مشاهدة النسخة كاملة : في فنون أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي:
أبو المجد الفراتي
2016-03-09, 07:24 PM
بسم الله الرحمن الرحيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
مواضيع في فنون أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي:
ملاحظات:
- العناوين من وضعي في الغالب.
- المواضيع على مذهب أهل السنة والجماعة.
1- الإختلاف في عدد مجلدات الفنون:
قال ابن رجب (يتحدث عن ابن عقيل):
وأكبر تصانيفه: كتاب " الفنون " وهو كتاب كبير جدًا، فيه فوائد كثيرة جليلة، في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات. وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قَيَّدَها فيه.
وقال ابن الجوزي: وهذا الكتاب مائتا مجلد. وقع لي منه نحو من مائة وخمسين مجلدة ..
قلتُ: وأخبرني أبو حفص عمر بن علي القزويني ببغداد، قال: سمعتُ بعض مشايخنا يقول: هو ثمانمائة مجلدة.
(كتاب ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب)
2- أفضل وصف لكتاب الفنون:
قلتُ: أفضل وصف وجدتهُ لكتاب الفنون; هو قول ابن عقيل في المجلد الثاني من كتاب الفنون:
تُنتخب الفضائل من أفواه الرجال، وبطون صحائف العلماء، وما يسنح به الخاطر من الله تعالى فنسطّره.
أو قول ابن عقيل في المجلد الأول من كتاب الفنون:
فما أزال أعلق ما أستفيده من ألفاظ العلماء ومن بطون الصحائف ومن صيد الخواطر التي تنثرها المناظرات والمقابسات في مجالس العلماء ومجامع الفضلاء، طمعا في أن يعلق بي طرف من الفضل أبعد به عن الجهل، لعلي أصل الى بعض ما وصل اليه الرجال قبلي. ولو لم يكن من فائدته عاجلا إلا تنظيف الوقت عن الاشتغال برعونات الطباع التي تنقطع بها أوقات الرعاع . وعلى الله قصد السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل.
3- ابن نبال; وباع ملكا له واشترى كتاب الفنون وكتاب الفصول لابن عقيل:
قال ابن الجوزي:
ابن الحسن العكبري ابو محمد المقرئ، ويعرف بابن نبال، سمع ابا نصر الزينبي وابا الغنائم بن ابي عثمان وعاصما وغيرهم، وحدث وتفقه على ابي الوفاء بن عقيل وابي سعد البرداني، وكان صحيح السماع من اهل السنة. وباع ملكا له واشترى كتاب الفنون وكتاب الفصول لابن عقيل، ووقفهما على المسلمين.
(كتاب المنتظم لابن الجوزي).
أبو المجد الفراتي
2016-03-09, 07:58 PM
4- شذرة وعظية:
ما أشد شؤم المعاصي! أبونا بينا يسمع قول الله لملائكته (اسْجُدُوا لِآدَمَ) حتى سمع النداء (اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا).
بينا يرفل في حلل من السندس والاستبرق، حتى طفق يخصف على عورته من الورق! وإذا أردتَ أن تتلمح القدر السابق، فانظر الى قوله السابق: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً). خليفة في الارض ما يصنع في الجنة ؟
ساقته الكلمة السابقة والعلم السابق إلى المستقر: ( وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ.).
(كتاب الفنون)
5- ذمّ الاسترسال والانبساط:
قال حنبلي:
اعلم أنه سبحانه قد نبّهك على حفظ حرمك، وإلغاء الثقة عليهم بمن طالت صحبته وحسنت سيرته وتربيته، حيث أعلمك أن كريما من أولاد خيار الأنبياء; كان بين عزيز رباه و سيدة كريمة أكرمت مثواه، حانت منه معها خلوة، ثارت بينهما هَمّة، قارب بها حصول الفتنة والمحنة، لولا تدارك الباري له بالعصمة، وإقامة البرهان لصرف الهمة.
من أين لك اليوم مثل ذلك الكريم؟ ومن أين لمن يخلو باهلك عصمة تطرد الهمة وبرهان يحول بينه وبين الفتنة؟ فالله الله على الثقة بإنسان مع نصح القرآن بهذا البيان.
أما رأيت صاحب شريعتك كيف قال لزوجتين كريمتين خليا بأعمى من كرام الصحابة، فقال لهما في ذلك، فقالا: (يا رسول الله إنه أعمى)، فقال : (أفعمياوان أنتما لا تبصرانه؟). وأمر الغلام الوضيء الوجه أن يدور من وراءه.
فإذا كان الشرع على هذا الاحتياط، فما هذا الاسترسال منكم والانبساط ؟ يقول الواحد منكم في الركابي والفرّاش إن كان شيخا: (هذا ربى أهلي) وإن كان حدثا: (هذا رباه أهلي). كذا يكون الفطناء ؟!
هل قصد الباري الإزراء على أولاد الانبياء حين قص لك قصصهم في المكر والعداوة وإطلاق القول بما كان الباطن خلافه؟ لا ، ولكن قصد بذلك إيقاظك عن الإصغاء والاسترسال إلى قول بالبادرة لحسن الثقة، وأمرك بالتوقف عند كل شبهة، والتحرز من حسد الحاسدين، وكتم النعم عن السعاة في إزالتها من المفسدين.
(كتاب الفنون)
6- شذرة:
قالوا: إساءة المحسن منع جدواه، وإحسان المسيء كف أذاه.
(كتاب الفنون)
7- من كلام أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه:
كم مستدرج بالاحسان اليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القول فيه، وما ابتلى الله سبحانه أحداً بمثل الاملاء له.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-09, 08:12 PM
8- توضيح:
كان أبو الهذيل العلاّف شيخ المعتزلة في وقته، يرى أن ليس فعل مباح، بل الاعمال الواقعة منا لا تخلو أن تقع طاعة أو معصية.
فقال له رجل كوفي: ألست تقول إن أفعالك لا تخلو من طاعة أو معصية؟
قال: بلى .
قال: فلُبسك ثيابك هذه الجدد طاعة لله أو معصية له؟
فقال: إن كنت لبستها لأظهر بها نعمة الله عليّ، وأؤدي فيها فرائضه، فذلك داخل تحت قوله: (خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). وإن كنت لبستها لأباهي بها الأغنياء، ولأغايظ بها الفقراء فهي معصية. ولا يمكنني أن أقول مفصحاَ (إني لبستها أريد بلبسي لها الجهة المحمودة) فأكون مزكّيا لنفسي، والله تعالى يقول : (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ). ولا أقول (لبستها للجهة المذمومة) فأكون قد فضحت نفسي، وقد نهاني الله عن ذلك بقوله: (لا يزال العبد في ستري ما ستر على نفسه)، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم ): من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله.
قال حنبلي :
قد أخلّ أبو الهذيل في تقسيمه بقسم يخلو من طاعة و معصية. وهو أن يلبسها للذة نفسه: إما لدفع البرد أوالحر، من غير أن يخطر بباله ستر عورة، أو قصد زينة لمسجد، أو إظهار نعمة الله، أو مباهاة لأحد، أو قصدا لمغايظة أحد.
ولا يمكنه أن يقول إنه ليس لنا فيما يقع من أفعالنا حالة ذهول عن الأمريْن الذيْن ذكرهما. اللهم إلا أن يقول لا يجوز له أن يلبس إلا بنيّة، وأنه لا يخلو من قصد المباهاة، فذلك مكاثرة لما نجده من نفوسنا من الحالة الثالثة; وهي حالة غفلتنا عن القسميْن اللذين ذكرهما.
(كتاب الفنون)
9- شذرة:
مع كل منظر حسنٍ رقيبٌ ينقِّص بهجته وينغِّص لذته.
(كتاب الفنون)
10- في تصغير واصل:
قال أبو زيد: قلت للخليل:
لِم قالوا في تصغير واصل (أُوَيْصل) ولم يقولوا (أُووَيْصل) ؟
قال: كرهوا أن يشبه كلامهم نبح الكلاب .
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-09, 08:16 PM
11- فصل جرى في االجزية هل تسقط بالإسلام:
قال حنبلي: عقوبة تجب بالكفر، فسقطت بالإسلام، كالقتل.
قال الشيخ الإمام جمال الإسلام أسعد: إن أردت أنها في الأصل عقوبة، مسلَّم، وأما إن أردت أنها تستوفى عقوبة، فلا. وكيف تكون عقوبة وقد جعلت الذمي محقون الدم، مبسّطا في دارنا، محمي الجانب بيننا ... فكيف تدعيها عقوبة وقد جلبت هذه الكرامة ؟
فأجاب الحنبلي المحقق عن هذه الجملة:
أنا أرثي له من هذه الكرامة. فإنك إذا خلفتَ إقامته في دار الإسلام، رأيته مذلة لا كرامة .
فأقول:
نصراني جاء من بلاد الروم، من دار الحرب، وهو حرب، فأُعطي الأمان، وكان معه تجارة، وله قريب ذمي في دارنا. فقال: ( كيف أنت هاهنا؟ حتى إذا كان مقامك كريما عقدتٌ معهم الذمة وأقمت عندك)
وأنا أوازن ما ذكرتَ وما أذكرُه، هل هو مخرج لما ذكرتَ من كونه كرامة أم لا.
فقال: حدثني، أنا رجل أتجر هناك في الخمر والخنازر، وأنجر الصلبان. هل هنا سوق أبيع فيها هذا ؟
قال: لا، ومتى أظهرتها لتتجر فيها أهرِقت، وقُتلت الخنازير، وكُسرت الصلبان، وصٌفعت الصفع الوجيع.
قال: هذه واحدة في المال. حدثني، فإن أردتُ أن أقعد على دكاني لبيع البقالة لا الخمر، أتلو الانجيل بصوتي، أقَرّ على ذلك؟
قال له: في نية الذمي لا. بل تُصفع الصفع الوجيع.
قال: أردت أن أخرج من فواضل أموالي ما أبني الى جنب بيعتكم هذه بيعة أخرى، أو في محلة أخرى. أمكَّن من ذلك؟
قال: بل تُصفع وتُضرب ويُهدم ما بنيت.
قال: أنا رجل أضرب بالناقوس هناك. فهل إن ضربت به هاهنا أمكَّن من ذلك؟
قال: بل تُصفع وتُضرب ويُكسر الناقوس على رأسك.
قال: فإن مات لي صديق فأخرج جنازته بالقرابين والشموع نهارا. أمكَّن من ذلك؟
قال: وأيّ منعٍ! صفع، و ضرب، وتكسير الشموع، وتفريق الجموع، وصفع القرابين.
قال: فإن كنت على دكاني، فأردت أن أتناول قدحا من خمر، كما أتناول قدح سكنجبين. أُمنَع من ذلك؟
قال: وتُصفَع، ويكسر قدحك على رأسك.
قال: فإن أردت أن أدفن ميتتي في مقبرة من مقابرهم، أو أبني قبة في تلك المقبرة. أُمنَع من ذلك ؟
قال: وأيّ منعٍ! يُنبش ميتك فيُرمى به عليك، وتُصفع أنت وتٌضرب.
قال: فإن دخلت الى دار كتبهم، فوجدت قوما يتفاوضون ويتناظرون في المذاهب، فأفضت في نصرة التثليث، أمكَّن من ذلك ؟
قال: تُصفع. وربما رأى بعض المسلمين قتلك، وبعضهم نفيك الى دار الحرب.
فإنه إذا كان صحيح العقل، قال: هذه الكرامة التي أشرت إليها: إما أنك ضعُف عقلك فتمنيتَ الحبس و الحصر و الذل والإهانة كرامة،
أو أنك رجل رأيت نفسك قد سُلّت من السيف، يسهل عندك ضنك العيش. وإلا فجميع ما ذكرتَ مما سألتك عنه فهو الحصر و الكمد ونغصة العيش. واللهِ لقد ضيقتَ أنفاسي، فضاق عليّ المقام الى حين خروجي بهذا العيش الذي وصفته.
(كتاب الفنون)
12- المؤمن لا يذل نفسه:
عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المؤمن لا يذل نفسه.
قيل: يا رسول الله، فكيف يذل نفسه؟
قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-09, 08:23 PM
13- شذرة:
قال سفيان بن عيينة:
الناس كلهم جميعا يحبون أن يموتوا فجأة ولا يدرون! ألا تراهم كلهم يعلم أنه يموت ولا يحب أن يمرض؟
قال حنبلي:
صدق، لأنّ الموت بغير مرض هو الفجاءة.
(كتاب الفنون)
14- دعوة إلى النظر والتدبر:
قال حنبلي :
من فتح عينه على هذا الفضاء الفسيح، ورأى هذه الدار الواسعة العريضة، ذات الجبال الراسية، والبحار الزاخرة، والاشجار الباسقة، والأودية العميقة، والأنهار العذبة الجارية، والرياح الناشبة، والسحب الثائرة، وفي خلالها البروق اللامعة، وسمعَ زمجرة الرعود الزاجرة، السائقة للعموم الى القيعان الداثرة، المنشئة للأزهار المتنوعة، ورأى المعادن المعدة للحوائج العارضة، ورفع رأسه إلى الأفلاك الدائرة، والنجوم الزاهرة، ثم لا يمعن النظر و يحقق الفكر في هذه الأمور المشحونة بدلائل العبر، ثم يخرج من هذه الدار إلى الأخرى وما علم ولا خبر، هذا بمثابة طين عُمل لبناء ثم سال عائدا الى المقلع بصوت المطر، إذ لم يستفد بالوجود فائدة، بل ذاق مرارة الموت التي لم تقاومها حلاوة الوجود. غاية ما حصل من الدار ما عبلت به بنيته من الطعام و الشراب، واستعادته إليها مع تطاول العصور والأحقاب.
(كتاب الفنون)
15- شعر في ابن بقية الوزير لما صُلِب:
قال أبو الحسن محمد بن عمر الانباري في ابن بقية الوزير لما صُلِب:
لم يلحقوا بك عارا إذ صلبتَ بل باؤوا بعارك ثم استرجعوا ندما
وأيقنوا أنهم في في فعلهم غلطوا وأنهم نصبوا من سؤدد عَلَماً
فاستدركوه وواروا منك طوراعُلىً بدفنه دفنوا الأفضال والكرما
لئن بليتَ فما يبلى نداك ولا تنسى وكم هالك ينسى إذا قدما
تقاسم الخلق حسن الذكر منك كما ما زال مالك بين الخلق مقتسما
بقية الجود فينا كنت فانقرضت فليس نعدم مذ فارقتنا العدما
وكنت لله فينا أنعما سلبت ولو بقيت لنا لم نسلب النعما
وكيف ينساك حر لم يجد عوضا مذ مت عنك و لا يبكي عليك دما
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-09, 08:36 PM
16- لقد عظم الله سبحانه الحيوان، لا سيما ابن آدم:
قال ابن رجب، يتحدث عن ابن عقيل:
(فمن ذلك ما قاله في الفنون:
لقد عظم الله سبحانه الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، وخوف الضرر على نفسه، فقال: " إلاَّ مَنْ أكْرهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان " النحل: 106.
من قدَّم حرمة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى وتحامي عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره، وتقر أوامره، وزواجره. وعصم عرضك بإيجاب الحدّ بقذفك، وعَصَم مالك بقطع مسلم في سرقته، وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس، وأباحك الميتة سدًّا لرمقك، وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجلٍ، ووعيد آجل، وَخَرق العوائد لأجلك، أنزل الكتب إليك. أيحسن بك - مع هذا الإكرام - أن تُرى على ما نهاك منهمكًا، وعما أمرك متنكبًا، وعن داعيه معرضًا، ولسنته هاجرًا، ولداعي عدوك فيه مطيعًا؟ يعظمك وهُوَ هُو، وتهمل أمره وأنت أنت. هو حط رتب عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجُدها لك.
هل عاديتَ خادمًا طالتْ خدمته لك لترك صلاة. هل نفيته من دارك للإخلال بفرض، أو لارتكاب نهي. فإن لم تعترف العبيد للموالي، فلا أقل من أن تقتضي نفسك للحق سبحانهُ، اقتضاء المساوي المكافي.
ما أوحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان بينا يكون بحضرة الحق، وملائكةُ السماء سجودٌ له، تترامى به الأحوال والجهالات بالمبدأ والمآل، إلى أن يوجد ساجدًا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمسٍ أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفرة ما أوحش زوال النعم، وتغيّر الأحوال، والجَوْرَ بعد الكور.
لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوان أن يُرى إلا عابدًا للّه في دار التكليف، أو مجاورًا لله في دار الجزاء والتشريف. وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير مواضعها.
(كتاب ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب)
17- ومن كلامه في تقرير البعث والمعاد:
قال ابن رجب، يتحدث عن ابن عقيل:
ومن كلامه في تقرير البعث والمعاد:
واللّه لا أقنع من الله سبحانه بهذه اللمحة التي مزجت بالعلاقم، ولا أقنع من الأبدي السَّرمدي ولا يليق بذا الكرم إلا إدامة النعم. والله ما لوّح إلا وقد أعدّ ما تخافه الآمال. وما قدح أحدٌ في كمال جود الخالق وإنعامه بأكثر من جحده البعث مع تشريف النفوس، وتعليق القلوب بالإعادة، والجزاء على الأعمال الشاقة، التي هجر القوم فيها اللذات، فصبروا على البلاءة طمعًا في العطاء.
ويَدُلُّ على أنّ لنا إعادةً تتضمن بقاءً دائمًا، وعيشًا سالمًا: أن أصح الدلالة قد دلّت على كمال البارىء سبحانه وتعالى، وخروجه عن النقائص. وقد استقرينا أفعالَه، فرأيناهُ قد أعدّ كل شيء لشيء. فالسمعُ للمسموعات، والعين للمبصرات، والأسنان للطحن، والمنخران للشمّ، والمعدة لطبخ الطعام. وقد بقي للنفس غرض قد عجن في طينها: وهو البقاء بغير انقطاع، وبلوغ الأغراض من غير أذى. وقد عدمت النفس ذلك في الدنيا. ثم إنا نرى طالما لم يقابل ولا تقتضي الحكمة لذلك. فينبغي أن يكون لها ذلك في دار أخرى.
ولا أنظر إلى صُورة البلى في القبور، فكم من بداية خالفتها النهاية. فإن بداية الآدمي والطير ماء مُسَخَّن مستقذَرٌ ، ومبادي النبات حَبٌّ عَفِن، ثم يخرج الآدمي والطاوس. وكذلك خروجُ الموتى بعد البلى.
(كتاب ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب)
18- رؤيا:
قال ابن رجب:
قال ابن عقيل: وبينا أنا نائم سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، لاحت لي مقبرة، وكأن قائلاً يقول: هذه خيم البلى، على باب الرجاء وعلى الوفاء. قال: وهذا الإلقاء من الله تعالى لكثرة لهجي بالبعث، وتشوفي إلى الاجتماع بالسلف النطاف، وتبرمي من مخالطة السفساف.
(كتاب ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب)
19- لا يعظم عندكَ بَذْلُك نفسك في ذاتِ الله:
قال ابن رجب:
وكان ابن عقيل يقول: لا يعظم عندكَ بَذْلُك نفسك في ذاتِ الله فهي التي بذلتها بالأمس في حب مغنية، وهوى أمرد، وخاطرتَ بها في الأسفار لأجل زيادة الدنيا. فلما جئت إلى طاعة الله تعالى عظمت ما بذلتَه، والله ما يحسن بذل النفس إلا لمن إذا أباد أعاد، وإذا أعاد أفاد، وإذا أفاد خلد فائدته على الآباد. وذاك الله الذي يحسن فيه بذل النفوس، وإبانة الرءوس. أليس هو القائل: " وَلاَ تَحْسَبَن الذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتًا " آل عمران: 170.
(كتاب ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب)
أبو المجد الفراتي
2016-03-09, 10:39 PM
20- شعر في العَين:
يا من تشكّى وجع العين ... حاشى لعينيك من الشين
عين من الناس أصابتهما ... ما أسرع العين إلى العين
(كتاب الفنون)
21- أبو يوسف القزويني:
قال الذهبي:
قال ابن عقيل في فنونه :
قدم علينا من مصر القاضي أبو يوسف القزويني، وكان يفتخر بالاعتزال، ويتوسع في قدح العلماء، وله جرأة، وكان إذا قصد باب نظام الملك؛ يقول: استأذنوا لأبي يوسف المعتزلي. وكان طويل اللسان بعلم تارةً، وبسفه تارةً، لم يكن محققاً إلا في التفسير، فإنه لهج بذلك حتى جمع كتاباً بلغ خمس مئة مجلد، فيه العجائب، رأيت منه مجلدةً في آية واحدة، وهي: "وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ" ، فذكر السحر والملوك الذين نفق عليهم السحر، وتأثيراته وأنواعه.
(سير أعلام النبلاء للذهبي).
33- من كلام بزرجمهر:
لم أر ظهيرا على تنقل الدول كالصبر، ولا مذلا للحساد كالتجمل، ولا مجلبة للاجلال كتوقي المزاح، ولا مجلبة للمقت كالكبر والعجب، ولا مخلقة للمروءة كاستعمال الهزل في مواطن الجد.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-09, 10:53 PM
23- مسألة في الطلاق:
قال ابن رجب:
نقلت من بعض تعاليق الإمام أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه اللّه. مما نقله من الفنون لابن عقيل:
حادثة رجل حلف على زوجته بالطلاق الثلاث: لا فعلتِ كذا، فمضى على ذلك مدة، ثم قالت: قد كنتُ فعلتُه. هل تصدق مع تكذيب الزوج لها. أجاب الشريف الإمام أبو جعفر بن أبي موسى: تُصَدَّق ولا ينفعه تكذيبه. وأجاب الشيخ الإمام أبو محمد: لا تصدق عليه، والنكاح بحاله.
قلتُ: أبو محمد: أظنه التميمي.
(ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب).
24- شذرة:
وليس يجهل العبد أن أوقات الموقف الأشرف المقدس ~ دام جلاله~ كلها مصروفة الى برد غلة ضمئان، أو سد خلة لهفان، فلا جرم أن عنايات الله تعالى بها تامة.
(كتاب الفنون)
25- فصل في توديع :
وقد استعجلت الاستيحاش له، وتسلّفت الاشتياق إليه، والرِّكاب مُناخة، والدار بعدُ جامعة. فكيف حالي إذا .. وانقطعت العلائق، فضربت النوى بيننا سياجها، وزحمت بعضاً على بعض بمناكبها، وتعلّلنا بعد العين بالأثر، وبعد اللقاء بالخبر. وإلى الله أرغب في أن يفيض عليك جلباب السلامة راحلاً و نازلاً، ويجعلك في ضمان الكفاية مقيماً وضاعناً، ويوردك المقصد الذي تقصده، والمرمى الذي ترمي نحوه، محفوظاً بيده الطولى، ملحوظاً بعينه اليقظى، إنه سميع الدعاء سابغ النعْماء.
(كتاب الفنون)
26- الفتنة من ثلاث وجوه:
قال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه:
الفتنة من ثلاث وجوه: حب النساء وهن سيف إبليس المرهف، وحب الأشربة، وهو فخ إبليس الصيود، وحب الدينار والدرهم، وهو سهم إبليس المسموم.
(كتاب الفنون)
ماجد مسفر العتيبي
2016-03-10, 08:08 AM
سلمت يمينك يا ابا المجد
وسبحان الله كيف جعل الانباري سبباً لابن بقية فلم ينسى حتى اليوم
لئن بليتَ فما يبلى نداك ولا *** تنسىوكم هالك ينسى إذا قدما
أبو المجد الفراتي
2016-03-10, 12:21 PM
27- في المنافقين:
قال ابن مفلح:
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: قَالَ تَعَالَى : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } .
أَيْ : مَقْطُوعَةٌ مُمَالَةٌ إلَى الْحَائِطِ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَلَا هِيَ ثَابِتَةٌ ، إنَّمَا كَانُوا يَسْتَنِدُونَ إلَى مَنْ يَنْصُرُهُمْ ، وَإِلَى مَنْ يَتَظَاهَرُونَ بِهِ {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } لِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ { هُمْ الْعَدُوُّ } لِلتَّمَكُّنِ بَيْنَ الشَّرِّ بِالْمُخَاطَبَة ِ وَالْمُدَاخَلَة ِ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
28-فصل في استخراج حكمة الله و قدرته :
أنظر إذا أردنا نحن أن نؤلم الفيل لم يمكنا ذلك، إلا أن نعمل له آلة كبيرة لنوصل بها الألم، كالدافوقة الكبيرة، والمطرقة الغليظة، والعاقوس الكبير المسقيّ. و الباري إذا أراد إيلامه خلق البقّة والجرسسة. والجرسسة حيوان لا يتحصل لنا منه شكل نقدر أن نصوره ولا نشكله، بل يصغر عن أن نعمل برأس القلم مثله.
فوصّل الألم به الى تلك الخلقة العظيمة، و الجثة الجافية الكبيرة. ليعلم العالمون أنّا نقوى بالعمل لا بالآلات، وإنما الآلات علامات ظاهرة، ولو كانت أعمالنا بها لكانت بحسبها، فلما كبُرت عليها عُلم أنها بنا جاءت، لا بها. والله أعلم.
(كتاب الفنون)
29- حادثة:
رجل حلف بالطلاق أنه ليس كل الناس ولد آدم، لأنه قد قال بعض المفسرين في الآية (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا ) أنه كان في بعض الأزمان يخلق الله من الطين قوما لا بالتوالد.
فقال حنبلي: هذا ليس طريقا صحيحا. لأنه لو كان ذلك كذلك، لكان نسل آدم انقطع، وصار هؤلاء المخلوقون آباء مَن بَعدَهم حتى انقطع نسل آدم. وهذا أمر يحتاج الى نقل متواتر، لا يكفي فيه قول بعض المفسرين.
ولكن الخلاص لهذا الخلاف من وجه آخر. و هو أن آدم وحواء إنسانان، وليس واحد منهما ولد لآدم ولا لغيره، إذ لا والد لهما.
فقد خرج من الناس اثنان ليسا بولدين لآدم ، فبرّ في يمينه.
والله أعلم.
(كتاب الفنون)
30- حديث نبوي:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من استنجى من ريح فليس منّا.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-10, 12:22 PM
سلمت يمينك يا ابا المجد
وسبحان الله كيف جعل الانباري سبباً لابن بقية فلم ينسى حتى اليوم
لئن بليتَ فما يبلى نداك ولا *** تنسىوكم هالك ينسى إذا قدما
---
شكرا بارك الله فيك أيها الأخ الكريم.
أبو المجد الفراتي
2016-03-10, 01:48 PM
31- مبادرة اللحظات في طلب العلم:
قال ابن رجب:
ذكر ابن عقيل في فنونه:
قال حنبلي : أنا أقصرُ بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبزة، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعة، أو تسطير فائدة، لم أدركها فيه.
(ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب).
32- في ملازمة أهل الميت لقبره:
تذاكرنا يوماً ملازمة أهل الميت لقبره، فقلت أنا عذراً لهم:
إنهم أحباب فارقوا بمعانٍ، وهي الأرواح و الأخلاق و النطق و الحس. ولم يبقَ عندنا منهم أثرٌ سوى الصوَر التي في الحفر، ولو أمكن تركها على وجه الأرض لتُركت، ولكنها مُنعت بسوء الرائحة والاستحالات الجثثية، فأودعت في التُرَب، وبه حُفظت. والذي بلغ إليه الجهد والطاقة والوسع ملازمة تلك الوهاد ، التي تضمنت تلك الأجساد ، من الأسلاف و الأولاد. ولا عيب على عاقل ألف كلاًّ، ففاته معظم ذلك الكلّ، ووجد بعضه، فلزم ما وجد لعجزه عما فقد، ولم يترك ما قدر على وصاله وقربه، لما عجز عن وصله ببعده.
وكيف لا يُعذَر من تمسّك ببقعة تضمنت قالب الروح وهيكل النفس، وهو وطن لتلك الجوهرة العجيبة والنكتة الغريبة ؟ ومعلوم تمسّك النفس بآثار الظاعنين، كالديار و الجدار. وقد شبّبت الشعراء في أشعارها بآثار القدور والأحواض وتخاطيط البيوت ومراتع النعم، وما ذلك إلا لوجدٍ في النفس وشغف في القلب بآثار المألوفين. ومن أنكر ما اصطلح عليه العقلاء، فقد قال النكر وأبدع في القول.
فأما مذهبي أنا الملازمةُ لباب من أخذ المألوف مني و سلبني، وهو الذي أعطاني في الأول ووهبني، ملازمةً أطلب منه فيها جمع ما شتّ من الشمل، ووصْلَ ما قطع من الحبل، تعويلا على وعْد دار السلام، الجامعة لأهل الإسلام. وأقول بدلاً من تعداد المعدّدين على القبور، ما يسلّي قلبي ويروّح روحي:
سيّدي ! لا أعرف بولدي أو والدي سواك، من عندك جاء وإليك رجع، وفيما بين وهبتَه و سلبتَه قد ألفتُه وألفني، وأنستُ به وأنت آنستني. وأنا أعلم قدرتك على الإعادة حسبما ابتدأتَ، فبعزّتك ألا سكّنت نيران شوقي إليه بجمعي وإياه على ما كنا من طيب العيش ! فطالما كنا نتذاكر الثقة بوعدك حتى تركنا كثيرا من نقود العيش، ونتذاكر وعيدك حتى خفنا فهجرنا ملذوذ الطبع. فيا كامل الحكمة ! بلّغنا آمالنا فيك. ويا كامل القدرة ! أعدنا إعادة تظفرنا فيها بما رجوناه من فضلك ! وها أنا على بابك أيها الكريم أقتضيك بما لا يعزب عنك، و لا غناء لي عنه، فلا تخيّب قصدي في وعدي، و لا قصد سعيي في عقدي، واحفظ لي عندك روح هذا المفقود الذي كنتُ بالأنس معه على أكمل لذة و أتمّ نعمة، وها هو اليوم رهين هذه الحفرة، وأنا في أثره .
فلا أزال أطالبك بما آتيتني من أدوات الطلب حتى تنفذ أو تقف بي على المطلب. يا ملك الدنيا والآخرة ! ارحم هذه الأعظم النخرة. يا حنّان، يا منّان ! يا من مَنّ بالإيجاد قبل الإشاقة بالوعد ! مُنّ بالإعادة، فقد شوّقتنا إلى البعث.
(كتاب الفنون)
33- شذرة :
هو رب حقيقة. هل كنت أنت عبدا له حقيقة ؟ هل في الوجود من كان لله قَطّ كما كان الله له ؟
(كتاب الفنون)
34- قال بعض الخبراء بالزمان وأهله :
إن حسن الظن في هذا الزمان وأهله عجز، والرجاء لهم طمع، والثقة بهم فساد تصور. ومن تكشفت له أحوالهم، وأنس بهم وإليهم، فما يُؤتى إلا من قِبَل نفسه، والله سبحانه وتَعالى بريء من عهدة بلائه ومصابه، لأنه سبحانه قص قصص الاوائل، و ما تم منهم وعليهم، وكشف أحوال الثواني بالملابسة لهم ممن لم يردعه الخبر، و لا حذّره النظر; فهو كالفراشة تطيش في الضياء وتنغمس في اللهبة فتحرق نفسها. فلا رحم الله من هذه صفته، يقتحم النار ببصره.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-10, 02:55 PM
35- في مخالطة السلطان:
قال ابن مفلح: قَالَ ~ابن عقيل~ فِي الْفُنُونِ:
أَكْثَرُ مَنْ يُخَالِطُ السُّلْطَانَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى تَنْفِيقِ نُفُوسِهِمْ عَلَيْهِ بِإِظْهَارِ الْفَضَائِلِ وَتَدْقِيقِ الْمَذَاهِبِ فِي دَرَكِ الْمَبَاغِي وَالْمَطَالِبِ، يَبْلُغُونَ مَبْلَغًا يَغْفُلُونَ بِهِ عَنْ الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ السَّلَاطِينَ دَأْبُهُمْ الِاسْتِشْعَارُ ، وَالْخَوْفُ مِنْ دَوَاهِي الْأَعْدَاءِ، فَإِذَا أَحَسُّوا مِنْ إنْسَانٍ تَنَغُّرًا وَلَمْحًا تَحَرَّزُوا مِنْهُ بِعَاجِلِ أَحْوَالِهِمْ. وَالتَّحَرُّزُ نَوْعُ إقْصَاءٍ، فَإِنَّهُ لَا قُرْبَةَ لِمَنْ لَا تُؤْمَنُ مَكَايِدُهُ وَعَنْهُمْ يَفْتَعِلُونَ الدَّوَاهِيَ لِمَا عَسَاهُ يُلِمُّ بِجَانِبِهِمْ، فَإِنَّ التَّغَافُلَ أَصْلَحُ لِمُخَالَطَتِهِ مْ مِنْ التَّجَالُدِ وَإِظْهَارِ اللَّمْحِ، فَإِنَّ لِلسُّلْطَانِ كَنْزًا لَا يَجِبُ ظُهُورُهُ إلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَيَخَافُ مِنْ تَكَشُّفِ أَحْوَالِهِ الدُّخُولَ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ الْخِبْرَةِ بِهِ، وَالْأَوْلَى فِي الْحِكْمَةِ أَنْ لَا يَنْكَشِفَ الْإِنْسَانُ بِخُلُقٍ فِي مَحْبُوبِهِ وَلَا مَكْرُوهِهِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنْهُ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
36- حكمة:
التجني رسول القطيعة وداعي الغل، وسالب السلو، وهو أول منازل الهجران.
(كتاب الفنون)
37- ما بال الملائكة شغلوا بالتسبيح و التقديس؟:
سأل سائل حنبليا له قدم في التحقيق :
ما بال الملائكة شغلوا بالتسبيح و التقديس؟
وهل هم مع ذلك أفضل من الأدميين أم لا ؟
فقال الحنبلي :
أمّا علة تسبيحهم و استدامة تقديسهم فإنهم أمة لا شغل لهم يقطعهم ولا حاجات تمنعهم ، قد كُفّوا مؤونة الأغذية والأدوية و التكسب لتحصيلها. والآدميون مغموسون في الاشتغال بالصنائع و الأعمال التي يكتسبون بها الأموال لتحصيل الأقوات التي لا قوام لهم إلاّ بها، والأدوية لما يعرض من الأمراض و العلل، وغير ذلك مما لا يستغنى فيه عن الأدوية التي لا يظفرون بها إلا بالأموال المحصّلة لهم بالكد والاجتهاد، ثم في تناولها أكدّ شغل وأطول زمان، ثم طلب الراحة بعد ذلك التعب بالاستطراح للمنام.
ومع ذلك كله فلا يخلّون بالطاعات في أوقاتها ووظائف الأعمال والمناسك وإخراج الأموال في وجوه الإخراج.
و الملائكة مع خلوهم من الاعمال وتعطلهم من الأشغال، يشهدون من جلال الله وعظمته وملكوت السماوات ما يوجب لهم التسبيح والتهليل والتقديس.
والآدميون مع ما ذكرنا من انقطاع أزمانهم بأشغالهم، لو لمع برق، أو دمدم رعد، أو عصف ريح، أو تحركت أرض، أو انقض كوكب، أو خسف قمر، أو كسفت شمس، فزعوا إلى التسبيح والتهليل والصلاة والتوبة من الذنوب، ثم ما يعانونه من المصائب بفقد الأولاد، بعد تَمكُّن محبتهم من القلوب والأكباد، ومجاهدة الأعداء في ذات الله و لإعلاء كلمة الله، وهجران ما تتوق اليه النفوس لأجل نهي الله . ولمّا امتحن بعضهم بما سلّط على بني آدم من تكليف بترك ما تميل اليه الطباع في حقّ هاروت وماروت، أفلسوا عمّا صُمخ عليه بنو أدم .
فقد تضمن هذا الجواب بيان علة دوام تسبيحهم، وأن فضل الآدميين عليهم. والله أعلم .
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-10, 05:54 PM
38- فِي حِلِّ الدَّيْنِ بِالْمَوْتِ:
قال ابن مفلح:
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُجَلَّدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ الْفُنُونِ فِي حِلِّ الدَّيْنِ بِالْمَوْتِ : وَأَنَا أَقُولُ : الْمُطَالَبَةُ فِي الْآخِرَةِ فَرْعٌ عَلَى مُطَالَبَةِ الدُّنْيَا، وَكُلُّ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ فِي الدُّنْيَا فَلَا ثَبَاتَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ . وَمَنْ خَلَّفَ مَالًا وَوَرَثَةً فَكَأَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي الْقَضَاءِ، وَالدَّيْنُ كَانَ مُؤَجَّلًا فَالنَّائِبُ عَنْهُ يَقْضِي مُؤَجَّلًا، وَالذِّمَّةُ عِنْدِي بَاقِيَةٌ، وَلَا أَقُولُ: الْحَقُّ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَعْيَانِ، وَلِهَذَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَيَصِحُّ ضَمَانُ دَيْنِ الْمَيِّتِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الذِّمَّةِ فَلَا وَجْهَ لِمُطَالَبَةِ الْآخِرَةِ.
فَقِيلَ لَهُ: الَّذِي امْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَانَ مُعْسِرًا ؛ لِأَنَّهُ سَأَلَ " هَلْ خَلَّفَ وَفَاءً ؟ " فَقِيلَ : لَا ، وَقَدْ أَجَّلَ الشَّرْعُ دَيْنَ الْمُعْسِرِ أَجَلًا حُكْمِيًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } . ثُمَّ أَجَّلَهُ حَالَ الْحَيَاةِ لَمْ يُوجِبْ بَقَاءَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى شَهِدَ الشَّرْعُ بِارْتِهَانِهِ.
فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : تِلْكَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمٌ بِأَنْ كَانَ مُمَاطِلًا بِالدَّيْنِ ثُمَّ افْتَقَرَ بَعْدَ الْمَطْلِ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ، فَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي عُرِفَ مِنْهُ، وَقَضِيَّةُ الْأَعْيَانِ إذَا اُحْتُمِلَتْ وُقِفَتْ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْأَصْلِ الْمُسْتَقِرِّ لِأَجْلِهَا، وَالْأَصْلُ الْمُسْتَقِرُّ هُوَ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ مُوَسَّعٍ لَا يَحْصُلُ بِتَأْخِيرِهِ فِي زَمَانِ السَّعَةِ وَالْمُهْلَةُ نَوْعُ مَأْثَمٍ، بِدَلِيلِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا يَأْثَمُ، بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مَعَ التَّأْخِيرِ وَالْإِمْكَانِ مِنْ الْأَدَاءِ. وَلِلْقَاضِي فِي الْخِلَافِ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ فِيمَنْ لَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ فَمَاتَ قَبْلَ الْفِعْلِ: لَمْ يَأْثَمْ وَتَسْقُطْ بِمَوْتِهِ، قَالَ: لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فَلَا فَائِدَةَ فِي بَقَائِهَا فِي الذِّمَّةِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ. وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَأْثَمَ، وَالْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ كَدَيْنِ مُعْسِرٍ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ لِدُخُولِ النِّيَابَةِ لِجَوَازِ الْإِبْرَاءِ وَقَضَاءِ الْغَيْرِ عَنْهُ .
وَقِيلَ لَهُ: لَوْ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ لَطُولِبَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَلَحِقَهُ الْمَأْثَمُ كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ.
فَقَالَ: هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَالْمُعْسِرِ بِالدَّيْنِ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
39- (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا):
سأل سائل: كيف ساغ لعيسى أن يقول : (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) ؟
قيل له: أولا، ليس هذا نطقه، وإنما نطق، لأنّ لسان مثله في السنّ التي كان فيها ليس بآلة للنطق. وإنما هو كاليد و الرجل التي تُستنطَق يوم القيامة. وإن مستنطقا، كان الباري هو الذي أخبر عن حاله في المستقبل، وأنه يموت، ويوم يُبعث يكون على حال السلامة. وما هو إلا كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم نطقاً من طريق الوحي: أنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر. هذا نطق عن الوحي، إذ لا اطّلاع له بنفسه، ولا استدلال له على حاله يوم البعث.
(كتاب الفنون)
40- الأمراض مواسم العقلاء:
الأمراض مواسم العقلاء يستدركون بها ما فات من فوارطهم وزلاتهم، إن كانوا من أرباب الزلات، ويستزيدون من طاعاتهم إن لم يكونوا أرباب زلات، ويعتدّونها إن خلصوا منها بالمعافاة حياة بعد الممات. فمن كانت أمراضه كذا، اغتنم في الصحة صحة، فقام من مرضه سليم النفس والدين.
والكامد ينفق على الادوية، ويعالج الحمية، ويوفّي الطب الاجر، وليس عنده من علاج دينه خبر. فذلك ينصرع بالمرض انصراع السكران، ويفيق من مرضه إفاقة الإعداد لسكر ثان.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-10, 06:33 PM
41- لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ:
قال ابن مفلح:
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي الْفُنُونِ : قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّين َ:
لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ قَتَلَ لِإِنْسَانٍ وَلَدًا ، وَأَحْرَقَ لَهُ بَيْدَرًا ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْ إحْرَاقِ الْبَيْدَرِ دُونَ قَتْلِ الْوَلَدِ لَمْ يُعَدَّ اعْتِذَارًا ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَذْهَبُ ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ تَكَاسُلًا كَفَرَ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
42- مناظرة في الكرامات:
إحتج بعض من لا يرى الكرامات بأن قال:
معلوم أن الأعصار لاتخلو من صلحاء، فإذا شاعت الكرامات، وهي ما يخرج عن العادات، صارت بكثرتها وشياعها عاداتٌ، فطعنت في المعجزات. لأن عماد العجز هو الخرق للعادة. فما يصير عادة، يخرج عن كونه خارقا.
قال له حنبلي:
هذا باطل بالمعجزات نفسها. فإنها كثرت بكثرة الأنبياء صلوات الله عليهم، ثم لم تصر عادات، بل كانت مع كثرتها قبيلاً خارقا ونمطاً خارجا عن العادات.
قال له المتكلم الأول: هذا القبيل، وهو المعجز، لا يجيء إلا بالتحدّي، والكرامة تجيء من عير تحدّ. فإذا كثرت، صارت عادة مستقرة، فتطعن في المعجزات، إذ تصير صادرة عن وجود مستمر، لا تخرج عن كونها عادة بذلك الاستمرار.
ووجدتُ لبعض من جحد الكرامات، أنها متى وُجدت أفسدت اعتقاد المكرم وغيره، فإنه يزول تعظيم المعجزات من النفوس، لأنها تصير مألوفة، ومتى صارت مألوفة، خرجت عن الدهش بها والتعظيم لها.
قال حنبلي:
كل ما يرد من وراء القدر والعادات فهو منبّه على الله سبحانه وألطافه. ولقد رُوي أن البقر، حيث أجدبت أرض بيت المقدس، خارت نحو السماء، فأنبع الله لها العين المعروفة بعين البقر. وروي فيما صحّت به الروابة أن سليمان عليه السلام خرج للإستسقاء، فوجد نملة رافعة قوائمها نحو السماء وهي تقول: (اللهم ! إنا خلقك ، ليس بنا غناء عن رزقك ، فاسقِنا.) فقال: ارجعوا، فقد سُقيتم بدعوة غيركم.
فإذا كان الله سبحانه يأتي بالألطاف بطلب البهائم، فلا يحسن إنكار ألطافه بالخواص من عباده، إيقاظا للقلوب وتنبيهاً للإيمان في النفوس.
فلا معنى لقولكم تبرّد في القلوب بدوامه، بل تحقّق الإيمان باستمراره. فكلّ ما جاء من الله منبّه عليه جل جلاله.
(كتاب الفنون)
43- شذرة:
يقال: الغبن غبنان، غبن الغلاء وغبن الرداءة. فإذا اشتريت فاستجد، تزح أحد الغبنين.
(كتاب الفنون)
44- مذاكرة يُفسدها أحمق:
تذاكرنا في بعض مجالس الفضلاء في شأن غلام بلغ من خدمة سيّد كان يخدمه جُهدَه. ثم وقع سيده في ورطة. وكان يتهافت ويخاطر في محبته وخدمته بنفسه وماله وولده، ولا يتستر ولا يراقب. وآخر من غلمانه كان يخدمه ويتعهده في شدته وحال طلبه له، غير أنه كان يتستر ويتصاون، ولا يظهر ما يفعله.
ثم إن السيّد زالت عنه الشدة، وعادت إليه النعمة، أيهما ينبغي أن يزيد في إكرامه: المتهافت، أم المتماسك ؟
فقلتُ: المتماسك، لأنه أنبأ تماسكه في الخدمة عن عقل و حكمة، حيث أكرم غيره، وحفظ نفسه. وهذا القول اختياري. والحكمة والعقل يوجبان إكراما بحسبهما.
وقال غيري: ينبغي أن يكرم المتهافت، ويزيده إكراما على المتماسك. وعلّل من نصر هذه الطريقة بأن تهافته أنبأ عن إفراط محبته له، وحصل في طيّ ذلك المخاطرة بنفسه، ومن خاطر بعصمته قي حقه وجب له بحسب ما بذل.
فبينما نحن كذلك، إذ دخل الموضعَ حشويٌ جاهل، فحكينا له ما جرى، بعد أن سأل ( فيم أنتم ؟ ) فقال: عندي غير ذلك. فقلنا : أفدنا. فقال: اتركوا الناس مع الله فإنهما جميعا فضوليّان، الذي تهافت و الذي تماسك، والله المنعم بما يشاء، المانع ما يشاء، يقضي الآجال وقت ما يشاء. فطلبُ المفاضلة فيما أدخلا أنفسهما فيه طلب باطل، إذ لا فضل فيما فعلاه جميعا.
فدهشنا من كلامه. وسكتوا، فبادرت أنا لأعلمه مقداره من الحمق، لئلا يظن أنه قال شيئا، ولئلا يغتر بكلامه بعض الحاضرين ممن يناسب عقله فيوهمه كلامه أنه صالح أن يُعَدَّ جوابا ثالثا، فقلتُ:
يا شيخ ! هذا كلام من يسقط الخطاب الشرعي و الحكم العقلي، ويرى أن الأمر سدى، ولا عقل يرجّح به بين فضل الفاضل و نقص الناقص، ولا حقيقة يميّزها العقل بفضل أو نقص. فما أشبه أن تكون مسفسطا ! وإلا فأين الرأي عن أبي بكر وتركه لنبي الله مع الله، لا يحرسه، ولا يحوطه، ولا يهاجر، ولا يدخل معه الغا، ولا يسد كوّة الحَريش برجله معه، ولا يذبّ عنه ؟ وأين هذا الرأي عن الأنبياء حيث بلّغوا و ألحّوا، وطالت مدة بلاغهم ؟ وأين الله سبحانه عن هذه الحكمة حيث أنزل الكتب، و أرسل الرسل، وحذّر وأنذر، ونهى وأمر، وفضّل السابقين بالإنفاق والقتال على الذين لحقوا في ذلك بمن تقدّمهم فيه حيث يقول: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح و قاتلوا ) ؟ وقدّم العقلاءُ أهلَ الفضل و التفضّل، وأخّروا أهل التقصير و التعطّل.
وهلاّ تركتنا مع الله في حالنا، ولم تسل عما كنا فيه ؟ ولعل كلامك في هذا فضول، وأنت فيه منقوص مفضول.
فسكتَ هنيّة، وقال: ما قرأتُ من الهندسة شيئا ! فضحك الجماعة به، وتفرّقنا لرقاعته عن المجلس، لئلا ينقطع بما لا ينفع.
وقلتُ لمّا نهضنا: سبحان من لا يخلي مجلساً من ثقيل ينغّصه، أو أحمق يفسده، أو محتشم يقبض أهله عن الانبساط !
فقال لي قائل كان طيّبا: المجالس عندك على الحقيقة ما هي ؟
قلتُ: هي المجالس الجامعة للعقلاء المتحابّين المتناصفين، حتى إذا جرت مذاكرة، أو حدثت حادثة، لم يَشُبها ضغينة فتفسد، ولا تحاسد فتخرج عن التحقيق و تبعد، وإنما اعتبرتُ العقل لأنه أداة التمييز، وإنما اعتبرتُ التحابّ لأنه يزيل العنت و العناد، فخرج الكلام صافياً.
قالوا: فهل وجدتَ ذلك قط، أم تقوله بالاستدلال دون الوجدان ؟
قلتُ: لا يجوز أن يصح هذا في الدنيا، لأنها دار الشوائب والنوائب، وإنما هي أمنية لأمر لا يستحيل كونه. وما أحقّ بذلك أهل العلم الذين يتطلّبون الحقائق و يرومون رضا الخالق !
(كتاب الفنون)
45- فصل:
إن ذممت الدنيا بالغرور، فهلّا مدحتها بما وعظت به من تصاريفها على مر الدهور. والله لقد تكشّفت عن معائب توجب الزهد فيها، كما أبرزت عن محاسن توجب الرغبة فيها.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-11, 11:48 AM
46- وحشيٌّ والصحابة:
رُوي أنه كان أنصاري شارك وحشيا في قتل حمزة. فقال الأنصاري في ذلك:
يسائلني الناس عن قتله ** فقلت: ضربت وهذا طَعنْ
فنحن شريكاان في قتله ** كما شارك الروح هذا البدن
قال وحشي: فلما قدمت المدينة وقد وليَ أبو بكر، سألني: (كيف قتلت حمزة؟) فأخبرته، فقال لي: (غيّب وجهك عني). فكنت أخالفه الطريق، فإذا سلك طريقا سلكتُ طريقا أخرى. حتى تُوُفّي وولي ابن حنتمة ~ يعني عمر بن الخطاب~ . قال حنبلي: وقوله (ابن حنتمة) يدل على ما يدل عند العقلاء~ فأرسل إلي فدعاني، فقال: (كيف قتلت حمزة؟) فأخبرته، فقال لي: (لا تساكنّي في المدينة). فخرجتُ إلى الشام. فلما وليَ أمير المؤمنين معاوية، أنزلني داراً وأجرى عليّ رزقا من بيت المال.
قال حنبلي:
فافتقد الناس على معاوية ذلك، كما افتقدوا على عثمان رد طريد رسول الله، ~وهو الحكم بن أبي العاص نفاه إلى الطائف لكونه حاكى مشيته عليه الصلاة والسلام ~ فكان ردّه له من بعض ما أخذوه عليه من الذنوب. فهذه الفلتات من بني أمية معدودة عند أقوام من نفاق كان متخمرا معهم.
قال حنبلي :
وهي عندي من غلبات الطباع التي لا تمنع صحة العقائد، فقد كانت تغلب على الانبياء ~صلوات الله عليهم. فمن ذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قَبِل إيمان هند، و كان يكره أن ينظر إليها حتى عاتبه الله فيها و شهد لها بالايمان، ولم يغلب علمه بإيمانها على طباعه ( صلى الله عليه وسلم ) في كراهية نظره إلى وجهها ، حيث يراها وقد أكلت كبد عمه وبذلت حيلتها في قتله. و كان عمه أبو طالب على ما كان و طبعه يغلب رقة عليه وميلا إليه حتى يكاد يستغفر له ، فعوتب في ذلك بغلبات الطباع لا ينكرها إلا من لا يتأمل حقائق الأحوال. فهذا رق عليه مع الكفر، وهذه يقسو عليها مع الايمان.
فلا ينبغي للعاقل أن يأخذ من فلتات الكلام الصادر عن الطباع نفي الايمان ولا إثبات النفاق، لاسيّما مع شواهد الوحي بإيمان القوم.
فهذا قدر تأويلي وجهدي. والله أعلم وهو الطريق الأسلم.
(كتاب الفنون)
47- (إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ..):
قال ابن مفلح، يتحدث عن ابن عقيل:
قِيلَ لَهُ فِي الْفُنُونِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، { إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ : أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَتَنَزَّهُ مِنْ الْبَوْلِ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ } كَيْفَ يُعَذَّبَانِ بِمَا لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ ؟ وَالصَّغَائِرُ بِتَرْكِ الْكَبَائِرِ تَنْحَبِطُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } فَقَالَ فِي الْخَبَرِ " كَانَ " وَكَانَ لِدَوَامِ الْفِعْلِ فَلِهَذَا بِالدَّوَامِ حُكْمُ الْكَبِيرَةِ عَلَى أَنَّ فِي الْخَبَرِ تَعْذِيبَهُمَا بِالصَّغَائِرِ وَفِي الْآيَةِ إخْبَارٌ بِتَكْفِيرِهَا وَتَكْفِيرُهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْآلَامِ وَالْبَلَايَا وَلَعَلَّ الْمُعَذَّبَيْن ِ لَمْ تُكَفَّرْ صَغَائِرُهُمَا بِمَصَائِبَ وَلَا آلَامٍ .
كَذَا قَالَ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
48- وجوب التسليم لله عز وجلّ في قضائه:
.. الصبي يطلب بطبعه، والأب يمنعه عما طلب، ويعطيه ما يراه لا ما طلبه. فكذلك الطبيب، وكذلك المؤدب. وما كان ذلك إلا لمرتبة المعرفة من الطبيب، و الأدب من المؤدب، والإشفاق من الأب.
فحكمة الله جامعة لما يفرق في هؤلاء، وهو الممد لهؤلاء بالإشفاق و الآداب و الحكم، فهو أحق بالتسليم وترك التمني عليه و التجني. فمن عاش مع الله كذا، تعجل الراحة في الدنيا، و سلمت عاقبته في الأخرى.
(كتاب الفنون)
49- ما بالنا نجد للمنام روعة وحشمة ليست لليقظة ؟
سأل سائلٌ حنبلياً:
ما بالنا نجد للمنام روعة وحشمة ليست لليقظة ؟ حتى أن أحدنا يقطع أن اليقظة أوفى، ويجد من المنام ما يوفي على اليقظة.
قال الحنبلي:
للمنامات روعة، إذ كان فيها ما هو إشعار من جهة الله تعالى، وجزء من الوحي و النبوة، وفيها رموز وإشارات مضمرات، ولهذا يُعبَّر عنها بغير ما يُرى. وفي اليقظة لا يُعبَّر بالبقرة السمينة عن سنة خصبة، ولا بالبقرة العجفاء عن سنة جدبة، ولا بأكل الطير من حامل خبز على رأسه بأنه مصلوب يأكل الطير من رأسه. وعلى هذا أبدا، لا يُعبَّر عما يشاهد بأنه خلاف ما شاهد.
فاعترض السائل على الحنبلي المجيب بأن الاقتضاء الصريح من نص الكتاب المقطوع بأنه كلام الله يقول: (لا تقربوا الزنا) (لا تأكلوا الربا) (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر)، والناس على ذلك مصرّون، و للمخالفة مرتكبون، لا يتوبون ولا يقلعون، فإذا رأى أحدهم مناما كأن خيال نبي يعاتبه، أو ملٌكا يوبّخه، أو شخصا يقول له: (ما هذا الإصرار على هذه الذنوب الكبار ؟ ) أصبح متوجّعا متفزّعا، ونهض الى جاره الصالح أو العالم بالتوبة على يده مسرعا، ولازم المحراب، وتخشّنَ بعد التنعّم، واجتمع بعد التبسّط، وخشع بعد الأشر و البطر، أليس هذا من عظيم المحن أن لا تعمل فيه القطعيات، وتعمل فيه التخيّلات، مع توحّد القرآن بالحق الذي لا يشوبه تغيير ولا تبديل ولا يعتريه شك ؟ والمنام يدخله التخاليط بين وقوعه عن سوداء ومرة و بلاغم، وبين شياطين تخيَّل إليه، والنجوى من الشيطان !
فأجاب بأن الخطاب العام يهون على كثير من الناس، كالواحد في الزحام. والمنام تخصيص للرأي. وللتخصيص من التأثير و الوقع ما ليس للخطاب العام. ولهذا كثير من الصحابة لمّا أخبرهم النبي (صلى الله عليه وسلم ) بذكر من جهة الله كالداهش: (أَو قد ذكرت هناك؟ ) وقد علم أن الخطاب قد تناوله حيث قيل: ( يا أيها الناس ) الخطاب الجملي الذي يدخل فيه المسلم و الكافر، و الخطاب الذي تحته ( يا أيها الذين آمنوا). فإذا جاء خاصِّ في شخص بعينه ارتاع حتى قال: (أَو قد ذكرت هناك ؟)، وأيضا فإنه يكون مسوّفاً نفسه بالتوبة والاعتذار، فإذا جاء المنام استشعر الازعاج والإزهاق والتخويف من سرعة اللقاء و قرب الأجل.
(كتاب الفنون)
50- ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ:
قال ابن مفلح:
قِيلَ لِابْنِ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ : أَسْمَعُ وَصِيَّةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : { ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } وَأَسْمَعُ النَّاسَ يَعُدُّونَ مَنْ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ مُنَافِقًا ، فَكَيْفَ لِي بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّخَلُّصِ مِنْ النِّفَاقِ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : النِّفَاقُ هُوَ : إظْهَارُ الْجَمِيلِ ، وَإِبْطَالُ الْقَبِيحِ ، وَإِضْمَارُ الشَّرِّ مَعَ إظْهَارِ الْخَيْرِ لِإِيقَاعِ الشَّرِّ ، وَاَلَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ إظْهَارُ الْحَسَنِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَبِيحِ لِاسْتِدْعَاءِ الْحَسَنِ .
فَخَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ النِّفَاقَ إبْطَالُ الشَّرِّ وَإِظْهَارُ الْخَيْرِ لِإِيقَاعِ الشَّرِّ الْمُضْمَرِ ، وَمَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيلَ وَالْحَسَنَ فِي مُقَابَلَةِ الْقَبِيحِ لِيَزُولَ الشَّرُّ فَلَيْسَ بِمُنَافِقٍ لَكِنَّهُ يَسْتَصْلِحُ أَلَا تَسْمَعُ إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } فَهَذَا اكْتِسَابُ اسْتِمَالَةٍ ، وَدَفْعُ عَدَاوَةٍ ، وَإِطْفَاءٌ لِنِيرَانِ الْحَقَائِدِ ، وَاسْتِنْمَاءُ الْوُدِّ وَإِصْلَاحُ الْعَقَائِدِ ، فَهَذَا طِبُّ الْمَوَدَّاتِ وَاكْتِسَابُ الرِّجَالِ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
أبو المجد الفراتي
2016-03-11, 08:37 PM
51- - الْوَيْلُ لِلْكَاتِمِ مِنْ الْمُتَكَشِّفِي نَ:
قال ابن مفلح:
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : لِلْإِيمَانِ رَوَائِحُ وَلَوَائِحُ لَا تَخْفَى عَلَى اطِّلَاعِ مُكَلَّفٍ بِالتَّلَمُّحِ لِلْمُتَفَرِّسِ ، وَقَلَّ أَنْ يُضْمِرَ مُضْمِرٌ شَيْئًا إلَّا وَظَهَرَ مَعَ الزَّمَانِ عَلَى فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ .
وَقَدْ أَخَذَ الْفُقَهَاءُ بِالتَّكَشُّفِ عَلَى مُدَّعِي الطَّرَشِ وَالْعَمَى عِنْدَ لَطْمِهِ ، أَوْ زَوَالِ عَقْلِهِ عِنْدَ ضَرْبِهِ ، أَوْ الْخَرَسِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُعْلَمُ صِحَّتُهُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَلَا تُمْكِنُ الشَّهَادَةُ بِهِ .
.. وَأَنَّ مَنْ أَرَادَ التَّكَشُّفَ عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَزَلْ يَذْكُرُ الْمَذَاهِبَ وَيُعَرِّضُ بِهَا وَيَذْكُرُ الْأَفْعَالَ الْمُزْرِيَةَ فِي الشَّرْعِ الَّتِي يَمِيلُ إلَيْهَا الطَّبْعُ وَيَنْظُرُ هَشَاشَتَهُ إلَيْهَا وَتَعَبُّسَهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ الْبَحْثُ بِصَاحِبِهِ حَتَّى يُوقِفَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الدَّلَائِلِ ، فَافْهَمْ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ مُرِيحٍ مِنْ كُلِّ إقْدَامٍ عَلَى مَا لَا تَسْلَمُ مِنْ عَاقِبَتِهِ ، وَيَعْصِمُ مِنْ كُلِّ وَرْطَةٍ وَسَقْطَةٍ يَبْعُدُ تَلَافِيهَا ، وَذَلِكَ دَأْبُ الْعُقَلَاءِ ، فَأَيْنَ رَائِحَةُ الْإِيمَانِ مِنْكَ وَأَنْتَ لَا يَتَغَيَّرُ وَجْهُكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَتَكَلَّمَ ، وَمُخَالَفَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاقِعَةٌ مِنْ كُلِّ مُعَاشِرٍ وَمُجَاوِرٍ فَلَا تَزَالُ مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْكُفْرُ يَزِيدُ ، وَحَرِيمُ الشَّرْعِ يُنْتَهَكُ ، فَلَا إنْكَارَ وَلَا مُنْكِرَ ، وَلَا مُفَارَقَةَ لِمُرْتَكِبِ ذَلِكَ وَلَا هِجْرَانَ لَهُ .
وَهَذَا غَايَةُ بَرَدِ الْقَلْبِ وَسُكُونِ النَّفْسِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي قَلْبٍ قَطُّ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ إيمَانٍ ؛ لِأَنَّ الْغِيرَةَ أَقَلُّ شَوَاهِدِ الْمَحَبَّةِ وَالِاعْتِقَادِ .
حَتَّى لَوْ تَحَجَّفَ الْإِنْسَانُ بِكُلِّ مَعْنًى وَأَمْسَكَ عَنْ كُلِّ قَوْلٍ لَمَا تَرَكُوهُ وَيُفْصِحُ لِأَنَّهُمْ كَثْرَةٌ وَهُوَ وَاحِدٌ وَالْكَلَامُ شُجُونٌ ، وَالْمَذَاهِبُ فُنُونٌ ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَنْطِقُ بِمَذْهَبٍ وَيُعَظِّمُ شَخْصًا ، وَآخَرُ يَذُمُّ ذَلِكَ الشَّخْصَ وَالْمَذْهَبَ وَيَمْدَحُ غَيْرَهُ ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَهِشَّ لِمَدْحِ مَنْ يَهْوَى ، وَيَعْبَسَ لِذَمِّهِ ، وَيَنْفِرَ مِنْ ذَمِّ مَذْهَبٍ يَعْتَقِدُهُ فَيَكْشِفَ ذَلِكَ .
فَالْعَاقِلُ مَنْ اجْتَهَدَ فِي تَفْوِيضِ أَمْرِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سَتْرِ مَا يَجِبُ سَتْرُهُ وَكَشْفِ مَا يَجِبُ كَشْفُهُ، وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَتْعَبُ وَلَا يَبْلُغُ مِنْ ذَلِكَ الْغَرَضَ .
لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَهِشَّ بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنْ كَانَتْ الْمُنَاظَرَةُ فِيهِمَا ، وَلَا إلَى الْقَدَرِ وَلَا إلَى نَفْيِهِ وَلَا حُدُوثِ الْعَالَمِ وَلَا قِدَمِهِ ، وَلَا النَّسْخِ وَلَا الْمَنْعِ مِنْ النَّسْخِ ، وَالسُّكُونُ إلَى هَذَا وَبَرْدُ قَلْبِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ لَا يَعْتَقِدُ إذْ لَوْ كَانَ لِهَذَا اعْتِقَادٌ بِحَرَكَةٍ لَهَشَّ إلَى نَاصِرِ مُعْتَقَدِهِ ، وَلَأَنْكَرَ عَلَى مُفْسِدِ مُعْتَقَدِهِ .
فَالْوَيْلُ لِلْكَاتِمِ مِنْ الْمُتَكَشِّفِي نَ. وَإِرْضَاءُ الْخَلْقِ بِالْمُعْتَقَدَ اتِ وَبَالٌ فِي الْآخِرَةِ ، وَمُبَاغَتَتُهُ مْ فِيهَا وَمُكَاشَفَتُهُ مْ بِهَا وَبَالٌ فِي الدُّنْيَا وَتَغْرِيرٌ بِالنَّفْسِ، وَلَا يَنْجُو مِنْهُمْ الْمُشَارِكُ لَهُمْ فِي الْحِيَلِ .
وَالْأَحْرَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَتَمَاسَكَ عَمَّا فِيهِ وَيَتْرُكَ فُضُولَ الْكَلَامِ ، وَإِذَا تَوَسَّطَ اعْتَمَدَ عَلَى اللَّهِ فِي إصْلَاحِ دُنْيَاهُ ، وَإِذَا قَصَدَ إظْهَارَ الْحَقَّ لِأَجْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْصِمُهُ وَيُسَلِّمُهُ وَمَا رَأَيْنَا مِنْ رَدِّ الْبِدَعِ إلَّا السَّلَامَةَ.
انْتَهَى كَلَامُهُ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
52- فصل: المبتدعون خوارج الشرع:
كما لا يحسن في سياسة الملك العفو عمن سعى على الدولة بالخروج على السلطان، لا يحسن أيضا أن يُعفى عمن ابتدع في الأديان. لأن فساد الأديان بالإبتداع كفساد الدول بالخروج على الملك والاستتباع. فالمبتدعون خوارج الشرع.
(كتاب الفنون)
53- فصل: لا تعاشر متلوناً:
احذر ممن إذا غلبت عليه حال من الأحوال، استحال حتى لم يظهر فيه تقييد العقل عن الشطح، وإن غضب تأسّد، فلم يبق فيه ما يكفّه عن الصول، وإن اعتراه النهم، خرج بصورة رخم ساقطاً على ما وجد من المطاعم، لا يلوي عن تناول المستقذارات في الطبع والمكروهات في الشرع، وإن عرض بها طالب الحق ومقتضى الشرع راغ روغان الثعلب، لا يمزج روغانه ثبات، ولا إصغاء إلى إذعان، ولا استجابة لهذا الشأن. فهذا لا يُدّخر عنده الإحسان، لأنه كالوعاء المخترق، ولا يرجى منه الخي. فاحذر معاشرة أمثاله، فإنه من أعظم الأخطار، ومجموع هذا في كلمة: لا تعاشر متلوناً.
(كتاب الفنون)
54- الْحَسَدُ:
قال ابن مفلح:
قالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: افْتَقَدْتُ الْأَخْلَاقَ فَإِذَا أَشَدُّهَا وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهَا الْحَسَدُ فَإِنَّهُ التَّأَذِّي بِمَا يَتَجَدَّدُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ فَكُلَّمَا تَلَذَّذَ الْمَحْسُودُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى تَأَذَّى الْحَاسِدُ وَتَنَغَّصَ فَهُوَ ضِدٌّ لِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى سَاخِطٌ بِمَا قَسَمَهُ مُتَمَنٍّ زَوَالَ مَا مَنَحَهُ خَلْقَهُ ، فَمَتَى يَطِيبُ بِهَذَا عَيْشٌ وَنِعَمٌ تَنْثَالُ انْثِيَالًا ؟ وَهَذَا الْمُدَبِّرُ لَا يَزَالُ بِأَفْعَالِ اللَّهِ مُتَسَخِّطًا وَمَا زَالَ أَرْحَمَ النَّاسِ لِلنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِهِمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا النَّزْعُ وَحَشْرَجَةُ الرُّوحِ فَكَيْفَ بِمُقَدِّمَاتِ الْمَوْتِ مِنْ الْبِلَى وَالضَّنَى فَمَنْ شَهِدَ هَذَا فِيهِمْ لَمْ يَحْسُدْهُمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
55- فصل: المخاصمة موازنة:
المخاصمة موازنة، فمتى خاصم الإنسان قبل موازنة الحال بالحال، غُلب وخسر. فمن أشكال الرجال ما يكون مخاصمة عنه، ومن أشكالهم ما يكون وبالا عليه. فمن الناس من يكون له سمت عليه مسحة من توضع وذل، فمتى خاصمه من عليه سيماء الجلادة، كان الناس كلهم مع صاحب السمت، لما يغلب على ظنهم من ضعف ذلك الستميت ووقاره، وفورة ذلك الجََلَد وتسلطه. فمخاصم ذلك السمتيت معين على نفسه، حيث حمل الناس بخصومته على ظهره. ومن خاصم الناس خُصم. ومن اعتمد على ما يعلمه من نفسه وبراءته، لم يكد ينفعه علمه مالم يجعل عليه شاهدا من براءته. وكم وقعت التهم بالصور والأشكال، وبعدت عن المجرمين لصور وأشكال.
فالعاقل من لم يقنع في الأحكام بفراسته، وقد خوّفنا الله سبحانه من الحكم بالفراسة و الظاهر بما ذكره لنا من قصة صواع العزيز ، ودم قميص يوسف، وبكاء إخوته عند دعواهم أنه أكله الذئب. فأيّ حكم يبقى عند العاقل لهذه الظواهر مع إيقاف الباري لنا على مخالفة الباطن؟
ولقائل أن يقول: إن كانت هذه القصص تمنع من الحكم بالظواهر، فالحكم بتخريق القميص من دبر، يحمل ويحث على أخذ الجنايات من الأمارات و الدلائل الظاهرة. ولو سلم لأحد الحكم بما يقع له ، لكان رسول الله يحكم بها. وقد قال: إنكم لتختصمون إليّ، ولعل أحدكم ألحن بقصته من صاحبه، فمن قطعت له بشيء فلا يأخذه، إنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها.
(كتاب الفنون)
56- شذرة:
في قوله سبحانه: ( فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ)، (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا)، (أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)، (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ)، فموسى عتب، وهارون اعتذر، لا بالقدر. ما جرى على لسان موسى عذر لأخيه بقدر باريه، ولا جرى على لسان هارون اعتذار بالقدر.
والسامري لما قال له: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ) قال : (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).
فتعلّموا من الأنبياء، ولا تحدّثوا ما لم يُسمَع من ذكر القضاء والقدر.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-12, 12:37 PM
57- في الرد على أهل التوسل:
قال ابن القيم:
قال ابن الجوزي في آخر منتخب الفنون، مما بلغه عن ابن عقيل من غير الفنون:
قال: سمعت أبا يعلى بن الفراء يقول: (من قال إن بينه وبين الله سرا فقد كفر، واي وصلة بينه وبين الإله ؟ وإنما ثم ظواهر الشرع. فإن عنى بالسر ظاهر الشرع فقد كذب، لأنه ليس بسر، وإن شيئا وراء ذلك، فقد كفر .
وقال في قول المتوسلين بالميت (اللهم إني أسلك بالسر الذي بينك وبين فلان) : أي سر بين العبد وبين ربه لولا حماقة هذا القائل؟
(بدائع الفوائد لابن القيم).
58- سأل سائل عن حالنا مع إبليس، كيف يكون لنا به قوة وهو يرانا ونحن لا نراه؟
فأجاب حنبلي، بأنه لو كانت معاداته تحتاج إلى مناضلة ومضاربة، أضرّ بنا عدم رؤيته. فأما وأذيّته إلقاء الى القلوب ووسوسة في الصدور، فجواب المسألة منها كما يُقال. فكما أن سهامه كالخواطر العارضة يلقيها بالأفكار الصحيحة الصادرة عن العقول الصاحية السليمة من الهوى، فإذا ألقى إلى النفوس ما ليس بصواب، رده العقل بأحسن جواب.
(كتاب الفنون)
59- أمران، أحدهما لا تُحمد عقباه إلا الشركة، والآخر لا يصلح إلا بالوحدة :
قال عالم ينطق بالحكمة:
لنا أمران، أحدهما لا تُحمد عقباه إلا بالكثرة والشركة. والآخر لا يصلح إلا بالوحدة، وتفسده الشركة.
فالأول: الرأي، فإن المشورة أمر بها القرآن، واتفق العقلاء أجمع على الاجتماع لها والمشاركة فيها.
والثاني: الإمارة والملك، لا يتم صلاحه ويُؤمن فساده إلا بالوحدة.
والقرآن شهد بذلك حيث قال: ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) .
وقال قائلهم يوم السقيفة، لمّا قالت الأنصار ( منا أمير ومنكم أمير): (سيفان في غمد لا يصطلحان أبدا ).
(كتاب الفنون)
60- إنتقاد:
قال ابن مفلح:
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُحَقِّقِينَ :
إذَا كَانَتْ مَجَالِسُ النَّظَرِ الَّتِي تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ عَقَدْتُمُوهَا لِاسْتِخْرَاجِ الْحَقَائِقِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى عَوَائِرِ الشُّبَهِ وَإِيضَاحِ الْحُجَجِ لِصِحَّةِ الْمُعْتَقَدِ مَشْحُونَةً بِالْمُحَابَاةِ لِأَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ تَقَرُّبًا ، وَلِلْعَوَامِّ تَخَوُّنًا ، وَلِلنُّظَرَاءِ تَعَمُّلًا وَتَجَمُّلًا، فَهَذَا فِي النَّظَرِ الظَّاهِرِ ، ثُمَّ إذَا عَوَّلْتُمْ بِالْأَفْكَارِ فَلَاحَ دَلِيلٌ يَرُدُّكُمْ عَنْ مُعْتَقَدِ الْأَسْلَافِ وَالْإِلْفِ وَالْعُرْفِ وَمَذْهَبِ الْمَحَلَّةِ وَالْمَنْشَأِ خَوَّنْتُمْ اللَّائِحَ، وَأَطْفَأْتُمْ مِصْبَاحَ الْحَقِّ الْوَاضِحَ، إخْلَادًا إلَى مَا أَلِفْتُمْ ، فَمَتَى تَسْتَجِيبُونَ إلَى دَاعِيَةِ الْحَقِّ ؟ وَمَتَى يُرْجَى مِنْكُمْ الْفَلَاحُ فِي دَرْكِ الْبُغْيَةِ مِنْ مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى وَالنَّفْسِ، وَالْخَلَاصُ مِنْ الْغِشِّ ؟ هَذَا وَاَللَّهِ هُوَ الْإِيَاسُ مِنْ الْخَيْرِ، وَالْإِفْلَاسُ مِنْ إصَابَةِ الْحَقِّ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ مِنْ مُصِيبَةٍ عَمَّتَ الْعُقَلَاءَ فِي أَدْيَانِهِمْ ، مَعَ كَوْنِهِمْ عَلَى غَايَةِ التَّحْقِيقِ ، وَتَرْكِ الْمُحَابَاةِ فِي أَمْوَالِهِمْ ، مَا ذَاكَ إلَّا ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشَمُّوا رِيحَ الْيَقِينِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ الشَّكِّ ، وَمُجَرَّدُ التَّخْمِينِ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
61- فصل: ( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ):
في قوله تعالى: ( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ):
فأخبر سبحانه وتعالى أنه يحرّم المباحات في زمان النبوات، عقوبة على أكل المحرّمات. والآن، فلم يبق طريق للنسخ فيحرّم عليك.
لكن احذر لا يحرِمك، فإنه كما يمنع بالتحريم منعاً شرعيا، يمنع بالفقر تارة، مع وجود المشتهيات و تعذّر الأثمان. وتارة يوجد المال، ثم يسلّط على الأبدان أنواع الأمراض المانعة مع تأتّي الأثمان وإباحة الشرائع. هذا من بعض عقوباته الآجلة.
احذر لا يوقع فيك علّة تستقذرك الزوجات و الأولاد. من بعض أجناده الجُذام القاطع بينك وبين سائر الآنام.
قال سبحانه: ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا). ومِن محقه إخراج المال في غير وجهه بجمعه، وبثمنه بالربا يخرجه من يدك على أحلى ما يكون في قلبك الى العطارين والصيادلة والأطباء، لا في مستحلى، ولكن في حشائش مُرّة وتقطيع العروق وفتح الدمّل. وتخرج ما جمعتَ منه في أكره مكروه. هذا من بعض محقه للربا. وإلا فيقلب الأسعار حتى لا يعود إليك رأس المال. هو إذا محق محق، كما أنه إذا بارك بارك.
تطلب الزيادة بالطريق الذي نهاك عنه، يحرِمك الزيادة من حيث جرت العادة به; لا زرع يزكو، ولا بضاعة تربح. هذا جزاء عبد خالف مولاه بشهوة، لا حاجة.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-12, 08:00 PM
62- فصل:
أستشعر أنك غير منفكّ من تحمّل أثقال الخلق; في حال الشبيبة مكابدةُ الآداب للمشايخ، وفي حال كبرك تحمل أثقال الصبر على الأصاغر. وهل وجد الصدور حلاوة التصدّر إلا بالصبر على مرارة التخلّق بالحكمة؟ وهل حُلوُ الحكمة إلا تجرّع مرارة الأدب في الصغر، ومكابدة غُصَص الحِلم عن السفهاء حال الكبر ؟ وقَلّ أن تحصل الرئاسة لمن لا يتحمّل أثقال السياسة.
وفي الجملة والتفصيل، لا مستفاد إلا بإنفاق حاصل، وإنما يترجح الحاصل على الإنفاق بنوع من ربح فيسهل، وإلا فالعلوم المكتسبة إنما تتحصل بإنفاق الأعمال، كما أن الرئاسة تتحصل ببذل الدرهم والدينار. وما نالت النفس قطُّ لذةً إلا بنوع نغصة. ولو علم العقلاء ما في الزهد من الراحة، لكسدت سوق الدنيا عن راغب، وتعنّست بهجتها عن خاطب. وما أخذ بالعزم ولا الحزم من خاطر بِنفيس ما تحصّل فيما عساه لا يتحصّل. وإن كانت المخاطرة علوّ همة، فالبخل بالحاصل نوعٌ من الحزم.
(كتاب الفنون)
63- في الأذان:
في الفنون: سُئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه، عن رجل سمع مؤذنا يقول: (أشهد أن محمدا رسول الله)، فقال: (كذبت). هل يكفر ؟
فقال: لا، لا يكفر، لجواز أن يكون قصدُه تكذيبَ القائل فيما قال، لا في أصل الكلمة، فكأنه قال: (أنت لا تشهد هذه الشهادة)، كقوله (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ).
(بدائع الفوائد لابن القيم).
64- فصل: إعتبار:
إن امرءاً لو تتحصّل له العبرة بين منازل الأسلاف والأحباب الدائرة، وبين رُممهم في التراب عظاما ناخرة، لَكشفَ الحجاب عن الدنيا والآخرة.
لو كان الحزن مكتسبا، لكان هذا من آكد أسباب الإكتساب، فكيف وهو طبع غريزي، وخُلُق طبعي، ولا يحركه مثل هذا المزعج المهول ؟ نعم، هذا ولا خلَفَ به يتسلى، ولا عوضَ عنهم به يتعزى، بل ديار من الأهلين خالية، وأجساد في أعماق الأرضين بالية، وآثار تستحضر للنفوس، وتشكّل للقلوب شخوصهم ماثلة.
فواهاً على عمر مضى ليس له رجوع، وذنب ثابت ما عنه نزوع ! أف لحسرة وعَبرة، لا تعقب يقظة وعِبرة !
(كتاب الفنون)
65- فصل: في قوله سبحانه: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ):
انتقد أهل المسكنة و الضعف عن المال لبقية كانت معه من القوى حيث فقد المال. فوجد من دون تلك الأمّة إمرأتين معهما ذود من الغنم في أواخر الناس. (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ) إذا شرب أهل السقاية و صدروا عنها رووا، (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ). كذا من ضَعُف ناصرُه ، وغاب آخر عن بلوغ الأغراض والآداب. حرّكتهُ أخلاق النبوة، فرفع الصخرة ومدّ واستقى فأمدّ، (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) فاستمد طلباً للكسر، وما عنده من البعثة خبر. فلما رجعتا إلى الشيخ قبل أوانهما، أنكر شأنهما. فلما وصفاه، عرفه بالوصف، وشهده بالنعت فاستدعاه. فلما أضافه وأدناه وخطبه واصطفاه وقضى الأجل فوفاه، سار بأهله وناداه مفاجأة من غير مواعدة ولا مواطأة: (يا راعي غنم كنعان ! يا موسى بن عمران !) وما دار بخلده ما جرى من ذلك الشان .
سبحان من يختص برحمته من يشاء، ولا يضيع أجر المحسنين !
سبحان من تحجّب بنعوت جلاله عن أن ينال و يتحلى بأفعاله وتأثيراته بكل حال !
قلّب العصا، ودكّ الجبل، وقلّب اليد بيضاء، وأظهر ناراً حمراء على عوسجة خضراء، ليعلم موسى أن الكلام لمن هذه أفعاله.
(كتاب الفنون)
66- ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ شِعْرِية:
قال ابن مفلح:
رَوَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
أَذِنَ مُعَاوِيَةُ لِلنَّاسِ إذْنًا عَامًّا، فَلَمَّا احْتَفَلَ الْمَجْلِسُ قَالَ: أَنْشِدُونِي ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ لِرَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ كُلُّ بَيْتٍ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ بِمَعْنَاهُ ، فَسَكَتُوا، فَلَمَّا سَكَتُوا عَلِمَ أَنَّهُمْ قَدْ أُعْيُوا ، إذْ طَلَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقِيلَ : مِقْوَلُ الْعَرَبِ وَعَلَّامَتُهَا ، فَقَالَ أَبَا خُبَيْبٍ فَقَالَ مَهْيَمْ قَالَ: أَنْشِدْنِي ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ لِرَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ كُلُّ بَيْتٍ قَائِمٌ بِمَعْنَاهُ، قَالَ: بِسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ: وَتُسَاوِي، قَالَ: فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ وَأَنْتَ وَافٍ كَافٍ. فَأَنْشَدَهُ لِلْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ :
بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ *** فَلَمْ أَرَ غَيْرَ خَتَّالٍ وَقَالٍ
قَالَ : صَدَقْت هِيهِ قُلْ الْبَيْتَ الثَّانِيَ ، فَقَالَ :
وَذُقْت مَرَارَةَ الْأَشْيَاءِ طُرًّا *** فَمَا طَعْمٌ أَمَرُّ مِنْ السُّؤَالِ
قَالَ : صَدَقْت قُلْ الْبَيْتَ الثَّالِثَ فَقَالَ :
وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ وَقْعًا *** وَأَصْعَبَ مِنْ مُعَادَاةِ الرِّجَالِ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
أبو المجد الفراتي
2016-03-13, 01:39 PM
67- قال حنبلي في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ( إذا حضرت الصلاة والعشاء فابدأوا بالعشاء، و إذا حضرت الصلاة والخلاء فابدأوا بالخلاء):
ما أبله قوما قالوا: ( بدأ بحظوظنا قبل حقوقه ). فعدٍّوا هذا رفقاً بطباعهم وتقديما لحظوظهم. وكَلاّ أن يكون الشرع قصد ذلك، وإنما الفقه أنه أحب أن لا يدخلوا الصلاة بقلوب مشغولة بطلب الغذاء، أو دفع الأذى، فلا يتكامل الخشوع، ولا تحضر القلوب، فدفع المشغلات توفُّراً على قيام الإنسان بحقوق العبادات، مثل قوله: ( لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان) طلباً للاعتدال، لئلا يحصل الميل لمكان نفور الطبع، لأنه معيار الحق. ونحن نصون معيار الأثمان والمأكولات عن العين التي تُخلّ بحقيقة وزنه، فكيف بميزان الشرائع و الحقوق ؟
فهذا فقه الحديث، وعليه قاس الناس صيانة الشاهد عن أن يكون عدوّاً أو يكون أباً، لأن تمثّل الغضب غير لابث، ولكنه نفور يمنع تحقيق النظر، فكيف بهوى النفس في الأولاد ومحبة إيصال الخير إليهم ؟ فلم يبقَ الشرعُ تُمْسِكه الأديان والعدالات العارضة عن أن يوقع التهمة بأربابها لأجل الطباع الموضوعة فيهم.
فافهم هذا، فإنه من أحسن فقه الحديث.
(كتاب الفنون)
68- الِاحْتِرَازَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ:
قال ابن عقيل في الفنون:
الْعُقَلَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّ الِاحْتِرَازَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ وَأَنَّ دَقِيقَ الْحِيَلِ مِنْ الْأَعْدَاءِ يُدْفَعُ بِلَطِيفِ التَّحَرُّزِ وَالْمُبَالَغَة ِ فِي التَّحَفُّظِ.
(موقع الجمعية السعودية للسنة وعلومها).
69- مسألة:
قد ورد: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ). وورود المنع من اليقين أو الظن بما يوجب الشك لبيقى على حكم الأصل . فإن قوله (صلى الله عليه وسلم ) لمّا سألوا الراعي عن الماء هل ورد عليه ما ينجّسه : لا تعلمهم. وقال عمر للسائل عن الميزاب : يا صاحب الميزاب لا تعلمهم. وأمر بأخذ كف من الماء للميزر عقب الإستنجاء . كل ذلك دفع للظن ، أو العلم بما يوجب البقاء على الأصل. فكيف الجمع ؟
قال حنبلي: يُحمل قوله الأول على الإستحباب، أو في المأكول والمشروب و المنكوح، دون الطهارات والتعبدات التي طريقها المسامحة.
(كتاب الفنون)
70- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: مقام الرسل:
قال أبو الوفاء ابن عقيل في الفنون: من أعظم منافع الإسلام، وآكد قواعد الأديان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح؛ فهذا أشق ما تحمله المكلف، لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس أهل اللذات، ويمقته أهل الخلاعة. وهو إحياء السنن، وإماتة البدع.
- إلى أن قال - لو سكت المحقون، ونطق المبطلون، لتعود النشء على ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا؛ فمتى رام المتدين إحياء سنة، أنكرها الناس، فظنوها بدعة، وقد رأينا ذلك.
(كتاب: الدرر السنية في الكتب النجدية).
71- قال حنبلي - وسمع واعظا يزري على الدنيا و نعيمها، ويزعم أنها كالميتة ، و أهلها كالكلاب عليها، وأغرق في هذا و أمثاله:
بيني وبين هذا المزري على أبناء الدنيا، والمستخفّ بخير منها، جوعة تذلّه و تصرعه، حتى أوقفت الكليم عليه السلام يقول في ظلّ شجرة: (رب إني لما أنزلتَ إلي من خير فقيرٌ ).
ويُترَك أمثالنا اليوم على أبواب أرباب الأموال الأنذال، بذلّ الطلب، مع التحجّب عنا، والإيقاف لنا على الدهاليز، كالأيتام على أبواب الأوصياء.
وأدنى شبق و عشق يبذّلنا بقول العزل، والوقوف على أقبية البيوت والروازن، والتّيم والهيمان و اللهج بالنساء والمردان، حتى يخلع العذار، ويرفض الوقار، ويكشف الأسرار، في النثر والأشعار.
وأدنى مصاب يصيبنا في الأموال والأولاد يجعلنا كالنسوة الثواكل، نتفاً للشعور، وتخريقاً للجيوب، و صكاً للخدود.
وأيسر شبهة تعرض، إما من طريق الأفعال، أو الإشتباه في الأقوال،
ننطق بالاعتراض، ونخرج عن طريق الاستسلام والتسليم، إلى التسخّط على من ليس لنا طريق الى الاعتراض عليه. يشهد لذلك يوم عمر، والقضايا دأب الصحابة، وطرحهم في الشكوك الموبقة بما كان تحته شبهة تزيلها كلمة ( أقال لكم العام ؟).
..
وأدنى غضب يعترض، يهيّج من غليان دم القلب، طلب الانتقام على الذنب، حتى يصير كالسبع الضاري، والأسد الصائل، ممن تحيله الحاجات، كيف يزري على الدنيا ؟
كان لنا شيخ بدرب الديوان، يُعرَف بابن زيدان، له حلقة بجامع المهدي، يتكلم فيها بالمعاريف و المجاويد ولسان التصوّف، وكان شطاحاً بالاضافة الى أصحاب الأحوال. والى جنب حلقته حلقة الشيخ الدباب من أصحاب عبد الصمد. فقال له ابن زيدان: أقوام الجواري، عندهم كهذه السواري؟ فقال الدباب: واللهِ إنّ ذاك بُلي بعشق مغنية، حمل وراءها طبلها ..
أمَا رأيت صاحب الشرع كيف عزل و أبعد عن مقامات الرأي والعقل و التعبّد للربّ ؟ فقال : (إذا حضرت الصلاة والعشاء، فابدأوا بالعشاء)، ليس هذا لما يعتقده البُلْه من أنه تقديم لحظ النفس على حق الربّ، لكن لعلمه بأن الجائع لا يصلح لخدمة الحق. فاشتغال الشيء الذي يحتاج الى إجتماعه بتلك الكسرة، هو الذي أبعده عن الحضرة، ليكون همه مجموعا في تلك اللحظة. فإن الدواعي المتوثِّبة مشوّشة للهمّ .
وكذلك قوله: ( لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان )، كرامة للمنصب أن يقوم فيه مشوّش الأدوات، وعلى هذا أبداً. حتى إنه عزل الآباء عن شهادتهم للأبناء، لمكان شغفهم بالأولاد. ومغلوب بالطبع لا يُجعَل معياراً في الشرع .
فعلى هذا كل مُهوَّن في الشرع عظيم في الطبع. وتهوين الشرع له علاج ومداواة، فلا ينبغي للواعظ و الناهي أن يُدخل فيه مدخل المقاواة، فإنّ الحمية مقاومة للطبيعة، ولا تقاوَم إلا بما هو أقوى منها، وليس عند هؤلاء من اليقين ما يهوِّن عندهم المحسوسات العاجلة، فينبغي أن يُسلَك معهم مسلكُ اللطف و المداراة، وتعظيم أمر الآخرة، ولذاتها الموفية على لذات الدنيا، فأما أن تُحقَّر اللذات، و تُجعَل كالمزابل و الميتات، و يُجعَل أهلها كالكلاب، فهذا لا يقوله إلا من أتلفته الحمية و جعلته شِلواً.
فأما من يزاحمهم على اللذات، والاستكثار بما يوفي على الكفايات، لا يحسن به أن يستخِف و يستزري بمن يطلب ما يطلب، ويرغب فيما يرغب.
إذا رَآنا العوام على أبواب أرباب الأموال مطَّرَحين، ولعل أكثرهم بما يقتنعون به من أجور أعمالهم وأكسابهم عنهم يتعفّفون، فإذا لم يزروا علينا، فأولى أن لا نزري عليهم. لأن العلوم توجب علينا ظلف النفوس عن الدنايا، فإذا لم تقيّدنا العلوم عن طلب الدنيا، فأولى أن لا نزري على العوام الذين لا رابط لهم و لا ضابط.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-14, 01:12 PM
72- في تعاليل القائسين للأحكام والمعلّلين للأفعال:
ذكر بعض أهل العلم أن تعاليل القائسين للأحكام والمعلّلين للأفعال، أفسدت من الشريعة أكثر مما أصلحت، ونبّهت العقول على ما لم تكن به شعرت. ولم يكُ في القياس و التعليل ما يرضي العقول من هذه الإقناعيات التي قامت بإزائها اعتراضات الأوائل و جدل المتكلمين.
قال له قائل: فما الحيلة في ذلك ؟
قال حنبلي:
يكفي أن يكون الإنسان مستطرحا على باب التسليم للحكيم الأزلي - جلّت عظمته - بلا اعتراض يحوِج الى الاعتلال.
قال له العالم: يا هذا، تطلبون من الناس الإمساك عما لم يستطع الأنبياء الإمساك عنه! أليس هذا الكليم يقول لعالم قد أعلمه الباري أنه آتاه علما من لدنه: (أَخَرَقْتهَا لِتُغْرِق أَهْلهَا) (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ). ليس في العقول أن تصبر عن الاعتراض وهي معايير التحسين و التقبيح. و الباري سبحانه لم يقل له: ( ليس لك هذا، ولا جواب لاعتراضك )، بل عدل الى إجابته بمثل ما نطق به العلماء من التعاليل الاقناعية التي لا ترضي هؤلاء الذين زعمتَ أنهم يعترضون.
فإنا إذا قلنا لهم: ( كسر السفينة لئلا تؤخذ في الصخرة) (وقتل الغلام لئلا يبلغ فيكفر ويكفر أهله) تضاحكوا بهذه التعاليل، وأخلدوا الى التعطيل، وقالوا : ( أليس كان في سعة القدرة منع الفساد بغير فساد ؟ فما بال هذا العلاج بالإفساد ؟ )
ومعلوم أن الله سبحانه قنع به بياناً لحكمة الكسر و القتل، وموسى قنع به عذرا لما وقع، فإذا لم يقنع به آحاد أهل وقتنا، كان ذلك تعطيلا لتعاليل الشرع.
فإذا عاد الواحد بعد هذا الرد للتعليل يقول (أنا أرجع الى الرضا و التسليم ) قلنا له إنما يكون هذا منك حسنا إذا كان اطّراحك لكل علة نطق بها مخلوق و استخرجها متكلم، فأما إذا كنت تقول (أنا لا أرضى بهذا التعليل الذي صرّح به الشرع )، وكان عدم رضاك ، لأنه عذر غير شاف في العقل، فلا فرق بين قولك هذا لرد تعليل الشرع و بين قولك هذا في أفعاله التي لم يكشف عن التعليل لها، فإما أن تسلم الكل، الأفعال المعللة بعلل الشرع و الغير معللة، وترضى بعلل الشرع وبيان وجه الحكمة التي بيّنها، وإما أن لا ترضى بالكل، ثم تقول ( أنا أسلم)، فلا تسليم مع ردك التعليل، كما لا تسليم مع ردك للأخبار، لأن الجميع منه سبحانه.
فأما أن تقول ( أنا أسلم أفعاله، وأرضى بها كيف كانت، ولا أرضى بتعليله )، فلا فرق بين ردك لفعله، أو لمصلحة فعله التي بيّنها وكشف عنها ورضي بها.
ومثال أذكره لإبطال هذا المذهب :
إن قائلا لو قال: ( أنا أثق الى حكمة هذا الطبيب، فأيّ شيء طبني به من دواء أو فصد سلّمته لحكمته ) حَسُن هذا القول منه، فإذا فصده ذلك الطبيب فصدة منكرة فقال له هذا المسلِّم: ( لمَ فصدتي هذه الفصدة ؟ ) فقال: ( لكذا وكذا ) -أمرٌ ذكره من الأمراض وادعى أنه يصلح له الفصدة المنكرة- فقال المدّعي الثقة الى حكمته ( ما هذا تعليل يرضي ولا يقوم لك به عندي العذر) لَعُدَّ متناقضا في قوله، حيث ادعى جملة الحكمة و التسليم لها، ثم إنه اعترض على التعليل الصادر عن الفاعل بالحكمة. فيعطي هذا أن من وجبت الثقة به في الفعل وجبت أن تحصل الثقة به في تعليل الفعل. والله أعلم.
(كتاب الفنون)
73- قصة دارٌ مسكونةٌ بالجنّ:
حكى ابن عقيل في الفنون، قال:
كان عندنا بالظفرية دار كلما سكنها ناس أصبحوا موتى. فجاء مرة رجل مقريء، فقال: أكروني إياها.
فقالوا: قد عرفت حالها.
قال: قد رضيت.
فبات بها وأصبح سالماً. فعجب الجيران، وأقام بها مدة، ثم انتقل، فسئل عن ذلك فقال: لما دخلتها صليت العشاء، وقرأت شيئاً، وإذا بشاب قد صعد من البئر، فسلم علي، فبهت، فقال: لا بأس عليك، علمني شيئاً من القرآن. فشرعت أعلمه. فلما فزعت قلت: هذه الدار كيف حديثها؟ قال: محن قوم من الجن مسلمون نقرأ ونصلي، وهذه الدار ما يكتريها إلا الفساق، فيجتمعون على الخمر، فنخنقهم.
قلت: وفي الليل أخاف منك فأجعل مجيئك في النهار.
قال: نعم. فكان يصعد من البئر في النهار، ووالفته. فبينما هو قاعد عندي يقرأ إذا بمعزم في الدرب يقول: المرقي من الدبيب ومن العين ومن الجن.
فقال: إيش هذا؟ قلت: هذا معزم يعرف أسماء الله، ويفعل ما تسمع.
فقال: اطلبه. فقمت وأدخلته، فإذا بالجني قد صار ثعباناً في السقف، فضرب المعزم المندل وعزم، فما زال الثعبان يتدلى حتى سقط في وسط المندل. فقام ليأخذ ويدعه في الزنبيل، فمنعته، فقال: أتمنعني من صيدي؟ فأعطيته ديناراً وأخرجته. فانتفض الثعبان، وخرج الجني وقد ضعف واصفر وذاب، فقلت: ما لك؟ قال: قتلني هذا الرجل بهذه الأسامي، وما أظنني ألفح، فاجعل بالك الليلة، متى سمعت من البئر صراخاً فانهزم.
قال: فسمعت تلك الليلة النعي، فانهزمت.
قال ابن عقيل: وامتنع أحد أن يسكن تلك الدار.
(آكام المرجان للشبلي)
74- حكمة:
لا ينبغي للملك ولا لصدر من الصدور أن يُظهر من الغضب إلا بحسب ما أعدّ له من العقوبة. فإن كانت بطشته دون غضبه، حُقّر غضبه، واستهين بسخطه، وانكشف عجزه.
وقد قال الناس في ذلك: (إذا ما غضب السّوقيّ ، فالحبة تٌرضيه ).
(كتاب الفنون)
75- شذرة:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ :
وَاَللَّهِ مَا أَعْتَمِدُ عَلَى أَنِّي مُؤْمِنٌ بِصَلَاتِي وَصَوْمِي، بَلْ أَعْتَمِدُ إذَا رَأَيْتُ قَلْبِي فِي الشَّدَائِدِ يَفْزَعُ إلَيْهِ ، وَشُكْرِي لِمَا أَنْعَمَ عَلَيَّ.
قَدْ صُنْتُكَ بِكُلِّ مَعْنًى عَنْ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا لِعَبْدٍ وَأَعْلَمْتُكَ أَنِّي أَنَا الْخَالِقُ الرَّازِقُ فَتَرَكْتَنِي وَقَبِلْتَ عَلَى الْعَبِيدِ ، كُلُّكُمْ تَسْأَلُونِي وَقْتَ جَدْبِ الْمَطَرِ ، وَبَعْدَ الْإِجَابَةِ يَعْبُدُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
76- وعظ وإرشاد:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:
أَمَا تَسْتَحْيِي وَأَنْتَ تُعَلِّمُ كَلْبَ الصَّيْدِ يَأْخُذُ إبْقَاءً عَلَيْكَ فَيَقْبَلُ تَعَلُّمَكَ وَتَكْسِرُ عَادِيَةَ طَبْعِهِ وَتُكَلِّبُ نَفْسَهُ عَنْ الْفَرِيسَةِ وَهُوَ جَائِعٌ مُضْطَرٌّ إلَيْهَا ، حَتَّى إذَا أَخَذْتَ الصَّيْدَ إنْ شِئْتَ أَطْعَمْتَهُ وَإِنْ شِئْت حَرَمْتَهُ ، يَنْتَهِي حَالُك مَعِي وَأَنَا الْمُنْعِمُ الَّذِي أَنْشَأْتُك وَغَذَّيْتُك وَرَبَّيْتُك إنَّنِي كَلَّفْتُك أَنْ تُمْسِكَ نَفْسَكَ عَنْ الْبَحْثِ فِيمَا يُسْخِطُنِي ، لَمْ تَضْبِطْ نَفْسَكَ بَلْ غَلَبَتْك عَلَى ارْتِكَابِ مَا نُهِيت وَعِصْيَانِ مَا أُمِرْت ، بَلَغَتْ الصِّنَاعَةُ مِنْ هَذَا الْحَيَوَانِ الْخَسِيسِ أَنْ يَأْتَمِرَ إذَا أُمِرَ ، وَيَنْزَجِرَ إذَا زُجِرَ ، عُلِّقَتْ الْآدَابُ بِالْبَهِيمِ وَمَا تَعَلَّقَ بِقَلْبِك طُولُ الْعُمْرِ وَكَمَالُ الْعَقْلِ.
تَنْشَطُ لِزَرْعِ نَوَاةٍ وَغَرْسِ فَسِيلَةٍ وَتَقْعُدُ مُنْتَظِرًا حَمْلَهَا ، وَيَنْعَ ثَمَرِهَا ، وَرُبَّمَا دُفِنْت قَبْلَ ذَلِكَ وَلَوْ عِشْت كَانَ مَاذَا وَمَا قَدْرُ مَا يَحْصُلُ مِنْهَا ؟ وَأَنْتَ تَسْمَعُ قَوْلِي { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ } وَقَوْلِي : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ } هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ لَا تَنْشَطُ أَنْ تَزْرَعَ عِنْدِي مَا تَجْنِي ثِمَارَهُ النَّافِعَةَ عَلَى التَّأْبِيدِ ، هَذَا لِأَنَّك مُسْتَبْعِدٌ مَا ضَمِنْت فِي الْأُخْرَى ، قَوِيُّ الْأَمَلِ فِي الدُّنْيَا ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْله تَعَالَى { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ }.
وَتَسْمَعْ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } . وَأَنْتَ تُحَدِّقُ إلَى الْمَحْظُورَاتِ تَحْدِيقَ مُتَوَسِّلٍ أَوْ مُتَأَسِّفٍ كَيْفَ لَا سَبِيلَ لَك إلَيْهَا.
وَتَسْمَعْ قَوْله تَعَالَى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ }. تَهِشُّ لَهَا كَأَنَّهَا فِيكَ نَزَلَتْ ، وَتَسْمَعُ بَعْدَهَا { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } فَتَطْمَئِنُّ أَنَّهَا لِغَيْرِك .
وَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ هَذَا الْأَمْرُ ، وَمِنْ أَيْنَ جَاءَ الطَّمَعُ ، اللَّهَ اللَّهَ هَذِهِ خُدْعَةٌ تَحُولُ بَيْنَك وَبَيْنَ التَّقْوَى .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
77- فصل:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:
الطِّبَاعُ الرَّدِيَّةُ أَبَالِسَةُ الْإِنْسَانِ ، وَالْعُقُولُ وَالْأَدْيَانُ مَلَائِكَةُ هَذَا الشَّأْنِ .
وَفِي خِلَالٍ تَعْتَلِجُ وَلَهَا أَخْلَاقٌ تَتَغَالَبُ وَالشَّرَائِعُ مِنْ خَارِجِ هَذَا الْجِسْمِ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ وَمَا دَامَ الْعَبْدُ فِي الْعِلَاجِ فَهُوَ طَالِبٌ ، فَإِذَا غَلَّبَ الْعَقْلَ وَاسْتَعْمَلَ الشَّرْعَ فَهُوَ وَاصِلٌ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
78- فصل كلاميّ على جاحدي النبوات:
إن جاءت الحكماء بما واطأ العقل، - كقول القائل منهم للتلاميذ استثارة للرأفة و الرحمة: (يا هؤلاء ! لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان! ألا تستحيون ؟ هذا الحيوان البهيم أسير في أيديكم، يحب الحياة كما تحبون، ويؤلمه من الحجر والحديد والخشب ما منه تألمون، وأنتم عليه متسلّطون!) - فقد قابل ذلك ما جاءت به الرّسل مما أبهر العقل من الأمور الخارقة. وليس حكمة المخلوق بأكثر من حكمة الخالق. والحكيم سبحانه قد آلم الحيوان البهيم ولم يطعن ذلك عند الحكماء في حكمته. فتشريعه لإيلام الحيوان لا يكون طاعنا في حكمته، لأن التعليل لإماتة الحيوان بحكمة إما ظاهرة أو باطنة، وكذلك تشريع ذبحه. فإذا لم يطعن في الحكمة عندكم إماتة الحيوان بفعله، لم يطعن في الشرع عندنا تشريع قتل الحيوان وذبحه.
(كتاب الفنون)
79- مناظرة للمعتزلة:
قال ابن القيم: قال ابن عقيل في مناظرته لبعض المعتزلة:
أنتم اعتمدتم في نفي التثنية على دليل التمانع. وهو بعينه ينقلب عليكم في خلق الأفعال.
لأنا إذا قدرنا أنه تعالى أراد تحريك جسم، وأراد العبد تسكينه، فلا يخلوا إلى آخره ..
وفعل الله لا يدخل تحت مقدور العبد. وفعل العبد لا يدخل تحت مقدور الله عندكم. فلا انفكاك لكم البتة عن هذا السؤال. فأين توحيدكم؟!
(بدائع الفوائد لابن القيم).
80- (بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ):
قوله تعالى: (بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) يدل ذلك على أن لنا استكبارا بحق، وهو الاستعلاء والتعاظم على أهل البغي والكفر والظلم، فذلك استكبار بحق. ولهذا لما رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) رجلا يخطر بين الصفين في مشيته فقال: إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا المقام.
وكذا من أسماء الله المتكبر، إسم مدحة، لأنه عظيم متكبر بالحق، لأنه يتكبر على العصاة والكفار.
(كتاب الفنون)
81- بركات الإخلاص في العمل:
قال ابن القيم: قال ابن عقيل:
شهدت شيخنا ومعلمنا المناظرة، أبا إسحاق الفيروزبادي، لا يخرج شيئا إلى فقير إلا أحضر النية، ولا يتكلم في مسألة إلا قدم الاستعانة بالله وإخلاص القصد في نصرة الحق، دون التزين والتحسين للخلق، ولا صنف مسالة إلا بعد أن صلى ركعات. فلا جرم شاع اسمه واشتهرت تصانيفه شرقا وغربا، هذه بركات الإخلاص.
(بدائع الفوائد لابن القيم).
82- وجدت في تعاليق بعض العلماء :
لايكون الرجل مؤمنا حتى يندرج في مدارج كل واحدة منها تبيّن عند معرفته كفرا لكن غير مؤاخذ به لتركه و الخروج عنه. وذلك أن الباحث يترامى به النظر كل مرمى. كإبراهيم قال عند رؤية النجم (هذا ربي ) وكذلك القمر و الشمس. حتى انتهى به النظر إلى إثبات الفاطر..
وكفر البحث والزلات مغفورة. وأول الإيمان خطور الباري بالبال بحسب الحال التي تكون في المكلف في أول وهلات نظره بإخطار النظر بباله عليها.
وموسى أول قوله (أَرِنِي) وآخر قوله (تُبْتُ إِلَيكَ وَأنا أوّلُ المؤمِنِين).
(كتاب الفنون)
83- ما أعجب شأن العارف، وأعجب شأن الخلق معه !
ما أعجب شأن العارف، وأعجب شأن الخلق معه ! تبذّلَ التجار منهم في طلب الأرباح وتعبئة الأموال ولم يعابوا، وتبذّلَ المحبّون والعشاق والمتيّمون في محبة الأشخاص ولم يلاموا، و تبذّلَ قوم في محبة الخيل والطيور والصيد ولم يعابوا.
تبذّلَ قوم في عبادة بارئهم فكثُر اللوّام والعذّال، واستُهجنت منهم الأحوال والأقوال، وقيل فيهم كل مقول، ونُسبوا الى كل عظيم من الخطأ و مهُول، وقيل: (ما لهم عقول).
ومعلوم أنّ المتبذِّل في الله لا يُلام عقلًا، لأنه ليس فوق إنعامه إنعام، ولا على إحسانه إحسان، نعمه تنهال، وبره لم يزل ولا يزال، يمدح على القليل وهو المعطي، ويرضى باليسير وهو الموفّي. إنكم لفي قول مختلف. لا أرى لك ثبات قدم على ندم، ولا جود، ولا موجود. ما لهذا خُلقت، ولا بذا أُمرت، فارجع وأنب، واستغفر وتب، فقد رحل إخوانك سابقين، و بقيت أنت مع المتخلّفين!
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-14, 08:06 PM
84- (وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً):
قال الله سبحانه وتعالى: (وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً).
قبلة: جهة للطاعات ومسقبلا لله سبحانه في العبادات.
ومن كان مأمورا أن يجعل بيته قبلة، وهو موضع الغفلة ومناخ البطالة، أوْلى أن يعقل عن الله أن يجعل مواطن العبادات محترمة عن تبديلها بأمور الدنيا.
وأرى أهل زماننا جعلوا مساجدهم متاجر وأسواقا، و جعلوا بيوتهم قبورا.
(كتاب الفنون).
85- الْإِعْجَابُ وَمَدَاخِلُه:
قال ابن مفلح: قال ابن عقيل:
الْإِعْجَابُ لَيْسَ بِالْفَرَحِ، وَالْفَرَحُ لَا يَقْدَحُ فِي الطَّاعَاتِ لِأَنَّهَا مَسَرَّةُ النَّفْسِ بِطَاعَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مِمَّا سَرَّ الْعُقَلَاءَ وَأَبْهَجَ الْفُضَلَاءَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنِّي كُنْتُ أُصَلِّي فَدَخَلَ عَلَيَّ صَدِيقٌ لِي فَسَرَّنِي ذَلِكَ. فَقَالَ: لَكَ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ}. وَإِنَّمَا الْإِعْجَابُ اسْتِكْثَارُ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرُؤْيَةُ النَّفْسِ بِعَيْنِ الِافْتِخَارِ ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ اقْتِضَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا أَتَى الْأَوْلِيَاءُ وَانْتِظَارُ الْكَرَامَةِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ ، وَيَنْكَشِفُ ذَلِكَ بِمَا يُرَى مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ مِنْ إمْرَارِ أَيْدِيهِمْ عَلَى أَرْبَابِ الْعَاهَاتِ وَالْأَمْرَاضِ ثِقَةً بِالْبَرَكَاتِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِنْ الْخُدَعِ، حَتَّى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَوْ كُسِرَ لَهُ عَرَضٌ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِضَاءِ لِلَّهِ ؟ أَلَيْسَ قَدْ ضَمِنْتَ نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا يَدْرِي الْجَاهِلُ مَنْ الْمُؤْمِنُ الْمَنْصُورُ ؟ وَمَا النَّصْرُ ؟ وَ مَاذَا شَرْطُ النُّصْرَةِ؟
.. إنَّ الْعُجْبَ يَدْخُلُ مِنْ إثْبَاتِ نَفْسِكَ فِي الْعَمَلِ وَنِسْيَانِ أَلْطَافِ الْحَقِّ وَمِنْ إغْفَالِ نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى، وَإِلَّا فَلَوْ لَحَظَ الْعَبْدُ اتِّصَالَ النِّعَمِ لَاسْتَقَلَّ عَمَلَهُ وَإِنْ كَثُرَ أَنْ يُقَابِلَ النِّعَمَ شُكْرًا.
وَيَدْخُلُ مِنْ الْجَهْلِ بِالْمُطَاعِ، فَلَوْ عَرَفَ الْعَبْدُ مَنْ يُطِيعُ وَلِمَنْ يَخْدُمُ لَاسْتَكْثَرَ لِنَفْسِهِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ذَلِك ، وَاسْتَقَلَّهَا أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً مَعَ أَمْلَاكِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ .
وَيَدْخُلُ أَيْضًا عَنْ طُرُقِ الْجَهَالَةِ بِكَثْرَةِ الْخَلَلِ وَالْعِلَلِ، الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَهَا عَلَى غَايَةِ الْخَجَلِ ، وَالْخَوْفِ مِنْ أَنْ يَقَعَ الطَّرْدُ وَالرَّدُّ، فَإِنَّ الْفَيْءَ مُسْتَوْحَشٌ.
وَيَدْخُلُ أَيْضًا مِنْ النَّظَرِ إلَى الْخَلْقِ بِعَيْنِ الِاسْتِقْلَالِ ، وَإِدْمَانِ النَّظَرِ إلَى الْعُصَاةِ الْمُتَشَرِّدِي نَ، وَلَوْ أَنَّهُ نَظَرَ إلَى الْعُمَّالِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَاسْتَقَلَّ نَفْسَهُ .
فَهَذِهِ مُعَالَجَةُ الْأَدْوَاءِ، وَحَسْمُ مَوَادِّ الْفَسَادِ فِي الْأَعْمَالِ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
86- لُطْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِخَلْقِهِ:
قال ابن مفلح: قال ابن عقيل:
اُنْظُرْ إلَى لُطْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِخَلْقِهِ كَيْفَ وَضَعَ فِيهِمْ لِمَصَالِحِهِمْ مَدَارِكَ تَزِيدُ عَلَى الْعِلْمِ، وَدَوَاعِيَ تَحُثُّهُمْ عَلَى فِعْلِ مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالْكَفُّ عَنْ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، مِنْ ذَلِكَ وَضْعُهُ لِلشَّهْوَةِ وَهَيَجَانِ الطَّبْعِ لِطَلَبِ الْجِمَاعِ، وَذَلِكَ طَرِيقُ النُّشُوءِ وَحِفْظُ النَّسْلِ، وَآلَامٌ تَحْصُلُ مِنْ الرِّقَّةِ عَلَى الْحَيَوَانِ لِيَحْصُلَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِيلَامِ ، وَيَحْصُلُ مَنْعُ الْمُؤْلِمِ وَكَفُّ الْمُتَعَدِّي وَجَعْلُ الْمَسَرَّةِ الْوَاقِعَةِ بِالْمِدْحَةِ دَاعِيَةً إلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، إذْ لَا يُمْدَحُ إلَّا عَلَى الْخَيْرَ، وَعَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ وَيَجْلِبُ الْخَيْرَ لَمْ يُخَلِّهِ مِنْ دَوَاعٍ بَاعِثَةٍ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَوَاذِعَ زَاجِرَةٍ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ .
فَسُبْحَانَ مَنْ يَفِيضُ جُودُهُ بِالْخَيْرِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ حَسَنٌ نَافِعٌ ، وَيَصْرِفُ السُّوءَ لِعِلْمِهِ بِقُبْحِهِ وَغَنَائِهِ ، وَيُصَرِّفُ خَلْقَهُ بِأَنْوَاعِ الصَّوَارِفِ الْعَاجِلَةِ ، وَالصَّوَارِفِ بِالْوَعِيدِ وَبِالْعِقَابِ الْآجِلِ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
87- ذم الرياء:
قال ابن مفلح: قال ابن عقيل:
إنَّك لَوْ عَلِمْتَ أَنَّ إكْرَامَ الْخَلْقِ لَك رِيَاءٌ سَقَطْتَ مِنْ عَيْنِكَ ، أَفَأَقْنَعُ أَنَا مِنْكَ أَنْ تَجْعَلَنِي فِي الْعَادَةِ جُزْءًا مِنْ كُلٍّ بَعْضًا مِنْ جَمَاعَةٍ ؟
مَا يَحْلُو لَكَ الْعَمَلُ حَتَّى تَحْلُو لَكَ تَسْمِيَتُهُمْ بِعَابِدٍ وَزَاهِدٍ ، فَارْثِ لِنَفْسِكَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ وَلَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا مَا حَظِيتَ بِهِ مِنْ الصِّيتِ ، تَدْرِي كَمْ فِي الْجَرِيدَةِ أَقْوَامٌ لَا يَؤُبْهُ لَهُمْ إلَّا عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ الْقُبُورِ ، وَكَمْ يُفْتَضَحُ غَدًا مِنْ أَرْبَابِ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْخَلْقِ بِعَالِمٍ وَصَالِحٍ وَزَاهِدٍ. نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ طُفَيْلِيٍّ تَصَدَّرَ بِالْوَقَاحَةِ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
88- فصل في قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ):
قال حنبلي:
نقول جملة، ثم نشرح ذلك تفصيلا يكشف عن ذلك.
فالجملة أنه مخلوق في مكابدة الخروج من الأم الى الفساح، ثم مكابدة اجتذاب اللبن من البدن، ثم مكابدة الرضاع و التربية، ثم مكابدة الأعراض والأمراض، ثم مكابدة الآداب، وبعد ذلك مكابدة المعاش.
فبينما تراه في صورة بهيمة يحرث، ثم يسني و يسدف، ثم يسمّد ويسقي، ثم يراعي و ينظر، ثم يحصد، ثم يدوس، ثم يذري وينقّي، ثم يطحن، ثم يعجن، ثم يخبز.
فلو رآه من لا يعرف الغرض الأقصى لأدهشه ذلك، وظن أنه من الأغراض الفاخرة، فإذا به لِأُكلة غايتها معالجة خروج الأذى، وقد سبقها تشكّله وتصوّره بصورة أنواع من البهائم، تارة بصورة بقرة، وتارة بصورة حمار، وتارة بصورة سبع، وتارة بصورة طائر. وخروجه في أبواب من الحيل وضروب من الخداع والمصاولة والذلّ والضراعة. فهذا نوع من المكابدة في نوع من الأغراض، وهو الأكل.
فكيف بمقاساة الخلق: بين حاسد وباغض، وغاصب و ناهب، ومواثب ومواشي، وكاذب وخادع، والبهيم: بين لاسع و ناهش، ورافس وناطح، ومضار الأغدية: بين مسهّل وعاصم وقابض، ومحمّي ومبرّد، ومرطّب ومجفّف، ومورّم ومدقّق، والأزمنة: بين حارّ وبارد ومعتدل ؟
فهذا مبسوط الكَبَد. ومجموعه أنها حياة منغّصة، مشوبة بالأذايا، ثم إنها منقطعة.
فالعاقل مَن طلب من الله العافية الصافية الدائمة. فلا يغسل هذا الكَبَد إلا ذلك العيش الدائم على الأبد. وما هذا إلا كما قال الشاعر :
كمَا قال الحمَام لِقوس رامٍ .......لقد جمَّعتَ مِن شتّى لأمري
فإنّ الصائد جمّع بين خشب وعصب وعظم وغراً وتُوز ووتر، والغرض كله صيد حمامة.
(كتاب الفنون)
89- المذهب مَا نَصَره دليله:
إذا كانت المذاهب تنتصر بوصلة هي الدولة والكثرة، أو حشمة الإنعام، فلا عبرة بها. إنما المذهب ما نصره دليله، حتى إذا انكشف بوحدته ساذجا من ناصر محتشم ومال مبذول كان طاهرا بصورته في الصحة والسلامة من الدخل والاعتراضات، كالجوهر الذي لا يحتاج الى صقالة وتزويق، والحسن الذي لا يحتاج الى تحسين.
ونعوذ بالله من مذهب لا ينتصر إلا بوصلة. فذلك الذي اذا زال عنه ناصره أفلس الذاهب إليه من الانتصار بدليل أو وضوح تعليل.
والدَّيِّن من خلّص الدلالة من الدولة والصّحة من النصرة بالرجال، وقلّما يعوّل في دينه على الرجال.
(كتاب الفنون)
90- أبو بكر الصِّدّيق رضي الله عنه:
عجبي ممن ينتحل نحلة الإسلام ، ويزعم أنه على دين محمد (صلى الله عليه وسلم )، وهو يعلم محلّ الصِّدّيق من الدين، وتأثيره في الإسلام، بالسبق إلى التصديق والإنفاق بالهجرة والنصرة وما أيّد به هذه الملة، حتى عجز الأهل عن مقامه وتقاعدوا عن إقدامه، ثم إنه يقدّم عليه شخصاً أو يفضّل عليه أحداً .
ما هو - واللهِ - إلا الزندقة التي أوجبت بغض من اختبر هذا الأمر. ومحال محبة شخص أو ملة مع التقاصر بمُقيّمهما وناصرهما. ما أثّر - و الله - بغضُه أو تنقّصه إلا بغض ما قام به ، ولا معيار التديّن عندي إلا نُحْل ذلك الشيخ الكريم و الشخص النبيل العظيم ..
(كتاب الفنون)
91- فصل:
قال ابن مفلح:
قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
مَنْ صَدَرَ اعْتِقَادُهُ عَنْ بُرْهَانٍ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ تَلَوُّنٌ يُرَاعِي بِهِ أَحْوَالَ الرِّجَالِ. { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ }.
كَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّنْ يَثْبُتُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فَلَمْ تَتَقَلَّبْ بِهِ الْأَحْوَالُ فِي كُلِّ مَقَامٍ زَلَّتْ بِهِ الْأَقْدَامُ ..
وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُسْلِمًا إلَى أَنْ يَضِيقَ بِهِ عَيْشٌ ، وَإِنَّمَا دِينُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى شَعْثِ الدُّنْيَا وَصَلَاحِ الْآخِرَةِ فَمَنْ طَلَبَ بِهِ الْعَاجِلَةَ أَخْطَأَ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
92- الله الله في أذية عباده:
من أعظم الذنوب وأقبحها أن تغرّ أخاك بفعل، حتى إذا فعله عدتَ بفعله ذامّاً ومعيّراً، وهذا عُقوبتُه من الله عظيمة، ومقابلته سريعة.
لأن الله سبحانه جعلك أهدى الى الخير والشر بقوّة الرأي، فصرفتَ القوة التي هي نعمة الله عليك الى إغواء أخيك وغروره، حتى إذا وقع في ورطته، واستحكمت مصيبته بما دلّستَ عليه من أمره، زدتَه بالمعيرة بلاءً. والله مطّلع، وهو المعطي السالب، ومن أحدّ عقوباته استرجاع نعمته وتركك تتعثر في أمورك وتتخبط عشواء في أرائك.
فالله الله في أذية عباده ! فإنه بالمرصاد.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-15, 01:09 PM
93- مسألة:
سأل سائل عن قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (خيركم القرن الذي بُعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يبقى قوم لا خلاق لهم) ~ورُوي: (حثالة كحثالة التمر)~. وقوله: (أمتي كالغيث أو كالمطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره ).
كيف يُجمع بين هذيْن ؟
فأجاب حنبلي بأنه لا شك أنه لم يرد كل القرن الذي بُعث فيه، بل يخرج منهم المنافقون والكفار ويبقى الأخيار. فكذلك خير أمته الذين أشار إليهم هم الذين قال فيهم: ( واشوقاه الى إخواني ! ) قالوا: ( ألسنا إخوانك ؟ ) قال: ( أنتم أصحابي، إخواني، قوم يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني ). -وروي: ( قوم يصلحون إذا أفسد الناس )- الهراب بذنبهم من شاهق الى شاهق.
فهؤلاء الذين يدعون إلى الصلاح عند فساد الناس، وهم الذين لا يٌدرى أَهُم خير، أم الذين كانوا يقاتلون على أن تكون كلمة الله هي العليا.
(كتاب الفنون).
94- وَيْلٌ لِعَالِمٍ لَا يَتَّقِي الْجُهَّالَ بِجَهْدِهِ:
قال ابن مفلح: قال ابن عقيل:
وَيْلٌ لِعَالِمٍ لَا يَتَّقِي الْجُهَّالَ بِجَهْدِهِ .. وَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحَرُّزُ مِنْ مَضَارِّ الدُّنْيَا الْوَاقِعَةِ مِنْ جُهَّالِ أَهْلِهَا بِالتَّقِيَّةِ ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ لِأَجْلِ حَبَّةٍ ، وَيَضْرِبُ بِالسَّيْفِ مَنْ لَقِيَ بِعَصَبِيَّتِهِ ، وَيَرَى قَنَاةً مُلْقَاةً فِي الْأَرْضِ فَيُنَكِّبُ عَنْ أَخْذِهَا ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ رَأَوْهُ أَكَبَّ رَغِيفًا عَلَى وَجْهِهِ ، أَوْ تَرَكَ نَعْلَهُ مَقْلُوبَةً ظَهْرُهَا إلَى السَّمَاءِ ، أَوْ دَخَلَ مَشْهَدًا بِمَدَاسِهِ ، أَوْ دَخَلَ وَلَمْ يُقَبِّلْ الضَّرِيحَ ..
هَلْ يَسُوغُ لِعَاقِلٍ أَنْ يُهْمِلَ هَؤُلَاءِ وَلَا يَفْزَعُ مِنْهُمْ كُلَّ الْفَزَعِ ؟ وَيَتَجَاهَلُ كُلَّ التَّجَاهُلِ فِي الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ مِنْهُمْ فَإِنَّ الذُّنُوبَ مِمَّا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ عَنْهَا وَلَا إقَالَةَ لِلْعَالِمِ مِنْ شَرِّ هَؤُلَاءِ إذَا زَلَّ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَكْرَهُونَ وَيُنْكِرُونَ ، وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ هَوَانٌ ، وَأَبَى إلَّا إهْمَالَهُمْ ، نَظَرًا إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ لَهُمْ، فَقَدْ ضَيَّعَ نَفْسَهُ ، فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ أَهْوَنُ ، وَهُمْ مِنْهُ أَكْثَرُ ، وَعَلَى الْإِضْرَارِ بِهِ أَقْدَرُ ، وَهَلْ تَقَعُ الْمَكَارِهُ بِالْمُسْلِمِ إلَّا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ ؟
فَإِذَا احْتَشَمَ الْإِنْسَانُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ تَوْقِيرًا لَهُمْ وَتَعْظِيمًا ، أَوْجَبَ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ احْتِشَامَ هَؤُلَاءِ تَحَدُّرًا وَاتِّقَاءَ فَتْكِهِمْ ، وَهَلْ طَاحَتْ دِمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاء ِ إلَّا بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ ؟ حَيْثُ رَأَوْا مِنْ التَّحْقِيقِ مَا يُنْكِرُونَ ، فَصَالُوا لِمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ ، وَغَالُوا لِمَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، فَهُمْ بَيْنَ قَاتِلٍ لِلْمُتَّقِينَ مُكَاشَفَةً حَالَ الْقُدْرَةِ ، أَوْ غِيلَةً حَالَ الْعَجْزِ ، فَاسْمَعْ هَذَا سَمْعَ قَابِلٍ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مِنْ نَاصِحٍ خَبِيرٍ بِالْعَالِمِ ، وَلَا تُهَوِّنْ بِهِمْ فَتُهَوِّنَ بِنَفْسِك ، وَيَطِيحُ دَمُك مِمَّا رَأَيْت مِنْ جَهْلِهِمْ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
95- في نفي التكليف عن البهائم:
قال بعض أهل العلم :
ليس بيننا وبين البهائم إلا عدم الفهم لما ينطق به وفهم ما ينطَق به. وإلا فلو وضح لنا منطقها ووضح لها منطقنا، لكانت لنا كما يكون بعضنا لبعض، وصدر عنها ما يصدر عنا من الأفعال المحكمة.
والدلالة على ذلك أنه لما كُشف لسليمان عن معاني مرادها بما أوزعه الله سبحانه مِن فهم منطقها أخبرنا بما لا يستطيع الواحد منا، بل الحكيم منا.
فمن ذلك قوله سبحانه: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)، (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) ~أمرٌ لهنّ~ (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) بيان علة الأمر، وهي توْقيَتُهُنّ من الضرر.
وقوله عن الهدهد: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) وهذا صرف الآية إليه بتأخّره عما ندب له. ثم قال (لَأُعَذِّبَنَّ ُ) وهذا وعيد، والوعيد لا يلحق إلا بمكلّف لأمر يمتنع منه (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ). وهذا يعطي أن ليس بيننا و بينهم إلا إيهام الألفاظ، فيصير كالعجمة في حق الآدمي، وإذا لم يكن بيننا و بينهم إلا العجمة، ثبت أنهم مكلَّفون. ولهذا قال سليمان للهدهد: (اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) ~يعني تَوار. وهذه أوامر مصروفة نحو الهدهد و مناهٍ.
وقد قال الله تعالى ما يدل على ذلك، وهو قوله: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم). ومعلوم أنه لم يرد أمثالا في الصور، لم يبق إلا أنها في خاصّ من خصائص الانسانية، وهي الفهوم والفطن. وقال: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ). وقال النبي (صلى الله عليه وسلم ): لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها.
قال حنبلي:
هذا كلام يفوح منه القول بالتناسخ. وما تعلّقتم به من هدهد سليمان فذاك يجوز أن يخصّ به كرامة له و تسخيرا له، كنا قال في حق داود: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ). وقال: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاق). وقال: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ). فإذا كانت الأشياء تخرج عن طباعها تسخيرا جاز أن يخصّ بعض الحيوان البهيم بأن يخلع عليه ما يخرجه عن البهيمة تسخيرا و كرامة، كما سبّح الحصا في يد نبيّنا (صلى الله عليه وسلم )، وحنّ إليه الجذ ، وجاءته النخلة منقادة. ولا يدلّ ذلك على أنّ جنس النخيل مُكلّف مستجيب مأمور، ولا الأجذاع حنّانة كلها.
قال الحنبلي:
وقد نطق الكتاب العزيز بذلك، فقال: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيح تَجْرِي بِأَمْرِهِ ). تُرى صارت الريح مكلّفة، أم مسخّرة، خارجة عن سمت النار والماء الذي لم يسخّر له؟ و التسخير هو أن الباري يتولى إجراءها عند أمره فيتبع أمر سليمان تكوين الرحمان لجريها، كذلك في حقّ البهائم. والله أعلم.
(كتاب الفنون)
96- الْجُهَّالُ يَفْرَحُونَ بِسُوقِ الْوَقْتِ:
قال ابن مفلح: قال ابن عقيل:
الْجُهَّالُ يَفْرَحُونَ بِسُوقِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ اجْتَمَعَ أَلْفُ أَقْرَعَ يَزْعَقُونَ عَلَى بَقَرَةِ هَرَّاسٍ لَقَوِيَ قَلْبُهُ بِمَا يَعْتَقِدُ أُولَئِكَ ، وَيَنْفِرُ قَلْبُهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُحَقِّقِينَ . بَهِيمَيةٌ فِي طِبَاعِ الْجُهَّالِ لَا تَزُولُ بِمُعَالَجَةٍ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
97- فصل:
قال بعض العقلاء:
الصبر على سفهاء العشيرة والطائفة خير من استئصالهم، فإنه لا عز لقوم قلّ سفهاءهم، فكيف إذا عدموا؟
والصبر على الصلحاء من العشيرة، فإن الحشمة بهم توجب الصبر عليهم، فلا حشمة لقوم لا صلحاء لهم.
والجاهل من أفنى سفهاء قومه ضيقاً عن حلمهم، وكسر صلحاء قومه خوفا من استطالتهم.
(كتاب الفنون)
98- شذرة:
قال ابن مفلح:
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
.. وَاكَمَدَاهُ مِنْ مَخَافَةِ الْأَعْيَارِ ، وَاحَصْرَاهُ مِنْ أَجْلِ اسْتِمَاعِ ذِي الْجَهَالَةِ لِلْحَقِّ وَالْإِنْكَارِ ، وَاَللَّهِ مَا زَالَ خَوَاصُّ عِبَادِ اللَّهِ يَتَطَلَّبُونَ لِنُزُوحِهِمْ بِمُنَاجَاتِهِم ْ رُءُوسَ الْجِبَالِ وَالْبَرَارِي وَالْقِفَارِ ، لِمَا يَرَوْنَ مِنْ اسْتِزْرَاءِ الْمُنْكِرِينَ بِشَأْنِهِمْ مِنْ الْأَغْمَارِ .. فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُنْكِرَ تَضْلِيعَ أَحْوَالِهِ ، وَتَكْدِيرَ عَيْشِهِ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
99- (لعنَ اللهُ صبياً أكبر من أبيه):
أنت أبدا تنسى نفسك وقدْرك عند كلامك في الله واعتراضك عليه، ولو ذكرت مقدارك بالإضافة إليه، تكلمتَ كلاما صغيرا بحسبك ولا تتكلم كبارا بقول (لمَ) و(كيف) و( لو صنع هذا كان أحسن وأتقن ) و( لو قال كذا لكان أفصح ).
العامة تقول: ( لعن الله صبيا أكبر من أبيه )، ولكن ما أوْقع اللعنَ في حق عبد أكبر من سيده، ومخلوق يتكبر على خالقه، ومحكَّم يتحاكم على محكِّمه !
ما بلغ علمك الى الحد الذي يزري على علوم الشرع، وتدابير هذا الرب سبحانه، ولكن هذا كله وأمثاله دخل من باب جهلك بنفسك. ولو علمتَ مقدارك لعلمتَ صانعك، إما تعظيما لنفسك فعظِّم من صنعها، أو استزراءً لها فلا تتحاكم على محكِّمها، فأنت في كلا الحالين معظِّما لنفسك أو مقلِّلا لها; لا ينبغي أن تبدو منك بادرة اعتراض عليه ولا تَحكّم، لكن يجب عليك بحكم الصيغة أن تسلّم لأفعاله وتحكّم حكمته.
(كتاب الفنون)
100- مَذْهَبُ الْعَجَائِزِ أَسْلَمُ:
قال ابن مفلح: قال ابن عقيل:
قَدْ تَكَرَّرَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا سِيَّمَا أَصْحَابُنَا قَوْلُهُمْ : مَذْهَبُ الْعَجَائِزِ أَسْلَمُ فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ كَلَامُ جَهْلٍ ، وَلَوْ فَطِنُوا لِمَا قَالُوا لَاسْتَحْسَنُوا وَقْعَ الْكَلِمَةِ وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ صَدَرَتْ عَنْ عُلُوِّ رُتْبَةٍ فِي النَّظَرِ ، حَيْثُ انْتَهَوْا إلَى غَايَةٍ هِيَ مُنْتَهَى الْمُدَقِّقِينَ فِي النَّظَرِ ، فَلَمَّا لَمْ يَشْهَدُوا مَا يَشْفِي الْعَقْلَ مِنْ التَّعْلِيلَاتِ وَالتَّأْوِيلَا تِ بِالِاعْتِرَاضِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ ، وَقَفُوا مَعَ الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ مَرَاسِمُ الشَّرْعِ ، وَجَنَحُوا عَنْ الْقَوْلِ بِالتَّعْلِيلِ ، فَإِذَا سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ ، وَقَفُوا مَعَ الِامْتِثَالِ حِينَ عَجَزَ أَهْلُ التَّعْلِيلِ فَقَدْ أَعْطَوْا الطَّاعَةَ حَقَّهَا ، وَلَقَدْ عَلَّلَ قَوْمٌ فَمَنَعُوا الْعَقْلَ عَنْ الْإِصْغَاءِ إلَى ذَلِكَ الْإِذْعَانِ بِالْعَجْزِ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
101- توحيد وإستغفار:
سيدي ! قد تدبّرتُ الخلق فما رأيت منهم إلا صانعاً أو مصانعاً. ورأيت جلّ غرضهم وأكبر هَمّهم الدنيا. وكل منهم قد اعتمد على ذخيرة، فهذا يذّخر العقار، .. وهذا يقتني الدرهم و الدينار، وهذا يذّخر معارف الرجال. ورأيت كلاًّ منهم عند الموت يفزع الى إسمك وتوحيدك والتعلّق بأذيال عفوك. فرأيتهم بعين الإفلاس من الرأي، حيث لم يقدّموا من أمرهم ما أخّروا، وتعجّلوا من التعلّق بك ما أجّلوا.
فكنتُ إذا فرح الناس بموجودهم منك وعُنوا بما آتيتهم من لدنك، غنيّاً بوجودك، معوِّلا على شهودك، مذّخِراً لك في شدائدي، معوّلاً عليك في أوابدي، فما خاب قطّ أملي فيك، ولا رجائي في لطفك، بل وجدتُك في شدائد الدنيا آخذاً بضبعيّ، إن عثرتُ أنعشتَ، وان افتقرتُ أغنيتَ، وإن سقمتُ عافيتَ وشافيتَ، وإن تشردتُ آويتَ، وإن عطشتُ أرويتَ، و إن جعتُ أطعمتَ، وإن ضللتُ هديتَ.
فأنبأني عنك عاجل أمري، وحدّثتني آمالي فيك عن تواني أحوالي معك.
فها أنا لا أرجو سواك، ولا آمل غيرك، ولا تَعبدُ أطماعي أحداً من خلقك. وطالما عبدت، لأنني كنتُ بصورة من استقرئ طرق الطلب حتى وجدتُ، وأُنِحتُ عن طريق سليم إليك حتى ظفرتُ، ولم أجد ذلك إلا في خُبري بخلقك وأنهم مفاليس من كل ضرّ ونفع. ومع ذلك فأنا أستغفر الله من وقوفي معهم حال تصفّحي لأحوالهم، وأنا أشهدُ أن لا إله إلا الله من شركي حال الإعتماد عليهم اختباراً لهم، وأقطع زنانير الإضافات إليهم.
(كتاب الفنون)
102- شذرة:
قال ابن مفلح: قال ابن عقيل:
كُلُّ يَوْمٍ تَمُوتُ مِنْك شَهْوَةٌ وَلَا تَحْيَا مِنْك مَعْرِفَةٌ ، وَاعَجَبًا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي مَاهِيَّةِ الْعَقْلِ وَلَا يَدْرُونَ، فَكَيْفَ يُقْدِمُونَ عَلَى الْكَلَامِ فِي خَالِقِ الْعَقْلِ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
103- فصل تذكير:
من كان عَبقاً بالأذكار بحيث إن عطس قال ( الحمد لله )، وإن مات له ميت قال (إنا لله)، وإن قُدِّم بين يديه طعام ليأكل قال (بسم الله)، وإن أَخبر فلم يُصدَّق قال (أقسم بالله)، وإن عرضت له حاجة قال (يارب)، وإن مسه الضر نادى، وإن أظلم عليه الليل ناجى، لا يكون في الأفعال كذا، بل عن الأوامر متخلف، وبالنواهي كلف شغف، ومع الرسم لا يقف.
المؤذن ينادي الى الصلاة وأنت معرِض. وحوْلُ الزكاة قد حال وأنت في وجه الفقير معبِّس وللزكاة غير مخرِج. وإن اتجه نحوك حق كنتَ بالتأويل مسقطاَ. وما هذه حال من صدرت تلك الأقوال عنه بحقيقة وجِدّ، لكن باستعارة لفظ . وهذا لا يعمل مع الله عملا، لأنه كالتملّق. وذلك إنما ينفق على من لا يعوّل إلا على الظاهر، وهو بالعكس في حق الباري، لأنه لا ينظر إلا إلى المقاصد والسرائر.
الظواهر عنده صور منحبطة، إن لم تصدر عن مقاصد صافية خالصة. ألم تسمعه يقول: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ)؟
من يسمعك عبق اللسان بذكره في القسم والدعاء والأكل والشرب وعند الحاجة وعند كل حركة وسكنة، يحسبك محِباً أو متخصِّصاً، فإذا خبرك في باب التكليف عرفك.
ليس تعظيم الله كثرة اذّكاره باللسان، إنما التعظيم لله سبحانه بحسن الاستجابة والامتثال. ليس تعظيم شعائر الله أن تسمّن البُدن للهدايا والنحر بمنى، تعظيم شعائر الله أن تحكّ البَدن في خلوة، فتخاف بحكّ الموضع قطع شعرة، فتحكّه بباطن كفّك. نعم، وتكون أفعالك متناسبة.
من يحترم لله في الإحرام بحيث لا يشفي نفسه من حكّ جسده، لا يشتفي من أخيه المسلم حال غضبه، ولا يشفي النفس من محظورات الشرع في الخلوة. حرمة الاحترام أكد من حرمة الإحرام. من هجر المحيط في الإحرام لا يلبس إذا رجع إلى بيته لباس الفجور والآثام: الابريسم المحض، أو الثوب الغصب، أو المبتاع بالمال الغصب.
الباري موجود بكل معنى وبكل حال، ولا تخصَّص حشمته ومواقيته ببعض الأماكن و الأحوال. من يلصق جبهته بالأرض في القبلة، ويقبّل حجرا في الله، ويعدو حول بيته من غير أن يظهر له في ذلك حكمة وعلّة; لا يتعجرف على الحاكم إذا دعاه الى استخلاص حق عبد الله، ولا يجوز سنة في أهواء نفسه مع مخالفة الله، هذه أفعال مصانع أو صانع، وإلا فالإخلاص يوجب تسوية الأحوال في حق العمّال.
إذا نظرتَ الى حقائق التكليف، عرفتَ أنه كلّفك ضد ما تميل إليه الطباع بالكلّية. استعبدَ عقلك بالتسليم والتحكيم فيما تحتكُّ عندك فيه الشبه العارضة، ليخضع العقل له بكونه عبدا حكّمه خالقه وكلّفه الاستدلال عليه بآثار صنعته. وكلّف النفوس الرقة والرأفة أن تذبح الحيوان وتتقرب إليه بإزهاق النفوس في أجل، فكلّفها الرقة في بعض الحيوان الذي اطمأنت على اصطدياه في كل مكان. وكلّف الأعضاء الخضوع والسجود و الكفّ عما تميل إليه عبثا و تناولا و كمشاً. وأعدّ للطاعة أوفى جزاء وأسبغ عطاء.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-15, 02:29 PM
فصل:
لِعمرو بن الأهتم المنقري:
ومُسْتنْبِحٍ بعدَ الهُدُوءِ دَعْوَتُهُ = وقد حانَ من نَجْم الشِّتاءِ خُفُوقُ
يُعالِجُ عِرْنيناً منَ اللَّيلِ بارداً = تَلُفُّ رِياحٌ ثَوْبَهُ وبُرُوقُ
فقمتُ فلم أُفْحِشْ عليهِ ولم أَقُلْ = لأَِحْرِمَهُ: إِنَّ المكانَ مَضِيقُ
وقلْتُ لهُ: أَهلاً وسهلاً ومَرحباً = فهذا صَبُوحٌ زاهِر وغَبوقُ
وضاحكتُه من قبل عِرفاني اسمَه = ليأنسَ بي إن الكريم رفيق
وقُمتُ إِلى البَرْكِ الهَواجِدِ فاتَّقَتْ = مَقاحِيدُ كُومٌ كالمَجَادِلِ رُوقُ
بأَدْماءَ مِرْباعِ النِّتاجِ كأَنَّها = إِذَا عَرَضَتْ دُونَ العِشارِ فَنِيقِ
بِضَرْبةِ ساقٍ أَو بِنَجْلاَءَ ثَرَّةٍ = لهَا مِن أَمامِ المَنْكَبَيْنِ فَتِيقُ
وقامَ إِليها الجَازِرَانِ فأَوْفَدَا = يُطِيرَانِ عَنها الجِلْدَ وَهْيَ تَفْوقُ
فَباتَ لَنَا منها وللِضَّيْفِ مَوْهِنا = شِوَاءٌ سَمِينٌ زراهِنٌ وصليقُ
وبَاتَ لهُ دُونَ الصَّبَا وهْيَ قَرَّةٌ = لِحَافٌ ومَصْقُولُ الكِسَاءِ رَقِيقُ
وكلُّ كَرِيم يَتَّقِي الذَّمَّ بالقِرَى = ولِلخَيْرِ بينَ الصّالحينَ طَريقُ
لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا = ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ
قال حنبلي:
أرى أهل الحضر والأمصار، إذا نبس أحدهم بوصف طعام اصطنعه، جاءته المحن من كل مكان. حتى صنّفوا (دعوة التجّار) وجعلوها مثلاً و سمرا. وهذا ما قد سمعتم من صفات العرب للأطعمة والذبائح. وأكثروا، حتى ضمّنوه الإفتخار وذم البخلاء.
فلِمَ خُصّ أهل الحضر بذمّهم على وصفهم لأطعمتهم وهم يبلغون في تحسين الأطعمة ما لا يبلغه أهل البادية ؟ ثم لو تكلّم من عمل طعاماً أنفق عليه ألف دينار بكلمة تتضمن مدح الطعام ونهوضه إلى ذبح الذبائح ووزن أثمان الأطعمة الفاخرة، لَأتته المعائب من كل مكان. حتى صنّفوا معائب لقّبوها ب(دعوة التجّار)، وقبّحوا فيها آثارهم بذم الطعام، وذكر كيفية الحال.
لا بد أن يكون بينهما فرق أوجب لهؤلاء المدح أو الإمساك عن القدح، وأوجب لهؤلاء القدح فيما اعتمدوه من الوصف. فإن لم تكن علة توجب الفرق، فهو الظلم الصرف والبغي البحت.
وأصل هذه الرذيلة في أهل الحضر وعلّتها إنما هي تكدير الأطعمة بالنظر إليها بعين التعظيم الذي لا يخلو من نوع افتخار بذلك، وامتنان على الآكلين لذلك الطعام. وهذه علة لا تختص أهل الحضر، فلمَ خُصّوا بالذم عليها دون أهل البدو ؟
قال الحنبلي:
وأنا أخرج معنى كلامهم هذا الى الوجود، وأعرضه على العقول; فإن أبَته فهو رذيلة، وإن استحسنته فهو فضيلة. فأقول:
رجل في الحضر أتاه مسافر قريب عهد بشقاء السفر. فأخذ يصف تغيّر وجهه وجسمه ونحافته، وذكر حسن استقباله، و مبادرته بالكلام المقوّي لنفسه. ثم عدل عن ذكر ما ظهر من تغيّر وجهه الى المسرّة بكلام. ثم عاد يذكر أغناماً له، ويصف شاة اختارها للذبح لضيافة ذلك الضيف، وشحمها ولحمها. ثم أخذ في وصف الشفرة التي اعتمد على تناولها، وذكر لوم الراعي له على ذبحها، وتأسّفه على إراقة دمها، والأسف بها، وودّه بأن يفديها بنفسه وأهله.
فلو سمع الحضريّ وأهل الحضر ذلك، لتعيّر بذلك العار الذي لا يغسله الماء، و لا يبليه الدهر، ولودّ ذلك الضيف أنه مات جوعا ولم يتعرّض للنزول به وعليه.
هذا هو الذي نجده من طباعنا، ومن كابر في ذلك كان خارجاً عن حكم طباعنا وعادتنا. وما صدر هذا الكلام إلا عن استعظام الطعام، وما هذه سجيّة الكرام، وما هُتكت أستار القوم وكشفت عن شحهم في أنفسهم بأوضح من هذا. وكلّ خلة ذكرها هذا المُنشد وأمثاله، لو لم يكن لها وقع في نفسه و مكابدة لِطبعه الشحيح، لَمَا ذكرها. وما هي واللهِ عندي إلا كالنياحة على ميّت ذكر في نياحته النائحُ عليه علّتَه و مرضه وآلامه وأدويته التي سُقيَها، وكيف جاء ملك الموت قبضَ روحه، وكيف استهال الجيرة والأهل صبره على فقدان ميّته، واستهالوا قلة جزعه.
وأحسن كشف لأحوالهم، التي هي وراء كلامهم، قول الباري لهم، مع تمدّحهم بالضيافة، وتعظيمهم للمسرة بالصبيان، وبذلهم للطعام مع السغب والقحط، وعقرهم لمراكبهم التي لا غناء بهم عنها، فقال لهم مع هذا كله:
الذي أدركته منكم من جناياتكم المكتومة المستورة بحسن عملكم، أريدكم ألا تعتمدوا قتل الأولاد خشية الإملاق (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)، (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) .. فهتك واللهِ بهذا أستارهم. أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ. فطاح التمدح بالكرم مع هذا من الله المطّلع على جِنّات القلوب وما تجنّه الصدور. وبان عيب الكلام بما ظهر من استقباح أهل الحضر فيما بينهم واتفاقهم على أن المبالغة في وصف الطعام لا يصدر إلا عن اللئام. ~والسلام.
فلا يبقى نوع يفتَخر به مع هذه الإطالة منهم إلا ما أنبأ الله سبحانه به من قوله، وهو الخالق ~جلت عظمته ( وأُحْضِرَت الأنفُسُ الشُّح ). فتكون الفضيلة لهم بذلك على كافة من لم يتجمّل على الأضياف والسؤال بمكابدة طبعه، ومعالجة شحه، وإخراج المحبوب وهو المال. وهذه لعمري فضيلة صادقة. وهي أفضل من مبذول طبعاً، ومِنْ بَذْل مَنْ وجد من نفسه مسامحة بالمال.
الفنون.
أبو المجد الفراتي
2016-03-15, 06:57 PM
الإفراط في الإحتياط تضييع في الحقيقة؛ عقلاً وفقهاً وعادة:
أما في العقل، فإن الانسان إذا دقّق في تحرّي الاحتياط، كثر شكُّه واستشعاره في الناس، ففاتته الأرباح في التجارات، والنصرة في الحروب. لأن الإقدام على الذمم، وبيع النسيئة، والاسفار، أسباب لمصادفة الأرباح الجمة. ومن تجعّد واستشعر الجنايات في المداينات، والغرق في البحر، وقطع الطريق على الظَّهْر، قلّت نهضاته، فوقفت تجاراته، ففاتته الاباح.
ومن استشعر في الحرب من قلة العدو كمينا وراء الصف، وأعدادا ممدة للعدو في الحرب، فاته باستشعاره اختلاس الفرصة في النكاية في العدو مع القلة، فصار كمينا عليه من نفسه.
وأما في الفقه، فمن أودع وديعة في صندوق فقفله بقفلين، فقال بعض أصحاب الشافعي: يضمنه بالسرق. لأنه لما أكد الإحراز، أوهم نفاسة المحرز وعظّم قيمته ، لأن اللص يعلم أنه لا يُزاد الاحراز إلا على الأنْفَس، فيكون إغراء له بالأخذ من القافل بزيادة قفل.
وأما في العادة والحس، فإن الحزّام إذا شد يده على بعض الحزمات الاخيرة، استرخت التي قبلها، لأن المحزوم يلطف.
وقد قالت العامة: (شدة الشد يُرخي). وهذا كلام سخيف اللفظ خطير المعنى أتيتُ أنا به في صورة حسنة، وهي قولي: (الافراط في الاحتياط تضييع).
و ذلك أن الوصية للمحارب بالتحرز من خصمه و بيان فضله في الحرب يوجب إيقاظا له، لكن إذا أكثر، أوجب جورا في الطبع. فإن النفس، كما أنها قد تُغلب بترك التحر، قد تقدم مع الجهالة بحال الخصم، وتجبن عند التعريف. ولو لم تعلم ذلك حكماء العرب لما انتسبت عند اللقاء والبراز. و لا شك أنها لم تقصد إلا إضعاف قلوب المبارزين. فإن الانسان إذا عرف الصور المبارزة، استولى عليه الانخذال والاسترسال واستشعر الهزيمة، لما يلحظ من أيام المنتسب ووقعاته وما تقدم له من سوابق الغلبة.
ومن ذلك ما يفعله بعض العقلاء من تهوين بعض الامور، فإنما يقصدون الوسط لا الغاية و الافراط، كتأخرهم لقفز النهر، فانه كما يتهيئا للقفز من جانب النهر حتى يفسح وراءه للتحمي ، كذلك لا ينبغي أن يبعد حتى يفزع نفسه ويقطع قلبه عن الاقدام. لأن الانسان كما أنه يحتاج أن يتهيب ليحترز، يحتاج أن لا يفرط فينقطع.
وتخليص الاعتدال والمقاومة طب العقل. وما أصعب هذا الامر عند من خبر تغالب الاشياء و تَقاومها، وانتهى كل شيء الى ضده!
و ما أحسن ما بيَّن الحقّ سبحانه سلوك الوسط بقوله; (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا). فهو الذي ركّب في الطباع الغالب. و جعل بينها واسطة تنهى عن الإسراف والإضاعة والبخل والإمساك، و هو الشرع المؤدِّب والعقل المجرِّب، سبحانه وتعالى .
ومن فهم هذا الفصل من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) أيضا كما فهمَه من الآية، عَلم أن الأدلة متناصرة. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ( صادقْ صديقك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوما ما. وعادِ عدوك هوناً ما عسى ان يكون صديقك يوما ما).
(كتاب الفنون).
للحسن:
قال ابن مفلح:
قَالَ ابْنُ عَقِيلِ فِي الْفُنُونِ :
قَالَ الْحَسَنُ مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ التُّهَمَةِ لَمْ يَكُنْ أَجْرُ لِلْغِيبَةِ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
فصل:
قد عُرف محلّ الأقوال والأفعال في حق أقوام عاصروا النبوات.
هذا يقول في عظم نخر: ( مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فينزّل الله تعالى فيه: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ). وهذا يقول: ( أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) فيميته الله مئة عام ثم يبعثه .. وهذا يرفع صوته، فيُقال: (لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ).
فلو كان الوحي متصلا، لَساءك ما ينزل فيك عند فرطاتك و غلطاتك وتهجمك بالاعتراض والقول الذي لا تحتمله الحكمة منك. فإن فاتك الوحي في جواب كلماتك و تصرفاتك، فلا تفوتك موازنة ما تقول وتفعل بما نزل في مثله العتبى أو العقوبة. فإذا وازنتَ علمتَ أن لك عند الله جوابا لم يفُتْك منه إلا تعجيله، وأنه مؤجّل لك الى وقت يسوءك الموافقة فضلاً عن المقابلة.
ولو أنصفتَ نفسك اليوم، لكان في حوادث الايام من دلائل القدرة ومتقنات الحكمة ما يكون لك جواباً ولشبهتك مزيلا. فإذا خطر على قلبك أو جرى في قولك: (أَنَّىَ يُحْيِـي) كانت سحائب السماء بوابلها ألسناً ناطقة بالتهجين لك، حيث حَيَّا بها عشب الأرض ونباتها وزهرها، حتى عادت عيوناً محدّقة وذواتاً محقّقة تشهد لصانعها بالقدرة و لمُحكمها و مُتقنها بالحكمة .
وما أغناك عن التدبر بسواك ! يكفيك ما أحيا منك وأمات فيك من أعضاء و صفات و قوى وأخلاق. تمسي على صفة فتصبح بغيرها. وتصبح بخلق فتمسي وقد عدمته. ذاك الذي أمات الاشخاص، وفرّقَ الأجزاء، وأعدم الصفات، وهو المعيد لما أمات، والمفيد لما أفات.
(كتاب الفنون).
مذاكرة:
تذاكرنا في بعض مجالس المذاكرات والمقابسات من أين يجيء تنافر الناس في مقادير الإكرام من الهشاشة و القيام، الى ما شاكل ذلك عند التلاقي؟ وما ينبوع التنافس في المجالس و التشاجر في المناصب عند الاجتماع ؟
قال عالم: أقول، وبالله التوفيق لإصابة الغرض:
إن الناس متفاوتون في الأقدار بحسب أسباب الأقدار، وكل منهم يرى السبب الذي يمتّ به بعين التعظيم.
كالنسيب يرى نسبه فيرفعه في عين نفسه فيمتلئ به، حتى إنه يرى انحطاط كل مَن دونه، سيما إن أعانه على ذلك توحّده بالنسب في محلته أو دربه الذي يسكنه، فيُخاطَب بالشريف و السيد، ويتقاصر له مَن دونه في نسبه تقاصرا يوجبهم انحطاط رتبهم عن نسبه، فيألف الاكرام من أولئك الأقوام، فيخرج الى من يرى نفسه بنوع آخر من الفضل، كعالِم بين جهّال يدأب نفسه في العلوم ويجهدها في تخليص الفهوم، فيتقاصر عنه جيرته وأهل محلته وعشيرته تقاصر الجهّال للعالم، فيرى لنفسه حقا على من جهل علمه، وإن كان نسيبا فيخرج الى ذلك النسيب. وآخرٌ ينقطع إلى عبادة ربه، ويتصور بإدمان الخلوة أن لا رتبة تستحق الاكرام دون رتبته، ويُخلّ بإدمان آداب المخالطة فيخرج على ما به. وآخر يتميز بنوع حدة. وغنيٌّ بين فقراء ربما واساهم فأكرموه لمواساته أو للطمع فيه، فيضرعون له ضرع الطامعين للمطموع فيه، فيخرج على ما به.
حتى إذا جمع هؤلاء مجلس ترفّع كل واحد منهم بامتلائه بخصيصته فيقع التنافر بينهم.
والمُعدّل لهذه الأحوال هو العقل، الذي يحصل به الانصاف لمن أنصف، أو المسامحة لمن قصّر في الحق و طفّف. فالعاقل يزن نفسه بزنتها; فإن اجتمع به منصف رضي بما ظهر من إنصافه، فقد زال الخلاف بينهما. وإن اجتمع به متحيّف متعجرف جاهل بمقدار غيره لامتلائه برؤية نفسه، ألان له هذا العاقل جانبه و سامحه، فترك الاقتضاء بحقّ نفسه، ووفّى ذلك الجاهل حقه وزاده ما يرضيه به من الإكرام.
فالعقل سكّان كل شِغاب و فسادِ اعتدال.
وأرى العاقل إن كان ذا سلطان ويُدان، لا يسامَح، بخلاف الأمثال ممن لا سلطان له. وإنما فرّقتُ بين السلطان المتسلّط وبين المماثل لأن المماثل استحببنا له التواضع و المسامحة، كيلا يقع الخلف وينشأ الشغب و الفساد. فأما السلطان، فإنه إذا قوّم المتأوّد، وحقق على المتعجرف، وردّ كل إنسان عن استطالته الى حدّه ورتبته، أُمِنت غوائل تحقيقه على رعاياه لقوّته و تسلّطه.
فكما أنه يحقّق مقادير الرجال، يقوّم من تعدّى عند تحقيق هذه الحال، وينتفع بتقويمه جماعة المستطيلين والمستطال عليهم. لأن المستطيل بجهالته لا يخلو من مغالب له ومصاول. وصول السلطان أحب إلينا من صول الرعايا، لأن صول السلطان يمنع المنافرة بين الرعايا، وصول بعضهم على بعض يفضي إلى التهارج.
وما أقبح بالعاقل أن يُحْوَج الى تقويم السلطان، لأنه يفضي الى دوام تأديبه. لأنه حال الطفولة تحت أدب الوالدين مقوَّم بتقويمهما، وبعد أن شبّ وترعرع صار تحت حُجر المعلم والأستاذ، فإذا كبر وشاب صار تحت حُجر السلطان، لا يستغني عن تقويمه. فمتى يخرج هذا عن حُجر الرجال ؟ ومن كان كذا لا يكون راعيا لنفسه قط، بل غيره يرعاه، فهذا كالسوائم. فما الذي أفاده العقل ؟ وما الذي هذّب منه الشرع ؟
نعوذ بالله من خذلان يحمل على ترك الانحياش لله، و الكونِ تحت تصريفه و تأديبه، والرضا بالكون تحت حُجر المخلوقين و الأمثال !
(كتاب الفنون).
أبو المجد الفراتي
2016-03-16, 02:36 PM
ما أعظم تفاوت الأحوال !
ما أعظم تفاوت الأحوال ! بعض الحكماء الإلهيين يقولون: ( في الحكمة ما يغني عن السفراء )، فعطّلوا الشرائع واقتنعوا بما تؤدّيهم إليه العقول وتؤدّبهم به الألباب والنهى.
وبعض الفطناء جعلوا العقول مستعبدة للشرع، حاكمة على أمر الدنيا وسياساتها التي لم يوجد فيها نصّ من شرع. وبعض السفساف عطّلوا الشرائع طلباً للراحة من الحَجر والتكلّف، وعطّلوا العقول، فهم أبداً في الدنيا بين استطالة الشرعيّين عليهم بإقامة الحدود والإهانة بسائر العقوبات، وبين استطالة العقلاء عليهم في تقويمهم عند شطحهم وخروجهم عن سمت سياسات العقل. فهم كالبهائم، إن خليت أكلتها الوحوش، وإن صمدت للأعمال وحمل الأثقال أتى عليها الكدّ بالهلاك والاستئصال.
فسبحان القسّام بين الخلق حظوظهم من المنافع و المضارّ !
(كتاب الفنون).
فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}:
قال ابن مفلح: قال ابن عقيل:
وَأَمَّا السَّتْرُ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ هُنَا فَالْمُرَادُ بِهِ السَّتْرُ عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ. وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ بِذَلِكَ ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُسْتَرَ عَلَيْهِ ، بَلْ تُرْفَعُ قِصَّتُهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةً ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَى هَذَا يُطَمِّعُهُ فِي الْإِيذَاءِ وَالْفَسَادِ وَانْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ وَجَسَارَةِ غَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ وَانْقَضَتْ ، أَمَّا مَعْصِيَةٌ رَآهُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ بَعْدُ مُتَلَبِّسٌ ، فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِإِنْكَارِهَا عَلَيْهِ وَمَنْعُهُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَا يَحِلُّ تَأْخِيرُهَا ، فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ رَفْعُهَا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ .
وَأَمَّا جَرْحُ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْأُمَنَاءِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ وَالْأَيْتَامِ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَلَا يَحِلُّ السَّتْرُ عَلَيْهِمْ إذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّتِهِمْ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ ، بَلْ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
تذاكرنا في بعض المجالس أمر المُصاب، هل الأفضل تخفّره عن الناس واعتزاله، أو تكشّفه وظهوره ؟
فقال بعض الحاضرين :
بل ظهوره; ليتسلى بكلام المعزّين له، ويتشاغل عن أن يخلو به الحزن فيعمل في نفسه وينكي قلبه، خير من الانفراد، فإن المنفرد يخلو بمصابه ويتشكل له المصاب به نصب عينيه، فلا يزال يعمل في صفاته حتى يأتي على مقاتله.
وقال آخر:
بل انفراده; ليستريح من كلفة التجمّل و التعمّل، لأنه ربما أراد إظهار التجلد لحاسد، والتعمّل لحكيم ناه له عن الجزع، والتباكي في غير أوان البكاء خوفَ عيّاب له على الصبر، فإن كما في الناس عائب على الحزن والجزع ~وهم أعداد من أهل الشرع والحكمة، كذلك فيهم عيّاب على التماسك، لأنهم يعدّون ذلك قلة وفاء وأُلف وحباسة طبع وقساوة قلب، وكلاهما عيب.
وما أشغل المصاب المحزن بحزنه عن تكلّف هذه الأمور وتحمّل هذه الأثقال ! نعم، وفي خلال ذلك إن قصّر بحقّ قاصد، فالويل له من القاصد يَنسُبه في ذلك إلى الكبر والخيلاء و العجرفة.
وجرى بين الفريقين تخليط كثير ومداخلة وشغب.
فقالت الجماعة لي: ماذا تقول أنت ؟
قلت - وبالله التوفيق :
أنا أفصّل تفصيلاً يُصلح بين الفريقين، لا يقتضي الجواب سواه، وإنما يقتضي الجواب تفصيلا لاختلاف أحوال الناس في ذلك، وجواب الإجمال فيما يقتضي التفصيل، كالتفصيل لِما لا يقتضي التفصيل، فأقول:
مَن علمَ من نفسه الجزع، وعلم من القاصدين له إعانة النفس على الجور والجزع دون إعانة الدين على الصبر والسلوة، فالاعتزال أولى به، لأن العزلة تقطع عادته تثوير التسخط على الله سبحانه وإنهاض النفس على جزعها .
ومن علم أنه إذا خلا، خلا به الشيطان وهاجت أحزانه، كان اجتماعه بمن يعلم منه التسلية والتعزية أحرى من وحدته، لأن المخالطة لبعض الناس دواء، ولبعض الناس إِدواء.
وفي الجملة; العزلة عن الأخيار مذمومة، وعن العلماء مشؤومة، والاجتماع بهم بركة واستشفاء.
(كتاب الفنون).
إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ مَحَلَّ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ:
قال ابن مفلح: قال ابن عقيل:
إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ مَحَلَّ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ فَلَا تَنْظُرْ إلَى زِحَامِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ ، وَلَا ضَجِيجِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ بِلَبَّيْكَ ، وَإِنَّمَا اُنْظُرْ إلَى مُوَاطَأَتِهِمْ أَعْدَاءَ الشَّرِيعَةِ. عَاشَ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ وَالْمَعَرِّيُّ عَلَيْهِمَا لَعَائِنُ اللَّهِ يَنْظِمُونَ وَيَنْثِرُونَ، هَذَا يَقُولُ : حَدِيثُ خُرَافَةَ، وَالْمَعَرِّيُّ يَقُولُ: تَلَوْا بَاطِلًا وَجَلَوْا صَارِمًا *** وَقَالُوا صَدَقْنَا فَقُلْنَا نَعَمْ
يَعْنِي بِالْبَاطِلِ; كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَعَاشُوا سِنِينَ وَعُظِّمَتْ قُبُورُهُمْ وَاشْتُرِيَتْ تَصَانِيفُهُمْ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُرُودَةِ الدِّينِ فِي الْقَلْبِ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
تجارى قوم في ذكر الاستدلال على كون الباري عالما بإحكام أفعاله وإتقان صنائعه:
فوجّهَ عليه بعض الأصوليين أربعة أسئلة :
أحدها: أن بعض الأفعال المحكمة قد تصدر على وجه الإتقان في بعض الأحيان. مثل خروج خط يخرج بحروف صحيحة عن يد غير كاتب، والإصابة بالسهم من غير رامِ (كما يقال: رمية من غير رامِ).
والثاني: أنه قد تصدر الأفعال المحكمة ممن لا حكمة له. وحقيقة الإحكام مناسبة الأفعال، والإعداد لما يكون سادّاً من الحاجات في ثاني الحال. مثل العناكب والنحل و النمل، في إحكام أعشاش وأحجرة وأقوات لأزمان مستقبلة، كبيوت النمل التي تُحفَظ فيهن أقواتهن عن المياه و العفن .. ومثل عش العقعق ببابيْن، وبيت اليربوع بباب لخروجه و دخوله، وباب لفراره وهربه، والى أمثال ذلك، ولا حكمة لهذه الحيوانات.
السؤال الثالث، قالوا: لا يخلو أن يكون الباري قادراً على فعل المثبّط، أو قادرا على المحكم المتقن فقط، غير قادر على غير المحكم، فإن قلتم: ( لا يقدر إلا على المحكم ) صار كالملجأ، أو كالطبع الذي لا يصدر عنه إلا فعل على وجه واحد، وإن قلتم: ( يقدر على المثبّط المحكم )، فإذاً صدر غير المحكم عنه، على أنه عالم.
السؤال الرابع: أنه قد صدر الى الوجود غير المحكم من الأفعال، فهلا دلّ المثبّط منها على النقيض، وهو الجهل أو عدم العلم ؟
أجاب حنبلي فقال:
أما الإتقان، فليس لنا، على من أثبت أن أفعال الآدميين خلق فيه. وخروج الفعل المحكم بغير قصد من أحد أدلّتنا على كون الأفعال خلقاً لله سبحانه. ومقالة أهل الإتقان أخسّ المقالات عندنا.
وأما ما يصدر عن الهوام و البهائم، فإنه يصدر عن أحد طريقين:
إما إلهام من الله وهو الحكيم العالم فما صدرت إلا عنه، ويشهد لذلك قوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) ، بمعنى ألهمها ..
وأما قولكم: ( هل ما يصدرمنه المحكم لا يقدرعلى غيره)، فكلاّ ! بل الباري قادر على أن يفعل المثبط، غير أنه إذا فعله لم يصدر عن جهل ولا عدم علم وحكمة، لكنه قصد به المعنى المحكم، وإن كانت صورته من طريق الحس مثبطة، وذلك مثل المرض العارض على الصحة، والتشويه المضاد للتحسين، إما محنة وابتلاء ليعوّض عليه بالنعيم الدائم، أو أو ليعلّم به ضده وهو الإحكام، ويعرّف العباد مقدار النعمة بالإحكام و الإتقان. ولو لم يكن قادراً على المثبّط لما بان فضل الحكمة وهو المنع منه بالحكمة.
وأما وجود المثبّط وما دلّ على نقيض العلم، فإنه ما خلا من معنى محكَمٍ متقن، مثل مصلحة توفي على ذلك في الدنيا، من الاعتبار والاختيار وظهور النعمة و الشكر على السلامة في حقّ من سلم من تفاوت الخلق ونقصان الأعضاء، كما يحصل من تنقيص البنية في حق الطبّ طلباً لسلامة الأصل.
(كتاب الفنون).
أبو المجد الفراتي
2016-03-16, 05:40 PM
بين يحي وعيسى عليهما السلام:
كان يحي لا يُلقى إلا وهو مقطّب، وعيسى لا يُلقى إلا وهو مستبشر.
فقال يحي لعيسى : يا ابن خالتي! ألقاك كأنك آمن.
قال له عيسى: يابن الخالة! ألقاك كأنك آيس.
فأوحى الله إليهما: أحبكما إليّ أبشكما بصاحبه.
(كتاب الفنون)
{ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ }:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
سُؤَالٌ عَنْ قَوْلِهِ : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ }.
كَيْفَ سَاغَ لِعُمَرَ أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ حِينَ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ صَيْدٍ قَتَلَهُ فَقَالَ : اصْبِرْ حَتَّى يَأْتِ حَكَمٌ آخَرُ فَيَحْكُمَ لِنَفْسِهِ إنَّهُ أَحَدُ الْعَدْلَيْنِ.
قِيلَ: إنَّمَا نَهَى عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْمَدْحِ وَالْإِطْرَاءِ الْمُورِثِ عُجْبًا وَتِيهًا وَمَرَحًا، وَمَا قَصَدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ، إنَّمَا قَصَدَ فَصْلَ حُكْمٍ وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ ذَلِكَ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ : {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِافْتِخَارِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ: { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ } فَنَفَى الْفَخْرَ الَّذِي هُوَ الْإِعْجَاب.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
دين الله واحد:
إجتمع العلماء على أن دين الله واحد، الذي عليه الانبياء كافة. يشهد لذلك قوله سبحانه لنبينا صلى الله عليه وسلم ولأمته: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ). وانظر ما بين نوح ونبينا. قال: (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
وقال تعالى: (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ).
وروى البخاري في صحيحه: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يوافق أهل الكتاب فيما لم يوح إليه فيه شيء).
(كتاب الفنون)
مَجْلِس مُذَاكَرَة:
قال ابن مفلح: قال ابن عقيل فِي الْفُنُونِ:
جَرَى فِي مَجْلِسٍ مُذَاكَرَةٌ فَقَالَ قَائِلٌ: إنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي ضِيقًا وَإِنْ قَصُرَتْ يَدَيَّ بَلْ طِيبَ النَّفْسِ كَأَنِّي صَاحِبُ ذَخِيرَةٍ.
فَقَالَ رَئِيسٌ فَاضِلٌ قَدْ جَرَّبَ الدَّهْرَ وَحَنَّكَتْهُ التَّجَارِبُ:
هَذِهِ صِفَةٌ إمَّا رَجُلٌ قَدْ أَعَدَّتْ لَهُ الْأَيَّامُ سَعَادَةً شَعَرَتْ نَفْسُهُ بِهَا لِأَنَّ فِي النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ مَا يُشْعِرُ بِالْأَمْرِ قَبْلَ كَوْنِهِ ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ ثِقَةً بِاَللَّهِ لِكُلِّ حَادِثٍ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ لَا يَضَعُ الشَّيْءَ إلَّا فِي مَوْضِعِهِ ، فَيَسْتَرِيحُ مِنْ تَعَبِ الِاعْتِرَاضِ وَعَذَابِ التَّمَنِّي ..
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
الإحتراز لا ينافي التوكل:
قال حنبلي:
إن سوّل لك مسوّل من شياطين الإنس أو الجن أن ( لا انتفاع بالعمل مع القدر )، فقل له : (ولا توقٍّ مع الأجل). فإن قال: (وكذاك هو )
قل: (فهل تستطرح للأعداء ؟ وهل تطرح عند الأمراض العلاج و الدواء؟ ) فإن قال: ( لا، فإن حبي لنفسي يحملني على مكابدة المؤذي ومدافعته عنها)، فجواب المسألة منها: أن النفس محبوبة، والوعيد على ترك الواجبات وفعل المحظورات قد جاءت به النبوات. والتحرّز واجب في العقل. وحُب النفس حرّكك في التداوي ودفع الصائل، فليحملك خوف فساد العاقبة على النفس على الاستجابة لِما جاءت به النذر.
ثم صاحب القدر أمرك بالتحرز. فيحسن أن تطرح التحرز ممّن لا خبرة له بالقدر إلا من طريق السماع والخبر، فقال لك: (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ )، (وَأَعِدُّوا لَهُمْ) (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ); الآيات. هاجرْ الى المدينة، فإن قومك قد عزموا على قتلك، وهو القائل: (قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ).
فإذا كان هذا قول صاحب القدر، تلقّيت أنت قول الجهال بقولهم: ما ينفع التحرز والعمل؟
اعقل أمرك واعمل، وتشاغل بما كتب إليك، ولا تشتغل بما كتب عليك، فما عطّلَ خطابَ التكليفِ وما جاءت به الرسل باطلاً بسهو الباطل العاطل.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-16, 05:54 PM
فصل:
قال حنبلي :
إذا تلمح العاقل كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) لأصحابه، علم أنه أعطى كل واحد على مقداره، وما يصلح به و له. نحو قوله لبلال: أنفق بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً. وقوله لأبي بكر: ما تركت لأهلك ؟ قال: الله ورسوله. وقال لعمر: ما تركتَ؟ قال: تركتُ ثلثي مالي. ورُوي: نصف مالي. وقال لأبي لبابة لما انخلع من ماله: يجزيك من ذلك الثلث الثلثَ، والثلث كثير. لئن تدع ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس. فلحظ حال كل واحد منهم، ورضي منهم بما علم من حاله.
فإذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يكلم الناس على قدر أحوالهم نظرا إلى مصالحهم، فمن يعلم أن الإقلال يسخطه فيفسد دينه يقنع منه بترك بعض ماله، أو ينهاه عن إخراج جميع ماله كيلا يعود ذلك بوباله. فما ظنك بقسم الباري الأرزاق بين خلقه بحسب ما علم من أحوالهم. وقد نص على ذلك بقوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ). ثم لم يقتصر على إطلاق المشيئة حتى عقب ذلك بقوله: ( إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ). ووصفه لنفسه بالبصارة والخبرة يعطي أن القسمة بحسب ما علمه من الأصلح توسعة أو تقتيرا أو توسّطا. وأمر بالإنفاق على قدر الأصلح، فقال سبحانه: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ). ثم بين علة النهي، فقال: (فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ). فالملامة على التقتير كالملامة على التبذير. لأن التقتير يحصل به منع الحقوق، والتبذير يورث الاسف و الحسرة و التسخط على الرازق؛ وذلك بين تفسيق وتكفير.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-16, 05:57 PM
فصل وعظي:
قال حنبلي:
ما بلغ مِن محلّ عبد مع سيّده أن يكشف له عن أسرار أفعاله فيه. بل غاية محلّ العبد فيكم ولكم أن يحترم أمره ونهيه جزماً: (لا تأكل من الأطعمة هذا !) (ولا تغرف لنفسك من هذا القِدْر ) و(كلْ من هذه !) (اشربْ هذا القدح وإن كان مرّاً !) (لا تمض في هذا الطريق وامض في الآخر !) (مُدَّ يدك اليوم الى الطبيب وانفصد !) .. ولا في أدب العبودية تقتضي المَلَكة أن ينطق العبد في ذلك بِ( لمَ ؟) ولا (كيف ؟). هذا حكمكم مع عبيد ما خلقتموهم، ولا لكم فيهم سوى حبس الرّقّ. ولا يثبت لك عند العبيد والاماء من الحكمة مع الملكة ما يوجب حسن التأويل لتصاريفك فيه .
أنتَ مُخرَج من العدم، مبنيّ ببنائه ساقاً ساقاً، قد أحكم صناعته فيك إحكاماً يشهد له عندك بالحكمة البالغة. لم تقنع بما وضعه فيك من الفطنة بحكمته بشواهد صنعته حتى كاتبك وراسلك، وأخذ بحكم كلامك لك مخرج الإعتذار كاعتذار النظير، يقول لك فيما خفي عليك ألّا يعتريك نفور أو اعتراض باطن: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) إنّ تقسيم الغنائم على خمسة أصناف (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ). فبيّن لك وجوه منعه وإعطائه وإيقاع العقوبة، ومن الذي أوجب عليه هذا ؟
وأنتَ مع عبيدك لا خالق ولا بانٍ ولا منشئ لهم، ليس لك فيهم إلا حبس الحبس الذي هو جعله لك، وأنتَ لا ترى العبد أهلاً أن تقول له: (إنما تقدمتُ بفصدك وحجامتك وحميتُك من الطعام الفلاني لمصلحتك) ولو نطقتَ بذلك لأزرى عليك أمثالك من سادة العبيد، فقالوا: (فلان يعتذر الى عبده. هذا إطماع له وإفساد لحكم السيادة مع للعبودية. ما للعبد وما إليه حتى يقول له سيّده: (إنما فعلتُ كذا لكذا؟ ). ولو كاتَبه أو أرسل إليه رسولاً لقيل: (هذا غاية الإستفساد. هذا مما لا يُسمح به للعبد فيعدو طوره). وأنتَ متى أخفى عنك علة فِعلٍ فعله فيك، أو أمرٍ أمرك به، تشرّدتَ وتوانيتَ عن فعله، وكذاك فيما نهاك، تطَلُّباً لعلّة ذاك، فتعدّيتَ طورك. تُرى ما سمعتَ قوله: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ) ما ينبّهك هذا على الإنتهار والاستنكار لما أبداه، حتى يوجب عليك إمّا التأويل له فيما أخفاه، وحمل ما سكت عن الإعتلال فيه لما أبداه، أو الإستسلام لما ثبت له من الملكة والحكمة، وبيان علل الإشفاق عليك فيما علّله لك ؟؟؟
أنا أقول قولا لم يمتدّ إليه نظر غيري، وهو أنّكم تلعنون من أشرك به بضم إله آخر إليه، وتُكفّرون ذلك القائل، وأفعالكم وأقوالكم تُعطي أنّكم أثبتتم نفوسكم إثبات الشركة له، إذ ليس انتقادكم على أفعاله وأقواله انتقاد النظير فقط، بل ربّما كان ذلك انتقاد من فاقت حكمته، وعلت رتبته، وعبد يرى نفسه نظير سيّده، آبقٌ أعلى الأبّاقين. لأنّ الهارب أسقط حقّ سيّده من الخدمة، والمقيمُ المعترض زاحم سيّده في أحكام الملكة، فهذا يَعُدّه الملوك أكبر خارجي ..
(الفنون)
- فصل:
قال رجل من أهل العلم:
الباري سبحانه أخبر أنهم بلغوا من العناد الغاية التي لا رجاء لراجٍ معها استجابة، فقال سبحانه: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ). ومع ذلك الكشف لما أدركه من أحوالهم و عاقبة أمرهم، بعلمه الذي لا يتغير ولا يختلجه شك، ولا يتطرق عليه ريب، أمره بالبلاغ، وحثه على الإنذار لهم، واللطف بهم، و العفو عنهم. وكذلك أمر موسى باللين في القول لفرعون مع العلم بعاقبة أمره. فما أبطنوا التكليف على العلم، ولا حسّن بمقتضى تحسين العقل، فإن خطاب من قطع الشاهد بعدم استجابته للمخاطِب يجعل الخطاب لغواً، و البلاغ عبثاً و إتعاباً، ليس فيه ولا وراءه فائدة، ويجعل المخاطِب بذلك كالمترجّي لخلاف ما وقع له. و ليس العلم من هذا القبيل، بل العلم هو الكاشف عن المعلوم، المدرك له على ما هو به. والعلم كشَف عن عدم الإستجابة. والخطاب استدعاء ظاهره الترجّي للإستجابة. فعُلم أنه قد حَسُن من الله تعالى في باب التكليف ما لا يحسن في الشاهد.
(الفنون)
كان الحسن يقول:
يصبح ابن آدم بين نعمة زائلة، وبلية نازلة، ومنية قاتلة.
(الفنون)
من العَجَب:
قال ابن مفلح: قال ابن عقيل فِي الْفُنُونِ:
مِنْ عَجِيبِ مَا نَقَدْت مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ كَثْرَةُ مَا نَاحُوا عَلَى خَرَابِ الدِّيَارِ ، وَمَوْتِ الْأَقَارِبِ وَالْأَسْلَافِ ، وَالتَّحَسُّر عَلَى الْأَرْزَاقِ بِذَمِّ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ وَذِكْرِ نَكَدِ الْعَيْشِ فِيهِ ، وَقَدْ رَأَوْا مِنْ انْهِدَامِ الْإِسْلَامِ ، وَشَعَثِ الْأَدْيَانِ ، وَمَوْتِ السُّنَنِ ، وَظُهُورِ الْبِدَعِ ، وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَقَضٍّ فِي الْفَارِغِ الَّذِي لَا يُجْدِي ، وَالْقَبِيحِ الَّذِي يُوبِقُ وَيُؤْذِي ، فَلَا أَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ نَاحَ عَلَى دِينِهِ ، وَلَا بَكَى عَلَى فَارِطِ عُمْرِهِ، وَلَا آسَى عَلَى فَائِتِ دَهْرِهِ وَمَا أَرَى لِذَلِكَ سَبَبًا إلَّا قِلَّةَ مُبَالَاتِهِمْ بِالْأَدْيَانِ وَعِظَمَ الدُّنْيَا فِي عُيُونِهِمْ ضِدَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَرْضَوْنَ بِالْبَلَاغِ وَيَنُوحُونَ عَلَى الدِّينِ .
(الآداب الشرعية)
أبو المجد الفراتي
2016-03-16, 08:37 PM
في تقصير الآمال:
ما تصفو الأعمال إلا بتقصير الآمال، فان كل من عدّ ساعته التي هو فيها كمرض الموت حسنت اعماله، فصار عمره كله صافيا. وإلى هذا أشار صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم حيث قال : وعُدّ نفسك من الموتى، إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء، وإذ أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح.
وهذا قول عارف بأن التسويف يؤخر الأعمال ببسط الآمال. ومن قصّر أمله رآى قلة البضاعة و صيانة العيش الساعة التي هو فيها، فجوّد العمل، خوفاً أن يكون ذاك القدر هو المَقطع. وليس هذا عندي مجتمعا بالأعمار بل بالأموال. كذلك يجب أن يكون إحسانك من المال الحاضر بحسبه و ان قلّ، و لا تتسوف بكثرة المال في الثاني. و العاقل من لم يحضره قليل الرزق إلا و شكر الله بحسبه. فتعجيل القليل مع حضور الوقت و المهلة، خير من التمادي و التأخير انتظارا لكثيره . وليس تأثير الأعمال بالكثرة بل بالخلوص. ولهذا جرى في مدح القرآن على ذلك الخبز الشعير : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ). فاذا سمع القائل هذه المدحة .. إغتنم الشكر بحسب الحاضر من الحال ولم يتسوف بالامال.
(كتاب الفنون)
نصيحة:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ :
فِعْلُ الْخَيْرِ مَعَ الْأَشْرَارِ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ عَلَى الْأَخْيَارِ، كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْرَمَ الْخَيْرُ أَهْلَهُ ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْرَمَ الْخَيْرَ حَقَّهُ ، فَإِنَّ وَضْعَ الْخَيْرِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ ظُلْمٌ لِلْخَيْرِ كَمَا قِيلَ : لَا تَمْنَعُوا الْحِكْمَةَ أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ ، وَلَا تَضَعُوهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا ، كَذَلِكَ الْبِرُّ وَالْإِنْعَامُ مُفْسِدٌ لِقَوْمٍ حَسَبُ مَا يُفْسِدُ الْحِرْمَانُ قَوْمًا ، .. فَهُوَ كَالنَّارِ كُلَّمَا أُطِيبَ لَهَا مَأْكَلًا سَطَتْ فَأَفْسَدَتْ ..
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
فصل:
قال حنبلي :
لو لم يسبق في العقل حسن وقبيح سبق العلم بالشرائع، لمَا حسن في الشرع توبيخ ولا تعنيف على فعل. إلا أن يكون قد سبق به أمر من الشرع فترك، أو نَهي ففعل. فلّما قال : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ)، (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ)، (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا)، فهذه كلها توبيخات عقلية؛ فوبّخ الشرع أرباب العقول التي سبق فيها القبح والحسن.
وقوله: ( أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ ) وهذا توبيخ على ترك التحرز من المضار، وهو من قضايا العقول.
وقوله: (وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)؛ كل ذلك إيجاب التحرز؛ وما أوجب التحرز إلا العقل.
(كتاب الفنون)
شذرة:
البِشْر مُؤَنّس للعقول، ومن دواعي القبول، والعبوس ضده.
لو كان في العبوس خير، ما عتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
(كتاب الفنون)
فِي الْقُرَّاءِ فِي السُّوقِ:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
قَالَ حَنْبَلِيٌّ : كَمْ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ تَخْرُجُ مَخْرَجَ الطَّاعَاتِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَهِيَ مَأْثَمٌ وَبُعْدٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ الْقِرَاءَةِ فِي أَسْوَاقٍ يَصِيحُ فِيهَا أَهْلُ الْمَعَاشِ بِالنِّدَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا أَهْلُ السُّوقِ يُمْكِنُهُمْ السَّمَاعُ، ذَلِكَ امْتِهَانٌ .
قَالَ حَنْبَلِيٌّ: أَعْرِفُ هُوَ، وَلَعَلَّ أَهْلَ السُّوقِ يَسْمَعُونَ النَّهْيَ عَنْ مُرَاءَاتٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ فَيَتْرُكُونَهَ ا.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
أرجأ آية في كتاب الله:
قال أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه، لرجل آية في القرآن قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ). كأنه يقول: المصيبة عقوبة. وما عفا الله عنه في الدنيا، فهو أمجد وأكرم وأجود من أن يعود في شيء عفا عنه.
قال حنبلي: فهذه أرجأ آية في كتاب الله. وقد ورد في الخبر: حتى الشوكة يُشاكُها، إذا انقطع شِسْع نعل أحدكم، فليسترجع، فإنها مصيبة. ومعلوم كثرة اللواذع والمصائب في المال والأهل والنفس والعرض، فإذا أخبر الله تعالى أنها مقابلات وعقوبات ، وضمن على نفسه العفو عن كثير، فما قصرت المصائب في الدنيا عن مقابلته سقط بالعفو الذي ضمنه سبحانه. فهذه الآية تُهوّن مصائب الدنيا عند العقلاء.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-17, 05:49 PM
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما المؤمن الذي نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة.
قيل لحنبلي له تحقيق:
ما معنى هذا ؟
فأجاب بأن نفسَه منه في عناء، لان الإيمان يقيّد الفتك، والنفس تطلب من الناس الحظ، و تتقاعد عن الحق لما معها من العرامة بالطبع.
والاوائل قالوا :
أتروض عِرسَك بعدما هرمتْ
ومن العناء رياضةُ الهرِم
وأنا أقول :
أتروض عِرسَك في حداثَتِها
ومن العناء رياضة العَرِم
وأدل عليه بأن العرامة تشرد مع قوة، والقوي تشتد مقاواته ومعه عدم خبرة. و الهرِم إن صعبتْ رياضته فغايته لاستمرار العادة. ولكن يُقابِل ذلك ضعف قوته، وسلالة استجابته، لضعفه عن المقاواة، وقوة خبرته وتجربته المعينة له على القبول والاستجابة للحق.
(كتاب الفنون)
سَاعَةُ إجَابَةٍ:
قال ابن مفلح: قَالَ ابن عقيل:
كُلُّ حَالٍ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَغْتَنِمَ تِلْكَ اللَّحْظَةَ فَإِنَّهَا سَاعَةُ إجَابَةٍ .
فَحُضُورُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَلْبِ الْعَبْدِ حُضُورٌ وَاسْتِحْضَارٌ، وَخَيْرُ أَوْقَاتِ الطَّلَبِ اسْتِحْضَارُ الْمُلُوكِ، وَمَنْ اشْتَدَّتْ فَاقَتُهُ فَدَعَا، أَوْ اشْتَدَّ خَوْفُهُ فَبَكَى، فَذَلِكَ الْوَقْت الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ فِيهِ فَإِنَّهُ سَاعَةُ إجَابَةٍ وَسَاعَةُ صِدْقٍ فِي الطَّلَبِ. وَمَا دَعَا صَادِقٌ إلَّا أُجِيبَ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
الشيب مرض الموت:
الشيب مرض الموت، لولا أنه مألوف، وإلا فسل عنه الطب، فقل: ما هذا العارض ؟ هل هو زائل أم لا ؟ فإذا أجمع الكل على أنه ذبول يتزايد وتحلّل يترادف و يتتالى، فاعلم أنه مرض الموت. أنظر ما تفعله في مرض الموت، يقول لك الطّب: ما لهذا برء ولا شفاء، ولا يُرجى له علاج، ولا يُوجد له دواء، فافعله إذا ابيضت لحيتك ورأسك، فما بعد بياض اللحية والرأس إلا الانحلال والانعكاس. تأهّبْ للنقلة، فقد استحكمت العلّة.
أليس قد جرت عادتكم بتوزيع الأموال وتحسين الأعمال وتأكيد الوصيّة وتجديد التوبة ومجالسة الاصدقاء والمعاملين، مع تجويز خطأ الطب في القول وذهابهم عن الصواب، لأن العلل مختلفة ؟ فهل يختلف اثنان أن المشيب طلائع الموت وعنوان الفوت، وعلة لا تتزايل، ومرض لا يفارق؟
وحياتِك إني لك ناصح، وإني لعيبك كاشف و لك فاضح، لا لأني لك عدو ولا كاشح، و لكن أؤلمك لأبرئك، وآمرك لأخليك. وحياتِك يا أخي، ما غسلت سيئة بأحسن من دمعةِ حسرةٍ على فائت من عمرك في غير ما خُلقتَ له، وحقِّك أيها الصديق ما تردد في قلب ولا حاك في خاطر أجلّ من حزن وأسىً، على عمر انقضى في سَوْفَ ولَعَلّ وعَسى ..
(كتاب الفنون)
الزهد في عصرنا:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
هِجْرَانُ الدُّنْيَا فِي عَصْرِنَا هَذَا لَيْسَ مِنْ الزُّهْدِ فِي شَيْءٍ ، إنَّمَا الْمُنْقَطِعُ أَنِفَ مِنْ الذُّلِّ، فَإِنَّ مُخَالَطَةَ القُذراء، وَالتَّخَلِّي عَنْهُمْ نَزاهَة، وَمَنْ طَلَّقَ عَجُوزًا مُنَاقِرَةً فَلَا عَجَبَ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
فصل وعظي:
ما أجودك من معلّم غير متعلم ! وما أجودك من مؤدب، لكن لا يتأدب! تعلّم الكلاب، مع نهمتها وتكلبها على الصيود وفرط حاجتها، بأن تمسك عليك ولا تأكل من صيدها، وكذلك جوارح الطير والسباع . وتروض المهارة والحجورة حتى تتأدب لركوب الملوك. وأنت عاقل ناطق، الرسالة إليك، وكتاب الله ينزل عليك، والآباء، والمعلمون، والعلماء، والوعاظ، والمُفتون، والقصاص، والقرآن يتلى، والعبر تُتربّى، وآثار الأمم البائدة والقرون الخالية، كما تسمع وترى. فلا الآداب بأخلاقك عبقت، ولا التعاليم بطباعك علقت. فسبحان من سخرالأشياء لك وجعلها طوع يدك وأمرك، وأنت تتشرد عليه كذا!
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-17, 05:56 PM
فصل:
بينما أنت معجب بالواحد من أهل الدهر حتى يملولح عذبه، ويكتهل عشبه، ويضيق رحبه. فالاغترار بهم غباء، وودُّهم عند التحقيق هباء، والاعتماد عليهم إفلاس.
(كتاب الفنون)
لا تَسْتَبْطِئِ الْإِجَابَةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
تَسْتَبْطِئُ الْإِجَابَةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَدْعِيَتِك فِي أَغْرَاضِك الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بَاطِنِهَا الْمَفَاسِدُ فِي دِينِك وَدُنْيَاك ، وَتَتَسَخَّطُ بِإِبْطَاءِ مُرَادِك مَعَ الْقَطْعِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَمْنَعُك شُحًّا وَلَا بُخْلًا وَلَا نِسْيَانًا.
وَقَدْ شَهِدَ لِصِحَّةِ ذَلِكَ مُرَاعَاتُهُ لَك ، وَلَا لِسَانَ يَنْطِقُ بِدُعَاءٍ ، وَلَا أَرْكَانَ لِعَبْدِهِ ، وَلَا قُوَّةً تَتَحَرَّك بِهَا فِي طَاعَةٍ مِنْ طَاعَاتِهِ ، فَكَيْفَ وَجُمْلَتُك وَأَبْعَاضُك وَقْفٌ عَلَى خِدْمَتِهِ ، وَلِسَانُك رَطْبٌ بِأَذْكَارِهِ ؟ لَكِنْ إنَّمَا أُخِّرَ رَحْمَةً لَك وَحِكْمَةً وَمَصْلَحَةً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إلَيْك بِذَلِكَ تَقْدِمَةً ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .
وَأَنْتَ الْعَبْدُ الْمُحْتَاجُ تَتَخَلَّفُ عَنْ أَكْثَرِ أَوَامِرِهِ ، وَلَا تَسْتَبْطِئُ نَفْسَك فِي أَدَاءِ حُقُوقِهِ . هَلْ هَذَا إنْصَافٌ أَنْ يَكُونَ مِثْلُك يُبْطِئُ عَنْ الْحُقُوقِ وَلَا تُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِك ، ثُمَّ تَسْتَبْطِئُ الْحَكِيمَ الْأَزَلِيَّ الْخَالِقَ فِي بَابِ الْحُظُوظِ الَّتِي لَا تَدْرِي كَيْفَ حَالُك فِيهَا هَلْ طَلَبُهَا عَطَبٌ وَهَلَاكٌ ، أَوْ غِبْطَةٌ وَصَلَاحٌ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
فصل تذكار:
إعلم أنه لا تكمل العبودية فيك إلا بما كملت به الربوبية فيه سبحانه. وكمال الإلهية أنه عظيم، مستوجب التعظيم، وعلى تعظيمه يدور التكليف، يُطاع أمره فلا يُعصى، ويُذكر إنعامه فلا يُنسى، ويُسلّم حكمه، فلا يُعترض بِ(لِمَ) قولاً ولا إضماراً. مطلق التصرف بكل معنى، لا لكونه قاهراً فقط، بل لأنه حكيم غير مختلّ الصنع. فكما أن الأركان كلها خلقه يجب أن يُتعبّد له بالسجود تارة إذا أمر، وبالركوع أخرى، وبالانتصاب أخرى، وبالكف عن الشهوات، وبتناولها في بعض الأوقات. كذلك العقل خلقه يقضي لأفعاله وأحكامه، ولا يقضي عليها بالتحكّم الخارج عن التسليم. إن جمع ، فحكمة ورحمة، وإن فرّق، فحكمة وقدرة. فكما أن قدرته لا تُقاوى بالمدافعة، حكمته لا تُقاوى بالمعارضة.
كل شيء خلقه تحت تدبير العقل، والعقل تحت تدبير الرب. فإن أذعن العقل بالربوبية له، فينبغي أن يذعن بالتسليم. لأنّ مربوباً لا يََرُبّ، كما أن الربّ لا يُرَبّ.
يا ناقصاً في التكليف بكل معنى ! يا مفلساً من العبودية بكل حقيقة ! أنت عبدٌ مِن طريق الخلق قهراً، هل كنت عبداً من طريق التخلّق طوعاً ؟ ما أشد طاعتك للهوى مع كثرة جناياته عليك ! وما أشد تجنّيك على الخالق مع كثرة إتقاناته فيك !
هل أجارك الهوى قطّ مِن ورطة ؟ هل أخذ بيدك من سقطة ؟ أليس غوائله كلها و عواقبه فسادا ؟ أليس حلاواته مرارات ؟ أليس هو الذي يجمع على دعوة، ويفرّق عن عربدة ؟ أليس هو الذي يحمل على بِطنة ونهمة تكون غائلتها نغصة بتخمة ؟ أليس هو الذي يحمل على إغفاءة تكون غائلتها البيات ؟ كم حلا لك أوّلُه ، وأمرّ عيشَك أخِرُه ؟
تعال إلى فعل الحق فيك; إن أمرّك، حلاّك، وإن منعك; فعن دائك حماك، وإن ناولك، شفاك، وإن أظمأك، سقاك، وإن دعوته بعد التشرد عليه، لبّاك . وربما قبل أن تدعوه بادأك: يا عبد هواه ! اعبدني، أستعبد لك الهوى. يا أسير الشهوة ! فكّ نفسك بالحمية. يا أسير الجهل ! افكك علمك باليقظة. يا أسير العمل بالربا ! افكك عملك بالإخلاص. يا أسير الطمع ! فكّ رجاءك بالمعرفة بمقادير الخلق. لا تعبد بطمعك جهات الرزق، ولكن اعبد الموجّه. أنا، واللهِ، المُوجّه، وهم الجهات . أنا المحرّك للقلوب المعطية، وهم أدوات. إنْ أردتَ أن تشكرهم دوني، فاشكر السحاب والمطر والزرع والشجر، فإن الجميع منّي، والكل خلقي، ولهم عندي شكر التكليف. يا سبحان الله، ما أعجب أمرك ! تُعافى بشربة أو بمفصدة، تشكر الدواء وتبجّله، وتمدح المِبْضَع وتعظّمه. تُرى ما لي في فعل المبضع وخاصية الدواء فعل ولا صُنع أستحق به بعض الشكر ؟ هذا شرك عسى غذا يصير توحيداً. أنت لا تجعل لي قسماً من الشكر.
فليتك كنتَ طبائعيا خالصاً فتعرف بالطبيعة. فإن أفلحتَ ونجوتََ من ذا، وقعتَ في بحر النجوم. فلا تعقد ولا تحلّ إلا بالمنجّم. حتى صار دأبك: (مُطرنا بالسرطان)، و(وُفّقت أموري بزُحل )، و(المريخ ما يدع لي السنة عيشاً صافياً، ولا أَمْراً ساكناً، قد أوقع بيني وبين الناس الفتن)، أو تقول : (السنة معيشتي جيدة وعيشي طيّب، لأن طالعي الزُّهرة، وفي بيت مالي المشتري ).
تُرى ما تقول عَبَدة النجوم ؟ حدثني بماذا يمتازون عنك، وبماذا تخرج من الشرك ؟ أين الإثبات منك، فضلا عن التوحيد ؟
تعالََ اسمع مني تخليع إيمان ، وانصف في استماعك. تضيف الضرر الواقع بك الى النجوم والأنواء، والمنافع الواصلة إليك إلى الطبيب والدواء . فإذا وقع منك المكروه، وتركتََ المفروض، تلهّيت بنفسك في إضافته إلى قدر ربّ السماء، كأنك ما خصّصته إلا بما عنه نهاك، حتى جعلته في الإثبات لإقامة عذرك في جفاك، وعذرك هذا لما أفلحتََ وأثبتّ، فإن لحقك من غيرك جفاء، أو نالك منه أذى، حنقتََ عليه حنق من ليس وراء فعله قدر ولا قضاء. تُرى هذه الأقدار التي أثبتّها، وهذه القضايا التي اعتقدتَها، لا تحتكّ إلا فيك ؟ أمَا هي على غيرك جارية ؟ فإذا قامت لك الأعذار بها، هلاّ أقمتها لغيرك في الإساءة عذرا ؟
ما يخلو في هذا من أمرين: إما أن تكون ساخراً بدينك، أو مسخوراً بك، وإلا فمحال أن تكون تعتقد أنّ القدر مؤثّر فيك شرا دون غيرك، فلو أيقنتََ بالقدر حسبما ذكرتَ لعذرتَ غيرك في إساءته إليك، كما به عن نفسك اعتذرت.
ما أكشف حال زندقتك للمنتقد عليك ! تضيف المنافع والمضار الى الكواكب والطباع، والأرزاق والإساءات الى المُعطين والمسبّبين، كل ذلك لتخرج الباري عن الصنع، وتجيء الى ما بقي من خطاب الشرع، من أداء فرض أو ترك ذنب، فتحيل بترك الواجب عليك، وفعل المحظور عليك، إلى قدر الله. ما ذكرتَ الله إلا هنا، لتردّ الأمر حيث جاء .
أمّا أنا، فلا أعرف إيمانك من كفرك، تارة تضيف الفقر والبلاء الى نزول الذنب في بيت المال، وتارة تشقّق عتباً على الإله الذي لا يخطر منك في حال غنائك وسكونك ببال. فما يتخلص لي كفرك من إيمانك، ولا توحيدك من شركك، ولا نفيك من إثباتك.
هذا، وأما أعمالك فعنوان الجحود والإنكار، ولا أرى عليك عنوانا للإثبات والإقرار. ينخرق من ثوبك مكان عقدة، أو تنجذب فيه هدبة، لا تسكن عن الحركة بالبدن والمال، حتى تدفع الى الرقّاء أوفى الأجور والأعواض ، ليعود الى ما كان. وهذا فرضك يختل بأنواع الخلل، لا تتحرك في سدّ خلله، ولا تلافي علله، لا بسجود سهو ولا تكفير حنث، ولا إقامة حدّ، ولا توبة عن ذنب، ولا ندم على فارط جرم.
واللهِ ما للإيمان فيك علامة، سوى كلمة تعوّدتها من الصغر، لا ثقل فيها على النفس ولا مؤونة، وهي كلمة قد عصمت الدم وحرست المال، وقد عرفت ما في تركها من الوبال.
وإلا فانصف وعيّن لي عملاً من أعمالك تتوسل بها إلى الباري عند ضرورتك واختلال أحوالك، عيّن لي عملاً يصلح أن يكون مقطع الأجل ورأس الرزمة في العمل، وانتقده نقداً يصلح لرؤية الحق، بلا تفريط فيه ولا خلل. فإن رأيتَ ذلك ووجدتََ، وإلا فابكِ على نفسك من إفلاسك من معنى تسمّيتَ به عمرَك ودهرك لمّا تحقْقت الحقيقة، ما أنسبك منه صحّة تصلح لمطالعة الخليقة ...
(كتاب الفنون)
فِي الْقَنَاعَةِ:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:
لَوْ عَلِمْت قَدْرَ الرَّاحَةِ فِي الْقَنَاعَةِ وَالْعِزِّ الَّذِي فِي مَدَارِجِهَا عَلِمْت أَنَّهَا الْعِيشَةُ الطَّيِّبَةُ، لِأَنَّ الْقَنُوعَ قَدْ كُفِيَ تَكَلُّبَ طِبَاعِهِ. وَالطَّبْعُ كَالصِّبْيَانِ الرُّعَّنِ، وَمَنْ بُلِيَ بِذَلِكَ أَذْهَبَ وَقْتَهُ فِي أَخَسِّ الْمَطَالِبِ وَفَاتَتْهُ الْفَضَائِلُ، فَأَصْبَحَ كَمُرَبِّي طِفْلٍ يَتَصَابَى لَهُ وَيَجْتَهِدُ فِي تَسْكِينِ طِبَاعِهِ، تَارَةً بِلُعْبَةٍ تُلْهِيهِ وَتَارَةً بِشَهْوَةٍ ، وَتَارَةً بِكَلَامِ الْأَطْفَالِ.
وَمَنْ كَانَ دَأْبهُ التَّصَابِي مَتَى يَذُوقُ طَعْمَ الرَّاحَةِ ، وَمَنْ كَانَ فِي طَبْعِهِ كَذَا فَمَتَى يَسْتَعْمِلُ عَقْلَهُ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
شذرة :
ما أحثَّ السائق، لو فطِن الخلائق!
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-17, 06:09 PM
كُنْ بِاَللَّهِ كَالْيَتِيمِ، مَعَ الْوَلِيِّ الْحَمِيمِ:
قال ابن مفلح: قَالَ ابن عقيل ~بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}~:
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَبِّهُك عَلَى الِاحْتِيَاطِ لِنَفْسِك وَسِرِّك وَمَالِك ، بِالِاحْتِيَاطِ لِمَالِ غَيْرِك ، لَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْك ذَلِكَ التَّحَرُّزَ وَالتَّحَفُّظَ وَالِارْتِيَادَ وَالْمُبَالَغَة َ فِي الِانْتِقَادِ لِكُلِّ مَحَلٍّ تُودِعُهُ سِرًّا أَوْ مَالًا أَوْ تَرْجِعُ إلَيْهِ ، أَوْ مَشُورَةٍ تَقْتَبِسُ بِهَا رَأْيًا ، وَنَبَّهَك عَلَى مَا هُوَ أَوْكَدُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ تَعْلَمَ بِأَنَّك وَإِنْ بَلَغْت الْغَايَةَ مِنْ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ وَالتَّجْرِبَةِ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ تَقْصِيرَك عَنْ تَدْبِيرِ نَفْسِك ، فَإِذَا بَالَغَتْ فِي الدُّعَاءِ الْمَحْبُوبِ نَفْسَك جَازَ لَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعْطِيَك بِحَسَبِ مَا طَلَبْت ، وَلَا يُرْخِي لِذَلِكَ الْعِنَانَ بِحُكْمِ مَا لَهُ أَرَدْت ، بَلْ يَحْبِسُ عَنْك لِصَلَاحِك ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْك مَا وَسَّعَهُ عَلَى غَيْرِك نَظَرًا لَك ؛ لِأَنَّهُ فِي حِجْرِ الرُّبُوبِيَّةِ مَا دُمْت عَبْدًا .
فَإِذَا أَخْرَجَك عَنْ رِبْقَةِ التَّكْلِيفِ سَرَّحَك تَسْرِيحًا ، وَلَا تَطْلُبْ التَّخْلِيَةَ حَالَ حَبْسِك ، وَلَا التَّصَرُّفَ بِحَسْبِ مُرَادِك حَالَ حَجْرِك فَلَسْت رَشِيدًا فِي مَصَالِحِك ، فَكُنْ بِاَللَّهِ كَالْيَتِيمِ ، مَعَ الْوَلِيِّ الْحَمِيمِ ، تَسْتَرِحْ مِنْ كَدِّ التَّسَخُّطِ، وَتَنْجُو مِنْ مَأْثَمِ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّحَيُّرِ ، وَلَيْسَ يُمْكِنُك هَذَا إلَّا بِشِدَّةِ بَحْثٍ وَنَظَرٍ فِي حُبِّك وَقَدْرِك .
فَإِذَا عَلِمْت أَنَّك بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّة ِ وَالتَّدْبِيرِ الْإِلَهِيِّ دُونَ الْيَتِيمِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْوَلِيِّ بِكَثِيرٍ ، صَحَّ لَك التَّفْوِيضُ وَالتَّسْلِيمُ ، وَاسْتَرَحْت مِنْ كَدِّ الِاعْتِرَاضِ وَمَرَارَةِ التَّسَخُّطِ وَالتَّدْبِيرِ .
وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: { وَكَفَى بِرَبِّك وَكِيلًا } .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ فِي أَسْرِ الْأَقْدَارِ تُصْرَفُ فَإِنْ اعْتَرَضْت صِرْت فِي أَسْرِ الشَّيْطَانِ، فَلَأَنْ تَكُونَ فِي أَسْرِ مَنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَيْك خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي أَسْرَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا مَحِيصَ لَك عَنْهُ ، وَالْآخَرُ أَنْتَ أَوْقَعْت نَفْسَك فِيهِ .
وَلَا أَقْبَحَ مِنْ عَاقِلٍ حَمَاهُ اللَّهُ وَحَجَرَ عَلَيْهِ حَمِيمُهُ نَظَرًا لَهُ أَدْخَلَ عَلَى نَفْسِهِ عَدُوًّا بِقُبْحِ آثَارِ وَلِيِّهِ عَنْدَهُ ، وَيُسْخِطُهُ عَلَيْهِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ مَعَ الْوَلِيِّ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
استحباب الإغضاء عن هفوات من كثرت حسناته:
قد ورد في الأحاديث ما يدل على استحباب الإغفال والإغضاء عن هفوات من كثرت حسناته ومحاسنه. فقال (صلى الله عليه وسلم ): ( إذا ذُكِرَ أصحابي فأمسكوا )، ثم علل فقال: ( لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه).
تقدير هذا الكلام: حسناتهم ومتقدمات أفعالهم وطاعاتهم تمنع أمثالكم أن يتكلم فيهم. وكذلك قوله: إن فلاناً من أهل بدر، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: (إعملوا ما شئتُم فقد غفرتُ لكم). وقوله: تجاوزوا عن ذنب السخيّ، فإن الله آخذٌ بيده كلّما عثر. ورُوي في بعض الأخبار أن الله سبحانه أوحى إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل: قل لأمّتك تجنّبوا ذنوب الملوك، فإن للملوك أعمالا لا يقدر عليها غيرهم. يعني ~والله أعلم: أن طاعاتهم كثيرة، كالمصالح الكلية، فتغطّي إساءاتهم الجزئية.
(كتاب الفنون)
وُجُوبُ التَّأَدُّبَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
مَا أَخْوَفَنِي أَنْ أُسَاكِنَ مَعْصِيَةً فَتَكُونَ سَبَبًا فِي سُقُوطِ عَمَلِي وَسُقُوطِ مَنْزِلَةٍ إنْ كَانَتْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَمَا سَمِعْتُ قَوْله تَعَالَى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ التَّسَبُّبِ وَسُوءِ الْأَدَبِ عَلَى الشَّرِيعَةِ مَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ، وَلَا يَشْعُرُ الْعَامِلُ إلَّا أَنَّهُ عِصْيَانٌ يَنْتَهِي إلَى رُتْبَةِ الْإِحْبَاطِ، هَذَا يَتْرُكُ الْفَطِنَ خَائِفًا وَجِلًا مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَآثِمِ ثُمَّ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ تَحْتَهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا يُشَاكِلُ هَذِهِ ..
أَلَيْسَ بَيْنَنَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ كَلَامُهُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَزَمَّلُ وَيَتَدَثَّرُ لِنُزُولِهِ، وَالْجِنُّ تُنْصِتُ لِاسْتِمَاعِهِ؟ وَأَمَرَ بِالتَّأَدُّبِ بِقَوْلِهِ: { فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا }.
فَعَمَّ كُلَّ قَارِئٍ، وَهَذَا مَوْجُودٌ بَيْنَنَا. فَلَمَّا أُمِرْنَا بِالْإِنْصَاتِ إلَى كَلَامٍ مَخْلُوقٍ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ بِالْإِنْصَاتِ إلَى كَلَامِهِ أَوْلَى .
وَالْقَارِئُ يَقْرَأُ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ، وَرُبَّمَا أَصْغَيْتُمْ إلَى النَّغْمَةِ اسْتِثَارَةً لِلْهَوَى ، فَاَللَّهَ اللَّهَ لَا تَنْسَ الْأَدَبَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْكَ فِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ ، مَا أَخْوَفَنِي أَنْ يَكُونَ الْمُصْحَفُ فِي بَيْتِكَ وَأَنْتَ مُرْتَكِبٌ لِنَوَاهِي الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فِيهِ فَتَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: { فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } .
فَهِجْرَانُ الْأَوَائِلِ كَلَامَ الْحَقِّ يُوجِبُ عَلَيْكَ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِبْعَادِ وَالْمَقْتِ، فَقَدْ نَبَّهَكَ عَلَى التَّأَدُّبِ لَهُ مِنْ أَدَبِكَ لِلْوَالِدَيْنِ ، وَالتَّأَدُّبُ لِلْأَبَوَيْنِ يُوجِبُ التَّأَدُّبَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ لِأَنَّهُ الْمُبْتَدِئُ بِالنِّعَمِ ، فَاَللَّهَ اللَّهَ فِي إهْمَالِ مَا وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الْأَدَبِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ، وَالْإِنْصَاتُ لِلْفَهْمِ وَالنَّهْضَةُ لِلْعَمَلِ بِالْحُكْمِ إيفَاءٌ لِلْحُقُوقِ إذَا وَجَبَتْ ، وَصَبْرًا عَلَى أَثْقَالِ التَّكَالِيفِ إذَا حَضَرَتْ ، وَتَلَقِّيًا بِالتَّسْلِيمِ لِلْمَصَائِبِ إذَا نَزَلَتْ ، وَحِشْمَةً لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ أَخْذٍ وَتَرْكٍ حَيْثُ نَبَّهَكَ عَلَى سَبَبِ الْحِشْمَةِ فَقَالَ : { وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } { أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
سبعة أشياء محتاجة إلى سبعة:
قال الحكيم :
سبعة أشياء محتاجة إلى سبعة: المنظر محتاج إلى القبول. والحسب محتاج إلى الأدب. والسرور محتاج إلى الأمن. والقرابة محتاجة إلى المودة. والمعرفة محتاجة إلى التجربة. والشرف محتاج إلى التواضع. والنجدة محتاجة إلى الجِدّ.
(كتاب الفنون)
في الدّنيا:
قال ابن مفلح: قَالَ ابن عقيل:
مَا قَطَعَ عَنْ اللَّهِ وَحَمَلَ النَّفْسَ عَلَى مَحَارِمِ اللَّهِ، فَهُوَ الدُّنْيَا الْمَذْمُومَةُ وَإِنْ كَانَ إمْلَاقًا وَفَقْرًا، وَمَا أَوْصَلَ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَذَاكَ لَيْسَ بِالدُّنْيَا الْمَذْمُومَةِ وَإِنْ كَانَ إكْثَارًا.
.. وَالْوَاجِبُ شُكْرُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ نِعْمَةُ اللَّهِ وَطَرِيقٌ إلَى الْآخِرَةِ وَذَرِيعَةٌ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَكُلُّ خَيْرٍ يَعُودُ بِالْإِفْرَاطِ فِيهِ شَرٌّ، كَالسَّخَاءِ يَعُودُ إسْرَافًا ، وَالتَّوَاضُعُ يَعُودُ ذُلًّا ، وَالشَّجَاعَةُ تَعُودُ تَهَوُّرًا .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
شذرة:
قال حنبلي في المعنى:
ما أمرّ منع البصر عن تلمّح الخبر من دلائل العبر! وما أشد عذاب الحصر على أرباب التفسّح والتلمح ! هذا مما لا يجد كربه إلا أرباب الوجد عند الفقد.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-17, 06:21 PM
فائدة:
قيل لعتّاب بن الحصين: في أي عدة تحب أن تلقى عدوك فيها، رمح، أو سيف، أو قوس وسهام ؟
قال: في أجل متأخر.
قال حنبلي له اطلاع: هذا من أحسن العدد المختارة.
(كتاب الفنون)
عَمَّا يَعْتَرِي الْمُتَصَوِّفَة ُ عِنْدَ سَمَاعِ الْوَعْظِ وَالْغِنَاءِ هَلْ هُوَ مَمْدُوحٌ أَوْ مَذْمُومٌ؟
قال ابن مفلح: قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
لَا يَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهَا مُجِيبٌ حَتَّى يُبَيِّنَ تَحْقِيقَ السُّؤَالِ ، فَإِنَّ الصَّعْقَ دَخِيلٌ عَلَى الْقَلْبِ وَغَمًّا لَا عَزْمًا غَيْرُ مُكْتَسَبٍ وَلَا مُجْتَلَبٍ ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حُكْمِ الشَّرْعِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ وَلَا إبَاحَةٍ.
وَأَمَّا الَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْ سُؤَالِكِ أَنْ نَقُولَ : هَذَا التَّصَدِّي لِلسَّمَاعِ الْمُزْعِجِ لِلْقُلُوبِ الْمُهَيِّجِ لَلطِّبَاعِ الْمُوجِبِ لِلصَّعْقِ جَائِزٌ أَوْ مَحْظُورٌ ؟ وَهُوَ كَسُؤَالِ السَّائِلِ عَنْ الْعَطْسَةِ هَلْ هِيَ مُبَاحَةٌ أَوْ مَحْظُورَةٌ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَا يُجَابُ عَنْهَا جُمْلَةً وَلَا جَوَابًا مُطْلَقًا ، بَلْ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ:
إنْ عَلِمَ هَذَا الْمُصْغِي إلَى إنْشَادِ الْأَشْعَارِ أَنَّهُ يَزُولُ عَقْلُهُ وَيَعْزُبُ رَأْيُهُ بِحَيْثُ لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ مِنْ إفْسَادٍ أَوْ جِنَايَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَمَّدَ ذَلِكَ وَهُوَ كَالْمُتَعَمِّد ِ لِشُرْبِ النَّبِيذِ الَّذِي يُزِيلَ عَقْلَهُ.
وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ فَإِنَّهُ تَارَةً يُصْعَقُ وَتَارَةً لَا ، فَهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُكْرَهُ ، وَيَتَوَجَّهُ كَرَاهَتُهُ، بِخِلَافِ النَّوْمِ فَإِنَّهُ وَإِنْ غَطَّى عَلَى الْعَقْلِ فَإِنَّهُ لَا يُوَرِّثُ اضْطِرَابًا تَفْسُدُ بِهِ الْأَمْوَالُ ، بَلْ يُغَطَّى عَقْلُ النَّائِمِ ثُمَّ يَحْصُلُ مَعَهُ الرَّاحَةُ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
في الحديث المسند:
آفة الحديث الكذب. وآفة العلم النسيان. وآفة الحلم السفه. وآفة العبادة الفترة. وآفة الشجاعة البغي. وآفة السماحة المن. وآفة الجمال الخيلاء. وآفة الحسب الفخر. وآفة الطرف الصلف. وآفة الجود السرف. وآفة الدين الهوى.
(كتاب الفنون)
في إنكار ما يُعمل في المساجد والمقابر:
قال ابن مفلح: قال ابن عقيل فِي الْفُنُونِ:
أَنَا أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جُمُوعِ أَهْلِ وَقْتِنَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ لَيَالِي يُسَمُّونَهَا إحْيَاءً ، لَعَمْرِي إنَّمَا لِإِحْيَاءِ أَهْوَائِهِمْ وَإِيقَاظِ شَهَوَاتِهِمْ جُمُوعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، مَخَارِجُ الْأَمْوَالِ فِيهَا أَفْسَدُ الْمَقَاصِدِ ، وَهُوَ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ وَمَا فِي خِلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اللِّعْبِ وَالْكَذِبِ وَالْغَفْلَةِ ، مَا كَانَ أَحْوَجَ الْجَوَامِعِ أَنْ تَكُونَ مُظْلِمَةً مِنْ سَرْجِهِمْ مُنَزَّهَةً عَنْ مَعَاصِيهِمْ وَفِسْقِهِمْ ، مُرْدَانٌ وَنِسْوَةٌ وَفِسْقُ.
الرَّجُلِ عِنْدِي مَنْ وَزَنَ فِي نَفْسِهِ ثَمَنَ الشَّمْعَةِ فَأَخْرَجَ بِهَا دُهْنًا وَحَطَبًا إلَى بُيُوتِ الْفُقَرَاءِ وَوَقَفَ فِي زَاوِيَةِ بَيْتِهِ بَعْدَ إرْضَاءِ عَائِلَتِهِ بِالْحُقُوقِ فَكُتِبَ فِي الْمُتَهَجِّدِي نَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِحُزْنٍ ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَكَّرَ إلَى مَعَاشِهِ لَا إلَى الْمَقَابِرِ. فَتَرْكُ الْمَقَابِرِ فِي ذَلِكَ عِبَادَةٌ.
يَا هَذَا اُنْظُرْ إلَى خُرُوجِكَ إلَى الْمَقَابِرِ كَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وَصَفْتُ لَهُ قَالَ : "تُذَكِّركُمْ الْآخِرَةَ " مَا أَشْغَلَكَ بِتَلَمُّحِ الْوُجُوهِ النَّاضِرَةِ فِي تِلْكَ الْجُمُوعِ لِزَرْعِ اللَّذَّةِ فِي قَلْبِكَ ، وَالشَّهْوَةِ فِي نَفْسِكَ عَنْ مُطَالَعَةِ الْعِظَامِ النَّاخِرَةِ ، تَسْتَدْعِي بِهَا ذِكْرَ الْآخِرَةِ ؟ كَلًّا مَا خَرَجْت إلَّا مُتَنَزِّهًا ، وَلَا عُدْت إلَّا مُتَأَثِّمًا ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَكَ بَيْنَ الْقُبُورِ وَالْبَسَاتِينِ مَعَ الْفَرْحَةِ ، إلَّا أَقَلُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْمَعَاصِي بَيْنَ الْجُدْرَانِ ، فَأمَّا أَنْ تَجْعَلَ الْمَقَابِرَ وَالْمَشَاهِدَ عِلَّةً فِي الِاشْتِهَارِ فَلا. فَعَلَى مَنْ فَطِنَ لِقَوْلِهِ فِي رَجَبٍ وَأَمْثَالِهِ: { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }.
عَزَّ عَلَيَّ بِقَوْمٍ فَاتَتْهُمْ أَيَّامُ الْمَوَاسِمِ الَّتِي يَحْظَى فِيهَا قَوْمٌ بِأَنْوَاعِ الْأَرْبَاحِ ، وَلَيْتَهُمْ خَرَجُوا مِنْهَا بِالْبَطَالَةِ رَأْسًا بِرَأْسٍ، مَا قَنَعُوا حَتَّى جَعَلُوهَا مِنْ السَّنَةِ إلَى السَّنَةِ خَلْسًا لِاسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ، وَاسْتِسْلَامِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَحْظُورَا تِ، مَا بَالُ الْوُجُوهِ الْمَصُونَةِ فِي جُمَادَى هُتِكَتْ فِي رَجَبٍ بِحُجَّةِ الزِّيَارَاتِ ؟ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} ؟ { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}.
تُرَى بِمَاذَا تُحَدِّثُ عَنْك سَوَارِي الْمَسْجِدِ فِي الظُّلَمِ وَأَفْنِيَةُ الْقُبُورِ وَالْقِبَابِ، بِالْبُكَاءِ مِنْ خَوْفِ الْوَعِيدِ، وَالتَّذَكُّرِ لِلْآخِرَةِ؟ بِنَظَر الْعِبْرَةَ، إذَا تَحَدَّثَتْ عَنْ أَقْوَامٍ خَتَمُوا فِي بُيُوتِهِمْ الْخَتَمَاتِ وَصَانُوا الْأَهْلَ ، اتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ انْسَلَّ مِنْ فِرَاشِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إلَى الْمَسْجِدِ لَا شُمُوعَ وَلَا جُمُوعَ.
طُوبَى لِمَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ فَانْزَوَى إلَى زَاوِيَةِ بَيْتِهِ ، وَانْتَصَبَ لِقِرَاءَةِ جُزْءٍ فِي رَكْعَتَيْنِ بِتَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ ، فَيَالَهَا مِنْ لَحْظَةٍ مَا أَصْفَاهَا مِنْ أَكْدَارِ الْمُخَالَطَاتِ ، وَأَقْذَارِ الرِّيَاءِ. غَدًا يَرَى أَهْلُ الْجُمُوعِ أَنَّ الْمَسَاجِدَ تَلْعَنُهُمْ وَالْمَقَابِرَ تَسْتَغِيثُ مِنْهُمْ.
يُبَكِّرُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ أَنَا صَائِمٌ ، متى أَفْلَحَ عُرْسُكَ حَتَّى يَكُونَ لَه صِحّة؟ قُلْ لِي ~يَا مَنْ أَحْيَا فِي الْجَامِعِ~ بِأَيِّ قَلْبٍ رُحْتَ ؟
مَاتَ وَاَللَّهِ قَلْبُكَ ، وَعَابتْ نَفْسُكَ، مَا أَخْوَفَنِي عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي أَنْ يَخَافَ فِي مَوْطِنِ الْأَمْنِ وَيَظْمَأَ فِي مَقَامَاتِ الرَّيِّ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
تجيء الطاعات معاصي :
قال بعض أهل العلم: تجيء الطاعات معاصي.
يعني: الرياء فيها حين العمل والإعجاب بعد عملها.
(كتاب الفنون)
تشابه في سبعة علماء!
قال ابن مفلح: فِي فُنُونِ ابْنِ عَقِيلٍ:
وَجَدْت فِي تَعَالِيقِ مُحَقِّقٍ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ مَاتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَهُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، فَعَجِبْت مِنْ قُصُورِ أَعْمَارِهِمْ مَعَ بُلُوغِهِمْ الْغَايَةَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ.
فَمِنْهُمْ الْإِسْكَنْدَرُ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَقَدْ مَلَكَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيّ ُ صَاحِبُ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّة ِ ، وَابْنُ الْمُقَفَّعِ صَاحِبُ الْخَطَابَةِ وَالْفَصَاحَةِ ، وَسِيبَوَيْهِ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَأَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ فِي عِلْمِ الشِّعْرِ ، وَإِبْرَاهِيمُ النّظامُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ ، وَابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ فِي الْمَخَازِي ، وَلَهُ كِتَابُ الدَّامِغِ مِمَّا غُرَّ بِهِ أَهْلُ الْخَلَاعَةِ ، وَلَهُ الْجَدَلُ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
بشر الحافي:
قيل لبشر الحافي: لم لا تلبس النعل ؟
قال: أستحيي أن أمشي على بساطه بالنعل .
أخذه من قوله : (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً ) .
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:12 PM
في الرَدّ عَلَى ما يفعلُهُ بَعْض الْمُتَصَوِّفَة مِنَ الْوَجْدِ وَتَخْرِيقِ الثِّيَابِ وَالصَّعْقِ عندَ سَمَاعِ الوَعْظ:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:
هَذِهِ فِتَنٌ وَمِحَنٌ دَخَلَتْ عَلَى الْعُقُولِ مِنْ غَلَبَةِ الطِّبَاعِ وَالْأَهْوَاءِ، وَهَلْ يَحْكُم عَلَى الْعُقُولِ حَقٌّ قَطُّ؟ وَهَلْ رَأَيْتُمْ فِي السَّلَفِ أَوْ سَمِعْتُمْ رَجُلًا زَعَقَ أَوْ خَرَقَ؟ بَلْ سَمَاعُ صَوْتٍ وَفَهْمٌ وَاسْتِجَابَةٌ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّخَبُّطَ لَيْسَ مِنْ قَانُونِ الشَّرْعِ، لَكِنْ أَمْرٌ بِخَفْضِ الصَّوْتِ وَغَضِّهِ، وَأَمَّا التَّوَاجُدُ وَالْحَرَكَةُ وَالتَّخْرِيقُ فَالْأَشْبَهُ بِدَاعِيَةِ الْحَقِّ الْخَمُودِ.
ثَكِلْتُ نَفْسِي حِينَ أَسْمَعُ الْقُرْآنَ وَلَا أَخْشَعُ، وَأَسْمَعُ كَلَامَ الطُّرُقِيِّينَ فَيَظْهَرُ مِنِّي الِانْزِعَاجُ، هَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الطِّبَاعَ تُوَرِّثُ مَا تُورَثُ مِنْ التَّغْيِيرَاتِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ صَدَرَ عَنْ طَبْعٍ فَأَهَاجَ طَبْعًا. وَلِلْحَقِّ ثِقَلٌ، فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ تَحَرُّكُ الطِّبَاعِ بِالْأَسْجَاعِ وَالْأَلْحَانِ فَإِنَّمَا هُوَ كَعَمَلِ الْأَوْتَارِ وَالْأَصْوَاتِ، وَهَلْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْ سُكْرِ الْعَقَارِ إلَّا لِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
(كفى بالمرء فتنة أن يُشار اليه بالأصابع):
قال النبي (صلى الله عليه وسلم): ( كفى بالمرء فتنة أن يُشار اليه بالأصابع ).
قيل: ما الفتنة في ذلك ؟
قلتُ - وبالله التوفيق - إشارة الى المثال:
الإشارة الى الإنسان بالزهادة تفتنه بالرغبة في الاسم، وتخرجه عن قانون الزهد، وتسلخه عن حقيقته. فإنه يزهو بذلك زهو المتوجِّد. وذلك قاتل للإنسان من طريق الأنفة من الخلق ورؤية النفس، ذلك سبب لكل بلاء، وطريق الى كل محنة، متى تخربق الانسان به قلّ أن يخرج من رأسه.
ترى الواحد من المشار إليهم إذا قيل له: ( هذا فلان مريض نعوده ) أو (مات، نصلي على جنازته ) -وقد جاء في العيادة من السنن ما قد جاء، وفي صلاة الجنازة قيراط من الأجر - استراح في التقاعد عن أسباب الثواب بقوله: (عادتي )، وبقول أتباعه ( عادة الشيخ ذاك).
يا سبحان الله ! ما أقبح عادة خرجت بصاحبها عن سمت السُّنّة ! وهل جاءت الشريعة إلا بدحض العوائد لتحصل الفوائد ؟
وإن عرضت مشكلة من الحوادث الفقهية فسُئل عنها، أنف أن يقول (لا أعلم)، بل قال: ( يقع لي كذا و كذا). وهل الشريعة بالواقع؟
هيهات، ما كان أحوج هذا المسكين الى نفس طائعة خاضعة منقادة لطاعة الله كيف جاءت، وسائلة عن أحكام الله عند من كانت، حتى يعلم أنّ بالعزلة والانقطاع قد تقع. فأما إذا كان ذلك يورث كبراً وأنفة من فوائد الشرع ومقامات الطلب لها، فما أخبث هذه من طريقة ! إنما الطريقة للرجال هي رياضة النفوس ودعكها للاستجابة لأوامر الله، والصبر على عباد الله، وإعطاء الحق من النفس لكل واحد من هؤلاء المساكين ...
فأين من يرث النبوة بالحمل لأعباء الأمّة وأثقال الخلق وينهض بحقوق الحق ؟
أين من يدعو إلى الله ولا يدعو الى نفسه قاطعاً للخلق عن الله ؟
أين من لم يمنعه إكرام الخلق له ورؤيتهم إياه بعين الكمال رأي النقص في نفسه أن يتعلم ممن هو منه أعلم، ويتبع من هو بقانون الأدب أقوم .. وإن انحط في عيون المتعصبين طلباً للكمال بحقائق العلم، وإن نقص في عيون الخلق الظانّين فيه التمام ؟
أين من خاف النقص في الفضل حسبما يخاف غيره النقص في الفرض ؟
نعوذ بالله من شخص يقنع بسوق الوقت، وما يصلح لأهل زمانه، دون ما يتهيأ له من الفضل!
(كتاب الفنون)
عن الشعبي:
عن الشعبي في قوله تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) قال: بيان من العمى، وهدى من الضلالة، وموعظة من الجهل.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:15 PM
لَا يَنْبَغِي الْخُرُوجُ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ إلَّا فِي الْحَرَامِ:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
لَا يَنْبَغِي الْخُرُوجُ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ إلَّا فِي الْحَرَامِ; فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْكَعْبَةَ، وَقَالَ: { لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ الْجَاهِلِيَّةَ }.
وَقَالَ عُمَرُ لَوْلَا أَنْ يُقَالَ عُمَرُ زَادَ فِي الْقُرْآنِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ.
وَتَرَكَ أَحْمَدُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ لِإِنْكَارِ النَّاسِ لَهَا.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
من بركات مجاهدة النفس:
لو لم يكن من بركات مجاهدة النفس في حقوق الله، والإنتهاء عن محارم الله، إلا أنه يعطف عليك فيسخّرها لك و يطوّعها لأمرك حتى تنقاد لك، و يُسقط عنك مؤونة النزاع لها والمجاهدة حتى تصير طوع يدك و أمرك، تَعاف المستطاب إذا كان عند الله خبيثا، وتؤثر العمل لله وإن كان عندها بالأمس كريهاً، وتستخفّه وإن كان عليها ثقيلاً، حتى تصير رقّاً بعد أن كانت تسترقّك. وكذا كل من حقق العبودية لسيّده استعبد له من كان يملكه، وألان له ما كان يعجزه. قال سبحانه : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، بعد إخباره (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ). فقد أبان عن أن له أقواما يوفيهم و يقيهم ما أحضرته النفوس. وقال: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ). وهو الذي قال: ( إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ).
ما أبرك طاعة الله على المطيع ! قوم سخّر لهم الرياح و المياه والحيوانات ، وقوم أعاق عليهم الحوائج، وكسرها في صدورهم، وجعل كرامتهم مسامحة النفس بما أعاق. ورُبّما علت طبقة أقوام، فتلذّذوا بالقضايا والأحكام.
(كتاب الفنون)
كشف شبهة في العقيدة:
قال بعض الخلَعاء يوماً معترِضاً بحضرة قوم خلعاء:
قادر على نفعي، لِمَ يؤخره ولا يضره أن ينفعني ؟
قلتُ - وبالله التوفيق -:
إن كانت قدرته سبحانه متأتّية فحكمته مطلقة. فلمَ تعترض عليه وأنت مقيّد بالجهل بمصالحك ؟ ثم إن كانت المنافع لا تضرّه، فقد كانت مضرّة بك إذا عُجِّلت، ومصلحتك حالُك التي أنتَ عليها.
وقد رأيت أحوال أقوام عُجّلت لهم منافعهم كيف تسلّطوا و انبسطوا.
(كتاب الفنون)
شذرة:
أحسن الوجوه ما تأخذه النفس، ويقبله القلب، وترتاح له الروح.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:17 PM
في ذم من خرج عن الشريعة من أهل الكلام والتصوف:
قال الشيخ ابن تيمية:
لابن عقيل من الكلام في ذم من خرج عن الشريعة من أهل الكلام والتصوف ما هو معروف، كما قال في الفنون، ومن خطه نقلت، قال:
فصل:
المتكلمون وقفوا النظر في الشرع بأدلة العقول فتفلسفوا، واعتمد الصوفية المتوهمة على واقعهم فتكهنوا. لأن الفلاسفة اعتمدوا على كشف حقائق الأشياء بزعمهم، والكهان اعتمدوا على ما يقلى إليهم من الاطلاع. وجميعاً خوارج على الشرائع.
هذا يتجاسر أن يتكلم في المسائل التي فيها صريح نقل بما يخالف ذلك المنقول، بمقتضى ما يزعم أنه يجب في العقل. وهذا يقول: (قال لي قلبي عن ربي). فلا على هؤلاء أصبحت، ولا على هؤلاء أمسيت. لا كان مذهب جاء على طريق السفراء والرسل ..
هل لعلم الصوفية عمل في إباحة دم أو فرجً، أوتحريم معاملة، أو فتوى معمول بها في عبادة أو معاقدة؟ أو للمتكلمين بحكم الكلام حاكم ينفذ حكمه في بلد أو رستاق؟ أو تُصيب للمتوهمة فتاوي وأحكام؟ إنما أهل الدولة الإسلامية والشريعة المحمدية المحدثون والفقهاء; هؤلاء يروون أحاديث الشرع، وينفون الكذب عن النقل، ويحمون النقل عن الاختلاف.
وهؤلاء المُفتون ينفون عن الأخبار تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، هم الذي سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: الحملة العدول، فقال: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين.
فالخارج ~وإن خفقت بنوده، وكثرت جموعه، وسمي بالملك~ يبعد أن يضرب له دينار أو درهم، أو يخطب له على منبر، أو تكون أموره إلا على المغالطة والمخالسة، بينا هو على حاله يتضعضع لكتاب الملك، ويخشى من أن يقابله بقتال، أو يصافه بحرب، لأن في نفس الخارجي بقية من انخساس الباطل، وللملك ~وإن قل جمعه~ صولة الحق، وكذلك البرخشتي مع الطبيب المقيم; هذا مختار يطلب من الأدوية ما يسكن الألم في الحال، ويضع على الأمراض الأدوية الجواد العاملة بسرعة، فيأخذ العطية والخلعة لسكون الألم وإزاله المرض، ويصبح على أرض أخرى، ومنزل بعيد، وطبه مجازفة، لأنه يأمن الموافقة والمعاينة.
والأطباء المقيمون يلامون على تطويل العلاج، وإنما سلكوا الملاطفة بالأدوية المتركبة دون الحادة من الأدوية، وإن عجلت سكون الألم، فإنها غير مأمونة الغوائل، ولا سليمة العواقب، لأن ما تعطى الأدوية الحادة من السكون إنما هو لغلبة المرض، وحيثما غلبت الأمراض أوهت قوى المحل الذي حلته الأمراض، فهو كما قيل: الدواء للبدن كالصابون للثوب ينقيه ويبليه، كذلك كلما احتد الصابون وجاد أخلق الثوب، فكذلك الفقهاء والمحدثون يقصرون عن إزالة الشبه.
لأنهم عن نقل يتكلمون، وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويقللون، فهم حال الأجوبة ينظرون في العاقبة، والمبتدعة والمتوهمة يتهجمون، كتهجم البرخشتي، فعلومهم فرح ساعة، ليس لعلومهم ثبات، فإن اشتبه على قوم ما دلسه الصوفيه عليهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن في أمتي محدثين ومكلمين، وهو ما يلقي من الفراسات والدرايات، كما نطق به عمر.
قيل لهم: لو نطق عمر برأيه ولم يصدقه الوحي على لسان السفير، لما التفت إلى واقعته، ولا يبتنى الشرع على فراسته.
ألاتراه لما مات السفير قال من هو أعلى طبقة منه: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي؟ وقال في الكلالة ما قال.
يقول الصديق هذا وأسلم اليوم لشيخ رباط يخلو بأمرد في سمعه، ويسمع الغناء من أمرد وحرة، ويأكل من الحرام شبعة، ويرقص كما تشمس الخيل، لا يسأل الفقهاء، ولا يبنى أمره على النقل، يقول بواقعة، ويقول أتباعه: الشيخ يسلم إليه طريقته، وأي طريقة مع الشرع؟ وهل أبقت الشريعة لقائل قولاً؟ وهل جاءت إلا بهدم العوايد ونقض الطرايق؟
ما على الشريعة أضر من المتكلمين والمتصوفين; هؤلاء يفسدون العقول بتوهمات شبهات العقول، وهؤلاء يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان، يحبون البطالات، والاجتماع على اللذات، وسماع الأصوات المشوشات للمعايش والطاعات، وأولئك يُجرِّئون الشباب والأحداث على البحث وكثرة السؤال والاعتراضات، وتتبع الشرع بالمناقضات.
وما عرفنا للسلف الصالح أعمال هؤلاء الصوفية، بل كانت أحوالهم الجد لا الهزل، ولا أحوال المتكلمين: لا التكشف ولا البحث، بل كانوا عبيد تسليم وتحكيم في المعتقدات، وجد وتشهير في الأعمال والطاعات.
فنصيحتي لإخواني من المؤمنين الموحدين أن لا يقرع أبكار قلوبهم كلام المتكلمين، ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين، بل الشغل بالمعايش أولى من بطالة المتصوفة، والوقوف مع الظواهر أولى من توغل المنتحلة للكلام.
وقد خبرت طريقة الفريقين: غاية هؤلاء الشك، وغاية هؤلاء الشطح.
..
أنا أنصح بحكم العلم والتجارب: إياك أن تتبع شيخاً يقتدي بنفسه، ولا يكون له إمام يعزى إليه ما يدعوك إليه، ويتصل ذلك بشيخ إلى شيخ إلى السفير صلى الله عليه وسلم، الله الله، الثقة بالأشخاص ضلال، والركون إلى الآراء ابتداع، اللين والانطباع في الطريقة مع السنة، أحب إلي من الخشونة والانقباض مع البدعة، الله لا يتقرب إليه بالامتناع مما لم يمنع منه، كما لا يتقرب إليه بأعمال لم يأمر بها.
اصحاب الحديث رسل السفير: الفقهاء المترجمون لِما أراد السفير من معاني كتابه، ولا يتم اتباع إلا بمنقول، ولا يتم فهم المنقول إلا بترجمان، وما عداهما تكلف لا يفيد.
وإلى هذين القسمين انقسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقلةً وفقهاء، ولا نعرف فيهم ثالثاً.
.. يا أصحاب المخالطات والمعاملات، عليكم بالورع، يا أصحاب الزوايا والانقطاعات عليكم بحسم مواد الطمع، يا طراق المبتدئين إياكم واستحسان طرائق أهل التوهم والخدع. ليس السني عندي المحب لمعاوية ويزيد، ولا لأبي بكر وعمر، ولا الشيعة عندي من زار المشاهد، وأنشد المراثي والقصايد.
السني عندي من تتبع آثار الرسول فعمل بها بحسب ما يفتيه الفقهاء، واحتذى الرسم، واتبع الأمر، وكف عن النهي وتنزه عن الشبه، ووقف عند الشك، وتفرغ من كل علم خالف النقل، وإن كانت له طلاوة في السمع، وقبول في القلب، ليس قلبك معياراً على الشرع.
مالله طائفة أجل من قوم حدثوا عنه، وما أحدثوا وعولوا على ما رووا، ولا على ما رأوا، الصبر على الرواية مقام الصديقين.
..
(درء التعارض لابن تيمية).
عن قصة شعيب ولوط عليهما السلام :
سأل سائل عن قصة شعيب ولوط كيف اقتصروا على الإنذار على فرعين وهما النهي عن الزنا واللواط، وترَكَا ذكر الكفر. وجعل الله الوعيد والتقبيح لهذين الفعلين، وأمسك ~أو يقول~ سكت عن ذكر الشرك. وهذا إن لم يدل على أن هاتين المعصيتين أكبر، فلا أقل من أن يكونا سواء. حيث أكبرَ أمْرَهما وقابلهما بالإستئصال والنكاية في الدنيا. وهذا يعطي مساومتهما والكفر في إيجاب الوعيد.
فقال حنبلي: إن الأمر فيما يتعلق بالوعيد وإيقاع الإستئصال لا إلى نفس ارتكاب المعصيتين، لكن إلى الكفر. لأنهم كذّبوا بتحريم ذلك، وكذّبوا رسولهما فيما أخبرا به عن الله. ولو صدّقا الرسولين وارتكبا النهييْن لإفراط شهوة وغلبة طبع في محبة الزنا واللواط، ما عرفنا كيف يكون الحال. فقد بان بهذا أنّ الإستئصال كان بتكذيب الرسوليْن. وقد صرّح القرآن بذلك حيث قالوا: (أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)، (أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ). فأكبروا نهيه عن اتباع آبائهم في الشرك، ويكفي ذلك. ثم قالوا: (أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) من زيادة نعطيها لمن اقترضنا منه، أو نقصان نرضي به من أقرضناه. وهذان يدلان على استباحة ذلك واستحسانه، وتكذيب من جاء بتحريمه. وهذا ايضاح وإفصاح بما يوجب الكفر.
(كتاب الفنون)
قيل لصاحب معاوية: كيف حالك؟
قال: كيف حال مَن صلاحه مِن فساد أمور الناس؟
(كتاب الفنون)
في العزبة:
كرّه العلماء ترك النكاح في حق الصلحاء، خوفاً عليهم من الرهبانية المبتدعة. وكرّهوه في حق المتحرّمين المتبذّلين، خوفا عليهم من مواقعة الزنى، و طلباً لتحصينهم عنه. فلا خير في العزبة إذاً إلا لرجل لا شهوة له، يتخفّف بالعزبة كيلا يتموّن بحقوق لا قدرة له على الوفاء بها.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:19 PM
جَوَازِ الِاسْتِرَاحَةِ إلَى نَوْعٍ مِنْ الشَّكْوَى:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا }; يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِرَاحَةِ إلَى نَوْعٍ مِنْ الشَّكْوَى عِنْدَ إمْسَاس الْبَلْوَى. وَنَظِيرُهُ { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}، {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}، {مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي}.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
ابن آدم والشيطان:
قال قائل:
مسكين ابن آدم ! الشيطان يأتيه بالإغواء من أربع جهاته، ومعه قرين من الجن لا يفارقه، وملكان عن يمينه و شماله يحفظان عليه أعماله، ومن داخلٍ الطبعُ والهوى ودواعيهما، وفي المخالطات مداراة هذا العالم في المعاملات مغابنة ومخاطرة، ومعاناة العيال في البيوت. فأي صُبابة تبقى له مع هذه المحن ؟
أجابه حنبلي يدقّق في المعاني، فقال:
إنّ من ترك لك جهتين; جهة فوقٍ للتلاجي; فإذا مسّتكَ هذه القوارص، وأحاطت بك هذه الدواهي، تلاجَيْت، وجهة الأرض التي إذا سجدتَ عليها ناجَيْت، لقد وسّع لك ما ضاق، ودفع عنك ثقل الإرهاق. لاسيما وقد منحك النور، الذي به يضيء لك طريق الهداية، ويعرّفك مِن جلال الله ما يُمِدّك به من العواصم، المانعة لك من أعدائك، ويعيذك من القواصم. وكفى بالله مانعاً وإنْ كثرَ الطالبون لك، وقامعاً لمكائد الأعداء وإن تظافروا عليك. وأما الحفظة عليك أعمالك، فإنك إذا راعيتَ نظر الحق و شهوده إياك بقوله: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) سقطَا من عينيك، وتحققَ لك العمل لمن شهِدَك، دون من يشهد عليك، فصفت الأعمال عن أن تتدنّس بما يسوءك تسطيره عنك وعليك، وصارت الشهادة لا لك ولا عليك.
(كتاب الفنون)
العبودية:
سُئل أبو العباس بن عطاء: ما العبودية؟
فقال: ترك الاختيار وملازمة الافتقار.
قال حنبلي:
نجز كلامهم. أراد : ترك الاختيار مع الله، أو على الله، فإنه الوبال. لأن مثار هذه الرذيلة رؤية النفس والجهل بحكمة الحكيم. وملازمة الافتقار معناه أن لا يفقد من ناب الطلب رغبة ورهبة. و متى لم يكن كذا، سُلبت مواد الخير.
(كتاب الفنون)
صفة دار حسنة:
وطن تبيت المكارم فيه بين ماء جارٍ وعود وريق.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:22 PM
شذرة:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
النَّعَمُ أَضْيَافٌ وَقِرَاهَا الشُّكْرُ، وَالْبَلَايَا أَضْيَافٌ وَقِرَاهَا الصَّبْرُ. فَاجْتَهِدْ أَنْ تَرْحَلَ الْأَضْيَافُ شَاكِرَةً حُسْنَ الْقِرَى، شَاهِدَةً بِمَا تَسْمَعُ وَتَرَى.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
في الرضا بقدر الله عزّ وجلّ:
(قال قائل):
العذر لا يقوم إلا لقصور في المعتذر، بأن يقول إن جنى: (ما علمت ) أو تقاعد عن حق: (لم أعلم بتوجهه عليّ)، أو (علمت لكن ما استطعت).
قال هذا القائل: (وأرى الرزق عني كالمتقاعس، والحظ في حقي وسنان أو ناعس، والدنيا والآخرة نُعْماً ، وأنا وأمثالي نتدبّق قوماً، والمالك يقول: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}، و يقول: {وله كل شيءُ}. فإذا سدّ باب العذر ببيان قدرته وغنائه وسلطانه، لم يبق عندي إلا السخط يمنعني. فكيف أداوي هذا الداء العضال في إزالة السخط عن مانعي مع الغناء والكمال ؟
قال حنبلي : قد دخل عليك السهو عن قسم هو الدواء لمثل هذا الداء، فظننتَ أنه لا يقوم العذر إلا بالعجز من جهة المانع، ونسيتَ أنّ أجدّ ما يقوم به العذر الحكمةُ البالغة التي هي عائدة بالمنع لمكان إصلاح الممنوع . ألا تراه لو أفصح بالقول بذلك فقال: (ما منعتُك عن إعواز منّي، لكن لمصلحة لك ). فإن فات القصور في المانع لم يفت القصور في الممنوع. كالأب الغني يمنع ولده الحلوى والزهومات تطبُّباً فلا يلام. والأب الفقير يمنع فلا يلام، فيجتمعان في عدم اللوم، ويختلفان في العلة التي لأجلها قام العذر. فمن هذه الغلطات يُدهى الناس.
والخليع العامّي لسرعة جرأته على الله وقلة مبالاته، يتسخّط لمكان أنه لم يلحظ إلا الغناء والمنع، والقدرة والمنع. فَجَعل أوصاف الله سبحانه عللاً لتسخُّطه، ولم يتعرض للوصف الأعظم، وهو الحكمة، ليداوي سخطه أو يعدمه.
وصفة المداواة أنه إذا سولت له النفس أنه ممنوع من الغناء فما العذر; قال لها: (هو حكيم في منعه لي فمن أين يجيء الإعتراض مني واللوم ؟)
هذا هو قانون العقلاء المتمسّكين بالأديان ، إذا صحّ منهم العرفان. فهو بوصف الغناء أهل لئن يُطلبَ منه كل شيء، وهو بوصف الحكمة أهل أن يُسلَّم له كل شيء.
(كتاب الفنون)
بين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد:
قال حنبلي: الحمد لله الذي حفظني بعواصم نعمه عن قواصم نقمه.
قال: ونقلتُ من أخبار عمرو بن سعيد الأشدق عن المدائني قال:
كتب عبد الملك بن مروان إلى عمرو بن سعيد الآشدق حين خالفه:
رحمتي لك تصرفني عن الغضب عليك لتمكن الخدع منك، وخذلان التوفيق إياك، وبإساءة همّتك نهضت أطماعك ان تستفيد بها عزا، كنت جديرا لو اعتدلت ان لا تدفع بها ذلا. ومن رحل عنه حسن النظر واستوطنته الاماني، ملك الجبن تصرفه، واستترت عنه عواقب أمره. وعن قليل يتبين من سلك بمثل سبيلك أنه أسير طمع وصريع خُدَع، ومغيض ندم. والرُّحم تحمل على الصفح عنك مالم تحلل عليك عواقب جهلك، وتزجر عن الإبقاء عليك، إذ كان الرأي ذلك.
فأجابه عمرو عن ذلك فقال:
استدراج النعم أفادك البغي، ورائحة القدرة أورثتك الغفلة، وزجرت عما واقعت مثله، وندبت إلى ما تركت سبيله. لو كان ضعف الاسباب يؤيس الطلاب، ما انتقل سلطان إلا ذل. وعن قليل يتبين من صريع بغي، وأسير غفلة. والرحم تعطف على الإبقاء عليك مع دفعك عما غيرك أولى به منك. والسلام.
(كتاب الفنون)
فصل في قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ):
دلت هذه الآية على أن خلقه لو وقع من غير رجعة لكان عبثا. ولام (لكي) دلّت، فقال في أصل الخلق : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)، وقال في البعث : (إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا)، ثم أبان عن علّة الرجعة فقال: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)، وقال في بيان المجازاة: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى). فلا سلوة عن الموت إلا إثبات البعث.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:24 PM
شذرة:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:
مِنْ أَحْسَنِ ظَنِّي بِهِ أَنَّهُ بَلَغَ مِنْ لُطْفِهِ أَنْ وَصَّى وَلَدِي إذَا كَبِرْت; فَقَالَ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}.
فَأَرْجُو إذَا صِرْتُ عِنْدَهُ رَمِيمًا أَنْ لَا يَعْسِفَ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ، تُشَاكِلُ أَقْوَالَهُ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
فصل تذكير:
قال حنبلي:
يعزّ عليّ ~والله~ بأقوام التزموا لله سبحانه ما أسقطه عنهم، وفتحوا على نفوسهم طرقاً سدّها عنهم، وأبوابا أغلقها دونهم. والشريعة من ذلك مملوءة، وهم عنها غفّل.
الرجل يقول: (زنيتُ) وصاحب الشرع يلتفت عنه، ولمّا كلّمه عرض له بالرجوع عن التصميم: (لعلك نظرتَ، وقد سمعتني أقول ، العينان تزنيان ، إنك خبل، استنكهوه). كل ذلك دفع عن تحقيق الإقرار، وهرب من وقع الأحجا، والحق لله قد ثبت، قال: (هلا تركوه؟). فما زال يدفع الإقرار بجهده، وهو المستناب لله في استيفاء حقه. (رميت الراعي بعظم الجمل بعد الهرب) والراعي ظنَّ أنه مستوف لله حقه.
والقوم يسألون الراعي عن ورود النجاسات عليه والنبي (صلى الله عليه وسلم ) يقول: لا تعلمهم. ويقول للمقِرّ: ( ما أخالك سرقت؟ ) . مع كون السرقة تتضمن حقيْن : حق الله، وحق الآدمي. أسرقتَ؟ قلْ: ( لا تعافوا الحدود فيما بينكم). هلا سترته بثوبك.
عمر بن الخطاب يقول في ماء الميزاب، حيث سأل عنه الأصحاب: يا صاحب الميزاب لا تعلمهم.
الأصحاب يقولون لمن ارتقى للآذان فقال (أرى حاجب الشمس)، فيقال له: بغيناك داعياً لا راعياً.
النبي (صلى الله عليه وسلم ) يأمر المستنجئ بكف من الماء على المئزر بعد الاستنجاء ليدفع بلل الماء المحسوس، توهّم قطر البول المجوّز، بل المعهود.
فالشرع يتغاضى عن حقوقه، وأنتم تتبعون الناس تتبع أصحاب الأخبار. قد كفى المكلّفَ ما وكّل به من الرقيب و العتيد. ما قنعتم أنتم بما وضع، وقد رأيتم تغاضيه عن حقوقه، حتى جعلتم نفوسكم حفظة له.
تُراكم لا تخافون أن يفضحكم في قعر بيوتكم على أقبح ذنوبكم؟
صاحب الحق يعفو، وأنت بسوء طبعك تكشف و تجفو. وصاحب الشرع يقول على علم منه ببواطن الأحوال: من أتى من هذه القاذورات شيئا، فليستتر بستر الله. تُراه يريد فليستتر عن الله بستره، أو عنكم؟
..
(كتاب الفنون)
فصل:
أمّا ما كلّفك من الفرض فقد آتاك قدرة عليه واستطاعة له. وأمّا ما ندبك إليه من الفضل فقد أعدّ لك بإزائه ألطافا. فإذا أدّيْتَ الفروض أمدّك بالألطاف ليكمل بفعل الزيادات من الفضائل. وأنت إذا أهملتَ الفروض، وقصّرتَ في الحقوق، سوّلت لك نفسك أن تعتذر بعدم التوفيق والإعانة، فتقول: (لو وفّقني! لو أعانني ! ). ما أغفلك عن الحجة له ! وما أجرأك على الاحتجاج عليه بما لا يورثك إلا بعداً من الله !
ما استزاد اللهَ سبحانه إلا متقاعد بحقوقه أو محتكرا شره في حظوظه. وإلا فما أعدم الله أحدا ما يوصله إلى طاعته. خُذْ إنصاف الحق من قوله لرسوله: ( قُمْ فَأَنْذِرْ)، (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ). ثم قال له من طريق الحثّ واستخراج ما عنده من الوُسع: ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) وعلمَ أن في الطبع نوع انحباس من الناس، فقال: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
فلما زال ما في النفس من الضعف بالخوف من الجنس بضمان العصمة منهم، حينئذ اشتطّت النفس وثابت القوة. وإذا كان الحق لا يكلّف إلا بالإعانة وإزالة العوائق، صار من خداع النفس طلبها للتكليف معاني زائدة على ما آتى، لأنّ ذلك نوع من التسويف بالتكليف لإنتظار ما لا يلزم.
(كتاب الفنون)
شعر:
نديمتي جاريةٌ ساقيهْ
ونزهتي ساقيةٌ جاريهْ
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:26 PM
(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ):
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:
وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْعَوَاقِبِ فَقَالَ تَعَالَى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ).
فَفِي عُقُولِنَا قُوَّةُ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ فِيهَا قُدْرَةُ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ يَدْعُو الْإِنْسَانُ فَلَا يُجَابُ فَيَنْدَمُ، وَهُوَ يُدْعَى إلَى الطَّاعَةِ فَيَتَوَقَّف. فَالْعَجَبُ مِنْ عَبِيدٍ يَقْتَضُونَ الْمَوَالِيَ اقْتِضَاءَ الْغَرِيمِ، وَلَا يَقْتَضُونَ الْغَرِيمَ وَلَا يَقْتَضُونَ أَنْفُسَهُمْ بِحُقُوقِ الْمَوَالِي.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
فصل:
لأبي العلاء المعري الأبيات المطبوعة التي تغنّى بها، ويعجبني معناها، وطال ما تواجد عليها شيوخ الصوفية. وهي قوله:
منكِ الصدود ومني بالصدود رضى ** من ذا عليّ بهذا في هواك قضى
بي منكِ ما لو غذا بالشمس ما طلعتْ ** من الكآبة أو بالبرق ما ومضَا
إذا الفتى ذم عيشا في شبيبته ** فما يقول إذا عصر الشباب مضى
وقد تعوّضتُ من كلٍّ بمشبهِه ** فما وجدتُ لأيام الصبا عِوضا
وقد غرِضتُ من الدنيا فهلْ زمَني ** معطٍ حياتي لغرٍّ بعدُ ما غرِضا
جرّبتُ دهري وأهليه فمَا تركَتْ ** لي التجاربُ في ودّ امرئ غرضا
وليلةٍ سرتُ فيها وابنُ مُزنتها ** كَمَيّتٍ عاد حياً بعد ما قبضا
كأنما هي إذ لاحتْ كواكبُها ** خَوذٌ من الزنج تُجلى وُشِّحتْ خَضضا
كأنما النسر قد قُدتْ قوائمه ** فالضعف يكسر منه كلما نهضا
والبدر يحتثُّ نحو الغرب أينُقَه ** فكلما خاف من شمس الضحا ركضا
ومنهلٍ تِرد الجوزاء غمرتَه ** إذا السِّماكان شطر المغرب اعترضا
وَردتُهُ ونجوم الليل وانيةٌ ** تشكو إلى الفجر أن لم تَطعم الغَمَضا
طال ما وجد الواجدون على البيت الأول من كبار القوّالات المحسنات، ومُزِّقت الأطمار، وانكشفت الأسرار، حيث استعاروا لما سُمّي من الخلق صدوداً ما ورد من بلاوي الحق المقابلة برضا أهل العرفان، حيث امتلأوا بعرفانه مسرّة، فلم يجدوا بإيلام طباعهم مضرة، نظروا الى المبلي في البلى، فعذُبَ العذاب عندهم وَحَلا. أما سمعتَ قول الحق في السحَرة في حال الغفلات: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً)، وقولهم عند طلوع شموس العرفان: (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) فكان ذلك موجباً خطبة تعجيل البلاء. والآخر لمّا أحياه بعد القتل، وكلّمه كفاحا ً، قال له: تمنّ علي ّ، قال: أتمنى عليك أن تعيدني الى الدنيا، فأقتَلَ دفعة أخرى.
وأما قول ابي العلاء (فما وجدتُ لأيام الصبا عوضا); قال حنبلي:
هذه طريقة سلكها الأوائل، واحتذاها بعدهم الأواخر. وهي طريقة من لم يشمّ رائحة العرفان، ولا ذاق طعم الوجد الذي عقبه الوجدان. فإن الصغر مطية الغباوة و الغفلة، وعلو السن حال يقظة، وقوة مزيدة على الفطرة السليمة بالتجربة. وما طلبَ من طلبَ الغفلة أو السكر المغطي على العقل إلا لِثقل التكليف وتعاظم العرفان. وللطباع حظها، كما أن للمعارف حظها. ومُركّب من أشتات لا يعيش إلا باختلاف الأحوال، غفلة تعيش بها طباعه، ويقظة يصفو بها اطلاعه. ولهذا كان بلوغ السفير عليه السلام بالإعانة في خلال أحواله لعيش طباعه، ويظل عند ربه، فيغنيه عن القوام في وقت اجتذابه إلى ذلك المقام.
(كتاب الفنون)
من كلام علي عليه السلام:
الهيبة خيبة، والحياء يمنع الرزق. وعليكم بالصبر; فإن الحازم به يأخذ، والجازع إليه يرجع.
(كتاب الفنون)
في قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ. فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ):
قوله تعالى: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، هذا أمر تكوين لقلب الضرر، يخرجهم عن التكليف، أو ينفيهم مع قلب الضرر على التكليف.
وما معنى: (خَاسِئِينَ)؟ وما معنى: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا)؟ وما معنى: (وَمَوْعِظَةً)؟ وما وجه التخصيص بالمتقين؟
قيل ~وبالله التوفيق~:
أمّا قوله تعالى: (كُونُوا قِرَدَةً)، فليس بأمر حقيقة، لأن الأمر هو الاستدعاء من الأعلى للأدنى، والانخلاق فعل الخالق ~جلّت عظمته~ ليس إلى المخلوق منه شيء، مكلّفاً كان أو غير مكلّف، حيواناً كان أو جماداً.
لكن (كُنْ) حرفان يظهرهما الباري لملائكته، فيكون عقيبهما ما يكوّنه بقدرته. هذا إذا حُمل الكلام على حقيقته، وهو الأصل. فقلب صورة الإنسان إلى صورة قرد كقلب الماء إلى علقة، إلى مضغة، الى عظام، إلى لحم ، على ما ورد من التارات السبع.
والدليل على أنه جُوّز وليس باستدعاء حقيقة، أنه قد أضافه سبحانه إلى المعدوم، ثم ذكر تكوّنه والإيجاد، لا يسأل عاقل أنه إخراج من كتم العدم، وذلك مما ينفرد به الباري سبحانه. والأشياء بعد وجودها لا ينصرف الأمر إليها إلا بعد إكمال أدوات الاستدعاء.
فإذا ثبت هذا في التكوين عقيب (كُنْ)، كان قول الله تعالى: (فَقُلْنَا لَهُمْ) قلبنا صورهم من الإنسانية الى القِردية (خَاسِئِينَ) مبعدين، (اخْسَئُوا فِيهَا) ابعدوا ، وصورة القردية تبعيد عن الصورة الحسنة إلى صورة مشوّهة، (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً).
وقوله في الأول: (كُونُوا) خطاب مذكّر. وقوله (فَجَعَلْنَاهَا) راجع الى تأنيث المسخة، وهي الصورة المشوهة، وعظاً وزجراً، (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا)، لِما قدّمت من ذنوبها، (وَمَا خَلْفَهَا)، لِما يُعمَل به بعدها ليَخاف مَن بعدها أن يعمل مثل عملها، فيؤخَذ بما عمل كما أُخذت به.
قال الحسن: (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا)، لما قدّموا من الأعمال السالفة، (وَمَا خَلْفَهَا)، خلف الأعمال السالفة; وهو صيدهم الحيتان يوم السبت.
قال حنبلي:
وقد بان من صيد الحيتان بالرواية أنهم قدّموا نصب الشباك قبل السبت، فوقعت الحيتان فيها يوم السبت، فأخذوها يوم الأحد، فأخذهم الله بالنصب الذي كان قبل السبت، لمّا كان سبباً باقياً مؤثّراً لوقوع الحيتان يوم السبت، فصاروا بآثار أفعالهم كالصائدين يوم السبت.
وقوله (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) إنما خص المتقين لأنهم العاملون بحكم الموعظة، وإلا فالموعظة بالنكال والمسخ موعظة عامّة لكل مكلف. هذا من أخوات قوله سبحانه : (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا )، وهو منذر الكل ممن يخشى ولا يخشى، لكن خص بذلك من انتفع بالإنذار. ومثل قوله: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا)، يعني من انتفع بإنذارك فحيّ بالإيمان، (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ)، الذين هم كالأموات، الذين لم ينتفعوا بالحياة، كما سمّاهم (صُمًّا وَعُمْيَانًا)، حيث لم يستعملوا الأبصار والأسماع في الاستبصار الذي به غرض المدارك الموضوعة للانتفاع. فإذا لم ينتفع بها، صار عدم الانتفاع بها كَعَدمها.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:28 PM
افْتِئَاتٌ وَسَخَطٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
الْوَاحِدُ مِنْ الْعَوَامّ إذَا رَأَى مَرَاكِبَ مُقَلَّدَةً بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَدُورًا مَشِيدَةً مَمْلُوءَةً بِالْخَدَمِ وَالزِّينَةِ، قَالَ: (اُنْظُرْ إلَى مَا أَعْطَاهُمْ مَعَ سُوءِ أَفْعَالِهِمْ)، وَلَا يَزَالُ يَلْعَنُهُمْ وَيَذُمُّ مُعْطِيَهُمْ وَيَسْقَفُ حَتَّى يَقُولَ: (فُلَانٌ يُصَلِّي الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعِ، وَلَا يَذُوقُ قَطْرَةَ خَمْرٍ، وَلَا يُؤْذِي الذَّرَّ، وَلَا يَأْخُذُ مَا لَيْسَ لَهُ، وَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، وَيَحُجُّ وَيُجَاهِدُ، وَلَا يَنَالُ خُلَّةً بِقُلَّةٍ)، وَيُظْهِرُ الْإِعْجَابَ كَأَنَّهُ يَنْطِقُ عَنْ تَخَايُلِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الشَّرَائِعُ حَقًّا لَكَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا نَرَى، وَكَانَ الصَّالِحُ غَنِيًّا وَالْفَاسِقُ فَقِيرًا.
مَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ لَحَظَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَى هَذَا أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ وَالْوُقُوفِ، بِأَنْ يَأْكُلَ الرِّبَا وَيُفَاسِدَ الْعُقُودَ، وَهَذَا افْتِئَاتٌ وَتَجَوُّزٌ وَسَخَطٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
فَإِنَّ لِلَّهِ كِتَابًا قَدْ مَلَأَهُ بِالنَّهْيِ وَحِرْمَانِ أَخْذِ الْمَالِ الْحَرَامِ وَأَكْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَوْ كَانَ مُنْصِفًا لَقَالَ لَهُ تَدَبَّرْ هَذَا كِتَابُ اللَّهِ مَمْلُوءٌ بِالنَّهْيِ وَالْوَعِيدِ، فَصَارَ الْفَرِيقَانِ مَلْعُونَيْنِ، هَذَا بِكُفْرِهِ وَهَذَا بِارْتِكَابِ النَّهْيِ.
وَمِنْ الْفَسَادِ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ أَنَّهُ لَا يُبْقِي فِي الْعَقْلِ ثِقَةً إلَى دَلَالَةٍ قَامَتْ عَلَى شَرِيعَةٍ أَوْ حُكْمٍ.
فَإِنَّ يَنْبُوعَ الثِّقَةِ وَمَصْدَرَهَا إنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُؤَيِّدُ غَيْرَ الصَّادِقِ، وَلَا يُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ.
فَإِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَلَا ثِقَةَ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
أكبر الكبائر بعد الكفر بالله; السكر:
قال بعض الحنابلة المحقّقين: أنا أرى أن أكبر الكبائر، بعد الكفر بالله; السكر.
قال له جماعة عجبوا من كلامه: نسمع منك غرائب!
قال: أنتم الغرباء عن الفهم. ليس كلامي غريبا. ولئن كان غريبا، عرّفه الدليل و البرهان. وما زال الحق غريبا بين المبطلين، والعلم غريبا بين الجُهال. فاسمعوا برهان ما أقول:
إنّ السكر يعمل عمل الجنون فيما يضر، وهو يغطي العقل، فيعدم العلم الصالح للعاجلة من سياسات الدنيا وذخائر الآخرة. ولا يخفف عن العبد كما يخفف عن المجنون من إسقاط الحساب ودخول الجنة مجانا من غير عمل. فيعدم منافع العقل، ولا يقيم العذر في ركوب الجنايات، بل يبقى عليه تكليف العقلاء، حيث كان مُكسباً لتغطية العقل.
ولو لم يكن من شؤم السكر إلا انقطاع ما بين صاحبه وبين ربه، وعدم معرفته بدينه. فالسكران لا يعرف دينه فيعتذر منه، ولا ربه فيعتذر ويتوب إليه.
فهل في المعاصي ما يبلغ بصاحبه هذا المبلغ ؟
(كتاب الفنون)
لأمير المؤمنين عليّ ~رضي الله عنه وأرضاه:
إخشوشن الناس علي جِدّا
إلا أداريهم بقيتُ فردا
و ما أرى لي من أناس بُدّا
(كتاب الفنون)
في قوله تعالى : (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ):
مما يعطي قبول شفاعته في عصاة أمته. لأن رد السؤال خزيٌ عند العرب.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:31 PM
تعاريف في محلّها:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:
الْوَحْشَةُ انْقِبَاضٌ فِي الْقَلْبِ لِفَقْدِ الْمَأْلُوفِ ..
وَحَدُّ الْقَلَقِ تَتَابُعُ حَرَكَةِ الْقَلْبِ لِمُزْعِجٍ.
وَالْوَجِيبُ أَشَدُّ حَرَكَاتِ الْقَلْبِ.
وَالطُّمَأْنِين َةُ سُكُونُ الْقَلْبِ وَدَعَتُهُ.
وَالتَّشَفِّي دَرْكُ الْقَلْبِ غَرَضَهُ مِنْ الِانْتِقَامِ.
وَالْغَيْظُ أَخْفَاهُ طَلَبُ الِانْتِقَامِ لِلْعَجْزِ عَنْ إيقَاعِهِ.
وَالْمُؤَاخَذَة ُ الْمُجَازَاةُ عَلَى الْإِسَاءَةِ.
وَالْهَيَمَانُ الذَّهَاب فِي طَلَب غَرَضٍ لَا غَايَةَ لَهُ.
وَالْكَلَفُ الشَّغَفُ.
وَاللَّهَجُ تَطَلُّبُ الْغَرَضِ.
وَالْحَمَاقَةُ إهْمَالُ قَوَانِينِ الْحِكْمَةِ.
وَالتَّمَنِّي تَطَوُّحٌ بِالْأَمَلِ.
وَالشَّرَهُ إسْرَافُ الطَّبْعِ فِي الْمَطْلُوبِ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
لو عرفتَ قبل الأعمال لسهلت عليك:
لو عرفتَ قبل الأعمال لسهلت عليك، لكنك لم تتقن المعارف، فثقلت عليك التكاليف. وما استعمل قط إلا المعارف. فينبغي لك أن تتقن عرفان المكلِّف، وتنظر كيف التكليف على أركانك، ثقيلا أم خفيفا.
إذا فتحت عينيك ونظرت، ثم أمعنت فكرك، فخبرت حال هذا الدائر المرصّع، وتصاريف هذا الكون المجنَّس المنوَّع، وتَقلّبَ هذا المبدَّد المجمَّع، وشهدت بعقلك ما وراءه من المؤثّر العظيم، الذي خلق وأبدع، فبصَّر و أسمع. ثم تنظر في حال السفير الذي أبهرت معجزاته العقول: إن انتقل عن الخطبة على جذع حنَّ إليه، وإن تناول حصيَّات سبّحن في يديه، وإن أشار إلى القمر انشق، وإن ترك يده في إناء فار بالماء وجاش، ون استدعى شجرة أسرعت، وإن كلّم ظبياً أجاب، وإن استدعى ببعير سجد، وإن برّك يده على صدر ضال اهتدى، وإن تفل على ملدوغ برئ، وإن أشار إلى جو قد أجدب والتهب عاد بالغمام محتجباً، و بالغيث هاطلا ساكبا. ومن طوِّعت له الأشياء كذا، وجبت طاعته على سائر الورى.
فإذ خبرتَ ونظرتَ إلى المعنى الذي يشير إليه، وعرفت مقدار الداعي إليه- سبحانه -والسفير، تذللت لك نفسك بطاعته فيما إليه دعاك، ولم تعبد بعد الهدى والإيمان هواك. فهنالك-والله-هان عليك ما بذلت، وعظم عندك قدر من أطعت، وإليه بطاعتك تقربت.
(كتاب الفنون)
حديث نبوي:
في الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
إن الناس يُعطَون أجورهم على قدر عقولهم دون اعمالهم.
(كتاب الفنون)
بين نبي كريم كليم، ووليّ عليم:
قال حنبليّ:
جمع بين نبي كريم كليم، وبين وليّ عليم، ونبذ من حكمه الصميم ثلاث فعلات يضيق عن حملها العقل السليم; تشعيث مركب صحيح لمساكين لم يظهر منه إلا الافساد، بغير إحماد. وشفعه بقتل نفس زاكية، بغير سبب ولا جناية ظاهرة. ثم تلاه بالاستطعام مع القدرة على الاكتساب. فلما تتابع الاعتراض مع ما تقدم من العهد على الاتباع من غير إنكار، قُوبل بالمفارقة بعد بيان المصالح المنطوية في تلك المفاسد.
وكفى ذلك الكليم عليه السلام في اقتضائه فيما بعد بالإمساك عن الاعتراض على أفعال الحكيم. وقصّ علينا القصة، فأوجب ذلك علينا الإمساك عن الاعتراض على ما يصدر عنه سبحانه وإن آلم الطباع وأنكرته العقول بظاهر الحال، لتجويزنا أن يكون في مطاويه أمثال تلك المصالح. فإذا أمات لنا ولداً على شبيبة، وقطع آمالنا فيه، فآلم طباعنا وخيّب آمالنا، وجب علينا نقل تلك القصة الى هذه الحالة المؤثرة أمرّ نغصة، فنقول : علم أنه لو جاوز هذا السن، لتعدّى إلى طريقة توجب فساد العاقبة. وكنا بمثل هذا التأويل عاملين بما ندَبَنا إليه، وحثنا عليه، بقوله تعالى: (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).
فإن حاكت في النفوس اعتراضات بمطالبة غير إقناعية، بل شافية للعقل بحسب ما سبق فيه من إثبات القدرة المطلقة ومنع الفساد الآخر بغير الفساد الأول. ~لأن الإفساد لا يحسّنه العقل وإن قلّ، إلا مع العجز عن دفع أكثر الفساديْن بدون الإفساد الأقلّ، كالطبيب منا الذي حَسُنَ منه قطع جارحة لحفظ الجملة، لعجزه عن حفظ الجملة دون إفساد بعضها~ فادفع هذا الاعتراض الأقصى لما أثبتَّه من القدرة المطلقة بالتسليم للفعل والتعليل لِما علمتَه من الحكمة البالغة التامّة، ولا تطلب منه بحسب ما عُرف من القدرة، إلا مع الاقتضاء لنفسك بالتسليم لما عرفتَ من الحكمة.
فكم قصّ عليك من مبادئ أفعال مزعجة للطباع و العقول .. وإشعارات مبهجة كان عقيبها أمور مزعجة، وإشعارات مزعجة كان عقيبها أمور مبهجة، كمنام يوسف في إسجاد النيران له عَقِبه مِحن مؤلمات رَمَتْه في الجبّ، وإخراجه إلى الرقّ، ثم ترويعه بالتهمة بأفحش ذنب، ثم تعذيبه بالسجن. ومنامِ الخليل ترويع بذبح إسحاق أو إسماعيل، ثم عقّبه بالنسخ إلى ذبح البهيم، ثم الدحو به في حبال المنجنيق نحو نار كالجحيم. ثم يتزيّدها عنه بالتكوين ترويع نبيّنا (صلى الله عليه وسلم) بمخافة القتل، والهرب إلى الغار، والشقاء بالأسفار، والمخافة من الوطن إلى دار غربة، ثم الصدّ عن الكعبة في عمرة القضاء. ومعاناة الذل في محو الاسم ومنع الهدى وردّ المستجير. ثم عقّب ذلك المنام والوعد بصريح الفتح بما نزّل من الوحي. ثم عقّب ذلك كله بالفتح.
فوجب بهذا وأمثاله أن لا نأنس ببادرة خير ولا بادرة شر، بل نكون مع بادرة الشر على رجاء عاقبة خير، ونكون مع بادرة الخير خائفين من عاقبة شر. فكتم العواقب دأب الحقّ، ليكون العبد معتمدا عليه سبحانه في الأمريْن، هذا هو التكليف. ولو كشف العواقب سقط التكليف بالكلّية. لكن ترك الخلق بين الخوف والرجاء، ليكون العبد أبداً على باب اللجاء.
(كتاب الفنون)
لو كُشفت العواقب سقط التكليف
قال بعض أهل العلم:
لو كُشفت العواقب سقط التكليف.
قال حنبليّ: وصدق; فانه لو قُطع العبد عن دخول النار، ترك العمل. وأما كشف العاقبة بالجنة، فإنه لا يترك العمل. لأنه إن سقط العمل لأجل الأمن من العقوبة، لم يسقط العمل لشكر المنعم بالجنة.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:33 PM
فِي تَمَسَّكِ النَّاسِ بِالْخُرَافَاتِ :
قال ابن مفلح: قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
لَوْ تَمَسَّكَ النَّاسُ بِالشَّرْعِيَّا تِ تَمَسُّكَهُمْ بِالْخُرَافَاتِ لَاسْتَقَامَتْ أُمُورُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقَدِّمُونَ إدْخَالَ مُسَافِرٍ عَلَى مَرِيضٍ، وَلَا يُنَقَّبُ الرَّغِيفَ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ حَرْفِهِ، وَلَا يُكَبُّ الرَّغِيفَ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَا يُتَزَوَّجُ فِي صَفَرٍ، وَلَا يَتْرُكُ يَدَيْهِ مُشَبَّكَةً فِي رُكْنَيْ الْبَابِ، وَلَا يَخِيطُ قَمِيصَهُ عَلَيْهِ إلَّا وَيَضَعُ فِيهِ لِيطَةً.
وَلَعَلَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَوْ عُوتِبَ عَلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ أَوْ الْجَمَاعَاتِ أَوْ لُبْسِ الْحَرِيرِ لَأَهْوَنُ بِالْعُتْبَةِ.
فَهَذَا قَدْرُ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهِ. وَلَعَلَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ: (لَا يَحِلُّ طَرْحُ الرَّغِيفِ عَلَى وَجْهِهِ) ثِقَةً بِمَا يَسْمَعُ مِنْ النِّسَاءِ الْبُلْهِ وَالسَّفْسَافِ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
في قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ):
قيل في التفسير:
تجعلون جزاء نعمتنا عليكم برزقكم تكذيبكم برسلنا.
(كتاب الفنون)
سأل سائل عن قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا):
ذكر المفضّل قال:
المراد به أن ملائكة كانت تنزل مع جبريل تحفظ ما يورده من الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم عن استراق الجن له وحمله إلى كفاتهم.
(لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ); قيل: ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : ليعلم الانس والجن أن قد أبلغت الملائكة رسالات ربهم.
(وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ): أي علم بما عندهم.
(كتاب الفنون)
زِنُوا أَنْفُسَكُمْ:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:
زِنُوا أَنْفُسَكُمْ; مِنْ الْمَبَادِئِ مَاءٌ وَطِينٌ، وَفِي الثَّوَانِي مَاءٌ مَهِينٌ، وَفِي الْوَسَطِ عَبِيدٌ مَحَاوِيج لَوْ حُبِسَ عَنْكُمْ نَسِيمُ الْهَوَاءِ لَأَصْبَحْتُمْ جِيَفًا، وَلَوْ مُكِّنَتْ مِنْكُمْ الْبُقُوقُ عَنْ السِّبَاعِ لَأَكَلَتْكُمْ، كُونُوا مُتَعَرِّفِينَ لَا عَارِفِينَ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:35 PM
فصل:
المطالب مبثوثة في هذا العالم الواسعة أقطاره، وهي بين ظاهرة مشهورة، وخافية مستورة . والدواعي في الطباع طالبة، والعقول عن المطالب باحثة، والوجدان متفاوت بين واجد بعسر وتعب، وبين مفاض عليه مطلوبه، فوجدانه بغير تعب ولا نصب. والمراد يسيل سيلاً من جهة الممدّ، المفيض جوده عن قدرة مطلقة، القاسم بحكمة تامة. فعطاؤه عن غنى وقدرة مطلقة، وقسمته بين خلقه بحكمة.
والطالبون بحكم دواعيهم وطباعهم كالصبيان، دأبهم طلب ما يشهّيهم فقط، لجهلهم بما يصلح وما يفسد. وليس عطاء الحق بحسب قدرته المطلقة، ولا بحسب جوده الفائض، ولا بحسب دواعي الطباع الشرهة، لكن عطاؤه بحسب حكمته القاسمة على قدر المصالح.
فهذا أصل يجب إتقانه، والخلق فيه طبقات، فطبقة تتناول المطلوب بحسب دواعيها الشهوية، إذا كانت غير مربوبة، كالأيتام العادمين للآباء والأمهات والحواضن والدايات والأطباء والمعلمين، فهم كالسوائم بغير راع يجنبها المراتع الوخيمة ويتحرى لها المراعي السليمة، فناشئة هؤلاء هم الهمج الرعاع، فإذا انبسطوا في مطالبهم بحسب ما نشأوا عليه من تخلّيهم، أدّبهم أرباب التسلّط، فهم بين مصفوع بدِرّة المحتسب فيما صغر من الذنوب، وبين مضروب بسياط الشُّرَط ، وبين محصود بسيف السلطان، وذلك غلّ التخلية وعدم التربية.
ومن رأى جنايات التشرد، فاستيقظ لنفسه من جانب فطنته وتلمّحه ومزيّته بعقله، ورأى فساد أحوال المتشردين، فتحرّى يلقط الآداب من المتميزين بالعقول والتجارب والصنائع، فهو أبدا يستشير المشايخ، ويتعلم من أرباب الصنائع، ويحتمي بقول الأطباء، ويتوقف عن الإقدام على ما يجهل مغبّته بما يستفيده من آراء الألبّاء، فإذا سلك هذا المسلك السليم، انتقل به إلى ما هو أعلى وأوفى، وهو تأدية الشرائع الصادرة عن الخالق الصانع، فسلمت له العواقب، وبلغ بذلك الرغائب، وعلت طبقته، فسلّم لله سبحانه أفعاله فيه من جميع ما يتشاوش، كما انخرط في سلك أحكامه، استطرح بالتسليم والتفويض لمختلفات أقداره، ورضي بأقسامه، واعتمد في مطالبه على الدعاء، وتأدّب في الدعاء بأن لا يطلب الإجابة بنفس ما طلب وعين ما سأل، بل يثق بالإجابة بحسب ما يصلحه، لا ما يصلح له، وحسب ما يُرى له، لا بحسب ما يراه لنفسه، ويكون على يقين بأن المنعَ لعين ما سأل إجابةٌ. فكم من منع هو عين العطاء ! ..
(كتاب الفنون)
حِكَم:
يقال:
الجزع من إخوان الزمان.
والخوف حارس الاعراض.
قد خاطر من استغنى برأيه.
التدبير قبل العمل يؤمن الندامة.
أشرف الغنى ترك المنى.
الصبر جُنة الفاقة.
المودة قرابة مستفادة.
الطمأنينة قبل التجربة ضد الحزم.
مبدأ القطيعة التجنّي.
(كتاب الفنون)
شذرة:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
جُهَّالُ الْأَطِبَّاءِ هُمْ الْوَبَاءُ فِي الْعَالِمِ ، وَتَسْلِيمُ الْمَرْضَى إلَى الطَّبِيعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ تَسْلِيمِهِمْ إلَى جُهَّالِ الطِّبِّ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
العقل:
قال عالم :
العقل أفضل ما منحه الله خلْقه، وامتن به عليهم في استعماله في طاعة مانحه وتعظيم أمره و نهيه، ليقع الشكر من النعمة موقعه، واستعمله بعد ذلك في مكارم الاخلاق مع خلق الله. فإنّ من جميل شكره الاحسان الى خلقه. و ثمرة العقل طاعة الله فيما أمرك به و نهاك، وعدلك في معاملة الناس في التأدب لهم و الانصاف. فعقل لا يثمر طاعة الحق ولا إنصاف الخلق، كعين لا تبصر وأذن لا تسمع.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:37 PM
ما أغناك عن الكذب!
إذا كان كل مخلوق يشتمل على نقائص و فضائل، فما أغنى المادح والذام عن الكذب إذا سخط أو رضي! فإن غضب وجد نقائص يكون بذكرها صادقا، فما باله وإلحاق النقص بنفسه بكذبه ؟ وإذا رضي وجد فضائل، فما باله يكذب بذكر ما لا يجد مع وجود ما يمكنه المدح به ويكون صادقا ؟ فما باله ألحق المدحة بغيره والنقيصة بنفسه حيث زاد بما لم يجد ؟ ألا ترى أن الله سبحانه لمّا ركّب عيسى ما بيْن فضل هو النبوة و إظهار المعجز على يديه بإحياء الميّت و إبراء الأكمه والأبرص، و غلا فيه قومه فقالوا إنه إله، قال فيه : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ) وهذا مدح يقتضي النبوة، ثم قال ( كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ). وهذا نقص في الكمال يقتضي التغذية، وهي في الحقيقة قيام الذات بغيرها، وحاجتها إلى التقويم بسواها. وهذه سمة تنافي عنّا الإلهية، فإن الاله ما احتاجت إليه الأشياء، واستغنى بذاته عن الأشياء. وأراد بذكر هذا النقص نفي الغلوّ فيه بدعوى الإلهية. فما من شيء إلا وقد ضمّنه الله نقصا و كمالا. فما أغناك عن الكذب بالتزيّد في النقائص أو الفضائل والخصائص؟
(كتاب الفنون)
يقال:
أهلك الناسَ حب الفخر وفوت الفقر!
(كتاب الفنون)
من كمال الآداب:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ في الفنون:
من كمال الآداب تلمح النفس وإزالة كل ما يكره منها ويؤذي عند المخالطة وإن أمكن ذاك ، وإلا فإراحة الناس بالانفراد والاعتزال فالثقيل المخالط سقم في الأبدان ومؤنة على القلوب ، وتضييق للأنفاس ، وحصر للحواس والألم يعري الأرواح تفضلا عن الأشباح ، والقذر نقضه المجالس ، والمستعلم عما يستره الناس مكشف لأستار التجمل ، والأرعن مرتعد الطباع المغلوبة بالحكمة ، والأحمق مفسد للقوانين ومحوج إلى سوء أخلاق المعلمين ، ومزر على أهل الدنيا والدين ، والمهازل مسقط لوقار المجالس مذهب لحشمة المنازل وما حط شرفا مثل هزل . وقطع الروائح الكريهة ، والبعد عن مجالس الأنس فكم من أنيس بين جلساء أوحشه مداخلة ثقيل يجهل ثقل نفسه على الناس ، وتقليل الكلام من حسن الإصغاء والإنصات، والبعد عن العاملين ذوي النشاط إذا اعتراك التثاؤب والنعاس فذلك يكسل العمال ويفتر الصناع ، وانتقاد الألفاظ قبل إخراجها إلى الأسماع فكم من نم أراق دماءكم من حرف جر حنقا وإياك والكلام فيما ليس من مجارك فذاك يحط قدرك ، ويكشف عن محلك وأنت مع سكوتك مخبوء تحت لسانك تترامى ظنون الناس فيك بين من يعتقدك بذلك عالما فإذا ظهر مقدارك من لفظك تعجل سقوط قدرك .
لا تواكلن جائعا إلا بالإيثار ، ولا تواكلن غنيا إلا بالأدب ، ولا تواكلن ضيفا إلا بالنهمة والانبساط ولا تلقين أحدا بما يكره وإن كنت ناصحا فإن ذلك ينفره عن القبول لنصحك ولا تدعه من الأسماء إلا بأحبها إليه ، وتغافل عن هفوات الناس فذلك داعية لدوام العشرة ، وسلامة الود ، وخفف مؤنتك بترك الشكوى ، وإذا كرهت من غيرك خلقا فلا تأته ، وإذا حمدته فتخلق به ، ولا تستصغر كبير الذنب فتعرى ، ولا تستكبر صغيرها فتيأس ، وأعط كل ذنب حقه من عقوبته إن قدرت ، ومن اللائمة والهجران إن عن العقوبة عجزت ولا تقتض الناس بجراء إحسانك اقتضاء البائع بثمن سلعته ، ولا تمنن عليهم فالمن استيفاء لمعروفك أو تكدير لبرك فإن قدرت على هذه الخلائق في معاشرتك وإلا فالعزلة خير لك وخير للناس ، فإنك بستر نفسك تستريح من احتقاب الآثام بإسقاط جرم الأنام ، والسلام .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:41 PM
شذرة:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ :
مِنْ أَكْبَرِ مَا يُفَوِّتُ الْفَوَائِدَ تَرْكُ التَّلَمُّحِ لِلْمَعَانِي الصَّادِرَةِ عَمَّنْ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْحِكْمَةِ ، أَتَرَى يَمْنَعُنِي مِنْ أَخْذِ اللُّؤْلُؤَةِ وِجْدَانِي لَهَا فِي مَزْبَلَةٍ ؟ كَلًّا سَمِعْت كَلِمَةً بَقِيَتْ مِنْ قَلِقِهَا مُدَّةً ، وَهِيَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَقُولُ عَلَى شُغْلِهَا وَتَتَرَنَّمُ بِهَا;
كَمْ كُنْت ~بِاَللَّهِ~ أَقولُ لَك; إنَّ لِلتَّوَانِي غَائِلَةً وَلِلْقَبِيحِ خَمِيرَةً تَبِينُ بَعْدَ قَلِيلٍ؟
فَمَا أَوْقَعَهَا مِنْ تَخْجِيلٍ عَلَى إهْمَالِنَا الْأُمُورَ، غَدًا تَبِينُ خَمَائِرُهَا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
رُويَ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لو علم المؤمن ماعند الله من العقوبة، ما طمع في جنته. ولو علم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من رحمته):
قال حنبلي :
وما يحتاج الى ذكر الجنة والنار في هذا الشان. بل إذا رأى بطشاته سبحانه في العالم وألطافه، كان ذلك مقتضيا بالمؤمن إلى الفزع، والكافر إلى الطمع.
(كتاب الفنون)
فصل:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:
إذَا تَأَمَّلَ الْمُتَدَيِّنُ أَفْعَالَ الْخَلْقِ فِي مُقَابَلَةِ إنْعَامِ الْحَقِّ اسْتَكْثَرَ لَهُمْ شَمَّ الْهَوَاءِ، وَاسْتَقَلَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْثَرَ الْبَلَاءِ; إذَا رَأَى هَذِهِ الدَّارَ الْمُزَخْرَفَةَ بِأَنْوَاعِ الزَّخَارِيفِ، الْمُعَدَّةَ لِجَمِيعِ التَّصَارِيفِ وَاصْطِبَاغًا وَأَشْرِبَةً وَأَدْوِيَةً، وَأَقْوَاتًا وَإِدَامًا وَفَاكِهَةً، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَقَاقِيرِ، ثُمَّ إرْخَاءَ السَّحَابِ بِالْغُيُوثِ فِي زَمَنِ الْحَاجَاتِ ثُمَّ تَطْيِيبَ الْأَمْزِجَةِ وَإِحْيَاءَ النَّبَاتِ، وَخَلْقَ هَذِهِ الْأَبْنِيَةِ عَلَى أَحْسَنِ إتْقَانٍ، وَتَسْخِيرَ الرِّيَاحِ وَالنَّسِيمِ الْمُعَدِّ لِلْأَنْفَاسِ، إلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ النِّعَمِ، ثُمَّ نِعْمَةَ الْعَقْلِ وَالذِّهْنِ ثُمَّ سَائِرَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّانِعِ، ثُمَّ إنْزَالَ الْكُتُبِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى الطَّاعَاتِ وَتَرْدَعُ عَنْ الْمُخَالَفَةِ، ثُمَّ اللُّطْفَ بِالْمُكَلَّفِ، وَإِبَاحَةَ الشِّرْكِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَأَمَرَ بِالْجُمُعَةِ فَضَايَقُوهُ فِي سَاعَةِ السَّعْي بِنَفْسِ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْبَيْعِ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَعَظَّمُوا كُلَّ مَا هَوَّنَهُ وَارْتَكَبُوا كُلَّ مَا هَوَّنَهُ حَتَّى اسْتَخَفُّوا بِحُرْمَةِ كِتَابِهِ، فَأَنَا أَسْتَقِلُّ لَهُمْ كُلَّ مِحْنَةً.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
فصل:
قال حنبلي :
إنّ من عرف محلّ نعمة الله تعالى على خلقه بالعقل، حرس النعمة بجهده، وشكر عليها بمبلغ وسعه وجدِّه. وأرى السواد الأعظم قد بخسوه حقه. فإنهم ينوحون حال كبرهم نياحة بالغة، نظماً ونثراً، على زمان الصبا. حتى قال قائلهم:
فإن تولى فزمانُ المدام *** حيث تردّى بِرِدا الغلام
ومعلوم أنهم حال الكبر قد صحا العقل عن شببه حال الشبيبة، لأنّ حال الصبوة والنزاقة الطبع غالب، والغباوة عن مطالعة العواقب ودواعي الشهوات واللذات ورعونات الطباع القاطعة للوقت بما يوجب المقت. حالُ الكبر قد ظفر العقل بتصفّح الأحوال، وتدرّبَ بالتجارب، وصحا له جوّ الأراء، فتكشّفت له العواقب، واكتسب الوقار، وزالت عنه خلاعة الصبا، وذاق طعم العرفان بمراشد العقل المهدي له إلى حقائق ما تضمّنه النقل بتدبير الآيات، والتذكّر بأنواع الدلالات، ووقف على ما كان عنه غافلًا، وعن البحث عنه عاطلًا. فيحسن بمن بلغ بكبر السنّ هذه الرتبة ، أن يتذكّر حال انحطاطه عنها بالتأسّف والتشوّق إلى حال كان محجوباً عن درك غاية المطالب وأكبر الرغائب، كذا يكون العقلاء.
وما هذا عندي إلا بمثابة من وصل إلى المنزل و الوطن، فتشوّقَ الى وعثاء السفر وعناء الطريق وكلفة النقل. أو بمثابة من بلغ من العلم غاية امتاز بها، فأخذ في التشوّق الى أيام الطلب، وأوقات النظر والفكر والبحث، وزنقات الطرق، ومرارات التردد، ومعاناة الشكوك، ولم يغلب عليه درك حلاوة الوقوع على المطلب، حتى يرى أيام الطلب أيام عناء وشقاء، فيقول كما قال أهل الجنة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)، أو كما قال أهل الأديان بعد عبادة الأوثان: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا). فهذا دأب كل واجد بعد أن كان طالباً.
فاعترض هذا الحنبليَّ خاطرٌ كأنه سائل يقول:
قد خفي عليك شيء لا ينكره العقل، بل يسنده ويقيم العذر فيه لمن صدر عنه التأسّف و التشوّق إلى أيام الصبا والغباوة. وذلك لِما يدخل على العاقل من ثقل التكليف; حتى قال خواص السلف: ليتني كنتُ شجرة تعضد! ليتني كنتُ مثلك يا طائر! ليتني كنتُ نسياً منسياً!
وتَمنّي الجمادية والبهمة أقصى من التأسّف على زمان الغباوة والصبوّة. أو رأوا أنّ الأجسام مراكب الأرواح والعقول، فطلبوا ما يقيمها، ولا يقيمها إلا الغفلة، دون الصحو و اليقظة، فلذعوا الأجساد بذلك حتّى خطب بعضهم الغفلة، لِما يعتريهم من انهدام مركب العقل. فالغفلة كالزاد لمراكب العقول، وهي الأجساد. فكان طلبهم لها لأجل العقل أيضاً، وإن دخل عليه نوع ذهول عاجل، لكنه لاستدامة الأجل. فتصير الغفلات كالأغذية المبقية لمحلّ العقل، وهي الأجساد.
(كتاب الفنون)
فصل وعظي:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:
عِنْدَك ذَخَائِرُ وَوَدَائِعُ بِاَللَّهِ لَا تَضَعْهَا فِي التُّرَّهَاتِ ، وَدُمُوعٌ وَدِمَاءٌ وَنُفُوسٌ. بِاَللَّهِ لَا تَجْرِي الدُّمُوعَ إلَّا عَلَى مَا فَاتَ وَيَفُوتُ، وَلَا تُرِقْ الدِّمَاءَ، إلَّا فِي مُكَافَحَةِ الْأَعْدَاءِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِنَا. وَأَنْفَاسٌ مِنْ نَفَائِسِ الذَّخَائِرِ، فَبِحَقِّنَا لَا تَتَنَفَّسْ الصُّعَدَاءَ إلَّا فِي الشَّوْقِ إلَيْنَا، وَالتَّأَسُّفِ عَلَيْنَا.
كَمْ نَخْلَعُ عَلَيْك خِلْعَةً نَفِيسَةً تَبْذُلُهَا فِي الْأَقْذَارِ، وَتَخْلُقُهَا فِي خِدْمَةِ الْأَغْيَارِ. اشْتَغَلْتَ بِالصُّوَرِ، شَغْلَ الْأَطْفَالِ بِاللَّعِبِ، فَاتَتْكَ أَوْقَاتٌ لَا تَتَلَافَى ..
فَإِنْ كَسَرْنَا عَلَيْك لُعْبَةً مِثْلَ أَنْ نَسْلُبَك وَلَدًا مَنَحْنَاهُ، أَخَذْت تُضَيِّعُ الدُّمُوعَ وَتَخْرُقُ الْجُيُوبَ، وَا أَسَفَا عَلَى أَوْقَاتٍ فَاتَتْ. أَمَا رَأَيْت الْمُتَدَارِكِي نَ هَذَا يَقُولُ: هَلَكْت وَأَهْلَكْت، وَهَذَا يَقُولُ: زَنَيْت فَطَهِّرْنِي؟ زَاهِدًا فِي مُصَاحَبَةِ نَفْسٍ خَائِنَةٍ فِيمَا عَاهَدَتْ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يُقِيمُ لَهَا التَّأْوِيلَ وَيَقُولُ: " لَعَلَّكَ قَبِلْت " وَذَاكَ مُصِرٌّ عَلَى التَّشَفِّي مِنْ النَّفْسِ الْمُخَالِفَةِ لِلْحَقِّ.
أَتُرَاهُ سَلَّطَ هَذِهِ الْبَلَاوِيَ إلَّا لِيُظْهِرَ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالْغَيْرَةِ؟
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
قال بعض أهل العلم:
من نازعك في أن القرآن علماً ظاهراً أو معجزا باهراً، فاعدلْ عن الكَلام معه إلى الكِلام، وعن الحِجاج إلى الشِجاج.
وليس جواب من أنكر الحجة الواضحة إلا الشجّة الموضحة.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:47 PM
موعظة صحيحة:
حجّ عبد الملك بن مروان، فخطب بمكة. فلما انتهى إلى موضع العظة من خطبته، فقام إليه رجل من الصوحان، فقال: مهلاً، مهلاً! إنكم تأمرون، ولا تأتمرون، وتنهون، ولا تتناهون، وتعظون ولا تتعظون. أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم أم نطيع أمركم بألسنتكم ؟
فإن قلتم (اقتدوا بسيرتنا)، فأنّى، وكيف، وما الحجة، ومَن النصير من الله في الاحتذاء بسيرة الظلمة الجَورة الفَسقة الخَونة الذين أكلوا مال الله دُوَلا، وجعلوا عباد الله خَوَلا؟
وإن قلتم (أطيعوا أمرنا واقبلوا نصيحتنا) فكيف ينصح غيره من غش نفسه؟ أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عدالته ولا تجوز في الإسلام شهادته؟
وإن قلتم (خذوا الحكمة حيث وجدتموها، واقبلوا العظة ممن سمعتموها) فعلامَ قلّدناكم أزمّة أمورنا، وحكّمناكم في أموالنا ودمائنا؟ أوَما تعلمون أنّ فينا من هو أفصح بصنوف العظات، وأعرف بوجوه اللغات منكم؟
فإن كانت الإمامة تُستحقّ بذلك، فتحلحلوا عنها، أو اطلقوا أعقالها وخلّوا سبيلها، يبتدرها أهلها الذين شرّدتموهم في البلاد، وقتلتموهم في كل واد.
أما لو ثبتت في أيديكم باستيفاء المدة وبلوغ الغاية.. إذ لكل قائم منكم يوماً لا يعدوه، وكتابا بعده يتلوه، (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً)، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ).
قال حنبلي:
وهذا إن لم يكن للإمساك عنه علّة، وإلا فهو بعيد عندي أن يتم في أيام عبد الملك، لاسيما إن كان في صحبته الحجاج، وإلا فالسياسة مع القدرة تمنع من سماع هذه المقالة الشنيعة مع إبلاع قائلها ريقه. فإن كانت صحيحة، وإلا فهي موعظة .. واعتراضات على بني مروان لازمة. (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) يوم (تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ).
(كتاب الفنون)
شذرة:
قال ابن مفلح: فِي فُنُونِ ابْنِ عَقِيلٍ:
قَالَ حَنْبَلٌ: الْخَيْرُ بِالتَّعَوُّدِ ، وَالشَّرُّ طَبْعِيٌّ ، وَانْظُرْ إلَى وَضْعِ الشَّرْعِ { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ } فَلَمَّا جَاءَ إلَى الشَّرِّ { فَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ أَكْثَر فِي الْمُجْتَمِعِين َ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
قيل:
غِرّة الغضب تورث ذلّ الاعتذار.
(كتاب الفنون)
إكثارٍ الدُّعَاءِ وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
كُنْت أَرَى النَّاسَ يُكْثِرُونَ الدُّعَاءَ وَزِيَارَةَ الْقُبُورِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَلَا أَعْلَمُ هَلْ يَرْجِعُونَ إلَى شَيْءٍ.
فَوَجَدْتُ فِي سَمَاعِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ عَنْ الْغِطْرِيفِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: {دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاء ِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَعَرَفْنَا السُّرُورَ فِي وَجْهِهِ}. قَالَ جَابِرٌ: فَمَا نَزَلَ بِي أَمْرٌ مُهِمٌّ عَارِضٌ إلَّا تَوَخَّيْتُ تِلْكَ السَّاعَةَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَدَعَوْتُ فَعَرَفْتُ الْإِجَابَةَ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
من أدب الخوف من الله:
قال حنبلي:
من أدب الخوف من الله أن تخاف من عدله فيك. فان خفت الحيف، فبئس الخوف. و إياك أن تخاف مما وراء العدل، فان ذلك تجوير لله. و لهذا لو فصح بذلك فقال: (ما أخاف إلا مما وراء عدل الله) فكانه يقول: ( إني أخاف الحيف). والخوف من غير عدله سبحانه هو سوء الظن به.
(كتاب الفنون)
الْبُخْلُ:
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
الْبُخْلُ يُورِثُ التَّمَسُّكَ بِالْمَوْجُودِ، وَالْمَنْعَ مِنْ إخْرَاجِهِ لِأَلَمٍ يَجِدُهُ عِنْدَ تَصَوُّرِ قِلَّةِ مَا حَصَلَ وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِخَلَفِهِ. وَالشُّحُّ يُفَوِّتُ النَّفْسَ كُلَّ لَذَّةٍ، وَيُجَرِّعُهَا كُلَّ غُصَّةٍ.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ):
وصفت أعرابية قوما بالبخل، فقالت: (القائمون إلى الصَلاةَ بِلا أَذان، مخافة أن تسمعه آذان الضيفان)، فآخذه بعض الشعراء، فقال:
أَقاموا الدَيدَبانَ عَلى يَفاعٍ *** وَقالوا لا تَمُر لِلديدَبانِ
فَإِن آنَستَ شَخصاً مِن بَعيدٍ *** فَصَفِّق بِالبَنانِ عَلى البَنانِ
تَراهُم خَشيَةَ الأَضيافِ خُرساً *** يُقيمون الصَلاةَ بِلا أَذانِ
قال حنبلي له فهم و اطلاع على مناسبة المعاني :
يمحو هذا كله قوله تعالى في أصحاب الجنة: (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ)، و كان جوابهم من المنعم على كتمهم النعم عن المؤاساة للمحاويج قوله: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ).
سبق واللهِ حرمانه إياهم حرمان المساكين، و كان سبقه أيضا بذلك خفية عنهم حال منامهم، لإضمارهم الحرمان وعزمهم على إخفاء النعم تركا للاحسان. ف(مَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) .
قال الخادم: فمن هاهنا طاب إظهار النعم لأرباب الحاجات إيقاظا لهم للطلب بشكر المنعم عليهم، يشهد لذلك قوله سبحانه: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) ليسمع السائل فيطلب، فتشكر نعمة ربك بالعطاء، فانه لا يجوز ان يُحْمَل إلا على هذا الوجه. لأن الحديث بالنعمة بين المسلوبين من غير مؤاساة بها وفيها، تعريض لإسخاطهم على المنعم، حيث حرمهم ما أعطاه غيرهم.
(كتاب الفنون)
علماء السوء:
قال ابن مفلح: قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ:
يَا عُلَمَاءُ! مَا نَقْنَعُ مِنْكُمْ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ زِيِّ تَصَارِيفِكُمْ، فَإِنَّ طَبِيبًا بِهِ مِثْلُ مَرَضِي فَضَيَّقَ عَلَيَّ الْأَغْذِيَةَ وَلَا يَحْتَمِي مَشْكُوكٌ فِي صِدْقِهِ عِنْدِي، فَالْحَظُوا حَالَ مَنْ أَنْتُمْ مِنْ وَرَثَتِهِ كَيْفَ غُفِرَ لَهُ ثُمَّ قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ.
يَا سِبَاعُ! يَا قُطَّاعَ الطَّرِيقِ! لَا تُرَوْنَ إلَّا عَلَى مَطَارِحِ الْجِيَفِ. نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَعَ مِنْ الْمَرْأَةِ بِإِشَارَتِهَا إلَى السَّمَاءِ، وَأَنْتُمْ تُشَكِّكُونَ النَّاسَ فِي الْعَقَائِدِ، انْفَتَحَ بِكَلَامِكُمْ الْبَثْقُ الْعَظِيمُ وَهُوَ كَلَامُ الدَّهْرِيَّةِ وَالْمُلْحِدَةِ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
شذرة:
الصامتة من الجامدات والنبات ناطقة بشهادة الصنعة للصانع والحكمة للخالق.
(كتاب الفنون)
أبو المجد الفراتي
2016-03-19, 02:58 PM
الْجُهَّالُ يَفْرَحُونَ بِسُوقِ الْوَقْتِ:
قال ابن مفلح: قال ابن عقيل:
الْجُهَّالُ يَفْرَحُونَ بِسُوقِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ اجْتَمَعَ أَلْفُ أَقْرَعَ يَزْعَقُونَ عَلَى بَقَرَةِ هَرَّاسٍ لَقَوِيَ قَلْبُهُ بِمَا يَعْتَقِدُ أُولَئِكَ ، وَيَنْفِرُ قَلْبُهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُحَقِّقِينَ . بَهِيمَيةٌ فِي طِبَاعِ الْجُهَّالِ لَا تَزُولُ بِمُعَالَجَةٍ .
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
(لعنَ اللهُ صبياً أكبر من أبيه):
أنت أبدا تنسى نفسك وقدْرك عند كلامك في الله واعتراضك عليه، ولو ذكرت مقدارك بالإضافة إليه، تكلمتَ كلاما صغيرا بحسبك ولا تتكلم كبارا بقول (لمَ) و(كيف) و( لو صنع هذا كان أحسن وأتقن ) و( لو قال كذا لكان أفصح ).
العامة تقول: ( لعن الله صبيا أكبر من أبيه )، ولكن ما أوْقع اللعنَ في حق عبد أكبر من سيده، ومخلوق يتكبر على خالقه، ومحكَّم يتحاكم على محكِّمه !
ما بلغ علمك الى الحد الذي يزري على علوم الشرع، وتدابير هذا الرب سبحانه، ولكن هذا كله وأمثاله دخل من باب جهلك بنفسك. ولو علمتَ مقدارك لعلمتَ صانعك، إما تعظيما لنفسك فعظِّم من صنعها، أو استزراءً لها فلا تتحاكم على محكِّمها، فأنت في كلا الحالين معظِّما لنفسك أو مقلِّلا لها; لا ينبغي أن تبدو منك بادرة اعتراض عليه ولا تَحكّم، لكن يجب عليك بحكم الصيغة أن تسلّم لأفعاله وتحكّم حكمته.
(كتاب الفنون)
توحيد وإستغفار:
سيدي ! قد تدبّرتُ الخلق فما رأيت منهم إلا صانعاً أو مصانعاً. ورأيت جلّ غرضهم وأكبر هَمّهم الدنيا. وكل منهم قد اعتمد على ذخيرة، فهذا يذْخر العقار وهذا يذّخر العقار، .. وهذا يقتني الدرهم و الدينار، وهذا يذّخر معارف الرجال. ورأيت كلاًّ منهم عند الموت يفزع الى إسمك وتوحيدك والتعلّق بأذيال عفوك. فرأيتهم بعين الإفلاس من الرأي، حيث لم يقدّموا من أمرهم ما أخّروا، وتعجّلوا من التعلّق بك ما أجّلوا.
فكنتُ إذا فرح الناس بموجودهم منك وعُنوا بما آتيتهم من لدنك، غنيّاً بوجودك، معوِّلا على شهودك، مذّخِراً لك في شدائدي، معوّلاً عليك في أوابدي، فما خاب قطّ أملي فيك، ولا رجائي في لطفك، بل وجدتُك في شدائد الدنيا آخذاً بضبعيّ، إن عثرتُ أنعشتَ، وان افتقرتُ أغنيتَ، وإن سقمتُ عافيتَ وشافيتَ، وإن تشردتُ آويتَ، وإن عطشتُ أرويتَ، و إن جعتُ أطعمتَ، وإن ضللتُ هديتَ.
فأنبأني عنك عاجل أمري، وحدّثتني آمالي فيك عن تواني أحوالي معك.
فها أنا لا أرجو سواك، ولا آمل غيرك، ولا تَعبدُ أطماعي أحداً من خلقك. وطالما عبدت، لأنني كنتُ بصورة من استقرئ طرق الطلب حتى وجدتُ، وأُنِحتُ عن طريق سليم إليك حتى ظفرتُ، ولم أجد ذلك إلا في خُبري بخلقك وأنهم مفاليس من كل ضرّ ونفع. ومع ذلك فأنا أستغفر الله من وقوفي معهم حال تصفّحي لأحوالهم، وأنا أشهدُ أن لا إله إلا الله من شركي حال الإعتماد عليهم اختباراً لهم، وأقطع زنانير الإضافات إليهم.
(كتاب الفنون)
- فصل تذكير:
من كان عَبقاً بالأذكار بحيث إن عطس قال ( الحمد لله )، وإن مات له ميت قال (إنا لله)، وإن قُدِّم بين يديه طعام ليأكل قال (بسم الله)، وإن أَخبر فلم يُصدَّق قال (أقسم بالله)، وإن عرضت له حاجة قال (يارب)، وإن مسه الضر نادى، وإن أظلم عليه الليل ناجى، لا يكون في الأفعال كذا، بل عن الأوامر متخلف، وبالنواهي كلف شغف، ومع الرسم لا يقف.
المؤذن ينادي الى الصلاة وأنت معرِض. وحوْلُ الزكاة قد حال وأنت في وجه الفقير معبِّس وللزكاة غير مخرِج. وإن اتجه نحوك حق كنتَ بالتأويل مسقطاَ. وما هذه حال من صدرت تلك الأقوال عنه بحقيقة وجِدّ، لكن باستعارة لفظ . وهذا لا يعمل مع الله عملا، لأنه كالتملّق. وذلك إنما ينفق على من لا يعوّل إلا على الظاهر، وهو بالعكس في حق الباري، لأنه لا ينظر إلا إلى المقاصد والسرائر.
الظواهر عنده صور منحبطة، إن لم تصدر عن مقاصد صافية خالصة. ألم تسمعه يقول: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ)؟
من يسمعك عبق اللسان بذكره في القسم والدعاء والأكل والشرب وعند الحاجة وعند كل حركة وسكنة، يحسبك محِباً أو متخصِّصاً، فإذا خبرك في باب التكليف عرفك.
ليس تعظيم الله كثرة اذّكاره باللسان، إنما التعظيم لله سبحانه بحسن الاستجابة والامتثال. ليس تعظيم شعائر الله أن تسمّن البُدن للهدايا والنحر بمنى، تعظيم شعائر الله أن تحكّ البَدن في خلوة، فتخاف بحكّ الموضع قطع شعرة، فتحكّه بباطن كفّك. نعم، وتكون أفعالك متناسبة.
من يحترم لله في الإحرام بحيث لا يشفي نفسه من حكّ جسده، لا يشتفي من أخيه المسلم حال غضبه، ولا يشفي النفس من محظورات الشرع في الخلوة. حرمة الاحترام أكد من حرمة الإحرام. من هجر المحيط في الإحرام لا يلبس إذا رجع إلى بيته لباس الفجور والآثام: الابريسم المحض، أو الثوب الغصب، أو المبتاع بالمال الغصب.
الباري موجود بكل معنى وبكل حال، ولا تخصَّص حشمته ومواقيته ببعض الأماكن و الأحوال. من يلصق جبهته بالأرض في القبلة، ويقبّل حجرا في الله، ويعدو حول بيته من غير أن يظهر له في ذلك حكمة وعلّة; لا يتعجرف على الحاكم إذا دعاه الى استخلاص حق عبد الله، ولا يجوز سنة في أهواء نفسه مع مخالفة الله، هذه أفعال مصانع أو صانع، وإلا فالإخلاص يوجب تسوية الأحوال في حق العمّال.
إذا نظرتَ الى حقائق التكليف، عرفتَ أنه كلّفك ضد ما تميل إليه الطباع بالكلّية. استعبدَ عقلك بالتسليم والتحكيم فيما تحتكُّ عندك فيه الشبه العارضة، ليخضع العقل له بكونه عبدا حكّمه خالقه وكلّفه الاستدلال عليه بآثار صنعته. وكلّف النفوس الرقة والرأفة أن تذبح الحيوان وتتقرب إليه بإزهاق النفوس في أجل، فكلّفها الرقة في بعض الحيوان الذي اطمأنت على اصطدياه في كل مكان. وكلّف الأعضاء الخضوع والسجود و الكفّ عما تميل إليه عبثا و تناولا و كمشاً. وأعدّ للطاعة أوفى جزاء وأسبغ عطاء.
(كتاب الفنون)
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.