حمزة الكتاني
2008-04-21, 04:31 AM
ترجمة العلامة محمد بن عبد السلام السائح(1)
بقلم الدكتور الشريف محمد حمزة بن علي الكتاني
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...وبعد؛
فقد أنتج المغرب الأقصا في القرن الرابع عشر الهجري أعلاما كبارا يفاخر بهم غيره منالأقطار، جمعوا العلم المتقن والضبط والتحري إلى العلوم العصرية، فاجتهدوا وبحثوا وأفادوا الأمة بزخم معرفي يشكل لبنة مهمة في الفقه والفكر الإسلامي، وبهذه المناسبة؛ فإنني أعرف القاريء بترجمة أحد أئمة القرن الرابع عشر المرموقين، وأعلامه الأفذاذ، ألا وهو: أبو عبد الله محمد بن عبد السلام السائح الأندلسي ثم الرباطي، رحمه الله تعالى:
اسمه ونسبه:
هو الشيخ الإمام، المشارك الفقيه، الأصولي المحدث النظار، الأديب الفيلسوف، نادرة العلماء في الثقافة؛ القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن عبد الرحمن السائح، الأندلسي وجارا، الرباطي دارا، ومنشأ وإقبارا.
كان أسلافه في "الجزيرة الخضراء" جنوب الأندلس (إسبانيا اليوم)، ثم انتقلوا إلى الرباط بعد مدة من سقوط غرناطة، ضمن من انتقل إليها من الأسر الأندلسية الكثيرة، حتى أصبحت الرباط وسلا صورة من الأندلس في بلاد المغرب.
وقد فصل المترجم – رحمه الله – في مقدمة كتابه "سوق المهر إلى قافية ابن عمرو" قصة خروج الأسر الأندلسية إلى الرباط – خاصة – ومدى تأثيرها على الحياة الثقافية والصناعية والعلمية في المغرب تلك الفترة.
قال العلامة الفقيه أبو عبد الله محمد بن الفاطمي ابن الحاج السلمي الفاسي في معجم شيوخه ص205: "وقد كان هذا البيت مشهورا ب: العِماني، ثم اشتهر بالعِماني السائح، ثم أهمل العِماني وبقي "السائح"، والذي اشتهر باللقب الأخير هو جد المترجم: السيد عبد الرحمن. وسبب الاشتهار به: أنه انخرط في صفوف الجندية التركية بالجزائر في عهد حكم الأتراك [أي: للجزائر، لأنهم لم يحكموا المغرب]، وسافر منها إلى إصطنبول بتركيا، وبقي غائبا عن وطنه مدة طويلة، وانقطع ذكره حقبة من الزمن، ولما رجع إلى منزله وأهله وقد طعن في سنه؛ صار يلقب بالسائح، وغلب عليه وعلى ذريته إلى الآن....".
ولادته ونشأته:
ولد – رحمه الله تعالى – في الرباط في المغرب، في الثاني عشر من ربيع النبوي عام 1310، فتفاءل والده وأهله جدا أن صادف يوم مولده يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وربما كان هذا هو السبب في تسميته محمدا، فزادت عنايتهم به ومحبتهم له، وما مضت سنين قليلة حتى توفيت والدته، فنشا يتيما، مما حذا والده أن يضاعف جهوده في تعليمه وتثقيفه، وإنشائه النشأة الكاملة.
وقد صادفت نشأة المترجم انتعاشة علمية كبيرة في مدينة الرباط، التي لم تعرف بالعلم قبل القرن الرابع عشر، فظهر فيها أئمة في العلم كبار؛ أمثال الإمام شيخ الجماعة بها أبي إسحاق التادلي، الذي صنف في المذاهب الثلاثة: المالكية والحنفية والشافعية، بل وكان يتقن عدة لغات أوروبية ومشرقية. ومنهم: الإمام حجة الإسلام أبو المحاسن العربي بن محمد ابن السائح، وشيخ الجماعة الزاهد أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن البريبري، والعلامة المعقولي الفرضي الكبير أبو عيسى محمد المهدي مِتْجينوش، وشيخ الجماعة فيما بعد بها: الإمام أبو حامد محمد المكي بن علي البطاوري الغبريني الشرشالي.
ومن علماء سلا – المحاذية للرباط، وهي حاضرة علمية منذ القدم – الإمام المحدث أبو العباس أحمد بن موسى التطواني، وشيخ الجماعة بها: النوازلي أبو العباس أحمد ابن الفقيه الجريري، ومؤرخها أبو عبد الله محمد ابن علي الدكالي...إلخ من كانت تعج بهم تلك البلاد التي ما انتصف القرن الرابع عشر حتى أصبحت (خاصة بعد أن صارت الرباط عاصمة) مزارة للعلماء بمختلف الإدراكات والمواهب:
ثم انقضت تلك البلاد وأهلها===فكأنها وكأنهم أحلام
وقد أخذ مباديء القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم بالرباط على المؤدب الأستاذ: عبد السلام كِليطُو الأندلسي، والأستاذ المربي: المهدي الصحراوي.
وبعد أن حفظ القرآن الكريم، والمتون المهمة في مختلف العلوم؛ صار مهيأ لأن يحضر مجالس كبار العلماء الذين كانت تزخر بهم العُدْوتان الرباط وسلا، في تلك الفترة (حيث هما على ضفتي نهر أبي رقراق)، ثم انتقل للتعلم بكعبة العلم فاس.
طلبه العلم:
أخذ العلم عن ثلة من كبار العلماء ببلده، أذكر منهم:
1- العلامة الفقيه الخلوق: أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن العيّاشي. أخذ عنه الفقه والتوحيد والأخلاق.
2- الأستاذ العلامة، اللغوي النحوي: التهامي بن المعطي الغَربي السلوي. أخذ عنه العربية والتصريف.
3- العلامة الفقيه المشارك، القاضي؛ أبو زيد عبد الرحمن بن بَنَّاصر بْرِيطَل. أخذ عنه الأصول والمنطق، والفرائض والحساب والتوقيت. وبه والذي بعده تفقه.
4- العلامة الفقيه المحقق المدقق، القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد السلام الروندة الأندلسي. أخذ عنه الفقه.
5- الإمام شيخ الجماعة، محمد المكي بن علي البطاوري الشرشالي.
6- العلامة الفقيه النوازلي، الأصولي الإمام؛ أبو العباس أحمد ابن الفقيه الجريري، شيخ الجماعة بسلا. أخذ عنه عدة فنون، جلها بطريق المذاكرة وطرح الأسئلة. مثل: علم الجغرافيا.
7- الشيخ الإمام المحدث، المنسوب إلى درجة الحفظ؛ أبو العباس أحمد ابن موسى التطواني ثم السلوي. الحديث والنحو والصرف.
8- الشيخ الإمام الحافظ المحدث الفقيه؛ أبو شعيب بن عبد الرحمن الدكالي. أخذ عنه الحديث، واستفاد وتأثر به كثيرا.
9- العلامة المقريء، الفرضي الرياضي؛ الشيخ محمد المهدي مَتْجينوش الرباطي، إمام المعقوليات في الرباط في عصره. أخذ عنه القراءات السبعة، والرياضيات والفلك. وكان المذكور لا يقبل في دروسه إلا نبغاء الطلبة.
10- العلامة الإمام، الفقيه الأصولي، المحدث المؤرخ؛ أبو عبد الله محمد بن الحسن الحجوي الفاسي، صاحب "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي". بالزاوية القاسمية بالرباط.
وقد كان متلهفا لشد الرحلة إلى فاس للأخذ عن شيخ الإسلام محمد بن جعفر الكتاني الحسني عند عودته إلى المغرب عام 1345، وتصدره لتدريس مسند الإمام أحمد على طريقة الاجتهاد بجامعة القرويين، فلم يتيسر له ذلك، فكان دائما يتحسر على ما فاته من ذلك. كما أخبرني بذلك نجله الأستاذ الحسن رحمه الله تعالى.
أما شيوخه في الرواية؛ فمنهم: القاضي أبو العباس أحمد بن محمد بناني الرباطي، أجازه بالبخاري و"الشمائل"، وسنن الترمذي، و"الشفا" لعياض، والجامعين. والعلامة البطاوري، والإمام ابن الخياط، والحافظ القادري، والشيخ متجينوش، والإمام اللغوي النوازلي البليغ أبو العباس أحمد بن المأمون البلغيثي العلوي الحسني، والفقيه الوزاني المذكور أعلاه.
ولم يكتف المترجم – رحمه الله - بالأخذ عن هؤلاء الشيوخ، إذ فيهم الكفاية لمن رام الكفاية، بل تعدى ذلك إلى الاطلاع على العلوم العصرية بمختلف أنواعها، من رياضيات وتاريخ وجغرافيا، وطب وسياسة...وغير ذلك. بل حتى الفلسفة الوروبية، فقد اطلع على فلسفة الغربيين ونظرياتهم وتهافتاتهم، حتى إنه تعلم اللغة الفرنسية من أجل ذلك، مما هيأه أن يكون أحد زعماء الفكر الإسلامي – في المغرب على الأقل – في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري. ويكفي لمعرفة مدى نبوغه: الاطلاع على كتابه "تحقيق الأمنية مما لاح لي من حديث: إنا أمة أمية"، الذي – على صغر حجمه – يدل على تبحر فائق في الفقه والأصول، وفهم لفلسفة التشريع ومقاصد الشريعة.
وظائفه:
تقلد المترجم – رحمه الله تعالى – وظائف كثيرة، كان فيها محل النزاهة وحسن التدبير:
فقد انخرط في سلك المدرسين في أول ثانوية في الرباط، وهي "ثانوية مولاي يوسف"، كما كانت له حصص في "معهد الدروس العليا"، بإلقاء محاضرات في الأدب واللغة والتاريخ، والفكر الإسلامي.
وكلف بمهمة استخراج سمت القبلة بمسجد باريس، فكان له أجر من صلى في ذلك المسجد إلى الآن، إن شاء الله تعالى، طبقا لحديث: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيئا"، وقد دون رحلته هاته.
ثم عمل عضوا في المحكمة العليا، ثم انتقل إلى "مجلس الاستئناف" الذي كانت مهمته تصفح الأحكام الشرعية الواردة من القضاة، إما لتصحيحها أو نقضها، أو للأمر بتتميم ما بها من نقص، وكان المجلس يومئذ ذا رونق واعتبار، به جلة من العلماء المنتقين من المغرب(2).
ثم عين عام 1350 قاضيا في منطقة وادي زَمْ (بتغليظ الزاي والميم)، وخريبكة، وبمدينة "الجديدة" قرب الدار البيضاء، وذلك عام 1348، ومنها إلى منطقة "شَرَاكَة" وأولاد عيسى ناحية فاس.
وفي هذه الفترة قام بتدريس التفسير، وصحيح البخاري بجامع القرويين الأعظم بفاس، عمره الله تعالى بذكره، وازدحم عليه طلبة العلم وغيرهم، مما تسبب في منع الاستعمار له من إتمام التدريس به خشية أن يهيج الناس ضد الاستعمار بأفكاره التحريرية(3).
وقد كان أخبرني نجله الأستاذ الحسن السائح رحمه الله، بأن السبب في التفاف طلبة العلم والعلماء على والده الفقيه السائح رحمه الله، هو جدنا الإمام محمد المنتصر بالله الكتاني رحمه الله تعالى، ذلك أنه وجده في جامع القرويين لا يعرفه إلا خاصة الخاصة، وكان على علم مسبق به وبعلمه، لعلاقته القريبة من العائلة الكتانية، فنادى طلبة العلم وحض الشباب عليه، فاجتمعوا إليه من كل حدب وصوب، خاصة النبغاء ورواد الحركة الوطنية، الذين كانوا متعطشين لكل جديد.
ثم انتقل إلى قضاء مقصورة الرصيف بفاس عام 1355، وكان في ذلك محل العالم النزيه في مختلف أحكامه.
وفي عام 1366 سافر لحج بيت الله الحرام، وعند عودته شعر بوعكة صحية طلب إثرها الانتقال من فاس إلى مكناس، فانتقل قاضيا بها إلى أن وافته المنية رحمه الله تعالى.
دروسه:
أما دروسه؛ فقد كان يأتي فيها من كل فن بطرف، وقد وصفها العلامة المنوني بقوله: "كل هذه العلوم كان الفقيد – رحمة الله عليه – يقرر مسائل كثيرة منها في دروسه بالقرويين، التي كانت جنة علم قطوفها دانية، وحديقة عرفان: حفظ باهر، واطلاع واسع، وتطبيق للقواعد تطبيق العالم الخريت، وتحقيق وتدقيق، في عبارة رشيقة، وأسلوب سهل سلس، حيث إن الشيخ - روّح الله روحه – كان يميل إلى التيسير في سائر أموره..." (4).
ووصفها ابن الحاج في مشيخته ص136 بقوله: "كانت تلك الدروس مملوءة بالفوائد الممتعة، والقواعد المحررة، والطرائف البديعة. وكان يستحضر كثيرا من الأبيات والمقطوعات الشعرية، والشواهد العلمية، وكان فصيح اللسان، حلو العبارة، مليح الإشارة، وكان لتعبيره رنة موسيقية ونغمة عذبة، خصوصا عند تلاوة بعض الآي القرآنية التي كان يفسرها، وكانت مجالسه العلمية تغص بالطلبة النجباء المستفيدين، وتكتظ بالعامة المتعطشة لالتقاط درره البهية، وفرائده الغالية، وجواهره الثمينة...".
ووصفها العلامة عبد الله الجراري بقوله: "كانت خطته في تدريس السنة تهدف في طريقها خطة شيخه الحافظ [أبي شعيب الدكالي]، يبتديء عقب شرح الترجمة بتعريف قريب ببعض الرواة، خاصة صحابي الحديث، وهنا يمتزج ذلك بما تدعوا إليه قواعد الفن ومصطلحاته، موردا شواهدها من ألفية العراقي، وعند الاقتضاء: بما يؤثر عن صحابي السند أو بعض رواته من واقعة تاريخية، أو نكتة أدبية شعرية أو نثرية، مع إبراز ما يوجد بين بعض الصحابة من مفارقات أو قربى في النسب، أو ما يتوفر عليه بيت آحادهم من الصحابيين المعروفين كواقع أنس بن مالك وأضرابه".
"وعندما يبلغ الأستاذ إلى نص الحديث ومتنه؛ يتفرغ لتحليله عارضا اختلافات الشارحين في روايته وإعرابه وتفسيره، ويهدف متخيرا الوجهة التي تترجح عنده فيوضحها أيما إيضاح، ويعزز ذلك بمقارنات حديثية، واستشهادات لغوية أو نحوية، ويرى في الأثناء مفيضا في استخراج ما يحتويه النص من نكت بلاغية أو بديعية، ويقارن الموضوع – أحيانا – بإنشادات شعرية قد يطغى عليها الأدب الأندلسي، في قطع شعرية أو قصائد طويلة...".
"وإثر هذا يأتي دور مستنبطات الحديث ومستفاداته، فيتنزل لتعليلها طبق ما توحي به قواعد أصول الفقه، ذاكرا الفقه المقارن، ومبرزا القاعدة الأصلية التي يستند إليها كل فريق، وحينما يرجع المستند إلى القياس، يجلى المسلك التعليلي مع ما قد يعرض له من قادح أو قوادح، ويزيد الموضوع دقة بما قد يتطلبه من الإحالة على بعض القواعد المنطقية".
"وإلى جانب اعتماده في أصول الفقه على "جمع الجوامع" لتاج الدين السبكي؛ نجده يرجع كثيرا إلى كتاب "الموافقات" للشاطبي، مستحضرا مسائلها استحضارا، ومستعرضا قواعدها، وقتا تراه يحتذي حذوها معرفا بأسرار التشريع الإسلامي، ومضيفا لذلك في ذات الاتجاه أفكار نفس المؤلف في المثبت من كتابه "الاعتصام"، إلى نظريات ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين".
"كما أنه يوضح عند الاقتضاء شرح ما تلمح له بعض الأحاديث من أهداف اجتماعية، مقارنا ذلك بما لابن خلدون في "المقدمة". ومن جهة ثانية: نجده يقابل بين أحاديث أخرى وما ترمي له من إشارات لواقع بعض المكتشفات الحديثة، مع إفاضة في هذا الشأن بالإحالات على المصادر المعاصرة عربية أو معربة".
"ويخلل في عدة مناسبات دروسه الحديثية بتفسير القرآن الكريم، فقد أقرأ في بعض الأيام تفسير سورة النور، وفي حقبة أخرى تفسير سورة الجن، وهو في كل تلك المراحل كما عهدناه ينسق عرض الدرس من حفظه تنسيقا، ويؤديه بصوت جهوري وبأفصح تعبير وأوضح بيان، مع تمهل في الإلقاء، وتؤدة في جلسته وحركاته كمان يدرك ذلك نبغاء طلبته". انتهى كلام الجراري بطوله لما فيه من الفوائد.
كما كانت له – رحمه الله – مشاركات في المسامرات العلمية التي كانت تعقدها عدة نوادي علمية وأدبية في مختلف مدن المغرب، تلك المسامرات التي كان يحضرها كبار علماء ونبغاء المغرب، ويظهر كل منهم حاد نظره وعقله في البحث والتنقيب في مسألة من المسائل العلمية أو الفكرية أو التاريخية، ولو لم يكن من فضلها إلا حضور أئمة الوقت ومشاركتهم فيها؛ أمثال حافظ الإسلام ونادرة الدهر الشيخ عبد الحي الكتاني، والحافظ الكبير الشيخ أبي شعيب الدكالي، والإمام البلغيثي، والصاعقة ابن الحُسْني؛ لكفاها أهمية ومجادة.
ويا ليت لو تنتشر هذه السنة الحسنة مرة أخرى في مختلف دول العالم الإسلامي، وإن كانت موجودة إلى الآن، وهي موجودة في نطاق ضيق، لأنتجت الثمرة المطلوبة من العلم والبحث، والمقارعة الفلسفية العميقة بين أسنة العقول، على أن تُدون كل مسامرة، ثم تجمع المسامرات وتطبع على هيئة بحوث علمية هادفة، تزهر الحضارة الإسلامية بمختلف الميادين.
قال الأستاذ عبد الهادي بوطالب: "وقد أولع – رحمة الله عليه – بمقارنة علم الشرق بعلم الغرب، ومقابلة نظريات ذلك بنظريات هذا، فأبحاثه عن ابن سينا وفلسفة إخوان الصفا تفتح له المجال لديكارت ومذهبه الفلسفي، وحين يتحدث عن أبي ذر الغفاري ومذهبه في الاشتراكية، ينتقل إلى فلسفة ماركس ولينين الاجتماعية...وهك ا دواليك".
"ولقد كان السائح في آخر عمره يبحث في دراسة الذرة، ويريد استكناه حقيقتها، ولعله كان يحاول أن يجد لها مصدرا في الكتاب والسنة وآراء علمائنا"..
"ويمتاز السائح بفكر حر قادر على الهضم، يعرف كيف يحسن الضيافة للجديد دون أن يضايق القديم، وبهذه الشجاعة التي كان يتسلح بها لهتك حجاب الحقائق الخفية وفض مكنوناتها"(5).
حاله:
كان – رحمه الله تعالى – إماما من أئمة العلم، ورائدا من رواده، ما ترك فنا من الفنون إلا وقرع بابه، ودخل ميدانه، حتى كان كعبة يطوف بها الوراد، وفحلا يفزع إليه رواد المعرفة والثقافة والعلوم.
إماما في الفقه في الفقه المالكي، ذا معرفة فيه وإتقان، مطلعا على الخلاف العالي، مرجوعا إليه فيه، ذا فهم وقاد، وذهن حاد، حتى عين قاضيا بمقصورة الرصيف بفاس، ولم يكن يعين قاضيا في فاس عادة إلا من تبحر في العلوم، خاصة الفقه والنوازل.
وفي الأصول: كان أحد أساطينه، "سخرت له مسائله وقواعده طبيعة منقادة له، يتصرف فيها كيف شاء، وفي أي وقت أراد"(6). كما وصفه العلامة المنوني رحمه الله، صاحب فهم دقيق، ومنزع عميق، واستيعاب لفلسفة التشريع ومدارك الشريعة.
وكانت له مشاركة قوية في علم التفسير، متذوقا لمعاني الآيات، فاهما مقاصدها ومعانيها ومواقعها.
و "كان أحد أولئك المحدثين الكبار بهذه البلاد المغربية، حافظا كبيرا(7)، يستظهر الكثير الطيب من الأحاديث والمصنفات المتداولة وغير المتداولة"(8)، كما قاله شيخنا المنوني.
وكان في اللغة وعلومها – خاصة البلاغة والبيان – أحد رجالاتها الأئمة المتعمقين فيها، علما وتطبيقا، كأن مسائلها على طرف لسانه.
"وكان أحد شيوخ الأدب في عصره، ومن ذوي الاطلاع على الآداب القديمة والحديثة".
"هذا إلى تضلع كبير في باقي العلوم؛ من فقه ولغة ونحو وغيرها، مع كرع من مناهل العلوم العصرية"(9)..كما نص عليه المنوني رحمه الله.
أما في التصوف – بمعنى علوم الرقائق والإشارات – فقد كان له فيه ذوق سليم، وفهم كريم، متذوقا لكلام أهله، فاهما مدلوله وأسراره، غير واقف على جفاء ظاهره، ولا أدل على ذلك من تأليفه "فصل المقال، فيما بين العقل والشريعة من الاتصال"، كما نبه على ذلك العلامة الجراري رحمه الله.
وكان – رحمه الله – حسن الأخلاق، جميل الخَلق والخُلق، حسن العشرة، مكرما لضيفه، لا ذكر في مجلسه إلا في العلم والثقافة، والبحث، لا محل للغيبة ولا نميمة ولا لغو، مجالسه كلها عامرة بشتى أفانين المعرفة.
كما كان – رحمه الله – كريم المائدة، بشوشا، محبا للضيوف وأهل العلم، رافعا همته في إعزاز أمة الإسلام، والنهوض بها نحو المعرفة الراقية العالية، ملفحا أفكار وأذهان تلاميذه بهذه المعاني الصائبة، رحمه الله تعالى.
والحاصل؛ فقد كان أحد الأئمة المبرزين، والفلاسفة المتعمقين، وأساطين العلم الذين يفتخر بهم المسلمون على غيرهم من الأمم، جمع بين العصرانية والدين المتين، والمرجعية إلى الكتاب والسنة، لم تجرفه تيارات الغرب فيمن جرفتهم نحو العلمانية والتهافت، كما لا يخفى في كتابات كثير من كتاب القرن الرابع عشر الذين جمعوا بين العلوم الشرعية والثقافة الغربية.
-يتبع-
بقلم الدكتور الشريف محمد حمزة بن علي الكتاني
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...وبعد؛
فقد أنتج المغرب الأقصا في القرن الرابع عشر الهجري أعلاما كبارا يفاخر بهم غيره منالأقطار، جمعوا العلم المتقن والضبط والتحري إلى العلوم العصرية، فاجتهدوا وبحثوا وأفادوا الأمة بزخم معرفي يشكل لبنة مهمة في الفقه والفكر الإسلامي، وبهذه المناسبة؛ فإنني أعرف القاريء بترجمة أحد أئمة القرن الرابع عشر المرموقين، وأعلامه الأفذاذ، ألا وهو: أبو عبد الله محمد بن عبد السلام السائح الأندلسي ثم الرباطي، رحمه الله تعالى:
اسمه ونسبه:
هو الشيخ الإمام، المشارك الفقيه، الأصولي المحدث النظار، الأديب الفيلسوف، نادرة العلماء في الثقافة؛ القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن عبد الرحمن السائح، الأندلسي وجارا، الرباطي دارا، ومنشأ وإقبارا.
كان أسلافه في "الجزيرة الخضراء" جنوب الأندلس (إسبانيا اليوم)، ثم انتقلوا إلى الرباط بعد مدة من سقوط غرناطة، ضمن من انتقل إليها من الأسر الأندلسية الكثيرة، حتى أصبحت الرباط وسلا صورة من الأندلس في بلاد المغرب.
وقد فصل المترجم – رحمه الله – في مقدمة كتابه "سوق المهر إلى قافية ابن عمرو" قصة خروج الأسر الأندلسية إلى الرباط – خاصة – ومدى تأثيرها على الحياة الثقافية والصناعية والعلمية في المغرب تلك الفترة.
قال العلامة الفقيه أبو عبد الله محمد بن الفاطمي ابن الحاج السلمي الفاسي في معجم شيوخه ص205: "وقد كان هذا البيت مشهورا ب: العِماني، ثم اشتهر بالعِماني السائح، ثم أهمل العِماني وبقي "السائح"، والذي اشتهر باللقب الأخير هو جد المترجم: السيد عبد الرحمن. وسبب الاشتهار به: أنه انخرط في صفوف الجندية التركية بالجزائر في عهد حكم الأتراك [أي: للجزائر، لأنهم لم يحكموا المغرب]، وسافر منها إلى إصطنبول بتركيا، وبقي غائبا عن وطنه مدة طويلة، وانقطع ذكره حقبة من الزمن، ولما رجع إلى منزله وأهله وقد طعن في سنه؛ صار يلقب بالسائح، وغلب عليه وعلى ذريته إلى الآن....".
ولادته ونشأته:
ولد – رحمه الله تعالى – في الرباط في المغرب، في الثاني عشر من ربيع النبوي عام 1310، فتفاءل والده وأهله جدا أن صادف يوم مولده يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وربما كان هذا هو السبب في تسميته محمدا، فزادت عنايتهم به ومحبتهم له، وما مضت سنين قليلة حتى توفيت والدته، فنشا يتيما، مما حذا والده أن يضاعف جهوده في تعليمه وتثقيفه، وإنشائه النشأة الكاملة.
وقد صادفت نشأة المترجم انتعاشة علمية كبيرة في مدينة الرباط، التي لم تعرف بالعلم قبل القرن الرابع عشر، فظهر فيها أئمة في العلم كبار؛ أمثال الإمام شيخ الجماعة بها أبي إسحاق التادلي، الذي صنف في المذاهب الثلاثة: المالكية والحنفية والشافعية، بل وكان يتقن عدة لغات أوروبية ومشرقية. ومنهم: الإمام حجة الإسلام أبو المحاسن العربي بن محمد ابن السائح، وشيخ الجماعة الزاهد أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن البريبري، والعلامة المعقولي الفرضي الكبير أبو عيسى محمد المهدي مِتْجينوش، وشيخ الجماعة فيما بعد بها: الإمام أبو حامد محمد المكي بن علي البطاوري الغبريني الشرشالي.
ومن علماء سلا – المحاذية للرباط، وهي حاضرة علمية منذ القدم – الإمام المحدث أبو العباس أحمد بن موسى التطواني، وشيخ الجماعة بها: النوازلي أبو العباس أحمد ابن الفقيه الجريري، ومؤرخها أبو عبد الله محمد ابن علي الدكالي...إلخ من كانت تعج بهم تلك البلاد التي ما انتصف القرن الرابع عشر حتى أصبحت (خاصة بعد أن صارت الرباط عاصمة) مزارة للعلماء بمختلف الإدراكات والمواهب:
ثم انقضت تلك البلاد وأهلها===فكأنها وكأنهم أحلام
وقد أخذ مباديء القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم بالرباط على المؤدب الأستاذ: عبد السلام كِليطُو الأندلسي، والأستاذ المربي: المهدي الصحراوي.
وبعد أن حفظ القرآن الكريم، والمتون المهمة في مختلف العلوم؛ صار مهيأ لأن يحضر مجالس كبار العلماء الذين كانت تزخر بهم العُدْوتان الرباط وسلا، في تلك الفترة (حيث هما على ضفتي نهر أبي رقراق)، ثم انتقل للتعلم بكعبة العلم فاس.
طلبه العلم:
أخذ العلم عن ثلة من كبار العلماء ببلده، أذكر منهم:
1- العلامة الفقيه الخلوق: أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن العيّاشي. أخذ عنه الفقه والتوحيد والأخلاق.
2- الأستاذ العلامة، اللغوي النحوي: التهامي بن المعطي الغَربي السلوي. أخذ عنه العربية والتصريف.
3- العلامة الفقيه المشارك، القاضي؛ أبو زيد عبد الرحمن بن بَنَّاصر بْرِيطَل. أخذ عنه الأصول والمنطق، والفرائض والحساب والتوقيت. وبه والذي بعده تفقه.
4- العلامة الفقيه المحقق المدقق، القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد السلام الروندة الأندلسي. أخذ عنه الفقه.
5- الإمام شيخ الجماعة، محمد المكي بن علي البطاوري الشرشالي.
6- العلامة الفقيه النوازلي، الأصولي الإمام؛ أبو العباس أحمد ابن الفقيه الجريري، شيخ الجماعة بسلا. أخذ عنه عدة فنون، جلها بطريق المذاكرة وطرح الأسئلة. مثل: علم الجغرافيا.
7- الشيخ الإمام المحدث، المنسوب إلى درجة الحفظ؛ أبو العباس أحمد ابن موسى التطواني ثم السلوي. الحديث والنحو والصرف.
8- الشيخ الإمام الحافظ المحدث الفقيه؛ أبو شعيب بن عبد الرحمن الدكالي. أخذ عنه الحديث، واستفاد وتأثر به كثيرا.
9- العلامة المقريء، الفرضي الرياضي؛ الشيخ محمد المهدي مَتْجينوش الرباطي، إمام المعقوليات في الرباط في عصره. أخذ عنه القراءات السبعة، والرياضيات والفلك. وكان المذكور لا يقبل في دروسه إلا نبغاء الطلبة.
10- العلامة الإمام، الفقيه الأصولي، المحدث المؤرخ؛ أبو عبد الله محمد بن الحسن الحجوي الفاسي، صاحب "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي". بالزاوية القاسمية بالرباط.
وقد كان متلهفا لشد الرحلة إلى فاس للأخذ عن شيخ الإسلام محمد بن جعفر الكتاني الحسني عند عودته إلى المغرب عام 1345، وتصدره لتدريس مسند الإمام أحمد على طريقة الاجتهاد بجامعة القرويين، فلم يتيسر له ذلك، فكان دائما يتحسر على ما فاته من ذلك. كما أخبرني بذلك نجله الأستاذ الحسن رحمه الله تعالى.
أما شيوخه في الرواية؛ فمنهم: القاضي أبو العباس أحمد بن محمد بناني الرباطي، أجازه بالبخاري و"الشمائل"، وسنن الترمذي، و"الشفا" لعياض، والجامعين. والعلامة البطاوري، والإمام ابن الخياط، والحافظ القادري، والشيخ متجينوش، والإمام اللغوي النوازلي البليغ أبو العباس أحمد بن المأمون البلغيثي العلوي الحسني، والفقيه الوزاني المذكور أعلاه.
ولم يكتف المترجم – رحمه الله - بالأخذ عن هؤلاء الشيوخ، إذ فيهم الكفاية لمن رام الكفاية، بل تعدى ذلك إلى الاطلاع على العلوم العصرية بمختلف أنواعها، من رياضيات وتاريخ وجغرافيا، وطب وسياسة...وغير ذلك. بل حتى الفلسفة الوروبية، فقد اطلع على فلسفة الغربيين ونظرياتهم وتهافتاتهم، حتى إنه تعلم اللغة الفرنسية من أجل ذلك، مما هيأه أن يكون أحد زعماء الفكر الإسلامي – في المغرب على الأقل – في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري. ويكفي لمعرفة مدى نبوغه: الاطلاع على كتابه "تحقيق الأمنية مما لاح لي من حديث: إنا أمة أمية"، الذي – على صغر حجمه – يدل على تبحر فائق في الفقه والأصول، وفهم لفلسفة التشريع ومقاصد الشريعة.
وظائفه:
تقلد المترجم – رحمه الله تعالى – وظائف كثيرة، كان فيها محل النزاهة وحسن التدبير:
فقد انخرط في سلك المدرسين في أول ثانوية في الرباط، وهي "ثانوية مولاي يوسف"، كما كانت له حصص في "معهد الدروس العليا"، بإلقاء محاضرات في الأدب واللغة والتاريخ، والفكر الإسلامي.
وكلف بمهمة استخراج سمت القبلة بمسجد باريس، فكان له أجر من صلى في ذلك المسجد إلى الآن، إن شاء الله تعالى، طبقا لحديث: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيئا"، وقد دون رحلته هاته.
ثم عمل عضوا في المحكمة العليا، ثم انتقل إلى "مجلس الاستئناف" الذي كانت مهمته تصفح الأحكام الشرعية الواردة من القضاة، إما لتصحيحها أو نقضها، أو للأمر بتتميم ما بها من نقص، وكان المجلس يومئذ ذا رونق واعتبار، به جلة من العلماء المنتقين من المغرب(2).
ثم عين عام 1350 قاضيا في منطقة وادي زَمْ (بتغليظ الزاي والميم)، وخريبكة، وبمدينة "الجديدة" قرب الدار البيضاء، وذلك عام 1348، ومنها إلى منطقة "شَرَاكَة" وأولاد عيسى ناحية فاس.
وفي هذه الفترة قام بتدريس التفسير، وصحيح البخاري بجامع القرويين الأعظم بفاس، عمره الله تعالى بذكره، وازدحم عليه طلبة العلم وغيرهم، مما تسبب في منع الاستعمار له من إتمام التدريس به خشية أن يهيج الناس ضد الاستعمار بأفكاره التحريرية(3).
وقد كان أخبرني نجله الأستاذ الحسن السائح رحمه الله، بأن السبب في التفاف طلبة العلم والعلماء على والده الفقيه السائح رحمه الله، هو جدنا الإمام محمد المنتصر بالله الكتاني رحمه الله تعالى، ذلك أنه وجده في جامع القرويين لا يعرفه إلا خاصة الخاصة، وكان على علم مسبق به وبعلمه، لعلاقته القريبة من العائلة الكتانية، فنادى طلبة العلم وحض الشباب عليه، فاجتمعوا إليه من كل حدب وصوب، خاصة النبغاء ورواد الحركة الوطنية، الذين كانوا متعطشين لكل جديد.
ثم انتقل إلى قضاء مقصورة الرصيف بفاس عام 1355، وكان في ذلك محل العالم النزيه في مختلف أحكامه.
وفي عام 1366 سافر لحج بيت الله الحرام، وعند عودته شعر بوعكة صحية طلب إثرها الانتقال من فاس إلى مكناس، فانتقل قاضيا بها إلى أن وافته المنية رحمه الله تعالى.
دروسه:
أما دروسه؛ فقد كان يأتي فيها من كل فن بطرف، وقد وصفها العلامة المنوني بقوله: "كل هذه العلوم كان الفقيد – رحمة الله عليه – يقرر مسائل كثيرة منها في دروسه بالقرويين، التي كانت جنة علم قطوفها دانية، وحديقة عرفان: حفظ باهر، واطلاع واسع، وتطبيق للقواعد تطبيق العالم الخريت، وتحقيق وتدقيق، في عبارة رشيقة، وأسلوب سهل سلس، حيث إن الشيخ - روّح الله روحه – كان يميل إلى التيسير في سائر أموره..." (4).
ووصفها ابن الحاج في مشيخته ص136 بقوله: "كانت تلك الدروس مملوءة بالفوائد الممتعة، والقواعد المحررة، والطرائف البديعة. وكان يستحضر كثيرا من الأبيات والمقطوعات الشعرية، والشواهد العلمية، وكان فصيح اللسان، حلو العبارة، مليح الإشارة، وكان لتعبيره رنة موسيقية ونغمة عذبة، خصوصا عند تلاوة بعض الآي القرآنية التي كان يفسرها، وكانت مجالسه العلمية تغص بالطلبة النجباء المستفيدين، وتكتظ بالعامة المتعطشة لالتقاط درره البهية، وفرائده الغالية، وجواهره الثمينة...".
ووصفها العلامة عبد الله الجراري بقوله: "كانت خطته في تدريس السنة تهدف في طريقها خطة شيخه الحافظ [أبي شعيب الدكالي]، يبتديء عقب شرح الترجمة بتعريف قريب ببعض الرواة، خاصة صحابي الحديث، وهنا يمتزج ذلك بما تدعوا إليه قواعد الفن ومصطلحاته، موردا شواهدها من ألفية العراقي، وعند الاقتضاء: بما يؤثر عن صحابي السند أو بعض رواته من واقعة تاريخية، أو نكتة أدبية شعرية أو نثرية، مع إبراز ما يوجد بين بعض الصحابة من مفارقات أو قربى في النسب، أو ما يتوفر عليه بيت آحادهم من الصحابيين المعروفين كواقع أنس بن مالك وأضرابه".
"وعندما يبلغ الأستاذ إلى نص الحديث ومتنه؛ يتفرغ لتحليله عارضا اختلافات الشارحين في روايته وإعرابه وتفسيره، ويهدف متخيرا الوجهة التي تترجح عنده فيوضحها أيما إيضاح، ويعزز ذلك بمقارنات حديثية، واستشهادات لغوية أو نحوية، ويرى في الأثناء مفيضا في استخراج ما يحتويه النص من نكت بلاغية أو بديعية، ويقارن الموضوع – أحيانا – بإنشادات شعرية قد يطغى عليها الأدب الأندلسي، في قطع شعرية أو قصائد طويلة...".
"وإثر هذا يأتي دور مستنبطات الحديث ومستفاداته، فيتنزل لتعليلها طبق ما توحي به قواعد أصول الفقه، ذاكرا الفقه المقارن، ومبرزا القاعدة الأصلية التي يستند إليها كل فريق، وحينما يرجع المستند إلى القياس، يجلى المسلك التعليلي مع ما قد يعرض له من قادح أو قوادح، ويزيد الموضوع دقة بما قد يتطلبه من الإحالة على بعض القواعد المنطقية".
"وإلى جانب اعتماده في أصول الفقه على "جمع الجوامع" لتاج الدين السبكي؛ نجده يرجع كثيرا إلى كتاب "الموافقات" للشاطبي، مستحضرا مسائلها استحضارا، ومستعرضا قواعدها، وقتا تراه يحتذي حذوها معرفا بأسرار التشريع الإسلامي، ومضيفا لذلك في ذات الاتجاه أفكار نفس المؤلف في المثبت من كتابه "الاعتصام"، إلى نظريات ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين".
"كما أنه يوضح عند الاقتضاء شرح ما تلمح له بعض الأحاديث من أهداف اجتماعية، مقارنا ذلك بما لابن خلدون في "المقدمة". ومن جهة ثانية: نجده يقابل بين أحاديث أخرى وما ترمي له من إشارات لواقع بعض المكتشفات الحديثة، مع إفاضة في هذا الشأن بالإحالات على المصادر المعاصرة عربية أو معربة".
"ويخلل في عدة مناسبات دروسه الحديثية بتفسير القرآن الكريم، فقد أقرأ في بعض الأيام تفسير سورة النور، وفي حقبة أخرى تفسير سورة الجن، وهو في كل تلك المراحل كما عهدناه ينسق عرض الدرس من حفظه تنسيقا، ويؤديه بصوت جهوري وبأفصح تعبير وأوضح بيان، مع تمهل في الإلقاء، وتؤدة في جلسته وحركاته كمان يدرك ذلك نبغاء طلبته". انتهى كلام الجراري بطوله لما فيه من الفوائد.
كما كانت له – رحمه الله – مشاركات في المسامرات العلمية التي كانت تعقدها عدة نوادي علمية وأدبية في مختلف مدن المغرب، تلك المسامرات التي كان يحضرها كبار علماء ونبغاء المغرب، ويظهر كل منهم حاد نظره وعقله في البحث والتنقيب في مسألة من المسائل العلمية أو الفكرية أو التاريخية، ولو لم يكن من فضلها إلا حضور أئمة الوقت ومشاركتهم فيها؛ أمثال حافظ الإسلام ونادرة الدهر الشيخ عبد الحي الكتاني، والحافظ الكبير الشيخ أبي شعيب الدكالي، والإمام البلغيثي، والصاعقة ابن الحُسْني؛ لكفاها أهمية ومجادة.
ويا ليت لو تنتشر هذه السنة الحسنة مرة أخرى في مختلف دول العالم الإسلامي، وإن كانت موجودة إلى الآن، وهي موجودة في نطاق ضيق، لأنتجت الثمرة المطلوبة من العلم والبحث، والمقارعة الفلسفية العميقة بين أسنة العقول، على أن تُدون كل مسامرة، ثم تجمع المسامرات وتطبع على هيئة بحوث علمية هادفة، تزهر الحضارة الإسلامية بمختلف الميادين.
قال الأستاذ عبد الهادي بوطالب: "وقد أولع – رحمة الله عليه – بمقارنة علم الشرق بعلم الغرب، ومقابلة نظريات ذلك بنظريات هذا، فأبحاثه عن ابن سينا وفلسفة إخوان الصفا تفتح له المجال لديكارت ومذهبه الفلسفي، وحين يتحدث عن أبي ذر الغفاري ومذهبه في الاشتراكية، ينتقل إلى فلسفة ماركس ولينين الاجتماعية...وهك ا دواليك".
"ولقد كان السائح في آخر عمره يبحث في دراسة الذرة، ويريد استكناه حقيقتها، ولعله كان يحاول أن يجد لها مصدرا في الكتاب والسنة وآراء علمائنا"..
"ويمتاز السائح بفكر حر قادر على الهضم، يعرف كيف يحسن الضيافة للجديد دون أن يضايق القديم، وبهذه الشجاعة التي كان يتسلح بها لهتك حجاب الحقائق الخفية وفض مكنوناتها"(5).
حاله:
كان – رحمه الله تعالى – إماما من أئمة العلم، ورائدا من رواده، ما ترك فنا من الفنون إلا وقرع بابه، ودخل ميدانه، حتى كان كعبة يطوف بها الوراد، وفحلا يفزع إليه رواد المعرفة والثقافة والعلوم.
إماما في الفقه في الفقه المالكي، ذا معرفة فيه وإتقان، مطلعا على الخلاف العالي، مرجوعا إليه فيه، ذا فهم وقاد، وذهن حاد، حتى عين قاضيا بمقصورة الرصيف بفاس، ولم يكن يعين قاضيا في فاس عادة إلا من تبحر في العلوم، خاصة الفقه والنوازل.
وفي الأصول: كان أحد أساطينه، "سخرت له مسائله وقواعده طبيعة منقادة له، يتصرف فيها كيف شاء، وفي أي وقت أراد"(6). كما وصفه العلامة المنوني رحمه الله، صاحب فهم دقيق، ومنزع عميق، واستيعاب لفلسفة التشريع ومدارك الشريعة.
وكانت له مشاركة قوية في علم التفسير، متذوقا لمعاني الآيات، فاهما مقاصدها ومعانيها ومواقعها.
و "كان أحد أولئك المحدثين الكبار بهذه البلاد المغربية، حافظا كبيرا(7)، يستظهر الكثير الطيب من الأحاديث والمصنفات المتداولة وغير المتداولة"(8)، كما قاله شيخنا المنوني.
وكان في اللغة وعلومها – خاصة البلاغة والبيان – أحد رجالاتها الأئمة المتعمقين فيها، علما وتطبيقا، كأن مسائلها على طرف لسانه.
"وكان أحد شيوخ الأدب في عصره، ومن ذوي الاطلاع على الآداب القديمة والحديثة".
"هذا إلى تضلع كبير في باقي العلوم؛ من فقه ولغة ونحو وغيرها، مع كرع من مناهل العلوم العصرية"(9)..كما نص عليه المنوني رحمه الله.
أما في التصوف – بمعنى علوم الرقائق والإشارات – فقد كان له فيه ذوق سليم، وفهم كريم، متذوقا لكلام أهله، فاهما مدلوله وأسراره، غير واقف على جفاء ظاهره، ولا أدل على ذلك من تأليفه "فصل المقال، فيما بين العقل والشريعة من الاتصال"، كما نبه على ذلك العلامة الجراري رحمه الله.
وكان – رحمه الله – حسن الأخلاق، جميل الخَلق والخُلق، حسن العشرة، مكرما لضيفه، لا ذكر في مجلسه إلا في العلم والثقافة، والبحث، لا محل للغيبة ولا نميمة ولا لغو، مجالسه كلها عامرة بشتى أفانين المعرفة.
كما كان – رحمه الله – كريم المائدة، بشوشا، محبا للضيوف وأهل العلم، رافعا همته في إعزاز أمة الإسلام، والنهوض بها نحو المعرفة الراقية العالية، ملفحا أفكار وأذهان تلاميذه بهذه المعاني الصائبة، رحمه الله تعالى.
والحاصل؛ فقد كان أحد الأئمة المبرزين، والفلاسفة المتعمقين، وأساطين العلم الذين يفتخر بهم المسلمون على غيرهم من الأمم، جمع بين العصرانية والدين المتين، والمرجعية إلى الكتاب والسنة، لم تجرفه تيارات الغرب فيمن جرفتهم نحو العلمانية والتهافت، كما لا يخفى في كتابات كثير من كتاب القرن الرابع عشر الذين جمعوا بين العلوم الشرعية والثقافة الغربية.
-يتبع-