تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ترقبوا المُحلَّى يوم زِينَتِه بتعليقاتي.



أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2014-11-15, 06:11 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
ترقَّبُوا المُحلَّى يوم زِينَتِه بتعليقاتِي
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وبعد:
بين يَدَيْ الناشِر
فقد ظلَلْتُ سنوات أهاب العمل في «مُحلَّى أبي محمد ابن حزم»(1) طاوِيًا عنه كَشْحِي، مُعْرِضًا دونه بنفسي وفِكري، لا إعراض الجاهل بمقامه، الغافل بمنزلته وعظيم مكانه، ولكنه الإعراض المُتولِّد مِن هَيْبة الكتاب وجلالته في نفوس العارفين، والرهبة مِن التقحُّم بالجَوْس في حَرِيم مؤلفه رَوَّحَ اللهُ رُوحه بالوَرْد والرياحين.
وقد كان اسم الكتاب يجْرِي أمامي في مجالس بعض دور النشر؛ فأجدُني محصورَ الجَنان عن التفكير فيه، مُنْعَقِدَ اللسان عن التعلق بِقَوَادِمِه أو خَوَافِيه، خشية أن ينجذب ذلك الناشرُ إلى فكرة إخراج الكتاب عن دارِه في حُلَّة قَشِيبة، فيضعها بين يدَيَّ بادِيَ الرأي؛ راغبًا قيامي عليه بما يتفِق ومراد الناشر مِن أوصاف إخراجه التي لا يُمْكن الخروج عنها لديه (2).
بين يَدَيْ المُحلَّى.
إلى أن شاء الله أن تتعلق الفكرة بخاطر ذلك الناشر؛ فيَعْمِد إلى ذلك السائر العاثر ( لِحُسْن ظنِّه به في ذلك القِيام) ويَرْمِي بأعباء النهوض بهذا السفر العظيم بين كتفِيْه مرة واحدة! ولا يدري أن كاهِل مثلي يَنُوء بذلك العِبء الثقيل، ويَضِيق ذَرْعُه عن التخوُّض في غَمَرات هذا الأمر الجليل.
لا سيما وقد صرَّح لي أنه لن يستعين في إخراجه بأصل مخطوط، وأنه يكتفِي بنسخة الشيخ شاكر وما فيها مِن المنقوط والمضبوط.
فقلتُ في خاطري: لا بأس عليَّ إنْ لَوَيْتُ عِذَارِي عن هذا السبيل، وجَارَيْتُ ظِلَّ رَأْسي في التنكب عن جُمُوع هذا القبيل؛ لا سيما مع التعنُّت في إخراج الكتاب عن أصل ليس بالقديم، وأنا خبير بما اعترَى الجديد (المطبوع) مِن العِلَل وما يحتاجه مِن الإصلاح والتقويم.
وأبَيْتُ إلا مكاشفته بهذا، وقلت في نفْسي: فلْيَعرضه على سُوَاي، وليُغْرِ به مَن شاء إلا إيَّاي، وربما يطوف به على مَن لا يزال يزعم (وأجناسُه كُثُر) أنه رَبُّ المعارِف وهادِيها، ومُجِيبُ صارِخها ومُناديها، وَوُسْطَى سِلْكِها ومُدير فَلَكِها؛ ذلك الذي حاز مملكة العلوم بأسْرِها، وتَحَكَّم في طَيِّها ونَشْرها، وصار ينادِي بكونه: قُطْبَ مَدارِها، وجُهَيْنَةَ أخْبارِها، وسِرَّ اختيارها واخْتِبارها، ومُظْهِر مجْدِها وفَخارِها (3)!
النهضة بِتَوْشِية المحلَّى
ومع الأخْذ مع الناشر والرَّدّ، والهَجْر دون ذلك العمل والصَّدّ؛ بُلِيتُ بالنهضة بالكتاب وحْدِي، وأخبرني أنه حرامٌ على أحدٍ يَمَسَّه مِن بَعْدِي!
فاهتديْتُ إلى حيلة محمودة أتخلَّص بها من هذا العَوار وتلك التَبِعات؛ جرَّاء ما قد يكون بالنص من بعض أخطاء ويَسِِير تحريفات؛ وذلك بإقامة تعليقاتي عليه مقام الحاشية والتوْشِية لا التحقيق المُطْلَق (4).
فنشطْتُ لمناقشة المؤلف فيما يأتِي ويَذر مِن المسائل الفقهية، والقضايا الحديثية (5)، وتركْتُ أصل كلامه كما هو مسطورًا في الطبعة المُنِيريَّة، التي هي أقدم وأصح طبعاته مع تعليقاتها الشاكِرِيَّة المُنِيرية الجُزَيْرِيَّة.
على أني استدرَكْتُ من التحريفات في الأسانيد وأسماء الرجال، ما يَغْبِطُنا عليه كلُّ منُصِف عليه من ألوان المعرفة رداءٌ وسِرْبال.
ولا أكون مجازفًا إذا ادعيْتُ أنني كشفْتُ مِن أوهام مؤلفه (فيما يتعلق بأسماء النقلَة والخلْطِ بينهم) ما لَم تكتحِل به عَيْنٌ، ولَم يَطْرِف بمثله جَفْنٌ، وذلك في جميع طبعاته السابقة ولا أستثنِي!
وقد ارتأيْتُ أن أسوق هنا مَجامِعَ عَمَلِي في هذا الكتاب، ومَعاقِد تَطْرِيزي على أرْدَانِه بما آمَلُ به العَوْدَ على الراقِم بالأجر والثواب؛ طالبًا أن يَبلُغَ الله بنا، ويُرْهِصَ الخير لنا، ويجعل مرادنا بين يَدَيْنا، وينْشُر سحائب فضائله علينا ودوننا وحَواليْنا.

----- حاشية -------
(1) وما كنت قديمًا إلا مُغْرمًا بتَطْرِيز حاشية كبْرَى عليه؛ أحِلُّ بها مسائله ومُشْكلاتِه، وأنْقُضُ بها أقْفَالَه ومعْضِلاتِه، مُحقِّقا أحاديثه وآثارَه، مُجَلّي عَرائِس أبكارِه وكاشِفًا أنوارَه، وكنت وسَمْتُ هذه الحاشية بهذا الاسم المُبْتَكر: «ياقُوتُ البِحار، على شَوَاطِئ المُحَلَّى بالآثار»، وسيأتي الإشارة إليها في أواخر عملي بالكتاب.
(2) وهذه الأوصاف متعلقة بجملة من التعللات كلها عائدة إلى التقلل من الإنفاق على الكتاب قدْر الجهد! وما تكون حيلتي وقد ابتُلِيتُ بطوائف مِن الناشرين هذا مقدارهم مِن احترام كتب الأسْلاف! على أني لا أبيع معهم دِينِي، ولا آكُلُ دنيا دابرة بأخرى قائمة ولو قطعوا وَتِينِي، ولقد اتقيتُ الله ربي ما استطعتُ فيما آتي وأذَرُ مِن العمل على تراث الأجداد، وكم تركْتُ من المصنفات الكبار (مع شدة عَوَزِي إلى عائدِها المالِي ولا أزال) خشية أن لا أنهض بأقل ما يجب من المعروف إزاءها، أغنانا الله من فضْلِه، وكفانا التردد إلى أبواب أهل الجَشَع والنَّزَقِ بِمَنِّه وكرَمِه.
(3) وهذا الطِّراز قد وقفتُ عليه عند الناشر نفسه، ووقع لي مع بعضهم مواقف تَحْكي ما إليه أُشِير، وعوذًا بالله مِن التجنِّي على هذا وذاك مِن أفناء الناس، أو إلباسهم رِداءَ مقْتٍ لَمْ يكن لهم مِن الأساس، بل ما تكلمْتُ إلا بما علمْتُ، وما حكَمْتُ إلا بما شاهدتُ، وقد سكتُّ عن التعيين في هذا المقام، أمَّا عموم متعالِمَة الزمان، والباغين العبَث بكتب الأسلاف بالبغي والعدوان، فلا يخفى على العارف حالُهم، ولا يذهب دونه وَصْفُهم ورَسْمُهم.
(4) وهذه عادتي في أكثر الكتب التي خرَج عليها اسمي مرسومًا. متى عجَزْتُ عن الاستعانة بأصل من الكتاب معتمد؛ تنكَّبْتُ عن التحقيق (بمعناه القديم) إلى التعليق والمناقشة، ريثما يكون كلامي إلى الحواشي أشبه به من غيره.
(5) وسأُفْرِد موضوعين يكون أحدهما موسومًا بـ: «مُنْتَخبات فقهية من مقدمتي على المحلى لابن حزم». والثاني: «منتخبات حديثية من مقدمتي على المحلى لابن حزم». أضعهما للمدارسة بين الإخوان.

محمد طه شعبان
2014-11-15, 12:03 PM
وفقكم الله تعالى لمرضاته، ومنحكم من جزيل حسناته، وجعلكم في الدين من حُماته.

أبو حمزة القاهري
2014-11-15, 03:56 PM
بارك الله في جودكم ...

أبو عبد المهيمن السلفي
2014-11-15, 10:21 PM
لا تطبع كتبك عند دار الحديث بارك الله في عملك

أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2014-11-16, 12:09 AM
وفقكم الله تعالى لمرضاته، ومنحكم من جزيل حسناته، وجعلكم في الدين من حُماته.
اللهم آمين. بارك الله فيكم.

محمد طه شعبان
2014-11-16, 06:55 AM
لا تطبع كتبك عند دار الحديث بارك الله في عملك

دار الحديث طبعاتها سيئة للكتب التي تتولى هي تحقيقها أو يحققها أناس تابعين لها؛ أما إذا كان هناك شخص قد قام بتحقيق كتاب وأتقن تحقيقه، فمثلها كمثل أيِّ دار؛ لأنها ستتولى النشر فقط دون أيِّ تدخل منها في التحقيق.
ولكن قد يُضر الكتاب وصاحبه من جهة أخرى؛ وهي: سوء السمعة المصاحبة للدار.

أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2014-11-17, 07:46 PM
دار الحديث طبعاتها سيئة للكتب التي تتولى هي تحقيقها أو يحققها أناس تابعين لها؛ أما إذا كان هناك شخص قد قام بتحقيق كتاب وأتقن تحقيقه، فمثلها كمثل أيِّ دار؛ لأنها ستتولى النشر فقط دون أيِّ تدخل منها في التحقيق.
ولكن قد يُضر الكتاب وصاحبه من جهة أخرى؛ وهي: سوء السمعة المصاحبة للدار.
أحسنتَ الرد أخي محمد. وهذه دار الكتب العلمية التي هي أسوأ من الدار المشار إليها بكثير، ومع ذلك فأعلم فيها طبعات جيدة لبعض الكتب التي قام بها فضلاء من المحققين؛ يفعلون كما نفعل في التعامل مع أشباه هذه الدور.
والقضية: أن كثيرًا من الدور المحترمة هي التي تُلْجئ لفيفًا من أماثل المحققين إلى التعامل مع غيرها من دور النشر سيئة السمعة، وذلك إمّا لتقاعسها في التعامل، أو لاكتفائها بما لديها من المحققين، أو لعدم انضباطها في التعاملات المادية، أو غير ذلك مما عاينته بنفسي مع تلك الدور.
فماذا تكون الحيلة بعد ذلك سوى الدعاء بالتفريج لنا ولأمثالنا من ذلك البلاء، الذي ابْتُلِينا به مع هؤلاء!

محمد طه شعبان
2014-11-17, 09:50 PM
وفقكم الله

أبو عبد المهيمن السلفي
2014-11-18, 01:43 AM
أمر مهم نسيت أن تنبه عليه أخي :

وهو في حالتك هذه وهي أنه يشترط أن تقدم لهم العمل مبيض وليس مسود وهم يبيضونه لأنهم في حقيقة الحال سيسودونه .

أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2014-11-18, 02:28 AM
أمر مهم نسيت أن تنبه عليه أخي :
وهو في حالتك هذه وهي أنه يشترط أن تقدم لهم العمل مبيض وليس مسود وهم يبيضونه لأنهم في حقيقة الحال سيسودونه .
اعلم أن أعمالي معهم كلها تكون على ضربين:
1- إما أن أسلمهم العمل مُبيَّضًا جاهزًا للطباعة فورًا.
2- وإما أن أسلمهم العمل مسودًا يحتاج مراجعة واستدراكًا وتهذيبًا ونحو ذلك؛ فيأخذونه فيقوم مكتبهم بالنظر فيه وإصلاح ما قد يوجد من الأغلاط النحوية، وتهذيبه بأدوات الترقيم؛ وضبط بعض أعلامه أو تشكيل أحاديثه ونحو ذلك، ثم يَرْتدُّ إلينا العمل مرة أخرى ننظر فيه فنُضِيف ونحذِف؛ ونضَع ونترك، ونمحو ونُثْبِت، ونُصْلِح ونُهَذِّب، ونضْبُط ونُرَتِّب، حتى إذا استوى على سُوقِه أرسلناه إليهم مرة أخرى لِتَهْيَأته للطباعة.
فما وجْه اعتراضك على هذا التفصيل في عملنا (وقد أوْشَك أن ينقطع) مع القوم؟

أبوعاصم أحمد بلحة
2014-11-18, 12:33 PM
يسر الله لكم. ونحن في انتظار خروجها إلى النور بشغف، وأظن أنه ربما تتأخر عن معرض الكتاب الدولي بالقاهرة، هذا العام.
وللعلم: ذكرت (دار الفلاح- بمصر)، أنهم انتهوا أيضًا من كتاب "المحلى" لابن حزم، وصار في ستة وعشرين مجلدًا، ولكنه لم يطبع بعد كما قالوا.
وذكروا أيضًا أنهم ألحقوا به "تكملة" للعبدري-لم تطبع من قبل-، في مجلدين.

أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2014-11-22, 10:59 AM
يُتابع البقية: ..................

أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2014-11-22, 11:00 AM
طبعات المحلى
لهذا السِّفْر الجليل عدة طبعات متباينة؛ وهي في مجملها ترجع إلى طبعته القديمة الأولَى الصادرة عن الدار المنيرية (سنوات: 1347- 1350هـ - 1928-1931م) بتعليقات العلامة أحمد شاكر ومنير الدمشقي وعبد الرحمن الجُزَيري. وسيأتي لنا الحديث عن تلك الطبعة بمزيد وصْفٍ وفَضْلِ بيان.
تصنيف طبعات الكتاب
وأما باقي الطبعات فهي على ضرْبَيْن:
1- الضرْب الأوَّل: مُصوَّر عن الطبعة القديمة بِعُجَرِها وبُجَرِها. مثل طبعة دار الفكر وغيرها.
2- والضرب الثاني: صدَر بإنشاء جديد، وهو على قسمين:
أ- الأول: كان فيه المحافظة على تعليقات الطبعة القديمة كما هي، وقد وقع في بعض تلك الطبعات أخطاء وتصحيفات في المتن والتعليقات جميعًا.
ب- والثاني: فيه تعليقات جديدة بأسماء محققين جُدُد. غير أنها تعليقات يسيرة لا تليق بمكانة الكتاب ومنزلته؛ فضلًا عن افتقار مادتها، وضعْف آلَتِها جميعًا ولا أستثني.
طبعات قِيدَ الإخراج
وثمة طبعات أخرى أُعْلِن عن صدورها قريبًا في الأدوار الأخيرة! وقد أحْصَيْتُ منها أكثر من ست طبعات جملة واحدة! وكلها الآن أبعدُ مِن مَناط النجوم! وأخفَى مِن ذلك السِّرِّ المكتوم!
وما أدرِي إنْ كان السبيل من الإعلان هو قَبْض يَدِ الكتاب عن المشتغلين، وحَبْسُ عِنَانه عن غير المُعْلِنين! وتَثْنِيَة الراغبين عَنْ عَزْمِهِم دُونَه، وكَسْرُ غُلَوَائِهِ بالحوْلِ بينهم وبين ما يطلُبونَه!
نعم: سمعنا (من غير واحد) أن مُجِيزَنا الأستاذ العلامة المحقق بشار عواد قد عكَف عليه، وانصرف إليه، حتى أمْسَى عمَلُه وشِيكًا على البُروز بين الدهماء.
وكذا أعلنَ القائمون على (دار الفلاح- بمصر)، أنهم انتهوا من تحقيق الكتاب كاملًا، وستخرج طبعتهم في ستة وعشرين مجلدًا، وذكروا أيضًا أنهم ألحقوا به «تكملة» للعبدري-لَم تُطْبَع مِن قبل- تقع في مجلدين، ومع هذا الإعلان فإن القوم أخبروا أن الكتاب لَمْ يُقَدَّم للطبع حتى الآن.
ونحن نأمَل صدور هاتين الطبعتين عاجلًا غير آجِل إن شاء الله؛ وأنْ يُثِيب الرحمن العاملين عليهما جزيل الأجْر بما نهضوا به مِن تَتْمِيم عَوَزِه، وإقامة أَوَدِه، وتقييد شوارِد نصوصه، ولَجْمِ أوابِد ما خرج عن مَنْصوصه؛ ريثما يُوافِق الخَبَرُ الخُبْر، وينجَلِي للمُرتاب حقائقُ الأمْر.
حول الطبعات السابقة واللاحقة
غير أن هذه الطبعات المذكورة كلها لَمْ تُعْنَ بما عُنِيَ به المحقق أحمد شاكر في طبعته الأولَى؛ من النهوض بالكلام على جُمَلٍ مِن مباحث الكتاب ونَخْلِ أدلته، وتقويم حُجَجه، والاهتمام بأحاديثه تصحيحًا وتضعيفًا، والكلام على رجاله توثيقًا وتجريحًا، وكَشْفِ محاسن أساليبه عند الأخذ والرد، وبيان ما فيه من الأغلوطات في بعض الأوقات، وغير ذلك مِن مَهامِّ التعليقات التي وَشَّى بها شاكرُ طبعته بما جعلها أفضل تلك الطبعات (بالنظر إلى ما ذُكِرَ مجموعًا) حتى الآن.
نعم: لستُ أرتاب في كون بعض الطبعات اللاحقة (المشار إليها) ستكون أفضل من طبعة شاكر في تقويم النص، وإصلاح الخلل، مع الضبْط والربْط، وتعديل الخطأ والغلَط.
لكن ستظل الطبعة الأولَى (بما ازَّيَّنَتْ به مِن اللمَسات الشاكرية) لها بريقها في عيون الناظرين، ومقامها المحفوظ في صدور العارفين.
حول تعليقاتنا على الكتاب
وإنَّا على خُطَى شاكر قد احْتَذَيْنا، وعلى نَهْجِه أسْرَجْنا خيولنا فامْتَطَيْنا وجَرَيْنا، ففضلًا عمَّا سيجده الباحث في تلك التعليقات من المباحثات الفقهية والمناقشات، والاستدراكات الحدِيثية وأصناف التعقبات، فإنا قد هُدِينا إلى إصلاح عشرات مِن ألوان التصحيفات والتحريفات، ورُزِقْنا في غضونه استدراكُ كثيرٍ مِن السقْط في أسانيد الأخبار وأسماء الرواة.
بل سيقف الحاذِق في تلك التعليقات على تقويم أخطاء لعله لن يجدها (إن شاء الله) في غيرها، وستكتحِل عينُه بأمور يجزم معها أنه لَم يقف عليها (بعون الله) في مكانٍ دُونها.
وظني أن تلك الطبعات اللاحقة سيدور أصْلُ رَحاها في فَلَك محاولة أن يكون النص مستقيمًا كما تركه مؤلفه، ولن تقف طويلًا في تبيين تلك التحريفات والأوهام الواقعة من أبي محمد نفسه! أو مِن أصوله التي كان يسْتَقِي منها مادة كتابه في كل مرة!
وقد انصرفْنا إلى هذا الأمر قدْر الطاقة (مع خُلُوِّ يدِنا ولو من أصلٍ خِطّيٍّ واحد تقرُّ به عيننا)، وأتينا منه ما ترك غيرنا، ونهضْنا فيه بما لَمْ نعلمه لأحد قبلنا.
وسأذكر نماذج متعددة من هذا الضرْب (من أوهام أبي محمد الواقعة في أصوله) في موضوع قادِمٍ بعنوان: «منتخبات حديثية من مقدمتي على المحلى لابن حزم».
ولا بأس إنْ أتحَفْنا القارئ بتصحيف طريف وقع لأبي محمد لَمْ يفْطِن له المعلقون على جميع طبعات الكتاب في جميع أدواره؛ بل وراجَ على مِثل الحافظ ابن حجر فلَمْ يستيقظ له! بل وتتابَع عليه جماعة مِن المتأخرين ممن ألَّفوا في تجريد الرواة المُتَكلَّم عليهم في كتب أبي محمد!
فقد قال أبو محمد في «كتاب الأشربة» المسألة (رقم/1098 ) وهو بصدد تضعيف أحاديث وردتْ في إباحة النبيذ: «ومن طريق شعيب بن واقد، وهو مجهول، عن قيس بن قطن ولا يُدْرَى مَن هو؟»!
هكذا وقع عند أبي محمد في جميع الطبعات التي وقفْتُ عليها: «قيس بن قطن»! وجزم بجهالته؛ كعادته فيمنْ لا يَعْرِف.
فجاء الحافظ ابن حجر وترجَم لهذا المجهول في كتابه «اللسان» ونقَلَ كلام أبي محمد فيه هنا ساكتًا عليه!
ثم جَرَى الزمانُ حتى جاء الأستاذان عمر أبو عمر وحسن أبو هنية مُؤلِّفا كتاب: «تجريد أسماء الرواة الذين تكلم عليهم ابن حزم جرحًا وتعديلا» وترجَما فيه لــ: «قيس بن قطن» وذَكَرا تجهيل أبي محمد له!
وقد تابعهما الأستاذ أشرف عبد المقصود في «فهرس أسماء الرواة الذين تكلم فيهم ابن حزم جرحًا وتعديلًا/مطبوع ضمن موسوعة تقريب فقه ابن حزم الظاهري» وترجم لــ «قيس بن قطن» هو الآخَر!
وتابع الجميع: في كتابه: «الجرح والتعديل عند ابن حزم الظاهري»! فأفْرَد ترجمة لــ «قيس بن قطن»! وحكى كلام أبي محمد فيه!
هكذا مَرَّ هذا التصحيف اللطيف على هؤلاء جميعًا، ولَم يتيسر لأحدهم أن يحُكَّ مَعْدِنَه، وَلا أنْ يسْبِر غَوْرَهُ، فضلًا عن أن يَعْجِمَ عُودَه وَيُقَلِّبهُ بَطْنًا لِظَهْر!
وهذا الشيخ المراد هنا: «قيس بن قطن» لمْ يخلقه الله أبدًا، وما عقدَتْ عليه أرحامُ النساء قط! وإنما أصاب أصول أبي محمد ما أصابها من التحريف والخطأ؛ فَنَجَمَ عنها هذا الشيخُ الأسطورة!
وإنما هو مُحرَّف عن: «قيس عن فِطْر»! فقيس: هو ابن الربيع الأسدي الكوفي، وفِطْر: هو ابن خليفة القرشي المخزومي.
والحديث المشار إليه في كلام أبي محمد: وصَل إسناده أبو بكر الجصاص في «أحكام القرآن» [2/ 6]، من طريق مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا (الغلابي) قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ وَاقِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنْ (فِطْر) عَنْ مُنْذِرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ به ...
فتحرَّف: «فِطْر» في سند أبي بكر الجصاص وعند أبي محمد إلى: «قطن»! ومَن «قطن»؟ وما يكون هذا القطن؟
وهذه الترجمة: «شعيب بن واقد، عن قيس بن الربيع، عن فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن محمد بن الحنفية، عن عليّ». روى عبدُ الباقي بن قانع بها بعض الأخبار، كما تراه في كتابه: «معجم الصحابة» [1/ 44/طبعة مكتبة الغرباء الأثرية ]. وكذا روى ابن مردويه بها خبرًا في «تفسيره» كما في «تخريج أحاديث الكشاف»[2/ 348]، للزيعلي.

يُتابَع البقية

أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2014-11-23, 06:53 AM
وهذا التصحيف المذكور: هو من أصول أبي محمد نفسه، ولَم يكن عنده تلك اليقظة في كل مرة إلى تخليص هذا من ذاك! وقد وقع لنا من أمثال هذه الأخطاء أزواج وأشكال في غضون تعليقاتنا، وسوف نُشِير إلى بعضها لاحقًا بعون الله.
عملنا في الكتاب
يَنْفَطِر عملنا في هذا الكتاب إلى قسمين:
القسم الأول:
ما يتعلق بتعليقات العلامة شاكر ورُفَقائه.
قد أبقيْنا على كل تعليقات العلامة شاكر (1) في الحديث والفقه والرجال وتصويب متن الكتاب وغير ذلك، ولم نتصرَّف في حرفٍ من كلامه إن شاء الله، وهذا في جميع الأجزاء التي عمل عليها، وهي من أول الكتاب حتى أواخر الجزء السادس (2) من الطبعة المُنِيرِية التي هو أُولَى طبعات الكتاب.
حول تعليقات أحمد شاكر
وتعليقات الشيخ كعادته (في الجملة ) من التحبير ودِقَّة الصَّنْعة وإتقان المقصِد وبالغ اليقظة، وقد فتح للباحثين بها كثيرًا من المُقْفَلات والمُعْضِلات التي لولاه لَمَا اهتدوا إلى بُغْتِهم فيما يُرِيغون من مسائل العِلْم وأبوابه.
ولا يضْرِبُ على هذا أو يذهب بمحاسنه: ما وقع له مِن جملة الأغلاط فيما يبحث، ولا مِن أصناف الأوهام فيما يكتب، فتلك طريق المُكْثِرين الضارِبين في علوم الإسلام بحظ وافر.
ولَم نرغب التعرض لتعليقاته في هذا الكتاب بإصلاح أو تعقيب أو الاستدراك في كل مرة! وإنما نفعل ذلك نادرًا أو اتفاقًا دون عزْم عليه.
ولو شئْتُ أن أتتبع ما وقع لهذا الفاضل النبيل من أوهام وأغلاط وتحريفات فيما يسوقه من تنبيهات وتعليقات وتخريجات في هذا الكتاب وحده؛ لاستوفيتُ من ذلك جزْءًا لا بأس به.
وإنما تركتُ ذلك لأمور منها:
1 - أني أبقيتُ على تعليقاته كلها ولَم أتدخل فيها بالحذف أو التهذيب؛ وقد كان ربما يصح إبداء وجوه التعقب عليه لو كنا أعرضنا عن الإبقاء على كلامه كله بادِيَ الرأي.
2 - أن خطَّتنا في هذا العمل هي الإيجاز دون إخلال بما اشتَرَطْناه على أنفسنا، ولا ريب أن إيراد مزيد من التعقبات على تعليقات غيرنا = تنافي هذا الغرض هنا.
3 - أني رأيت أن التعقب الحثيث لتعليقات العلامة شاكر هنا قد يفسدها جملة أو ربما يذهب برونقها؛ لا سيما مع شغف الشاغفين بالإكثار من النقْضِ على أمثال هذا الفَحْلِ وأضرابه من الكبار بما تبادر إلى جماعة جعلوا يظنون الظنونا بمن يتعرَّض لكبير بتَبْيان خطئه في قضية، أو كشْفِ الخلل عما اعتوره في بحث مُهِمَّة خفيَّة كانت أو جَلِيَّة.
بل ربما أطلق بعضهم العنَان لسوء ظنه بالناقدين، وخالَهَم يتخذون مخالفِيهم أغراضًا فيما ينقُضُون عليهم من المسائل والقضايا!
مع أن النقْض على الأوائل -إذا كان بالإنصاف والعدْل- ممن لهم قَدَمُ صِدْقٍ في هذا الدين= لا يكون إلا تمامَ الإحسان إليهم، وغاية المعروف الذي تعود صِلَتُه بعد مماتهم عليهم.
وكم ضاق جماعةٌ من النبلاء ذَرْعًا بمن يأبى إلا رَمْيَهم بالأَفِيكة ومحبة الظهور فيما يستدركونه على بعض الأكابر من الأغلاط والأوهام!
فهذا أديب العلماء وعالِم الأدباء أبو محمد ابن قتيبة كأنه استظهر هذا الحال من أهل عصره وهو يشْرَع في كتابه النفيس: "إصلاح غلَط أبي عبيد"؛ فبَعَثه ذلك على أن يتبرَّم مُعتذِرًا في مقدمة كتابه ويقول:
(وَقَدْ يَظُنُّ مَنْ لاَ يَعْلَمُ مِنَ النَّاسِ، وَلاَ يَضَعُ الأُمُوْرَ مَوَاضِعَهَا، أَنَّ هَذَا اغْتِيَابٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَطَعْنٌ عَلَى السَّلَفِ، وَذِكْرٌ لِلْمَوْتَى، وَكَانَ يُقَالُ "اعْفْ عَنْ ذِيْ قَبْرٍ"!
وَلَيْسَ ذَاكَ كَمَا ظَنُّوْا، لأَنَّ الْغِيْبَةَ: سَبُّ النَّاسِ بِلَئِيْمِ الأَخْلاَقِ، وَذِكْرُهُمْ بِالْفَوَاحِشِ وَالشَّائِنَاتٍ ، وَهَذَا هُوَ الأَمْرُ الْعَظِيْمُ، الْمُشَبَّهُ بِأَكْلِ اللُّحُوْمِ الْمَيْتَةِ، فَأَمَّا هَفْوَةٌ فِيْ حَرْفٍ، أَوْ زَلَّةٌ فِيْ مَعْنَىً، أَوْ إِغْفَالٌ، أَوْ وَهَمٌ، أَوْ نِسْيَانٌ.
فَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُوْنَ هَذَا مِنَ ذَلِكَ البَابُ، أَوْ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ مُشَاكِلًا أَوْ مُقَارِبًا، أَوْ يَكُوْنُ الْمُنَبِّهُ عَلَيْهِ آثِمًا، بَلْ يَكُوْنُ مَأْجُوْرًا عِنْدَ اللَّهِ، مَشْكُوْرًا عِنْدَ عِبَادِهِ الصَّالِحِيْنَ، الَّذِيْنَ لاَ يَمِيْلُ بِهِمْ هَوَىً، وَلاَ تَدْخُلُهُمْ عَصَبِيَّةٌ، وَلاَ يَجْمَعُهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ تَحَزُّبٌ، وَلاَ يَلْفُتُهُمْ عَنِ اسْتِنَابِةِ الْحَقِّ حَسَدٌ.
وَقَدْ كُنَّا زَمَاناً نَعْتَذِرُ مِنَ الْجَهْلِ، فَقَدْ صِرْنَا الآنَ نَحْتَاجُ إِلَى الاعْتِذَارِ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَدْ كُنَّا نُؤَمِّلُ شُكْرَ النَّاسِ بِالتَّنْبِيْهِ وَالدَّلاَلَةِ، فَصِرْنَا نَرْضَى بِالسَّلاَمَةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيْبٍ، مَعَ انْقِلاَبِ الأَحْوَالِ، وَلاَ يُنْكَرُ مَعْ تَغَيُّرِ الزَّمَانِ، وَفِي اللَّهِ خَلَفٌ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ).
وكان قبل ذلك قد قال:
(وَقَدْ يَتَعَثَّرُ فِي الرَّأْي جِلَّةُ أَهْلِ النَّظَرِ، وَالْعُلَمَاءُ الْمُبَرِّزُوْن َ، وَالْخَائِفُوْن َ للَّهِ الْخَاشِعُوْنَ، فَهَؤُلاَءِ صَحَابَةُ رَسُوْلِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ -وَهُمْ قَادَةُ الأَنَامِ، وَمَعَادِنُ الْعِلْمِ، وَيَنَابِيْعُ الْحِكْمَةِ، وَأَوْلَى الْبَشَرِ بِكُلِّ فَضِيْلَةٍ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنَ التَّوْفِيْقِ وَالْعِصْمَةِ - لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَالَ بِرَأْيِهِ فِي الْفِقْهِ، إِلاَّ وَفِي قَوْلِهِ مَا يَأْخُذُ بِهِ قَوْمٌ، وَفِيْهِ مَا يَرْغَبُ عَنْهُ آخَرُوْنَ، وَكَذَلِكَ التَّابِعُوْنَ.
وَالنَّاسُ يَخْتَلِفُوْنَ فِي الْفِقْهِ، وَيَرُدُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فِي الْحَلاَلِ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ، وَفِي الْحَرَامِ أَنَّهُ حَلاَلٌ، وَهَذَا طَرِيْقُ النَّجَاةِ أَوِ الْهَلَكَةِ، لاَ كَالْغَرِيْبِ، وَالنَّحْوِ، وَالْمَعَانِي، الَّتِيْ لَيْسَ عَلَى الْهَافِي بِهَا كَبِيْرُ جُنَاحٍ، كَالشَّافِعِيِّ يَرُدُّ عَلَى الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَعَلَى مُعَلِّمِهِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَأَبُوْ عُبَيْدٍ يَخْتَارُ مِنْ أَقَاوِيْلِ السَّلَفِ فِي الْفِقْهِ وَمِنْ قِرَاءَتِهِمْ، وَيُرَذِّلُ مِنْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى عَوْرَاتِ بَعْضِهَا، بِالْحُجَجِ الْبَيِّنَةِ.
وَعُلَمَاءُ اللُّغَةِ يَخْتَلِفُوْنَ، وَيُنَبِّهُ بَعْضُهُمْ عَلَى زَلَلِ بَعْضٍ، وَالْفَرَّاءُ يَرُدُّ عَلَى إِمَامِهِ الْكِسَائِيِّ، وَهِشَامٌ يَرُدُّ عَلَى الْفَرَّاءِ، وَالأَصْمَعِيِّ يُخَطِّيءُ الْمُفَضَّلَ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحَاطَ بِهِ، أَوْيُوْقَفُ مِنْ وَرَائِهِ.
وَلاَ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَعْطَى أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ مَوْثِقًا مِنَ الْغَلَطِ، وَأَمَانًا مِنَ الْخَطَإِ فَنَسْتَنْكِفُ لَهُ مِنْهَا، بَلْ وَصَلَ عِبَادَهُ بِالْعَجْزِ، وَقَرَنَهُمْ بِالْحَاجَةِ، وَوَصَفَهُمْ بِالضَّعْفِ وَالْعَجَلَةِ، فَقَالَ: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، وَ {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} وَ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}.
وَلاَ نَعْلَمَهُ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُوْنَ قَوْمٍ، وَلاَ وَقَفَهُ عَلَى زَمَنٍ دُوْنَ زَمَنٍ، بَلْ جَعَلَهُ مُشْتَرَكًا، مَقْسُوْماً بَيْنَ عِبَادِهِ، فَتَحَ لِلآخِرِ مِنْهُ مَا أَغْلَقَهُ عَنِ الأَوَّلِ، وَيُنَبِّهُ الْمُقِلِّ مِنْهُ عَلَى مَا أَغْفَلَ عَنْهُ الْمُكْثِرَ، وَيُحْيِيْهِ بِمُتَأَخِّرٍ، يَتَعَقَّبُ قَوْلَ مُتَقَدِّمٍ، وَتَالٍ يَعْتَبِرُ عَلَى مَاضٍ.
وَأَوْجَبَ عَلَى مَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنَ الْحَقِّ أَنْ يُظْهِرَهُ، وَيَنْشُرَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ زَكَاةَ الْعِلْمِ، كَمَا جَعَلَ الصَّدَقَةَ زَكَاةَ الْمَالِ، وَقَدْ قِيْلَ: "اتَّقُوْا زَلَّةَ الْعَالِمِ"، وَزَلَّةُ الْعَالِمِ لاَ تُعْرَفُ حَتَّى تُكْشَفَ، وَإِنَ لَمْ تُعْرَفْ هَلَكَ بِهَا الْمُقَلِّدُوْن َ، لِأَنَّهُمْ يَتَلَقُّوْنَهَ ا مِنَ الْعَالِمِ بِالْقَبُوْلِ، وَلاَ يَرْجِعُوْنَ إِلاَّ بِالإِظْهَارِ لَهَا، وَإِقَامَةِ الدَّلاَئِلِ عَلَيْهَا وَإِحْضَارِ الْبَرَاهِيْنِ).
قلت: وهذا غاية في التجويد والنَّصَفَة عند مَنْ أنزل نفْسَه منازَلها من العدْل والتوسُّط، ولم يجنح إلى طريق العناد ويسلك سبيل أهل النَّزَق والتخبُّط.
ومع كل هذا: فقد أبيْنا التعرُّض لتعليقات العلامة شاكر وغيره على هذا الكتاب؛ لِمَا ذكرناه آنفًا، واعترافًا بمقام الرجل الجليل في تحقيق كتب الأسلاف ونَشْر بضاعة الأجداد التي رُدَّتْ إلينا على كفِّ أمثاله من النَّبَغَة المَهَرَة.
وهذا لا يمنع من كوننا قد نبَّهنا على بعض أوهام هذا النابغة من باب الإشارة والاتفاق، وليس من باب التقصُّد والمُغالَبة. والله من وراء القَصْد محيط.

يُتابَع البقية: ....
------ الحاشية ----------
(1) هو أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر (1309 - 1377 هـ = 1892 - 1958 م)
القاضي العلامة الفقيه المُحدِّث السلفي المُصْلِح، صاحب التصانيف والتحقيقات والتعليقات النافعة. انظر: ترجمته في «الإعلام» [1/253-254]، للزركلي.
(2) جاء في آخر المسألة (رقم/757) من الطبعة المنيرية بالهامش: «هنا اعتذر الأستاذ المحقق والمصحح لأصول هذا الكتاب لإدارة الطباعة المنيرية؛ فقبلت عذره وأناطت العمل بغيره، ونرجو الله تعالى أن نُوفَّق إلى إتمامه على ما يحب وينبغي».

أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2014-11-24, 12:37 AM
حول تعليقات الجُزَيري ومنير الدمشقي
وكذا قد أبقَيْنا على تعليقات مَنْ أكمل الكتاب بعد العلامة شاكر في الطبعة المذكورة، وهما:
1 - الشيخ العالِم الفاضل عبد الرحمن بن محمد الجُزَيْرِي(1) مفتِّش أول مساجد الأوقاف، ولم يعمل إلا على الجزء السابع وحسب.
2 - والشيخ المحقق الحاذِق البحَّاثة السلفي: محمد منير أغا الدمشقي(2) ويبدأ عمله من بداية المسألة (رقم/757) من أواخر الجزء السادس، حتى نهاية الكتاب.
وقد رأيته ربما تدخَّل في الجزء الذي عمل عليه عبد الرحمن الجزيري بِذكْر فائدة أو تنبيهٍ ونحو ذلك، كما ترى ذلك في الهامش (رقم/2) من الجزء السابع [7/ 33]، من الطبعة المنيرية، فقد قال هناك: "لَمْ يُطِل الكلامَ في هذا المبحث المصنفُ -رحمه الله تعالى- وقد طبعنا رسالة "شرح الصدر بذكر ليلة القدر" للحافظ وليّ الدين ابن الحافظ الزين العراقي، وقد استوعب البحث فيها تمامًا، فارجع إليها إنْ شئت".
وهذا لا يمكن أن يكون قول أحدٍ سوى منير أغا، فهو صاحب ومدير "المطبعة المنيرية" المشهورة.
وقال أيضًا في الهامش (رقم/6) من الجزء السابع [7/ 100] من الطبعة المنيرية: "الحديث له بقية. انظر: (2/ 346) من "صحيح البخاري" طبع إدارتنا". وهناك غير ذلك من تعليقاته.
وقد جاءتْ تعليقات هذَيْن الفاضِلَيْن ضعيفة في الجملة، لا ترى لها ذلك ذلك الجَمَال والبهاء الذي تجده في تعليقات العلامة شاكر، وذلك راجع إلى أن شاكرًا كان ينهض بعلوم لَم ينهض بها سواه في زمانه مجموعة، فكان فقيهًا مُحَدِّثًا أديبًا كاتبًا مُصْلِحًا ناقدًا مجتهدًا ضالعًا بمعارف لم يُعْرَف بها أحد سواه في مِصْرِه إلا ما كان من شيخه محمد رشيد رضا.
وقد سلكنا في تعليقات هذَيْن الفاضلَيْن ما سلكناه في تعليقات العلامة شاكر، ولم نتدخَّل في شيء منها قط، فأبقيناها كما وجدناها.
رُمُوزُنا إزاء الثلاثة المحققين.
وقد احْتَلْتُ في الاهتداء إلى تمييز تعليقاتنا عن تعليقات العلامة شاكر والجزيري ومنير الدمشقي! ولاح لنا في هذا الصدد طريقان:
1 - إما أن نذكر اسمنا أو نرمز له عقب كل تعليق نقوم به.
2 - وإما أن نذكر اسم العلامة شاكر ورفقائه أو نرمز لهم عقب تعليقاتهم.
ورأينا أن الأمر الثاني أقرب؛ لكثرة تعليقاتنا عن تعليقات القوم، فمَشَيْنا على النهج التالي:
1 - كل ما كان من تعليقات العلامة شاكر، فإنا نرمز عقبه برمز: "شاكر" إشارة إلى "أحمد محمد شاكر". وتبدأ تعليقاته ببداية الجزء الأول حتى نهاية السادس.
2 - وكل ما كان من تعليقات عبد الرحمن الجزيري، فإنا نرمز له برمز: "الجزيري" إشارة إلى "عبد الرحمن الجزيري". وتقتصر تعليقاته على الجزء السابع فقط.
3 - وكل ما كان من تعليقات منير الدمشقي فإنا نرمز له برمز: "منير" إشارة إلى: "محمد منير أغا الدمشقي". وتبدأ تعليقاته ببداية الجزء الثامن حتى نهاية الكتاب.
كلمة حول تحريفات الكتاب
قد تأملتُ هذا الكتاب فوقفتُ فيه على أغلاط وفيرة مُتاكَثِرة أكثرها في الرجال وأسانيد الأخبار، وهي تشتمل على تحريفات وتصحيفات وسقْط، وربما زيادات وقعتْ خطأ أو سهوًا.
وكل هذه الأخطاء إما من الناسخ أو الطابع، أو من كليهما جميعًا، وهو الأقرب، ولذلك أكثرْنا من تلك العبارة في تعليقاتنا: (هذا تصحيف من الناسخ أو الطابع).
وقد كنتُ وقفتُ على وُرَيْقات معدودة لبعض أفاضل معاصرينا (3) بعنوان: "الخطأ والصواب على بعض أجزاء المحلى المطبوع" (4).
ذكر فيه جملة من الأخطاء والأوهام، وقد وقف فيها عند أوائل المجلد السادس وحسب، وأكثرها يتعلق بحواشي العلامة شاكر! وقد أخطأ في بعض ما أورَد (5) ولَم يُصِب الاعتراض!
وعلى كل حال: فقد استفدتُ من بعض ما أورَد على قِلَّته، وأكثر ما ذكَره كنا قد وقفْنا عليه واستدركناه قبل الوقوف على تلك الورقات (6).
وسيرى القارئ الفَطِن أننا قد أصلحنا من التحريفات والتصحيفات في متن الكتاب ما لم تقع عليه عيناه إلا في طبعتنا هنا بعون الله وتوفيقه.
ولا ريب أنه قد فاتنا من ذلك أشياء لَم نفطِن لها أو خفيَتْ علينا أو سهوْنا عنها! على أننا لم نتدخَّل في إصلاح شيء من متن الكتاب إلا ما كان تحريفًا في متن حديث، أو إسناد خبر، ونحو ذلك، فهنا نقوم بإصلاح الفاسد مع بيان دليله غالبًا، لا سيما إذا كان في المتون والأسانيد.
أمَّا ما ترجَّح عندنا تحريفُه وتصحيفه، أو غلَطُه من كلام أبي محمد، أو مما ينقله من سقيم أصوله = فإنا لا نتهجم على تقويمه؛ لعدم وجود الأصول الخِطِّيَّة لـ: "المحلى" لدينا، والتي بها نطمئن إلى تصويب هذا أو ترجيح ذلك.
وقد أثبتنا جميع فروق نسخ الكتاب والاختلافات بينها كما هي في تعليقات شاكر ورفقائه، لكن لَم نذكر الرمز لهؤلاء عقب تلك الفروق كلها، وإنما خصَّصْنا ذلك بما يكون لهم عقب ذِكْرِ الفروق من التصويبات والترجيحات والتنبيهات والتوجيهات ونحو ذلك، فذكرْنا عقب ما كان من هذا القبيل: تلك الرموز التي اتفقنا عليها سالفًا من: "شاكر" و"الجزيري" و"منير".
أمَّا ما يذكرونه من الفروق مُجرَّدة دون تعليق عقبها بتصويب أو إصلاح أو ترجيح أو غير ذلك، فقد أسقطْنا ذِكْرَ الرموز عقبها؛ اكتفاءً بتنبيهنا في هذا المكان.
ثم رأيتُ -أخيرًا- إثبات أسمائهم عقيب التعليقات والفروق جميعًا دون استثناء.
[تنبيه] قد كان في عزْمنا الاستقلال بتحمُّل أعباء الكتاب كله، لكن أبَى الناشر إلا أن تظل تعليقات العلامة شاكر ورُفَقائه كما هي، فَنَزَلْنا على رغبته إذْ لم تكن لنا حيلة سوى النزول.

يُتابَع البقية:.....
------- الحاشية ---------
(1) هو عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري (1299 - 1360 هـ = 1882 - 1941 م) فقيه، من علماء الأزهر. ولد بجزيرة شندويل (مركز سوهاج) بمصر. وتعلم في الأزهر، (سنة 1313 - 1326 هـ ) ودرّس فيه. وعُيِّن مفتشًا لقسْم المساجد بوزارة الأوقاف ( سنة 1330 هـ)، كان من أعضاء هيئة كبار العلماء. وتوفي بحلوان. له كتب، منها: «الفقه على المذاهب الأربعة ». وتوضيح العقائد »، وغير ذلك. انظر ترجمته في : «الأعلام» [3/ 334-335]، للزركلي، و«الأزهر في ألف عام» [2/ 62-63/طبعة عالم الكتب]، لمحمد عبد المنعم خفاجي.
(2) هو منير «أو محمد منير» بن عبده آغا النقلي الدمشقيّ الأزهري (توفي سنة 1367 هـ = 1948م) صاحب «دار الطباعة المنيرية» في القاهرة. تفقه في الأزهر سلفيًا، وأصبح من علمائه. وأنشأ دار الطباعة عام: (1337هـ) ونشر كثيرًا من المصنفات القديمة والحديثة. وصنف كتاب «نموذج من الأعمال الخيرية في إدارة الطباعة المنيرية» وله أيضًا: «إرشاد الراغبين في الكشف عن آي القرآن المبين ». وله ترجمة في «الإعلام» [7/310]، للزركلي.
(3) وهو الباحث أحمد شاغف الباكستاني. أحسن الله إليه.
(4) وهو مطبوع في ذيل كتابه: «المـسـتـدرك على تـحـفـة الأشـراف للمـزي». طبعة دار الوطن.
(5) كما فعل في تصويبه إسناد خبر رواه أبو محمد في «المحلى» [4/214] من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: قلت لعلقمة به ...
فجاء هذا الفاضل وزعم أن صواب الإسناد: (عن أبي بكر بن عياش عن إبراهيم عن الأعمش قال: قلت لعلقمة به ... ) ! استنادًا إلى كونه وقع هكذا في «مصنف عبد الرزاق»!
ولم يفطن إلى أن سنده قد انقلب في مطبوعة: «المُصَّنَف»! وأن الصواب ما أورده أبو محمد بلا أدنَى شك في ذلك ولا ارتياب! ولَم يُدْرِك الأعمشُ علقمة ولا رآه بعينه قط!
(6) وقد أرسله إلينا بعض خواصِّ أصحابنا عقب انتهائنا من التعليق على الجزء السابع وشروعنا في الثامن.

أبوعاصم أحمد بلحة
2014-11-24, 01:56 AM
موفق بإذن الله تعالى أبا المظفر، واصل وصلك الله بعطائه.

أبو عبد المهيمن السلفي
2014-11-24, 02:09 AM
اللهم بارك

أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2014-11-24, 01:42 PM
القسم الثاني: ما يتعلق بتعليقاتنا على الكتاب، وهي تنقسم إلى طرفين:
الطرف الأول: ما يتعلق بالجانب الحديثي:
وهذا القسم هو الغاية الكبرى من خدمتنا لهذا الكتاب.
وشَرْطُنا فيه: تخريج كل الأحاديث المسندة في الكتاب، وكذا الآثار من الموقوفات والمقطوعات وغيرها، مع بيان منزلتها من الثبوت أو عدمه.
وسواء في ذلك: الأخبار التي ساق أبو محمد أسانيده إليها كاملة، أو التي يعلِّق فيها إسناده إلى أصحاب المصنفات المشهورة، أو التي يعلق فيها بعض إسناده فقط، أو الأخبار المرفوعة التي لا يسوق فيها سنده ولا يعلقها.
وتعليق بعض السند: مثل قوله: "وروينا من طريق سعيد بن منصور" أو "من طريق عبد الرزاق" أو "من طريق ابن أبي شيبة" أو "من طريق الثوري" أو من "طريق حماد بن سلمة" أو "من طريق قاسم بن أصبغ" أو "من طريق شعبة".
فضلًا عن قوله: "وروينا من طريق البخاري" أو "من طريق مسلم" أو "من طريق أبي داود" أو "من طريق النسائي" أو "من طريق مالك" وغير ذلك.
فكل ذلك على شرْطِنا من تخريجه وبيان منزلته من الصحة أو عدمها، فإن لَم نهتَدِ إلى مظانه مِن الكتب التي يرويها أبو محمد عنها، أو كان بعض تلك المصنفات مفقودة، فإنا نقتصر على الحُكْم على الأسانيد الظاهرة وحسب.
والطرف الثاني: ما يتعلق بالجانب الفقهي وغيره.
وهي تعليقات متنوعة ما بين العقيدة والفقه والكلام في الرجال والتعريف ببعض الأعلام وغير ذلك.
وأكثر هذه التعليقات: إنما كانت ارتجالًا مِنْ رأس القَلَم، وقد راعيْنا فيها الاقتضاب والتهذيب والاختصار حسب الإمكان، لأن هذا هو الأصل في عَمَلِنا على الكتاب كله، وربما طال بنا النَّفَسُ في بعض المسائل.
وغرضي من هذا: هو كشْفُ النقاب عن جملة من المسائل التي أرى انحراف قلَم أبي محمد فيها عن الجادة، وإلا فأكثر -بل جُلُّ- ما سكَتُّ عنه من مسائل الكتاب فهو مما أوافق صاحبه على صحته، غير أني لا أُصَرِّح بذلك، وربما فعلْتُ ذلك في مسائل معدودة وحسب.
[تنبيه مهم] متى قلنا "قال أبو محمد" أو "ذكر أبو محمد" ونحو ذلك فإنما نريد به صاحب الكتاب هنا: أبا محمد ابن حزم، وقد أكثَرْنا مِن ذِكْرِه في تعليقاتنا بكنيته فقط، من باب التشريف والتبجيل لشخْصِه النبيل.
ولا ريب أن مثل هذا الكتاب العظيم يحتاج جهدًا كبيرًا، وعملًا طويلًا، في خدمته وتقريبه بين يدَيْ الأمة، وهذا ما سنحاول القيام به في حاشيتنا الكبيرة عليه المسماة بـ: "ياقوتُ البِحار على شواطِيء المُحَلَّى بالآثار". يسَّر الله مَنْ يُعينُنا عليها بمَنِّه وكرَمِه.
وقد نُعِيد تخريج ما خرَّجْناه مِن قبل إذا أعاده المؤلف، ولا نلتزم بهذا، وقد نكتفِي ببيان صحة الخبر مع الإشارة إلى كونه تقدم تخريجه.
أما الأخبار غير المرفوعة التي يعلِّق أبو محمد إسنادها كله ولا يذكر غير القائل وحده: مثل قوله: "وروينا عن عمر أنه قال ... " أو "وروينا عن عثمان أنه قال ... "، و نحو ذلك = فليستْ على شرْطِنا في هذا التعليق المُقْتَضب.
وقد اتبعنا منهج الاختصار في تخريج الخبر والحُكْم عليه، ومتى سبق لنا استيفاء الكلام في تخريج بعض الأخبار فيما عمِلْنا عليه في بعض الكتب السابقة، أو كان مِن خالِص تصانيفنا، فإنا نقتضِب العبارة، ثم نُحِيل القارئ على ذلك المصدر الذي أشبعنا الكلام فيه، كما فعلْنا كثيرًا بالإحالة على كتابنا الكبير: "رحمات الملأ الأعلى بتخريج مسند أبي يعلى"(1).
[تنبيه مهم] كل خبر تكلم عليه العلامة شاكر ورُفَقائه فإنا ننظر فيه، فإنْ رأينا كلامهم كافيًا حول الحديث من حيث التصحيح أو التضعيف أو نَقْلِ أحدهما عن بعض الأئمة في ذلك (مِثْلُ نقْلِهم تصحيح الترمذي أو الحاكم أو غيرهما، مع موافقتنا لهم في ظاهر الأمر)؛ تركْنا تخريج ما خرَّجوه ولَم نتكلم عليه، وإنْ رأينا كلامهم قاصرًا أو فيه إعْوازًا، فإنا نستأنف تخريج الخبر، وربما اكتفينا بالتعليق على ما نرى الحاجة داعية إلى التعليق عليه وحسب.
وكذلك فَعَلْنا في التعليقات الفقهية والحديثية وغيرها، فما نراه كافيًا من كلام بعض هؤلاء الرفْقة؛ فإنا لا نزيد عليه، وما نراه غير كافٍ، فإنا نتكلم عليه بما يقع لنا مِن ذلك إن شاء الله.

------- الحاشية ------------
(1) وقد طُبِع أخيرًا عن دار الحديث بالقاهرة في عشر مجلدات ضخام، وقد تعبتُ فيه وعانَيْتُ، ولم يتيسر لي من تنقيحه سوى المجلد الأول ونصف الثاني وحوالي ثلاث مجلدات من أواخره وحسب، وأما الباقي فيحتاج تحريرًا وتدقيقًا حِيلَ بيني وبينه بالعجلة في طباعة الكتاب. فالله المستعان.
________

أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2014-12-03, 07:06 PM
سألني بعض الأفاضل هذا السؤال في مكان آخر فقال:

و لكني ـ واعذرني أخي ـ إلى الآن ، لم أجد مقنعا يقنعني في نفع تعليقاتك الفقهية التي سوف تزين بها محلى ابن حزم .
قراء المحلى يا أخي يعرفون مظان المسائل الفقهية ، و يدرون أين يجدونها .
فإن كنت ستنقل لنا المغني وتحشي به على المحلى ، أو المدونة و تحشي بها على المحلى ، أو الأم وتحشي بها على المحلى ، فهذه الكتب موجودة ، نعرف كيف نبحث فيها دون أن نحتاجك في شيء .
وإن كنت ستأتي بشيء ليس في هذه الكتب فتعلق به ( فقهيا ) على محلى ابن حزم ، فهذا ما لا أظنه أبدا .
لهذا أنا أتساءل أيها الأخ ـ لأني عازم على شراء تزيين المحلى لك فور صدوره ـ فمن حقي أن أتساءل ، ما قيمة تعليقك الفقهي على محلى ابن حزم ، وهو كتاب مرجعي موسوعي .
أرجو أن تفيدني في هذا الصدد ، و إن لم تشته أو لم ترد ، فأنت بحل
وكان جوابي عليه الآتي:


فإن كنت ستنقل لنا المغني وتحشي به على المحلى ، أو المدونة و تحشي بها على المحلى ، أو الأم وتحشي بها على المحلى ، فهذه الكتب موجودة ، نعرف كيف نبحث فيها دون أن نحتاجك في شيء . .



صدَقْتَ في هذا، وما كان هذا دَيدَني في تعليقاتي جميعًا ولله الحمد، وإنما هذا شأنُ كثير مِن العَجَزة والمتهجِّمين على تضخيم الحواشي بمجرد النقل المحض مِن تلك الأسفار الكِبار!
أمَّا تعليقاتي على المحلى: فهي مناقشات حُرَّة شريفة بيني وبين أبي محمد في مسائل العلم وأبوابه، وربما تذرَّعْتُ ببعض النقول الخفيفة التي تُؤيِّد أصل اعتراضي عليه في بعض الأوقات.
وقد سَطَرْتُ لكم من قبل قولي:

وأكثر هذه التعليقات: إنما كانت ارتجالًا مِنْ رأس القَلَم، وقد راعيْنا فيها الاقتضاب والتهذيب والاختصار حسب الإمكان، لأن هذا هو الأصل في عَمَلِنا على الكتاب كله، وربما طال بنا النَّفَسُ في بعض المسائل.



أمَّا قولكم يا رعاكم الله:

وإن كنت ستأتي بشيء ليس في هذه الكتب فتعلق به ( فقهيا ) على محلى ابن حزم ، فهذا ما لا أظنه أبدا .



فهذا من تحجير أفضال الله الواسِعة، وقد يفتح الله للمتأخر مِن الدقائق ما لَمْ يقع مثلها لمتقدِّم.
ثم إني أُعَرِّفك شيئًا: وهو أن هذه الكتب التي تُشِير إليها لم ينتهض أحد أصحابها لتعقب أبي محمد في (المحلى) واستيفاء مخاصمته في تلك الاستدلالات الماتعة التي لا تزال بِكْرًا لَم تُفَض، ولؤلؤة لَم تُثْقَب!
والكتب التي عُنِيَتْ بالنقْضِ على أبي محمد أكثرها في عِداد المفقود الآن، وما أعلم في المتأخرين مَنْ تتبَّع جملة من مسائل أبي محمد والرد عليها سوى رجلين:
1- أبو الفضل العراقي في (شرح الترمذي ) و(طرْح التثريب).
2- وأبو الفضل ابن حجر في (فتح الباري).
وعلى كل حال: فإني أراك تعجَّلْتَ أمرًا كان لك في هَوَادَة وأنَاة، فإني كنتُ أفْصَحْتُ مِن قبل عن القيام بتسطير موضوع جديد
بعنوان: (مُنْتخبات فقهية من مقدمتي على المحلى لابن حزم). أذكر فيها مَعاقِد المآخذ على أبي محمد، وأمثلة وفيرة في هذا الصدد، ومَجَامِعَ مختلفة من النقْضِ عليه بما تُطْرَب له نفوس العارفين إنْ شاء الله.
ومع ذلك فلا بأس إنْ تعجَّلْتُ لك في هذا المقام بالتعليق على مسألة من مسائل (المحلى) التي أرى انحراف قلَم أبي محمد فيها عن نَهْج الصواب.
مع العِلْم بأن الأجزاء الأولَى من (المحلى) قد أخذها الناشر ليقوم بصَفِّها، والباقي معي أجزاء تشتمل على (كتاب الحج إلى أبواب البيوع ).
فأنا أسوق لك هنا مسألة مهمة من (مسائل البيوع) مستوفيًا عيون كلام أبي محمد، مع مناقشاتنا معه فيها.
فإذا وقفْتَ (أيها الفاضل) على هذه التعليقات؛ فلَك بعد ذلك أن تُشِير علينا بجدْوَاها أو غير ذلك مِن باب النصيحة الواجبة عليك يا رعاك الله.

أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2014-12-03, 07:07 PM
النقْضُ على أبي محمد في إجازته بَيْع العبد الآبِق
قال أبو محمد (1421 مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْعَبْدِ الآبِقِ عُرِفَ مَكَانُهُ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْجَمَلِ الشَّارِدِ عُرِفَ مَكَانُهُ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ. وَكَذَلِكَ الشَّارِدُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْ الطَّيْرِ الْمُتَفَلِّتِ وَغَيْرِهِ، إذَا صَحَّ الْمِلْكُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ(1).
وَأَمَّا كُلُّ مَا لَمْ يَمْلِكْ أَحَدٌ بَعْدُ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَحَدٍ، فَمَنْ بَاعَهُ فَإِنَّمَا بَاعَ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ.
وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا فَقَدْ صَحَّ مِلْكُ مَالِكِهِ لَهُ، وَكُلُّ مَا مَلَكَهُ الْمَرْءُ فَحُكْمُهُ فِيهِ نَافِذٌ بِالنَّصِّ: إنْ شَاءَ وَهَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ بَاعَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ، وَإِنْ مَاتَ فَهُوَ مَوْرُوثٌ عَنْهُ لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ مِلْكٌ وَمَوْرُوثٌ عَنْهُ، فَمَا الَّذِي حَرَّمَ بَيْعَهُ وَهِبَتَهُ(2).
وَقَدْ أَبْطَلْنَا قَبْلُ قَوْلَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّيْدِ يَتَوَحَّشُ، وَبَيْنَ الإِبِلِ، وَالْغَنَمِ، وَالْبَقَرِ، وَالْخَيْلِ يَتَوَحَّشُ وَكَذَلِكَ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الصَّيْدِ مِنْ السَّمَكِ، وَمِنْ الطَّيْرِ، وَمِنْ النَّحْلِ، وَمِنْ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ كُلُّ مَا مُلِكَ مِنْ ذَلِكَ: فَهُوَ مَالٌ مِنْ مَالِ مَالِكِهِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ. فَمَنْ ادَّعَى سُقُوطَ الْمِلْكِ عَنْهُ بِتَوَحُّشِهِ، أَوْ بِرُجُوعِهِ إلَى النَّهْرِ أَوْ الْبَحْرِ: فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ، وَأَحَلَّ حَرَامًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ تَوَرُّعٍ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ يُعْقَلُ(3).
فإن قال قائل: فَإِنَّهُ لاَ يَعْرِفُهُ أَبَدًا صَاحِبُهُ، وَلاَ غَيْرُ صَاحِبِهِ.
قلنا: فَكَانَ مَاذَا وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ عِنْدَكُمْ سُقُوطُ مِلْكِ الْمُسْلِمِ، عَنْ مَالِهِ بِجَهْلِهِ بِعَيْنِهِ وَبِأَنَّهُ لاَ يُمَيِّزُهُ، وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعَبْدِ يَأْبَقُ فَلاَ تُمَيِّزُهُ صُورَتُهُ أَبَدًا، وَالْبَعِيرُ كَذَلِكَ، وَالْفَرَسُ كَذَلِكَ أَفَتَرَوْنَ الْمِلْكَ يَسْقُطُ، عَنْ كُلِّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لاَ يُمَيِّزُهُ أَحَدٌ أَبَدًا، لاَ صَاحِبُهُ، وَلاَ غَيْرُهُ (4).
وَلَئِنْ كَانَ النَّاسُ لاَ يَعْرِفُونَهُ، وَلاَ يُمَيِّزُونَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْرِفُهُ وَيُمَيِّزُهُ لاَ يَضِلُّ رَبِّي، وَلاَ يَنْسَى بَلْ هُوَ عَزَّ وَجَلَّ عَارِفٌ بِهِ، وَبِتَقَلُّبِهِ وَمَثْوَاهُ، كَاتِبٌ لِصَاحِبِهِ أَجْرَ مَا نِيلَ مِنْهُ، وَمَا يَتَنَاسَلُ مِنْهُ فِي الأَبَدِ(5).
----- الحاشية ---------
(1) هذا ظاهر الفساد جدًا لا يحتاج التكلف لإبطاله! وإذا لم يكن في مثل تلك البيوعات غرَرٌ مما جاء النص بالنهي عنه وإبطاله فليس في الدنيا كلها غَرَرٌ قط!
وقد مضى أن الصواب: أن البيع لا ينعقد إلا بقبْضِ المَبِيع أو التمكُّن منه بوجه من الوجوه، وأبو محمد يكتفِي لصحة البيع بأنْ يُخَلِّي البائع بينه وبين المشترِي وحسب، وهذا على قصوره غير موجود أيضًا ولا مُتصوَّر في بيع العبد الآبق والبعير الشارد، والطير في الهواء، بل والسمك في الماء!
فإنْ قال أبو محمد: إنما أجَزْنا ذلك إذا كان معلوم الصفة والقَدْر؟
قلنا له: وماذا يفيد هذا في رجل باع لآخَر عصفورًا -باسمه وصفته - كان في حَوْزته، ثم طار مِن يده في بحار السماء فلا يدرِي أين ذهب؟
أو آخَر باع لغيره سمكة – باسمها ووصْفِها- كانت له يرعاها فسقطتْ مِن يده في قاموس المحيط الهادِر؟!
فبأيِّ شيء يستطيع هذا المشترِي المسكين أن يطلب هذا العصفور الهارب مِن سيده في فضاء السماء الذي لا يُدْرَك غَوْرُه؟
أو أين له أن يظفر بتلك السمكة البائسة وسط ما لا يُحْصَى مِن الحيتان ووحوش الماء في قعْر مُحِيطٍ مُظلِم تتلاطم أمواجه هنا وهناك؟!
وهل هذا إلا أكْلُ أموال الناس بالباطل الذي أتَى النهْي عنه في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}
والباطل هنا يكون بأمور: منها: أكْل المال بغير مقابل، ومنها: أكْلُه بطريق مُحرَّم كالربا وبَيع الغَرَر ونحوهما.
وأمثال هذه البيوعات بعينها: تُماثِل البيوع التي يُقِرِّ أبو محمد بتحريمها البتة: مثل حبل الحبلة وبيع السمك في الماء، وضرْبة الغائِص، واللبن في الضرْع، ونحوها مما هو مجهول وفيه مِن الغَرَر ما فيه.
(2) حرَّم هذا: عدَم قدرة البائع على تسليم ما باع ولا حتى على التخلية بين المشتري وبينه، فصار بيعًا لمعدوم لا يُدْرَى أين يكون في عالَم الإمكان؟!
قال شيخ الإسلام الشوكاني في «السيل الجرار»: «قد قدَّمْنا لك أن البيع والشراء هو حصول التراضِي مِن البائع والمشتري، فالمشترِي رَضِيَ بالعين المَبِيعة، والبائع رضِيَ بالثمن المقابِل لها.
وإذا تعذَّر تسليم العين المَبيعة ارتفَع التراضِي المعتَبَر، فلا بيع ولا شراء، بل وجود التراضِي المتقدم كعدمه؛ لأنه قد انكشف عدم وجود متعلّقه الذي كان التراضِي عليه، والثمن إنما يلزم بعد وجود عين المَبيع ومصيرها إلي المشتري، فمِثل هذا لا ينبغي أن يجعل من أنواع الخيار، بل ينبغي أن يُعَدَّ في مبطلات البيع.
هذا إذا تعذر تسليمه مطلقًا، أمَّا إذا تعذَّر في مدة ثم أمْكَن فقد دخل البائع في بيع منهي عنه؛ لأنه باع ما ليس عنده، فكان من هذه الحيثية غير صحيح، وإذا لم يصح التبايع فعند عَوْد المبيع إذا شاء تبايعا وإلا فهو باق على مِلْك البائع الأول، ولا حُكْم لِمَا وقع منهما من التبايع مع تعذر التسليم».
قلت: وإنما وجَب تعيين القبْض أو التمكين في صحة البيع؛ لأن قبْض المبيع واستيلاء المشتري عليه هو المقصود من البيع ريثما يتم الانتفاع بالمَبِيع جملة، فإذا فُقِد هذا الشرط عُدِم هذا المقصود مِن أصله! وحصَل الغَرَر الذي جاءتْ السنة بالنهْي عنه، بل وصار هذا مِن أكْل أموال الناس بالباطل.
ويُستَثْنَى مِن هذا: ما إذا أمْكَن للمشترِي أن يستوفِي المَبيع بأن يستخلصه مِن غاصبه- ولو كان هو الغاصب نفسه- أو يستطيع الظفر به، أو يقدِر على أخْذِه ومعرفة مكانه إذا كان عبدًا آبِقًا مَثلًا، وغير ذلك مِن الصور التي يحصل بها المقصود مِن استيفاء المَبِيع، والتمكُّن معه بوجهٍ يصلح مع الانتفاع.
قال ابن القيم في «حاشيته على السنن»: «أنتم تُجَوِّزون للمغصوب منه أن يَبِيع المغصوب لمَنْ يقدر على انتزاعه مِن غاصبِيه، و هو بيع ما ليس عنده، ولكنْ لمَّا كان البائع قادرًا على تسليمه بالبيع والمشتري قادرًا على تسلُّمه من الغاصب فكأنه قد باعه ما هو عنده، وصار كما لو باعه مالًا وهو عند المشتري وتحت يده وليس عند البائع.
والعِنْدِيَّة هنا: ليست عندية الحِسِّ والمشاهدة، فإنه يجوز أن يبيعه ما ليس تحت يده و مشاهدته، وإنما هي عندية الحُكْم و التمكين، وهذا واضح ولله الحمد»..
(3) وهذا حق، ولَمْ نخالفك في أنه ما زال ملكه، ولكنْ نخالفك في قُدْرته على الظفَر به وإدخاله حوْزَتَه مرة أخرى، فصار بيْعه له عبثًا وغرَرًا وأكْلًا لأموال الناس بالباطل؛ لأنه يَبِيع لهم الهواء؟!
(4) نعم: هو صاحبه ولا يسقط عنه ملْكه، ولكن أين هو ريثما يَبِيع منفعته؟ وما عِلْمُه به بعْد مفارقته؟ أظلَّ على صفته الأُولَى أمْ تبدَّل ذلك بحيث لو رآه لنْ يعرفه؟ فأيْشُ يصِفُه للمشتري منه وهو لا يدرِي عنه شيئًا قط؟
وكيف يستحِلّ مال أخيه في مَبِيع لا سبيل له إليه ولو ركِبَ المَجَرَّة؟! كالطيْر في السماء، والسمكة في الماء؟!
(5) هذا أجْرُ صاحبه عند الله قد عِرَفْناه، فما يكون أجْرُ المشترِي بَعْدُ في شيء لَمْ تُدْرِك عيناه ولا يدرِي أين يكون في هذه الدنيا؟!

يُتابَع بقية المسألة .....

أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2015-01-25, 09:20 PM
ثم قال أبو محمد: ( وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ بَيْعِ كُلِّ ذَلِكَ وَقَالُوا: إنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ بَيْعِهِ لِمَغِيبِهِ.
وَقَدْ أَبْطَلْنَا بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ وَأَتَيْنَا بِالْبُرْهَانِ عَلَى وُجُوبِ بَيْعِ الْغَائِبَاتِ(1).
وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ: وَهَذَا لاَ شَيْءَ ; لأََنَّ التَّسْلِيمَ لاَ يَلْزَمُ، وَلاَ يُوجِبُهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ دَلِيلٌ أَصْلاً، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ أَنْ لاَ يَحُولَ الْبَائِعُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ مَا اشْتَرَى مِنْهُ فَقَطْ فَيَكُونَ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاصِيًا ظَالِمًا (2).
وَمَنَعَ آخَرُونَ مِنْ ذَلِكَ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ غَرَرٌ ; وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ(3).
قال أبو محمد: لَيْسَ هَذَا غَرَرًا لأََنَّهُ بَيْعُ شَيْءٍ قَدْ صَحَّ مِلْكُ بَائِعِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَعْلُومُ الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ(4).
فَعَلَى ذَلِكَ يُبَاعُ وَيَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي مِلْكًا صَحِيحًا، فَإِنْ وَجَدَهُ فَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَقَدْ اسْتَعَاضَ الأَجْرَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَرَبِحَتْ صَفْقَتُهُ(5).
وَلَوْ كَانَ هَذَا غَرَرًا لَكَانَ بَيْعُ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ حَاضِرِهِ وَغَائِبِهِ غَرَرًا لاَ يَحِلُّ، وَلاَ يَجُوزُ ; لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي مُشْتَرِيه أَيَعِيشُ سَاعَةً بَعْدَ ابْتِيَاعِهِ أَمْ يَمُوتُ، وَلاَ يَدْرِي أَيَسْلَمُ أَمْ يَسْقَمُ سَقَمًا قَلِيلاً يُحِيلُهُ أَوْ سَقَمًا كَثِيرًا يُفْسِدُهُ أَوْ أَكْثَرَهُ (6).
وَلَيْسَ مَا يُتَوَقَّعُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ غَرَرًا لأََنَّ الأَقْدَارَ تَجْرِي بِمَا لاَ يُعْلَمُ، وَلاَ يُقْدَرُ عَلَى رَدِّهِ، وَلأََنَّهُ غَيْبٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} . وَإِنَّمَا الْغَرَرُ مَا عُقِدَ عَلَى جَهْلٍ بِمِقْدَارِهِ وَصِفَاتِهِ حِينَ الْعَقْدِ. فَإِنْ قَالُوا: فَلَعَلَّهُ مَيِّتٌ حِينَ الْعَقْدِ، أَوْ قَدْ تَغَيَّرَتْ صِفَاتُهُ قلنا: هُوَ عَلَى الْحَيَاةِ الَّتِي قَدْ صَحَّتْ لَهُ حَتَّى يُوقَنَ مَوْتُهُ، وَعَلَى مَا تُيُقِّنَ مِنْ صِفَاتِهِ حَتَّى يَصِحَّ تَغْيِيرُهُ (7).
فَإِنْ صَحَّ مَوْتُهُ رُدَّتْ الصَّفْقَةُ، وَإِنْ صَحَّ تَغَيُّرُهُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا. وَلَئِنْ قُلْتُمْ: إنَّ هَذَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ فَامْنَعُوا مِنْ بَيْعِ كُلِّ غَائِبٍ مِنْ الْحَيَوَانِ وَلَوْ أَنَّهُ خَلْفَ الْجِدَارِ إذْ لَعَلَّهُ قَدْ مَاتَ لِلْوَقْتِ حِينَ عَقَدَ الصَّفْقَةَ أَوْ تَغَيَّرَ بِكَسْرٍ، أَوْ وَجَعٍ، أَوْ عَوَرٍ (8).
نَعَمْ، وَامْنَعُوا مِنْ بَيْعِ الْبَيْضِ، وَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَكُلِّ ذِي قِشْرٍ، إذْ لَعَلَّهُ فَاسِدٌ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (9).
وَإِنَّمَا الْغَرَرُ مَا أَجَزْتُمُوهُ مِنْ بَيْعِ الْمُغَيَّبَاتِ الَّتِي لَمْ يَرَهَا أَحَدٌ قَطُّ (10).
مِنْ الْجَزَرِ، وَالْبَقْلِ، وَالْفُجْلِ، وَلَعَلَّهَا مُسْتَاسَةٌ أَوْ مَعْفُونَةٌ، وَمَا أَجَازَهُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ مِنْ بُطُونِ الْمَقَاثِي الَّتِي لَعَلَّهَا لاَ تُخْلَقُ أَبَدًا وَمِنْ لَبَنِ الْغَنَمِ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً، وَلَعَلَّهَا تَمُوتُ، أَوْ تُحَارَدُ، فَلاَ يَدُرُّ لَهَا شَخْبٌ. وَمِنْ بَيْعِ لَحْمِ شَاةٍ مَذْبُوحَةٍ لَمْ تُسْلَخْ بَعْدُ، فَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مَا صِفَتُهُ فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ هُوَ بَيْعُ الْغَرَرِ الْمُحَرَّمِ، وَقَدْ أَجَزْتُمُوهُ، لاَ مَا صَحَّ مِلْكُهُ، وَعُرِفَتْ صِفَاتُهُ(11).
------- الحاشية ---------
(1) ولكنْ شريطة القبْض والتمكين عندنا، أو التخْلية عندك، وذلك لا يكون إلا في المَبِيع الموجود المعلوم للبائع والمشتري جميعًا، أمَّا ما غاب عن البائع نفسه وخرَج عن حوْزَته-وليس عن ملْكه- فكيف تَطِيب نفْسُه بَيْعه لأخيه! وأيُّ شيء يظفَر به أخوه مِن تلك البيعة سوى استحقاق اسمها وحسب؟!
(2) لكن: محلُّ ذلك إذا كان المَبِيع معلومَ القدْرِ والصفة بين الطرفين جميعًا، وأين يكون هذا في بيع العبد الآبِق منذ خمسين سنة أو أكثر؟ أو البعير الشارِد منذ خمس سنين أو أكثر مُتدَاوِلات؟! أيُّ غَرَرٍ يكون أفحش مِن هذا في الدنيا؟!
وقضية التخلية هنا لا تمنع مِن الضرَر الحاصل بجهالة المَبِيع عينًا ووصْفًا لا محالة!
ونحن نسأل أبا محمد هنا: عن صفقة في بَيع عبدٍ موجود حال العقد ينظر إليه البائع والمشتري معًا، فلمَّا أبْرَمَا البيعَ وأراد المشتري استلام المبيع قال البائع للعبد: اهْرَبْ يا غلامُ مِن فَوْرِك ولا تَعُد! ففعل العبد وفَرَّ آبِقًا؛ ثم قال البائع للمشتري: شأنَك بعبدك فلَسْتُ أحول بينك وبين طلَبِه!
أليس يكون البائع قد حال بين المشترِي وبين ملْكه عندك وأنت تجعل الضمان في ذلك الوقت على المشترِي؟
فإن قلتَ: لا!
قلنا: هنا يسقط الكلام، لكونه مكابرة للحِسِّ والمشاهدة المعلومة بالضرورة.
وإن قلتَ: نعم. قد حال بينه وبين ملْكه.
قلنا: وهل أمَرَه البائع بأكثر مِن الإِباق يا قوم؟! فإن كان الإِباق يمنع التخْلية، فلا فَرْق بين حصولها بأمْرِه أو بأمْرِ سواه، طالما أن المانع مِن التخْلية موجود على كل حال هنا.
(3) [صحيح] سيأتي تخريجه قريبًا.
(4) وما قيمة هذا القدْر وتلك الصفة في عبدٍ هرَب يافِعًا ومضَى في إِباقه أكثر مِن ستين عامًا أو أكثر؟ أي صفة أو قَدْرٍ يبقى عند صاحبه مِن صفاته ومعرفته إنْ هو رآه يومًا من الدهر؟!
(5) واللهُ أرْحَم به مِن أن يُبِيح له أنْ يَرْمِي بماله في مَضْيَعة ثم يقعد ملُومًا محسورًا، وهو قد نهاه قبْلُ عن إضاعة المال!
(6) هذه مغالَطة مكشوفة جدًا، والحيوان هنا موجود معلوم القيمة والصفة عِلْمًا مستقرًّا عند البائع والمشتري جميعًا، فإذا قبَضَه المشتري فلا عليه مِن مغالطتك هنا؛ لأنها لو صحَّتْ لَمَا سَلِم بَيْع في الدنيا مِن الغرَر على هذا المنطق المَشْبوه قط!
وأين بَيْع المعلوم الموجود المقدور على تسليمه مِن بَيْع المجهول الغائب الذي لا يدرِي عنه البائع والمشترِي شيئًا؟!
(7) وكيف للبائع التيَقُّن من هذا في عبده الهارب -وهو يَفَعٌّ- مِن ستين عامًا أو أكثر؟ بأي شيء يصفه لمنْ يبيعه؟ وعلى أيِّ حال يظفر به المشترِي؟ وهل إذا رآه أصلًا بعد هذا يتبيَّن له منه شيء؟ فلا يكون هذا إلا طلَبَ المستحيل أو إعجازَ القادِر فيما لا يقدِر عليه؟
(8) هذه مغالطة أخرى غير مُجْدِيَةٍ في إصلاح الفاسد! لأنه إن كان المَبِيع موجودًا فنحن نشترِط تمكينَ المشتري منه وقبْضَه له وقْت بيعه، فإن وجَد منه غير ما يُوصَف له فهو وشأنه، إنْ شاء أمضَى البيع وإلا تنكَّب عنه.
وإنْ كان غائبًا إلا أنه موصوف؛ فالبيع صحيح عند جماعة، غير أنه يلزمه رؤيته، فإنْ وجَده على غير الصفة التي تمَّ البيع عليها؛ فله خيار الرؤية عند مَن يقول به، أو فسْخ العقد كله عندك نفْسَك أبا محمد، كما ذكرْتَ في بيع الغائب.
(9) هذا يوم المُغالَطات! والفرق أننا نخاصِمُك في المَبِيع المعدوم للبائع نفسه فضلًا عن المشتري، وأنت تُجادِل في المِبيع الحاضر المُشاهَد أو الغائب الموصوف قدْرًا وحالًا؟!
ومَنْعُ البيع خشية عَطَبِه في المستقبل: يُبْطِل كلَّ بيعٍ يكون في العالَم! لأنه ما مِن شيء إلا ويُخْشَى عليه مِن العَوارِض لا محالة.
لكن الخشية هنا: أمْر ظنِّي دائر بين الوقوع وعدَمه، لأن المَبِيع لا يزال أمامنا قائمًا في يد البائع أو المشتري على صفته الأولَى، وأين ذلك مما غاب عنهما جميعًا ولا يدركان صفته ولا كيف صار بعدما صار؟
أمَّا بيع البيض وغيره: فالجواب عنه ما يأتِي من قول أبي محمد نفسه: «وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْبَيْضِ كَمَا هُوَ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْهُ مَا فِي دَاخِلِهِ، وَدَخَلَ الْقِشْرُ فِي الْبَيْعِ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ»، ويُلِحق به الجوز واللوز على التحقيق.
فالتحقُّق مِن فساد البيض لا يكون إلا بإفساده على البائع، فصار معرفة ذلك متعذرًا لا محالة، ومثله الجوز-وكذا اللوز-؛ لكونه يفسد إنْ تُرِك مدة بعد قلْع قِشْرِه.
(10) هذا لازِم عند القائلين به، ولسنا منهم.
(11) مضى أن البائع لا سبيل له إلى إدراك تلك الصفات التي كان يعرف بها عبده الآبِق منذ عشرات السنين؟ فأيٌّ تمييز يقوم عنده إذا أراد بيْعه بعد ذلك؟ وما هذا إلا غرَرٌ مكشوف جدًا لا يرضاه الله ورسوله.

يُتابَع بقية المسألة: .....

أبو المظَفَّر السِّنَّاري
2015-01-25, 09:21 PM
ثم قال أبو محمد: (وَمِمَّنْ أَجَازَ بَيْعَ الْجَمَلِ الشَّارِدِ، وَالْعَبْدِ الآبِقِ: عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ(1) وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد(2)، وَأَصْحَابُنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ).
ثم قال أبو محمد في المسألة (1425): (وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ الْمُغَيَّبَاتِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا دُونَ مَا عَلَيْهَا أَصْلاً:
لاَ يَحِلُّ بَيْعُ النَّوَى أَيُّ نَوًى كَانَ قَبْلَ إخْرَاجِهِ وَإِظْهَارِهِ دُونَ مَا عَلَيْهِ. وَلاَ بَيْعُ الْمِسْكِ دُونَ النَّافِجَةِ قَبْلَ إخْرَاجِهِ مِنْ النَّافِجَةِ. وَلاَ بَيْعُ الْبَيْضِ دُونَ الْقِشْرِ قَبْلَ إخْرَاجِهِ عَنْهُ. وَلاَ بَيْعُ حَبِّ الْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَالْفُسْتُقِ، وَالصَّنَوْبَرِ ، وَالْبَلُّوطِ، وَالْقَسْطَلِ، وَالْجِلَّوْزِ، وَكُلِّ ذِي قِشْرَةٍ دُونَ قِشْرِهِ قَبْلَ إخْرَاجِهِ مِنْ قِشْرِهِ).
إلى أن قال: (وبالضرورة يدرى كل أحد أنه لا يمكن البتة وجود الرضا على مجهول، وإنما يقع التراضِي على ما علم وعرف؛ فإذ لا سبيل إلى معرفة صفات كل ما ذكرنا ولا مقداره = فلا سبيل إلى التراضِي به، وإذ لا سبيل إلى التراضِي به فلا يحل بيعه، وهو أكل مال بالباطل)(3).

----- الحاشية -------
(1) قال ابن عبد البر في «التمهيد»: «وقال عثمان البتي: لا بأس ببيع الآبِق والبعير الشارد، وإنْ هلك فهو من مال المشتري وإنْ اختلفا في هلاكه فعلى المشتري البينة أنه هلك قبل أن يشتريه، وإلا أعطاه قيمته، وكذلك المبتاع إذا تقدم شراؤه».
ثم قال ابن عبد البر: «قول عثمان البتي هذا: هو مردود بالسُّنَّة المذكورة في هذا الحديث».
يعني: حديث أبي هريرة في النهي عن الغَرَر.
وقال في «الاستذكار»: «قول عثمان البتي: مردود بنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر، ولا حجة لأحد في جهْل السنة ولا في خلافها، وقد أجمع علماء المسلمين أن مبتاع العبد الآبق والجمل الشارد وإن اشترط عليه البائع أنه لا يردَّ الثمن الذي قبضه منه- قَدَرَ على العبد أو الجمل أوْ لَمْ يقْدِر- أن البيع فاسد مردود».
قلت: دعوى الإجماع هنا فاسدة بثبوت الخلاف عن بعض السلف كما مضى.
(2) هو الإمام ابن الإمام محمد بن داود بن علي بن خلف الأصبهاني الفقيه العلامة المحقق الأصولي المجتهد المُطْلَق. وكان مولده ووفاته (255 - 297 هـ ). وهو من أقران ابن جرير الطبري عِلْمًا ومعرفة وفهْمًا، وقد بسَطْنا بعض أخباره في رسالتنا: (التقاضيِ فيما وقع بين داود الظاهري وإسماعيل القاضي).
(3) وهذا كله عليك في بيع العبد الآبق مِن سيده منذ عشرات السنين؟! فغاب عليه وصْفُه ومعرفته وحَجْمُه، فصار في حُكْم المجهول مع طول غِيابه، فكيف يصح بَيْعه وتلك حاله في العدَم؟
ولعله وَرِثه عن أبيه أو جده، وكان هروب العبد قبل مَوْلِد البائع بدهر! فكيف السبيل له إلى معرفة صفاته وحاله؟! وماذا يصح له أن يقوله لمُشْترِيه بعد؟!
ومع ذلك: فنرَاك لا تمنع أنْ يَبِيعه المشتري لآخَر، والآخَر لآخَر! حتى يدور بالبيع بين أكثر من عشرة رجال كلهم لا يدرِي عن ذلك العبد شيئًا قط! اللهم سوى اسمه الذي يشاركه فيه آلاف، أو لونه الموجود في غيره مِن ملايين البشر! ولعله أُسِرَ أو عطَب أو أكلَه السبْع!
وهل بَيْع مثل هذا إلا عَيْنُ أكْل أموال الناس بالباطل أبا محمد!

------------
انتهى تعليقنا على كلام أبي محمد في إجازته بيع العبد الآبِق، من جملة تعليقاتنا على كتابه: (المحلَّى).