته في حلف الفضول.
وكان سبب انعقاد حلف الفضول أن رجلًا من مدينة باليمن اسمها «زَبِيدٌ» قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاصي بن وائل، وكان ذا قدر بمكة وشرف، فحبس عنه حقه، فاستغاث الرجل الزَّبِيديُّ بأقوامٍ من مكة فأبوا أن يعينوه، فلما رأى الزبيدي الشرَّ صعد على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فصاح بأعلى صوته، واستغاث بالناس، فقام الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت بنو هاشم، وبنو زهرة، وبنو تَيْمِ بن مُرَّةَ في دار عبد الله بن جُدْعَانَ، فصنع عبد الله لهم طعامًا، وتحالفوا وتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يُؤدَّى إليه حقُّه.
فسمت قريشٌ ذلك الحلفَ: حلف الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاصى بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزَّبيدي، فدفعوها إليه.
وكان حلف الفضول أَكْرمَ حِلفٍ وأَشْرفَهُ في العرب؛ ولذلك قال ﷺ: «لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا لَوْ دُعِيتُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ؛ تَحَالَفُوا أَنْ يَرُدُّوا الْفُضُولَ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَلَّا يَعُزَّ ـ أي: يغلب ـ ظَالِمٌ مَظْلُومًا».
محمد طه شعبان
2016-06-27, 05:47 PM
الدرس السابع
زواجه ﷺ من خديجة رضي الله عنها، واشتراكه في بناء الكعبة
ثم تزوج النبي ﷺ خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وكان ﷺ آنذاك في الخامسة والعشرين من عمره، وخديجة رضي الله عنها في الأربعين من عمرها، وقيل: إنها كانت في الثامنة والعشرين.
ولما بلغ النبي ﷺ الخامسة والثلاثين من عمره، أرادت قريش بناء الكعبة التي كانت قد تهدمت من عوامل الطبيعة، فشارك النبي ﷺ في بنائها، وكان ﷺ يَنْقِل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره [وهو ما يُلبس في الجزء الأعلى من الجسد]، فقال له عَمُّه العباس: يا ابن أخي، لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك [أي: كتفيك] دون الحجارة، فحله النبي ﷺ فجعله على منكبيه، فسقط مغشيًّا عليه، فما رُئي بعد ذلك عُريانًا ﷺ.
فلما انتهوا من بناء الكعبة، وأرادوا وضع الحجر الأسود مكانه اختلفت القبائل فيمن ينال شرف وضع الحجر الأسود مكانه؛ فقالت كل قبيلة: نحن نضعه، فقالوا: اجعلوا بينكم حكمًا، قالوا: أول رجل يدخل علينا، فجاء النبي ﷺ، فقالوا: أتاكم الأمين، فحكَّموه ﷺ بينهم، فوضعه في ثوب، ثم دعا رجلًا من كل قبيلة، فأخذوا بنواحيه معه، ثم أخذه هو ﷺ فوضعه مكانه.
محمد طه شعبان
2016-06-28, 05:55 PM
الدرس الثامن
تتابع علامات نبوته ﷺ قبل البعثة
لقد مَهَّد الله تعالى لبعثه نبيه ﷺ بعلامات منذ ولادته، منها ما هو حِسِّيٌّ بأحداث تحدث له، كالذي رأته أمه حين ولادته، وما حدث له أثناء رضاعه عند حليمة السعدية، وقصة بَحِيراء الراهب وتسليم الحجر عليه، وغير ذلك.
ومنها ما هو معنوي ظهر في أخلاقه ﷺ؛ كتركه الكذب، وتركه شرب الخمر خلافًا لعادة الرجال في ذلك الوقت، وعدم سجوده لصنم حتى أقسم زيد بن حارثة بأن رسول الله ﷺ ما مس صنمًا قط حتى أكرمه الله بالوحي، وعدم طوافه بالبيت عُريانًا.
وحتى يشاهد هذه العلامات جميع من حوله ويرونها رأي العين، ويتناقلونها بينهم، حتى إذا ما بعث النبي ﷺ لا يكونون في عجبة من أمره. وكان ما أراده الله سبحانه وتعالى فما أن بُعث النبي ﷺ إلا سارع كثير من المقربين إليه وغير المقربين بالإيمان به والدخول في دعوته المباركة، ولم يبق إلا من ختم الله على قلبه، أو من أراد الله أن يؤخر إسلامه إلى حين آخر.
ولذلك حتى الذين لم يؤمنوا به ﷺ كانوا على يقين أنه على حق وأنه لا يكذب؛ وذلك لِمَا علموه عنه من أخلاق كريمة، ولِمَا ظهر من علامات نبوته ﷺ؛ قال تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: 33].
كانت هذه العلامات منذ ولادته ﷺ، فلما كان قُبَيل بعثته ﷺ تكاثرت هذه العلامات وحدَّث بها أحبار اليهود ورهبان النصارى بما علموه من كتبهم، وكذلك حدَّث به الجِنُّ.
يقول جابر بن عبد الله: إن أول خبر كان بالمدينة بمبعث رسول الله ﷺ أن امرأة بالمدينة كان لها تابع من الجن، فجاء في صورة طائر أبيض، فوقع على حائط لهم، فقالت له: ألا تنزل إلينا وتحدثنا ونحدثك، وتخبرنا ونخبرك؟ فقال لها: إنه قد بُعث نبيٌّ بمكة حرَّم الزنا.
ومن تحديث الرهبان به ﷺ ما جاء في قصة إسلام سلمان الفارسي وأنه كان مجوسيًا ثم دخل كنيسة نصارى فأعجبته عبادتهم، فدخل دينهم، ثم استوصى قس الكنيسة عند وفاته فأوصاه بالذهاب إلى قس الموصل الذي أوصاه عند وفاته بالذهاب إلى قس نصيبين الذي أوصاه عند وفاته أيضًا بقس عَمُورِيَّة، فأوصاه باتباع النبي ﷺ ووصفه له.
أبو مالك المديني
2016-07-01, 01:42 AM
دروس نافعة ، نفع الله بك حبيبنا .
محمد طه شعبان
2016-07-01, 05:33 PM
دروس نافعة ، نفع الله بك حبيبنا .
بارك الله فيكم شيخنا الحبيب الغالي، ونفع بكم.
محمد طه شعبان
2016-07-02, 04:38 PM
الدرس التاسع
نزول الوحي عليه ﷺ
لما أتم النبيُّ ﷺ الأربعين من عمره أنعم الله عليه بنور النبوة والإيمان ليبدد به ظلمات الكفر والطغيان، حيث اختاره الله تعالى نبيًّا له ورسولًا، ونورًا يَهدي إلى الجنة.
فكيف كان نزول الوحي عليه ﷺ لأول مرة؟
كان النبي ﷺ - قبل أن يأتيه الوحي من السماء - قد حبَّبَ الله تعالى إليه الانفراد بنفسه؛ ليتفرغ لعبادة ربه تعالى؛ فكان ﷺ يخلو بغار حِرَاء فيتعبد لله تعالى فيه، وفي يوم والنبي ﷺ جالس في الغار وحده يعبد ربه تعالى جاءه جبريل عليه السلام، فدخل على النبي ﷺ في الغار، وقال له: اقرأ، فقال النبي ﷺ: ما أنا بقارئ؛ حيث كان ﷺ لا يستطيع القراءة، فأخذ جبريلُ عليه السلام النبيَّ ﷺ فضمه ضمة شديدة، ثم تركه، وقال له: اقرأ، فقال النبي ﷺ: ما أنا بقارئ، فأخذه جبريل عليه السلام فضمه ضمة ثانية، ثم تركه، وقال له: اقرأ، فقال النبي ﷺ: ما أنا بقارئ، فأخذه فضمه ضمة ثالثة، ثم تركه، وقال له: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ [العلق: 1 - 3]، فرجع رسول الله ﷺ إلى زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وهو خائف يرتجف، فقال: «زملوني زملوني» أي: غطوني، فغطوه حتى ذهب عنه الخوف، فحكى لخديجة رضي الله عنها ما حدث له، وقال لها: لقد خشيتُ على نفسي، فقالت له خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ [أي: تساعد الضعيف]، وتكسب المعدوم [أي: تعطي من مالك للمعدوم الذي لا يملك مالًا]، وتقري الضيف [أي: تُكرمه]، وتعين على نوائب الحق [أي: تساعد في الخير]، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان ورقة تنصر في الجاهلية، وكان يقرأ الإنجيل، وكان شيخًا كبيرًا قد عَمِي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى، فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الوحي الذي أنزله الله تعالى على موسى عليه السلام، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله ﷺ: أو مخرجي هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرْك نصرًا مُؤَزَّرًا، ثم مات ورقة ولم يُدرك ذلك.
محمد طه شعبان
2016-07-02, 07:46 PM
الدرس العاشر
بداية الدعوة إلى الله تعالى
بعد ما نزل جبريل على رسول الله ﷺ للمرة الأولى انقطع عنه فترة، ثم جاءه مرة أخرى.
يقول رسول الله ﷺ: «بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَفَرِقْتُ مِنْهُ [خِفت منه]، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، فَدَثَّرُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 1- 5]؛ أي: اهجر الأوثانَ التي كان أهل الجاهلية يعبدونها.
فكانت سورة المدثر إيذانًا له ﷺ بالبدء في الدعوة إلى سبحانه وتعالى؛ حيث قال الله تعالى له: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ﴾، فقام النبي ﷺ يدعو إلى الله تعالى سِرًّا حفاظًا منه ﷺ على الدعوة وعلى مَن معه مِن المؤمنين وهم قِلَّة، وحتى لا يعلم المشركون بذلك فيقضون على الدعوة في مهدها.
فأخذ النبي ﷺ يدعو مَن يغلب على ظنه أنه سيدخل هذا الدين، وأنه سوف يكتم أمره.
فكانت خديجة رضي الله عنها أول من دعاها النبي ﷺ إلى الإسلام فأسلمت، ثم ثنَّى النبي ﷺ بأمين سره وموضع ثقته أبي بكر فأسلم، ولم يتردد، فكان الصديق رضي الله عنه أول داعية في الإسلام، وكان ببركة إسلامه ودعوته ثلة مباركة دخلت في الدين وكانت من السابقين الأولين وكان لها في الإسلام أعظم بذل وبلاء، فرضي الله عنهم أجمعين؛ منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله؛ فكل هؤلاء دخلوا الإسلام على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وجميعهم مِن العشرة المبشرين بالجنة.
وكان أول من أسلم من الغِلمان علي بن أبي طالب ﭬ, وكان ابن ثماني سنين، وقيل: أكثر من ذلك، وكان أول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة حِبُّ رسول الله ﷺ، وكان غلامًا لخديجة ڤ فوهبته لرسول الله ﷺ لما تزوجها.
ثم دخل بعد هذه الثلة الفاضلة التي سبقت لها السعادة وسبقت إلى الإيمان والعبادة، ثلة أخرى كريمة فاضلة منهم أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، وسعيد بن زيد من العشرة المبشرين، وخباب بن الأَرَتِّ، وعبد الله بن مسعود، وأسماء بنت أبي بكر وكانت متزوجة بالزبير بن العوام.
وتوالى إسلام الأفاضل من قريش، فأسلم جعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون، وعمار بن ياسر، وصهيب الرومي.
وكان من السابقين أيضًا: بلال بن رباح، وعمرو بن عَبْسَةَ السُّلَمِي، وياسر وسمية والدا عمار، والمقداد بن الأسود رضي الله عنهم أجمعين.
محمد طه شعبان
2016-07-03, 01:12 PM
الدرس الحادي عشر
الجهر بالدعوة إلى الله تعالى
ظل النبيُّ ﷺ يدعو إلى الله تعالى سِرًّا قُرابة الثلاث سنوات حتى نزل عليه قوله تعالى: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ [الشعراء: 214]، فكان هذا إيذانا له ﷺ بالجهر بالدعوة المباركة، وانتهاء المرحلة السرية.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾، صعد النبي ﷺ على جبل الصفا فجعل ينادي: «يابني فهر يابني عدي»، حتى اجتمع الناس، وجاء أبو لهب، فقال رسول الله ﷺ: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم كنتم مُصَدِّقِيَّ»؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، فقال ﷺ: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت ﴿تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب﴾ [المسد:1 - 2].
ثم شمر النبي ﷺ عن ساعديه، وألقى النوم والراحة وراء ظهره، وأخذ يدعو إلى الله وإلى دين ربه عز وجل فهو لا يريد أن يُضيِّع لحظة واحدة في غير الدعوة إلى الله.
ولم تكن الدعوة سهلةً ميسرةً، ولم يكن طريقُها مفروشًا بالورود، بل إن النبي ﷺ قد واجه من الصعوبات والمشقة مالا يتحمله غيره، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا﴾ [المزمل: 5].
وكان سبب هذه الصعوبات أن النبي ﷺ بُعِث على فترة من الرسل حتى إن كفار قريش قد ورثوا عبادة الأوثان كابرًا عن كابر، فلم تكن عندهم أدنى موافقة على ترك دين آبائهم وأجدادهم إلى التدين بهذا الدين الجديد، بل كانوا يقولون: ﴿إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون﴾ [الزخرف: 22].
ورغم ذلك حرص النبي ﷺ كلَّ الحرص، وبذل كلَّ الجهد حتى يُخْرِجَ هؤلاء من عبادة الأوثان إلى عبادة رب الأنام، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، حتى إن النبي ﷺ كان يسير في الأسواق يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا».
حتى إن الله تعالى لما رأى منه كلَّ هذا الجهد والحزن الذي ملأ قلبه حتى كاد يموت من شدة الحزن؛ لخوفه عليهم من عذاب ربهم، رأف الله تعالى به فأنزل عليه: ﴿لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين﴾ [الشعراء: 3]، وأنزل: ﴿فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا﴾ [الكهف: 6]؛ أي: فلعك قاتل نفسك أسفًا وحزنًا لعدم إيمانهم بك وبرسالتك، فلا تحزن كل هذا الحزن ﴿فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب﴾ [الرعد: 40].
ثم استمر النبي ﷺ في دعوته التي واجه فيها صناديد قريش وكبراءها فآذوه أشد إيذاء وتعداه هذا الإيذاء إلى أصحابه ﭫ، بأبي هو وأمي ونفسي وأهلي ﷺ.
محمد طه شعبان
2016-07-11, 12:53 AM
الدرس الثاني عشر
ما تعرض له النبي ﷺ والصحابة ﭫ من إيذاء
اعتقد كفار مكة أن إيذاءهم للنبي ﷺ وتعذيبهم لأصحابه سينال من عزيمتهم ويوهن قوتهم فيرضخون لهم ويطيعونهم فيما أرادوا, ولكن هيهات هيهات، فما نالت هذه الأفعال من عزيمة الأبطال شيئًا، بل زادتهم قوة وصلابة.
فلم يقف هذا الإيذاء عند حد معين، ولا على شخص معين، بل فاق كل الحدود ونال من كل شخص نطق بكلمة التوحيد ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج: 8].
وإليك أخي الكريم بعض الصور لما لاقاه النبي ﷺ وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين:
بينما رسول الله ﷺ يصلي عند البيت ذات يوم وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نُحرت ناقة بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى أحشاء هذه الناقة فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط فأخذه، فلما سجد النبي ﷺ وضعه بين كتفيه، وضحك القوم، وجعل بعضهم يميل على بعض، والنبي ﷺ ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وكانت صغيرة فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي ﷺ صلاتَه رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا، ثم قال: «اللهم عليك بقريش» ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال ﷺ: «اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة, وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط»، يقول عبد الله بن مسعود ﭬ: فوالذي بعث محمدًا ﷺ بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر.
وعن عروة بن الزبير، قال: سألت ابن عمرو بن العاص ﭬ أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي ﷺ، قال: بينما النبي ﷺ يصلي في حِجْر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا فأقبل أبو بكر حتى دفعه عن النبي ﷺ وقال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾ [غافر: 28].
وعن أبي هريرة ﭬ قال: قال أبو جهل: هل يُعفِّر محمد وجهه بين أظهركم، قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى- يمينا يحلف بها- لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى أبو جهل إلى رسولِ الله ﷺ وهو يصلي ليطأ على رقبته، قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه, قال: قيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وَهَوْلًا وأجنحة، فقال رسول الله ﷺ: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا» قال: فأنزل الله عز وجل: ﴿كلا إن الإنسان ليطغى (6) أن رآه استغنى (7) إن إلى ربك الرجعى (8) أرأيت الذي ينهى (9) عبدا إذا صلى (10) أرأيت إن كان على الهدى (11) أو أمر بالتقوى (12) أرأيت إن كذب وتولى (13) ألم يعلم بأن الله يرى (14) كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية (15) ناصية كاذبة خاطئة (16) فليدع ناديه (17) سندع الزبانية (18) كلا لا تطعه واسجد واقترب (19)﴾ [العلق:6 - 19].
حتى إن كفار قريش أرادوا قتل النبي ﷺ ولكنَّ الله تعالى قد كفى نبيه ﷺ المستهزئين وعصمه منهم فلم يضروه بشيء، وقد تجلت رعاية الله تعالى لنبيه ﷺ وظهرت لَمَّا اجتمع كفار قريش في الحجر فتعاهدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، لو قد رأينا محمدًا قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فلما علمت بذلك فاطمة رضي الله عنها أقبلت تبكي حتى دخلت على أبيها ﷺ، فقالت: هؤلاء الملأ من قومك في الحِجْر قد تعاهدوا أن لو قد رأوك قاموا إليك فقتلوك، فقال النبي ﷺ: «يا بُنَيَّةُ، أدني وَضوءًا»، فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا هذا هو، فخفضوا أبصارهم، وقعدوا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه أبصارهم، ولم يَقُمْ منهم رجل، فأقبل رسول الله ﷺ حتى قام على رءوسهم، فأخذ قبضة من تراب فرماهم بها، وقال: «شاهت الوجوه».
قال ابن عباس ﭭ: فما أصابت رجلًا منهم حصاةٌ إلا قد قُتِل يوم بدر كافرًا.
ولقد كان النبي ﷺ رغم هذا الإيذاء والتعنت ضده وضد دعوته رؤوفًا بهم رحيمًا، حتى إن جبريل عليه السلام لما جاءه ومعه ملك الجبال، وعرض على النبي ﷺ أن يُطبق عليهم الجبلين، قال له النبي ﷺ: «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئًا».
فهل عرفت البشرية مثل هذه الرحمة من مخلوق قط؟ كلا والله ما عرفت ولن تعرف، بأبي هو وأمي ونفسي ﷺ.
هذا بعض ما لاقاه النبي ﷺ، أما عن أصحابه رضوان الله عليهم:
فهذا بلال بن رباح ﭬ عذَّبه المشركون عذابًا لا يتحمله بشر، حتى إن المشركين ألبسوه أدرع الحديد وصهروه في الشمس هو ومن معه من السابقين، وأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به شعاب مكة، وهو يقول أحد أحد.
وظل المشركون يعذبون بلالًا حتى إنْ كان أمية بن خلف - عليه لعائن الله - يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد.
وكان ممن عُذِّب في الله أيضًا عمارٌ وأبواه ياسر وسمية رضي الله عنهم.
فكان المشركون يُلبسونهم أدرعَ الحديد ويصهرونهم في الشمس حتى قُتِلَ ياسر.
وأما سمية فإن أبا جهل طعنها أسفل بطنها فماتت فكانت أول شهيدة في الإسلام.
وكان النبي ﷺ يَمُرُّ بهم وهم يُعَذَّبون ويقول: «أبشروا آل عمار وآل ياسر فإن موعدكم الجنة».
وكان النبي ﷺ يطمئن أصحابه ويُثَبِّتهم؛ ومِن ذلك أنَّ خَبَّابَ بن الأرتِّ ذهب إلى النبي ﷺ يشكو له شدة ما يلقونه من المشركين، فجاءه والنبي ﷺ جالس في ظل الكعبة، فقال له خباب ومعه جماعة من الصحابة: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال ﷺ: «قد كان مَنْ قبلكم يُؤخذ الرَّجلُ فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، ثم يُؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمَشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه، والله ليُتِمَّنَّ الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
محمد طه شعبان
2016-07-11, 11:57 PM
الدرس الثالث عشر
الهجرة إلى الحبشة
لما ضاقت مكة بالمسلمين، واشتدَّ المشركون في إيذاء أصحاب رسول الله ﷺ وتعذيبهم، قال رسول الله ﷺ لأصحابه: «إن بأرض الحبشة مَلِكًا لا يُظْلَمُ أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل اللهُ لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه»، وكان ذلك في السنة الخامسة، فخرج من الصحابة أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وخمسةُ نسوة؛ وهم:
وكان أول من خرج عثمان بن عفان، ومعه امرأته رقية بنت رسول ﷺ، وحاطبُ بن عمرو، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل، ثم تَبِعَهُمْ مصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وأبو سلمة بن عبد الأسد، ومعه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، ومعه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمَةَ، وأبو سَبْرَةَ بن أبي رُهْمٍ العامري، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وسهيل بن بيضاء.
فمشى هؤلاء الصحابة الكرام حتى أتوا البحر، ثم استأجروا سفينة بنصف دينار، حتى أتوا أرضَ الحبشة، فمكثوا هناك فترة آمنين على دينهم.
ثم حدث بعد ذلك أن النبي ﷺ قرأ سورة النجم بمكة، فلما وصل إلى آية السجدة منها سجد وسجد معه المسلمون والمشركون وحتى الجن سجدوا، وما بقي أحد من القوم إلا سجد.
فوصل هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة ولكن بصورة أخرى، حيث وصلهم أن مشركي مكة قد أسلموا، فرجع مهاجروا الحبشة إلى مكة مرة أخرى بعد أنْ وصلهم هذا الخبر المغلوط، وهو أنَّ المشركين قد أسلموا، فلما رجع المسلمون إلى مكة علموا أنَّ هذا الخَبَرَ ليس صحيحًا، ووقع المسلمون تحت قبضة المشركين مرة أخرى، وبدأ المشركون في إيذائهم وتعذيبهم مرة أخرى.
فقرر المسلمون أن يهاجروا إلى الحبشة مرة أخرى، وفعلًا قاموا بالهجرة، وكان عدد المهاجرين في هذه المرة نحو ثمانين رَجُلًا؛ ولكن كانت الهجرة هذه المرة أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، ولكنَّ المسلمين كانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر، فاستطاعوا الوصول إلى الحبشة قبل أنْ يُدركهم المشركون.
فلما علمت قريش أنَّ المسلمين قد وصلوا إلى الحبشة في أمان وأَمِنُوا عند النجاشي على دينهم، غاظهم ذلك، وقرروا تأليب النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الحبشة على المسلمين.
فاتفقت قريش على أن يبعثوا إلى النجاشي رجلين، فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وأعطاهما هدايا كثيرة، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل قسيس هَدية قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قَدِّمُوا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أنْ يُسْلِمَ إليكم أصحاب محمد قبل أن يكلم أحدًا منهم.
فأعطى عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة الهدايا للقساوسة، ثم قالا لهم: إنه قد جاء إلى بلد الملِك منا غِلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدِين مبتَدَع لا نعرفه نحن ولا أنتم؛ فإذا كلمنا الملِكَ فيهم فتُشيروا عليه بأن يُسْلِمَهُمْ إلينا ولا يكلمهم، فقال القساوسة: نعم.
فدخلوا جميعًا على النجاشي، وقدَّموا له الهدايا، فقبلها منهم، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد جاء إلى بلدك منا غِلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتَدَع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بَعَثَنَا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعماهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلم بهم.
فقالت القساوسة مِنْ حوله: صدقوا أيها المَلِك، قومهم أعلم بهم، فَأَسْلِمْهُمْ إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.
فغضب النجاشي، ثم قال: لا والله؛ لا أُسْلِمُهُمْ إليهما، قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقول هذان في أمرهم؟ فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله ﷺ فدعاهم، فقال الصحابة بعضهم لبعض: ما تقولون للنجاشي إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما عَلِمْنَا وما أَمَرَنَا به نبينا ﷺ كائن في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه، وقد دعا النجاشي قساوسته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟
فكلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل المَيْتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا مِنَّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأَمَرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأَمَرَنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمَنَّا، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحَرَّمْنَا ما حَرَّم علينا، وأحللنا ما أَحَلَّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشَقُّوا علينا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أنْ لا نُظْلَم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به رسولكم عن الله من شيء؟
فقال له جعفر: نعم.
فقال له النجاشي: فاقرأه عَلَيَّ.
فقرأ عليه أَوَّلَ سورة مريم، فبكى النجاشي حتى بَلَّ لحيته، وبكت قساوسته حين سمعوا القرآن.
ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا.
فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لَأُنَبِّئَنَّه ُمْ غدًا عيبهم عندهم، والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عَبْدٌ.
فدخل عمرو بن العاص على النجاشي، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فاسألهم عما يقولون فيه؟
فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عنه، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبيا، كائنا في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء.
فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عُودًا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلتَ هذا العود، اذهبوا فأنتم آمنون في أرضي, رُدُّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرِّشوة حين رَدَّ عليَّ مُلكي فآخذ الرِّشوة فيه, وما أطاع الناس فِيَّ فأطيعهم فيه.
محمد طه شعبان
2016-07-11, 11:59 PM
الدرس الرابع عشر
إسلام عمر وحمزة رضي الله عنه
وبعد بعثة النبي ﷺ بست سنين أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فَعَزَّ الإسلامُ بإسلامهما.
وقد كان إسلامهما رضي الله عنهما، نصرًا وفتحًا كبيرًا للإسلام والمسلمين.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
ويقول ابن مسعود أيضًا: ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.
وقال أيضًا: إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة.
سبب إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
جعل أبو جهل لمن يقتل محمدًا ﷺ مِئَةَ ناقة، قال عمر: فقلت له: يا أبا الحكم آلضمان صحيح؟ قال: نعم. قال: فتقلدت سيفي أريده، فمررت على عِجْلٍ وهم يريدون أن يذبحوه، فقمت أنظر إليهم، فإذا صائح يصيح من جوف العجل: يا آل ذريح [قوم بمكة]، أمر نجيح [أي: صواب]، رجل يصيح بلسان فصيح يقول: لا إله إلا الله.
قال عمر: فقلت في نفسي إن هذا الأمر ما يراد به إلا أنا، فكان هذا الموقف هو سبب إسلام عمر رضي الله عنه.
فلما أسلم عمر رضي الله عنه كان هذا عِزًّا للإسلام، استجابة لدعوة الحبيب المصطفى ﷺ: «اللهم أَعِزَّ الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب»، قال ابن عمر: وكان أحبَّهُمَا إليه عُمَرُ.
سبب إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه:
مر أبو جهل برسول الله ﷺ عند جبل الصفا فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله ﷺ، وذهب أبو جهل إلى رجال عند الكعبة فجلس معهم، ثم قدم حمزة رضي الله عنه ممسكًا بقوصه الذي يصيد به، فقالت له جارية: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد مِنْ أبي الحكم بن هشام؛ وَجَدَهُ ههنا جالسًا فآذاه وسَبَّه، ولم يكلمه محمد ﷺ فغضب حمزة، وخرج مسرعًا يبحث عن أبي جهل، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسًا في القوم فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة، ثم قال له: أتشتمه وأنا على دينه أقول كما يقول؟ فَرُدَّ ذلك عليَّ إن استطعت، فقامت رجال من بني مخزوم قوم أبي جهل ليعتدوا على حمزة، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سَبَبْتُ ابن أخيه سبًّا قبيحًا.
وتم حمزة رضي الله عنه على إسلامه.
محمد طه شعبان
2016-07-21, 12:48 AM
الدرس الخامس عشر
قريش تتحالف على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب
فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله ﷺ قد استقروا بالحبشة بلا خوف، وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله ﷺ وأصحابه، اجتمعوا واتفقوا أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب، على أن لا يَنكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا, ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علَّقوا الصحيفةَ في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، ويقال: النضر بن الحارث، فدعا عليه رسول الله ﷺ فَشُلَّ بَعْضُ أصابعه، وكان ذلك في السنة السابعة من البعثة
فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب فدخلوا معه في شِعْبِهِ واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم.
فأقاموا على ذلك ثلاث سنين حتى تَعِبوا ولم يكن يأتيهم شيء من الأقوات إلا خُفية، وكانت قريش تُؤذي من اطلعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربه شيئًا من الطعام.
فسخَّر الله تعالى نفرًا من قريش فنقضوا الصحيفة؛ حيث مشى هشام بن عمرو بن الحارث، إلى زهير بن أبي أمية فكلمه في ذلك فوافقه، ومشيا جميعًا إلى المطعم بن عدي وإلى زَمْعَةَ بن الأسود فاجتمعوا على ذلك، فلما جلسوا بالحِجْر تكلموا في ذلك وأنكروه، فقال أبو جهل: هذا أمر قُضِي بليل.
وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة، فوجدوا حشرة قد أكلت جميع ما فيها إلا اسم الله، فمزقوا الصحيفة وأبطلوا حكمها.
محمد طه شعبان
2016-07-21, 11:30 AM
الدرس السادس عشر
خروج النبي ﷺ من مكة إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام
لما مات أبو طالب وخديجة رضي الله عنها واشتد إيذاء قريش للنبي ﷺ؛ قرر النبي ﷺ الخروج إلى مكان آخر غير مكة يلقي فيه دعوته، لعله يجد من ينصره ويُؤويه حتى يبلغ رسالة ربه؛ فخرج النبي ﷺ إلى الطائف يلتمس النصرة من قبيلة ثقيف التي كانت تسكن الطائف، وتبعد الطائف عن مكة حوالي 110 كيلو مترًا؛ فلما ذهب النبي ﷺ إلى الطائف لم يجد ما كان يتمناه، بل رفضوا دعوته ﷺ وآذوه أذى شديدًا.
عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي ﷺ فقالت له: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يَالِيل بن عبد كُلَال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فَلَم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما رَدُّوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني مَلَكُ الجبال فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثم قال: يا محمد إن شئت أن أُطْبِقَ عليهم الجبلين، فقال النبي ﷺ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا».
ثم لما كان النبي ﷺ في طريق الرجوع إلى مكة، ونزل بوادي نخلة القريب من مكة يصلي ويقرأ القرآن، نزل عليه مجموعة من الجن، فلما سمعوه أنصتوا، وكانوا تسعة: أحدهم اسمه زوبعة، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (32)﴾ [الأحقاف: 29 - 32].
فكان نزول الجن على النبي ﷺ وإيمانهم به تسليةً من الله تعالى للنبي ﷺ بعد الأذى الذي لاقاه في الطائف.
محمد طه شعبان
2016-07-24, 12:41 AM
الدرس السابع عشر
عَرْضُ النبي ﷺ الإسلام على القبائل في موسم الحج
كان النبي ﷺ يستغل مواسم الحج وإقبال الناس وتوافدهم إلى بيت الله الحرام للدعوة إلى دينه ورسالته لَعَلَّ أحدًا أن يستجيب له فيؤويه وينصره بعد ما كذبه قومه.
فلما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإعزاز نَبِيِّهِ ﷺ خرج رسول الله ﷺ يَعْرِضُ نفسه على القبائل كعادته فالتقى بمجموعة من قبيلة الخزرج أراد الله بهم خيرًا.
فقال لهم النبي ﷺ: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
وكانت اليهود تسكن المدينة مع الخزرج، فكانوا إذا كان بينهم شجار قالت اليهود لهم: إن نبيًّا مبعوث الآن قد اقترب زمانه، نَتَّبِعُهُ فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كَلَّمَ رسول الله ﷺ أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلموا والله إنه لَلنَّبيُّ الذي تهددكم به يهود، فلا يسبقوكم إليه.
فآمن به هؤلاء الرجال، وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله تعالى بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإنْ يجمعهم الله على هذا الدين فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله ﷺ راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا، وهم ستة نفر جميعهم من الخزرج:
1 - أسعد بن زرارة.
2 - عوف بن الحارث.
3 - رافع بن مالك بن العجلان.
4 - قطبة بن عامر بن حديدة.
5 - عقبة بن عامر بن نابي.
6 - جابر بن عبد الله بن رئاب.
محمد طه شعبان
2016-07-24, 12:42 AM
الدرس الثامن عشر
رحلة الإسراء والمعراج
ثم كافأ الله عز وجل رسولَه ﷺ وسَرَّى عنه برحلة الإسراء والمعراج؛ فأراه من آياته الكبرى ما جعل قلبه ﷺ يطمئن ويثبت، وينكشف عنه ما به من هَمٍّ وحزن وأسى بعد وفاة عمه وزوجته ڤ وما لاقاه من إعراض قومه عن دعوته.
فبينما كان النبي ﷺ مضطجعًا عند الكعبة في الحِجْر بين النائم واليقظان إذ أتاه ملَك فشق من رقبته إلى بطنه ﷺ، فاستخرج قلبه ﷺ ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بإناء من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدره ﷺ، ثم أغلقه، ثم جِيء النبيُّ ﷺ بدابة أبيض يقال له: البراق، أكبر من الحمار وأصغر من البغل تقع خطوته عند نهاية بصره، فاستصعب عليه ركوبه، فقال له جبريل: أبمحمد تفعل هذا؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه، فركب النبي ﷺ حتى أتى بيت المقدس، فربط النبي ﷺ الدابة بالحلقة التي يربط به الأنبياء، ثم دخل المسجد، فصلى بالنبيين والمرسلين إمامًا، ثم خرج، فجاءه جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاختار النبي ﷺ اللبن، فقال جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة [أي: الإسلام].
يقول النبي ﷺ: ثم أخذ جبريل بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء الدنيا، قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: من هذا؟ قال: جبريل، قال: هل معك أحد؟ قال: نعم معي محمد ﷺ، فقال: أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أَسْوِدَة [أي: جَمْعٌ مِنَ الناس] وعلى يساره أسودة، إذا نظر هذا الرجل ناحية يمينه ضحك، وإذا نظر ناحية يساره بكى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح، والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى، ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خَلُصْتُ إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فَسَلِّمْ عليهما، فسلمت فردَّا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف قال: هذا يوسف فَسَلِّم عليه، فسلمت عليه، فَرَدَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إلى إدريس قال: هذا إدريس فَسَلِّمْ عليه، فسلمت عليه، فَرَدَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا هارون قال: هذا هارون فَسَلِّم عليه، فسلمت عليه، فَرَدَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فَسَلِّم عليه، فسلمت عليه، فَرَدَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بُعِثَ بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك، فَسَلِّم عليه، قال: فسلمت عليه فَرَدَّ السلام، قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم رُفِعْتُ إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قِلَالِ هَجَرَ وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفُرات، ثم رُفِعَ لي البيتُ المعمور، ثم أُتِيتُ بإناء من خمر وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك، ثم فُرِضَتْ عَلَيَّ الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت، فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله فرجعت، فَأُمْرْتُ بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال: مثله فرجعت، فَأُمِرْتُ بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بِمَ أمرتَ، قلت: أُمِرْتُ بخمس صلوات كل يوم، قال: إنَّ أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال ﷺ: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وَأُسَلِّمْ، قال: فلما جاوزتُ نادى مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي.
محمد طه شعبان
2016-07-25, 11:09 AM
الدرس التاسع عشر
بيعة العقبة الأولى والثانية
فلما كان موسم الحج من العام الثاني عشر من البعثة -أي بعد عام فقط من التقاء النبي ﷺ بالأنصاريين الستة أقبل على رسول الله ﷺ وفد من الأنصار قِوَامُهُ اثنا عشر رجلًا، عشرة من الخزرج وهم:
1 - أسعد بن زُرَارَةَ.
2 - عوف بن الحارث.
3 - رافع بن مالك بن العجلان.
4 - قطبة بن عامر بن حديدة.
5 - عقبة بن عامر بن نابي.
6 - معاذ بن الحارث بن عفراء.
7 - ذكوان بن عبد قيس.
8 - عبادة بن الصامت.
9 - يزيد بن ثعلبة.
10 - العباس بن عبادة بن نَضْلَةَ بن مالك بن العجلان.
واثنان من الأوس وهم:
11 - أبو الهيثم بن التَيِّهَان.
12 - عُوَيْمُ بن ساعدة.
فَلَمْ يتخلف من الستة الأول إلا جابر بن عبد الله بن رئاب فقط.
فبايع هذا الوفد رسول الله ﷺ بيعة العقبة الأولى؛ حيث بايعوه على أن لا يشركوا بالله شيئًا، ولا يزنون، ولا يسرقون، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يعصون الله.
فانطلق القوم بعد ذلك عائدين إلى المدينة المنورة، فأرسل معهم النبي ﷺ مصعب بن عمير ﭬ وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، فكان مصعب يُسمى في المدينة بالمقرئ.
ثم كانت بيعة العقبة الثانية في الموسم التالي مباشرة في السنه الثالثه عشرة من البعثة.
لما عاد أصحاب البيعة الأولى إلى المدينة المنورة، ونشروا الإسلام بين الناس، حتى لم يبق بيت إلى ودخله الإسلام، اجتمع المسلمون وقالوا: حتى متى نترك رسول الله ﷺ للمشركين يؤذونه؟ فرحل إلى النبي ﷺ سبعون رجلًا من المدينة، حتى التقوا بالنبي ﷺ، فقالوا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة»، فبايعوه على ذلك.
محمد طه شعبان
2016-07-25, 11:10 AM
الدرس العشرون
الهجرة إلى المدينة المنورة
رأى النبي ﷺ دار الهجرة في رؤية منامية؛ حيث رأى ﷺ أنه هاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فإذا هي المدينة؛ فكان ذلك وحيًا من الله تعالى وإيذانًا له ﷺ بأن يأمر أصحابه بالهجرة لبدء مرحلة جديدة من الجهاد والدعوة في سبيل الله.
فذكر النبي ﷺ الرؤية لأصحابه، فبدأ الصحابة رضوان الله عليهم في الاستعداد والخروج إلى المدينة المنورة.
فكان أول من خرج مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وبلال، وسعد، وعمار بن ياسر، وأبو سلمة، ثم خرج عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي ﷺ.
وتأخر النبي ﷺ وحبس معه أبا بكر وعليًّا ليؤدي الودائع التي كانت عنده للناس، حيث كان المشركون يضعون ودائعهم عند النبي ﷺ؛ لِمَا يعلمون من صدقه وأمانته ﷺ.
ثم عزم النبي ﷺ على الهجرة فجاء إلى أبي بكر الصديق، وكان أبو بكر ﭬ جالسًا في بيته وقت الظهيرة، فاستأذن رسول الله ﷺ، فأَذِن له أبوبكر ﭬ، فدخل فقال النبي ﷺ لأبي بكر: أَخْرِجْ مَنْ عندك، فقال أبو بكر: إنما هُمْ أهلك يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: فإني قد أُذِنَ لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحابة يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ: نعم، فقال أبو بكر ﭬ: فخذ يا رسول الله إحدى راحلتيَّ هاتين، قال رسول الله ﷺ: بالثَّمن.
فجهزت عائشة وأسماء ﭭ الراحلتين، وجهَّزا طعامًا، ثم لَحِقَ رسول الله ﷺ وأبو بكر بغار في جبل ثور، فاختفيا فيه ثلاث ليال، وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، ثم يخرج من عندهما في السحر، فيأتيهما بخبر مكة، وكان عامر بن فُهَيْرَةَ مولى أبي بكر يسرح بالغنم فيأتيهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيشربان من لبن الغنم، ثم يرحل عنهما قبل الفجر، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
وفي تلك الأثناء تفطن المشركون أن رسول الله ﷺ وأبا بكر قد خرجا، فأخذوا يبحثون عنهما في كل مكان حتى وصلوا إلى الغار وهما فيه، ثم قربوا منه بشدة، حتى إن أبا بكر ﭬ سمع صوت أقدامهم حول الغار، فرفع رأسه فإذا هو بأقدام القوم، فقال: يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، فقال له ﷺ: اسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما.
ثم استأجر رسول الله ﷺ وأبو بكر رجلًا عالمًا بالطريق إلى المدينة، وكان هذا الرجل على دين كفار قريش، ولكنهما أَمِنَاه.
ثم خرجوا في وقت الظهيرة، والطريق خالٍ لا يمر فيه أحد.
فمشوا تلك الليلة كلها حتى أصبحوا، يقول أبو بكر ﭬ: فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بَعْدُ فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانًا ينام فيه النبي ﷺ في ظلها، ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله فإذا أنا براعي غنم مقبل بغنمه إلى الصخرة، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة، قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم، قلت: أفتحلب لي؟ قال: نعم، فأخذ شاة، فقلت له: انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى، فحلب لي، قال أبو بكر: فأتيت النبي وكرهت أن أوقظه من نومه، فوافقته قد استيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت: يا رسول الله اشرب من هذا اللبن، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن للرحيل؟، قلت: بلي، قال: فارتحلنا بعدما زالت الشمس واتبعنا سراقة بن مالك، فقلت: يا رسول الله أُتِينَا فقال ﷺ: لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه رسول الله ﷺ فساخت فرسه في الأرض إلى بطنها، فقال سراقة: إني قد علمت أنكما قد دعوتما عليَّ فَادْعوَا لي، فاللهُ لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا النبيُّ ﷺ اللهَ فخرجت فرس سراقة.
فلما نجا سراقة قص على رسول الله ﷺ أخبار قريش وأنهم جعلوا فيه الدية لمن يأتي به ﷺ، ثم عرض سراقة على النبي ﷺ الزاد والمتاع، فلم يأخذ النبي ﷺ منه شيئًا، إلا أن قال له ﷺ: أَخْفِ عنا.
ووفى سراقة بما وعد به رسول الله ﷺ فكان لا يلقى أحدًا إلا رده.
وَمَرَّ النبي ﷺ وأبو بكر ﭬ على أم معبد، وكانت عندها شاة ضعيفة لا تحلب من قلة الأكل، فنظر رسول الله ﷺ إلى الشاة، وقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة لم تخرج مع الغنم لضعفها، قال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: إنْ رأيت بها لبنًا فاحْلُبها، فدعا بها رسول الله ﷺ فمسح بيده ضرعها وسمى الله تعالى ودعا لها في شاتها فدرَّت، فحلب رسول الله ﷺ في إناء، ثم سقاها حتى رَوِيَت، وسقى الرجل الذي كان معهما ليدلهما على الطريق وعامر بن فُهيرة حتى رَوَوا، ثم حلب فيه الثانية حتى ملأ الإناء، ثم ارتحلوا عنها، فجاءها زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا ضعيفة من قلة الطعام، فلما رأى أبو معبد اللبن أعجبه، فقال: من أين لك هذا يا أم معبد ولا حلوب في البيت؟ قالت: مَرَّ بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد، فوصفت أم معبد النبي ﷺ، فقال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي ذُكِرَ لنا من أمره ما ذُكِرَ، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا.
وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله ﷺ من مكة فكانوا يخرجون كل يوم ينتظرونه، ثم يعودون إلى بيوتهم إذا اشتد عليهم حَرُّ الظهيرة، وفي يوم وبعدما عادوا إلى منازلهم قدِمَ رسول الله ﷺ، فرآه رجل من اليهود، فنادى اليهودي بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جَدُّكُمُ الذي تنتظرون، فخرج المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله ﷺ.
فلبث رسول الله ﷺ في قباء في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة، وأسس مسجد قباء.
ثم أراد النبي ﷺ دخول المدينة المنورة، فارتحل، فلما قدم المدينة تنازعوا أيهم يَنْزِل عليه رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك، فصعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: يا محمد يا رسول الله, يا محمد يا رسول الله، فقال النبي ﷺ: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله هذه داري وهذا بابي، فقال ﷺ: فانطلق فهيئ لنا مقيلًا.
فنزل النبي ﷺ في دار الصحابي الجليل خالد بن زيد أبي أيوب الأنصاري.
فأقام النبي ﷺ في السُّفْل وأبو أيوب في العُلْو، فانتبه أبو أيوب ليلة فقال: نمشي فوق رأس رسول الله ﷺ، فتنحوا فباتوا في جانب، ثم قال للنبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: السفل أرفق، فقال أبو أيوب: لا أعلو سقيفة أنت تحتها، فتحول النبي ﷺ في العلو، وأبو أيوب في السفل، فكان يصنع للنبي ﷺ طعامًا، فكان أبو أيوب يأتي بعدما يأكل النبي ﷺ فيسأل عن موضع أصابع النبي ﷺ فيتتبع أبو أيوب موضع أصابعه، وفي يوم صنع له طعامًا فيه ثُوم، فسأل أبو أيوب عن موضع أصابع النبي ﷺ فقيل له: لم يأكل، ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو؟ فقال النبي ﷺ: لا ولكني أكرهه، قال أبو أيوب: فإني أكره ما تكره.
وحينما دخل النبي ﷺ المدينة وكان راكبًا راحلته سار بها حتى بركت عند مسجد الرسول ﷺ بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكانت هذه الأرض ملكًا لغلامين يتيمين اسمهما سهل وسهيل، فقال رسول الله ﷺ حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل، ثم دعا رسول الله ﷺ الغلامين لشراء الأرض منهما وبناء المسجد عليها، فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدًا، وكان رسول الله ﷺ يَنْقِلُ معهم اللَّبِنَ لبناء المسجد، ويقول وهو يَنْقِلُ اللَّبِنَ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ
فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَه ْ
محمد طه شعبان
2016-07-25, 11:12 AM
الدرس الحادي والعشرون
النبي ﷺ يعقد معاهدة مع اليهود بالمدينة
ثم بعدما استقر النبي ﷺ بالمدينة قام بعقد معاهدة مع اليهود؛ وكانوا ثلاث قبائل يسكنون المدينة: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة.
وكانت أهم بنود هذه المعاهدة:
أولًا: أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه المعاهدة.
ثانيًا: أن اليهود ينفقون مع المسلمين في الحرب.
ثالثًا: لا يخرج أحد من اليهود من المدينة للقتال إلا بإذن النبي ﷺ.
وقد منع هذا البند اليهود من الخروج من المدينة إلا بعد استئذان النبي ﷺ، وهذا القيد على تحركاتهم ربما يستهدف بالدرجة الأولى منعهم من القيام بنشاط عسكري كالمشاركة في حروب القبائل خارج المدينة مما يؤثر على أمن المدينة واقتصادها.
رابعًا: إذا حدث خلاف بين أهل هذه المعاهدة فإنَّ مردَّه إلى الله ورسوله ﷺ.
اعترف اليهود بموجب هذا البند بوجود سلطة قضائية عُليا يَرْجِع إليها سائرُ سكان المدينة بما فيهم اليهود، لكنَّ اليهود لم يُلزموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي دائمًا بل فقط عندما يكون الشجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية فهم يحتكمون إلى التوراة ويقضي بينهم أحبارهم، ولكن إذا شاءوا فبوسعهم الاحتكام إلى النبي ﷺ، وقد خَيَّرَ القرآنُ الكريمُ النبيَّ ﷺ بين قبول الحكم فيهم أو ردهم إلى أحبارهم، قال تعالى: ﴿فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين ﴾ [المائدة: 42].
خامسًا: أنه لا يحل لأهل هذه المعاهدة حماية قريش ولا حماية من نصرهم.
قد منع هذا البند اليهود من حماية قريش أو نصرها، وكان النبي ﷺ يستهدف التعرض لتجارة قريش التي تمر غربي المدينة في طريقها إلى الشام، فلابد من أخذ هذا التعهد لئلا تؤدي حماية اليهود لتجارة قريش إلى وقوع الخلاف بين اليهود وبين المسلمين.
سادسًا: أن بينهم النصر على من أراد غزو المدينة.
سابعًا: أن هذه المعاهدة لا تحمي ظالمًا أو آثمًا.
محمد طه شعبان
2016-07-25, 11:46 PM
الدرس الثاني والعشرون
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
وفي السنة الأولى من الهجرة آخى رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك رضي الله عنه، وكانوا تسعين رجلًا، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار؛ حيث أراد النبي ﷺ توطيد العلاقة بين المهاجرين وإخوانهم من الأنصار، فحدث ما أراده النبي ﷺ وقويت العلاقة بين المهاجرين والأنصار حتى صاروا كالجسد الواحد، وصار كل واحد يفضل أخاه على نفسه، حتى قالت الأنصار للنبي ﷺ: اقسم بيننا وبين إخواننا من المهاجرين ما نملكه من نخيل، فقال النبي ﷺ: لا، فقالت الأنصار: إذًا يقوم إخواننا من المهاجرين برعاية الأرض على أن يشاركونا في الثمار، فوافق النبي ﷺ.
وآخى رسول الله ﷺ بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع ﭭ، فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالًا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال له عبد الرحمن ﭬ: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فذهب عبد الرحمن إلى السوق، وعمِل، ثم عاد ومعه الخير الكثير، واستمر عبد الرحمن بن عوف في العمل حتى صار من أغنياء المدينة.
وقد وصف الله تعالى تلك المحبة وذلك الإيثار في كتابه العزيز، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ﴾ [الحشر: 9].
محمد طه شعبان
2016-07-27, 02:05 PM
الدرس الثالث والعشرون
غزوة بدر الكبرى
وفي رمضان من السنة الثانية من هجرة النبي ﷺ سمع رسول الله ﷺ بأن أبا سفيان بن حرب مقبلًا بقافلة عظيمة من الشام، فيها أموال لقريش، وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلًا من قريش أو أربعون.
فحثَّ رسول الله ﷺ أصحابه على الخروج إليها لاسترداد بعض أموالهم التي استولت عليها قريش، فخرج بعض الصحابة ولم يخرج الآخرون؛ ظنًّا منهم أنَّ النبي ﷺ لن يلقى حربًا؛ وذلك أن عدد الرجال في قافلة المشركين قليل.
وكان أبو سفيان بن حرب هو رئيس قافلة المشركين، وكان يتحسس الأخبار، ويسأل كلَّ مَن قابله من الركبان خوفًا من المسلمين، حتى عَلِمَ أبو سفيان أنَّ النبي ﷺ قد خرج هو وأصحابه لملاقاته.
فاستأجر أبو سفيان رجلًا اسمه ضَمْضَم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشًا فيخبرهم الخبر حتى يغيثوه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة، حتى وصل هناك، فصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره، وهو يقول: يا معشر قريش أموالكم مع أبي سفيان قد عَرَضَ لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث.
فتجهزت قريش للخروج بجيش تعداده نحو ألف مقاتل بما معهم من جِمَال وخيول، للدفاع عن أموالها.
وفي المقابل خرج النبي ﷺ في جيش تعداده حوالي ثلاث مئة وتسع عشر مقاتل، ليس معهم إلا فرس واحد للمقداد بن عمرو، وسبعون بعيرًا يتبادل كلُّ ثلاثة الركوب على بعير؛ فكان النبي ﷺ وعَليٌّ وأبو لُبابة يتبادلون بعيرًا، فقال عليٌّ وأبو لُبابة للنبي ﷺ: نحن نمشي عنك يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: «ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما».
فسار جيش المسلمين، والنبي ﷺ لا يعلم بأنَّ الخبر قد وصل قريشًا وأنهم تجهزوا بجيش كبير لمحاربة المسلمين.
وأما أبو سفيان فقد تمكن بأنْ يَفِرَّ بقافلته، فأخذ بها طريق الساحل -وهو غير طريقهم المعتاد- وأُخْبِرَ النبي ﷺ بفرار القافلة، وبأنًّ قريشًا خرجت بجيش كبير لمحاربة المسلمين.
فحينها استشار النبي ﷺ أصحابه في الأمر فبعضهم كره القتال، وكانوا يرون أن القتال لا فائدة منه؛ لأن القافلة نجت فلا غنيمة تفيد المسلمين، ولأن المسلمين غير مستعدين للحرب كما استعدت قريش.
فنظر النبي ﷺ إلى الأنصار وقال: «أشيروا عليَّ أيها الناس» وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم أكثر الجيش، فقال سعد بن معاذ ﭬ: والله لكأنك تريدنا يا رسول، قال: «أجل» قال سعد ﭬ: فقد آمَنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تَقَرَّ به عَيْنُكَ، فَسِرْ بنا على بركة الله، فَسُرَّ رسول الله ﷺ بقول سعد، ثم قال: «سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم».
وكان لواء المسلمين في هذه المعركة مع مصعب بن عمير ﭬ وكان أبيض وكان أمام رسول الله ﷺ رايتان سوداوان إحداهما مع عليِّ بن أبي طالب يقال لها: العِقاب، والأخرى مع بعض الأنصار.
فسار النبي ﷺ مستعينًا بالله تعالى على هؤلاء المجرمين الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورءاء الناس ليصدوا عن سبيل الله.
وعلى الجانب الآخر فإن كفار قريش كادوا أن يرجعوا بلا قتال حيث تذكروا الذي كان بينهم وبين بني بكر من خصومة وخافوا أن يأتوهم من خلفهم فيعينون عليهم جيش المسلمين، وبينما هم على ذلك إذ جاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا.
ثم وصل الفريقان إلى بدر التي تبعد عن المدينة بنحو (160) كيلو مترًا، وكان جيش المسلمين أسبق إلى هناك فلما أمسى القوم بعث النبي ﷺ عليَّ بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون خبر قريش، فوجدوا غلامين لقريش أتوا ليأخذوا ماء لجيش المشركين، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله ﷺ قائم يصلي، فقالا: نحن سُقَاةُ قريش، بعثونا نَسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما، فقالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما، وركع رسول الله ﷺ وسجد سجدتيه ثم سلم، وقال: «إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش أخبراني عن قريش»، قالا: هم والله وراء هذا الجبل الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما رسول الله ﷺ: «كم القوم؟» قالا: كثير، قال: «ما عددهم؟» قالا: لا ندري، قال: «كم ينحرون كل يوم؟» قالا: يومًا تسعًا، ويوما عشرًا، فقال رسول الله ﷺ: «القوم فيما بين التسع مئة والألف»، ثم قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟» قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البُختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه، ومُنَبِّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود، فأقبل رسول الله ﷺ على الناس فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها»، ثم قال النبي ﷺ: «هذا مصرع فلان»، ويضع يده على الأرض ها هنا وها هنا، فما ابتعد أحدهم عن موضع يد رسول الله ﷺ، فبات المسلمون تلك الليلة بالعدوة الدنيا -أي القريبة من المدينة، وبات المشركون بالعدوة القصوى- أي البعيدة عن المدينة من ناحية مكة.
ثم أنزل الله تعالى على المؤمنين النعاس أمانًا لهم، وراحة من عناء السفر، حتى إذا ما بدأت المعركة كانوا في ذِروة النشاط والاستعداد.
أما النبي ﷺ فَلَمْ ينم تلك الليلة ليلة السابع عشر من رمضان، بل ظل في عريشه الذي بناه له الصحابة يدعو ربه، ويستغيث به، ويستنصره، ويقول: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم» فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك، فخرج النبي ﷺ وهو يقول: ﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾ [القمر: 45، 46].
وأنزل الله تعالى الأمطار على المسلمين في الليل؛ لتتصلَّب الأرضُ وتثبت أقدامُهم في القتال.
فلما أن طلع الفجرُ نادى المنادي: الصلاة عباد الله، فجاء الناس فصلى بهم رسول الله ﷺ وحَرَّضَ على القتال، ثم قال: «إن جمع قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل»، ثم اقترب جيش المشركين من جيش المسلمين، واصطف الفريقان، ورأى النبي ﷺ رجلًا منهم على جمل له أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله ﷺ: «يا علي ناد لي حمزة»، وكان حمزة أقربهم من المشركين، فقال له النبي ﷺ: «مَنْ صاحب الجمل الأحمر، وماذا يقول لهم»؟ فقال حمزة: هو عتبة بن ربيعة، وهو ينهى عن القتال، ويقول لهم: يا قوم إني أرى قومًا مستميتين، لا تصلون إليهم، يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جَبُنَ عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم، فسمع ذلك أبو جهل، فغضب واتهم عتبة بالجبن والخوف، فقال عتبة: ستعلم اليوم أينا الجبان.
ثم خرج عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد، فقالوا: من يبارز؟ فخرج ستة من الأنصار، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن يبارزنا من بني عمنا من بني عبد المطلب، فقال رسول الله ﷺ: «قم يا عليُّ، وقم يا حمزة، وقم يا عُبيدة بن الحارث بن عبد المطلب» فأقبل حمزة إلى عتبة، فقتله، وأقبل عليٌّ إلى شيبة، فقتله، وأما عُبيدة والوليد فأصاب كل واحد منهما الآخر، فجاء عليٌّ وحمزة إلى الوليد فقتلاه، واحتملا عبيدة، فمات عبيدة ﭬ أثناء رجوعهم من المعركة بمكان اسمه الصفراء، ودفن هنالك.
وكان النبي ﷺ قد منع الجيش من التقدم أو الالتحام مع المشركين إلا أن يكون النبي ﷺ هو المتقدم أولًا، فقال لهم: «لا يتقدمنَّ أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه».
فلما أقبل المشركون واقتربوا من جيش المسلمين أخذ النبي ﷺ ترابًا من الأرض ثم رماه في وجوه المشركين فما وقع منها شيء إلا في عين رجل منهم.
وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾ [الأنفال: 17].
ثم أمرهم النبي ﷺ بالهجوم، فقال لهم: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض»، فقال عُمَيْر بن الحُمَام الأنصاري ﭬ: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟! قال: «نعم»، قال: بخ، بخ.
فقال رسول الله ﷺ: «ما يحملك على قولك بخ، بخ؟»، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، فقال ﷺ: «فإنك من أهلها»، فأخرج عُمَير بن الحُمَام تمرات من جُعْبته فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قُتل.
والتحم الجيشان التحامًا شديدًا، وظهرت بطولات الصحابة ﭫ، يتقدمهم النبي ﷺ فهو أشجع الشجعان، حتى إن عليًّا ﭬ يقول: لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله ﷺ وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا.
ونزلت الملائكة في ميدان المعركة بقيادة الأمين جبريل عليه السلام، فبشَّر النبي ﷺ أصحابه، وقال: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب».
وقُتل في هذه المعركة عدو الله أبو جهل، يقول عبد الرحمن بن عوف ﭬ: بينما أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع [أقوى] منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله ﷺ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق ظلي ظله حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال: مثلها، قال: فنظرت إلى أبي جهل بين الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فابتدراه فضرباه بسيفيهما، حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله ﷺ فأخبراه، فقال: «أيكما قتله؟» فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال ﷺ: «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: «كلاكما قتله»، والغلامان هما معاذ ومعَوِّذ ابنا عفراء.
وقتل الزبير بن العوام ﭬ عبيدة بن سعيد بن العاص، حيث رآه وهو مُغَطَّى بالسلاح لا يُرى منه إلا عيناه، وكان عُبيدة يكنى أبو ذات الكَرِش، فقال: أنا أبو ذات الكَرِش، فحمل عليه الزبيرﭬ بالحربة فطعنه في عينه فمات.
وقُتِل أيضًا عدو الله أمية بن خلف، وهو الذي كان يُعذِّب بلالًا بمكة؛ يقول عبد الرحمن عوف ﭬ: مررت يوم بدر بأمية بن خلف وهو واقف مع ابنه عَلِيٌّ، ومعي أدراع قد استلبتها، فأنا أحملها، فلما رآني أمية قال لي: هل لك فيَّ، فأنا خير لك من هذه الأدرع التي معك؟ قال: قلت: نعم، قال: فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده ويد ابنه وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن - أي من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن- بقول عبد الرحمن: ثم خرجت أمشي بهما، فقال أمية بن خلف: مَنِ الرجل المعلَّم بريشة نعامة في صدره؟ قال عبد الرحمن: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال أمية: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل، قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي - وكان هو الذي يعذِّب بلالًا بمكة على ترك الإسلام-، فيخرجه إلى جبال مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد، فلما رآه بلال قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، فقال له عبد الرحمن: دع أسيري، فقال بلال: لا نجوت إن نجا.
فاجتمع الناس على أمية وابنه فقتلوهما.
وانتهت المعركة بهزيمة المشركين هزيمة نكراء، ونصر كبير للمسلمين، وقُتِل من المشركين سبعون، وأُسر سبعون.
وأمر النبي ﷺ بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فأُلقوا في بئر، فلما كان اليوم الثالث انطلق النبي ﷺ إلى البئر فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم موَبِّخًا لهم: «يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم اللهَ ورسولَه، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟» فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا رُوح لها، فقال رسول الله ﷺ: «والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لِمَا أقول منهم».
وأما الأسرى فقد فداهم النبي ﷺ بمال؛ حيث قال رسول الله ﷺ لأبي بكر وعمر: «ما ترون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله ﷺ: «ما ترى يا ابن الخطاب؟»، فقال عمر: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تُمَكِّنَّا فنضرب أعناقهم، فإنَّ هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر، ولم يَهْوَ ما قال عمر، ففداهم النبي ﷺ بالمال، فنزل القرآن مؤيدًا لرأي عمر ﭬ؛ حيث نزل قوله تعالى: ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ أن الله غفور رحيم﴾ [الأنفال: 67- 69].
محمد طه شعبان
2016-07-30, 12:28 AM
الدرس الرابع والعشرون
غزوة بني قينقاع
كان النبي ﷺ قد عاهد أهل المدينة على السِّلْم -كما تقدم- بعد وصوله إليها، وكانت اليهود ومنهم يهود بني قينقاع من أهل هذه المعاهدة، وكان من شروط هذه المعاهدة ألا يعتدي طرف على الآخر، وألا يغدر طرف بالآخر.
ولكن اليهود كعادتهم منذ وُجِدوا على وجه هذه البسيطة لا عهد لهم ولا ميثاق ولا ذمة، قوم ملئوا الدنيا غدرًا وفسادًا، ووقيعة بين أهل الأرض.
فلما كان هذا هو طبع اليهود ودأبهم الذي لا ينفك عنهم، لم يحفظ يهود بني قينقاع ما عاهدوا عليه النبي ﷺ، فكان جزاؤهم أن أجلاهم النبي ﷺ عن المدينة؛ لأنهم نقضوا العهد مع النبي ﷺ؛ حيث إنَّ النبي ﷺ جمعهم بسوق بني قينقاع - وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة - ثم قال: «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم»، فقالوا: يا محمد، إنك ترى أنَّا مثل قومك، لا يغرنَّك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربنا لتعلمن أنا نحن الناس.
فكانت هذه المقالة بمثابة نقض العهد الذي بينهم وبين النبي ﷺ، فحاصرهم النبي ﷺ في ديارهم حتى نزلوا على حكمة، فقام إليه رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيِّ بن سلول، فقال: يا محمد أحسن في مواليَّ - حيث كان بنو قينقاع حلفاء الخزرج قبيلة ابن سلول - فأبطأ عليه رسول الله ﷺ، فقال: يا محمد أحسن في مواليَّ، فأعرض عنه رسول الله ﷺ، فأدخل يده في قميص رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ: «أرسلني»، وغضب رسول الله ﷺ غضبًا شديدًا، ثم قال: «ويحك! أرسلني»، قال ابن سلول: لا، والله لا أُرسلك حتى تُحسن في مواليَّ، أربع مئة حاسر، وثلاث مئة دارع، قد منعوني الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فقال رسول الله ﷺ: «هم لك»، وأمر بهم أن يُجْلَوا عن المدينة، وتولى أمر إجلائهم عبادة بن الصامت ﭬ، فلحقوا بأَذْرِعات، وتولى قبض أموالهم محمد بن مَسْلَمَة ﭬ.
وذكر بعض أهل السير سببًا آخر للغزوة، فقال: إن امرأة من العرب قدمت ببضاعة لها، فباعتها بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
وقد يكون كلا الموقفين حدث. والله أعلم.
محمد طه شعبان
2016-07-30, 12:29 PM
الدرس الخامس والعشرون
غزوة السَّويق
كان أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة، نذر أن لا يمس رأسَه ماءٌ حتى يغزو محمدًا ﷺ، فخرج في السنة الثالثة من الهجرة في مئتي راكب من قريش؛ لِيَبِرَّ يمينَه، فسار حتى وصل المدينة، وأتى بني النضير تحت الليل، فأتى حُيَيَّ بن أَخْطَبَ، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له بابه وخافه، فانصرف عنه إلى سلَّام بن مِشْكَم، وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك، وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه، فأذن له، فاستضافه وأطعمه وسقاه، وذكر له من خبر المسلمين، ثم خرج أبو سفيان حتى أتى أصحابَهُ، فبعث رجالًا إلى ناحية من المدينة، يقال لها: العريض، فحرقوا بعض النخل بها، ووجدوا بها رجلًا مِنَ الأنصار وحليفًا له في حَرْثٍ لهما، فقتلوهما، ثم انصرفوا راجعين.
وعلم بهم الناس، فخرج رسول الله ﷺ في طلبهم، واستعمل على المدينة بَشِير بن عبد المنذر، وهو أبو لبابة، حتى بلغ مكان اسمه قرقرة الكدر، ثم انصرف رسول الله ﷺ راجعًا، وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وقد رأى المسلمون أزوادًا من أزواد المشركين قد ألقوها يتخففون منها للنجاء، فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله ﷺ: يا رسول الله، أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: «نعم».
وسميت بغزوة السويق لأن أكثر ما ألقى المشركون من أزوادهم السَّويق، فهجم المسلمون على سويق كثير، فسميت غزوة السويق.
والسويق: هو أن يُحَمَّص القمح أو الشعير أو نحو ذلك، ثم يُطْحَن، وقد تمزج باللبن والعسل والسمن ويُلَتُّ، فإن لم يكن شيء من ذلك مُزِجَ بالماء.
محمد طه شعبان
2016-08-02, 07:50 AM
الدرس السادس والعشرون
مقتل كعب بن الأشرف اليهودي بأمر رسول الله ﷺ
كان كعب بن الأشرف اليهودي من الحاقدين على الإِسلام والمسلمين بالمدينة، وهو من قبيلة طَيِّءٍ، وأمُّه من بني النضير، وكان يكتم غيظه وحقده على المسلمين، حتى انتصر المسلمون على المشركين في موقعة بدر، وجاء الخبرُ، فلم يستطع كتم ما بداخله من حقد وغيظ على النبي ﷺ، وعلى الإسلام والمسلمين، حتى إنه قال حين بلغه الخبر: أَحَقٌّ هذا؟ أترون محمدًا قتل هؤلاء، فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمدٌ أصاب هؤلاء القوم لَبَطْنُ الأرض خير من ظهرها.
فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي، فاستضافوه وأكرموه، وجعل يُحَرِّض على الرسول ﷺ، وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أُصيبوا ببدر.
ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة، فأنشد أشعارًا فيها سبٌّ لنساء المسلمين، فقال رسول الله ﷺ: «مَنْ لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟»، فقام محمد بن مسلمة ﭬ فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ فقال رسول الله ﷺ: «نعم»، قال: فَأْذَنْ لي أن أقول شيئًا [أي: شيئًا فيه كذب على كعب]، قال: «قل»، فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة - يقصد النبي ﷺ - وإنه قد أتْعَبَنَا، وإني قد أتيتك أستسلفك، فقال كعب: وأيضًا والله لَتَمَلُّنَّهُ، فقال ابن مسلمة: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وَسْقًا أو وَسْقَيْن، قال كعب: نعم، ارهنوني، قالوا: أي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم، قال: كيف نُرْهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فَيُسَبُّ أحدُهم فَيُقال: رُهِنَ بَوْسق أو وَسْقين؟ هذا عار علينا، ولكنا نرهنك السلاح.
فواعده أن يأتيه بالسلاح فجاءه ليلًا ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، وأبو عيسى بن جبر، والحارث بن أوس وعبَّاد بن بشر.
ومشى معه رسول الله ﷺ إلى البقيع، ثم وجههم، فقال: «انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم»، ثم رجع رسول الله إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة - وكان كعب حديث عهد بعرس - فقام كعب، فقالت امرأته: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائمًا لَمَا أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، فقال: لو يُدعى الفتى لطعنة لأجاب، فنزل كعب فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماش، فنتحدث بقية ليلتنا هذه، قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة وضع يده في رأس كعب، ثم شم يده، فقال: ما رأيت كالليلة طِيبًا أعطر قط، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها حتى اطمأن كعب، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، فأخذ أبو نائلة برأس كعب، ثم قال: اضربوا عدو الله، فضربوه، وقد صاح عدو الله صيحة لم يَبْقَ حولهم حصن إلا وقد أُوقِدَت عليه نار، ووقع عدو الله ميِّتًا.
وقد أصابت بعض السيوف الحارث بن أوس بن معاذ فَجُرح في رأسه أو في رِجْله، وخرج الصحابة متوجهين إلى النبي ﷺ، وقد أبطأ عليهم الحارث بن أوس ونزفه الدم، فانتظروه واحتملوه إلى رسول الله ﷺ آخر الليل، والنبي ﷺ قائم يصلي، فسلموا عليه، فخرج إليهم، فأخبروه بقتل عدو الله، وتفل النبي ﷺ على جُرْح الحارث، فرجع كأن لم يكن شيء، فأصبحوا وقد خافت يهود لما علموا بقتل كعب، فأصبح ليس بالمدينة يهودي إلا وهو يخاف على نفسه.
محمد طه شعبان
2016-08-03, 01:42 PM
الدرس السابع والعشرون
غزوة أحد
لم تهدأ قريش ولم يسكن لها بال منذ انتهاء وقعة بدر، بل ظلت في غيظ شديد وغليان مما حدث، فقد قُتِل زعماؤها وكُسِر كبرياؤها، وضاعت هيبتها أمام العرب، وأصبح زعماؤها مطالَبون بالثأر واسترداد الكرامة، فأخذوا يَعُدُّودن لذلك منذ رجوعهم من بدر.
بل قيل إنهم خصصوا القافلة التي نجت من المسلمين يوم بدر لهذا الأمر.
وبعد مرور ثلاثة عشر شهرًا فقط من وقعة بدر جهزت قريش جيشًا تعداده ثلاثة آلاف مقاتل، معهم مئتا فرس، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، ثم خرجوا لمحاربة المسلمين، في شوال من السنة الثالثة للهجرة.
وقد رأى النبي ﷺ هذا في رؤيا منامية قبل علمه بقدوم المشركين، وقصها على أصحابه ﭫ فقال ﷺ: «رأيت في رؤياي أني هززت سيفًا فانقطع صدره فإذا هو ما أُصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن مما كان، فإذا هو ما جاء به الله من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقَرَا والله خير، فإذا هم المؤمنون يوم أحد»؛ أي: هم المؤمنون الذين قُتِلوا يوم أحد.
ثم أُخْبِرَ النبي ﷺ بقدوم المشركين فجمع أصحابه وأشار عليهم فقال لهم: «لو أنا أقمنا بالمدينة فإنْ دخلوا علينا فيها قاتلناهم»، فقالوا: يا رسول الله والله ما دُخِل علينا فيها في الجاهلية فكيف يُدْخَل علينا فيها في الإسلام؟ فقال النبي ﷺ: «شأنكم إذًا»، وَلَبِسَ ﷺ ملابس الحرب، فقالت الأنصار: رددنا على رسول الله ﷺ رأيه، فجاءوا فقالوا: يا نبي الله شأنك إذًا، فقال ﷺ: «إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته [ملابس الحرب] أن يضعها حتى يقاتل».
فخرج النبي ﷺ بجيش تعداده ألف مقاتل، معهم فرسان فقط.
ولبس النبي ﷺ درعين.
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم للصلاة بالناس.
ثم سار ﷺ بالجيش متوجهًا إلى أحد، حتى إذا كانوا بمكان اسمه الشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أُبِيِّ بن سَلول بثلث الجيش، وقال: علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أُذَكِّرَكُم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال.
وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاك ُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) ﴾ [آل عمران: 166، 167].
وكاد بنو سلمة وبنو حارثة أن يفشلا ويتَّبعا المنافقين لولا أن ثبتهم الله؛ وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) ﴾ [آل عمران: 122].
وتقدم الجيش الإسلامي إلى ميدان أُحُد وأخذ النبي ﷺ ينظم مواقع الجيش ويملي على الجند خطته، فجعل النبي ﷺ وَجْهَ جيشه إلى المدينة وظهره إلى جبل أُحُد؛ لحماية ظهر المسلمين من أن يداهمهم أُحُد من خلفهم، ثم عزز ذلك بخمسين راميًّا بقيادة عبدلله بن جبير ﭬ أَوْقَفَهم على جبل عَيْنَيْن الذي يقع خلف جبل أحد حتى إذا أراد أَحَدٌ في مباغتة المسلمين من الخلف أمطروه بوابل من النبال فمنعوه من ذلك، وشدَّد عليهم النبي ﷺ بلزوم أماكنهم، وعدم مغادرة الجبل تحت أي ظرف من الظروف، فقال لهم النبي ﷺ: «إنْ رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أُرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أُرسل إليكم».
وبذلك سيطر المسلمون على مرتفعات الميدان فأصبحوا في مأمن من أن يباغتهم أحد من الخلف، وأصبحوا لا يُفكرون إلا في جبهة واحدة، بخلاف المشركين الذين عسكروا في وادي أُحُد المكشوف من كل جوانبه، فتميز عنهم المسلمون بالموقع رغم وصول المشركين إلى المكان قبلهم، ولكنها عبقرية النبي ﷺ.
وبدأت المعركة بمبارزة بين حمزة ﭬ وبين رجل من المشركين يقال له: سِبَاع، حيث خرج سباع هذا من بين الصفوف فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة ﭬ فقال: يا سِباع يا ابن أم أنمار، أَتُحَادَّ الله ورسوله؟ ثم شد عليه حمزة ﭬ، ثم حانت ساعة القتال فالتقى الفريقان, والتحم الجيشان، واشتد النزال بني جيش المسلمين المكون من سبعمائة مقاتل بعد انسحاب المنافقين عبد الله بن أُبِيِّ بن سلول ومن معه من المنافقين، وجيش المشركين البالغ عدده ثلاثة آلاف مقاتل فكانت الغلبة أولًا للمسلمين، حيث ألحقوا بالمشركين هزيمة نكراء وردوهم إلى معسكرهم.
فلما انهزم المشركون وفرُّوا من الميدان وتركوا أموالهم وأمتعتهم في ساحة المعركة، ورأى الرماة ذلك تركوا أماكنهم على الجبل ونزلوا وهم يقولون: الغنيمة، الغنيمة، فقال لهم عبد الله بن جبير ﭬ: عَهِدَ إليَّ النبي ﷺ أن لا تبرحوا، فأبوا.
فلما تركوا الجبل ونزلوا انكشف ظهر المسلمين، فرأى المشركون الفرصة سانحة للإلتفات حولهم ومحاصرتهم، ففعلوا ذلك بقيادة خالد بن الوليد، وأحاط المشركون بالمسلمين من الخلف والأمام، فارتبكت صفوف المسلمين ارتباكًا شديدًا وأصبحوا يقاتلون دون تخطيط، واستغل إبليس عليه لعنة الله الفرصة فصرخ في المسلمين: أي عباد الله انتبهوا إلى أُخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت مع أُخراهم، وأخذ المسلمون يضرب بعضهم بعضًا، حتى إن حذيفة بن اليمان ﭬ رأى أباه اليمان ﭬ يضربه المسلمون، فقال: أي عباد الله أبي، أبي، فما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم.
وفي وسط المعركة قُتِل مصعب بن عمير ﭬ، الذي كان يحمل لواء المهاجرين في هذه المعركة، قتله ابن قَمِئَة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله ﷺ، فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدًا، فلما قُتِل مصعب ﭬ أعطى رسول الله ﷺ اللواء علي بن أبي طالب ﭬ.
وصاح الشيطان وسط الميدان: قُتِل محمد، وانتشر الخَبَرُ وشاع بين صفوف المسلمين، فخارت قُوى بعضِ المسلمين، ولانت عزيمتهم، حتى إنهم جلسوا عن القتال، فرآهم أنس بن النضر ﭬ فقال لهم ما يُجْلِسكم؟ قالوا: قُتِل رسول الله ﷺ قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتِل.
وكان أنس بن النضر ﭬ لَم يشهد مع النبي ﷺ غزوة بدر، فقال: غِبتُ عن أول قتال للنبي ﷺ، لئن أشهدني الله مع النبي ﷺ لَيَرَيَنَّ الله ما أصنع، فلما رأى ذلك من المسلمين يوم أُحُد، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ، فقال: أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أُحُد، فقاتلهم حتى قُتِل، فما عُرِفَ حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانة وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم فنزلت فيه وفي أصحابه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ [الأحزاب: 23].
وكما تقدم فإن بعض القوم جلسوا عن القتال وفَرَّ آخرون بين الشِّعاب بعدما شاع بينهم خَبَرُ مقتل النبي ﷺ.
أما النبي ﷺ فكان كالليث يقاتل بين الصفوف، وكان أول من عرف بأن الرسول ﷺ حَيٌّ هو كعب بن مالك ﭬ فنادى في المسلمين يبشرهم بذلك فأمره الرسول ﷺ بالسكوت لئلا يَفْطُنَ له المشركون.
وظل النبي ﷺ يقاتل وحوله فئة قليلة من الصحابة ﭫ صمدوا معه ﷺ.
وقد تفطن المشركون بأن النبي ﷺ حَيٌّ لَمْ يُقْتَل فتكاثروا عليه يريدون قتله.
وكان حول النبي ﷺ تسعة من الصحابة سبعة من الأنصار، واثنان من المهاجرين، فلما اقترب منه المشركون قال: «من يردهم عنا وله الجنة، أو: هو رفيقي في الجنة»، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتِل، ثم رهقوه أيضا فقال: «من يردهم عنا وله الجنة، أو: هو رفيقي في الجنة»، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتل، فلم يزل كذلك حتى قُتِل السبعة من الأنصار.
وأخذ النبي ﷺ يدعوا أصحابه للعودة إلى القتال.
وكان طلحة بن عبيد الله ﭬ ممن ثبت مع النبي ﷺ، ودافع عنه حتى شُلَّت يده ﭬ كان يقي بها النبي ﷺ.
وكان ممن ثبت أيضًا مع النبي سعد بن أبي وقاص ﭬ، وكان راميًا ماهرًا لا تكاد رميته تخطئ، فنثل له النبي ﷺ كنانته، وجعل يقول له: «ارم فداك أبي وأمي».
وممن ثبت مع النبي ﷺ يدافع عنه أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري ﭬ، وكان أبو طلحة رجلًا راميًا شديد الرمي كسر يومئذ قوسين أو ثلاثًا من شدة الرمي، وكان الرجل يمر معه جعبة من النبل فيقول له النبي ﷺ: انثزها لأبي طلحة، وكان النبي ﷺ يُشْرِف برأسه لينظر إلى القوم، فيقول له أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك.
وكان يتترس مع النبي ﷺ بتُرس واحد، فكان كلما رمى رمية رفع النبي ﷺ بصره ينظر إلى أين وقع السهم، فيدفع أبو طلحة صدر رسول الله ﷺ بيده، ويقول: يا رسول الله هكذا لا يصيبك سهم.
ورغم استبسال الصحابة ﭫ في الدفاع عن النبي ﷺ، وأنهم أفدوه بأرواحهم إلا أن المشركين استطاعوا أن يصلوا إلى النبي ﷺ، فجُرِح وجهه ﷺ، وكُسِرَت رَبَاعِيَّتُهُ.
فَلَمَّا حدث هذا للنبي ﷺ وكاد المشركون أن يقتلوه، أنزل الله تعالى جبريل وميكائيل عليهما السلام يدافعان عن النبي ﷺ ويمنعانه من المشركين.
فعن سعد بن أبي وقاص ﭬ قال: لقد رأيت يوم أُحُدٍ عن يمين رسول الله ﷺ وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض، يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قَبْلُ ولا بَعْدُ، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام.
وفي تلك المعمعة كان هناك رجل له هدف آخر غير الذي جاء من أجله الطرفان، فهو لا يشغله من ينتصر، المسلمون أم المشركون، إنما كل الذي يشغله هو التحرر من الرِّق، وأن ينفك من قيود العبودية.
وهذا الرجل هو وحشي ﭬ الذي أسلم بعد ذلك وحَسُن إسلامه.
ولنتركه يقص علينا تفاصيل ما حدث بنفسه ﭬ.
يقول وحشي ﭬ: إن حمزة قَتَل طُعَيْمَة بن عدي ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مُطْعِم: إن قتلتَ حمزة بعمي فأنت حُرٌّ، قال: فلما أن خرج الناس خرجت مع الناس إلى القتال فلما أن اصطفوا للقتال مكنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فوضعتها في أسفل بطنه حتى خرجت من بين وركيه.
وقال النبي ﷺ: «رأيت الملائكة تُغَسِّل حمزة بن عبد المطلب».
وقُتِل من المسلمين في هذه المعركة سبعون قتيلًا؛ منهم أربعة وستون من الأنصار، وستة من المهاجرين.
وقُتِل من المشركين اثنان وعشرون رجلًا.
وبعد انتهاء القتال وانصراف كل فريق إلى معسكره وقد تأكد بعض الصحابة أن النبي ﷺ قد قُتِل، إذ بالنبي ﷺ يطلع عليهم، ففرح به الصحابة ﭫ حتى كأنهم لم يصبهم شيء، فأقبل النبي ﷺ نحوهم وهو يقول: «اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله»، ويقول مرة أخرى: «اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا».
وجعل النبي ﷺ يقول: «اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا بنبيه»، وهو حينئذ يشير إلى رَبَاعِيَّتِه.
كما أخذ النبي ﷺ يَسْلُتُ عن نفسه الدم ويقول: «كيف يُفلح قوم شَجُّوا نبيهم وكسروا رَبَاعِيَّتَه وهو يدعوهم إلى الله»، فأنزل الله عز وجل: ﴿ليس لك من الأمر شيء﴾ [آل عمران: 128].
ثم أراد النبي ﷺ أن يصعد على صخرة ليجلس عليها فلم يستطع من شدة ما فيه من إصابات وإرهاق شديد، فأقعد النبي ﷺ تحته طلحة ﭬ ثم صعد حتى استوى على الصخرة، فقال النبي ﷺ: «أوجب طلحة»؛ أي: وجبت له الجنة.
ثم أخذت فاطمة ڤ تغسل الدم عن وجه أبيها ﷺ وعليُّ بن أبي طالب ﭬ يسكب عليه الماء، فلما رأت فاطمة ڤ أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادًا ثم ألصقته بالجُرح فاستمسك الدم.
ثم أنزل الله عز وجل النعاس على المسلمين تهدئة لروعهم، وراحة لأجسادهم من عناء القتال. يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ﴾ [آل عمران: 154].
عن أبي طلحة الأنصاري ﭬ قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أُحُد حتى سقط سيفي من يدي مرارًا يسقط وآخذه ويسقط فآخذه.
وبعد ذلك أشرف أبو سفيان بن حرب ونادى على المسلمين فقال: أفي القوم محمد؟ قال رسول الله ﷺ: «لا تجيبوه»، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ - يعني أبا بكر- قال رسول الله ﷺ: «لا تجيبوه»، فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم قال أبو سفيان: أما هؤلاء لو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك، قال أبو سفيان: اعل هبل، فقال النبي ﷺ: «أجيبوه»، قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجل»، قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي ﷺ: «أجيبوه»، قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم»، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، قال أبو سفيان: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذن وخسرنا، ثم قال أبو سفيان: أما إنكم سوف تجدون في قتلاكم مُثْلًا [تمثيلًا بالقتلى]، ولم يكن ذاك عن رأينا، ثم أدركته حَمِيَّةُ الجاهلية فقال: أما إنه قد كان ذاك ولم نكرهه.
ثم أمر النبي ﷺ بدفن شهداء أُحُد، وَقَلَّتِ الثيابُ وكثرت القتلى فكان الرجل والرجلان والثلاثة يُكَفَّنُون في الثوب الواحد، ثم يُدْفَنُون في قبر واحد، فكان رسول الله ﷺ يسأل عنهم أيهم أكثر قرآنًا فيقدمه في اللحد، وقال ﷺ: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة»، وأمر ﷺ بدفنهم في دمائهم، ولم يُغَسَّلُوا، ولم يُصَلِّ النبي ﷺ على أَحَدٍ من الشهداء غير حمزة ﭬ.
ولما انصرف العدو من المَيدان قال النبي ﷺ: «استووا حتى أُثني على ربي»، فصاروا خلفه صفوفًا، فقال ﷺ: «اللهم لك الحمد كله اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك، ورحمتك، وفضلك، ورزقك، اللهم إني أسالك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسالك الأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الايمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إله الحق آمين».
وقال النبي ﷺ: «اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية»؛ فنزلت: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [آل عمران: 128]، فتاب الله عليهم بعد ذلك فَحَسُن إسلامهم.
وبعد عودة النبي ﷺ إلى المدينة أراد أن يطارد المشركين حتى لا يُفَكِّروا في العودة مرة أخرى ومداهمة المدينة، فأرسل مناديًا ينادي في الناس بطلب العدو وأن لا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ إلا أَحَدًا حَضَرَ أُحُدًا، وكان ذلك في اليوم التالي لغزوة أحد فخرج مع النبي ﷺ كل من شهد أُحُدًا، سوى جابر بن عبد الله ﭭ خرج وهو لم يشهد أُحُدًا، حيث تخلف عن أُحُد لأن أباه خَلَّفه على أخواته.
فسار جيش المسلمين حتى بلغ مكانًا اسمه حمراء الأسد وهو على بُعْدِ حوالي عشرين كيلو جنوب المدينة المنورة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فَلَمْ يلق أَحَدًا من المشركين، ووجدهم قد رجعوا إلى مكة، فأقام بها الإثنين، والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة.
محمد طه شعبان
2016-08-04, 01:33 PM
الدرس الثامن والعشرون
سرية الرجيع
في صفر من السنة الرابعة للهجرة بعث رسول الله ﷺ عشرة نفر يتحسسون الأعداء حول المدينة، وَأَمَّرَ عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري ﭬ فانطلقوا، حتى إذا كانوا بالهَدَأَة -وهو بين عُسْفَانَ ومكة- وصل خبرهم لِحَيٍّ من هُذَيْل يقال لهم: بنو لَحْيَان، فنفروا لهم قريبًا من مئتي رجل كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرًا تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فاقتصوا آثارهم، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى مكان عالٍ، وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحدًا، فقال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصمًا في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق منهم خُبيب الأنصاري، وابن دَثِنَة، ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوة -يريد القتلى- وجرَّرُوه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى، فقتلوه، فانطلقوا بخُبيب وابن دَثِنَة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع خُبَيْبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خُبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرًا، تقول بنت الحارث بن عامر: أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته، فأخذ ابنًا لي وأنا غافلة حين أتاه، قالت: فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، والله ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل من قِطْفِ عنب في يده وإنه لموثق في الحديد، وما بمكة من ثمر، وكانت تقول: إنه لرزق من الله رزقه خُبيبًا، فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحِلِّ، قال لهم خبيب: ذروني أركع ركعتين، فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو، ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع لَطَوَّلْتُهَا، اللهم أحصهم عددًا، ثم قال:
مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا
عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لله مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّع
فقتله عقبة بن الحارث، واستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب عندما قال: اللهم أخبر نبيك عنا فَأَخْبَرَ الله عز وجل نَبِيَّهُ بهم، وَأَخْبَرَ النبي ﷺ أصحابه خبرهم وما أصيبوا، وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حُدِّثُوا أنه قُتِل ليأتوا بشيء منه يُعْرَف، وكان قد قَتَل رَجُلًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله تعالى على عاصم مثل السحابة من النحل فحمته من رسولهم، فلم يقدر على أن يقطع من لحمه شيئًا.
وقد كان عاصم قد أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركًا أبدًا، تَنَجُّسًا -أي: خشية تنجسه منهم-؛ فكان عمر بن الخطاب ﭬ يقول حين بلغه أن النحل منعه: يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركًا أبدًا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته، كما امتنع منه في حياته.
وأما زيد بن الدَّثِنَة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وبعث به صفوان بن أميه مع مولى له يقال له: نِسْطَاس، إلى التنعيم، وأخرجوه من الحرم ليقتلوه، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قُدِّم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدًا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي، قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا، ثم قتله نِسطاس.
محمد طه شعبان
2016-08-04, 01:37 PM
الدرس التاسع والعشرون
سرية بئر معونة
جاء ناس مِنْ رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ إلى النبي ﷺ فقالوا: ابعث معنا رجالًا يعلمونا القرآن والسُّنَّة.
فبعث النبي ﷺ إليهم سبعين رجلًا من الأنصار يقال لهم القراء في زمانهم، وأَمَّرَ عليهم حرام بن مِلْحَان، فساروا حتى كانوا ببئر مَعُونَةَ - على بعد 160 كيلو من المدينة - غدر بهم عامر بن الطفيل، حيث ذهب إليه حرام بن مِلْحَان ﭬ ومعه رجلان، كان أحدهما أعرج، فقال لهما حرام: كونا قريبًا حتى آتيهم فإن آمَنُوني كنتم آمنين، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم، فذهب إليه فقال: أتُأَمِّنُوني أُبَلِّغْ رسالة رسول الله ﷺ؟ فجعل يُحَدِّثُهُم، وأومئوا إلى رجل فأتاه مِنْ خلفه فطعنه، فأمسك حرام بن ملحان ﭬ بالدم فنضحه على وجهه ورأسه ثم قال: فزت ورب الكعبة، ثم اجتمعوا عليهم فقتلوهم جميعًا غير الرجل الأعرج الذي كان مع حرام بن ملحان صعد على رأس جبل، وعمرو بن أمية الضمري أُسِرَ ثم خلا عامر بن الطفيل سبيله لما أعلمه أنه من مُضَر.
وكان عامر بن الطفيل هذا يَكِنُّ عداء شديدًا للنبي ﷺ حيث كان قد أرسل قبل ذلك إلى النبي ﷺ يُخَيِّرُه بين ثلاث خصال، فقال له: يكون لك أهل السهل [أي: أهل الوادي] ولي أهل المدر [أي: أهل الحَضَر]، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف.
فقد كان يحقد على النبي ﷺ ويرى أنه أخذ مكانةً لابد أن يُشْرِكَهُ فيها.
وسأل عامر بن الطفيل عمرو بن أمية عن أحد القتلى فقال له: من هذا؟ فقال عمرو بن أمية: هذا عامر بن فُهَيرة، فقال عامر بن الطفيل: لقد رأيته بعد ما قُتِلَ رُفِعَ إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض ثم وُضِعَ.
فأتى النبيَّ ﷺ خَبَرُهُم فنعاهم فقال: «إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم، فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا»، فأنزل الله تعالى لنبيه ﷺ في الذين قُتِلوا في بئر معونة قرآنًا قرأه الصحابة حتى نُسِخ بَعْدُ: «بَلِّغُوا قومنا فقد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه».
فَظَلَّ النبي ﷺ شهرًا يدعو على رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، ويقول: «عُصَيَّةُ عَصَتِ اللهَ ورسولهَ».
محمد طه شعبان
2016-08-08, 02:17 PM
الدرس الثلاثون
غزوة بني النضير
كان سبب غزو بني النضير ومحاصرتهم وإجلائهم عن المدينة أنه لما قُتِل أصحاب بئر معونة، من أصحاب رسول الله ﷺ، وكانوا سبعين، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري، فلما كان في أثناء الطريق راجعًا إلى المدينة قَتَل رجلين من بني عامر، وكان معهما عهد من رسول الله ﷺ وأمان لم يَعْلَم به عمرو، فلما رجع أخبر رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ: «لقد قتلت رجلين لأَدِيَنَّهُمَا »، وكان بين بني النضير وبني عامر حِلْفٌ وعهد، فخرج رسول الله ﷺ إلى بني النضير يستعينهم في دِيَةِ ذينك الرجلين، وكان منازل بني النضير على أميال من المدينة [الميل: 1600مترًا].
فلما أتاهم رسول الله ﷺ يستعينهم في دية ذينك القتيلين، قالوا: نعم، يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، وكان رسول الله ﷺ جالسًا إلى جنب جدار من بيوتهم، قالوا: فَمَنْ رجل يصعد على هذا البيت فَيُلْقِي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانْتُدِبَ لذلك أحدهم وهو عمرو بن جُحَاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليُلْقِي عليه صخرة كما قال، ورسول الله ﷺ في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعليٌّ، فأتى رسول الله ﷺ الْخَبَرُ من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة.
فلما تأخر النبي ﷺ قام أصحابه في طلبه، فلقوا رجلًا مُقبلًا من المدينة، فسألوه عنه فقال: رأيته داخلًا المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله ﷺ، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله ﷺ بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ﴾ [الحشر: 2]، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿لا يُقَاتِلُونَكُم ْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ ﴾ [الحشر: 14]، فأمر رسول الله ﷺ بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الحشر: 5].
وكان رهط من بني عوف بن الخزرج، منهم عبد الله بن أُبِيِّ بن سلول، ووديعة، ومالك بن أبي نوفل، وسُويد، قد بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا وتَمَنَّعوا فإنَّا لن نُسْلِمَكُم، إن قُوتِلْتم قاتلنا معكم، وإن أُخْرِجْتُم خرجنا معكم.
فانتظر بنو النضير نَصْرَ هؤلاء القوم الذي وعدوهم إياه فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب. وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُم ْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ (12) لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (13) ﴾ [الحشر: 2].
فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وخَلَّفوا ما لم يستطيعوا حمله من الأموال، ونزلت في بني النضير سورة الحشر.
محمد طه شعبان
2016-08-10, 05:23 PM
الدرس الحادي والثلاثون
غزوة بني المصطلق
بنو المصطلق فرع من قبيلة خُزاعة اليمانية، وكانوا يسكنون قُدَيْدًا وَعُسْفَانَ على الطريق من المدينة إلى مكة، فقُديد تبعد عن مكة 120 كيلو مترًا، وعسفان تبعد 80 كيلو مترًا، وكانت هضبة المُشَلَّل التي كانت بها (مَنَاة) في قُدَيد.
وكان أول موقف عدائي لبني المصطلق من الإسلام كان في إسهامهم ضمن جيش قريش في غزوة أحد.
وبعد غزوة أحد تجرأت بنو المصطلق على المسلمين، كما تجرأت القبائل الأخرى المحيطة بالمدينة، ولعل بني المصطلق كانت تخشى انتقام المسلمين منها لدورها في غزوة أحد، وكذلك كانت ترغب في أن يبقى الطريقُ التجاري مفتوحًا أمام قريش لا يهدده أَحَدٌ لِمَا في ذلك من مصالح لها محققة؛ فكانت بزعامة الحارث بن أبي ضرار تتهيأ لمحاربة المسلمين بجمع الرجال والسلاح وتأليب القبائل المجاورة ضد المسلمين.
فبلغ رسول الله ﷺ أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، فلما سمع رسول الله ﷺ بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يقال له: (المُريسيع) مِنْ ناحية قُدَيد، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقُتِل مَنْ قُتِل منهم.
ولما انتصر المسلمون في تلك المعركة وظهروا على عدوهم اغتاظ المنافقون غيظًا شديدًا وظهر حقدهم الذي كان دفينًا، فهذا عبد الله بن أُبَيِّ بن سلول لم يستطع كتم غيظه، فقال لأصحابه وهو راجعون من الغزوة إلى المدينة: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل، فأتى زيد بن أرقم ﭬ النبيَّ ﷺ فأخبره بذلك، فأرسل النبي ﷺ إلى عبد الله بن أُبَيِّ فسأله فحلف أنه ما قال ذلك، فقال الناس: كذب زيد على رسول الله ﷺ، فأنزل الله تعالى: ﴿إذا جاءك المنافقون﴾ [المنافقون: 1]، ثم دعاهم النبي ﷺ ليستغفر لهم، فلووا رءوسهم.
وأراد المنافقون أيضًا الوقيعة بين الصحابة والتفريق بينهم، فاستغلوا موقفًا، حيث ضرب رَجُلٌ من المهاجرين رجلًا مِنَ الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله ﷺ، فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟»، قالوا: يا رسول الله ضرب رجل من المهاجرين رجلًا مِنَ الأنصار، فقال: «دعوها فإنها منتنة»، فسمع بذلك عبد الله بن أُبَيٍّ، فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك النبيَّ ﷺ، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي ﷺ: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه».
فلما سمع ابنه عبد الله بأن أباه قال هذا، قال لابن سلول: والله لا تنقلب حتى تُقِرُّ أنك الذليل ورسول الله العزيز، ففعل.
وتزوج رسول الله ﷺ جويرية بنت الحارث بن المصطلق، فتسامع الناس أن رسول الله ﷺ قد تزوج جويرية، فأرسلوا ما في أيديهم من السبي والأسرى، فأعتقوهم، وقالوا: أصهار رسول الله ﷺ، قالت عائشة ﭬ: فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها؛ أُعْتِقَ في سببها مائة أهل بيت من بني المصطلق.
محمد طه شعبان
2016-08-13, 06:52 PM
الدرس الثاني والثلاثون
حادثة الإفك
لَمْ يكتف عبد الله بن أُبَيِّ بما فعله حين الرجوع من غزوة بني المصطلق من محاولة تأليب المسلمين بعضهم على بعض، وبما قاله في حق النبي ﷺ حتى فعل أمرًا عظيمًا وافترى على أم المؤمنين عائشة ڤ، وافترى عليها كذبًا.
ولنترك عائشة ڤ تحكي لنا تفاصيل ما حدث، تقول أم المؤمنين عائشة ڤ: كان رسول الله ﷺ إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه فأيهن خرج سهمها خرج بها رسول الله ﷺ معه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجتُ مع رسول الله ﷺ بعد ما أُنزل الحجاب، فكنت أُحْمَل في هودجي وأُنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله ﷺ من غزوته واقتربنا من المدينة مشيت حتى جاوزت الجيش، ولمست صدري فإذا عِقْد لي قد انقطع، فرجعت أبحث عن عقدي، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني فاحتملوا هودجي فرحَّلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتوجهت إلى منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيزجعون إليَّ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السُّلَمي مِنْ وراء الجيش، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش في الظهيرة وهم نزول، قالت: فهلك من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أُبَيِّ بن سلول.
قال عروة: لَمْ يُسَمَّ من أهل الإفك أيضًا إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أُثَاثَةَ وحَمْنَة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم.
وكانت عائشة تكره أنْ يُسَبَّ عندها حسان وتقول إنه الذي قال:
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي
لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
قالت عائشة رضي الله عنها: فقدمنا المدينة فمرضت حين قدمت شهرًا، والناس يتكلمون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، والذي يَرِيبني في مرضي أني لا أعرف مِنْ رسول الله ﷺ اللُّطفَ الذي كنت أرى منه حين أشتكي؛ إنما يدخل عليَّ رسول الله ﷺ فَيُسَلِّم ثم يقول: «كيف تيكم؟» ثم ينصرف، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت حين اقتربت من الشفاء مع أم مِسْطَح لقضاء الحاجة، وكنا لا نخرج إلا ليلًا، فانطلقت أنا وأم مِسْطَح، وَأُمُّهَا خالة أبي بكر الصديق، فأقبلت أنا وأم مِسْطح قِبَل بيتي حين فرغنا من شأننا، فَتَعَثَّرَتْ أم مسطح، فقالت: تَعِسَ مِسْطَح، فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلًا شهد بدرًا؟ فقالت: أولم تسمعي ما قال؟ قالت عائشة: ما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، قالت: فازددت مرضًا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله ﷺ فَسَلَّم، ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبويَّ، قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قِبَلِهِمَا، قالت: فأذن لي رسول الله ﷺ، فقلت لأمي: يا أُمَّتَاه ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك فوالله لَقَلَّمَا كانت امرأة قط عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كَثَّرْنَ عليها، قالت: فقلت: سبحان الله أَوَ لقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، قالت: ودعا رسول الله ﷺ عليَّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حيث لم ينزل الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله ﷺ بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامة: أهلك ولا نعلم إلا خيرًا، وأما عليٌّ فقال: يا رسول الله لَمْ يُضَيِّقِ الله عليك والنساء سواها كثير، وسل الجارية تَصْدُقُكَ، قالت: فدعا رسولُ الله ﷺ بَرِيرَة، فقال: «أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟»، قالت له بَرِيرَة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرًا قط أنكره، غير أنها جارية حديثة السن تنام وهي تلعب بعجين أهلها، قالت: فقام رسول الله ﷺ من يومه فاستعذر من عبد الله بن أُبَيٍّ وهو على المنبر، فقال: «يا معشر المسلمين من يعذرني [أي: من يقوم بعذري إن كافأته على سوء صنيعه فلا يلومني؟] من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما يدخل على أهلي إلا معي»، قالت: فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا ولكن احتملته الحَميَّة، فقال لسعد: كذبت لَعَمْرُ اللهِ لا تقتله ولا تَقُدِرُ على قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقْتَل، فقام أُسَيْدُ بن حُضَيْر وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لَعَمْرُ الله لَنَقْتُلَنَّهُ ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت عائشة: فثار الحيَّانِ الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ﷺ قائم على المنبر، قالت: فلم يزل رسول الله ﷺ يُخَفِّضَهُم حتى سكتوا وسكت، قالت: فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي، فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي فاسْتَأْذَنتْ عَليَّ امرأة من الأنصار، فَأَذِنْتُ لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينما نحن على ذلك دخل رسول الله ﷺ علينا فسلم، ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرًا لا يُوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول الله ﷺ حين جلس، ثم قال: «أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه»، قالت عائشة: فلما قضى رسول الله ﷺ مقالته قَلُصَ دمعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله ﷺ عني فيما قال، فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله ﷺ فيما قال قالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرًا: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتُصَدِّقُنِّي، فوالله لا أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف حين قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 18]، ثم تحولْتُ واضطجعْتُ على فراشي، والله يعلم أني حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله مُنَزِّلٌ في شأني وحيًا يُتْلى، لَشَأْني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فِيَّ بأمر، ولكن كنت أرجو أن يَرى رسول الله ﷺ في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله ﷺ مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أُنْزِلَ عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء [الحُمَّى الشَّديدة] حتى إنه ليتحدر منه من العرق مثل الجُمَان [حَبَّات الفضة]، وهو في يوم شات مِنْ ثِقَلِ القول الذي أُنْزِل عليه، قالت: فَسُرِّيَ عن رسول الله ﷺ وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: «يا عائشة أما الله فقد برأك»، قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه فإني لا أَحْمَد إلا اللهَ عز وجل، قالت: وأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ﴾ [النور: 11]، العشر الآيات، ثم أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق وكان يُنْفِق على مِسْطح بن أُثَاثَة لقرابته منه وفقره: والله لا أُنْفِق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِي نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22]، قال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مِسْطَح النفقة التي كان يُنْفِقُ عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، قالت عائشة: وكان رسول الله ﷺ سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لزينب: ماذا علمت أو رأيت، فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني [أي: مكانتها تقترب من مكانتي] من أزواج النبي ﷺ فعصمها الله بالورع، قالت: وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تحارب لها فهلكت فيمن هلك.
محمد طه شعبان
2016-08-15, 12:40 PM
الدرس الثالث والثلاثون
غزوة الأحزاب
لما علمت قريش أنها لن تستطيع محاربة المسلمين وحدها، وكذلك أيقنت يهودُ بذلك، وأن قوتهم لا تحاكي قوة المسلمين، اتفقوا على جمع المجموع لمحاربة المسلمين وغزوهم في عقر دارهم في محاولة منهم للقضاء على الإسلام والمسلمين.
وكان بداية الأمر أنْ خرج وفد من اليهود إلى مكة فيهم سلَّام بن أبي الحُقِيق وَحُيَيُّ بن أخطب النضريان، فدعوا قريشًا إلى حرب المسلمين ووعدوهم أن يقاتلوا معهم، ثم خرجوا من مكة إلى نجد حيث حالفوا قبيلة غَطَفَان الكبيرة على حرب المسلمين، فكان تحالف الأحزاب بجهود من يهود بني النضير.
وفي شوال من السنة الخامسة للهجرة خرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غَطَفَان وقائدها عيينة بن حصن الفزاري، وبني مُرَّة وقائدها الحارث بن عوف، وخرجت أشجع وقائدها مِسْعَرُ بن رُخَيْلَةَ.
فلما سمع بهم رسول الله ﷺ، وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه.
فكان النبي ﷺ يعمل وهو يقول، تسلية لهم لِيُهَوِّنَ عليهم ما هم فيه من شدةٍ وبلاءٍ وجوع:
اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ
فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَه ْ
فيقولون مجيبين له:
نُحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدا
عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدا
ويقول أيضًا ﷺ:
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدِينَا
وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
ثم يرفع صوته ﷺ ويقول: أبينا أبينا، ويمد صوته بآخرها.
وأثناء عمل المسلمين في الحفر عَرَضَت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر، فقام رسول الله ﷺ وأخذ الْمِعْوَلَ، ووضع رداءه ناحية الخندق، وقال: «تمت كلمت ربك صدقًا وعدلًا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم»، فتكسَّر ثلث الحجر، وسلمان الفارسي قائم ينظر فبرق مع ضربة رسول الله ﷺ برقة، ثم ضرب الثانية، وقال: «تمت كلمت ربك صدقًا وعدلًا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم»، فتكسَّر الثلث الآخر، فبرقت برقة، فرآها سلمان، ثم ضرب الثالثة، وقال: «تمت كلمت ربك صدقًا وعدلًا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم»، فتكسَّر الثلث الباقي، وخرج رسول الله ﷺ فأخذ رداءه وجلس، فقال سلمان: يا رسول الله رأيتك حين ضربت ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة؟! قال له رسول الله ﷺ: «يا سلمان رأيتَ ذلك؟»، فقال سلمان: إي والذي بعثك بالحق يا رسول الله، قال: «فإني حين ضربتُ الضربة الأولى، رُفِعَت لي مدائنُ كسرى وما حولها، ومدائن كثيرة، حتى رأيتها بعينيَّ»، فقال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا، ويُغَنِّمَنَا ديارهم، وَيُخَرِّبَ بأيدينا بلادهم، فدعا رسول الله ﷺ بذلك، «ثم ضربتُ الضربة الثانية فَرُفِعَتْ لي مدائنُ قيصر وما حولها، حتى رأيتها بعينيَّ»، قالوا: يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا، ويُغَنِّمَنَا ديارهم، ويُخَرِّبَ بأيدينا بلادهم، فدعا رسول الله ﷺ بذلك، «ثم ضربتُ الثالثة، فَرُفِعَتْ لي مدائنُ الحبشة، وما حولها من القرى، حتى رأيتها بعينيَّ».
ويحكي لنا جابر ﭬ معجزة عجيبة للنبي ﷺ في هذا الموقف.
يقول جابر ﭬ: لَمَّا حُفِرَ الخندق رأيت بالنبي ﷺ جوعًا شديدًا، فذهبتُ إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله ﷺ جوعًا شديدًا، فَأَخْرَجَتْ إليَّ جرابًا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة سمينة فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، ثم وَلَّيْتُ إلى رسول الله ﷺ فقالت: لا تفضحني برسول الله ﷺ وبمن معه – أي: لِقِلَّةِ الطعام – قال جابر: فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنَّا صاعًا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك، فصاح النبي ﷺ بجميع أهل الخندق، ودعاهم إلى طعام جابر، وقال رسول الله ﷺ لجابر: «لا تُنْزِلَنَّ بُرْمَتَكُمْ، ولا تَخْبِزَنَّ عجينكم حتى أجيء»، فجئت وجاء رسول الله ﷺ يتقدم الناس، حتى جئتُ امرأتي، فلامته امرأته، فقال لها جابر: قد فعلتُ الذي قُلْتِ.
قال جابر: فَأَخْرَجْتُ له عجينًا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى بُرْمَتِنَا فبصق وبارك، ثم قال: «ادع خابزة فلتخبز معي، ولا تنزلوها»، وهم ألف، فأقسم جابر بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانصرفوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا كما هي، وإن عجيننا ليُخْبَزُ كما هو.
لقد جاءت هذه المعجزة للنبي ﷺ في وقتها، فإن النبي ﷺ والصحابة ﭫ كانوا في أشد الحاجة إلى الطعام حتى يستطيعوا مواصلة العمل في الحفر ثم مواجهة المشركين بعد ذلك، حيث كانوا قد أوشكوا على الهلاك من شدة الجوع وعدم وجود الطعام.
فقد لبثوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يذوقون طعامًا، حتى إن النبي ﷺ كان يربط على بطنه حجرًا من شدة الجوع.
وحتى أكلوا الطعام المنتن الكريه الطعم والرائحة لما أوشكوا على الهلاك.
وظل النبي ﷺ يعمل ويحمل التراب على كتفه الشريف حتى غطى التراب بطنه ﷺ.
يقول البراء ﭬ: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله ﷺ رأيته ينقل من تراب الخندق حتى غطى عني الغبار جلدة بطنه.
وظل الصحابة رضوان الله عليهم يعملون معه ﷺ وينقلون التراب على أكتافهم حتى فرغوا من حفر الخندق قبل وصول المشركين.
ثم أمر النبي ﷺ بالنساء والأطفال فَوُضِعُوا في الحصون.
ثم ظهرت جموع المشركين، الذين تحزبوا لمحاربة الله ورسوله، والصد عن سبيل الله.
فالتفوا حول المدينة وحاصروها من كل مكان، فلما رأت يهود بني قريظة ذلك، تيقنوا أن المسلمين -بأي حال- لن يفلتوا من هذه القوة الهائلة وأنهم سيُقضى عليهم لا محالة، فعزموا على نقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، ومساعدة الأحزاب للقضاء عليهم.
وفعلا نقض يهود بني قريظة العهد، وأصبحوا على استعداد لمعاونة الأحزاب على المسلمين.
ووصل الخبر للنبي ﷺ وشاع بين صفوف المسلمين، فاشتدت المصيبة عليهم.
وكانت ديار بني قريظة في العوالي في الجنوب الشرقي للمدينة، فكان موقعهم يمكنهم من إيقاع ضربة بالمسلمين من الخلف.
وفي ذلك يقول الله تعالى: {إذ جاءوكم من فوقكم} أي: الأحزاب، {ومن أسفل منكم} أي: بنو قريظة، {وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} من شدة الخوف والفزع، {وتظنون بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] الظنون السيئة، والخوف من المشركين، وأن الله لن ينصر دينه، {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11)} [الأحزاب: 11] بالخوف والجوع والقلق الذي عاشوه، فكان هذا ابتلاء واختبار للمسلمين، ليتبين الخبيث من الطيب. وحدث ما أراده الله عز وجل.
فأما المؤمنون فسُرعان ما تنبهوا وظهر إيمانهم وثقتهم بالله عز وجل، وقالوا: {هذا ما وعدنا الله ورسوله} من الابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر، {وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} [الأحزاب: 22].
وأما المنافقون والذين في قلوبهم مرض، فقالوا: {ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} [الأحزاب: 12].
وقالوا: {يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا}، واستأذنوا النبي ﷺ فقالوا: {إن بيوتنا عورة} ففضحهم الله -عز وجل-، وقال: {وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا} [الأحزاب: 13].
ثم أرسل النبي ﷺ الزبير بن العوام - رضي الله عنه - إلى بني قريظة ليتأكد من صحة هذا الخبر.
فذهب الزبير فوجدهم قد نقضوا العهد.
أما المشركون فقد فُجِئُوا بالخندق أمامهم، فوقفوا حيارى، لا يستطيعون اقتحامه.
ولكنهم حاولوا اقتحامه، فكانوا كلما حاولوا ذلك أمطرهم المسلمون بوابل من السهام فردوهم.
ولم تنقطع هجمات المشركين على الخندق في محاولات شرسة لاقتحامه، حتى إن النبي ﷺ وأصحابه لم يتمكنوا من أداء صلاة العصر في أحد الأيام حتى غربت الشمس، من شدة انشغالهم في صد المشركين عن الخندق؛ فدعا رسول الله ﷺ على المشركين، وقال: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا، شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس».
ثم استمر النبي ﷺ في دعائه على المشركين والأحزاب، فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم».
فاستجاب الله عز وجل دعاء نبيه ﷺ عليهم، فأرسل عليهم ريحًا شديدًا فخلعت خيامهم، وأكفأت قدورهم، وأطفأت نيرانهم، وأرسل الله تعالى الملائكة فزلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف.
وفي ذلك يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا (9)} [الأحزاب: 9].
فلم تتحمل الأحزابُ جنودَ الله عز وجل، ولم يستطيعوا مواجهتها، فأسرعوا بالتجهز للرحيل.
عن حذيفة بن اليمان ﭭ قال: لقد رأيتنا مع رسول الله ﷺ ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة باردة، فقال رسول الله ﷺ: «ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟»، فسكتنا فلم يُجِبْهُ أحد، ثم قال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟»، فسكتنا فلم يجبه أحد، ثم قال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟»، فسكتنا فلم يجبه أحد، فقال: «قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم»، فلم أجد بُدًّا إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: «اذهب فأتني بخبر القوم ولا تُذَعِّرْهُمْ [تُهَيِّجْهم] عليَّ»، قال حذيفة: فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام دافئ حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يُدَفِّئُ ظهره بالنار، فوضعت سهمًا في كَبِدِ القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله ﷺ: «ولا تذعرهم عليَّ»، ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، قال حذيفة: يا رسول الله تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلا عصبة يوقدون النار، وقد صب الله عليهم من البرد مثل الذي صب علينا، ولكنا نرجوا من الله ما لا يرجون.
قال حذيفة: فألبسني رسول الله ﷺ عباءة كانت عليه يُصَلِّي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: «قم يا نومان!».
وبذلك تفرقت جموع الأحزاب وهزمهم الله عز وجل وحده: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا (25)} [الأحزاب: 25].
وانفك الحصار الذي دام أربعًا وعشرين ليلة، بفضل من الله عز وجل.
ولذا كان النبي ﷺ يقول: «لا إله إلا الله وحده أعز جنده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده».
وقال النبي ﷺ لما أجلى الله الأحزاب: «الآن نغزوهم، ولا يغزوننا نحن نسير إليهم».
محمد طه شعبان
2016-08-16, 01:03 PM
الدرس الرابع والثلاثون
غزوة بني قريظة
لما رجع رسول الله ﷺ من الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار فقال: قد وَضَعْتَ السلاح؟ والله ما وضعته، اخرج إليهم، قال النبي ﷺ: «فأين»، فأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي ﷺ إليهم؛ جزاء لهم على خيانتهم يوم الأحزاب، ونقضهم العهد مع المسلمين.
وسارع ﷺ في الخروج، وحَثَّ الصحابة على سرعة اللحاق به، حتى قال لهم ﷺ: «لا يُصَلِّيَنَّ أحد العصر إلا في بني قريظة»، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لَمْ يُرِدْ منا ذلك، فَذُكِرَ ذلك للنبي ﷺ فلم يُعَنِّفْ وَاحِدًا منهم.
وخرج جبريل عليه السلام في كوكبة من الملائكة مع النبي ﷺ إلى بني قريظة.
ووصل النبي ﷺ والمسلمون إلى بني قريظة، وسمع بنو قريظة بقدوم النبي ﷺ إليهم فتحصنوا في حصونهم، فحاصرهم النبي ﷺ خمسًا وعشرين ليلة حتى جَهَدَهُم الحصارُ، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وقد كان حُيَيُّ بن أخطب النضري دخل مع بني قريظة في حصنهم بعد انصراف الأحزاب.
فلما أيقنوا بأن النبي ﷺ غَيْرُ منصرف عنهم أعلنوا استسلامهم، فلما استسلموا حَكَّمَ النبي ﷺ فيهم سعد بن معاذ ﭬ، ورضي أهلُ قريظة بحكمه.
فأرسل النبي ﷺ إلى سعد، فأتى على حمار، فلما دنا من المسجد، قال النبي ﷺ للأنصار: «قوموا إلى سيدكم» فقال له رسول الله ﷺ: «هؤلاء نزلوا على حكمك»، فقال سعد: تَقْتِلُ مُقَاتِلَتَهُمْ ، وَتَسْبِي ذَرَارِيَّهُمْ [أي: صغارهم، فلا يُقتلون]، وأن تَقْسِمَ أموالهم، فقال النبي ﷺ: «قَضَيْتَ بحكم الله».
فميَّز النبي ﷺ بين الصغار والبالغين استعدادًا لتنفيذ حكم سعد ﭬ؛ فكانوا ينظرون فَمَنْ نبت شَعْرُ عانته قُتِلَ، ومن لم ينبت لم يُقْتَلْ.
فحبسهم رسول الله ﷺ بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله ﷺ إلى سوق المدينة، فحفر بها خنادق، ثم بعث إليهم، فَضَرَبَ أعناقهم في تلك الخنادق، وفيهم عدو الله حُيَيُّ بن أخطب النضري، وكعب بن أسد القرظي، رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يُذْهَبُ بهم إلى رسول الله ﷺ: يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ قال كعب: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا يَنْزِعُ، وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل، فقتلهم جميعًا رسول الله ﷺ.
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وأنزل الذين ظاهروهم} أي: عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب المسلمين، {من أهل الكتاب من صياصيهم} أي: من حصونهم، {وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا (26) وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا (27)} [الأحزاب: 26، 27].
المرأة الوحيدة التي قتلت من بني قريظة:
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لم تقتل من نسائهم -تعني بني قريظة- إلا امرأة، إنها لعندي تحدث: تضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتل رجالهم بالسيوف، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا، قلت: وما شأنك؟ قالت: حدث أحدثته، قالت: فانطلق بها، فضربت عنقها، فما أنسى عجبا منها: أنها تضحك ظهرا وبطنا وقد علمت أنها تقتل.
وهي التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته.
فكان هذا آخر عهد لليهود بالمدينة، وآخرهم بني قريظة الذين نالوا جزاء خيانتهم العظمى، ونقضهم العهد الذي كان بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصدق الله تعالى إذ يقول: {أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم} [البقرة: 100].
ثم أسلم بعض بني قريظة وآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فبقوا بالمدينة.
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: حاربت النضير وقريظة، فأجلى بني النضير، وأقر قريظة ومن عليهم، حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم، وأولادهم، وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فآمنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام ويهود بني حارثة وكل يهود المدينة.
محمد طه شعبان
2016-09-07, 12:31 AM
http://majles.alukah.net/t155913/
أبو مالك المديني
2016-09-09, 04:13 PM
الدرس الرابع عشر
إسلام عمر وحمزة رضي الله عنه
فلما أسلم عمر رضي الله عنه كان هذا عِزًّا للإسلام، استجابة لدعوة الحبيب المصطفى ﷺ: «اللهم أَعِزَّ الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب»، قال ابن عمر: وكان أحبَّهُمَا إليه عُمَرُ.
بارك الله فيك أبا يوسف ونفع بك .
للفائدة :
قال الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة :
3225- (اللهم! أعزّ الإسلام بعمر بن الخطاب خاصةً).
أخرجه ابن حبان في "صحيحه " (2180- موارد) من طريق عبدالله بن عيسى الفروي، وكذا البيهقي في "سننه " (6/ 370)، وابن عدي في "الكامل " (6/ 310)، وعنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(12/718)- وكنوه بأبي علقمة- قال: حدثنا عبدالملك بن الماجشون: حدثني مسلم بن خالد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:... فذكره.
قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف الفروي هذا، ويُستغرب تصحيح ابن
حبان إياه، مع أنه قد ذكره في "الضعفاء" باسمه وكنيته (2/45)، وقال:
"يروي العجائب، ويقلب على الثقات الأخبار التي يعرفها من الحديث
صناعته أنها مقلوبة".
وضعفه غيره أيضاً. وسمَّاه الحسيني في "الإكمال " (7/84): "عبدالله بن
محمد الفروي "!
ومن فوقه ثقات، لولا أن مسلم بن خالد سيئ الحفظ، وهو الزَّنجي المكي
الفقيه من شيوخ الإمام الشافعي، وقد وثقه بعضهم، ومنهم ابن حبان، لكنه أشار إلى ضعف حفظه، فقال في "ثقاته " (7/448):
"يخطئ أحياناً".
قلت: فمثله يُحتج به عند المتابعة على الأقل.
وقد وجدت له متابعاً قوياً، فقال عبدالعزيز بن عبدالله الأويسي: ثنا
الماجشون بن أبي سلمة عن هشام بن عروة به.
أخرجه الحاكم (3/83)، وعنه البيهقي، ومن طريقه: ابن عساكر (6/719)،
وقال الحاكم:
"صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي.
وقال الحافظ في "الفتح " (7/48):
"أخرجه الحاكم بإسناد صحيح ".
وهو كما قال، فإن الماجشون هو عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة المدني؛
ثقة فقيه من رجال الشيخين.
وعبدالعزيز بن عبدالله الأويسي ثقة من شيوخ البخاري.
ومن دونه ثقات حفاظ.
وهذه المتابعة مما فات المعلق على "إحسان المؤسسة" (15/306)؛ فإنه وقف
مع الضعف الظاهر في إسناد ابن حبان بسبب الزنجي والفروي!
وإذا عرفت هذا المتابع؛ فلعله به يزول الاستغراب الذي سبق ذكره؛ فإن
الفروي الذي ضعفه ابن حبان يحتمل أن يكون عنده من أولئك الضعفاء الذين يقول فيهم:
"لا يحتج به إلا فيما وافق فيه الثقات ".
فإن إخراجه لحديثه هذا في "صحيحه " يشير إلى هذا، وإلا؛ كان متناقضاً، وهذا غير لازم ما أمكن التوجيه الحسن، كما هو معروف عند أهل العلم من باب: (التمس لأخيك عذراً). والله أعلم.
ولا منافاة بين هذا الحديث وحديث ابن عمر:
"اللهم! أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك :أبي جهل بن هشام أو عمر بن الخطاب ".
رواه ابن حبان (2179- موارد)، وله شواهد، ذكرت بعضها في "تخريج المشكاة" (6036/ التحقيق الثا ني)، وقواه الحافظ (7/48) بشوا هده.
أقول: لا منافاة؛ لاحتمال أن يكون هذا قاله - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر، فلما رأى عناد أبي جهل وإصراره على معاداته - صلى الله عليه وسلم -؛ دعا لعمر خاصة، واستجاب الله دعاءه، وأعز الله به دينه، كما هو معروف في سيرته- رضي الله عنه-، وهو ما صرح به عبدالله بن مسعود- رضي الله عنه- بقوله:
"ما زلنا أعزَّة منذ أسلم عمر".
أخرجه البخاري (3684)، وا بن حبان (6841- الإحسان)، وا بن أبي شيبة
في "المصنف " (12 /22- 23)، وا بن سعد (3/ 270)، وغيرهم.
واستدركه الحاكم (3/84) على الشيخين؛ فوهم على البخاري!
(تنبيه): أخرج ابن أبي عاصم حديث ابن عمر في كتابه "السنة" (رقم
1264) من طريق أخرى عنه نحوه، وزاد في آخره:
"قال ابن عمر: والله! ما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ لنا أبا جهل "!
فهي زيادة باطلة لمخالفتها لتلك الشواهد المشار إليها آنفاً، مع ضعف الإسناد.
محمد طه شعبان
2016-09-09, 05:10 PM
بارك الله فيكم شيخنا الحبيب.
أبو مالك المديني
2016-09-09, 07:04 PM
وفيكم بارك الله حبيبنا الغالي أبا يوسف .
محمد طه شعبان
2016-11-20, 04:26 PM
الدرس الخامس والثلاثون
صلح الحديبية
ولما تطورت الظروف في الجزيرة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئًا فشيئًا، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام.
والحديبية تقع على بعد اثنين وعشرين كيلو مترًا من مكة، وَسُمِّي بصلح الحديبية؛ لأن قريشًا منعت المسلمين من دخول مكة وهم في الحديبية.
وكان الصلح في ذي القعدة سنة ست.
وخرج النبي ﷺ متوجهًا إلى بيت الله الحرام قاصدًا العمرة، وخرج معه ألف وأربعمائة من الصحابة متسلحين بالسلاح حَذَرًا من قريش، وساقوا معهم الهدي.
فلما أتى النبي ﷺ ذا الحليفة، ميقات أهل المدينة، التي تبعد عن المدينة حوالي 11 كيلو مترًا، وتُسمى الآن بأبيار عليٍّ، قَلَّدَ الهدي وأشعره([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))، وأحرم منها بعمرة، وبعث بشر بن سفيان الكعبي، ليعلم له أخبار قريش، وسار النبي ﷺ حتى إذا كان على بُعد حوالي 8 كيلو مترًا من مكة أتاه بشر بن سفيان، فقال: إن قريشًا جمعوا لك جموعًا، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك، فاستشار النبي ﷺ الصحابة في ذلك الأمر، فقال أبو بكر ﭬ: يا رسول الله خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، فقال رسول الله ﷺ: «امضوا على اسم الله».
فسار النبي ﷺ حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال: «إن خالد بن الوليد بالغَمْيم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين»، فما شعر بهم خالد، وسار النبي ﷺ حتى إذا كان بالثَّنِيَّة التي يُهْبَطُ عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: خلأت القصواء خلأت القصواء [أي: بركت من غير علَّة]، فقال النبي ﷺ: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» [أي: حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها]، ثم قال ﷺ: «والذي نفسي بيده لا يسألوني خُطَّةً يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها»، ثم زجر النبي ﷺ الناقة، وابتعد عن قريش حتى نزل بأقصى الحديبية على بئر قليل الماء، فشرب منه الناس حتى ذهب ما فيه من ماء، وشكى الصحابة إلى رسول الله ﷺ العطش، فانتزع ﷺ سهمًا من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فما زال البئر يخرج منه الماء حتى تركوه، فبينما هم كذلك إذ جاء بُدَيْل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانوا ينصحون لرسول الله ﷺ، فقال بُديل للنبي ﷺ: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا الحديبية، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله ﷺ: «إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشًا قد أرهقتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاءوا عاهدناهم، وَيُخَلُّوا بيني وبين الناس، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا»، فقال بُديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق بُديل حتى أتى قريشًا، قال: إنا قد جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولًا، فإنْ شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته، قال بُدَيل: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي ﷺ، فقام عروة بن مسعود، فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني دعوت أهل عُكاظ لنصرتكم فلما امتنعوا جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنَّ هذا قد عَرَضَ لكم خُطَّةَ رشد، اقبلوها ودعوني آتيه، قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ نحوًا من قوله لبُدَيْل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوهًا، وإني لأرى أوشابًا من الناس خَليقًا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر الصديق: أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يَدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِكَ بها لأجبتك، وجعل عروة يكلم النبي ﷺ فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة – وهو ابن أخي عروة - قائم على رأس النبي ﷺ ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ﷺ ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أَخِّرْ يدك عن لحية رسول الله ﷺ فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا المغيرة بن شعبة: فقال: أي غُدَرُ ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة قبل إسلامه قد خرج مع ثلاثة عشر نفرًا من ثقيف من بني مالك فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم، فتهايج الفريقان بنو مالك وقوم المغيرة، فسعى عروة بن مسعود عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفسًا واصطلحوا.
ثم إن عروة جعل يَرْمُقُ أصحاب النبي ﷺ بعينيه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله ﷺ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضُوئِهِ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له.
فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت مَلِكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضُوئِهِ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه، فقالوا: ائته فلما أشرف على النبي ﷺ وأصحابه، قال رسول الله ﷺ: «هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البُدَنَ فابعثوها له»، فَبُعِثَتْ له، واستقبله الناس يُلَبُّون، فلما رأى ذلك، قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه، قال: رأيت البُدَنَ قد قُلِّدَت وأُشْعِرت، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت، فقام رجل منهم، يقال له: مِكْرز بن حفص، فقال: دعوني آتيه، فقالوا: ائته فلما أشرف عليهم، قال النبي ﷺ: «هذا مكرز، وهو رجل فاجر»، فجعل يكلم النبي ﷺ فبينما هو يكلمه، إذ جاء سهيل بن عمرو، فلما جاء سهيل بن عمرو، قال النبي ﷺ: «لقد سَهُلَ لكم من أمركم»، فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابًا، فدعا النبي ﷺ الكاتب، فقال النبي ﷺ: «بسم الله الرحمن الرحيم»، قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي ﷺ: «اكتب باسمك اللهم»، ثم قال ﷺ: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله»، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي ﷺ: «والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله»، فقال له النبي ﷺ: «على أن تُخَلُّوا بيننا وبين البيت فنطوف به»، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أُخِذْنَا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جَنْدَل بن سهيل بن عمرو مقيَّدًا، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليَّ، فقال النبي ﷺ: «إنا لم نَقْضِ الكتاب بعد»، قال: فوالله إذًا لم أصالحك على شيء أبدًا، قال النبي ﷺ: «فأجزه لي»، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: «بلى فافعل»، قال: ما أنا بفاعل، فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين أُرَدُّ إلى المشركين وقد جئت مسلمًا؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عُذِّب عذابا شديدًا في الله، فقال عمر بن الخطاب ﭬ: فأتيت نبي الله ﷺ، فقلت: ألستَ نبي الله حقًّا؟ قال: «بلى»، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: «بلى»، قلت: فَلِمَ نعطي الدنية في ديينا إذًا؟ فقال رسول الله ﷺ: «إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري»، فقال عمر ﭬ: أو ليس كنت تحدثنا أنَّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال ﷺ: «بلى، وهل أخبرتك أنا نأتيه العام؟»، فقال عمر: لا، قال: «فإنك آتيه وَمُطَوَّفٌ به»، قال عمر: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقًّا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فَلِمَ نُعطي الدنية في ديينا إذًا؟ قال أبو بكر: أيها الرجل إنه لرسول الله ﷺ وليس يعصي ربه وهو ناصره، فَاسْتَمْسِكْ بغرزه، فوالله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومُطَوَّفٌ به.
كما اتفقوا على وضع الحرب عشر سنين.
واتفقوا على أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فتواثبت خزاعة، فقالوا: نحن مع عقد رسول الله ﷺ وعهده، وتواثبت بنو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم.
فلما فُرِغَ من قضية الكتاب، قال رسول الله ﷺ لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا»، فما قام منهم رَجُلٌ، وأرادوا ألا يعودوا حتى يعتمروا، حتى قال ﷺ ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل ﷺ على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج رسول الله ﷺ فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق لبعضٍ حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا، ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُن َّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ َ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)﴾ [الممتحنة:10]، فَطَلَّقَ عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع النبي ﷺ إلى المدينة، فجاءه أبو بَصيرٍ من قريش وهو مسلم، فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه النبي ﷺ إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا، فاستله الآخر، فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى مات، وَفَرَّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله ﷺ حين رآه: «لقد رأى هذا ذُعرًا»، فلما انتهى إلى النبي ﷺ قال: قُتِلَ والله صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير، فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال النبي ﷺ: «ويل أمه مُسْعِرَ حرب، لو كان له أحد»، فلما سمع أبو بصير ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى ساحل البحر، وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فما يسمعون بِعِيرٍ خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي ﷺ تناشده بالله والرحم أن من أتاه مسلمًا فلا يرده إليهم، وهو آمن، فأرسل النبي ﷺ إلى أبي بصير ورفقائه، فأنزل الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ حتى بلغ ﴿الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ [الفتح: 24 - 26]؛ وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) وحالوا بينهم وبين البيت.
([1])الهدي: ما يُهدى من النَّعم إلى الحرم تقربًا إلى الله عز وجل، ويكون الهدي من بهيمة الأنعام؛ وهي الإبل والبقر والغنم، وتقليد الهدي: هو أن يعلق في عنقها نعلين، أو يضع عليها شيئًا من صوف ونحوه علامة لها أنها من الهدي، والتقليد عام للبقر والغنم والإبل، أما الإشعار: هو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل الدم، ثم يسلته، ويكون ذلك في الجانب الأيمن لسنمة البعير، والإشعار خاص بالإبل فقط دون البقر والغنم.
محمد طه شعبان
2016-11-20, 04:37 PM
الدرس السادس والثلاثون
بيعة الرضوان
كان النبي ﷺ وقبل أن تأتيه رسل قريش قد أرسل إلى قريش لبيان موقفه وأنه لم يأت إلا لزيارة البيت وأداء العمرة ولم يأت لحرب.
فبعث النبي ﷺ خِرَاشَ بن أمية الخزاعي إلى مكة، فلما دخل مكة أرادت قريش قَتْلَ خِرَاش، فمنعه بعضهم، حتى أتى خِرَاشٌ رسولَ الله ﷺ فدعا عمر ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشًا على نفسي، وليس بها من بني عدي أَحَدٌ يمنعني، وقد عَرَفَتْ قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني عثمان بن عفان، فدعى رسول الله ﷺ عثمان فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه جاء زائرًا لهذا البيت، مُعَظِّمًا لحرمته، فخرج عثمان حتى أتى مكة، ولقيه أبان بن سعيد بن العاص، فأجاره، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلَّغهم عن رسول الله ﷺ ما أرسله به، فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله ﷺ، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله ﷺ والمسلمين أن عثمان قد قُتِل.
فدعا رسول الله ﷺ أصحابه للبيعة تحت الشجرة، فبايعوه جميعًا تحت الشجرة، غير جَدِّ بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره، وكان الجَدُّ بن قيس منافقًا.
وضرب رسول الله ﷺ بيده اليمنى، وقال: «هذه يد عثمان».
وقد بايع الصحابة رضوان الله عليهم النبيَّ ﷺ على الموت وعلى ألا يَفِرُّوا.
وبايع سلمة بن الأكوع ﭬ النبيَّ ﷺ ثلاث مرات.
فعن سلمة بن الأكوع ﭬ قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله ﷺ ونحن أربع عشرة مائة وعليها خمسون شاة لا ترويها، قال: فقعد رسول الله ﷺ على شفا البئر، فإما دعا وإما بصق فيها، قال: فجاشت فسقينا واستقينا.
قال: ثم إن رسول الله ﷺ دعانا للبيعة في أصل الشجرة، قال: فبايعته أولَ الناس، ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط من الناس، قال: «بايع يا سلمة»، قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس، قال: «وأيضًا»، قال: ورآني رسول الله ﷺ عَزِلًا [ليس معه ما يتترس به] ، فأعطاني رسول الله حَجَفَةً [تُرسًا]، ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس، قال: «ألا تبايعني يا سلمة؟»، فقلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس وفي أوسط الناس، قال: «وأيضًا»، قال: فبايعته الثالثة، ثم قال لي: «يا سلمة أين حَجَفَتُكَ التي أعطيتك؟»، قال: قلت: يا رسول الله لقيني عمي عامر عَزِلًا، فأعطيته إياها، قال: فضحك رسول الله ﷺ وقال: «إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيبًا هو أحب إلي من نفسي».
ثم إن المشركين راسلونا الصلح، حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا، قال: وكنت تبيعًا [خادمًا] لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه وأخدمه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجرًا إلى الله ورسوله ﷺ، قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فكسحت شوكها، فاضطجعت في أصلها، قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله ﷺ، فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلَّقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين قتل ابن زُنَيْمٍ، قال: فاستللت سيفي، ثم شددت على أولئك الأربعة، وهم رقود فأخذت سلاحهم فجعلته ضِغْثًا [حزمة] في يدي، قال: ثم قلت: والذي كرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله ﷺ، قال: وجاء عمي عامر برجل يقال له: مِكْرِز يقوده إلى رسول الله ﷺ على فرس في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله ﷺ، فقال: «دعوهم؛ يكن لهم بَدْءُ الفجور وثناه» [أي: يكن عليهم بداية الفجور والعودة إليه مرة ثانية]، فعفا عنهم رسول الله ﷺ.
منزلة أهل بيعة الرضوان:
الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة ﴿فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 18].
وعن جابر بن عبد الله ﭭ قال: قال لنا رسول الله ﷺ يوم الحديبية: «أنتم خير أهل الأرض»، وكنا ألفا وأربع مائة.
وعن أم مُبَشِّر ڤ أنها سمعت النبي ﷺ يقول عند حفصة: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها».
وجاء عَبْدٌ لحاطب بن أبي بلتعة إلى رسول الله ﷺ يشكو حاطبًا، فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله ﷺ: «كذبت لا يدخلها، فإنه قد شهد بدرًا والحديبية».
محمد طه شعبان
2016-11-22, 05:29 PM
الدرس السابع والثلاثون
مراسلة النبي ﷺ ملوك العالم يدعوهم إلى الإسلام
وبعدما رجع النبي ﷺ من الحديبية، وقد عاهد قريشًا على وضع القتال بينهما لمدة عشر سنوات، مما أتاح له التفرغ التام للدعوة، بدأ رسول الله ﷺ في مراسلة ملوك العالم ودعوتهم إلى الإسلام، فكتب رسول الله ﷺ إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي هاجر إليه الصحابة ﭫ.
ولما أرسل النبي ﷺ كتابه إلى هرقل عظيم الروم، ووصله كتاب رسول الله ﷺ أرسل هِرَقْلُ إلى أبي سفيان بن حرب - وكان لا يزال على الشرك - في ركب من قريش، وكانوا تُجَّارًا بالشام، فأتوه، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبًا، فقال: أَدْنُوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه.
قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء مِنْ أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من مَلِك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يَغْدِرُ؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة، فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله، لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من ابائه من ملك فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سَخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يَغْدِرُ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تَغْدِر، وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه [معناه: لتكلفت الوصول إليه وارتكبت المشقة في ذلك]، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه، ثم دعا بكتاب رسول الله ﷺ الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل، فقرأه فإذا فيه: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ [هم الفلاحون والأتباع]، و ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)﴾ [آل عمران: 64]».
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وَأُخْرِجْنَا، فقلت لأصحابي حين أُخْرِجْنَا: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ؛ إنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام.
وبعث النبي ﷺ بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فدعا عليهم رسول الله ﷺ أن يُمَزَّقوا كل ممزق.
محمد طه شعبان
2016-11-28, 11:26 AM
الدرس الثامن والثلاثون
غزوة خيبر
خيبر واحة زراعية تقع شمال المدينة المنورة، وتبعد عنها بحوالي 165كم، وامتازت خيبر بخصوبة أرضها ووفرة مياهها، فاشتهرت بكثرة نخيلها، هذا سوى ما تنتجه من الحبوب والفواكه، لذلك كانت تُوصف بأنها قرية الحجاز ريفًا ومنعة ورجالًا، وكان بها سوق يُعرف بسوق النَّطَاةِ تحميه قبيلة غَطَفَانَ التي تُعْتَبر خيبر ضمن أراضيها.
ونظرًا لمكانتها الاقتصادية فقد سكنها العديد من التجار وأصحاب الحِرَف، وكان فيها نشاط واسع.
وكان يسكنها قبل الفتح أخلاط من العرب واليهود، وزاد عدد اليهود فيها بعد إجلاء يهود المدينة؛ حيث ذهب كثير من يهود المدينة الذين أجلاهم النبي ﷺ إلى خيبر فأقاموا فيها؛ وهم بنو قينقاع وبنو النضير، فذهبوا إلى خيبر وأصبحوا يُشَكِّلُون خطرًا على المسلمين، وكان لبعضهم يدًا في تأليب قريش وجمعهم الأحزاب لمحاربة المسلمين، كما تقدم ذلك.
فأراد النبي ﷺ بعدما عاهد قريشًا أن يعالج الموقف بعدما صارت خيبر مصدر خطر كبير على الإسلام والمسلمين.
فخرج النبي ﷺ إلى خيبر بقريب من ألف وخمسمائة مقاتل معهم مائتا فرس، في المحرم من السنة السابعة.
فسار النبي ﷺ إلى خيبر ليلًا، واستخلف النبي ﷺ على المدينة سِبَاعَ بن عُرْفُطَةَ، وكان الله تعالى قد وعد المؤمنين مغانم خيبر، في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) ﴾ [الفتح: 18 - 20].
فأراد المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله ﷺ في الحديبية أن يخرجوا معه إلى خيبر، لَمَّا علموا ما بها من مغانم وأموال كثيرة، فمنعهم النبي ﷺ من الخروج، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ ﴾ عن الحديبية ﴿إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ﴾؛ أي: إلى خيبر، ﴿ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ ﴾؛ أي: يريدون أن يبدلوا كلام الله لما ووعده بأن المغانم ستكون لمن شهد الحديبية وبايع تحت الشجرة، كما تقدم في الآيات، ﴿قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ﴾؛ أي: قال بأن المغانم ستكون لأهل الحديبية، ﴿ فسيقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ﴾؛ أي: أن نشرككم في المغانم، ﴿بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الفتح:15]؛ أي: ليس الأمر كما زعموا، ولكن لا فَهْمَ لهم.
ومضى جيش المسلمين حتى نزل بالرجيع؛ وهو وادٍ بين خيبر وغطفان، فتخوف النبي ﷺ أن تُمِدَّهُمْ غَطَفَانُ، فبات حتى أصبح، ثم توجه إلى خيبر، فصلى النبي ﷺ الصبح قريبًا من خيبر، ثم مضى فأتاهم حين بزغت الشمس، وقد أخرجوا مواشيهم وخرجوا بفئوسهم، فلما رأوا جيش المسلمين قالوا: محمد والخميس [الخميس: الجيش]، فقال رسول الله ﷺ: «الله أكبر، خربت خيبر؛ إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» قالها ثلاث مرات.
فلما رأى أهل خيبر جيش المسلمين هربوا إلى حصونهم، فتحصنوا بها.
وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُم ْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ﴾ [الحشر: 14].
وكانت بخيبر حصون كثيرة، أكبرها ثمانية:
1 - حصن ناعم.
2 - حصن الصعب بن معاذ.
3 - حصن قلعة الزبير.
4 - حصن أُبَيٍّ.
5 - حصن نِزَار.
6 - حصن القَمُوص (وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير).
7 - حصن الوَطِيح.
8 - حصن السُّلَالِم.
فحاصرهم النبي ﷺ.
وجعل عامر عم سلمة بن الأكوع ﭭ يرتجز ويقول:
تَاللهِ لَوْلَا اللهِ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا ... فَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
وَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
فقال رسول الله ﷺ: «من هذا؟»، قال: أنا عامر، قال: «غفر لك ربك»، وما استغفر رسول الله ﷺ لإنسان يخصه إلا استُشهد، فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له: يا نبي الله لولا ما متعتنا بعامر.
فخرج مَلِكُهُم مَرْحَبٌ يخطر بسيفه، ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فخرج له عامر، فقال:
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر
فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في تُرس عامر، وذهب عامر يضربه من أسفل، فرجع سيفه على نفسه فقتل نفسه.
قال سلمة بن الأكوع: فخرجتُ فإذا نفر من أصحاب النبي ﷺ يقولون: بَطَلَ عملُ عامر؛ قتل نفسه، قال: فأتيت النبي ﷺ وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله بطل عمل عامر؟ قال رسول الله ﷺ: «من قال ذلك؟»، قال سلمة: ناس من أصحابك، فقال ﷺ: «كذب مَنْ قال ذلك؛ بل له أجره مرتين».
قال سلمة: ثم أرسلني النبي ﷺ إلى عليٍّ وبه وجع في عينيه، فقال: «لأُعطين الراية رجلًا يُحِبُّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، لا يرجع حتى يُفتح له»، قال: فأتيت عليًّا فجئت به أقوده وهو أرمد، حتى أتيت به رسول الله ﷺ، فبسق في عينيه فبرأ، وأعطاه الراية، وخرج مرحب مرة ثانية، فقال:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال عليٌّ:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه.
فتم فتح حصن ناعم؛ وهو أول حصن من حصون خيبر يفتحه المسلمون.
وقُتِلَ عنده محمود بن مسلمة ﭬ؛ ألقت عليه منه امرأةٌ رحى [حجر الطاحونة] فقتلته.
وكانت غطفان قد سمعت بمنزل رسول الله ﷺ بخيبر، فجمعوا له، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه، حتى إذا ساروا مرحلة سمعوا خلفهم في أموالهم حِسًّا، فظنوا أن المسلمين قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أهلهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله ﷺ وبين خيبر.
وفتح النبي ﷺ حصن القَموص، حصن بني أبي الحُقيق، وأصاب رسول الله ﷺ منهم سبايا، منهن صفية بنت حُيَيِّ بن أخطب، وكانت عند كِنانة بن الربيع بن أبي الحُقيق، وبنتي عم لها، فاصطفى رسول الله ﷺ صفية لنفسه.
ثم فتح رسول الله ﷺ حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا منه.
ولما افتتح رسول الله ﷺ من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسُّلَالم، وكان آخر حصون أهل خيبر افتتاحًا.
فلما افتتح النبي ﷺ خيبر تصالح مع أهلها؛ حيث أراد النبي ﷺ إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله ﷺ أن يُقِرَّهم بها على أن يَكْفُوا المسلمين عملها، ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله ﷺ: «نُقركم بها على ذلك ما شئنا».
فكان الصلح مع يهود خيبر مشروطًا بإخراجهم إذا شاء المسلمون ذلك.
ولذلك أخرجهم عمر ﭬ في إمارته، وقال: أيها الناس إن رسول الله ﷺ كان عامل يهود خيبر على أنا نُخْرَجهم إذا شئنا، وإني مُخْرِج يهود، فَأَخْرَجَهُم.
وكان سبب إخراجهم أنهم اعتدوا على عبد الله بن عمر ﭭ عندما ذهب إلى ماله هناك ليلًا، فقام عمر ﭬ خطيبًا، فقال: إن رسول الله ﷺ عامل أهل خيبر على أموالهم، وقال: نُقِركم ما أقركم الله؛ وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فَتُعُدِّيَ عليه من الليل فَفُدِعَتْ يداه ورجلاه([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))، وليس لنا هناك عدو غيرهم، هم عدونا وتهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم؛ فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني أبي الحُقيق، فقال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد ﷺ وعَامَلَنا على الأموال وشرط ذلك لنا؟ فقال عمر: أظننت أني نسيت قول رسول الله ﷺ لك: «كيف بك إذا أُخْرِجْتَ من خيبر تعدو بك قَلُوصُكَ([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2)) ليلة بعد ليلة»، فقال: كانت هذه هُزَيْلَة [ضد الجِدِّ] من أبي القاسم، فقال: كذبت يا عدو الله، فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالًا وإبلًا وعُرُوضًا وغير ذلك.
وقد قدم على النبي ﷺ وهو بخيبر بعدما افتتحها مهاجرو الحبشة، ومعهم أبو موسى الأشعري ومن جاء معه من قومه، وقدم أيضًا أبو هريرة وقومه، فكلَّم النبي ﷺ المسلمين فأشركوهم في الغنائم.
([1])الفدع: هو زوال المفصل. وأخرج البخاري حديثًا مُعَلَّقًا: أنهم ألقوه من فوق بيت ففدعوا يديه.
([2])القَلوص -بفتح القاف-: الناقة الصابرة على السير، وقيل: الشابة، وفي ذلك إشارة من النبي ﷺ إلى إخراجهم من خيبر، وكان ذلك من إخباره بالغيبيات قبل وقوعها.
محمد طه شعبان
2016-11-28, 11:35 AM
الدرس التاسع والثلاثون
يهودية تسُمُّ النبي ﷺ
قامت زينب بنت الحارث زوج سلام بن مشكم اليهودية بإهداء شاة مشوية مسمومة إلى النبي ﷺ، وقد سألت: أي عضو أحب إلى رسول الله ﷺ؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السُّمِّ، ثم سَمَّتْ سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله ﷺ، تناول الذراع، فلاك منها مضغة، فلم يُسِغْها [لم يبلعها]، ومعه بِشْر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله ﷺ، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله ﷺ فلفظها، ثم قال ﷺ لأصحابه: «ارفعو أيديَكم؛ إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم»، فقال رسول الله ﷺ: «اجمعوا لي من كان ها هنا من اليهود»، فجمعوا له، فقال لهم رسول الله ﷺ: «إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقيَّ عنه؟»، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله ﷺ: «مَنْ أبوكم؟»، قالوا: أبونا فلان، فقال رسول الله ﷺ: «كذبتم، بل أبوكم فلان»، فقالوا: صَدَقْتَ وبَرِرْتَ، فقال: «هل أنتم صادقيَّ عن شيء إن سألتكم عنه؟»، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، قال لهم رسول الله ﷺ: «مَنْ أهل النار؟»، فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تَخْلُفُوننا فيها، فقال لهم رسول الله ﷺ: «اخسئوا فيها، والله لا نَخْلُفُكُم فيها أبدًا»، ثم قال لهم: «فهل أنتم صادقيَّ عن شيء إن سألتكم عنه؟»، قالوا: نعم، فقال: «هل جعلتم في هذه الشاة سُمًّا؟»، فقالوا: نعم، فقال: «ما حملكم على ذلك؟»، فقالوا: أردنا إن كنت كذابًّا نستريح منك، وإن كنت نبيًّا لَمْ يضرك.
فسأل النبي ﷺ المرأة عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك، فقال ﷺ: «ما كان الله لِيُسَلِّطُكِ عليَّ».
فرفض النبي ﷺ قتلها في أول الأمر، ثم إن بشر بن البراء بن معرور مات عن جراء ما أكل من السُّمِّ، فأمر بها رسول الله ﷺ فَقُتِلَتْ به.
وكان هذا السُّمُّ من أسباب مرض النبي ﷺ مرض الوفاة، وكان رسول الله ﷺ يقول لعائشة في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة، ما أزال أجد أَلَمَ الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أَبْهَرِي من ذلك السم».
والْأَبْهَرُ عرق متصل بالقلب؛ فإذا انقطع مات الإنسان.
محمد طه شعبان
2016-12-05, 10:02 AM
الدرس الأربعون
غزوة ذات الرقاع
عن أبي موسى الأشعري ﭬ قال: خرجنا مع النبي ﷺ في غزوة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فَنَقِبَتْ أقدامنا، ونَقِبَتْ قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا نَلُفُّ على أرجلنا الخِرَقَ، فَسُمِّيَتْ غزوة ذات الرقاع؛ لِمَا كنا نَعْصِبُ من الخِرَقِ على أرجلنا.
وكانت هذه الغزوة في السنة السابعة بعد خيبر، حيث خرج النبي ﷺ لمحاربة مُحَارِب وثعلبة من غَطَفَانَ، وقد صلى النبي ﷺ في هذه الغزوة صلاة الخوف.
حيث صلى النبي ﷺ فصفت طائفة معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم ثم سلَّم بهم.
فلقي النبيُّ ﷺ بذات الرقاع جمعًا عظيمًا من غطفان، فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضًا، فصلى رسول الله ﷺ بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف بالناس.
فلما رجع رسول الله ﷺ من الغزوة أدركتهم القائلة في واد كثير الشجر، فنزل رسول الله ﷺ، وتفرَّق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله ﷺ تحت شجرة فعَلَّق بها سيفه، فجاء رجل منهم يقال له: غَوْرَث بن الحارث، حتى قام على رسول الله ﷺ بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال ﷺ: «الله عز وجل»، فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله ﷺ، فقال: «من يمنعك مني؟»، قال الرجل: كن كخير آخذ، فقال ﷺ: «أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله»، قال الرجل: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلَّى رسول الله ﷺ سبيلَه، فأتى الرجل قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس.
وفي هذه الغزوة نزلت آيةُ التيمم.
عن عائشة ڤ قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش [موضعان متقاربان على بُعد 20 كم من المدينة] انقطع عِقْد لي، فأقام رسول الله ﷺ على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت رسولَ الله ﷺ والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله ﷺ واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حَبَسْتِ رسول الله ﷺ والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال: ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله ﷺ على فخذي، فقام رسول الله ﷺ حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فقال أُسَيْد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العِقْد تحته.
محمد طه شعبان
2016-12-07, 09:20 AM
الدرس الحادي والأربعون
عمرة القضاء
وفي ذي القعدة من السنة السابعة توجه النبي ﷺ إلى مكة معتمرًا كما اتفق مع مشركي مكة يوم الحديبية أن يرجع إلى المدينة عامه هذا على أن يُخَلُّوا بينه وبين البيت عام قابل.
فخرج النبي ﷺ، حيث اتفقوا أن لا يدخل مكة بالسلاح إلا بالسيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يَتْبَعَهُ، وأن لا يمنع من أصحابه أحدًا إن أراد أن يقيم بها، وأن لا يُقيم بها أكثر من ثلاثة أيام.
فسار النبي ﷺ حتى دخل مكة وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه، وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربًا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله ﷺ وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال له رسول الله ﷺ: «خَلِّ عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النَّبْلِ».
وطاف المسلمون بالكعبة، وصعد المشركون على جبل قُعَيْقِعَان المواجه لِمَا بين الركنين من الكعبة، حيث أشاعوا أن المسلمين ضعفاء ولن يستطيعوا الطواف بالبيت وتأدية المناسك.
وكان المشركون قد قالوا: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي ﷺ أن يَرْمُلوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرمُلوا الأشواط كلها إلا الإبقاءُ عليهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا.
وكذلك أمر النبي ﷺ أصحابه أن يرملوا بين الصفا والمروة لِيُرِيَ المشركين قوته.
وكان الصحابة ﭫ يسترون رسول الله ﷺ من غلمان المشركين خشية أن يؤذوه.
فلما مضى الأجل أتى المشركون عليًّا، فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل فخرج النبي ﷺ.
وتبعته ابنة حمزة ﭬ تنادي: يا عم يا عم، فتناولها عليٌّ ﭬ فأخذ بيدها، وقال لفاطمة ڤ: دونك ابنة عمك، فحملتها، فاختصم فيها عليٌّ وزيد وجعفر، قال عليٌّ: أنا أخذتها وهي بنت عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد ابنة أخي، فقضى بها النبي ﷺ لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأم»، وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا».
فكانت تلك العمرة هي وَعْدُ الله عز وجل الذي وَعَدَ رسولَه ﷺ في قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 27].
رضا الحملاوي
2016-12-07, 05:34 PM
جزاكم الله خيرا حبيبنا الشيخ محمد حفظكم الله .
محمد طه شعبان
2016-12-11, 07:44 AM
جزاكم الله خيرا حبيبنا الشيخ محمد حفظكم الله .
بارك الله فيكم يا دكتور رضا
محمد طه شعبان
2016-12-11, 07:47 AM
الدرس الحادي والأربعون
غزوة مؤتة
أقام النبي ﷺ بالمدينة بعد عمرة القضاء بقية شهر ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، والثاني، وبعث في جمادى الأولى من السنة الثامنة جيشًا إلى الشام، قِوَامه ثلاثة آلاف مقاتل.
وكانت هذه القبائل من بلاد الشام موالية للإمبراطورية الرومية البيزنطية وخاضعة تحت سيطرتها، وكان هذا هو أول احتكاك للمسلمين بهذه الإمبراطورية العظيمة أو لقبائل موالية لها.
وَعَيَّنَ النبيُّ ﷺ زيدَ بن حارثة ﭬ قائدًا للجيش، وقال: إن قُتِلَ زيد فجعفر بن أبي طالب، وإن قُتِلَ جعفر فعبد الله بن رواحة.
ومضى الجيش حتى نزل مَعان من أرض الشام، فبلغ الناس أنَّ هِرَقْلَ قد نزل مآب، من أرض البَلْقَاءَ، في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لَخْمٍ وَجُزَامَ والقَيْن وبَهْرَاءَ وَبَلِيٍّ مائةُ ألف أخرى، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على مَعَان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله ﷺ، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فنمض له، فشجع الناس عبد الله بن رواحة، وقال: يا قوم والله إن التي تكرهون لَلَّتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانْطَلِقُوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة، فقال الناس قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس، حتى إذا كانوا قريبًا من البَلْقَاءَ لقيتهم جموع هِرَقْلَ، من الروم والعرب، بقرية من قرى البَلْقَاءَ يقال لها: مشارف، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فَتَعَبَّأ لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلًا من بني عُذْرة، يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلًا من الأنصار يقال له: عَبَاية بن مالك، ثم التقى الناس واقتتلوا، فقاتل زيدُ بن حارثة براية رسول الله ﷺ حتى استشهد في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى إذا ألحمه([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1)) القتالُ اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، ثم أخذ يقاتل وهو يقول:
يا حَبَّذا الجنةُ واقْترابُها ... طيِّبةً وباردًا شرابُها
والرومُ رومٌ قد دنا عذابُها .. كافرةٌ بعيدةٌ أنسابُها
عليَّ إذ لاقيتُها ضِرابُها
ثم قاتل ﭬ حتى قُتل، ويقال إنه أخذ الراية بيمينه، فقُطِعت يمينه، فأخذها بشماله فقُطِعت، فاحتضنها بعضديه حتى قُتِل ﭬ, فأثابه الله جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء.
ثم أخذ الراية عبدُ الله بن رواحة ﭬ, وتقدَّم بها وهو على فرسه، فجعل يتردَّد بعض الشيء ثم قال:
أقْسَمتُ يا نفسُ لتنزلنَّهْ ... لتَنْزلنْ أوْ لَتُكرهَنَّهْ
إنْ أجْلَبَ الناسُ وشدُّوا الرنَّهْ ... ماليْ أَراكِ تكرهين الجنه
قد طالما قد كنتِ مُطْمئنه ... هل أنتِ إلا نطفة في شَنَّه([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))
وقال أيضًا:
يا نفسُ إلا تُقْتلي تموتي ... هذا حِمامُ الموتِ قد صليتِ
وما تمنَّيت فقد أُعْطيتِ ... إن تفعلي فعلهما هُديتِ
يريد صاحبيه: زيدًا وجعفرًا، ثم نزل، فلما نزل أتاه ابن عم له بعَرْق([3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3)) من لحم فقال: شُدَّ بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذا ما لقيت، فأخذه من يده ثم انتهش منه نهشة، ثم سمع صوت الحرب في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ بسيفه فتقدم، فقاتل حتى قُتِل.
فلما قُتل القوَّاد الثلاثة ﭬ أخذ الراية ثابت بن أرقم ﭬ, ثم قال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأعطى ثابت الراية لخالد وقال: أنت أعلم بالقتال مني.
فلما أخذ الراية دافع وانحاز بالمسلمين حتى انصرف، وكان انسحابًا منظمًا لم يُلحق بالمسلمين خسائر كثيرة، بل لم يستشهد من المسلمين في المعركة كلها سوى ثلاثة عشر صحابيًا فقط، واستحق خالد ﭬ لقب: سيف الله، الذي منحه إياه الذي لا ينطق عن الهوى ﷺ.
وكان النبي ﷺ قد أخبر مَنْ بالمدينة خبر المعركة، ومقتل قادة المسلمين الثلاثة، وأنَّ خالدًا ﭬ أَخَذَ الراية، ثم انسحابه، وكان يُخبرهم بذلك هو يبكي ﷺ وعيناه تَذْرِفَان بالدموع.
عَنْ أَنَسٍ ﭬ قال نَعَى النبي ﷺ زَيْدًا، وَجَعْفَرًا، وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ الله حَتَّى فَتَحَ الله عَلَيْهِمْ».
وهذه من معجزاته ﷺ، حيث أخبر الناس خبر القوم قبل أن يأتيه الرسول بالخبر، وقد سمَّى النبي ﷺ انسحاب خالد ﭬ المنظم بالجيش فتحًا، وإنما ذلك لِمَا أوقعه المسلمون بالروم من خسائر رغم تفوق الروم العددي الكبير.
عن ابْنِ عُمَرَ ﭭ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَعْفَرٍ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ قَتِيلٌ، قال: فَعَدَدْتُ بِهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ لَيْسَ مِنْهَا شَيْء في ظَهْرِهِ.
وقول ابن عمر ﭭ: ليس منها شيء في دبره، فيه بيان شجاعة جعفر وإقدامه ﭬ.
وعن خالد بن الوليد ﭬ قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعةُ أسياف.
وكلام خالد ﭬ يقتضي أن المسلمين قَتَلوا من المشركين كثيرًا.
وجهز النبي ﷺ هذه السرية لتأديب قُضَاعَة، التي غرَّها ما حدث للمسلمين في مؤتة فتجمعت للإغارة على المدينة، فعلم بهم النبي ﷺ فجهز جيشًا قِوَامُهُ ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار بقيادة عمرو بن العاص ﭬ.
ومضى الجيش يسير الليل ويكمن النهار حتى إذا قَرُبَ من القوم بلغه أن لهم جمعًا كثيرًا، فبعث عمرو ﭬ رافع بن مَكِيث الجهني إلى النبي ﷺ يستمده، فبعث إليه النبي ﷺ أبا عبيدة بن الجراح في مائتين فيهم أبو بكر وعمر، وعقد له لواء.
ونزل الجيش على ماء لقبيلة جذام يقال له: السَّلسَال؛ وبذلك سميت ذات السُّلَاسِل.
فحمل المسلون عليهم فهربوا في البلاد، وتفرقوا، وبعث عمرو عوف بن مالك الأشجعي بريدًا إلى رسول الله ﷺ فأخبره برجوعهم وسلامتهم وما كان في غزاتهم.
([1])أَلْحَمَ الرجل واسْتَلْحَمَ: إذا نشب في الحرب فلم يجد له مخلصًا.
([2])أجلب الناس: صاحوا واجتمعوا، والرنة: صوت فيه ترجيع يشبه البكاء، والنطفة: الماء القليل الصافي، والشنة: القربة القديمة.
([3])العَرْق: العظم الذي عليه بعض اللحم.
رضا الحملاوي
2016-12-11, 06:24 PM
جزاك الله خيرا يا شيخ محمد وفقكم الله
طويلب علم مبتدىء
2016-12-11, 10:04 PM
الحمد لله , السيرة الأصلح للبشرية , والذي يمكن للبشرية ان تنال منه سعادة الدارين
على صاحبها افضل الصلاة وازكى السلام
جزاكم الله خيرا
محمد طه شعبان
2016-12-13, 12:09 AM
الحمد لله , السيرة الأصلح للبشرية , والذي يمكن للبشرية ان تنال منه سعادة الدارين
على صاحبها افضل الصلاة وازكى السلام
جزاكم الله خيرا
بارك الله فيك أخي الحبيب، وجزاك خيرًا.
محمد طه شعبان
2016-12-13, 12:10 AM
الدرس الثاني والأربعون
قبل فتح مكة
كما تقدم في صلح الحديبية كان من بنود المعاهدة بين المسلمين والمشركين أنه من أراد أن يدخل في حِلْف المسلمين وعهدهم دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في حِلْف قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي من الفريقين تُعتبر جزءًا من هذا الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يُعتبر عدوانًا على ذلك الفريق، وأن خزاعة دخلت في حلف المسلمين، ودخلت بنو بكر في حلف المشركين.
ثم كان من أمر القبيلتين أنه كان بينهما ثأر قديم قبل تلك المعاهدة، فغدرت بنو بكر بخزاعة ولم تحترم المعاهدة، فوثبوا على خزاعة ليلًا بماء يقال له: الوتير، وهو قريب من مكة، وقالت قريش: ما يعلم بنا محمد وهذا الليل وما يرانا أحد، فأعانوهم عليهم بالسلاح وقاتل معهم من قاتل بالليل مستخفيًا، حتى دخلت خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل بن معاوية - وهو قائد الجيش- إنا قد دخلنا الحرم! إلهك إلهك فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم، ثم قال: يابني بكر أصيبوا ثأركم، فَلَعَمْرِي إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟! ولجأت خزاعة إلى دار بُدَيل بن ورقاء بمكة، وإلى دار مولى له يقال له: رافع.
وركب عمرو بن سالم الخزاعي إلى النبي ﷺ يخبره الخبر، فوقف أمام النبي ﷺ وأنشد يقول:
لاهم إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فانصر هداك الله نصرًا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فقال رسول الله ﷺ: «نصرت يا عمرو بن سالم» وأمر رسول الله ﷺ الناس بالجهاز، وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يُعَمِّيَ على قريش خبره، حتى يَبْغِتَهُم في بلادهم.
ثم خرج بُدَيل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله ﷺ المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة.
ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بِعُسْفَانَ قد بعثته قريش إلى رسول الله ﷺ لِيَشُدَّ العقد، ويَزِيدَ في المدة، وقد خافوا مما صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بُديل بن ورقاء، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ ظن أنه قد أتى رسول الله ﷺ، قال: تسيرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي، قال: أو ما جئت محمدًا؟ قال: لا، فلما راح بُديل إلى مكة، قال: أبو سفيان: لئن كان جاء بُديل المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها فَفَتَّهُ، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدًا.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله ﷺ المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله ﷺ طوته عنه، فقال: يابنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله ﷺ وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله ﷺ، قال: والله لقد اصابك يا بُنَيَّة بعدي شر، ثم خرج حتى أتى رسول الله ﷺ فكلمه، فَلَمْ يَرُدَّ عليه شيئًا، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله ﷺ، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله ﷺ؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر [صغار النمل] لجاهدتكم به، ثم خرج فدخل على عليِّ بن أبي طالب ﭬ وعنده فاطمة بنت رسول الله ﷺ وعندها الحسن بن عليِّ غلام صغير، فقال: يا عليُّ إنك أَمَسُّ القوم بي رَحِمًا، وإني جئت في حاجة فلا ترجعني كما جئت خائبًا، فاشفع لي إلى رسول الله ﷺ فقال: ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله ﷺ على أمر ما تستطيع أن تكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابنة محمد هل لك أن تأمري بُنَيَّكِ هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بُنَيَّ ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله ﷺ, قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت عليَّ فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئًا يُغني عنك شيئًا, ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيًا عني شيئًا؟ قال: لا والله ما أظنه ولكني لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق، فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدًا فكلمته، فوالله لم يَرُدَّ عليَّ شيئًا، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد منه خيرًا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى العدو، ثم جئت عليًّا فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليَّ بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئًا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال أمرني أن أجير بين الناس ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك! والله إنْ زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت، قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.
فلما عزم النبي ﷺ على المسير إلى قريش لمحاربتهم أرسل حاطب بن أبي بلتعه ﭬ كتابًا إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله ﷺ إليهم.
فأَخبر اللهُ تعالى رسولَه ﷺ بخبر المرأة التي معها الكتاب، فأرسل النبي ﷺ إليها عليَّ بن أبي طالب والزبير بن العوام والمقداد بن عمرو ﭫ، فقال:«انطلقواحت تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها»، قال عليٌّ: فانطلقنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، فقلنا: لَتُخْرِجَنَّ الكتاب أو لَنُلْقِيَنَّ الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها [ضفائرها]، فأتينا به رسول الله ﷺ فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: «يا حاطب ما هذا؟»، قال حاطب: يا رسول الله لا تعجل عليَّ؛ إني كنت امرأ حليفًا لقريش، ولم أكن من أنفسها، وكان مَنْ معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببتُ إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، وقد علمتُ أنَّ الله مُظْهِرَ رسوله ومتم له أمره فقال رسول الله ﷺ: «أما إنه قد صدقكم»، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضربْ عنق هذا المنافق، فقال ﷺ: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على مَنْ شهد بدرًا، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
فعذره رسولُ الله ﷺ وعفا عنه.
محمد طه شعبان
2017-01-15, 05:08 PM
الدرس الثالث والأربعون
فتح مكة
خرج النبي ﷺ من المدينة في رمضان من العام الثامن من الهجرة، ومعه عشرة آلاف مقاتل، فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة.
وقد تكتم النبي ﷺ الخبر وحرص على السرية التامة، حتى لا يصلُ الخبرُ لقريش فيستعدوا له.
عن عائشة ڤ أن أبا بكر دخل عليها وهي تغربل حنطة، فقال: ما هذا؟ أمركم رسول الله ﷺ بالجهاز؟ قالت: نعم، فَتَجَهَّزْ، قال: وإلى أين؟ قالت: ما سمى لنا شيئًا، غير أنه قد أمرنا بالجهاز.
واستخلف النبي ﷺ على المدينة أبا رُهْمٍ كُلْثُومَ بنَ حُصَين بنِ عتبة بن خَلَفٍ الغِفَاري.
وجاء العباس بن عبد المطلب بعياله من مكه مهاجرًا إلى المدينة، فالتقى بالنبي ﷺ بالجحفة؛ وقد كان قبل ذلك مقيمًا بمكة على سِقَاية الحجيج، ورسول الله ﷺ عنه راض؛ فقد كان مسلمًا قبل فتح مكة على الصحيح.
وعلمت قريش بخروج رسول الله ﷺ، فخرج أبو سفيانَ بنُ حرب، وحكيم بنُ حِزام، وبُدَيل بنُ ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله ﷺ، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مَرَّ الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عرفة، فقال بُديل بن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله ﷺ فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله ﷺ فأسلموا.
فقال العباس ﭬ: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا، فقال ﷺ: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»، قال: فتفرق الناس إلى دُورهم وإلى المسجد.
فقال النبي ﷺ للعباس ﭬ: «احبس أبا سفيان عند خَطْمِ الجبل [أي:طَرَفَهُ] حتى ينظر إلى المسلمين»، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي ﷺ، تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان، فمرت كتيبة، قال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غِفار، قال: ما لي ولغفار، ثم مرت جهينة، قال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم، فقال مثل ذلك، ومرت سُليم، فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم يُرَ مثلُها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس حبَّذا يوم الذِّمَار [الهلاك]، ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب، فيهم رسول الله ﷺ وأصحابه، وراية النبي ﷺ مع الزبير بن العوام، فلما مَرَّ رسول الله ﷺ بأبي سفيان، قال أبو سفيان: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال رسول الله ﷺ: «ما قال؟»، قال: كذا وكذا، فقال: «كذب سعد، ولكن هذا يوم يُعَظِّمُ الله فيه الكعبة، ويوم تُكسى فيه الكعبة».
ثم جهز النبي ﷺ جيشه استعدادًا لدخول مكة، فَقَسَّمَ الجيش، وجعل خالدَ بنَ الوليد على المجنبة اليمنى، والزبير بن العوام على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة بن الجراح على الرِّجَالَة الذين هم في آخر الجيش.
ثم أمر النبي ﷺ أبا هريرة أن يجمع له الأنصار، فجاءوا يهرولون، فقال النبي ﷺ: «يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش؟» [أي: جموعهم]، قالوا: نعم، قال: «انظروا إذا لقيتموهم غدًا أن تحصدوهم حصدًا».
ثم أمر النبي ﷺ خالد بن الوليد أن يأخذ بطن الوادي أسفل مكة، وقام بتوزيع الزبير بن العوام وأبا عبيدة ﭭ.
وسار النبي ﷺ ناحية جبل كداء بأعلى مكة، وواعدهم أن يوافوه عند جبل الصفا، وقال: «موعدكم الصفا».
يقول أبو هريرة ﭬ: فانطلقنا، فما شاء أحد منا أن يقتل أحدًا إلا قتله، وما أحد منهم يوجه إلينا شيئًا.
ودخل النبي ﷺ مكة فاتحًا منتصرًا دون أدنى مقاومة تُذكر، وكان على رأسه المغفر، [واقي الرأس، الذي يلبسه الفرسان في الحروب] وكانت راية النبي ﷺ حين دخوله سوداء، ولواؤه أبيض، ودخل النبي ﷺ من أعلى مكة على ناقته، وهو يقرأ سورة الفتح يُرَجِّعُ، وكان مُرْدِفًا أسامةَ بنَ زيد، ومعه بلال، ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة [الذين معهم مِفتاح الكعبة]، حتى أناخ النبي ﷺ في المسجد، فأمر عثمانَ بنَ طلحة أن يأتي بمفتاح البيت، فدخل رسول الله ﷺ ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فمكث فيها نهارًا طويلًا، ثم خرج، فاستبق الناس، وكان عبد الله بن عمر ﭭ أولَ من دخل، فوجد بلالًا وراء الباب قائمًا، فسأله: أين صلى رسول الله ﷺ؟ قال: جعل عمودين عن يساره، وعمودًا عن يمينه، وثلاثةَ أعمدة وراءه - وكان البيتُ يومئذ على ستةِ أعمدةٍ - ثم صلى.
وقام النبي ﷺ بالدعاء في نواحي الكعبةِ كلِّها.
ولم يدخل النبي ﷺ البيتَ، ولم يُصَلِّ فيه إلا بعد أن طهره من كل مظاهر الشرك، من أوثان وصور وغير ذلك.
فأمر النبي ﷺ بتحطيم الأصنام، وتطهير البيت الحرام منها، وشارك هو بنفسه في ذلك.
وكان حول البيت ستون وثلاثُ مئةِ صنم، فجعل النبي ﷺ يطعنها بعود في يده، ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا، جاء الحق وما يُبدئ الباطل وما يُعيد».
وأمر النبي ﷺ بالأصنام فَكُبَّتْ على وجوهها.
ولما أراد النبي ﷺ دخول الكعبة رأى فيها صور إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ومريم وقد جعلوا في يد إبراهيم الأزلام يستقسم بها([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))، فقال رسول الله ﷺ: «قاتلهم الله، ما كان إبراهيمُ يستقسم بالأزلام» ثم دعا رسول الله ﷺ بزعفران فلطخه بتلك التماثيل؛ وبَلَّ عمرُ بن الخطاب ﭬ ثوبًا ومحاها به، فلم يدخلها النبي ﷺ حتى مُحِيَتْ كُلُّ صورة فيها.
ووقف النبي ﷺ على دَرَجِ الكعبة فخطب الناس وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفيها بين كتفيه؛ فحَمِد اللهَ وأثنى عليه، فقال: «الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده، ألا إنَّ كل مَأْثُرَةٍ في الجاهلية تُذكر وتُدعى من دم أو مال تحت قدميَّ، ألا إن دية الخطإ شبه العمْد، ما كان بالسوط والعصا مئة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها».
وعن أبي هريرة ﭬ أن خزاعة قتلوا رجلًا من بني ليث، عام فتح مكة، بقتيل منهم قتلوه، فأُخبر بذلك رسولُ الله ﷺ فرَكِب راحلته فخطب، فقال: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلَّط عليهم رسولَه والمؤمنين، ألا وإنها لم تَحِلَّ لأحد قبلي، ولم تَحِلَّ لأحد بعدي، ألا وإنها حَلَّت لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام، لا يُخبط شوكُها، ولا يُعْضَدُ شجرُهَا [لا يُقطع]، ولا تُلْتَقَط ساقطتها إلا لِمُنْشد، ومن قُتِلَ له قتيل فهو بخير النظرين»؛ [أي: إما أن يَقبل الدية، وإما أن يُقاد من القاتل]، فجاء رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاة، فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال ﷺ: «اكتبوا لأبي شاة».
وعن أبي شُرَيْحٍ العدوي أن النبي ﷺ خطب يوم الغد من فتح مكة، فحَمِد اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناسُ، فلا يَحِلُّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الأخر أن يسفك بها دمًا، ولا يُعْضَدُ بها شجرة، فإنْ أحد ترخص لقتال رسول الله ﷺ فيها: فقولوا له: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعةً من نهار، ثم عادت حرمتُها اليوم كحرمتها بالأمس، ولْيُبَلِغِ الشاهدُ الغائبَ».
وقال النبي ﷺ: «لا تُغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة».
ثم مضى النبي ﷺ حتى أتى الصفا حيث واعد قادةَ جَيشِهِ هناك، فلما أتى الصفا علا عليه حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه فجعل يَحْمَدُ الله، ويدعو بما شاء أن يدعوا، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أُبِيدَتْ خضراءُ قريش [أي: جماعتهم]، لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله ﷺ: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن»، فأقبل الناسُ إلى دار أبي سفيان وأغلق الناسُ أبوابهم.
فقالت الأنصار: أما الرجل فقد أخذته رأفةٌ بعشيرته، ورغبةٌ في قريته.
وجاء الوحيُ رسولَ الله ﷺ فلما انقضى الوحي قال رسول الله ﷺ: «يا معشر الأنصار»، قالوا: لبيك يا رسول الله، قال: «قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته»، قالوا: قد كان ذلك، قال: «كلا إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم»، فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا إلا ضَنًّا بالله ورسوله [أي: حرصًا عل وجودك عندنا ومصاحبتك؛ فالضَّنُّ بالشيء: الحرص عليه]، فقال ﷺ: «إن الله ورسوله يُصَدِّقَانِكُم ْ، ويَعْذِرَانِكُم ْ».
ورغم أن النبي ﷺ أَمَّنَ أهل مكة جَمِيعَهُمْ إلا أنه ﷺ استثنى ستة نفر، أهدر دماءهم.
عن سعد بن أبي وقاص ﭬ قال: لما كان يومُ فتحِ مكة أَمَّنَ رسولُ الله ﷺ الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلِّقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بنُ خَطَل، ومِقْيَسُ بنُ صُبَابَة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح؛ فأما عبد الله بن خَطَل فأُدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث، وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عمارًا فقتله، وأما مِقْيَسُ بن صُبابة، فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة فركب البحر، فأصابتهم عاصفة، فقال أصحاب السفينة: أَخْلصوا فإن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئًا هاهنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاصُ، لا ينجني في البَرِّ غيرُه، اللهم إن لك عليَّ عهدًا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدًا حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عَفُوًّا كريمًا، فجاء إلى النبي ﷺ فأسلم، وأما عبد الله بن أبي السرح، فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله ﷺ الناس إلى البيعة جاء عثمانُ به حتى أوقفه على النبي ﷺ قال: يا رسول الله بَايعْ عَبد الله، فرفع رسول الله ﷺ رأسه، فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل ﷺ على أصحابه، فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟!»، فقالوا: وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك؟ هلَّا أومأت إلينا بعينك؟ قال: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنةُ الأعين».
ثم بايع النبي ﷺ أهلَ مكة على الإسلام والجهاد في سبيل الله.
([1])الأزلام: مفردها زَلْم، بفتح الزاي أو ضمها، وهي الرماح، فكان أهل الجاهلية إذا كان الواحد منهم مقبلًا على أمر مهم جاء برماح ثلاثة مكتوب على أحدها: (افعل)، والآخر (لاتفعل)، والثالث ليس عليه شيء، أو مكتوب على أحدها: (أمرني ربي)، والآخر (نهاني ربى)، والثالث ليس عليه شيء، ثم وضعها في شيء، ثم يمد يده فيخرج أحدها، فإذا خرج سهم الأمر، فعله، وإذا خرج سهم النهي، تركه، وإن طلع الفارغ، أعاد، والاستقسام: مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام.
محمد طه شعبان
2017-01-18, 09:28 AM
الدرس الرابع والأربعون
غزوة حنين
وفي شوال من العام الثامن من الهجرة كانت غزوة حنين.
هوازن قبيلة عربية شهيرة من عرب الشمال، فهي مُضرية عدنانية، تفرعت منها فروع كثيرة منها: ثقيف، وقد استقرت ثقيف في مدينة الطائف الحصينة وما حولها.
وفي ديار ثقيف كانت تقام أسواق العرب في الجاهلية، منها سوق عُكاظ الشهير بين نخلة والطائف، حيث تتم البيوع والمقايضات التجارية، وتُعقد الندوات الأدبية والشعرية، ومنها: سوق ذي المَجاز قُرْبَ عرفات على بُعد 5كم منها من جهة الطائف، وسوق مِجَنَّة بِمَرِّ الظهران التي تبعد عن الطائف، وتقرب من مكة.
ولا شك أن الثقفيين كانوا يستفيدون فوائد عظيمة من أسواق العرب هذه سواء في تجارتهم وتصريف نتاجهم الزراعي حيث يمتلكون بساتين الأعناب والرمان والخضروات، أوفي رُقِيِّهِم الأدبي وَتَفَتُّحِ مَدَارِكِهِمْ حيث التلاقح الثقافي في هذه اللقاءات الموسمية المنظمة وحيث يقومون بالوساطة في التجارة الخارجية بين الشام واليمن من ناحية وسكان البوادي من ناحية أخرى.
وقد تشابكت مصالح ثقيف وهوازن مع مصالح قريش تشابكًا وثيقًا بحكم الجوار، فمكة والطائف قريبتان من بعضهما بينهما 90 كم فقط، وكان القرشيون يصطافون بالطائف، ويمتلكون فيها البساتين والدور حتى سُمَّيت الطائف (بستان قريش)، وقد وطَّد هذه العلاقات ما كان بين قريش وهوازن من صِلَاتٍ نَسَبِيَّة قديمة تُوَثِّقُهَا المصاهرات المتجددة فكلاهما من مُضر الذي هو الجد السادس لهوازن والسابع أو الخامس لقريش.
وإن نظرة إلى كتب معرفة الصحابة يمكن أن توضح تشابك العلاقات بين قريش وهوازن نتيجة المصاهرات الكثيرة بين القبلتين، ولتوثيق هذه الصلات نجد أن عروة بن مسعود الثقفي كان رسولًا لقريش إلى المسلمين في الحديبية.
فلا غرابة وقد تشابكت علاقة قريش وهوازن بهذا الوثوق أن تقف هوازن مع قريش في صراعها ضد المسلمين منذ المرحلة المكية، وأن يئول إليها حمل الراية ضد الإِسلام بعد فتح مكة؛ لتملأ الفراغ، إثر سقوط قريشٍ مُعَسْكرِ الشرك في الجزيرة العربية.
فمنذ أن لجأ رسول الله ﷺ إلى ثقيف في الطائف يدعوهم بدعوة الإسلام، ثم يطلب منهم بعد رفضهم دعوته أن يكتموا ذلك، أبوا إلا أن يُظْهِروا العداء الصريح، وأمروا صبيانهم فرشقوه بالحجارة؛ فإن قريشًا وهوازن أمرهم واحد، فمن خرج على قريش ودينها ومصالحها فقد خرج على دين هوازن وهدد مصالحها.
ويبدو أن عدم اشتراك ثقيف في الأحداث التي جرت حتى فَتْح مكة يرجع إلى اعتمادها على قريش وضعف تصورها لحقيقة القوة الإِسلامية.
فلما سمعت هوازن برسول الله ﷺ وما فَتَح الله عليه من مكة، جمعها مَلِكُهَا مالك بن عوف النصري، واجتمع إليه مع هوازن ثقيفٌ كلها، واجتمعت مُضر وجُشَم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، وفي جُشَم دريد بن الصِّمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا رأيه ومعرفته بالحرب، وكان قد عمي، وكان شيخًا مُجَرِّبًا، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري، فلما أجمع مالك بن عوف المسيرَ إلى رسول الله ﷺ ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمة، فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نِعْم مجال الخيل، لا حَزْنٌ ضرس، ولا سهل دَهْس، مالي أسمع رُغاءَ البعير، ونِهَاقَ الحمير، وبكاءَ الصبي، ويُعارَ الشاء؟! قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم، قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك، وَدُعِيَ له، قال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟! قال: سقت مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم، قال: ولِمَ؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال دريد: راعي ضأن والله! هل يَرُدُّ المنهزمَ شيءٌ؟! إنها إن كانت لك لم ينفعْك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فُضحت في أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلَتْ كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحدُّ والجدُّ [الحد: النشاط والسرعة والمضاء في الأمور]، لو كان يوم عَلَاءٍ ورفعة لم تَغِبْ عنه كعب ولا كلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، قال: فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من عامر [الجذع: الشاب]، لا ينفعان ولا يضران، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضةِ بيضةِ هوازن إلى نحور الخيل شيئًا، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعُليا قومهم، ثم الق الصُّباة على متون الخيل، فإن كانت لك، لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك، قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لَتُطِيعَنَّنِي يا معشر هوازن أو لأتكئنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا: أطعناك، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنِي؛ ثم أنشد يقول:
يا لَيتَني فيها جَذَعْ
أَخُبُّ فيها وَأَضَعْ
أَقودُ وَطفاءَ الزَمَعْ
كَأَنَّها شاةٌ صَدَعْ([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فأكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد.
تجهيز جيش المسلمين:
ولما سمع بهم رسول الله ﷺ بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبي حدرد، فدخل فيهم، فأقام فيهم، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله ﷺ، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه، فأقبل حتى أتى رسول الله ﷺ فأخبره الخبر.
فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ الله ﷺ السَّيْرَ إلَى هَوَازِنَ، وقام ﷺ بتجهيز جيشه المكون من اثنى عشر ألفًا، العشرة آلاف الذين فتحوا مكة، وألفان من الطلقاء، وهو أكبر جيش للمسلمين في حياة النبي ﷺ، واستعمل رسولُ الله ﷺ عَتَّاب بن أسيد على مكة.
فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ الله ﷺ السّيْرَ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ عِنْدَ صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا- وكان صفوان لا يزال مُشْرِكًا، فَقَالَ رسول الله ﷺ: «يا صفوان هل عندك سِلَاح»؟ قَالَ: عارية أَم غَصْبًا؟ قَالَ: «لا بَلْ عَارِيَةٌ»، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعًا.
فخرج النبي ﷺ من مكة خامس شوال.
ووصلوا إلى حنين في مساء العاشر من شوال.
وجاء رجل، فقال: يا رسول الله، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة آبائهم بظُعُنِهِم ونَعَمِهِمْ وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله ﷺ، وقال: «تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله».
ثم نام جيش المسلمين، وقال رسول الله ﷺ: «مَنْ يَحْرُسُنَا الليْلَةَ؟»، قال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله, قال: «فاركب»، فركب فرسًا له، وجاء إلى رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ: «استقبل هذا الشِّعب حتى تكون في أعلاه، ولا نُغَرَّنَّ من قِبَلِكَ الليلة»، فلما أصبحوا خرج رسول الله ﷺ إلى مصلاه فركع ركعتين، ثم قال: «هل أحسستم فارسكم؟»، قالوا: يا رسول الله ما أحسسناه، فَثُوِّب بالصلاة، فجعل رسول الله ﷺ يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلم، قال: «أبشروا فقد جاءكم فارسكم»، فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله ﷺ، وقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب، فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحدًا، فقال له رسول الله ﷺ: «هل نزلت الليلة؟»، قال: لا، إلا مصليًّا أو قاضيًا حاجة، فقال له رسول الله ﷺ: «قد أَوْجَبْتَ، فلا عليك أن لا تعمل بعدها».
بداية المعركة:
خرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين، فسبق رسولَ الله ﷺ إليها، فأعدوا وتهيأوا في مضايق الوادي وأجنابه، وأقبل رسول الله ﷺ وأصحابُه، وقد أعجبت بعضَ المسلمين كثرتُهم، فحمل المسلمون على المشركين في أول المعركة فهزموهم، وفر المشركون من الميدان، فانكب المسلمون على الغنائم يجمعونها، فاستقبلهم رماة المشركين بالسهام، فثارت في وجوه المسلمين الخيل، فشدت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين، ورسول الله ﷺ على بغلته البيضاء، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله ﷺ، والعباس آخذ بلجام بغلته، يكفها عن الجري، فقال رسول الله ﷺ: «أي عباس ناد أصحاب السَّمُرَة»([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))، قال العباس - وكان رجلًا صَيِّتًا-: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار، يقول: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج.
وكان الذين ثبتوا مع النبي ﷺ في أول الأمر لا يتعدون المئة، منهم رهط من أهله؛ منهم علي بن أبي طالب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأخوه ربيعة، والفضل بن العباس- وقيل: الفضيل بن أبي سفيان-، وأيمن بن أم أيمن، وأسامة بن زيد، وقُثَم بن العباس، ورهط من المهاجرين منهم: أبو بكر وعمر، والنبي ﷺ يدعوهم ويقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، اللهم نزل نصرك»، فاستجاب الله عز وجل لرسوله ﷺ، واجتمع المسلمون مرة أخرى، والنبي ﷺ يقول: «اللهم إنك إنك تشأ أن لا تعبد بعد اليوم»، ويقول: «أين أيها الناس؟ هَلُمَّ إليَّ، أنا رسول الله، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله».
واستعاد المسلمون توازنهم، ونظموا صفوفهم، فنظر رسول الله ﷺ وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال رسول الله ﷺ: «هذا حين حمي الوطيس»، ثم أخذ رسولُ الله ﷺ حصياتٍ فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: «انْهَزَموا وربِّ محمد»، يقول العباس ﭬ: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حَدَّهُمْ كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ مدبرًا، قال العباس: وكأني أنظر إلى النبي ﷺ يركض خلفهم على بغلته.
وقد أنزل الله عز وجل جندًا من السماء لإعانة المسلمين على عدوهم؛ يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)﴾ [التوبة: 25 - 27].
فانتصر المسلمون وانهزمت هوازن هزيمة نكراء.
فلما انهزمت هوازن ذهبت فرقة منهم، فيهم الرئيس مالك بن عوف النصري فلجئوا إلى الطائف فتحصَّنوا بها، وتوجَّهت بَنُو غِيَرَةَ من ثقيفٍ نحو نخلة، وسارت فرقة فتحصنوا بمكان يقال له: أوطاس، فبعث إليهم رسول الله ﷺ سريةً من أصحابه عليهم أبو عامر الأشعري، فقاتلوهم وانتصر المسلمون.
وكان قائد المشركين في أوطاس دُريد بن الصِّمة، فقتله المسلمون.
([1])الجذع: الشاب، والوطفاء: طويلة الشعر، والزمع: الشعر فوق مربط قيد الدابة؛ يريد فرسًا صفتها هكذا، وهو محمود في وصف الخيل.
([2])أصحاب السَّمُرَةِ: هم أصحاب البيعة تحت الشجرة, وكانت شجرة سمر.
محمد طه شعبان
2017-01-18, 09:31 AM
الدرس الخامس والأربعون
غزوة الطائف
بعد أن شتت المسلمون هوازن وتعقبوها في نخلة وأوطاس، اتجهوا إلى مدينة الطائف التي تحصنت فيها ثقيف ومعهم مالك بن عوف النصري قائد هوزان.
وكانت الطائف تمتاز بموقعها الجبلي وبأسوارها القوية وحصونها الدفاعية، وليس إليها منفذ سوى الأبواب التي أغلقتها ثقيف بعد أن أدخلت من الأقوات ما يكفي لسنة كاملة، وهيأت من وسائل الحرب ما يكفل لها الصمود طويلًا، وكان وصول المسلمين إلى الطائف في حدود العشرين من شوال دون أن يستجم الجيش طويلًا من غزوة حنين وسرايا نخلة وأوطاس التي بدأت في العاشر من شوال واستغرقت أكثر من أسبوع.
وقد حاصر المسلمون الطائف بضع عشرة ليلة.
وحاول النبي ﷺ اقتحام الحصن بالدبابات، والمنجنيق([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))، فلم يستطع المسلمون اقتحام الحصن، فأمر النبي ﷺ برميهم بالسهام، وشجع المسلمين على ذلك.
فعَنْ أبي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ ﭬ قَالَ: حَاصَرْنَا مَعَ رَسُولِ الله ﷺ بِحِصنِ الطَّائِفِ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ: «مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ في سَبِيلِ الله عَزَّ وجَلَّ فَلَهُ دَرَجَةٌ»([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2)).
وفي أثناء الحصار نزل نفر من رقيق الطائف، فأعتقهم رسول الله ﷺ وكان منهم أبو بكرة ﭬ.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﭭ قَالَ: أَعْتَقَ رَسُولُ الله ﷺ يَوْمَ الطَّائِفِ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ عَبِيدِ الْمُشْرِكِينَ([3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3)).
وعنه أيضًا ﭬ قال: حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَهْلَ الطَّائِفِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدَانِ، فَأَعْتَقَهُمَا ، أَحَدُهُمَا أَبُو بَكْرَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعْتِقُ الْعَبِيدَ إِذَا خَرَجُوا إِلَيْهِ([4] (http://majles.alukah.net/#_ftn4)).
ثم أمر رسول الله ﷺ بفك الحصار.
فَعَنْ عبد الله بن عُمَرَو ﭭ قَالَ: لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ الله ﷺ أهل الطَّائِف فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيئًا، فقَالَ: «إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ الله»، قال أصحابه: نرجِع ولم نفتحه، فَقَالَ لهم رسول الله ﷺ: «اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ»، فَغَدَوْا عليه، فَأصَابَهُم جِرَاحٌ، فَقَالَ لهم رسول الله ﷺ: «إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا»، قال: فَأَعْجَبَهُمْ ذلك، فَضَحِكَ رسول الله ﷺ([5] (http://majles.alukah.net/#_ftn5)).
وبعدما فك رسول الله ﷺ الحصار عن الطائف، وعاد قافلًا إلى مكة نزل بالجِعِرَّانة، فقدم عليه وفود هوازن قد أسلموا فردَّ عليهم أسراهم؛ وكان مع رسول الله ﷺ من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء، ومن الإبل والشاء مالا يُدرى ما عددُه.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص ﭭ أن وفد هوازن أتوا رسول الله ﷺ وهو بالجِعِرَّانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامْنُن علينا، مَنَّ الله عليك، قال: وقام رجل من هوازن، يقال له: زهير يكنى أبا صُرَد، فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنَّ يكفُلْنك([6] (http://majles.alukah.net/#_ftn6))، ولو أنا مَلَحْنا [أي: أرضعنا] للحارث بن أبي شِمْر، أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل بنا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين، فقال رسول الله ﷺ: «أَبْنَاؤكُمْ وَنِسَاؤكُمْ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوالُكُمْ؟» فقالوا: يا رسول الله خَيَّرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحب إلينا، فقال لهم: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا ما أنا صليتُ الظهر بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم»، فلما صلى رسول الله ﷺ بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله ﷺ: «وأما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم»، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله ﷺ، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله ﷺ، فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بلى، ما كان لنا فهو لرسول الله ﷺ، قال: يقول عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني، فقال رسول الله ﷺ: «أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه» فَرَدُّوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم.
وأعطى النبي ﷺ عمر بن الخطاب جارية فوصى بها عمر لابنه عبد الله، يقول عبد الله بن عمر: فبعثت بها إلى أخوالي من بن جمح؛ ليصلحوا لي منها، ويهيئوها، حتى أطوف البيت، ثم آتيهم، وأنا أريد أن أصيبها إذا رجعت إليها، قال فخرجت من المسجد حتى فرغت، فإذا الناس يشتدون، فقلت: ما شأنكم؟ قالوا: رد علينا رسول الله ﷺ نساءنا وأبناءنا، فقلت: تلكم صاحبتكم في بني جمح، فاذهبوا فخذوها، فذهبوا إليها فأخذوها.
وفي ذي القعدة فرَّق النبي ﷺ غنائم حنين، وأعطى المؤلفة قلوبهم كثيرًا، ووكَل المؤمنين إلى إيمانهم، واعترض ذو الخويصرة على قسمة رسول الله ﷺ.
فَعَنْ عبد الله بن زَيْدٍ ﭬ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا قَسَمَ الْغَنَائِمَ، فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الْأَنْصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا مَا أَصَابَ النَّاسُ فَقَامَ رَسُولُ الله ﷺ فَخَطَبَهُمْ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ الله بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟ وَمُتَفَرِّقِيِ نَ فَجَمَعَكُمْ الله بِي؟» وَهم يَقُولُونَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ: «أَلَا تُجِيبُونِي؟» فَقَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ شِئْتُمْ أَنْ تَقُولُوا: كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ مِنْ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ وَالْإِبِلِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ الله إلى رِحَالِكُمْ، الْأَنْصارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ»([7] (http://majles.alukah.net/#_ftn7)).
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ﭬ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله ﷺ وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بني تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدٌ اعْدِلْ، فَقَالَ رسول الله ﷺ: «وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلُ»، فَقَالَ عُمَرُ بن الخطاب: يَا رَسُولَ الله ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ رسول الله ﷺ: «دَعْهُ فَإنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُم صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِم، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُم، يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسلام كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ»([8] (http://majles.alukah.net/#_ftn8)).
وجيء بالشيماء أخت رسول الله ﷺ من الرضاعة، أسيرة، فَمَنَّ عليها رسول الله ﷺ وأعطاها وأطلقها.
ثم لما أراد رسول الله ﷺ الرجوع إلى مكة، أحرم من الجِعِرَّانة في ذي القعدة من السنة الثامنة، ودخل مكة معتمرًا.
فعن أنس بن مالك ﭬ قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ الله ﷺ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلَّهُنَّ في ذِي الْقَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ؛ عُمْرَةً مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنْ جِعِرَّانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ([9] (http://majles.alukah.net/#_ftn9)).
([1])الدبابات: آلات تُصنع من خشب وتغطى بجلود ثم يدخل فيها الرجال، لتحميهم من سهام الأعداء.
المنجنيق: يتكون من عمود طويل قوي موضوع على عربة ذات عجلتين في رأسها حلقة أو بكرة، يمر بها حبل متين، في طرفه الأعلى شبكة في هيئة كيس، توضع حجارة أو مواد محترقة في الشبكة، ثم تُحَرَّك بواسطة العمود والحبل، فيندفع ما وضع في الشبكة من القذائف ويسقط على الأسوار فيقتل أو يحرق ما يسقط عليه.
([2])أخرجه أبو داود (3965)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (1756).
([3])أخرجه أحمد (1959)، وحسن إسناده الشيخ أحمد شاكر $.
([4])أخرجه أحمد (2176)، وحسن إسناده الشيخ أحمد شاكر $.
([5])متفق عليه: أخرجه البخاري (4325)، ومسلم (1778).
([6])لأن حليمة السعدية حاضنة رسول الله ﷺ من بني سعد وهم من هوازن.
([7])متفق عليه: أخرجه البخاري (4330)، ومسلم (1061).
([8])متفق عليه: أخرجه البخاري (3610)، ومسلم (1064).
([9])متفق عليه: أخرجه البخاري (1778)، ومسلم (1253).
محمد طه شعبان
2017-02-25, 09:50 PM
الدرس السادس والأربعون
غزوة تبوك
في رجب من السنة التاسعة كانت غزوة تبوك.
وتقع تبوك شمال الحجاز، وتبعد عن المدينة المنورة 778 كم حسب الطرق المعبدة في الوقت الحاضر، وكانت من ديار قُضاعة الخاضعة لسلطان الروم آنذاك.
وقد عزم النبي ﷺ على غزو الروم لنشر دين الإِسلام في هذه البلاد التي هي من أقرب البلاد إلى أرض الحجاز، والتي تقع تحت السيطرة الرومية، ولتكون تلك هي المواجهة الثانية مع الروم بعد غزوة مؤتة التي لم تحقق جميع أهدافها المرجوَّة؛ فبرغم أنها أظهرت للعالم قدرة المسلمين الفائقة، حتى في مواجهة أعظم إمبراطورية في العالم حينها، وهي إمبراطورية الروم، إلَّا أنها لم تحقق الهدف الأسمى الذي ينشده المسلمون، ألا وهو إخضاع هذه الإمبراطورية وتلك الدول للإسلام والمسلمين، وبالتالي توسيع المجال أمام الدعوة الإِسلامية أن تُنْشَر بين ساكني تلك الدول، التي يمنع حكامها الظالمون المسلمين من نشر الدين الحق فيها.
والذي جعل النبيَّ ﷺ يخرج في هذا الوقت بالذات، رغم ما كان بالمسلمين من شدة وعُسرة، هو وصول خبر إلى المدينة أنَّ أحد ملوك غسان تجهز لغزو المسلمين، مما جعل النبيَّ ﷺ يسارع في الخروج لملاقاتهم في بلادهم، قبل مباغتتهم المسلمين في بلادهم.
فنادى منادي رسول الله ﷺ في الصحابة بالجهاد لغزو الروم، ولم تكن تلك عادة النبي ﷺ أن يُعْلم الصحابة بوجهته الحقيقة إنما كان ﷺ إذا أراد غزوة يغزوها وَرَّى بغيرها.
عن كَعْبِ بن مَالِكٍ ﭬ قال: كَانَ رَسُولُ الله ﷺ قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا وَرَّى [أي: أوهم] بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَغَزَاهَا رَسُولُ الله ﷺ في حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاستَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا [المفاز: الفلاة التي لا ماء فيها]، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ؛ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ.
وأمر النبي ﷺ أصحابه بالإنفاق لتجهيز جيش العُسْرة، فقَالَ النَّبِي ﷺ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ»، فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ بن عفان ﭬ.
وقد تبرع عُثْمَانُ رضي الله عنه من المال فقط بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَجاء بها فنْثَرَهَا في حِجْرِ النبي ﷺ، فجعل النَّبِي ﷺ يُقَلِّبُهَا في حِجْرِهِ، وَيَقُولُ: «ما ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ، مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ».
وأخذ المنافقون يثبطون المؤمنين عن الخروج والجهاد في سبيل الله وقالوا: ﴿وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ﴾ [التوبة: 81].
وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 81].
يُبلغهم الله تعالى أن نار جهنم التي سيصيرون إليها بسبب مخالفتهم أمره ﷺ أشدُّ حرًا مما فروا منه.
وجاء المعذِّرون من الأعراب الذين يسكنون حول المدينة يشكون للنبي ﷺ ضعفهم وفقرهم وعدم استطاعتهم الخروج معه ﷺ، كما جاء المنافقون مبدين الأعذار الكاذبة والحجج الواهية مستأذنين النبي ﷺ في عدم الخروج.
محمد طه شعبان
2017-02-25, 09:58 PM
وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 90].
ثم بيَّن الله تعالى حال أصحاب الأعذار الحقيقية، وأنه لا سبيل عليهم، فقال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 91].
كما بيَّن الله عز وجل تقبله عُذْرَ الفقراء الذين جاءوا إلى النبي ﷺ ليحملهم معه في تلك الغزوة، فلم يجد النبيُّ ﷺ ما يحملهم عليه، فتولَّوا وهم يبكون من شدة حزنهم لعدم استطاعتهم الخروج، فقال تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 92].
ثم قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ كَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 93].
وكان أكثر المنافقين الذين تخلَّفوا من الأعراب أهل البادية؛ ولذلك يقول الله تعالى: ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 97، 98].
ثم بيَّن الله تعالى أنه ليس كلهم كذلك، بل منهم من هو مؤمن، فقال تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 99].
ثم أوضح الله تعالى أن بالمدينة منافقين أيضًا، فقال تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ [التوبة: 101].
وعمومًا فقد أذن النبي ﷺ لكل من جاءه معتذرًا، فهو ﷺ لم يشُق عن قلوبهم ولا يعلم ما بداخلها.
فعاتبه الله تعالى، فأنزل عليه: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: 43].
يقول الله تعالى لرسوله ﷺ: هلَّا تركتهم لمَّا استأذنوك، فلم تأذن لأحد منهم في القعود؛ لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب؛ فإنهم إن كانوا مؤمنين حقًّا ثم وجدوك لم تأذن لهم في القعود لخرجوا معك ولو كان بهم شدَّة.
وعلى أية حال فقد كان عدم خروجهم في مصلحة المؤمنين يقول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 46، 47].
وخرج النبي ﷺ متوجهًا إلى تبوك بجيش تعداده قرابة الثلاثين ألف مقاتل، معهم حوالي عشرة آلاف فرس، وخلَّف على المدينة عليَّ بن أبي طالب ﭬ، فَقَالَ عليٌّ للنبي ﷺ: أَتُخَلِّفُنِي في الصِّبْيَانِ وَالنِسَاءِ؟ قَالَ: «أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي».
وكان خَرَوجَ النبي ﷺ إلى هذه الغزوة يَومَ الْخَمِيسِ حيث كَانَ ﷺ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ في جميع أسفاره.
محمد طه شعبان
2017-02-25, 09:59 PM
وفي الطريق أصاب المسلمين مجاعةٌ شديدة وعطشٌ، فعَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَوْ أبي سَعِيدٍ (شَكَّ الْأَعْمَشُ) قَالَ: لَمَّا كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا، فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «افْعَلُوا»، قَالَ فَجَاءَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ، وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ ثُمَّ ادْعُ الله لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ لَعَلَّ الله أَنْ يَجْعَلَ في ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «نَعَمْ»، فَدَعَا بنطَعٍ فَبَسَطَهُ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِم، قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا رَسُولُ الله ﷺ عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: «خُذُوا في أَوْعِيَتِكُمْ» ، قَالَ: فَأَخَذُوا في أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا في الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُولُ الله، لَا يَلْقَى الله بِهِمَا عبد غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنْ الْجَنَّةِ».
وعن عمر بن الخطاب ﭬ، قال: خرجنا إلى تبوك في قَيظ شديد، فنزلنا منزلًا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إنْ كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إنَّ الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرْثَه [الفرث: ما في الكرش] فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا، فادع الله لنا، فقال: «أتحب ذلك؟» قال: نعم، قال: فرفع يديه نحو السماء، فلم يرجعها حتى قالت السماء فأظلت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1)).
فقال الصحابة لأحد المنافقين ممن كان معهم: وَيْحَك؛ هَلْ بَعْدَ هَذَا شَيءٌ؟! قَالَ: سَحَابَةٌ مَارَّةٌ.
وفي الطريق فُقدت ناقة النبي ﷺ، فقال أحد المنافقين - واسمه زيد بن اللُّصيت - وكان في رَحْل صحابي اسمه عُمارة بن حزم: أليس محمَّد يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله ﷺ وعُمارة عنده: «إنَّ رَجُلًا قَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يُخْبِرُكُمْ بِأَمْرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ، وَإِنِّي وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ إلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي هَذَا الْوَادِي، فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا، قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا، فَانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُونِي بِهَا»، فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله، فقال: والله لعجبٌ من شيء حدثناه رسول الله ﷺ آنفًا، عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا - للذي قال زيد بن اللُّصيت - فقال رجل ممن كان في رحل عُمارة ولم يحضر رسول الله ﷺ: زَيْدٌ والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي، فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه، ويقول: إليَّ عباد الله، إن في رحلي لداهية وما أشعر، اخرج أي عدو الله من رحلي، فلا تصحبني.
وقد مرَّ جيش المسلمين وهو في طريقه إلى تبوك ببئر ثمود، فنهاهم النبي ﷺ أن يشربوا أو يتوضئوا منه مائها.
فَعَنْ عبد اللهْ بن عُمَرَ ﭭ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا وَلَا يَسْتَقوا مِنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا وَاسْتَقَيْنَا؟ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهَرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ.
وفي لفظ أن رَسُولَ الله ﷺ أمرهم أن يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَاقَةُ.
وعنه أيضًا ﭬ أَنَّ النَّبِي ﷺ لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))، قَالَ: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ؛ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ»، ثُمَّ تَقَنَّعَ رسول الله ﷺ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ.
ومضى رسول الله ﷺ، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: تخلف فلان، فيقول: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك، فقد أراحكم الله منه».
وتلوَّم على أبي ذر بعيرُه، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله ﷺ ماشيًا، ونزل رسول الله ﷺ في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله, إن هذا الرجل ماش على الطريق، وحده، فقال رسول الله ﷺ: «كُنْ أَبَا ذَرٍّ»، فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر، فقال رسول الله ﷺ: «رَحِمَ اللهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ».
وكان أبو خَيْثَمَةَ ﭬ رَجَعَ بَعْدَ أَن سَارَ رَسُولُ الله ﷺ أَيّامًا إلَى أَهْلِهِ في يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ في عَرِيشَيْنِ لَهُمَا في حَائِطِهِ، قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً، وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا، فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ، فَنَظَرَ إلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ الله ﷺ في الضَّحِّ وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ، وَأبو خَيْثَمَةَ في ظِلٍّ بَارِدٍ، وَطَعَامٍ مُهَيَّأ، وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، في مَالِهِ مُقِيمٌ، مَا هَذَا بِالنَّصَفِ، ثُمَّ قَالَ: وَاَللهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ الله ﷺ، فَهَيِّئا لِي زَادًا، فَفَعَلَتَا، ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ في طَلَبِ رَسُولِ الله ﷺ حَتَّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ، وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيثَمَةَ عُمَير بن وَهْبٍ الْجُمَحِي في الطّرِيقِ، يَطْلُبُ رَسُولَ الله ﷺ، فَتَرَافَقَا، حَتَّى إذَا دَنَوَا مِنْ تَبُوكَ، قَالَ أبو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بن وَهْبٍ: إنَّ لي ذَنْبًا، فَلَا عَلَيْك أَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ الله ﷺ، فَفَعَلَ حَتَّى إذا دَنَا مِنْ رَسُولِ الله ﷺ وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ، قَالَ النّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ مُقْبِلٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «كُنْ أَبَا خَيثَمَةَ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله هُوَ وَاَللهِ أبو خَيْثمَةَ، فَلَمَّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ الله ﷺ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ﷺ: «أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا خَيثَمَة»([3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3))، ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ الله ﷺ الْخَبَرَ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ﷺ خَيرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيرٍ.
ولما وصلوا إلى تبوك حدث أيضًا ما يرويه مُعَاذ بن جَبَلٍ ﭬ أن النبي ﷺ كَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا أَخَّرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ: «إِنكُمْ سَتَاْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ الله عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنكم لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ»، فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَئءٍ مِنْ مَاءٍ، قَالَ: فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ الله ﷺ: «هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيئًا؟»، قَالَا: نَعَمْ، فَسَبَّهُمَا النَّبِي ﷺ، وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ الله أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى اجْتَمَعَ في شَيء، وَغَسَلَ رَسُولُ الله ﷺ فِيهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتْ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ -أَوْ قَالَ: غَزِيرٍ- حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ ﷺ: «يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَا هُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا».
وأَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا، فلم يَلْقَ كَيْدًا؛ حيث خافه ملكُ بني الأصفر والقبائل العربية المتنصِّرة، فلم يحضروا.
فقفل النبي ﷺ بجيشه راجعًا إلى المدينة، بعد ما عرف الجميعُ قوة الجيش الإسلامي، وكانوا يظنون أنها ستضعف بعد مؤتة، فوجودوها قد ازدادت قوة وصلابة، حتى إنهم قد خافوا الخروج إليهم.
وفي مرَجَع النبي ﷺ مِنْ تَبُوكَ، وحين دَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ، قال ﷺ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ».
وفي مرجعه ﷺ من تبوك هَمَّ نفر من المنافقين، بالفتك به ﷺ، فأطلعه الله على ما قصدوه، ففشلت خُطَّتُهم.
عَنْ أبي الطُّفَيلِ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ الله ﷺ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ رَسُولَ الله ﷺ أَخَذَ الْعَقَبَةَ فَلَا يَأْخُذْها أَحَدٌ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ الله ﷺ يَقُودُهُ حُذَيْفَةُ، وَيَسُوقُ بِهِ عَمَّارٌ إِذْ أَقبَلَ رَهْطٌ مُتَلَثِّمُونَ عَلَى الرَّوَاحِلِ غَشَوْا عَمَّارًا وَهُوَ يَسُوقُ بِرَسُولِ الله ﷺ وَأَقْبَلَ عَمَّارٌ يَضْرِب وُجُوهَ الرَّوَاحِلِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ لِحُذَيْفَةَ: «قَدْ قَدْ»([4] (http://majles.alukah.net/#_ftn4)) حَتَّى هَبَطَ رَسُولُ الله ﷺ، فَلَمَّا هَبَطَ رَسُولُ الله ﷺ نَزَلَ وَرَجَعَ عَمَّارٌ فَقَالَ ﷺ: «يَا عَمَّارٌ هَلْ عَرَفْتَ الْقَوْمَ؟» فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ عَامَّةَ الرَّوَاحِلِ، والْقَوْمُ مُتَلَثِّمُونَ، قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا أَرَادُوا؟» قَالَ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا بِرسولِ الله فَيَطْرَحُوهُ».
([1])أخرجه البيهقي في «الدلائل» (5/ 231)، قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (5/ 74): إسناده جيد.
([2])الحجر: موضع ديار قوم ثمود.
([3])أولى لك: كلمة فيها معنى التهديد، معناها: دنوت من الهلكة.
([4])(قَدْ قَدْ): بِمَعْنَى حَسْب، وَتَكْرَارُهَا لِتأكيد الأمْر.
محمد طه شعبان
2017-02-25, 10:00 PM
وفي مرجعه ﷺ أيضًا من تبوك أمر بتحريق مسجد الضِّرار، فأُحْرِق.
حيث أقبل رسول الله ﷺ حتى نزل بمكان اسمه «ذو أوان» بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تاتينا، فتصلي لنا فيه؛ فقال ﷺ: «إني على جَنَاحِ سَفَرٍ، وحال شغل، ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم، فصلينا لكم فيه».
فلما نزل ﷺ بـ«ذي أوان» أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله ﷺ مالك بن الدُّخْشُم، أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي، وأخاه عاصم بن عدي، أخا بني العجلان، فقال: «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه»، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف - وهم رهط مالك بن الدُّخْشَم - فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل إلى أهله، فأخذ سعفًا من النخل، فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يشتدَّان حتى دخلاه وفيه أهله، فحرَّقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 107 - 110].
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.