عبد الفتاح الزويني
2015-04-08, 02:53 PM
ذ/عبد الفتاح بن اليماني الزويني: الصراع الفكري (الأشعري ـ المعتزلي) ونتائجه في صياغة البنية العقلية الإسلامية بعد عصر التدافع والانفتاح على الملل الأخرى.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ،
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
كان من أهم وأبرز النتائج التي ترتبت على ردة فعل الأشاعرة تجاه التطرف الاعتزالي في مسائل خلق الأفعال ، والتحسين والتقبيح ، وحدود الإرادة والقدرة الإنسانية إلى جانب المشيئة والإرادة الإلهية ، ما سبق أن ذكرناه في الجزء الأول من المقال عن نفي الأشاعرة للحكمة الإلهية التي تصدر عنها أفعال الله سبحانه .
فالله سبحانه - كما قالت الأشاعرة - ( لا يفعل شيئاً لشيء ، ولا يأمر لحكمة ، ولا جعل شيئاً سبباً لغيره ، وما ثم إلا مشيئة محضة ، وقدرة ترجح مثلاً على مثل، بلا سبب ولا علة . كان ذلك ردًّا على الآراء الاعتزالية التي أكدت على الحكمة الإلهية و ( أوجبت ) على الله -سبحانه- فعل الأصلح لعباده ، فأهدرت عموم المشيئة لصالح الحكمة ، وأهدرت الأشاعرة الحكمة الإلهية لأجل عموم المشيئة ، كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية [1] .
وقد ترتب على ذلك النظر الأشعري في الحكمة والتعليل ، أمران هامان كان
لهما أكبر الأثر في صياغة العقلية الإسلامية خلال القرون اللاحقة .
أولهما : الفصل بين العلة الشرعية والعلة العقلية [2] :
ذلك أن الكثير من أحكام الشرع قد ورد معللاً بعلل منصوص عليها ، كما
في قوله تعالى : [ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ
نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ] [المائدة 32] ، وقوله تعالى: [ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً ] [الحاقة10] وفي الحديث عن سلمة بن الأكوع قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من ضحى منكم فلا
يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء ، فلما كان في العام المقبل قالوا : يارسول الله
نفعل كما فعلنا في العام الماضي ؟ قال : " كلوا وأطعموا وادخروا ، فإن ذلك العام
كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها " متفق عليه [3] .
( ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف
موضع) [4] .
ولذلك ، كان من الصعب على الأشاعرة - بل على الظاهرية - إنكار العلة
بإطلاق ، فساروا في ذلك كل حسب ما أدته إليه مقدماته :
- فالظاهرية : أقروا بالعلل المنصوصة وأنكروا العلل المستنبطة بطرق
استنباط العلة المعتمدة في مناهج أهل السنة - والتي تنبنى على مفاهيم شرعية -
إعمالاً لمبدئهم في الأخذ بظواهر النصوص .
- والمعتزلة : قبلوا التعليل في الشرع والعقل جميعاً ، وأطلقوه إطلاقاً عاماً
ليس منه فكان إعمالاً لمبدئهم في عموم الحكمة الإلهية ، وإهدارهم لمبدأ عموم
المشيئة الإلهية .
- والأشاعرة : أقروا بالعلة الشرعية المنصوصة والمستنبطة ، على أنها ليست سبباً أو علة للفعل ، بل على أنها " باعث " على الفعل ، وأمارة دالة عليه
وإن لم يكن سبب له [5] ، وأنكروا العلل العقلية مطلقاً إعمالاً لمبدئهم في عموم
الفعل مطلقاً - إلا بذلك الكسب الذي لا يسمن ولا يغني من جوع - من جهة ولعموم
الحكمة الإلهية من جهة أخرى .
وتد تصور بعض الكتاب المحدثين أن الأشاعرة قد انطلقوا في تصورهم ذاك
من الموقف القرآني الذي توهموه أنه " في مواضع عديدة منه ينكر العلة ويتحدى
الأسباب ، وينكر الصعود إليها ) [6] (كذا) ! إلا أننا نرى أن ذلك التصور لا يتوافق ...
مع ما رأيناه من نشأة تلك المباحث أصلاً ، وما أثر في الفكر الأشعري حتى وصل
به الى تلك النتائج المؤسفة .. إذ إن القرآن كله - على عكس قول القائل - دال
على إثبات الحكمة والسبب إثباتاً لا ينكره أحد من المنصفين .
الثاني : تفسير العلل والأسباب بحكم " العادة " :
ذلك أن التلازم الذي لا تنكره الفطر السوية بين السبب ونتيجته لا يمكن
جحده جحداً ظاهراً إلا من أخرق أو سوفسطائي مشكك .. أما الأشاعرة فقد ذهبوا في إنكار تلك العلاقة بين السبب ونتيجته - أو العلة ومعلولها - إلى أن ذلك التتابع بينهما إنما هو من تصورنا لاغير ، فهو " تلازم في الحدوث " وليس تلازماً ناشئاً عن الارتباط بينهما وبمعنى آخر هو إلف العادة التي نشأنا عليها أن نرى النار تشتعل في الورق ثم نرى الورق يحترق ، فالاحتراق ليس ناشئاً عن النار ، بل هو حادث عند حدوثها فقط (كذا) ! ! . والنار لا دخل لها بالإحراق إنما الله -سبحانه- يخلق الاشتعال ، ويخلق عنده الاحتراق كلٌ منفصل عن الآخر ، لا الاحتراق ناشيء عن النار ، ولا النار تسبب الاحتراق ! وهكذا في سائر الظواهر الطبيعية كتلازم الشرب والري ، والأكل والشبع .
وقد كانت أدلة الأشاعرة على ذلك الأمر ، أغرب من أقوالهم ذاتها ، إذ قالوا :
أليس الله -سبحانه- يقدر على خلق الشبع في الإنسان ، دون أن يأكل وأن يحرق
إنساناً دون أن تشتعل فيه نار ، أو أن يشعل ناراً دون أن يحرق بها الناس .. ألم
يحدث ذلك مع إبراهيم -عليه السلام- ! ؟ فهذا يعني - بالضرورة عندهم - أنه
لاسبب ولا علة للحوادث بل هو مجرد التلازم وإلف العادة ، وإثبات المشيئة الإلهية
والقدرة الربانية العامة المرافقة للخلق في كل صغيرة وكبيرة على حساب الحكمة
الإلهية التي شاءت فعل الأحكم والأصلح ، لكمال الذات الإلهية التي يناسبها فعل
الأحكم والأصلح عن عدم فعله أو عن الفعل غير المعلل ابتداء .
وقد نقل علي النشار قول الغزالي في تهافت الفلاسفة - مؤيداً له - حيث
قال : (واستمرار العادة بها مرة بعد أخرى ترسخ في أذهاننا جريانها على ... وفق العادة الماضية ترسخاً لا تنفك عنه ) .
( إن من المسلم به أن النار خلقت بحيث إذا تلاقت مع قطنتين متماثلتين
أحرقتهما ولم تفرق بينهما ، طالما كانتا متماثلتين من جميع الوجوه ، ولكن مع هذا
يجوز أن يلقى شخص في النار فلا يحترق ، فقد تتغير صفة النار أو تتغير صفة
الشخص ) .
والملاحظ أنه قوله ، فقد تتغير صفة النار أو صفة الشخص ، رجوع عن
مبدئه كلية ، إذ في هذا إقرار بأن صفة الشخص الأساسية هي أن يحترق بالنار وأن
صفة النار الأساسية أنها تحرق الشخص ، ولا يعني هذا إطلاقاً أن النار أساساً لم
تخلق لتحرق ، أو الناس لا يحترقون ابتداءً بالنار ، كما أنه لا يعني أن الله -
سبحانه- لم يخلق فعل الاحتراق في الشخص ، أو فعل الإحراق في النار رغم أن
ذلك ممكن عند إرادة الله -سبحانه- أن يحدث معجزة أو كرامة ولكن ذلك يكون
خرقاً مقصوداً مؤقتاً للنواميس العادية التي جبلت عليها المخلوقات .. ونحن نرى أن
النشار قد اندفع وراء أشعريته بعيداً عن النهج القويم في النظر والاستدلال الذي
تناوله بالبحث والدرس في " مناهج بحثه " التي استقصاها عند مفكري المسلمين ! !
ومما لاشك فيه أن إهدار مفهوم النتائج عن أسبابها أدى إلى أبشع النتائج
وأخطرها على العقلية الإسلامية خلال القرون الماضية ، لما في ذلك من إهدار عام
لقيمة العلم التجريبي بل والنظري معاً ، كما سنرى في حديثنا عن الآثار التي
ترتبت على انتشار مثل تلك المفاهيم .
الصوفية والأسباب :
لم يكن الأشاعرة أو المعتزلة وحدهما الذين خاضوا معترك الحديث في الأسباب والعلل ، أو الكلام في القدر وحدود الإرادة الإنسانية وحريتها وماترتب على ذلك من قضايا ، بل شاركت في ذلك فرقة واكب ظهور أوائل روادها حوالي منتصف القرن الأول الهجري ، ثم تطورت مفاهيمها بعد ذلك -من منتصف القرن الثاني -إلى أن وصلت حد الغلو والتطرف - بل في بعض آرائها التي دعا إليها نفر من كبار مشايخها - إلى حد الكفر والمروق ونعني بها فرقة الصوفية ، التي أدلت بدلوها في موضوع العلة والسبب بما يتناسب مع الخط العام لفكرها ومنهاجها ، فكانت تلك الآراء من أهم العوامل التي أدت إلى إهدار قيمة الأخذ بالأسباب في المجتمع الإسلامي ، وبالتالي من عوامل الهدم التي عملت في ... جنبات الحياة الإسلامية حتى أدت بها إلى الانحطاط والركود والتخلف .............................. يتبع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ،
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
كان من أهم وأبرز النتائج التي ترتبت على ردة فعل الأشاعرة تجاه التطرف الاعتزالي في مسائل خلق الأفعال ، والتحسين والتقبيح ، وحدود الإرادة والقدرة الإنسانية إلى جانب المشيئة والإرادة الإلهية ، ما سبق أن ذكرناه في الجزء الأول من المقال عن نفي الأشاعرة للحكمة الإلهية التي تصدر عنها أفعال الله سبحانه .
فالله سبحانه - كما قالت الأشاعرة - ( لا يفعل شيئاً لشيء ، ولا يأمر لحكمة ، ولا جعل شيئاً سبباً لغيره ، وما ثم إلا مشيئة محضة ، وقدرة ترجح مثلاً على مثل، بلا سبب ولا علة . كان ذلك ردًّا على الآراء الاعتزالية التي أكدت على الحكمة الإلهية و ( أوجبت ) على الله -سبحانه- فعل الأصلح لعباده ، فأهدرت عموم المشيئة لصالح الحكمة ، وأهدرت الأشاعرة الحكمة الإلهية لأجل عموم المشيئة ، كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية [1] .
وقد ترتب على ذلك النظر الأشعري في الحكمة والتعليل ، أمران هامان كان
لهما أكبر الأثر في صياغة العقلية الإسلامية خلال القرون اللاحقة .
أولهما : الفصل بين العلة الشرعية والعلة العقلية [2] :
ذلك أن الكثير من أحكام الشرع قد ورد معللاً بعلل منصوص عليها ، كما
في قوله تعالى : [ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ
نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ] [المائدة 32] ، وقوله تعالى: [ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً ] [الحاقة10] وفي الحديث عن سلمة بن الأكوع قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من ضحى منكم فلا
يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء ، فلما كان في العام المقبل قالوا : يارسول الله
نفعل كما فعلنا في العام الماضي ؟ قال : " كلوا وأطعموا وادخروا ، فإن ذلك العام
كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها " متفق عليه [3] .
( ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف
موضع) [4] .
ولذلك ، كان من الصعب على الأشاعرة - بل على الظاهرية - إنكار العلة
بإطلاق ، فساروا في ذلك كل حسب ما أدته إليه مقدماته :
- فالظاهرية : أقروا بالعلل المنصوصة وأنكروا العلل المستنبطة بطرق
استنباط العلة المعتمدة في مناهج أهل السنة - والتي تنبنى على مفاهيم شرعية -
إعمالاً لمبدئهم في الأخذ بظواهر النصوص .
- والمعتزلة : قبلوا التعليل في الشرع والعقل جميعاً ، وأطلقوه إطلاقاً عاماً
ليس منه فكان إعمالاً لمبدئهم في عموم الحكمة الإلهية ، وإهدارهم لمبدأ عموم
المشيئة الإلهية .
- والأشاعرة : أقروا بالعلة الشرعية المنصوصة والمستنبطة ، على أنها ليست سبباً أو علة للفعل ، بل على أنها " باعث " على الفعل ، وأمارة دالة عليه
وإن لم يكن سبب له [5] ، وأنكروا العلل العقلية مطلقاً إعمالاً لمبدئهم في عموم
الفعل مطلقاً - إلا بذلك الكسب الذي لا يسمن ولا يغني من جوع - من جهة ولعموم
الحكمة الإلهية من جهة أخرى .
وتد تصور بعض الكتاب المحدثين أن الأشاعرة قد انطلقوا في تصورهم ذاك
من الموقف القرآني الذي توهموه أنه " في مواضع عديدة منه ينكر العلة ويتحدى
الأسباب ، وينكر الصعود إليها ) [6] (كذا) ! إلا أننا نرى أن ذلك التصور لا يتوافق ...
مع ما رأيناه من نشأة تلك المباحث أصلاً ، وما أثر في الفكر الأشعري حتى وصل
به الى تلك النتائج المؤسفة .. إذ إن القرآن كله - على عكس قول القائل - دال
على إثبات الحكمة والسبب إثباتاً لا ينكره أحد من المنصفين .
الثاني : تفسير العلل والأسباب بحكم " العادة " :
ذلك أن التلازم الذي لا تنكره الفطر السوية بين السبب ونتيجته لا يمكن
جحده جحداً ظاهراً إلا من أخرق أو سوفسطائي مشكك .. أما الأشاعرة فقد ذهبوا في إنكار تلك العلاقة بين السبب ونتيجته - أو العلة ومعلولها - إلى أن ذلك التتابع بينهما إنما هو من تصورنا لاغير ، فهو " تلازم في الحدوث " وليس تلازماً ناشئاً عن الارتباط بينهما وبمعنى آخر هو إلف العادة التي نشأنا عليها أن نرى النار تشتعل في الورق ثم نرى الورق يحترق ، فالاحتراق ليس ناشئاً عن النار ، بل هو حادث عند حدوثها فقط (كذا) ! ! . والنار لا دخل لها بالإحراق إنما الله -سبحانه- يخلق الاشتعال ، ويخلق عنده الاحتراق كلٌ منفصل عن الآخر ، لا الاحتراق ناشيء عن النار ، ولا النار تسبب الاحتراق ! وهكذا في سائر الظواهر الطبيعية كتلازم الشرب والري ، والأكل والشبع .
وقد كانت أدلة الأشاعرة على ذلك الأمر ، أغرب من أقوالهم ذاتها ، إذ قالوا :
أليس الله -سبحانه- يقدر على خلق الشبع في الإنسان ، دون أن يأكل وأن يحرق
إنساناً دون أن تشتعل فيه نار ، أو أن يشعل ناراً دون أن يحرق بها الناس .. ألم
يحدث ذلك مع إبراهيم -عليه السلام- ! ؟ فهذا يعني - بالضرورة عندهم - أنه
لاسبب ولا علة للحوادث بل هو مجرد التلازم وإلف العادة ، وإثبات المشيئة الإلهية
والقدرة الربانية العامة المرافقة للخلق في كل صغيرة وكبيرة على حساب الحكمة
الإلهية التي شاءت فعل الأحكم والأصلح ، لكمال الذات الإلهية التي يناسبها فعل
الأحكم والأصلح عن عدم فعله أو عن الفعل غير المعلل ابتداء .
وقد نقل علي النشار قول الغزالي في تهافت الفلاسفة - مؤيداً له - حيث
قال : (واستمرار العادة بها مرة بعد أخرى ترسخ في أذهاننا جريانها على ... وفق العادة الماضية ترسخاً لا تنفك عنه ) .
( إن من المسلم به أن النار خلقت بحيث إذا تلاقت مع قطنتين متماثلتين
أحرقتهما ولم تفرق بينهما ، طالما كانتا متماثلتين من جميع الوجوه ، ولكن مع هذا
يجوز أن يلقى شخص في النار فلا يحترق ، فقد تتغير صفة النار أو تتغير صفة
الشخص ) .
والملاحظ أنه قوله ، فقد تتغير صفة النار أو صفة الشخص ، رجوع عن
مبدئه كلية ، إذ في هذا إقرار بأن صفة الشخص الأساسية هي أن يحترق بالنار وأن
صفة النار الأساسية أنها تحرق الشخص ، ولا يعني هذا إطلاقاً أن النار أساساً لم
تخلق لتحرق ، أو الناس لا يحترقون ابتداءً بالنار ، كما أنه لا يعني أن الله -
سبحانه- لم يخلق فعل الاحتراق في الشخص ، أو فعل الإحراق في النار رغم أن
ذلك ممكن عند إرادة الله -سبحانه- أن يحدث معجزة أو كرامة ولكن ذلك يكون
خرقاً مقصوداً مؤقتاً للنواميس العادية التي جبلت عليها المخلوقات .. ونحن نرى أن
النشار قد اندفع وراء أشعريته بعيداً عن النهج القويم في النظر والاستدلال الذي
تناوله بالبحث والدرس في " مناهج بحثه " التي استقصاها عند مفكري المسلمين ! !
ومما لاشك فيه أن إهدار مفهوم النتائج عن أسبابها أدى إلى أبشع النتائج
وأخطرها على العقلية الإسلامية خلال القرون الماضية ، لما في ذلك من إهدار عام
لقيمة العلم التجريبي بل والنظري معاً ، كما سنرى في حديثنا عن الآثار التي
ترتبت على انتشار مثل تلك المفاهيم .
الصوفية والأسباب :
لم يكن الأشاعرة أو المعتزلة وحدهما الذين خاضوا معترك الحديث في الأسباب والعلل ، أو الكلام في القدر وحدود الإرادة الإنسانية وحريتها وماترتب على ذلك من قضايا ، بل شاركت في ذلك فرقة واكب ظهور أوائل روادها حوالي منتصف القرن الأول الهجري ، ثم تطورت مفاهيمها بعد ذلك -من منتصف القرن الثاني -إلى أن وصلت حد الغلو والتطرف - بل في بعض آرائها التي دعا إليها نفر من كبار مشايخها - إلى حد الكفر والمروق ونعني بها فرقة الصوفية ، التي أدلت بدلوها في موضوع العلة والسبب بما يتناسب مع الخط العام لفكرها ومنهاجها ، فكانت تلك الآراء من أهم العوامل التي أدت إلى إهدار قيمة الأخذ بالأسباب في المجتمع الإسلامي ، وبالتالي من عوامل الهدم التي عملت في ... جنبات الحياة الإسلامية حتى أدت بها إلى الانحطاط والركود والتخلف .............................. يتبع