المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دواء التوبة وطريق العلاج لحل عقدة الإصرار على الذنب



محمد عبد الأعلى
2015-02-18, 08:14 AM
قال أبو حامد في الإحياء:
"اعْلَمْ أَنَّ شِفَاءَ التَّوْبَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالدَّوَاءِ، وَكُلُّ دَاءٍ حَصَلَ مِنْ سَبَبٍ فَدَوَاؤُهُ إِبْطَالُهُ، وَلَا يَبْطُلُ الشَّيْءُ إِلَّا بِضِدِّهِ، وَلَا سَبَبَ لِلْإِصْرَارِ إِلَّا الْغَفْلَةُ وَالشَّهْوَةُ، وَلَا يُضَادُّ الْغَفْلَةَ إِلَّا الْعِلْمُ، وَلَا يُضَادُّ الشَّهْوَةَ إِلَّا الصَّبْرُ عَلَى قَطْعِ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّكَةِ لِلشَّهْوَةِ . وَأَمَّا الْأَنْوَاعُ النَّافِعَةُ فِي حَلِّ عُقْدَةِ الْإِصْرَارِ وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُخَوِّفَةِ لِلْمُذْنِبِينَ وَالْعَاصِينَ، وَكَذَا مَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي ذَمِّ الْمَعَاصِي وَمَدْحِ التَّائِبِينَ.
الثَّانِي: حِكَايَاتُ الْأَنْبِيَاءِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، فَذَلِكَ شَدِيدُ الْوَقْعِ ظَاهِرُ النَّفْعِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، مِثْلُ أَحْوَالِ آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِصْيَانِهِ وَمَا لَقِيَهُ مِنَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْقُرْآنُ وَالْأَخْبَارُ وُرُودَ الْأَسْمَارِ بَلِ الْغَرَضُ بِهَا الِاعْتِبَارُ وَالِاسْتِبْصَا رُ لِتَعْلَمَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - لَمْ يُتَجَاوَزْ عَنْهُمْ فِي الذُّنُوبِ الصِّغَارِ فَكَيْفَ يُتَجَاوَزُ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي الذُّنُوبِ الْكِبَارِ، فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكْثُرَ جِنْسُهُ عَلَى أَسْمَاعِ الْمُصِرِّينَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ فِي تَحْرِيكِ دَوَاعِي التَّوْبَةِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَرِّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مُتَوَقَّعٌ عَلَى الذُّنُوبِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ بِسَبَبِ جِنَايَاتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَوَّفَ بِهِ، وَفِي خَبَرٍ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: «لَيْسَتِ اللَّعْنَةُ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَنُقْصَانًا فِي الْمَالِ، إِنَّمَا اللَّعْنَةُ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا وَقَعْتَ فِي مِثْلِهِ أَوْ شَرٍّ مِنْهُ» وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ هِيَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، فَإِذَا لَمْ يُوَفَّقْ لِلْخَيْرِ، وَيُسِّرَ لَهُ الشَّرُّ فَقَدْ أُبْعِدَ، وَالْحِرْمَانُ عَنْ رِزْقِ التَّوْفِيقِ أَعْظَمُ حِرْمَانٍ، وَكُلُّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى ذَنْبٍ آخَرَ وَيَتَضَاعَفُ فَيُحْرَمُ الْعَبْدُ بِهِ عَنْ رِزْقِهِ النَّافِعِ مِنْ مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلذُّنُوبِ، وَمِنْ مُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ، بَلْ يَمْقُتُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - لِيَمْقُتَهُ الصَّالِحُونَ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَخْبَارُ كَثِيرَةٌ فِي آفَاتِ الذُّنُوبِ فِي الدُّنْيَا، فَمَنِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْهَا كَانَ عُقُوبَةً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ كَانَتِ اسْتِدْرَاجًا لَهُ وَيُحْرَمُ جَمِيلَ الشُّكْرِ حَتَّى يُعَاقَبَ عَلَى كُفْرَانِهِ
وَأَمَّا الْمُطِيعُ فَمِنْ بَرَكَةِ طَاعَتِهِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ نِعْمَةٍ فِي حَقِّهِ جَزَاءً عَلَى طَاعَتِهِ وَيُوَفَّقَ لِشُكْرِهَا، وَكُلُّ بَلِيَّةٍ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ وَزِيَادَةٌ فِي دَرَجَاتِهِ.
الرَّابِعُ: ذِكْرُ مَا وَرَدَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى آحَادِ الذُّنُوبِ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْمَدَارُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الْفِكْرِ النَّافِعِ، وَهُوَ الْفِكْرُ فِي عِقَابِ الْآخِرَةِ وَأَهْوَالِهَا وَشَدَائِدِهَا، وَحَسَرَاتِ الْعَاصِينَ فِي الْحِرْمَانِ عَنِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَلْيَعْتَبِرْ بِأَنَّهُ لَوْ مَرِضَ فَأَخْبَرَهُ طَبِيبٌ نَصْرَانِيٌّ بِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الْبَارِدِ يَضُرُّهُ وَيَسُوقُهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَكَانَ الْمَاءُ الْبَارِدُ أَلَذَّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ، تَرَكَهُ مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ أَلَمُهُ لَحْظَةٌ وَمُفَارَقَتُهُ لِلدُّنْيَا لَا بُدَّ مِنْهَا، فَيَقُولُ: «كَيْفَ يَلِيقُ بِعَقْلِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَات ِ عِنْدِي دُونَ قَوْلِ نَصْرَانِيٍّ طَبِيبٍ يَدَّعِي الطِّبَّ بِلَا مُعْجِزَةٍ عَلَى طِبِّهِ، وَكَيْفَ يَكُونُ عَذَابُ النَّارِ عِنْدِي أَخَفَّ مِنْ عَذَابِ الْمَرَضِ، وَكُلُّ يَوْمٍ فِي الْآخِرَةِ بِمِقْدَارِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا» وَمَتَى اسْتَشْعَرَ قَلْبُهُ ذَلِكَ انْبَعَثَ خَوْفُهُ، وَإِذَا قَوِيَ الْخَوْفُ تَيَسَّرَ بِمَعُونَتِهِ الصَّبْرُ، وَتَوْفِيقُ اللَّهِ وَتَيْسِيرُهُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ.
فَمَنْ أَعْطَى مِنْ قَلْبِهِ حُسْنَ الْإِصْغَاءِ وَاسْتَشْعَرَ الْخَوْفَ فَاتَّقَى، وَانْتَظَرَ الثَّوَابَ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَيُيَسِّرُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَيُيَسِّرُهُ اللَّهُ لِلْعُسْرَى، فَلَا يُغْنِي عَنْهُ مَا اشْتَغَلَ بِهِ مِنْ مَلَاذِّ الدُّنْيَا مَهْمَا هَلَكَ وَتَرَدَّى، وَمَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا شَرْحُ طُرُقِ الْهُدَى وَإِنَّمَا لِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى."