مشاهدة النسخة كاملة : التعليقات الحِسان على كتاب: (روائع البيان في تفسير آيات الأحكام) للصابوني.
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-02, 04:51 AM
معلوم ما للصابوني من يد في التفسير، فله كتب أعتنت بتفسير كتاب الله عز وجل، ولكن معلوم أيضًا ما وقع فيه من أخطاء في تلك الكتب نبه على بعضها كثير من مشايخنا وعلمائنا أمثال: العلامة ابن باز وابن عثيمين والألباني وبكر أبو زيد والفوزان وغيرهم.
ومن تلك الكتب كتاب: (روائع البيان في تفسير آيات الأحكام)، وهذا الكتاب كان مقررًا في بعض المعاهد الشرعية في السنة الثانية وقمت بشرحه وأثناء الشرح كنت أقف على بعض الأخطاء في الترجيحات الفقهية وتأويل بعض الصفات وعدم إعطاء الأحاديث حقها من حيث التصحيح والتضعيف وغير ذلك، فعزمت التنبيه على ما أقف عليه، وفعلت ذلك بالفعل في الفاتحة، وهممت بنشرها في مجلسنا المبارك من باب المذاكرة والمناقشة، سائلًا الله عز وجل السداد والتوفيق وحسن القصد وحسن الخاتمة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-02, 04:58 AM
التعليقات الحِسان
على كتاب روائع البيان
في
تفسير آيات الأحكام
للصابوني
بقلم أبي البراء محمد بن عبد المنعم آل عِلاوة
المحاضرة الأولى
فاتحة الكتاب
مكية([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))وآياتها سبع آيات بالإجماع([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))
بين يدي السورة:
أسمائها:
1 – الفاتحة: قيل لافتتاح الكتاب العزيز بها حيث إنها أول القرآن في الترتيب المعهود لا في النزول.([3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3))
2 – أم الكتاب: لاشتمالها على المقاصد الأساسية للكتاب العزيز، ففيها الثناء على الله جل وعلا، وفيها إثبات الربوبية، وفيها التعبد بأمر الله سبحانه ونهيه، وفيها طلب الهداية والثبات على الإيمان، وفيها الإخبار عن قصص الأمم السابقين، وفيها الإطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء .
والعرب تسمى كل أمر جامع أمًا، فمكة أم القرى؛ لأن غيرها تبع لها .([4] (http://majles.alukah.net/#_ftn4))
([1]) هو قول عليّ وابن عباس وأبو هريرة، والأكثرين، وقيل مدنية: قول مجاهد، وقيل: نزلت مرة بمكة ومرة بالمدينة، والصحيح أنها مكية؛ لأن سورة الحجرات مكية بالاتفاق وقد أنزل فيها: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ، وقد فسرها جمع من الصحابة بأنها الفاتحة، وقيل: أنها نزلت بمكة، وفضائلها بالمدينة. انظر تفسير سورة الفاتحة للحافظ ابن رجب.
([2]) حُكي عن حسين الجعفيَّ أنها ثمان آيات، ونقل عن عمرو بن عبيد أنها ثمان آيات، وأن ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )، آية، وكلاهما قولهما شاذ لا يلتفت إليه.
([3]) ففي الصحيحين من حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)، البخاري (756)، ومسلم (394) .
([4]) فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهْىَ خِدَاجٌ - ثَلاَثًا - غَيْرُ تَمَامٍ)، مسلم (904) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِى)، أبو داود (1495)، وصححه الألباني.
وقيل سبب تسميتها يأم الكتاب؛ لأنها تتقدم على بقية سور الكتاب في الحفظ فهي تؤم السور بتقدمها عليها، وقيل: محكمة لم يتطرق إليها نسخ، من قوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) آل عمران: 7
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-02, 05:09 AM
3 - السبع المثاني: لأنها سبع آيات تثنى في الصلاة، أي تكرر وتعاد فالمصلي يقرؤها في كل ركعة من ركعات الصلاة.([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
وقد ذكر العلامة القرطبي في تفسيره (الجامع لإحكام القرآن) أن لهذه السورة اثنى عشر اسمًا منها: (الشفاء والوافية والكافية والأساس والحمد، إلى آخر ما ذكر، مما روي إما بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، أو بجتهاد من الصحابة الكرام).([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))
[1] اختلف في سبب تسميتها بالمثاني، فقيل استثنيت لهذه الأمة لم يُعطها أحد قبلهم. قاله ابن عباس.
وقيل: لأنها تثنى في كل صلاة، وقيل: لأن فيها الثناء على الله عز وجل، وقيل: لأنه تثنى نزولها فنزلت مرتين بمرة بمكة ومرة بالمدينة، وقيل: لأن كلماتها مثنى مثنى كـ (الرحمن الرحيم)، و: (إياك نعبد وإياك نستعين)، و: (الصراط المستقيم – صراط الذين).
([2]) قلت: (أبو البراء): ما ذكره المصنف نقلًا عن القرطبي صحيح فأسماء الفاتحة منها ما هو موقوف على النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو من أقوال الصحابة وغيرهم؛ ولكن فات المصنف أسماء ظاهرة الدلالة منها : أم القرآن، كما في الحديث عن أبي هريرة المذكور عند أبي داود (1495)، وحديث عبادة بن الصامت عند مسلم (594).
كذا اسم: القرآن العظيم، ففي حديث سعيد بن المعالى مرفوعًا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِىَ السَّبْعُ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِى أُوتِيتُهُ) البخاري (4474).
وكذا اسم: الصلاة، ففي الحديث عن أبي هريرة قال: قال تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)، مسلم (395).
وكذا قيل: تسمى رقية الحق، ففي الحديث: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) البخاري (2276)، وقال: (لَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ)، أبو داود (3898)، وصححه الألباني.
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-02, 03:33 PM
- فضائل الفاتحة:
1 – أعظم وأفضل سورة في القرآن:
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ كُنْتُ أُصَلِّى فِى الْمَسْجِدِ فَدَعَانِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى كُنْتُ أُصَلِّى. فَقَالَ: (أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ) ثُمَّ قَالَ لِى لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِىَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِى الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ)، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ أَلَمْ تَقُلْ (لأُعَلِّمَنَّك سُورَةً هِىَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِى الْقُرْآنِ)، قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِىَ السَّبْعُ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِى أُوتِيتُهُ).([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
([1]) البخاري (4474)، وأبو داود (1458).
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-02, 03:38 PM
2 – ما أنزل مثلها في القرآن والتوراة والإنجيل والزبور:
روى أحمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : وَقَرَأَ عَلَيْهِ أُبَيٌّ أُمَّ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَا فِي الزَّبُورِ، وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا، إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُ).([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
3 – أحد النورين الذين أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم:
روى مسلم في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ فَسَلَّمَ وَقَالَ أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِىٌّ قَبْلَكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلاَّ أُعْطِيتَهُ ).([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))
- هذه أصح الرويات التي وردت في فضل سورة الفاتحة وقد وردت روايات آخرى غير هذه الروايات، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، وفيما ذكرنا غُنية عن التطويل، والله الموفق .([3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3))
([1]) صحيح : الترمذي (2878)، وقال حديث حسن صحيح، وأحمد (9334)، وصححه الألباني في المشكاة (2142) .
([2]) مسلم (806)، والنسائي (910).
([3]) قلت: (أبو البراء): من الصحيح الذي لم يذكره المصنف: ما رواه البخاري (2276)، ومسلم (2201)، من حديث أبي سعيد الخدري، ونحوه من حديث ابن عباس عند البخاري (5737)، في قصة اللديغ، وفيها فانطلق ينقل عليه ويقرأ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِى وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِى صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِى رَقَى لاَ تَفْعَلُوا، حَتَّى نَأْتِىَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِى كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا لَهُ ، فَقَالَ : (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ - ثُمَّ قَالَ - قَدْ أَصَبْتُمُ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِى مَعَكُمْ سَهْمًا) ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وكذا ما رواه مسلم (404)، وأبوداود (972)، واللفظ له، من حديث أبي موسى الأشعري أنها من أسباب محبة الله للعبد، وفيه: فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَمَا تَعْلَمُونَ كَيْفَ تَقُولُونَ فِي صَلَاتِكُمْ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَنَا، فَعَلَّمَنَا وَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا، وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا، فَقَالَ: (إِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فَقُولُوا: آمِينَ، يُحِبُّكُمُ اللَّهُ).
[/CENTER]
محمد طه شعبان
2015-07-03, 01:13 AM
نفع الله بكم أبا البراء
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-03, 02:15 AM
نفع الله بكم أبا البراء
وبك أبا يوسف.
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-04, 01:23 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
التحليل اللفظي:
{الحمد للَّهِ}: الحمد هو الثناء بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل.
قال القرطبي: الحمد في كلام العرب معناه: الثناء الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس، فهو - سبحانه - يستحق الحمد بأجمعه، والثناء المطلق. والحمد نقيض الذم، وهو أعم من الشكر، لأن الشكر يكون مقابل النعمة بخلاف الحمد، تقول: حمدت الرجل على شجاعته، وعلى علمه، وتقول: شكرته على إحسانه.
والحمد يكون باللسان، وأمّا الشكر فيكون بالقلب، واللسان، والجوارح.
وذهب الطبري: إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء، لأنك تقول: الحمد لله شكرًا.
قال القرطبي: وما ذهب إليه الطبري ليس بمرضي، لأن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكرُ ثناءٌ على الممدوح بما أولى من الإحسان، وعلى هذا يكون {الحمد} أعمّ من الشكر.([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
- {رَبِّ العالمين}: الربّ في اللغة: مصد بمعنى التربية، وهي إصلاح شؤون الغير، ورعاية أمره.
والرّب: مشتقٌ من التربية، فهو سبحانه وتعالى مدبّر لخلقه ومربيّهم، ويطلق الربّ على معان وهي: (المَالك، والمصلح، والمعبود، والسيّد المطاع)، تقول: هذا ربّ الإبل، وربّ الدار، أي مالكها، ولا يقال في غير الله إلا بالإضافة، ففي الحديث الشريف: (لا يقل أحدُكم: أطعمْ ربّك، وضّيْء ربّك، ولا يقل أحدكم ربيّ، وليقل سيّديّ ومولاي).([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))
- {العالمين}: جمع عالَم، والعالم: اسم جنس لا واحد له من لفظه كالرهط والأنام.
قال ابن الجوزي: العالم عند أهل العربية: اسم للخلق من مبدئهم إلى منتهاهم، فأمّا أهل النظر، فالعالَم عندهم: اسمٌ يقع على الكون الكلّي المُحْدَث من فلَك، وسماءٍ، وأرضٍ وما بين ذلك وفي اشتقاق العالَم قولان:
أحدهما: أنه من العلم، وهو يقوّي قول أهل اللغة.
والثاني: أنه من العلامة، وهو يقوّي قول أهل النظر.
فكلُ ما في هذا الكون دالّ على وجود الصانع، المدبّر، الحكيم.
قال ابن عباس: (ربّ العالمين أي ربّ الإنس، والجنّ، والملائكة).
وقال بعض العلماء: كلّ صنف من أصناف الخلائق عالمٌ، فالإنس عالم، والجنّ عالم، والملائكة عالم، والطير عالم، والنبات عالم، والجماد عالم . . الخ فقيل: ربّ العالمين ليشمل جميع هذه الأصناف من العوالم.
- {الرحمن الرحيم}: اسمان من أسمائه تعالى مشتقان من الرحمة ، ومعنى {الرحمن}: المنعم بجلائل النعم، ومعنى {الرحيم}: المنعم بدقائقها.
([1]) تفسير القرطبي (1/137).
قلت: (أبو البراء): الفرق بين الحمد والشكر يكون باعتبارين:
الأول: باعتبار أنواعه، فالشكر أعم من الحمد؛ لأن الشكر يكون باللسان والجوارح والقلب، قال تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) سبأ: 13
الثاني: باعتبار أسبابه، فالحمد أعم من الشكر؛ لأن الحمد يكون على المحاسن والإحسان، أما الشكر فلا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر.
فبين الحمد والشكر عموم وخصوص، فالعموم هو الثناء باللسان على النعمة، وينفرد الحمد في الثناء باللسان على ما ليس بنعمة من الجميل الاختياري، وينفرد الشكر بالثناء بالقلب والجوارح على خصوص النعمة.
([2]) متفق عليه من حديث أبي هريرة: البخاري (2552)، ومسلم (6014)، ولفظه: (لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ. وَلْيَقُلْ سَيِّدِى مَوْلاَىَ. وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِى أَمَتِى. وَلْيَقُلْ فَتَاىَ وَفَتَاتِى وَغُلاَمِى).
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-04, 01:33 AM
ولفظ {الرحمن}معناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها قال الخطّابي: فـ {الرحمن} ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمّت المؤمن والكافر.
و {الرحيم} خاص للمؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} [الأحزاب: 43].
ولا يجوز إطلاق اسم (الرحمن) على غير الله تعالى؛ لأنه مختص به جلّ وعلا، بخلاف الرحيم فإنه يطلق على المخلوق أيضًا قال تعالى: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]
قال القرطبي: (وأكثرُ العلماء على أن الرحمن مختصّ بالله عز وجل، لا يجوز أن يسمّى به غيره، ألا تراه قال: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110]
فعادَل الاسم الذي لا يَشْركه فيه غيره: {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]
فأخبر الرحمن هو المستحق للعبادة جلّ وعزّ.
- {يَوْمِ الدين}: يوم الجزاء والحساب، أي أنه سبحانه المتصرّف في يوم الدين، تصرّف المالك في ملكه، والدينُ في اللغة: الجزاءُ، ومنه قوله عليه السلام: (إفعل ما شئت كما تدين تدان).([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
أي كما تفعل تجزى.
قال في: (اللسان): والدينُ: الجزاء والمكافأة، ويومُ الدين: يوم الجزاء، وقوله تعالى: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53]
أي مجزيّون محاسبون، ومنه الديّان في صفة الله عز وجل.
- {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: نعبدُ: نذلّ ونخشع ونستكين، لأن العبودية معناها: الذلّة والاستعانة، مأخوذ من قولهم: طريق معبّد أي مذلّل وطئته الأقدام، وذلّلته بكثرة الوطء، حتى أصبح ممهدًا.
والمعنى: لك اللهمّ نذل ونخضع ونخصك بالعبادة لأنك المستحق لكل تعظيم وإجلال، ولا نعبد أحدًا سواك.
- {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: الاستعانة: طلب العون، قال الفراء: أعنتهُ إعانةً، واستعنتهُ واستعنت به، وفي الدعاء: (ربّ أعنّي ولا تُعِنْ عليّ).([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))، ورجل معوان: كثير الإعانة للناس، وفي حديث ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).([3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3))
([1]) ضعيف جدًا: رواه البيهقي في الأسماء والصفات، ورواه في كتاب الزهد له عن أبي قلابة مرسلًا، ورواه ابن عدي في الكامل من طريق محمد بن عبد الملك الأنصاري: عن نافع، عن ابن عمر، ومحمد بن عبد الملك متروك الحديث، وراه أحمد في الزهد من طريق أبي قلابة عن أبي الدرداء موقوفًا. انظر تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري، للزيلعي (1/26).
([2]) صحيح: أبو داود (1510)، والترمذي (3897)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه (3962)، وصححه الألباني، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو يَقُولُ: (رَبِّ أَعِنِّى وَلاَ تُعِنْ عَلَىَّ وَانْصُرْنِى وَلاَ تَنْصُرْ عَلَىَّ وَامْكُرْ لِى وَلاَ تَمْكُرْ عَلَىَّ وَاهْدِنِى وَيَسِّرِ الْهُدَى لِى وَانْصُرْنِى عَلَى مَنْ بَغَى عَلَىَّ رَبِّ اجْعَلْنِى لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِى وَاغْسِلْ حَوْبَتِى وَأَجِبْ دَعْوَتِى وَثَبِّتْ حُجَّتِى وَسَدِّدْ لِسَانِى وَاهْدِ قَلْبِى وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِى).
([3]) صحيح: الترمذي (2706)، وقال هذا حديث حسن صحيح، وأحمد (2668)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فَقَالَ: (يَا غُلاَمُ إِنِّى أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ).
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-04, 01:46 AM
والمعنى: إيّاك ربنا نستعين على طاعتك وعبادتك في أمورنا كلها، فلا يملك القدرة على عوننا أحد سواك، وإذا كان من يكفر بك يستعين بسواك، فنحن لا نستعين إلا بك.
- {اهدنا}: معناه: دلّنا على الصراط المستقيم، وأرشدنا إليه، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنْسك وقُربك.
والهداية في اللغة: تأتي بمعنى الدلالة كقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [ فصلت : 17 ]
وتأتي بمعنى الإرشاد وتمكين الإيمان في القلب كما قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} [ القصص: 56 ].
فالرسول صلى الله عليه وسلم هادٍ بمعنى أنه دالّ على الله {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [ الشورى: 52 ]
ولكنه لا يضع الإيمان في قلب الإنسان.
- {الصراط المستقيم}: الصّراط: الطريقُ، وأصله بالسين (السّراط) من الاستراط بمعنى الابتلاع، سميّ بذلك لأنّ الطريق كأنه يبتلع السالك.
قال القرطبي: أصلُ الصراط في كلام العرب: الطريق.
والعرب تستعير (الصراط) لكل قولٍ أو عملٍ وصف باستقامةٍ أو اعوجاج، والمراد به هنا ملّة الإسلام.
- {المستقيم}: الذي لا عوج فيه ولا انحراف، ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه} [الأنعام: 153]
وكلّ ما ليس فيه اعوجاج يسمّى مستقيمًا.
ومعنى الآية: ثبّتنا يا ألله على الإيمان ، ووفقنا لصالح الأعمال، واجعلنا ممن سلك طريق الإسلام، الموصل إلى جنّات النعيم.
- {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}: النعمةُ: لينُ العيش ورغده، تقولُ: أنعمتُ عينَه أي سررتها، وأنعمتُ عليه بالغتُ في التفضيل عليه، والأصل فيه أن يتعدّى بنفسه، تقول: (أنعمتُه) أي جعلته صاحب نعمة، إلاّ أنه لمّا ضمنِ معنى التفضل عليه عدّي بعلى {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
قال ابن عباس: هم النبيّون، والصدّيقون، والشهداء، والصالحون، وإلى هذا ذهب جمهور المفسّرين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69].
- {المغضوب عَلَيْهِم}: هم اليهود لقوله تعالى فيهم: {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [آل عمران: 112] وقوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير . . .} [المائدة: 60].
- {الضآلين}: الضلاّل في كلام العرب هو الذهاب عن سَنَن القصد، وطريق الحق، والانحراف عن النهج القويم، ومنه قولهم: ضلّ اللبن في الماء أي غاب، قال تعالى: {وقالوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض . . . } [السجدة: 10]
أي غبنا بالموت فيها وصرنا ترابًا.
والمراد بالضالين (النّصارى) لقوله تعالى فيهم: {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل} [المائدة: 77].
وقال بعض المفسّرين: الأولى أن يُحمل: {المغضوب عَلَيْهِم} على كلّ من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفُساق، ويُحمل: {الضالّون} على كل من أخطأ في الاعتقاد، لأنّ اللفظ عامٌ، والتقييد خلاف الأصل، والمنكرون للصانع والمشركون أخبثُ دينًا من اليهود والنّصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أولى، وهذا اختيار الإمام الفخر.
وقد ردّه الألوسي؛ لأن تفسير المغضوب عليهم والضالين بـ (اليهود والنصارى) جاء في الحديث الصحيح المأثور فلا يُعتد بخلافه.
وقال القرطبي: (جمهور المفسّرين أن المغضوب عليهم اليهود، والضآلين النصارى، وجاء ذلك مفسّرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عديّ بن حاتم وقصة إسلامه.([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
وقال أبو حيان: وإذا صحّ هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب المصير إليه.
أقول: ما ذكره الفخر الرازي ليس فيه ردّ للمأثور، بل إنّه عمّم الحكم فجعله شاملًا لليهود والنصارى ولجميع من انحراف عن دين الله، وضلّ عن شرعه القويم، حيث يدخل في اللفظ جميع الكفّار والمنافقين.
- {آمين}: كلمة دعاء وليست من القرآن الكريم إجماعًا، بدليل أنها لا تكتب في المصحف الشريف، ومعناها: استجب دعاءنا يا رب.
قال الألوسي: ويُسنّ بعد الختام أن يقول القارئ (آمين)، لحديث أَبِي مَيْسَرَةَ، (أَنَّ جَبْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْرَأَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، فَلَمَّا قَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ}، قَالَ : قُلْ : آمِينَ، فَقَالَ: آمِينَ).([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))
([1]) حسن : الترمذي (2954)، مختصرًا بلفظ عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ( الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضُلاَّلٌ)، ورواه مطولًا (2953)، وأحمد (19381)، وصححه الألباني.
([2]) مرسل: مصنف ابن أبي شيبة (8044)، وأبو ميسرة هو: (عمرو بن شُرحبيل الهمداني الكوفي)، في سماعه من عمر بن الخطاب كلام فما بالك بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو زرعة فيما نقله عنه ابن أبي حاتم في المراسيل (516): (حديثه عن عمر مرسل)، وكذا حكم عليه ابن حجر في الفتح (8/719).
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-04, 01:51 AM
المعنى الإجمالي:
علّمنا الله - تقدّست أسماؤه - كيف ينبغي أن نحمده ونقدّسه، ونثني عليه بما هو أهله، فقال ما معناه: يا عبادي إذا أردتم شكري وثنائي فقولوا: الحمد لله ربِّ العالمين، اشكروني على إحساني وجميلي إليكم، فأنا الله ذو العظمة والمجد والسؤدد، المتفرد بالخلق والإيجاد، ربّ الإنس والجن والملائكة، وربّ السماوات والأرضين، وأنا الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمّ فضله جميع الأنام، فالثناء والشكر لله ربّ العالمين، دون ما يعبد من دونه، بما أنعم على عباده من الخلق والرزق وسلامة الجوارح، وهداية الخلق إلى سعادة الدنيا والآخرة، فهو السّيّد الذي لا يبلغ سؤدده أحد، والمصلح أمر عباده بما أودع في هذا العالم من نظام، يرجع كلّه بالمصلحة على عالم الإنسان والنبات والحيوان، فمن شمسٍ لولاها ما وجدت حياة ولا موت ، ومن غذاءٍ به قوام البشر ، ومياه بها حياة النبات والحيوان، وأنا المالك للجزاء والحساب، المتصرف في يوم الدين، تصرّف المالك في ملكه، فخصوني بالعبادة دون سواي، وقولوا لك اللهمّ نذلّ ونخضع، ونستكين ونخشع، ونخصّك بالعبادة، ولا نعبد أحدًا سواك، وإيّاك ربّنا نستعين على طاعتك ومرضاتك، فإنك المستحقّ لكل إجلال وتعظيم، ولا يملك القدرة على عوننا أحد سواك.
فثبتنا يا ألله على الإسلام دينك الحق، الذي بعثت به أنبياءك ورسلك، وأرسلت به خاتم المرسلين، وثبتنا على الإيمان، واجعلنا ممّن سلك طريق المقربين، طريق النبيّين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
ولا تجعلنا يا ألله من الحائرين عن قصد السبيل، السالكين غير المنهج القويم، من الذين ضلّوا عن شريعتك القدسية، وكفروا بآياتك ورسلك وأنبيائك، فاستحقوا اللعنة والغضب إلى يوم الدين . . اللهمّ آمين.
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-19, 02:37 PM
اللطيفة الأولى:
أمر الباري - جل وعلا - بالتعوذ عند قراءة القرآن: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} [ النحل: 98 ] .
قال جعفر الصادق: (إنه لا بد قبل القراءة من التعوذ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة، والنميمة، فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهرًا، فيقرأ بلسان طاهر، كلامًا أنزل من ربٍّ طيب طاهر).
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-19, 02:59 PM
اللطيفة الثانية:
المشهور عند أهل اللغة أن البسملة هي قول القائل: (بسم الله الرحمن الرحيم).
وفي افتتاح القرآن الكريم بهذه الآية إرشادٌ لنا أن نستفتح بها كلّ أفعالنا وأقوالنا، وقد جاء في الحديث الشريف: (كلّ أمرٍ ذي بال لا يُبْدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر)، أي ناقص.([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
فإن قيل: لماذا نقول بسم الله، ولا نقول بالله؟
فالجواب كما قال العلامة أبو السعود: هو التفريق بين اليمين والتيمّن يعني التبرك، فقول القائل: بالله يحتمل القسم ويحتمل التبرك، فذكر الاسم يدل على إرادة التبرك والاستعانة بذكره تعالى، ويقطع احتمال إرادة القسم.
([1]) ضعيف جدًا تقدم الكلام عليه.
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-19, 03:05 PM
اللطيفة الثالثة:
يرى بعض العلماء أنّ الاسم هو عين المسمّى، فقول القائل: (بسم الله) كقوله: (بالله) وأن لفظ الاسم مقحم.
قال ابن جرير الطبري: لو جاز ذلك وصحّ تأويله فيه على ما تأول لجاز أن يُقال: رأيت اسم زيد، وأكلتُ اسم الطعام، وشربت اسم الدواء، وفي إجماع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويله، ويقال لهم: أتستجيزون في العربية أن يُقال: أكلتُ اسم العسل، يعني أكلتُ العسل؟
أقول: الصحيح ما قاله المحققون من المفسّرين إنّ ذلك للتفريق بين اليمين والتبرك.([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
([1]) هذه المسألة من المسائل المحدثة المبتدعة التي لم تظهر إلا بعد إنقضاء العصور الفاضلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (2/29): (فإن الناس قد تنازعوا في ذلك والنزاع اشتهر في ذلك بعد الأئمة بعد أحمد وغيره والذي كان معروفًا عند أئمة السنة أحمد وغيره: الإنكار على الجهمية الذين يقولون: أسماء الله مخلوقة، فيقولون: الاسم غير المسمى وأسماء الله غيره وما كان غيره فهو مخلوق؛ وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغلظوا فيهم القول؛ لأن أسماء الله من كلامه وكلام الله غير مخلوق؛ بل هو المتكلم به وهو المسمي لنفسه بما فيه من الأسماء، والجهمية يقولون: كلامه مخلوق وأسماؤه مخلوقة؛ وهو نفسه لم يتكلم بكلام يقوم بذاته ولا سمى نفسه باسم هو المتكلم به؛ بل قد يقولون: إنه تكلم به وسمى نفسه بهذه الأسماء بمعنى أنه خلقها في غيره؛ لا بمعنى أنه نفسه تكلم بها الكلام القائم به، فالقول في أسمائه هو نوع من القول في كلامه).
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-27, 01:02 PM
اللطيفة الرابعة:
الفرق بين لفظ (الله) ولفظ (الإله) أن الأول اسم علم للذات المقدسّة لا يشاركه فيه غيره، ومعناه المعبود بحق، والثاني يطلق على الله تعالى وعلى غيره، وهو مشتق من ( ألَهَ ) ومعناه المعبود، سواءً كان بحق أو غير حق، فالأصنام التي كان يعبدها العرب تسمّى (آلهة) جمع (إله) لأنها عُبدت بباطل من دون الله، وما كان أحد يسمى الصنم (الله) بل كان العربي في الجاهلية إذا سئل: من خلقك؟ أو من خلق السماوات والأرض؟ يقول: الله، وفيهم يقول القرآن الكريم : (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله . . .) [ لقمان: 25 ] .
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-27, 01:15 PM
اللطيفة الخامسة:
في قولنا: (بسم الله الرحمن الرحيم) فوائد جليلة، منها: التبرك بذكر اسم الله تعالى، والتعظيم لله عز وجل، وطرد للشيطان؛ لأنه يهرب من ذكر اسم الله، وفيها إظهار لمخالفة المشركين، الذين يفتتحون أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين الذين كانوا يعبدونهم، وفيها أمان للخائف ودلالة على انقطاع قائلها إلى الله تعالى، وفيها إقرار بالألوهية، واعتراف بالنعمة، واستعانة بالله تعالى، وفيها اسمان من أسمائه تعالى المخصوصة به وهما (الله) و(الرحمن).
قلت: (أبو البراء): ومنها: أن قائلها يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يبدأ أمره بذكر الله.
ومنها: أنها أول الكلمات التي نطق بها الوحي لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت {اقرأ بسم ربك الذي خلق}.
ومنها: أنها يستجب ذكرها في مواضع كثيرة، عند قراءة القرآن وعند الوضوء وعند الطعام وعند الجماع وعند دخول الخلاء وعند لبس الثياب وعند خلعه ...
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-27, 01:55 PM
اللطيفة السادسة:
الألف واللام في (الحمد) لاستغراق الجنس([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))، والمعنى لا يستحق الثناء الكامل، والحمد التام الوافي، إلاّ الله ربّ العالمين، فهو الإله المنعوت بصفات الكمال، المستحق لكل تمجيد وتعظيم وتقديس، والصيغة وردت معرّفة (الحمدُ لله) للإشارة إلى أنّ الحمد له تعالى أمر دائم مستمر، لا حادث متجدّد، فتدبره فإنه دقيق.
([1])قلت: (أبو البراء:( الظاهر أنّ التعريف هنا هو تعريف الجنس، لأنّ المصدر هنا في الأصل -كما تقدّم- عوض عن الفعل، فلا جرم أن يكون الدالّ على الفعل والسادّ مسدّه دالاًّ على الجنس، فإذا دخل عليه اللام فهو لتعريف مدلوله، لأنّ اللام تدلّ على التعريف للمسمّى، فإذا كان المسمّى جنسًا فاللام تدلّ على تعريفه.
ومعنى تعريف الجنس أنّ هذا الجنس هو معروف عند السامع، فإذا قلت: الحمد لله، أو العجب لك، فكأنّك تريد أنّ هذا الجنس معروف لديك ولدى مخاطبك لا يلتبس بغيره، كما أنّك إذا قلت: الرجل، وأردت معيّنًا في تعريف العهد النحوي، فإنّك تريد أنّ هذا الواحد من الناس معروف بينك وبين مخاطبك، فهو في المعنى كالنكرة من حيث إنّ تعريف الجنس ليس معه كبير معنىً، إذ تعيّن الجنس من بين بقيّة الأجناس حاصل بذكر لفظه الدالّ عليه لغةً، وهو كافٍ في عدم الدلالة على غيره، إذ ليس غيره من الأجناس بمشارك له في اللفظ ولا متوهّم دخوله معه في ذهن المخاطب، بخلاف تعريف العهد الخارجي فإنّه يدلّ على واحد معيّن بينك وبين مخاطبك من بين بقيّة أفراد الجنس التي يشملها اللفظ .
وبهذا يتبيّن أنّ التعريف الداخل على الجنس لا يفيد إلاّ توكيد اللفظ وتقريره وإيضاحه للسامع، لأنّك لمّا جعلته معهوداً فقد دللت على أنّه واضح ظاهر، وهذا يقتضي الاعتناء بالجنس وتقريبه ممّا هو معروف عند المخاطب.
وبما تقدّم لا يمكن أن تكون الألف والتعريف هنا للاستغراق، لذا قال الزمخشري: (فإن قلت: ما معنى التعريف في الحمد، قلت: هو تعريف الجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كلّ أحد من أنّ الحمد ما هو. والاستغراق الذي يتوهّمه كثير من الناس وهْم منهم. انظر الكشاف: (1/ 9)
إلاّ أنّه قد يُقال: إنّ معنى الاستغراق حاصل هنا، وذلك لأنّ الحكم باختصاص جنس الحمد به تعالى لوجود لام التعريف الجنس في قوله: (الحمد لله) ولام الاختصاص أو الملك في قوله (لله) يستلزم انحصار أفراد الحمد فيه.
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-30, 04:39 AM
اللطيفة السابعة:
فائدةٌ ذكر {الرحمن الرَّحِيمِ}: عقب لفظ {رَبِّ العالمين} هي أن لفظ (الربّ) ينبيء عن معنى الكبرياء، والسيادة، والقهر، فربمّا توهّم السامع أن هذا الربّ قهّار جبّار لا يرحم العباد فدخل إلى نفسه الفزع، واليأس، والقنوط؛ لذلك جاءت هذه الجملة لتؤكد أن هذا الرب - جلّ وعلا - رحمن رحيم، وأن رحمته وسعت كل شيء.
قال ابن القيم: (وأما الجمع بين (الرحمن الرحيم) ففيه معنى بديع، وهو أنّ (الرحمن) دالّ على الصفة القائمة به سبحانه، و (الرحيم) دالّ على تعلقها بالمرحوم، وكأنّ الأول الوصفُ، والثاني الفعلُ، فالأول: دالّ على أن الرحمة صفته أي صفة ذات له سبحانه، والثاني: دال على أنه يرحم خلقه برحمته أي صفة فعل له سبحانه، فإذا أردتّ فهم هذا فتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيمًا} [ الأحزاب : 43 ] {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [ التوبة : 117 ] ولم يجيء قط رحمن بهم فعلمت أن (رحمن) هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته)، ثم قال رحمه الله: وهذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب.
أبو البراء محمد علاوة
2015-07-30, 05:25 AM
اللطيفة الثامنة:
قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب على سبيل التفنن في الكلام، لأنه أدخلُ في استمالة النفوس، واستجلاب القلوب، وهذا (الالتفات) ضرب من ضروب البلاغة، ولو جرى الكلام على الأصل لقال: (إيّاه نعبد) فعدل عن ضمير الغائب إلى المخاطب لنكتة (الالتفات) ومثله قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُورًا} [ الإنسان : 21 ] ثم قال: {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} [ الإنسان : 22 ] وقد يكون الإلتفات من (الخطاب) إلى (الغيبة) كما في قوله تعالى : {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [ يونس : 22 ] فقد كان الكلام مع المخاطبين، ثم جاء بضمير الغيبة على طريق الإلتفات.([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
([1]) الالتفات لغة:
الالتفات من الفعل (لفت) وهو بمعنى اللّيّ وصرف الشيء عن جهته، يقول صاحب لسان العرب: لفت وجهه عن القوم: صرفه، وتلفت إلى الشيء والتفت إليه: صرف وجهه إليه، واللفت ليّ الشيء عن جهته. لسان العرب 12/ 301.
الالتفات عند البلاغيين:
هو الانتقال بالأسلوب من صيغة التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى صيغة أخرى من هذه الصيغ، بشرط أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائداً في نفس الأمر إلى الملتفت عنه، بمعنى أن يعود الضمير الثاني على نفس الشيء الذي عاد إليه الضمير الأول، فمثلاً قولك:
(أكرم محمدًا وأرفق به) ليس من الالتفات؛ فالضمير الأول في (أكرم) للمخاطب أي: أنت، والضمير الثاني للغائب، ففيه انتقال من ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب، ومع ذلك لا يسمى التفاتاً؛ لأن الضميرين ليسا لشخص واحد، فالأول للمخاطب والثاني لمحمد. فن البلاغة لعبد القادر حسين، ص 280
أبو البراء محمد علاوة
2015-08-01, 01:40 PM
اللطيفة التاسعة:
وردت الصيغة بلفظ الجمع في الجملتين {نَعْبُدُ} و {نَسْتَعِينُ} ولم يقل : (إياّاك أعبد وإيّاك أستعين)، وذلك لنكتةٍ لطيفة، هي اعتراف العبد بقصوره عن الوقوف في باب ملك الملوك جلّ وعلا، وطلبه الاستعانة والهداية مفردًا دون سائر العرب، فكأنه يقول : (يا رب أنا عبد حقير، ذليل، لا يليق بي أن أقف هذا الموقف في مناجاتك بمفردي، بل أنا أنضم إلى سلك الموحّدين، وأدعوك معهم، فتقبّل دعائي معهم، فنحن جميعًا نعبدك ونستعين بك).
وتقديم المفعول على الفعل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} و {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يفيد القصر والتخصيص كما في قوله: {وإياي فارهبون} [ البقرة : 40 ]
كما يفيد التعظيم والاهتمام به .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه نعبدك ولا نعبد غيرك.([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
([1]) أخرجه ابْن جرير، وَابْن أبي حَاتِم، من طَرِيق الضَّحَّاك وَعنهُ. انظر الفتح السماوي بتخريج أحاديث القاضي البيضاوي (1/104)، للمناوي.
أبو البراء محمد علاوة
2015-08-01, 01:55 PM
اللطيفة العاشرة:
نسبَ النعمة إلى الله عزّ وجل {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولم ينسب الإضلال والغضب فلم يقل: (غضبت عليهم) وأضللتهم، وذلك جارٍ على طريق تعليم الأدب مع الله عزّ وجل، حيث لا ينسب الشرّ إليه (أدبًا)، وإن كان منه (تقديرًا) كما قال بعضهم: الخير كله بيديك، والشرّ ليس إليك، فهو كقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [ الشعراء : 78-80 ]
فلم يقل: (وإذا أمرضني) أدبًا.
وكقوله تعالى على لسان مؤمني الجن: {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [ الجن : 10 ]
فلم يقولوا: أشرّ أراد الله فتدبره فإنه دقيق.
أبو مالك المديني
2015-08-01, 08:24 PM
وقيل سبب تسميتها يأم الكتاب؛ لأنها تتقدم على بقية سور الكتاب في الحفظ فهي تؤم السور بتقدمها عليها، وقيل: محكمة لم يتطرق إليها نسخ، من قوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) آل عمران: 7
نفع الله بك أبا البراء .
قال البخاري رحمه الله في صحيحه:
وَسُمِّيَتْ أُمَّ الْكِتَابِ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلاَةِ ..
أبو البراء محمد علاوة
2015-08-01, 11:37 PM
وبك نفعنا الله شيخنا، وجزاك خير الجزاء.
أبو البراء محمد علاوة
2015-08-10, 03:04 PM
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: هل البسملة آية من القرآن؟
أجمع العلماء على أن البسملة الواردة في سورة النمل هي جزء من آية في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم}؛ ولكنهم اختلفوا هل هي آية من الفاتحة، ومن أول كل سورة أم لا؟
على أقوال عديدة:
الأول: هي آية من الفاتحة، ومن كل سورة، وهو مذهب الشافعي رحمه الله.
الثاني: ليست آية لا من الفاتحة، ولا من شيء من سور القرآن، وهو مذهب مالك رحمه الله.
الثالث: هي آية تامة من القرآن أُنزلت للفصل بين السور، وليست آية من الفاتحة وهو مذهب أبو حنيفة رحمه الله.
دليل الشافعية:
استدل الشافعية على مذهبهم بعدة أدلة نوجزها فيما يلي:
أولًا: حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين، فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسبعُ المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم أحدُ آياتها).([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
ثانيًا - حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم).([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))
ثالثًا: حديث أَنَسٍ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا فَقُلْنَا مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ {ُنْزِلَتْ عَلَىَّ آنِفًا سُورَةٌ)، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [ الكوثر : 1-3 ].([3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3))
قالوا: فهذا الحديث يدل على أن البسملة آية من كل سورة من سور القرآن أيضًا، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأها في سورة الكوثر.
خامسًا: واستدلوا أيضًا بدليل معقول، وهو أن المصحف الإمام كُتبت فيه البسملة في أول الفاتحة، وفي أول كل سورة من سور القرآن، ما عدا سورة (براءة)، وكتبت كذلك في مصاحف الأمصار المنقولة عنه، وتواتر ذلك مع العلم بأنهم كانوا لا يكتبون في المصحف ما ليس من القرآن، وكانوا يتشدّدون في ذلك، حتى إنهم منعوا من كتابة التعشير، ومن أسماء السّور، ومن الإعجام، وما وُجِد من ذلك أخيرًا فقد كتب بغير خطّ المصحف، وبمداد غير المداد، حفظاً للقرآن أن يتسرّب إليه ما ليس منه، فلما وجدت البسملة في سورة الفاتحة، وفي أوائل السور دلّ على أنه آية من كل سورة من سور القرآن.
دليل المالكية:
واستدل المالكية على أن البسملة ليست آية من الفاتحة، ولا من القرآن وإنما هي للتبرك بأدلة نوجزها فيما يلي:
أولًا: حديث عائشة رضي الله عنها قالت : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة بالحمد لله ربِّ العالمين).([4] (http://majles.alukah.net/#_ftn4))
ثانيًا: حديث أنس كما في الصحيحين قال: (صلّيتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين).([5] (http://majles.alukah.net/#_ftn5))
وفي رواية لمسلم: (لا يذكرون ( بسم الله الرحمن الرحيم) لا في أول قراءة ولا في آخرها).([6] (http://majles.alukah.net/#_ftn6))
ثالثًا: ومن الدليل أنها ليست آية من الفاتحة حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عزّ وجل: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل).
فإذا قال العبد: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}، قال الله تعالى: حمدني عبدي.
وإذا قال العبد: {الرحمن الرحيم}، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي.
وإذا قال العبد: {مالك يَوْمِ الدين}، قال الله تعالى: مجدّني عبدي - وقال مرة فوّض إليّ عبدي -.
فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل.
فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين}، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) .([7] (http://majles.alukah.net/#_ftn7))
قالوا: فقوله سبحانه: (قسمت الصلاة)، يريد الفاتحة، وسمّاها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها، فلو كانت البسملة آية من الفاتحة لذكرت في الحديث القدسي.
رابعًا: لو كانت البسملة من الفاتحة لكان هناك تكرار في {الرحمن الرحيم} في وصفين وأصبحت السورة كالآتي: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم)، وذلك مخلّ ببلاغة النظم الجليل
خامسًا: كتابتها في أوائل السور إنما هو للتبرك، ولامتثال الأمر بطلبها والبدء بها في أوائل الأمور، وهي وإن تواتر كتبُها في أوائل السور، فلم يتواتر كونها قرآنًا فيها.
قال القرطبي: (الصحيحُ من هذه الأقوال قول مالك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقهُ التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه).
قال ابن العربي: (ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه).
والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن (البسملة) ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلاَّ في النمل وحدها.
ثم قال: إنّ مذهبنا يترجّح في ذلك بوجه عظيم وهو المعقول، وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرّت عليه الأزمنة، والدهور من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قطّ (بسم الله الرحمن الرحيم) اتّباعًا للسُنّة، وهذا يردّ ما ذكرتموه، بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل، وعليه تُحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك.
دليل الحنفية:
وأما الحنفية: فقد رأوا أنّ كتابتها في (المصحف) يدل على أنها قرآن ولكن لا يدل على أنها آية من سورة، والأحاديث الواردة التي تدل على عدم قراءتها جهرًا في الصلاة مع الفاتحة تدل على أنها ليست من الفاتحة، فحكموا بأنها آية من القرآن تامة -في غير سورة النمل- أنزلت للفصل بين السور.
ومما يؤيد مذهبهم:
ما روي عن الصحابة أنهم قالوا: كنا لا نعرف انقضاء السور حتى تنزل (بسم الله الرحمن الرحيم).
وكذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه (بسم الله الرحمن الرحيم).([8] (http://majles.alukah.net/#_ftn8))
قال الإمام أبو بكر الرازيي: (وقد اختلف في أنها آية من فاتحة الكتاب أم لا، فعدّها قرّاء الكوفة آية منها، ولم يعدّها قرّاء البصريين، وقال الشافعي : هي آية منها وإنْ تركها أعاد الصلاة، وحكى شيخنا (أبو الحسن الكرخي) عدم الجهر بها، ولأنها إذا لم تكن من فاتحة الكتاب فكذلك حكمها في غيرها، وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة، وما سبقه إلى هذا القول أحد، لأن الخلاف بين السلف إنما هو في أنها آية من (فاتحة الكتاب) أو ليست بآية منها، ولم يعدّها أحد آية من سائر السور).
ثم قال: (ومما يدل على أنها ليست من أوائل السور، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} [ الملك : 1 ]
واتفق القرّاء وغيرهم أنها ثلاثون سوى (بسم الله الرحمن الرحيم) فلو كانت منها كانت إحدى وثلاثين وذلك خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل عليه أيضاً اتفاق جميع قرّاء الأمصار وفقهائهم على أن سورة (الكوثر) ثلاث آيات، وسورة (الإخلاص) أربع آيات، فلو كانت منها لكانت أكثر ممّا عدّوا.
الترجيح:
وبعد استعراض الأدلة وما استدل به كل فريق من أئمة المذاهب نقول: لعلّ ما ذهب إليه الحنفية هو الأرجح من الأقوال، فهو المذهب الوسط بين القولين المتعارضين، فالشافعية يقولون إنها آية من الفاتحة ومن أول كل سورة في القرآن، والمالكية يقولون : ليست بآية لا من الفاتحة ولا من القرآن {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [ البقرة : 148 ]
ولكنْ إذا أمعنا النظر وجدنا أن كتابتها في المصحف، وتواتر ذلك بدون نكير من أحد -مع العلم بأنّ الصحابة كانوا يجرّدون المصحف من كل ما ليس قرآنًا- يدلّ على أنها قرآن، لكن لا يدل على أنها آية من كل سورة، أو آية من سورة الفاتحة بالذات، وإنما هي آية من القرآن وردت للفصل بين السور، وهذا ما أشار إليه حديث ابن عباس السابق (إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السور حتى ينزل عليه: (بسم الله الرحمن الرحيم).
ويؤكد أنها ليست من أوائل السور أن القرآن نزل على مناهج العرب في الكلام، والعربُ كانت ترى التفنّن من البلاغة، لا سيّما في افتتاحاتها، فلو كانت آية من كل سورة لكان ابتداء كلّ السور على منهاجٍ واحد، وهذا يخالف روعة البيان في معجزة القرآن.
وقول المالكية: لم يتواتر كونها قرآناً فليست بقرآن غير ظاهر -كما يقول الجصّاص- إذ ليس بلازم أن يقال في كل آية إنها قرآن وتواتر ذلك، بل يكفي أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابتها ويتواتر ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، وقد اتفقت الأمة على أن جميع ما في المصحف من القرآن، فتكون البسملة آية مستقلة من القرآن كرّرت في هذه المواضع على حسب ما يكتب في أوائل الكتب على جهة التبرك باسم الله تعالى، وهذا ما تطمئن إليه النفس وترتاح، وهو القول الذي يجمع بين النصوص الواردة والله أعلم.([9] (http://majles.alukah.net/#_ftn9))
يتبع إن شاء الله
أبو البراء محمد علاوة
2015-08-10, 03:06 PM
([1]) الدارقطني (1195)، والبيهقي في سننه الكبرى (2218)، من طريق عبد الحميد بن جعفر، عن نوح بن أبي بلال، عن سعيد بن سعيد المقبري، عن أبي هريرة به.
واختلف على نوح بن أبي بلال، فرفعه: (عبد الحميد بن جعفر)، ووقفه: (أبو بكر بن الحنفي)، والراجح الوقف؛ لأن عبد الحميد وإن كان وثقه أحمد وابن معين فضعفه الثوري، ولينه النسائي، ومما يدل على أنه وهم في رفعه أن أبا بكر الحنفي -وهو أوثق من عبد الحميد- لقى نوح بن أبي بلال فحدثه به، فأوقفه، وهو ما صوبه الدارقطني في علله، ويؤكد ذلك أن ابن أبي ذئب روى هذا الحديث عن المقبري عن أبي هريرة مرفوعًا دون ذكر البسملة، كما عند البخاري (4704)، وغيره بلفظ: (أم القرآن: هي السبع المثاني، والقرآن العظيم)، انظر نصب الراية (1/343 – 344).
قلت:(أبو البراء): له شاهد من حديث أم سلمة عند أبي داود (4001)، والترمذي (2928)،: (أَنه صلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فَاتِحَة الْكتاب، فَقَرَأَ: (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (وعدها آيَة)، لكنه ضعيف فيه ابن جريج مدلس.
([2]) ضعيف: الترمذي (245)، وقال إسناده ليس بذلك، قال ابن عدي: هذا الحديث لا يرويه غير معتمر (هو ابن سليمان)، وهو غير محفوظ، وأبو خالد (هو الوالبي الكوفي واسمه هرمز) مجهول.
([3]) مسلم (921)، والنسائي (903).
([4]) مسلم (984).
([5]) مسلم (916).
([6]) مسلم (918)، من حديث أنس بن مالك.
([7]) مسلم (904)، من حديث أبي هريرة.
([8]) أبو داود (788)، واختلف في وصله وإرساله، فأرسله: (الحميدي و أحمد بن محمد المروزي وابن السَّرح)، ووصله: (قتيبة بن سعيد)، قال أبو داود في مراسيله (36)، و قد أسند هذا الحديث، وهذا أصح، قال ابن حجر في تلخيص الحبير (1/574) وأما أبو داود فرواه في المراسيل عن سعيد بن جبير مرسلًا، قال والمرسل أصح.
وهناك علة آخرى، أن عبد العزيز بن محمد الدراوردي لم يسمع هذا الحديث من ابن جريج، قال قتيبة بن سعيد: (لم يسمع الدراوردي هذا الحديث من ابن جريج)، انظر جامع التحصيل في أحكام المراسيل (1/228)، للعلائي.
([9]) والمصنف لا أدري غفل أم تغافل رأي الحنابلة في هذه المسألة، قد رجح المصنف: القول بأن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا آية من باقي السور؛ بل هي آية تامة من القرآن أُنزلت للفصل بين السور، تبعًا لبعض أهل العلم، وإن كان القول بأن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا غيرها أقوى دليلًا؛ لحديث : (قسمت الصلاة)، ولم يبدأ بالبسملة، وللأحاديث التي ذكر فيها عدد آيات السور، ولم تذكر البسملة في بدايتها مثل: (سورة الملك – سورة العلق)، أما ما استدل به أصحاب القول بأنها آية مستقلة نزلت للفصل بين السور فبعضه فيه ضعف مثل قول ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه، بسم الله الرحمن الرحيم)، وإن صحَّ فليس كونها يُعلم بها انتهاء السورة أن تكون آية، وحديث سورة الكوثر فمحمول على التبرك بالبدأ بالبسملة، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم في بداية كلامه وخطاباته، ومما يدل على ذلك عدم ذكرها بين براءة والأنفال، وهو قول: (مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وداود ، ورواية عن أحمد)، وهذا ما رجحه ابن عثيمين والعلم عند الله.
تنبيه: قال النووي في المجموع (3/334): (وأجمعت الأمة على أنه لا يكفر من أثبتها ولا من نفاها لاختلاف العلماء فيها بخلاف ما لو نفى حرفًا مجمعًا عليه أو أثبت ما لم يقل به أحد فإنه يكفر بالإجماع).
أبو البراء محمد علاوة
2015-08-20, 02:40 PM
الحكم الثاني: ما هو حكم قراءة البسملة في الصلاة؟
اختلف الفقهاء في قراءة البسملة في الصلاة على أقوال عديدة:
أ - فذهب مالك رحمه الله: إلى منع قراءتها في الصلاة المكتوبة، جهرًا كانت أو سرًّا، لا في استفتاح أم القرآن، ولا في غيرها من السور، وأجاز قراءتها في النافلة.
ب - وذهب أبو حنيفة رحمه الله: إلى أن المصلي يقرؤها سرًا مع الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة، وإن قرأها مع كل سورة فحسن.
ج - وقال الشافعي رحمه الله: يقرؤها المصلي وجوبًا، في الجهر جهرًا، وفي السرّ سرًا.
د - وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: يقرؤها سرّاً ولا يسنّ الجهر بها.
وسبب الخلاف:
هو اختلافهم في (بسم الله الرحمن الرحيم) هل هي آية من الفاتحة ومن أول كل سورة أم لا؟
وقد تقدم الكلام على ذلك في الحكم الأول.
وشيء آخر:
هو اختلاف آراء السلف في هذا الباب.
قال ابن الجوزي في: (زاد المسير): وقد اختلف العلماء هل البسملة، من الفاتحة أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان، فأمّا من قال: إنها من الفاتحة، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة، وأمّا من لم يرها من الفاتحة فإنه يقول: قراءتها في الصلاة سنّة، ما عدا مالكًا رحمه الله فإنه لا يستحب قراءتها في الصلاة.
واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به، فنقل جماعة عن أحمد: أنه لا يسُن الجهر بها، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، ومذهب الثوري، ومالك، وأبي حنيفة.
وذهب الشافعي: إلى أن الجهر بها مسنون، وهو مرويّ عن معاوية، وعطاء، وطاووس .([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
([1]) قلت: قَالَ ابن الْقَيِّم في زاد المعاد (1/206 – 207): (إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَان يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم تَارَةً وَيُخْفِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا يَجْهَرَ بِهَا، وَلا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا دَائِمًا فِي كُلِّ يَوْمُ وَلَيْلَة خَمْسُ مَرَّات أَبَدًا حَضْرًا وَسَفْرًا وَيُخْفَى ذَلِكَ عَلَى خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَعَلَى جُمْهُور أَصْحَابِهِ وَأَهْلُ بَلَدِهِ فِي الأَعْصَار الْفَاضِلة وَهَذَا مِنْ أَمْحَلَ الْمحال حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى التَّشَبُّث فِيهِ بِأَلْفَاظَ مُجملة وَأَحَادِيث وَاهِيَةْ فَصَحِيحُ تِلْكَ الأَحَادِيث غَيْر صَرِيحُ وَصَرِيحُهَا غَيْر صَحِيح).
أبو البراء محمد علاوة
2015-08-24, 06:34 PM
الحكم الثالث: هل تجب قراءة الفاتحة في الصلاة؟
اختلف الفقهاء في حكم قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة على مذهبين:
أ - مذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) أن قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصحّ صلاته.
ب - مذهب الثوري وأبي حنيفة: أن الصلاة تجزئ بدون فاتحة الكتاب مع الإساءة ولا تبطل صلاته، بل الواجب مطلق القراءة وأقله ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة.
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على وجوب قراءة الفاتحة بما يلي:
أولاً: حديث عُبادة بن الصامت وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) .([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))
ثانيًا: حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهيِ خِداج فهي خِداج ، فهي خداج غير تمام) .([3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3))
ثالثًا: حديث أبي سعيد الخدري: (أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر) .([4] (http://majles.alukah.net/#_ftn4))
قالوا : فهذه الآثار كلّها تدل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ، فإنّ قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، يدل على نفي الصحة، وكذلك حديث أبي هريرة فهي خِداج قالها عليه الصلاة والسلام ثلاثًا يدل على النقص والفساد، فوجب أن تكون قراءة الفاتحة شرطًا لصحة الصلاة.
استدل الثوري وفقهاء الحنفية على صحة الصلاة بغير قراءة الفاتحة بأدلة من الكتاب والسنّة.
أمّا الكتاب: فقوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} [ المزمل : 20 ] قالوا: فهذا يدل على أن الواجب أن يقرأ أي شيء تيسّر من القرآن؛ لأن الآية وردت في القراءة في الصلاة بدليل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل} إلى قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} [ المزمل : 20 ]
ولم تختلف الأمة أن ذلك في شأن الصلاة في الليل، وذلك عموم عندنا في صلاة الليل وغيرها من النوافل والفرائض لعموم اللفظ.
وأما السنّة: فما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً دخل المسجد فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فردّ عليه السلام)، وقال : (ارجع فصلّ فإنك لم تصل)، فصلّى ثم جاء فأمره بالرجوع، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال : والذي بعثك بالحق ما أُحْسنُ غيره ، فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمتَ إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثمّ استقبل القبلة فكبّر، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا، ثمّ فاعل ذلك في صلاتك كلها .([5] (http://majles.alukah.net/#_ftn5))
قالوا: فحديث أبي هريرة في تعليم الرجل صلاته يدل على التخيير: (اقرأ ما تيسّر معك من القرآن)، ويقوّي ما ذهبنا إليه، وما دلت عليه الآية الكريمة من جواز قراءة أي شيء من القرآن.
وأما حديث عبادة بن الصامت: فقد حملوه على نفي الكمال، لا على نفي الحقيقة، ومعناه عندهم: (لا صلاة كاملة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، ولذلك قالوا: تصح الصلاة مع الكراهية، وقالوا هذا الحديث يشبه قوله صلى الله عليه وسلم : (لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد) .([6] (http://majles.alukah.net/#_ftn6))
]وأما حديث أبي هريرة: (فهي خداج ، فهي خداج . . .) الخ
فقالوا: فيه ما يدلّ لنا لأنّ (الخداج) الناقصة، وهذا يدل على جوازها مع النقصان؛ لأنها لو لم تكن جائزة لما أُطلق عليها اسم النقصان، لأن إثباتها ناقصة ينفي بطلانها، إذ لا يجوز الوصف بالنقصان للشيء الباطل الذي لم يثبت منه شيء.
هذه هي خلاصة أدلة الفريقين: سردناها لك بإيجاز، وأنت إذا أمعنتَ النظر، رأيت أنّ ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلاً، وأقوى قيلاً، فإنّ مواظبته عليه الصلاة والسلام على قراءتها في الفريضة والنفل، ومواظبة أصحابه الكرام عليها دليل على أنه لا تجزئ الصلاة بدونها، وقد عضد ذلك الأحاديث الصريحة الصحيحة، والنبي عليه الصلاة والسلام مهمته التوضيح والبيان، لما أجمل من معاني القرآن، فيكفي حجّة لفريضتها ووجوبها قولُه وفعله عليه السلام.
وممّا يؤيد رأي الجمهور ما رواه مسلم عن أبي قتادة أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليَيْن بفاتحة الكتاب وسورتين، ويُسمعنا الآية أحيانًا، وكان يطوّل في الركعة الأولى من الظهر، ويقصر الثانية ، وكذلك في الصبح) .([7] (http://majles.alukah.net/#_ftn7))
وفي رواية: (ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب) .([8] (http://majles.alukah.net/#_ftn8))
قال الطبري: يقرأ بأم القرأن في كل ركعة، فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها([9] (http://majles.alukah.net/#_ftn9))
قال القرطبي: (والصحيح من هذه الأقوال، قولُ الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعةٍ لكل أحدٍ على العموم لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقد روي عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وأُبِيّ بن كعب، وأبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، وأبي سعيد الخدري أنهم قالوا: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، فهؤلاء الصحابة القُدوة، وفيهم الأسوة، كُلّهم يوحبون الفاتحة في كل ركعة .([10] (http://majles.alukah.net/#_ftn10))([11] (http://majles.alukah.net/#_ftn11))
([1]) قلت: (أبو البراء): الصحيح أنها ركن من أركان الصلاة وليست شرطًا؛ لأن الشرط يكون خارج عن حقيقة الشيء، أما الركن فهو جزء من حقيقة الشيء وماهيته، هذا فارق بين الشرط والركن، ويتفقا في أن عدم وجودهما يؤدي إلى بطلان العمل.
([2]) البخاري (756)، ومسلم (394) .
([3]) مسلم (904)، وأبو داود (821)، والترمذي (3209)، والنسائي (917) .
([4]) أبو داود (818)، موقوفًا على أبي سعيد الخدري، وله حكم الرفع للنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال علماء الحديث أن الصحابي إذا قالا أمرنا بكذا – نهينا عن كذا ونحوه يكون من المرفوع حكمًا.
([5]) البخاري (793)، ومسلم (397)، وأبو داود (856)، والترمذي (303)
([6]) ضعيف: روي من غير وجه، فرواه البيهقي في السنن الكبرى (3/75)، وقال قد روي من وجه آخر مرفوعًا وهو ضعيف من حديث أبي هريرة، ورواه الدارقطني (1/419)، من حديث جابر، وابن حبان في الضعفاء (2/94)، من حديث عائشة، وعبد الرزاق، من حديث علي، والحديث ضعفه ابن حجر في التلخيص الحبير (2/137)، والألباني في الضعيفة (1/260) .
([7]) مسلم (451)، وأبو داود (798) .
([8]) مسلم (451) .([9]) الجامع البيان للطبيري .
([10]) الجامع لأحكام القرآن (1/119)، بشيء من الاختصار .
([11]) ما ذهب إليه الجمهور هو الراجح؛ لصراحة وقوة ما استدلوا به، ومما احتج به أنهم قالوا : ( دل عليه إذا أدرك الإمام في حالة الركوع فإن خاف فوت الركعة سقط عنه فرض القراءة، ولو كان من الأركان في حق المقتدي لما سقط بذا العذر ، قاله في المبسوط (2/72))، ويجاب عليهم بأن كونها ركن ثبتت بالدليل كما تقدم، وسقطت في هذه الحالة أيضًا بالدليل والإجماع .وقالوا: أن حديث عبادة بن الصامت: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، منسوخ بالآية . قاله في المبسوط، ويجاب : أن لا دليل على إثبات النسخ؛ لأن النسخ لا يثبت إلا بنص أو بمعرفة التاريخ. .
أبو البراء محمد علاوة
2015-08-24, 07:30 PM
الحكم الرابع: هل يقرأ المأموم خلف الإمام؟
اتفق العلماء على أن المأموم إذا أدرك الإمام راكعًا فإنه يحمل عنه القراءة، لإجماعهم على سقوط القراءة عنه بركوع الإمام، وأمّا إذا أدركه قائمًا فهل يقرأ خلفه أم تكفيه قراءة الإمام؟
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
أ - فذهب الشافعي وأحمد: إلى وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام سواء كانت الصلاة سرّية أم جهرية.
ب - وذهب مالك إلى أن الصلاة إذا كانت سرّية قرأ خلف الإمام، ولا يقرأ في الجهرية.
ج - وذهب أبو حنيفة: إلى أنه لا يقرأ خلف الإمام لا في السرية ولا في الجهرية.
استدل الشافعية والحنابلة بالحديث المتقدم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
فإن اللفظ عام يشمل الإمام والمأموم، سواء كانت الصلاة سرية جهرية، فمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب لم تصحّ صلاته.
واستدل الإمام مالك: على قراءة الفاتحة إذا كانت الصلاة سرّية بالحديث المذكور، ومنع من القراءة خلف الإمام إذا كانت الصلاة جهرية لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [ الأعراف: 204 ] .
وقد نقل القرطبي: عن الإمام مالك أنه لا يقرأ في الجهرية بشيء من القرآن خلف الإمام، وأمّا في السرّية فيقرأ بفاتحة الكتاب، فإن ترك قراءتها فقد أساء ولا شيء عليه.
وأمّا الإمام أبو حنيفة: فقد منع من القراءة خلف الإمام مطلقًا عملاً بالآية الكريمة {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا} [ الأعراف : 204 ]
ولحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) .([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))
واستدل أيضًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) .([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))([3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3))
([1]) قلت: (أبو البراء): ضعيف: ابن ماجه (850)، وأحمد (14643)، فيه حسن بن صالح - وهو حسن بن صالح بن صالح بن حي- لم يسمعه من أبي الزبير، وبينهما فيه جابر بن يزيد الجعفي ضعيف، كما عند ابن ماجه، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، أوردها البيهقي في كتابه: (القراءة خلف الإمام) ص 147 وما بعدها، وأعلَها كلها، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص: ( 1/232 )وأشار إلى هذه الطرق: كلها معلولة.
([2]) البخاري (722)، ومسلم (414).
([3]) قلت: (أبو البراء): والراجح قول أحمد والشافعي: بوجوب قراءة الفاتحة في السرية والجهرية على الإمام والمأموم سواء، وذلك لعموم الحديث، ولما ثبت في بعض رواياته عن عبادة بن الصامت قال : كنا خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاه الفجر، فقرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فثقُلتْ عليه القراءة، فلما فرغ قال : (لعلكم تقرأُون خلف إمامكم ؟ )، قلنا: نعم، هذّاً يا رسول الله! قال : (لا تفعلوا إلا ب (فاتحة الكتاب) ؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)، رواه أبو داود (823)، والترمذي(311)، وقال حديث حسن، والدارقطني (1/318)، وقال إسناد حسن، ونقله البيهقي عنه وأقره ، وقال الخطابي : إسناده جيد لا طعن فيه، انظر تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (2/220 – 225) .
قال الترمذي: (والعمل على هذا الحديث فى القراءة خلف الإمام عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبى -صلى الله عليه وسلم- والتابعين وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعى وأحمد وإسحاق يرون القراءة خلف الإمام).
وقال النووي في المجموع (3/365): (والذى عليه جمهور المسلمين القراءة خلف الامام في السرية والجهرية، قال البيهقى وهو اصح الاقوال على السنة واحوطها)، والقول بالوجوب رجحه ابن باز وابن عثيمين .
أبو البراء محمد علاوة
2015-08-26, 02:19 AM
خاتمة البحث:
حكمة التشريع:
يقف الإنسان بين يدي هذه السورة الكريمة (سورة الفاتحة)، وقفة العبد الخاشع، المعترف بالعجز، المقر بالتقصير، فإن هذه السورة وحي منزل من عند الله، وهي من كلام ربّ العالمين، وكلام الله فوق أن يحيط به عقل قاصر من بني الإنسان، أو يدرك أسراره العميقة بشر، مهما أوتي من النبوغ والذكاء، وسعة العلم والاطلاع.
وقُصارى ما يدركه الإنسان أن يحسّ من قرارة نفسه بروعة هذا القرآن الكريم، وسمو معانيه، وجمال ألفاظه، وأن يشعر بالعجز الكامل عن أن يأتي بمثل آية من آياته، فضلاً عن مثل الكتاب العزيز، فإن هذه السورة الكريمة على قصرها ووجازتها قد حوت معاني القرآن العظيم، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه، تتناول العقيدة ، والعبادة، والتشريع، والاعتقاد بالجزاء والحساب، والإيمان بصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة، والاستعانة، والدعاء، والتوجه إليه جل وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم، والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين، وتجنب طريق المغضوب عليهم أو الضالّين إلى غير ما هنالك من مقاصد وأغراضٍ وأهداف.
أبو البراء محمد علاوة
2015-08-28, 03:41 PM
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
خاتمة المحاضرة الأولى من الكتاب المشار إليه ...
أبو البراء محمد علاوة
2016-05-19, 06:51 PM
الله المستعان
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.