المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي



أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-08, 11:12 PM
أشرع -إن شاء الله تعالى- في تنقيح وتصحيح "مباحث الأدلة" من محاضرات الشيخ العلامة/ أحمد بن عمر الحازمي من شرحه لكتاب (قواعد الأصول ومعاقد الفصول).
وكنت قد قمت قبل ذلك بتصحيح وتنقيح المباحث اللفظية.
وأقول كما قلت سابقا: بالنسبة لتفريغ هذه المحاضرات فهو من عمل موقع الشيخ حفظه الله تعالى، وجزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء، لكن في الحقيقة المحاضرات المفرغة -وهي لم تراجع من قبل الشيخ- بها أخطاء كثيرة جدا، وهناك أخطاء شنيعة ما بين أخطاء نحوية وإملائية وعلمية، فقمت بتصحيحها وضبطها قدر المستطاع؛ بحيث تكون جاهزة للقراءة والمذاكرة لمن أراد، وفي نظري أنها نافعة جدا إن شاء الله لطلبة العلم، والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-08, 11:38 PM
مباحث الأدلة


تعريف الدلالة:

[المتن]:

[الباب الثاني في الأدلة(1): أصل الدلالة: الإرشاد(2)، واصطلاحا قيل: ما يُتوصل به إلى معرفة ما لا يُعلم في مستقر العادة اضطرارا عِلما أو ظنا(3)].

[الشرح]:

(1) (الباب الثاني في الأدلة):

انتقل إلى الباب الثاني، وهو باب الأدلة؛ لأنه لما عرف أصول الفقه قال: وذلك في ثلاثة أبواب:

الباب الأول: في الأحكام. وبينها لك.

(الباب الثاني في الأدلة): ومناسبة ذكر الأدلة هنا أنه عرّف لك أصول الفقه بأنه أدلة الفقه الإجمالية.


أصول دلائل الإجمال وطرق الترجيح قيد تالي














أدلة الفقه الأصول مجملة وقيل معرفة ما يدل له

إذًا أصول الفقه ما هو؟

أدلة الفقه التي يستنبط منها المجتهدُ الأحكامَ الشرعية، حينئذ يرد السؤال ما هي الأدلة الشرعية؟ وما هي أنواعها؟ ما هو المتفق عليه منها؟ وما هو المختلف؟

حينئذ لا بد من السؤال ولا بد من الجواب، لذلك عقد المصنف هذا الباب الثاني في الأدلة؛ أي الأدلة الشرعية.

(2) (أصل الدلالة: الإرشاد):

يقال: دَلالة، ودِلالة، ودُلالة؛ يعني مثلثة الدال، والأفصح: الفتح، ثم الكسر، ثم الضم، بل قال الشيخ الأمين -رحمه الله تعالى-: "وأردؤها الضم" كما في (المقدمة المنطقية)؛ يعني أدناها وإن ثبت لغة، لكن لو قيل دُلالة بالضم لا بأس، له وجه في اللغة.

(أصل الدَّلالة): أو الدِّلالة.

(الإرشاد): لأن الدليل في اللغة مشتق من الدلالة، والدليل يحصل به الإرشاد، فحينئذ نقول: الدلالة في اللغة -في أصل وضعها اللغوي- المراد بها: الإرشاد.

وبعضهم يقول: الدلالة في الاصطلاح: "فهم أمر من أمر".

وبعضهم يجعل هذا الضابط -أيضا- معناها اللغوي، لكن المشهور أنه معناها الاصطلاحي.

"فهم": الفهم إدراك المعنى.

"أمر من أمر"، أمر سواء كان لفظا أو ليس بلفظ، فيشمل اللفظ، ويشمل الإشارة، والكتابة، والنُّصُب، والعُقد، ولسان الحال؛ لأنه يُفهَم منها، تُدرَك المعاني من الألفاظ وتُدرَك من غير الألفاظ، إذًا فهم الشيء أو إدراكه لا يختص بالألفاظ، بل الإشارات، والكتابة، والعقد، والنصب، هذه كلها تكون محلا للفهم.

"فهم أمر من أمر": أي إدراك معنى، الفهم مطلقا.

إدراك معنى الكلام كما ذكرناه في حد الفقه، قلنا: الفقه في اللغة: الفهم، والمراد بالفهم إدراك معنى الكلام.

لماذا قيّدنا الفهم هناك بإدراك معنى الكلام، وقلنا هنا: الدلالة فهم أمر؛ إدراك معنى مطلقا سواء كان لفظا أو لا؟

هناك قيدناه، وذكرنا تعريف أبي هلال العسكري؛ أن الفهم هو العلم بمعاني الكلام عند سماعه مطلقا؛ لأن الفقه هناك المراد به فهم الأدلة، وهي لفظية، فناسب أن يُقيّد الفهم هناك؛ لئلا يرد تعارض بين ذكر الفهم هنا بـأنه مطلق؛ سواء كان من الألفاظ أو غيرها.

كيف نقول في حد الفقه في أول الكتاب: هو لغة: الفهم، والمراد بالفهم إدراك معنى الكلام، ثم نأتي هنا ونقول: فهم أمر من أمر؛ الفهم هنا لا يختص بالكلام؟

فليس بينهما تعارض، هنا الدلالة مطلقة، سواء كانت مأخوذة من النصوص، أو من غيرها، فحينئذ يُعمَم، وهناك الدلالة أو الفهم مُقيَد بالنصوص، والنصوص لفظية.

"فهم أمر من أمر": هذا الحد يُفهَم منه أن الدلالة تكون دلالة إذا حصل الفهم بالفعل، وإذا لم يحصل الفهم منه بالفعل لا يُسمى دلالة.

يتضح بالحد الثاني، أو نقول في حدها: "كون أمر بحيث يُفهَم منه أمر آخر فُهِم منه بالفعل أو لم يفهم".

"كون أمر": يعني وجود شيء.

"أمر": نكرة مطلق، سواء كان لفظا، أو كتابة، أو إشارة، أو أي شيء يمكن أن يكون دليلا يُوضع.

"بحيث يُفهَم منه أمر آخر فُهِم بالفعل أو لم يُفهَم": يعني هل يُشترط في الحكم على الدَّلالة أو على الدليل أنه لا يسمى دلالة ولا دليلا إلا إذا حصل الفهم؟ وإذا لم يحصل الفهم انتفى الوصف بالدلالة أو الدليل؟ أيها أولى؟

نقول: الأولى؛ أن يُعمَم الحكم، فيكون الدليل دليلا سواء فهمت منه المقصود أو لم تفهم، قد تقرأ آية أو حديثا لم تفهم حرفا واحدا، نقول: هذا دليل أو ليس بدليل؟

دليل، لكن لم يحصل الفهم، والدلالة: "فهم أمر من أمر"!

نقول: هو يُفهِم بالقوة لمن كان أهلا للنظر فنظر، فيحصل الفهم، ولكن لقصور الناظر لما نظر لم يفهم، لا لذات الدليل، وإنما لقصور الناظر، فنقول: يُسمى دليلا ولم لو يحصل الفهم بالفعل، وهذا أولى.

والفرق بين التعريفين: أن يُقال: قولهم: "فهم أمر من أمر" أنه لا يسمى دلالة أو دليلا إلا إذا حصل الفهم بالفعل، وُجد الفهم، قرأت فهمت، حينئذ هذا هو الدليل، وما عداه ليس بدليل.

نقول: لا، فلذلك الحد الأجمع أن نقول: "كون أمر بحيث يُفهَم منه أمر فُهم منه بالفعل أو لم يُفهَم"، الشيخ الأمين -رحمه الله تعالى- يذكر مثالين لما يحصل به الدليل ولو لم يحصل به الفهم، يقول: الصحابة -رضي الله عنهم- اختلفوا في الكلالة.

ما هي الكلالة؟

الورثة الذين لا أب ولا ولد، لا فرع ولا أصل، هذه اختلف فيها الصحابة ما المراد بها؟

مع أن النص يدل، {يَسْتَفْتُونَك قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}[النساء176]؛ يعني ليس له ولد، ثم ورَّث الأخت قال: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}، كيف دلّ هذا النص على عدم الأب؟

لأن الأخت لا ترث مع وجود الأب، فتوريث الأخت يستلزم عدم وجود الأب.

إذًا بدلالة الالتزام دلّ النص على عدم وجود الأب الذي هو الأصل، وبدلالة المنطوق: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}، دلّ على عدم وجود الفرع، حينئذ الدليل دليل ولو لم يحصل الفهم لبعض الصحابة.

فعدم الفهم لما دلّ عليه النص لا يخرجه عن كونه دليلا، ولذلك نقول: "بحيث يُفهَم منه فُهم بالفعل؛ بالإيجاد، أو لم يُفهَم"؛ لأنه يُفهِم بالقوة وإن لم يُفهِم بالفعل.

كذلك قصة يعقوب -عليه السلام- لما رأى الدم على قميص يوسف -عليه السلام- واستخلى قال: «سبحان الله متى كان الذئب حليما كيسا يقتل يوسف ولا يشق قميصه!» هكذا قيل، إذًا عدم شق القميص يعتبر دليلا في حق يعقوب -عليه السلام-، وإن لم يَفهم منه أولاد يعقوب ما فهمه يعقوب -عليه السلام-، فهو دليل، سواء فُهم منه بالفعل كما فهم يعقوب، أو لم يُفهَم منه بالفعل كما لم يفهم منه أولاد يعقوب، فهو دليل، حينئذ نقول: الدلالة أعم.

(أصل الدلالة: الإرشاد): وتطلق الدلالة على الدليل مجازا، الدليل: فعيل، مشتق من الدلالة، والدلالة تطلق على الدليل، لكن من جهة المجاز لا من جهة الحقيقة؛ لأن الدلالة مصدر، وإطلاق المصدر على اسم الفاعل هذا مجاز، ولذلك يُقال: "زيد عدل"، لا بد من التأويل؛ يعني "زيد ذو عدل"، أو "زيد عادل"، لا بد من التأويل، هنا الدلالة تطلق على الدليل، لكن تطلق مجازًا لا حقيقة.

(3) (واصطلاحا قيل: ما يُتوصل به إلى معرفة ما لا يُعلم في مستقر العادة اضطرارا عِلما أو ظنا):

(واصطلاحا): أراد أن يُعرف الدلالة اصطلاحا، والاصطلاح هو الذي ذكرناه سابقا، الدلالة في الاصطلاح: "فهم أمر من أمر"، لكن هنا أراد أن يفسر لنا الدلالة بمعنى الدليل.

إذًا أُطلقت الدلالة مرادا بها الدليل مجازا، ولم يرد الدلالة في الاصطلاح الذي ذكرناه سابقا، وهو "فهم أمر من أمر"، أو "كون أمر بحيث يُفهَم منه أمر فُهِم منه بالفعل أو لم يُفهَم"، هذا في الاصطلاح للدلالة نفسها، في الحقيقة الاصطلاحية أو العرفية، وهنا الدلالة باعتبار كونها أُطلقت على الدليل؛ يعني بالنظر إلى كونها دليلا.

(ما يتوصل به إلى معرفة ما لا يُعلم في مستقر العادة اضطرارا عِلما أو ظنا): المصنف يأتي بحدود بعيدة جدا، ويترك المشهور عند الأصوليين، والمشهور عندهم أن يقال: الدليل: "ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري"، هذا أوضح مما ذكره المصنف هنا.

"ما": أي شيء.

"يمكن التوصل": عبّر بالإمكان ولم يعبر بالفعل؛ لأن الدليل دليل ولو لم يحصل الفهم منه بالفعل، متى ما أمكن الفهم يسمى دليلا، سواء فهمت منه بالفعل أو لم تفهم.

"بصحيح النظر": يعني بالنظر الصحيح، والنظر هو: "الفكر المؤدي إلى علم أو ظن"، والفكر هو: "حركة النفس في المعقولات"، وحركتها في المحسوسات تسمى تخييلا لا فكرا.

إذًا نقول: النظر حدّه: "الفكر المؤدي"؛ المؤدي بمعنى الموصل.

"إلى علم أو ظن": إذًا منتهى النظر قد يكون علما، وقد يكون ظنا، فلا يشترط في النظر أن يكون قطعيا، بل قد يكون قطعيا مؤداه ومقصوده، وقد يكون ظنيا.

"ما يمكن التوصل بصحيح النظر": من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي النظر الصحيح، احترازا عن النظر الفاسد؛ لأن الناظر -مثلا- في الأدلة الموصلة إلى الفقه؛ إما أن ينظر بواسطة القواعد والأصول التي وضعها أهل العلم، وإما أن ينظر بهوى، وهذا كثير عند أهل الأهواء، ينظر في الكتاب والسنة بهواه، فحينئذ ماذا تكون النتيجة؟ نظر صحيح أو نظر فاسد؟

نظر فاسد ولا شك.

متى يكون النظر صحيحا؟

إذا سار على الطريق المرسومة التي وضعها الأصوليون –مثلا- في مثل هذا الفن، ولذلك أصول الفقه يعتبر أساسا ومنهجا لمن أراد استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

"إلى مطلوب خبري": خبري؛ بمعنى النسبة الإسنادية التي تكون بين المبتدأ والخبر، أو الفعل والفاعل؛ لأن الإدراك المتعلق بالجملة الاسمية يسمى تصديقا، وكذلك الإدراك المتعلق بالجملة الفعلية يسمى تصديقا.

إذًا "إلى مطلوب خبري": نسبة إلى الخبر، وهو الإسناد التام، احترز به عن مطلوبٍ تصوري، وهو إدراك المفرد.

ولذلك الدليل عند الأصوليين لا يكون إلا مركبا؛ لأن الإدراك إما أن يكون متعلقا بمفرد (كلمة واحدة؛ اسم، أو فعل، أو حرف)، وإما أن يكون متعلقا بجملة تامة، إن كان متعلقا بجملة تامة؛ أدرك المعنى المراد والمقصود من الجملة الاسمية على وجه التمام، وأدرك المعنى والفائدة المترتبة أو المفهومة من الجملة الفعلية على وجه التمام؛ نقول: هذا تصديق، ما عدا ذلك فهو تصور.

متى يكون النظر دليلا؟

إذا كان موصلا إلى مطلوب خبري؛ بمعنى تصديق.

فالدليل عند الأصوليين لا يكون إلا مركبا، هذا هو الدليل عندهم.

فحينئذ قوله: "إلى مطلوب خبري": يعني إلى تصديق.

نقول: هذا التصديق قسمان:

قد يكون علما، وقد يكون ظنا.

فحينئذ تخصيص الدليل بما أفاد القطع دون الظن تخصيص بلا مُخصص.

فقولهم: "إلى مطلوب خبري" يشمل النوعين، فكل ما أوصل إلى مطلوب خبري سواء كان هذا المطلوب قطعيا -أي يفيد العلم-، أو ظنيا -يفيد الظن- يسمى دليلا.

خلافا لما عليه أكثر المتكلمين -كما سيأتي- من تخصيص الدليل لما أفاد القطع والعلم، وما أفاد الظن هذا لا يسمى دليلا عندهم، بل يُسمى أمارة وعلامة.

والتفريق هذا باطل فاسد؛ بدليل شمول الدليل للنوعين.

(واصطلاحا قيل: ما يتوصل):



هو ما به للخبر الوصول



بنظر صح هو الدليل




والنظر الموصل من فكر إلى



ظن بحكم أو لعلم مُسجلا




إدراك من غير قضا تصور



ومعْه تصديق وذا مشتهر




(واصطلاحا قيل: ما يتوصل به إلى معرفة ما لا يُعلم في مستقر العادة اضطرارًا عِلما أو ظنا): لو أردنا خلاصة الحد نقول: "ما يُتوَصل به إلى معرفة علم أو ظن".

(ما لا يُعلَم في مستقر العادة اضطرارا): مراده أن متعلَق الدليل لا يكون من العلوم الضرورية، وإنما لا بد وأن يكون نظريا.
أما إن كان ضروريا فحينئذ في أي شيء ينظر؟!

نقول: "الفكر المؤدي إلى علم أو ظن"، هذا هو النظر.

"السماء فوقنا"، هل يحتاج إلى فكر وتأمل واستشارة واستخارة؟! ما يحتاج، "الأرض تحتنا"، لا تحتاج، "النار مُحرقة"، "الكل أكبر من الجزء".

إذًا كل ضروري لا يحتاج إلى بحث، لا يوجد فقيه يأتي بالكتب الستة، ثم يبحث ويقول: صلاة الفجر واجبة أو لا؟ لا يمكن، إنما يبحث ما يحتمل البحث، وهو ما لم يكن ضروريا، فإن كان ضروريا لا يحتاج إلى بحث.

لذلك قال: (ما لا يُعلم في مستقر العادة اضطرارا): اضطرارا هذا مفعول به لـ (يعلم).

(في مستقر العادة): يعني ما استقر عادة عند أصحاب كل فن، فالمستقر عادة عند النحاة أحكام تخصهم، والمستقر عادة عند الأصوليين أحكام تخصهم، وكذلك الفقهاء، إلخ.

(ما): أي شيء.

(يتوصل به): يعني يُوصَل به ويؤدي إلى نتيجة.

ما هي هذه النتيجة؟

(إلى معرفة علم أو ظن): النتيجة التي تكون لازمة للمقدمتين، إما أن تفيد علما، وهذا فيما إذا كانت المقدمتان قطعيتين، أفادتا العلم واليقين.

مثّلوا لذلك بالتغير، التغير قالوا: يدل على حدوث العالم، كيف؟

قالوا: "العالم متغير"، "وكل مُتغير حادث"، "فالعالم حادث"، قالوا: هذه نتيجة قطعية، "العالم متغير"، "وكل مُتغير حادث"، هذا هو الدليل.

تتأمل العالم، ما المراد بالعالم؟ تتصور، ثم "العالم متغير"، ثم ما المراد بالتغير هنا؟ ثم ما إثبات هذه المقدمة الصغرى؟ هل هي قطعية أو ظنية؟ هذا يحتاج إلى تأمل وبحث، ثم المقدمة الكبرى، "وكل متغير حادث" يحتاج إلى بحث ونظر وتصور، الموضوع والمحمول، ثم تثبت أن الأولى قطعية، والثانية قطعية -وهذا الكلام فيه نظر- تكون النتيجة لازمة للمقدمتين، فإن كانت المقدمتان قطعيتين لزم أن تكون النتيجة قطعية، فإن لازم المقدمات بحسب المقدمات، هكذا يقول المناطقة، فإن كانتا قطعيتين أفاد -الدليل- القطع، هذا نوع، فإن كانتا ظنيتين أفاد الظن، ولا إشكال، إن كانت إحداهما ظنية والأخرى قطعية أفاد الظن؛ لأن ما تركب من القطعي والظني ظن.

حينئذ نقول: الدليل ما يُتوَصل به إلى معرفة علم، متى هذا؟

إذا كانت كل من المقدمتين قطعيتين.

(أو ظن): فيما إذا كانت المقدمتان ظنيتين، أو إحداهما ظنية والأخرى قطعية، يذكرون مثالا للظن، الاستدلال بالغيم على نزول المطر قطعي أو ظني؟ إذا جاء غيم وعم الأرض نقول: المطر سينزل إن شاء الله. قطعي أو ظني؟

ظني؛ لأن هذا غيب، العادة أن وجود الغيم يترتب عليه نزول المطر، هذه النتيجة ظنية ليست بقطعية؛ لأنه قد يتخلف نزول المطر مع وجود الغيم.

(ما يتوصل به إلى معرفة ما لا يُعلَم في مستقر العادة اضطرارا عِلما أو ظنا): أي ما يُتوصَل به إلى معرفة علم أو ظن لما لا يُعلَم ضرورة، أما ما عُلِم ضرورة فليس متعلقا بالنظر الصحيح.

إذًا عرفنا المراد بالدليل في اصطلاح الأصوليين: "ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري"، هذا أصح مما ذكره المصنف وأولى.

وما ذكره هو للدلالة بمعنى الدليل، ولذلك يقول: دليل فعيل بمعنى فاعل؛ لأنه يحصل به الإرشاد؛ لأنه المرشد حقيقة وما يحصل به الإرشاد مجازا؛ يعني يطلق الدليل على المرشد حقيقة؛ الذي وضع العلامة لترشد الناس، وعلى العلامة نفسها، لكنه من قبيل المجاز.
إذًا يطلق في اللغة: الدليل على المرشد سواء باشر بنفسه أو لا، فَعَل الإرشاد أو لا، وعلى ما حصل به الإرشاد، وهو العلامة، لكن الثاني مجاز.

فالمرشد هو: الناصب للعلامة، أو الذاكر لها، الناصب للعلامة؛ يعني في الحس، أو الذاكر لها إذا كانت باللسان ونحو ذلك.
والذي يحصل به الإرشاد هو العلامة التي نصبت للتعريف.

الإمام أحمد -رحمه الله- له كلمة مشهورة في رتب المذهب، يقول: "الدال: الله تعالى، والدليل: القرآن، والمُبين: الرسول، والمستدل: أولو العلم، هذه قواعد الإسلام".

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-08, 11:51 PM
تعريف الدليل:

[المتن]:

[والدليل يراد به إما الدال؛ كدليل الطريق، أو ما يستدل به من نص أو غيره(1)]،

[الشرح]:

(1) (والدليل يراد به إما الدال؛ كدليل الطريق، أو ما يستدل به من نص أو غيره):

الدليل إما أن يُطلق ويُراد به الدال، من هو الدال؟

الفاعل المرشد، الفاعل هو الدال، حينئذ يكون الدليل: "فعيل"؛ بمعنى فاعل؛ لأن "فعيل" يأتي بمعنى فاعل، ويأتي بمعنى مفعول، وهنا دليل يجوز أن يكون بمعنى فاعل، فحينئذ يكون المراد به الدال الذي نصب العلامة.

(والدليل يراد به): في اللغة.

(إما الدال): وهو الناصب للدليل، أو الفاعل.

(كدليل الطريق): دليل الطريق من هو؟

الذي يدلك، تقول: أين طريق العتيبية مثلا؟ يقول لك: اذهب كذا وكذا، نقول: هذا دليل الطريق، أو يأخذ بيدك ويمشي، نقول: هذا يسمى دليل الطريق.

(أو ما يستدل به): فحينئذ يكون الدليل من "فعيل"، بمعنى اسم المفعول، الأول: الدال، والثاني: يستدل به، فحينئذ يكون الأول بمعنى فاعل، ويكون الثاني بمعنى مفعول.

وانظر تطبيق العلماء على ما يعرفون من قواعد، هو الآن كأنه طبّق لك القواعد التي يعرفها دون أن يذكر لك "فعيل" يأتي بمعنى فاعل، ويأتـي بمعنى مفعول، وما الدليل على أن "فعيل" يأتي بمعنى فاعل؟ وما الدليل على أن "فعيل" يأتي بمعنى مفعول؟ وما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ وما الذي ينبني عليهما من خلاف؟ هذه كلها قواعد تكون راسخة في الذهن، ثم شرح لك على ما يعلمه.

(والدليل يراد به .. الدال .. أو ما يستدل به): يعني ويطلق الدليل على ما يستدل به.

ما الذي يستدل به؟

(من نص): كتاب، أو سنة.

(أو غيره): كالإجماع، والقياس، وهذا هو الدليل في عرف الفقهاء، فإذا أُطلق الدليل في عرف الفقهاء يحمل على النص ونخوه.

حينئذ يكون الدليل عند الفقهاء "فعيل" بمعنى مفعول، فإذا أُطلق صار حقيقة عرفية في فنهم، ولا يجوز تفسير مصطلحات الفنون بغيرهم، فإذا فسرت الدليل هنا عند الأصوليين تفسره بمعنى ما يمكن التوصل به .. إلى آخر التعريف، وإذا فسرت الدليل عند الفقهاء تفسره بالنص الذي هو الكتاب، والسنة، وكذلك القياس، والإجماع، والاستصحاب، ونحو ذلك.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-09, 12:07 AM
الألفاظ المرادفة للدليل:

[المتن]:

[ويرادفه ألفاظ منها: البرهان، والحجة، والسلطان، والآية(1)]،

[الشرح]:

(1) (ويرادفه ألفاظ منها: البرهان، والحجة، والسلطان، والآية):

(ويرادفه): بعد أن انتهى من الدليل ومتعلقات الدليل قال:

(ويرادفه في المعنى ألفاظ متعددة، منها): أي من هذه الألفاظ المرادفة للدليل.

(البُرهان) بضم الباء، يُقال: بَرهن عليه؛ أي أقام البُرهان، فحينئذ تفسر البرهان بما فسرت به الدليل؛ لأن اصطلاح الأصوليين هنا -وهم المتكلمون- على أن هذه الألفاظ مترادفة من جهة المعنى، ولو كان ثم فرق بينها من جهة اللغة فلا يؤثر في المصطلحات.

(ويرادفه .. ألفاظ .. منها: البُرهان): والبُرهان حينئذ يكون بمعنى الحجة والدليل، وجاء استعماله في القرآن بمعنى الدليل: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة111]، {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} [المؤمنون117]، إذًا {لَا بُرْهَانَ}؛ أي لا دليل له عليه.

(والحُجة): يعني ومما يرادف الدليل في المعنى الحُجة، بضم الحاء، والحُجة بمعنى الدليل، وتطلق على ما تثبت به الدعوى: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}[الأنعام149]، وسُمي الدليل بالحُجة للغلبة به على الخصم؛ لكونه إذا ذَكَر الدليلَ غلب خصمه، فحينئذ يسمى دليلا، ويسمى بهذا الاعتبار حجة.

(والسلطان): يعني ويرادف الدليلَ السلطانُ، فحينئذ يكون السلطان بمعنى الحجة والدليل، وجاء في القرآن {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا}[يونس68]، {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}[إبراهيم10]، إذًا جاء السلطان مستعملا في القرآن مرادا به الدليل، ولكن ليس هذا اشتقاق المناطقة، هم يستعملونه هكذا على حسب ما يصطلحون عليه، ليس تفرعًا عن القرآن، لم يثبتوا البرهان والحجة والسلطان لأنها وردت في القرآن، لا، هم أبعد الناس عن الكتاب والسنة.

(والآية): يعني تُرادف الدليلَ في المصطلح عندهم الآيةُ، فحينئذ تكون الآية بمعنى البرهان والدليل؛ كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الروم22]، {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء197].

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-09, 12:16 AM
ألقاب ما يوجب العلم وما يوجب الظن:

[المتن]:

[وهذه تستعمل في القطعيات(1)، وقد تستعمل في الظنيات(2)، والأمارة والعلامة، وتستعمل في الظنيات فقط(3)].

[الشرح]:

(1) (وهذه تستعمل في القطعيات):

(وهذه): الخمسة؛ الدليل، والبرهان، والحجة، والسلطان، والآية.

(تستعمل في القطعيات): إذا أُطلقت فالمراد بها الأحكام القطعية، وقد تستعمل على قلة على غير وجهها في الظنيات.

القطعيات مثل ماذا؟

مثل المتواتر، الإجماع القطعي، قالوا: هذه قطعيات، فإذا كان الدليل إجماعا قطعيا، قالوا: هذا دليل، وحُجة، وبرهان، وسلطان، وآية؛ لأنها قطعيات تفيد العلم، وتفيد اليقين.

(2) (وقد تستعمل في الظنيات):

(وقد تستعمل): على قلة، قد هنا للتقليل.

(في الظنيات): الخبر الواحد المختلف فيه يفيد الظن، هنا المختلف فيه -بهذا القيد- يفيد الظن، حينئذ إذا قيل في خبر الواحد المختَلف فيه: إنه دليل، هذا يعتبر مجازا عندهم؛ لأن استعمال الدليل في الأصل أنه على القطعيات، فإذا استعمل في الظنيات قالوا: هذا استعمال الشيء في غير موضعه، وهذا مجاز، فإذا أطلق الدليل أو البرهان أو السلطان على الإجماع الظني في السكوت مثلا، قالوا: هذا ليس بدليل في الأصل؛ لأن الإجماع الظني ليس بقطعي، حينئذ يكون استعمال الدليل، والحجة، والبرهان، والآية في الظنيات مجازا، فإذا أُطلق واحد من هذه المفردات يُحمل على الدليل القطعي عند الأصوليين، عند أكثر المتكلمين أنه خاص بالقطعيات.

(3) (والأمارة والعلامة، وتستعمل في الظنيات فقط):

(والأمارة): هذا عطف على البرهان؛ (ويرادفه ألفاظ، منها: البرهان، والحجة، والسلطان، والآية، والأمارة): ولكن لما كانت هذه الألفاظ تختلف من حيث الإطلاقات فصَل بينهما، وعيّن الحكم بكون الأولى تُستعمَل في القطعيات، والثانية -وهي الأمارة والعلامة- لما فارقتها خصها بحكم خاص بها.

(والأمارةَ): بفتح الهمزة، احترازا من الإمارة.

(والعلامة): الأمارة تأتي بمعنى الدليل؛ «أخبرني عن أماراتها»؛ يعني علاماتها وأدلتها التي تدل على وجودها، إذًا أمارة استعملت في الشرع، لكن لا أظن أن هذا مسلك المتكلمين؛ يعني أنهم أخذوه من الشرع، والأمارة والعلامة أيضا ألفاظ مرادفة للدليل، لكنها، قال:

(وتستعمل في الظنيات): يعني تستعمل فيما كان موصلا إلى حكم شرعي في الظنيات فقط؛ يعني ما كان مفيدا للظن فقط، فحينئذ يقولون: الدليل والأمارة.

وأيهما أضعف؟

الأمارة؛ لأنها تفيد أن مدلولها الظن، والدليل أعلى؛ لأنه يدل على القطع.

(وتستعمل في الظنيات فقط): ولا تسمى دليلا، بل الدليل خاص بما كان قطعيا، فالأمارة حينئذ تكون أدنى من الدليل.

وهذا التفريق باطل، لا دليل عليه لا من اللغة ولا من الشرع، بل في اللغة: "ما يُتوَصل به إلى معرفة علم أو ظن"، هذا مدلوله في الاصطلاح اللغوي، كذلك عند من يعرف الدليل بأنه: "ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري".

نقول: المطلوب الخبري هذا عام يشمل الظن والعلم، حينئذ نقول: الأرجح أن ما أفاد العلم وما أفاد الظن يسمى دليلا وأمارة وعلامة، فالكل يطلق عليه أنه دليل؛ لأن كلا منهم مرشد إلى المطلوب، والعرب لا تفرق بين ما أفاد العلم وما أفاد الظن، هذه أمور دخيلة على اللغة، ما أفاد العلم وما أفاد الظن العرب لا تفرق، ولا ينظرون إلى هذه الأمور، وإنما كل ما أوصل إلى نتيجة فهو دليل، سواء كانت النتيجة ظنية أو قطعية؛ فحينئذ يسمى مرشدا إلى المطلوب، وإذا حصل أنه مرشد إلى المطلوب حصل الإطلاق، وهو أنه دليل.

ثانيا: أن يُقال: مؤدّى كل منهما العمل بما دل عليه، فإذا استويا؛ إذا قيل: هذا دليل؛ بمعنى أنه أفاد القطع، والقطع يجب العمل به، والثاني: الظن؛ لأنه أفاد الظن، فما حكمه من جهة العمل؟

يجب العمل به، إذًا استويا، لماذا نفرق؟ إذا كانت النتيجة أن العمل بالظن كالعمل بالقطع، نقول: لا فرق بينهما.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-09, 12:28 AM
أصول الأدلة:

[المتن]:

[وأصول الأدلة أربعة: (الكتاب والسنّة والإجماع) وهي سمعية(1)، ويتفرع عنها: القياس، والاستدلال. والرابع: عقلي، وهو (استصحاب الحال) في النفي الأصلي الدال على براءة الذمة(2)].

[الشرح]:

(1) (وأصول الأدلة أربعة: (الكتاب والسنّة والإجماع) وهي سمعية):

(وأصول الأدلة): التي يعتمدها الفقيه في الاستنباط نوعان: سمعية وعقلية.

(سمعية): هذه نسبة إلى السمع، ويُعبَر عنها بأنها نقلية؛ لأنها منقولة، يرويها البعض عن الآخر.

وعقلية: نسبة إلى العقل، وإذا قيل: أصول الفقه تنقسم إلى سمعية وعقلية ليس المراد أن العقل مستقل بإدراك الأحكام، لا، وإنما عقلية نسبة إلى النظر والتأمل، وقصد به المصنف هنا الاستصحاب؛ لأنه ناشئ عن نظر وتأمل، وليس المراد أن العقل يستقل بإدراك الأحكام، ولذلك قلنا في السابق: لا حاكم إلا الله؛ بمعنى أن العقل أو الإنسان أو البشر مهما كان لا يمكن أن يكون مشرعًا، {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ}[الأنعام57].


...................... ................. فالأحق

ليس لغير الله حكم أبدا .........................


حينئذ نقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} هذا عام، فلا يثبت أي حكم شرعي -نسبة إلى الشرع- إلا ومصدره الكتاب والسنة، وما عداه فلا.

إذًا فأصول الأدلة التي يعتمدها الفقيه في الاستنباط والتي يبحث فيها الأصوليون لتقرير القواعد العامة: نوعان: سمعية، وعقلية.
والسمعية ذكر منها المصنف ثلاثة:

(الكتاب والسنة والإجماع): لذا قال:

(وهي سمعية): ويتفرع عن هذه الأدلة الثلاثة: القياس، لم يجعل القياس أصلا، وهل القياس أصل أو لا؟

هذا مرده إلى الخلاف في إفادة القياس، بعضهم يرى أنه لا أصلَ يعتبر من أصول الأدلة إلا إذا كان قطعيا، وحينئذ القياس هل هو قطعي أو ظني؟

من قال: إنه قطعي جعله أصلا رابعا، فقال الأصول: أربعة.

ومن قال: إنه ظني لم يجعله أصلا، وفرّ إلى ما فر إليه المصنف هنا.

والصواب: أن القياس قد يكون قطعيا، وقد يكون ظنيا، يختلف باختلاف أنواع القياس؛ وعليه حينئذ يعد رابعا، فيُقال: الأدلة أربعة -السمعية-: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

والقياس يعتبر أصلا مستقلا، لكن ليس المراد باستقلاله أنه لا يعتمد على الكتاب والسنة، لا، وإنما المراد أنه له شروطه، وله ضوابطه الخاصة به، كما أن السنة هي أصل مستقل، وكذلك ليست خارجة عن الكتاب، ولذلك بعض أهل العلم عدّ الأصول واحدا، قالوا: الكتاب فقط؛ لأن السنة دلّ عليها الكتاب، والإجماع دلّ عليه الكتاب والسنة، والقياس دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، لكن المراد هنا من باب التقسيم والتأصيل العلمي فقط، وليس من باب التدقيق الذي يُوصل لمثل هذه الأشياء.

(وهي سمعية): أي منسوبة إلى السمع؛ لأن متلقاها وطريقها السمع.

(2) (ويتفرع عنها: القياس، والاستدلال. والرابع: عقلي، وهو (استصحاب الحال) في النفي الأصلي الدال على براءة الذمة):

(ويتفرع عنها): عن هذه الثلاثة.

(القياس): لأن الأصل فيه؛ لا بد من أصل، والأصل هو المقيس عليه، هذا المقيس لا يصح اعتباره والقياس عليه إلا إذا كان ثابتا بكتاب أو سنة أو إجماع، حينئذ صار فرعا عن الكتاب والسنة والإجماع، هذا وجه كون المصنف جعل القياس فرعا للكتاب والسنة والإجماع؛ لأن القياس يتألف من أربعة أركان، لا بد من أصل مقيس عليه، يُشتَرط في هذا الأصل أن يكون ثابتا بكتاب أو سنة أو إجماع، إذًا لم نخرج عن الثلاثة.

(والاستدلال): لأنه داخل في مفهوم الدليل، وهو متفرع عن الكتاب والسنة والإجماع، والإجماع منعقد على مشروعية استعماله في استنباط الأحكام من مظانها.

(والرابع عقلي): يرجع إلى الرأي والنظر، وليس المراد أن العقل مستقل في إدراك الأحكام، بل العقل مستنبط فقط؛ له عمل، له مجال، كما هو في اللغة، في اللغة نقول: لا تثبت بالعقل وإنما تثبت بالنقل.



وعُرفت بالنقل لا بالعقل



فقط بل استنباطه بالنقل




حينئذ العقل يستنبط هناك، وهنا العقل يستنبط أيضا.

(والرابع: عقلي) وما هو؟

قال: (وهو استصحاب الحال): قبل التكليف، المقصود به العدم الأصلي قبل التشريع، نقول: هذا دليل عقلي يستصحبه المجتهد، إذا لم يثبت دليل على تحريم شيء أو إيجاب شيء نقول: الأصل عدم الحكم، حينئذ نقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، إذا لم يرد دليل بتكليف المكلَّف بإيجاب أو تحريم نقول: الأصل العدم.

ما هو الأصل العدم؟

هو الدليل لاستصحاب العدم هذا الذي سيذكره مستقلا في باب خاص به.

(وهو): أي الدليل العقلي.

(استصحاب الحال): أي قبل التكليف، ما هي الحال قبل التكليف؟

براءة الذمة عن الإيجاب أو الندب.

(في النفي الأصلي): يعني في العدم الأصلي؛ لأن الأحكام الشرعية إما أن تكون إثباتا أو نفيا، الإثبات لا يمكن أن يكون إلا بدليل سمعي، إذا قيل: يجب عليك فعل كذا، لا بد من الدليل، لكن النفي يمكن أن يدرك بالعقل، وهو مرادهم هنا، إذا قيل: يجب عليك، تقول: لا يجب، الأصل عدم الوجوب، فمن أوجب شيئا هو الذي يُطالَب بالدليل، والنافي لا يُطالَب بالدليل، ليس مطلقا، وإنما النافي يُطالَب بالدليل في مقام الجدل والمناظرة، أكثر أرباب الجدل على أن النافي لا يُطالَب بالدليل، بل المُثبت هو الذي يُطالب بالدليل.

والصواب: أنه يُطالب بالدليل، {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ}[البقرة111]، {هاتوا برهانكم} على ماذا؟ على النفي أو الإثبات؟

على النفي، إذًا النافي يُطالَب بالدليل كما يُطالَب المثبِت، هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- خلافا لأكثر المتكلمين وأكثر الأصوليين وأرباب الجدل والمناظرة؛ أن النافي لا يطالب بالدليل.

والصواب: أنه يُطالب بالدليل.

فحينئذ المجتهد إذا نظر في المسألة ولم يجد دليلا يدل على الوجوب أو على التحريم نقول: الأصل براءة الذمة.

هل يعتبر قوله هذا دليلا أو لا؟

يعتبر دليلا، هل هو سمعي أو عقلي؟

نقول: عقلي، لا بد أن يكون مستنبطا على قواعد من الشرع، لكن بمعنى النظر والتأمل هو الذي أداه إلى هذا.

(في النفي الأصلي): أي العدم الأصلي.

(الدال على براءة الذمة): من التكاليف الشرعية حتى يرد دليل شرعي، لو قال قائل: "وجبت علينا صلاة سادسة، الصلوات ستة لا خمسة"، ماذا نقول؟

نقول: أين الدليل؟ فإذا لم يثبت دليلا نقول: الأصل عدم صلاة سادسة، الأصل عدم وجوب حج مرة ثانية، أليس كذلك؟!

فحينئذ نستصحب العدم مطلقا في كل حكم أثبته الخصم ولم يثبت معه دليلا من الشرع.

استدل بعضهم لاستصحاب العدم بقوله r: «ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»، ما وجه الاستدلال؟

يريد أن نستنبط من هذا الدليل على ثبوت استصحاب العدم، وأن ما لم ينهَ عنه ليس له حكم، بل باقٍ على الأصل العدمي، «ما أمرتكم به فأتـوا منه ... وما نهيتكم ..»، إذًا بعض الأشياء لم يأمر ولم ينه، فحينئذ يكون حكمها ألا حكم لها، وإنما يستصحب فيها العدم الأصلي، وهو الإباحة.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-09, 12:57 AM
تعريف الكتاب، وذكر بعض صفاته:

[المتن]:

[فالكتاب(1): كلام الله عزّ وجل، وهو القرآن المتلوّ بالألسنة المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور(2)، وهو كغيره من الكلام في أقسامه(3)].

[الشرح]:

(1) (فالكتاب):

(فالكتاب): الفاء هذه فاء الفصيحة.

(2) (كلام الله -عزّ وجل-، وهو القرآن المتلوّ بالألسنة المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور):

(فالكتاب كلام الله -عز وجل-، وهو القرآن المتلو بالألسنة): يُذكر الكتاب وهو الدليل الأول، وهو الأصل الأول، والدليل على أنه أصل قوله تعالى: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ}[الأنعام155]، هذا أمر باتباع الكتاب، حينئذ جُعل الكتاب أصلا لكل الأدلة، وهذا أمر مُجمَع عليه.

(فالكتاب كلام الله عز وجل): يذكر الأصوليون مسائل كثيرة ليست من فن الأصول، يعني يذكرون في الكتاب حدّه (تعريفه)، ثم يختلفون فيه هل هو المعنى النفسي أو المعنى اللفظي على ما يذكره أرباب البدع؟ وثم يُذكَر فيه الحقيقة والمجاز، ويُذكر فيه المعَرَّب وغيره، ثم يذكرون الحروف المتعلقة بالكتاب، وكذلك السنة، وهذه كلها أبحاث الأصل أنها لا تُبحَث في أصول الفقه، طالب العلم إذا أراد أن يستفيد من هذه المباحث لا يأخذها من أصحاب الأصول، وإنما يأخذ كل فن من أربابه؛ من أصحابه، فيدرس المجاز والحقيقة -مثلا- في كتب البيانيين، ثم يتعرض كثير من أرباب علوم القرآن لبحث المعرب وغيره، والمجاز وموجود وغير موجود، موجود أيضا في بحث البيانيين، كذلك الحروف؛ يعني توسع فيها النُحاة؛ كابن هشام في (مغني اللبيب)، فتُدرَس الحروف، وتمر على كتب الأصول ليُعلَم هل من زيادة على ما ذكره أرباب الفنون أو لا فقط، وإلا تحقيق المسائل وإثبات المسائل وشرحها ليس هنا، وكذا تذكر باختصار في مثل هذه المواضع، ولذلك كل كتاب في أصول الفقه تجد الكلمة، والكلام، والصوت، واللفظ، وتعرف، وتقسم الكلمة، والجملة الفعلية، وهل بينهما علاقة أو لا؟ إلخ؟

نقول: هذه تُؤخذ من مظانها، هذه المقدمة سنمر على مباحثها باختصار جدا، تعليق فقط، ومن أراد فليرجع إلى نفس الكتب.

(فالكتاب): فِعال مفعول؛ لأنه مشتق من الكَتْب، والكتب المراد به الجمع والضم: يقال: "تَكَتَب بنو فلان" إذا اجتمعوا، وسمي الكتاب كتابا لاجتماع الحروف والكلمات بعضها إلى بعض، والمراد بالكتاب هنا القرآن، وهذا بإجماع العلماء، ويسمى القرآن كتابا كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}[الكهف1]، هنا سماه كتابا، ولكن كثير من الشُراح في هذا الموضع يقولون: الكتاب: اسم جنس، صار علما بالغلبة على القرآن، ولا أدري ما وجهه، لأنه إذا نصّ الرب على أنه الكتاب؛ صار من أسماء القرآن: الكتاب، فلا نقول: صار عَلمًا بالغلبة؛ لأن صيرورة الشيء علمًا بالغلبة عند أهل اللغة ليس من صنع الفاعل أصلا؛ يعني العبادلة أربعة، هل هم اتفقوا وقالوا: نحن العبادلة أم من صنع غيرهم؟

من صنع غيرهم، حينئذ لو قيل: الكتاب لم يسمه الرب -جل وعلا- الكتاب، ثم جُعِل علما بالغلبة صار هذا الاسم ليس من عند الرب -سبحانه وتعالى-، وإنما من صنع العلماء، هم الذين إذا أطلقوا الكتاب صار علمًا بالغلبة؛ مثلما فعل النحاة، عدوا أسماء ستة، وقالوا: هذه الأسماء الستة، فإذا أطلقوا الستة انصرف إلى "أبوك"، "أخوك" .. إلخ.

(الكتاب): إذا قيل: هو علم على القرآن، علم بالغلبة أو علم بالشرع؟

الظاهر أنه بالشرع، لكن كثير حتى من المعاصرين يقولون: علم بالغلبة، وينبني عليه فرق جوهري.

إذًا الكتاب يكون اسما من أسماء القرآن، والأصل أنه جنس، وهو المراد به هنا كلام الله -عز وجل-.

والكلام حقيقةً: الأصوات والحروف، فإذا قيل: القرآن هو كلام الله نفهم أنه بصوت وحرف بإجماع السلف، ويسمى القرآن كلام الله؛ لأنه بعض كلام الله، ليس كل كلام الله، وإنما هو بعض منه، يتكلم الرب -جل وعلا- بما يشاء، متى شاء، كيف شاء، ومن كلامه: القرآن {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ}[التوبة6]، إذًا ماذا يسمع النبي (ص)؟

كلام الله، ولا إشكال في هذا.

(وهو القرآن المتلو بالألسنة): وهي مخلوقة، وإذا كانت الألسنة مخلوقة لا يلزم أن يكون ما تُلي مخلوقا.

(المكتوب في المصاحف): وهذه سنة أجمع عليها الصحابة -رضي الله عنهم-؛ أنهم كتبوا القرآن في المصاحف، ولم يُخرجه عن كونه كلام الرب، ولم يخرجه عن كونه ليس بمخلوق.

(المحفوظ في الصدور): {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر9]، ومن حفظه: كتابته في المصاحف، ومن حفظه: حفظه في الصدور، إذًا كونه في الصدور -وهي مخلوقة-، وكونه يتلى بالألسنة -وهي مخلوقة- لا يخرجه عن أصله؛ أنه صفة للرب -جل وعلا-.



فالصوت والألحان صوت القاري



لكنما المتلو قول الباري




(3) (وهو كغيره من الكلام في أقسامه):

(وهو كغيره): كيف يقول: كلام الله، ثم يقول: كغيره؟

بما بعده، هذا كمن يقرأ: {ويل للمصلين} ويقف، نقول: لا.

(وهو): أي القرآن.

(كغيره من الكلام): العربي؛ لأنه نزل بلسان عربي مبين، {جعلناه قرآنًا عربيًا}، وهذا لا خلاف فيه؛ أن القرآن نزل بلسان العرب، فإذا نزل بلسان العرب نستفيد من ذلك قاعدة: (وهو كغيره من الكلام)، لماذا كغيره من الكلام؟

لأن الله سبحانه تكلم بلسان العرب، فإذا تكلم بلسان العرب؛ كل ما كان في لسان العرب الأصل إثباته في القرآن، هذه قاعدة، إذا ثبت في لسان العرب المعرَّب، نقول: في القرآن معرّب، وإذا ثبت في لسان العرب حقيقة ومجاز، نقول: في القرآن حقيقة ومجاز، أليس كذلك؟ فكل ما ثبت في اللسان العربي، نقول: القرآن نزل بلسان عربي مبين، فإذا ثبت في اللغة العربية على قواعد وسَنن ما اشتهر على ألسنة العرب؛ نقول: الأصل وجوده في القرآن، من ينفي هو الذي عليه الدليل؛ أن ينفي وجوده في لسان العرب، حينئذ يصح نفيه عن القرآن؛ ولذلك كان من أضعف الأقوال أن يُقال: اللسان العربي فيه حقيقة ومجاز، وهو كثير، ثم ينفيه عن القرآن، نقول: هذا من أضعف الأقوال، إما أن يُثبتا مطلقا في القرآن واللغة، وإما أن ينفيا مطلقا، أما التفصيل بهذا ضعيف جدا.

(في أقسامه): فينقسم حينئذ على حسب ما ينقسم به كلام العرب، يكون كلمة، ويكون جملة مفيدة، ويكون جملة اسمية، وجملة فعلية، يكون اسما وفعلا وحرفا، يكون حقيقة، يكون مجازا، يكون فيه معرب، يكون مشتقا من أصل، يكون مبتدأ وخبرا، وجارا ومجرورا، الحرف يستعمل في موضعه، وقد يستعمل في غير موضعه، قد يراد بالجملة الخبرية الإنشائية، وقد يراد بالإنشائية الخبرية .. إلخ.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-09, 01:25 AM
الحقيقة والمجاز:

[المتن]:

[فمنه: (حقيقة) وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له(1)، و(مجاز) وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له على وجه يصح، كـ {جَنَاحَ الذُّلِّ}، و{يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}(2)].

[الشرح]:

(1) (فمنه: (حقيقة)، وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له):

(فمنه): أي من القرآن؛ أي فينقسم القرآن، المركبات فيه باعتبار استعماله في معناه؛ لأن اللفظ يكون له معنى، ثم هل هذا اللفظ الذي ثبت معناه في لغة العرب استعمل في معناه أو في غير معناه؟

لسان العرب يجوّز استعمال اللفظ في معناه، هذا جائز عقلا، وواقع لغة، يستعمل اللفظ في مدلوله الذي وُضع له في اللغة، ثم من صنيع أهل اللغة أنه قد يُؤخذ هذا المعنى، أو هذا اللفظ فيستعمل في غير معناه الذي وُضع له، فحينئذ ينقسم لسان العرب باعتبار استعمال اللفظ في معناه أو عدم استعماله في معناه إلى حقيقة ومجاز، وإذا ثبتت الحقيقة والمجاز في لسان العرب؛ نقول: في القرآن حقيقة ومجاز على ظاهر ما ذكره المصنف هنا.

(حقيقة): "فعيلة"، مأخوذة من حق، أو من الحق، من حق الشيء يحِق ويَحُق؛ بمعنى ثبت، الحق في الأصل أنه الثابت، فحينئذ يكون "فعيلة"، "فعيلة" قد يأتي بمعنى فاعل، وقد يأتي بمعنى مفعول، فإذا كان بمعنى فاعل فحينئذ يكون بمعنى الكلمة الثابتة في موضعها الذي وضعه العرب لها، وإذا كان بمعنى مفعول كانت الحقيقة بمعنى الكلمة المثبتة في موضعها الذي وضعها العرب لها، وعلى الأول إذا كانت "فعيلة" بمعنى فاعل تكون التاء للتأنيث، وإذا كان "فعيل" بمعنى مفعول؛ فالتاء لا تدخله؛ مثل "جريح"، و "صبور"، نقول: "امرأة جريح"، و "زيد جريح"، ولا تقول: "امرأة جريحة"، لماذا؟

لأن فعيل إذا استوى فيه المذكر والمؤنث امتنع دخول تاء التأنيث عليه، حينئذ نقول: هذه التاء لنقل الوصفية؛ نقل الوصف من الوصفية إلى الاسمية.

ما هي الحقيقة؟

قال: (وهي اللفظ المستعمل فيما وُضع له).

(اللفظ): إذًا الحقيقة وصف للألفاظ، واللفظ قد يكون مهملا، وهو الذي لم تضعه العرب، وقد يكون مستعملا، وهو الذي وضعته العرب.

(المستعمَل): أخرج المهمل، فحينئذ "ديز" لا يوصف بكونه حقيقة، كذلك أخرج (المستعملُ) اللفظَ قبل الاستعمال، فلا يوصف بكونه حقيقة ولا مجازا.

(فيما وُضع له): يعني في معنى.

(ما): هنا اسم موصول بمعنى الذي، يصدق على معناه، لفظ استعمل في معنى وُضع له.

(وضع له): يعني وُضع ذلك اللفظ لذلك المعنى؛ كاستعمال "الأسد" في الحيوان المفترس، فإذا قال قائل: "رأيت أسدا"؛ يعني حيوانا مفترسا، لا يحتمل أنه رجل شجاع، لماذا؟

لأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته، واللفظ أو المعنى الذي وُضع له لفظ "أسد" هو الحيوان المفترس.

(اللفظ المستعمل فيما وُضع له): وهذا يشمل الحقيقة اللغوية، والحقيقة الشرعية، والحقيقة العرفية؛ لأن الحقائق ثلاثة أنواع:

الحقيقة اللغوية: وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له عند أهل اللغة.

الحقيقة الشرعية: اللفظ المستعمل فيما وُضع له شرعا؛ كالصوم مثلا والصلاة؛ لأن الصلاة في اللغة هي الدعاء، وفي الشرع: استعمل هذا اللفظ لا مرادا به الدعاء على جهة الخصوص كما هو معناه اللغوي، وإنما نُقِلَ من معناه العام -الذي هو الدعاء- وجُعل عَلمًا واسمًا وحقيقة في أفعال مخصوصة وأقوال مخصوصة، فحينئذ نقول: لفظ الصلاة لفظ عام له أفراد، صدقُه في اللغة على جميع أفراده، فإذا أُطلق لفظ الصلاة في اللغة حُمل على جميع مفرداته؛ على جميع مسمياته، لكن الشرع خصه ببعض الأفراد، كذلك الصوم في اللغة: مطلق الإمساك، الإمساك عن الكلام يسمى صومًا، {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}[مريم26]، صومًا المراد به هنا الإمساك عن الكلام بدليل: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}.



خيل صيام وخيل غير صائمة




تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما




"خيل صيام"؛ أي أمسكت عن الجري، إذًا نقول: الصوم في اللغة: كل إمساك، ثم خصه الشرع، نقله الشرع في بعض أفراده، وهو إمساك مخصوص من الفجر إلى غروب الشمس عن أشياء مخصوصة، إمساك مخصوص في وقت مخصوص عن أشياء مخصوصة، فإذا أُطلق لفظ الصيام في اللغة حُمل على معناه اللغوي، وإذا أُطلق في الشرع حُمل على معناه الشرعي.

كذلك الحقيقة العرفية كالشرعية من حيث النقل؛ يعني نُقل اللفظ اللُّغوي؛ لأن الحقيقة اللغوية هي الأصل، ثم الشرع تصرف في اللغة، والعرف كذلك تصرف في اللغة، كل منهما -من الشرع والعرف- نظر إلى اللفظ العام الذي له أفراد أو مسميات فقصر اللفظ على بعض أفراده، قصر العام على بعض أفراده كما نقول في الخاص، هذا قريب منه، قصر اللفظ العام من جهة إطلاقه اللغوي على بعض المسميات.

"الدابة" في اللغة: لكل ما دب على وجه الأرض، لكنه خُص في العرف بذوات الأربع.

الحية دابة أو لا؟

فيه تفصيل، لا تنفي ولا تثبت، نقول لغة: دابة؛ لأنها تدب على الأرض، كل ما دب {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}[النور45].

فالدابة في اللغة: كل ما يدب على وجه الأرض، سواء كان برجلين أو أربع، أو على بطنه يزحف، نقول: هذا دابة، لكن في العرف خصه بذوات الأربع، فالفرس دابة لغة وعرفا، والحية دابة لغة لا عرفا، الحية ليست من ذوات الأربع.

فائدة هذا التقسيم وأن الحقيقة تتنوع ثلاثة أنواع: أنه إذا جاء في الشرع -في نصوص الوحيين- لفظ له حقيقة شرعية، وله حقيقة لغوية أو عرفية يُحمل على الشرع.



واللفظ محمول على الشرعي




إن لم يكن فمطلق العرفي





فاللغوي على الجلي .............. .............................. .


على هذا الترتيب جمهور العلماء؛ أن الحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة العرفية، والحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة اللغوية، هذا باختصار.

(2) (و(مجاز)، وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له على وجه يصح؛ كـ {جَنَاحَ الذُّلِّ} و{يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}):

(ومجاز): أصلها "مجوَز" مفعَل، حصل إعلال بالنقل؛ فتحركت الواو، ثم قُلبت ألفا، من الجواز، وهو العبور والانتقال.

وحقيقته: (اللفظ المستعمل في غير ما وُضع له على وجهٍ يصح).

(اللفظ): يشمل المهمل والمستعمل.

(المستعمل): أخرج المهمل، حينئذ المهمل لا يوصف بكونه مجازا، واللفظ قبل الاستعمال -الذي هو الموضوع قبل استعماله- لا يوصف بكونه مجازا، اللفظ قبل الاستعمال لا يوصف بكونه حقيقة ولا مجازا.

(في غير ما وضع له): يعني في اللغة؛ فإذا استعمل لفظ "الأسد" في الرجل الشجاع نقول: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في اللغة؛ لأنه في اللغة وضع على الحيوان المفترس، فإذا استعمل في الرجل الشجاع نقول: هذا لفظ مستعمل في غير ما وضعت له العرب ذلك المعنى، لكن قال:

(على وجه يصح): بمعنى أن المجاز ليس على إطلاقه، كل من هب ودب يستعمل اللفظ في غير ما وضع له، وإنما لا بد من شرطين:

أولا: وجود العلاقة.

ثانيا: وجود القرينة.

وهذا المراد بقوله: (على وجه يصح): بمعنى لا بد من معنى مشتهر يكون بين المعنى المنقول عنه إلى المعنى المنقول إليه، لو قال: "رأيت أسدا يخطب"، يعني شبهه به في الشجاعة، إذًا الشجاعة هي المعنى المنقول عنه في "الأسد" إلى "الرجل" لماذا؟

لهذه العلاقة؛ وجود الشجاعة، إذا كانت العلاقة بين المعنى المنقول عنه والمعنى المنقول إليه المشابهة فيسمى مجازا، ويسمى استعارة، وإلا سمى مجازا مرسلا، هنا "رأيت أسدا"، والعلاقة هي الشجاعة؛ يعني وجه الشبه بين المشبه به والمشبه، إذا كانت العلاقة هنا الشجاعة نقول: الشجاعة هذا أمر واضح ومشتهر، ويصح نقل اللفظ عن معناه الأصلي إلى معناه المجازي، ولا إشكال؛ لأن اللفظ إذا أُطلق لم يحصل منه تعقيد معنوي عند السامع، فكل من سمع "رأيت أسدا يخطب" علم أن التشبيه هنا في الشجاعة، أما إذا أراد "رأيت أسدا يرمي" وقصد المشابهة في كون الرجل أبخر كما أن الأسد أبخر نقول: أسد نعم أبخر، لكن إطلاق لفظ الأسد على المعنى المنقول إليه وسحبه من المعنى المنقول عنه إن لم يكن المشابهة فهذا يحصل به تعقيد معنوي، وإذا حصل به التعقيد المعنوي انتفى التركيب.

فحينئذ لا يُسوّغ العربُ استعمال اللفظ في غير ما وضع له إلا إذا كان هناك معنى مشتهر عند المتكلم والسامع؛ أن المعنى هو الذي نُقِل، فحينئذ إذا كانت الشجاعة صح المجاز، وإن كان كونه أبخر لا يصح المجاز مع كون المعنى موجودا.

إذًا (على وجه يصح): المراد به العلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المنقول إليه مع وجود قرينة صارفة عن إرادة المعنى الأصلي.

لو قال: "رأيت أسدا"، يحتمل وجود العلاقة عنده أنه شبّه الرجل الشجاع بالأسد، فاستعمل اللفظ في غير ما وضع له، حينئذ وجدت العلاقة عنده، لكن السامع ما الذي يدريه أن الأسد هنا المراد به الرجل الشجاع؟ لا بد من نصب قرينة تدل على أنه استعمل اللفظ في غير ما وضع له، فيقول: "رأيت أسدا يخطب"، عندما يسمع السامع "يخطب" يعرف أن هذه القرينة صارفة عن إرادة الأسد بالمعنى الأصلي وهو الحيوان المفترس.

(كـ {جَنَاحَ الذُّلِّ}): الذل معنى، والجناح هو الجناح المعروف عند الطائر، إذًا هو في الأجسام، فإذا اُستعمل الجناح للذل -وهو أمر معنوي- يقال: هذا مجاز، استعمال اللفظ في غير ما وضع له.

(و{يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}): "جدارا يريد أن ينقض"، قالوا: الإرادة صفة للحي؛ للإنسان والحيوان، والجدار جماد، وحينئذ ينتفي وصف الإرادة عنه، فقالوا: هذا مجاز، شُّبه الجدار بالإنسان في الميل فاشتق له الوصف .. إلخ، قالوا: هذا مجاز.

وفي هذا التركيب ليس بمجاز، لو قيل بالمجاز، نقول: هذا المثال ليس بصحيح؛ لأن الإرادة غير ممتنعة عن الجماد، بل دلت نصوص عامة كثيرة مستفيضة مشهورة على أن الجماد يُوصَف بالحركة، ويوصف بالكلام، {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء44]، والتسبيح لا بد له من إرادة، «أُحد جبل يجبنا ونحبه»، أُحد جماد، ويحب، والمحبة أخص من الإرادة، وإثبات الأخص يستلزم إثبات الأعم، إذًا له إرادة، حينئذ وردت نصوص على أن الجماد قد يبكي كما هو في حنين الجذع، وتسبيح الحصى والسلام، والنبي r أشار إلى شجرة فخرقت الأرض فجاءت، إذًا أطاعت النبي rفهذا يدل على أن الجماد يوصف بالإرادة، ولو قيل بالمجاز، فهذا المثال ليس بصحيح لوجود دليل مناف له، أما (جناح الذلّ) ممكن على ما ذكرنا.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-09, 01:33 AM
المعرّب:

[المتن]:

[ومنه: ما استعمل في لغة أخرى، وهو المُعَرَّب، كـ {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}، وهي حبشية، و(المِشْكَاة) هندية، والـ (إستبرق) فارسية، وقال القاضي: الكل عربي(1)].

[الشرح]:

(1) (ومنه: ما استعمل في لغة أخرى، وهو المُعَرَّب، كـ {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} وهي حبشية. و(المِشْكَاة) هندية، والـ (إستبرق) فارسية، وقال القاضي: الكل عربي):

(ومنه): أي من القرآن.

(ما استعمل في لغة أخرى، وهو المعرّب): إذًا في القرآن ما هو معرّب، والمراد بالمعرب ما كان في لغة أجنبية، ثم استعمل في لغة العرب، وهل في القرآن معرَّب أو لا؟

فيه خلاف طويل عريض، ولا ينبني عليه فائدة من جهة الفرع، وإنما اتفقوا على وجوده: الأعلام الأجنبية في القرآن؛ مثل إبراهيم وإسماعيل، ولذلك اتفق النحاة على أنها ممنوعة من الصرف لعلتين اثنتين لا ثالث لهما، العلمية والعجمى، وكونها عجمى بمعنى أنها أسماء وضعت على لغة العجم، فحينئذ استعمالها -وهي أعلام عند العجم- في لغة العرب لا يمنع من كونها أعجمية.

هل هي موجودة في القرآن أو لا؟

موجودة في القرآن.

هل هي معربة؟

الجواب: لا، ليست معربة، وإنما بعض الكلمات كــ "إستبرق، ناشئة الليل .. إلخ"، هذه في الأصل ليست بعربية، ولكنها دخلت على لغة العرب ففُهم المعنى المقصود منها، فاستعملها العرب، فعُرِّبَت؛ يعني نُزلت منزلة الكلمات العربية أصالة، فعِومَلت معاملتها؛ إما من المنع من الصرف، وإما بالتنوين، والرفع، والنصب، والجر .. إلخ، إذًا عوملت معاملة الكلمات العربية.

ولا يمنع أن يُقال في القرآن ما هو معرّب، لا مانع، وكونه فيه ما هو معرّب لا ينافي قوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}[الشعراء195]، {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف3]، كونه عربيًا هذا الحكم العام الأغلبي، ووجود بعض الكلمات التي تعد على الأصابع، بل أكثر ما عدّه السيوطي مائة وعشرين كلمة في القرآن كله؛ نقول: هذا لا يُخرج القرآن عن وصفه بأنه عربي، وبأنه حصل الإعجاز به بنفسه وبذاته.

(كــ{ناشئة الليل}): هذه وردت مرة في القرآن في سورة المزمل، عن ابن عباس أن الناشئة هي قيام الليل.

(بالحبشية): هي لغة دخيلة، وليست عربية، فنقول: هذه الكلمة مُعرّبة، ووجودها في القرآن لا بأس به.

(والمشكاة): وهي الكوة بلسان الحبشية.

وقوله: (هندية): هذا فيه نظر، بعضهم نفى أن تكون هندية، بل الهنود يقولون: لا تعرف في لسان الهند.

(والـ "إستبرق"): نوع من اللباس غليظ الديباج، أصله "استبره" بالهاء، فقلبت الهاء قافا كما قاله ابن قتيبة، وردت في القرآن أربع مرات، وهي فارسية.

نقول: هذه كونها {ناشئة الليل} حبشية، و "المشكاة" هندية، و{إستبرق} فارسية، كلها وردت عن كبار أئمة المفسرين؛ كابن عباس ومجاهد وعطاء وغيرهم، حينئذ الحكم بكونها معرَّبة وكونها في القرآن مع صحة ما ثبت عن بعضهم كابن عباس على جهة الخصوص نقول: لا مانع من القول به.

(وقال القاضي): أبو يعلى، والشافعي، وكذلك نصره ابن جرير الطبري.

(الكل عربي): يعني كل القرآن عربي، ولا يقال: فيه بعض الكلمات المعرّبة، بل ما ورد من ذلك -وهو بلسان الحبشية أو الهندية أو الفارسية- مما توافقت فيه اللغات، إذًا {ناشئة الليل} ليست حبشية، وإنما هي في لسان الحبشة على أصلهم، وفي لسان العرب على أصلهم، وكذلك {إستبرق}، و "المشكاة" .. إلخ، ولكن الأول أرجح.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-12, 03:25 PM
المحكم والمتشابه:

وجود المحكم والمتشابه في القرآن:

[المتن]:

[وفيه: محكم، ومتشابه(1)].

[الشرح]:

(1) (وفيه: محكم، ومتشابه):

ننبه على أن المؤلف قعّد لنا قاعدة عامة مطردة يستصحبها الأصولي، وكذلك طالب العلم: أن القرآن نزل بلغة العرب، "كل ما جاز في لغة العرب -بشرط أن يكون مشتهرا واضحا بينا، لا نادرا ولا قليلا ولا شاذا- الأصل أن يكون القرآن مشتملا عليه".

ولذلك إذا ثبت المجاز في اللغة حينئذ نقول: القرآن فيه مجاز.

وإذا ثبت المعرّب في اللغة نقول: القرآن فيه معرب.

كذلك إذا ثبت المحكم والمتشابه في اللغة -أن من كلام العرب ما هو بيّن وواضح يفسر نفسه بنفسه، وفيه ما هو متشابه يختلف السامعون في فهم المراد منه- يكون في القرآن مثل ذلك.

ودليل الكل: الوقوع.

قد تكون بعض الأشياء موجودة في لغة العرب، لكن غير موجودة في القرآن، نقول: لا يلزم من وجودها في لغة العرب وجودها في القرآن.

(وفيه): أي في الكتاب.

(محكم ومتشابه): لوجوده في اللغة العربية.

القرآن وصفه الرب -جل وعلا- بأنه محكم كله، وبأنه متشابه كله، وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه.

وصفه بأنه محكم كله؛ كما في قوله تعالى: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود:1].

ووصفه بأنه متشابه كله؛ كما في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا}[الزمر23].

ووصف بعضه بأنه محكم وبعضه بأنه متشابه؛ كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}[آل عمران7].

إذًا يكون عندنا من هذا تأصيل: عند الإطلاق قد يُراد الإحكام العام والتشابه العام، وقد يُراد الإحكام الخاص والتشابه الخاص.

الإحكام العام هو المدلول عليه بقوله تعالى: {يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}[ يس 1-2]، وُصف القرآن كله، {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}، نقول: المراد بالإحكام هنا الإحكام العام، والمراد به الإتقان والجودة في اللفظ والمعنى، فحينئذ ألفاظه ومعانيه أحكم ما يمكن أن تكون من الإتقان، وأعلى درجات البيان، والفصاحة، والبلاغة، وحسن الترتيب، وحسن السبك، هذا يسمى الإحكام العام، كذلك أخباره في كمال الصدق، وأحكامه في كمال العدل، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}[الأنعام115]، صدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام.

إذًا المراد بـ {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}؛ أي بلغ أعلى درجات الإحكام والإتقان.

أما إطلاق الرب -جل وعلا- على القرآن بأنه متشابه كله، {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا}، فالمراد به أن بعضه يشبه بعضا، هذا يسمى بالتشابه العام؛ أن بعضه يشبه بعضا في الإتقان والإحكام، فلا تتضارب ولا تتناقض أحكامه، ولا يُكذِّب أخباره بعضها بعضا؛ ولذلك قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}[النساء82]، ولكن الاختلاف المنفي هنا {لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}، هذا وصف، فحينئذ قد يوجد به بعض الاختلاف، لكن لا يُخرجه عن كونه في غاية الإتقان والإحكام في الأخبار والأحكام.

{كثيرًا}: نعت لــ{اختلافًا}، والنعت في الأصل أنه مُؤسس.



ووصفه للكشف والتخصيص أو




تأكد والمدح والذم رأوا




إذًا الأصل أنه يُؤتى به لكونه مؤسسا؛ بمعنى أنه يُحتَرز به عن غيره، وقوله {اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} يُفهَم منه أن ثم اختلافا يقع فيه، لكن الاختلاف الذي يقع ليس هو الاختلاف الذي يظنه المشرك، أو الذي يبحث عنه المشرك، وهو اختلاف التناقض؛ اختلاف التضاد، وإنما قد يُفهَم من بعض النصوص ما ظاهره التعارض، وهذا أثبته الله -جل وعلا- بقوله: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}[آل عمران7]، هذه القسمة من أين جاءت؟

من السماء، ما المراد بالمحكم؟

المراد به أنه هو الذي اتضح معناه، والمتشابه الذي لم يتضح معناه، وإذا عُلم أن شيئا في القرآن لم يتضح معناه ما الذي يترتب عليه؟ اتفاق أم اختلاف؟

اختلاف، هذا أمر واضح؛ لذلك قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}[آل عمران7]، {مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}، اتبع القرآن أو لا؟

اتبع القرآن، إذًا وقع الخلاف بسبب موافقة بعض القرآن، لكن لا على وجه الشرع، الحكمة في وجود المتشابه هو ابتلاء الخلق، {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}، نقول: اتبعوا القرآن، وهذا قطعا؛ لقوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يعني وآيات أخر متشابهات، {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ}.

ثم القسم الثاني الذي يقابل هذا القسمة: الراسخون في العلم، ماذا قالوا؟

{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}[آل عمران7]؛ لذلك نصَّ من كَتَبَ في عقيدة السلف أن من أصول ما يفارق أهل البدع أهل السنة أن أهل السنة حملوا المتشابه على المحكم، وأهل البدع حملوا المحكم على المتشابه.

لذلك قالوا: "من حمل المتشابه على المحكم اهتدى"؛ من ردّ المتشابه -الذي لم يتضح معناه- إلى المحكم اهتدى، "ومن عكس ضل"؛ كما يفعل أهل البدع حين يستدلون؛ لذلك تجد -خاصة كبار المبتدعة، وخاصة في الصفات- لا بد أن تجد قال الله، قال الرسول (ص)، لا بد أن يستدلوا بهذا، هم لا يقولون: إنه لا يُعتَمد عليه مطلقا، لا، هم مسلمون، أو يدّعون الإسلام، أو بعضهم يدّعي الإسلام.

فحينئذ نقول: إذا ثبت في القرآن ما هو متشابه فمدلول هذه الآية هي المشار إليها في آية النساء: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}، إذًا ثم اختلاف، لكنه ليس بكثير، وهذا الاختلاف المنفي اختلاف التضاد، والاختلاف الذي يمكن أن يوجد في القرآن هو اختلاف حاصل عن التشابه، حينئذ لا اختلاف، لا نختلف، بعضهم يقول: أنت أوردت الآية في معرض الكلام على المحكم والمتشابه، قد يفهم البعض أن في القرآن ما هو خلاف تضاد، هذا لا يقول به أحد، ولذلك نقول: وُصف القرآن بالإحكام العام، ما المراد بالإحكام العام؟

فسرناه أنه متقن من حيث الجودة في الألفاظ، والمعنى أعلى تراكيب البلاغة .. إلخ، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}[الأنعام115]، صدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام، فالخلاف الذي يمكن أن يوجد في القرآن منشؤه التشابه الذي أثبته الله -جل وعلا-، الله الذي أثبت التشابه نقول: آمنا به.

لا ننفي شيئا من أجل أن نقول -مثلا-: عظمة القرآن، هذا لا ينافي عظمة القرآن؛ فنثبت ما أثبته الله -جل وعلا-.

ولذلك أهل البدع ينزهون الله -جل وعلا- بنفي الصفات، كلهم عقيدتهم واحدة؛ مبناها على الاستحالة العقلية تنزيها لله -جل وعلا- عما لا يليق به، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه5]، قالوا: نفهم منه استواء المخلوق، تعالى الله، فنفوا الصفات، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}[المائدة64]، قالوا -تعالى الله-: لا نفهم من هذه الآية إلا اليد التي هذه فقط، حينئذ قالوا: ننزه الله -جل وعلا-.

نقول: إذا ننزه القرآن، نثبت ما أثبته الله -جل وعلا- فإذا أثبت أن في القرآن ما هو متشابه، وأن المتشابه هذا قد يأخذ به بعض أهل البدع أو أهل الأهواء، أو من أطلق الله عليهم بأنهم أهل الزيغ؛ حينئذ لا نرد ما أثبته الله تعالى، فنقول: رد المتشابه إلى المحكم، القرآن فيه محكم واضح المعنى بيّن لا يختلف فيه اثنان، وفيه متشابه يحتمل كذا وكذا، ولكن نفسره -خاصة في الغيبيات- بما جاء محكما في المواضع الأخرى، والحمد لله، نثبت ما أثبته الله، وننفي ما نفاه الله -جل وعلا-.

وهذه الآية التي هي في آل عمران الإشارة إليها بقوله تعالى: {كثيرًا} هناك، وهذا كلام أيضا يقرره الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى-، سمعته مرارا يقول: قوله -جل وعلا-: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}، قال: {كثيرًا} هذا نعت للاحتراز؛ يعني فيه بعض الاختلاف، وهذا رأي عالم ومُحرر ومُحقق، إذًا نقول: في القرآن ما هو متشابه وما هو محكم.

والتشابه الخاص والإحكام الخاص هو الذي عناه المصنف هنا بقوله: (وفيه محكم ومتشابه).

(فيه): يعني جمع بين الإحكام والتشابه، وإذا قيل: جمع بين الإحكام والتشابه حينئذ أخرج الإحكام العام، وأخرج التشابه العام، هذا لا مورد له في كتب الأصوليين وإنما يُذكَر في كتب علوم القرآن.

(وفيه محكم): "مُحكَم" على وزن مُفعَل، اسم مفعول، من أُحكِم يُحكَم فهو مُحكَم، من أحكمت الشيءَ أُحكمه إحكامًا فهو مُحكَم إذا أتقنته، ومنه قولهم: "بناء مُحكَم"؛ أي ثابت يبعد انهدامه.

(وهو): أي المحكَم عند بعضهم كما ذكره في (مختصر التحرير): بأنه ما اتضح معناه.

وضده المتشابه: ما لم يتضح معناه، هذا أحسن ما يُقال في النوعين، ما اتضح معناه فهو مُحكَم؛ سواء اتضح معناه بالسياق، أو بدليل آخر، أو بالسباق، أو بقرينة، نقول: ما دام أن المعنى اتضح فهو مُحكَم؛ سواء كان بنفسه أم بغيره.

والمتشابه ما عداه: لكن القاعدة في المتشابه: أنه يُحمَل على المحكَم، فيكون وصفه بأنه متشابه في ابتداء الأمر، لا في الانتهاء؛ لأنه إذا قيل متشابه؛ لأنه لم يتضح معناه، هل لم يتضح معناه مطلقا؟

نقول: لا، ليس في القرآن هذا، هذا يُنفى عن القرآن؛ لأن هذا نقص وعيب؛ فنقول: ما لم يتضح معناه؛ إما أن يكون نسبيا لبعض العلماء؛ قد تُشكِل عليه آية، يموت وقد أشكلت عليه هذه الآية، ولم يفهمها، هذا تشابه، وعدم اتضاح نسبي، أما عدم اتضاح عام لكل العلماء؛ لكل الأمة، هذا لا وجود له، وإنما يُحمَل المتشابه على المحكَم فيتضح حينئذ، فالإحكام والتشابه الذي ورد في الآية يكون في ابتداء الأمر، أما في الانتهاء فلا، ولو وُجد ابتداء وانتهاء في حق شخص معين فيكون خاصا به، هذا وجوده نسبي.

(وفيه مُحكم ومتشابه): دليله وقوعه، بل النصّ عليه: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يعني ومنه آيات أُخر -هذه صفة لموصوف محذوف، {متشابهات}، فحينئذ يُرد المتشابه إلى المحكَم فيُفهَم معناه.

هذا فيما كُلِّف به العباد، وأما ما لم يُكلفوا به؛ كالمتشابه من إدراك كيفية الصفات مثلا -لأن المصنف مثّل للمتشابه بالصفات- نقول: هذا لم يُكلَّف العباد بإدراكه، ولا البحث عنه، ولا السؤال عنه، وإنما المقصود الذي يكون متضحا في الانتهاء بعد أن يقع متشابها؛ ولذلك الإمام مالك لما سُئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه5]، وكيف استوى؟

حكم بأن هذا السؤال بدعة، لماذا؟

لو كان مكلفا به لما كان السؤال بدعة؛ لأن البحث في الحقائق وإدراك الكيفيات هذا يعجز عنه الإنسان؛ ولذلك قيل: العجز عن الإدراك إدراك في مثل هذا الموضع؛ لأن البشر يعجزون عن إدراك حقيقة الصفات، أو كيفية الصفات، أما المعاني فهذه واضحة على ما تقرر في لغة العرب، فالمعاني معلومة واضحة بيّنة، بل ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى– أنها من أحكم المحكمات، ليس من المتشابه كما يقول البعض، وليست من المحكم فحسب، بل من أحكم المحكَم؛ لأن معانيها واضحة، متبادرة لمن سلم عن الزيغ والهوى.

وأما إدراك كيفياتها فهذا نقول: يعجز عنه البشر؛ لأن الصفات فرع عن الذات، فإذا كانت ذات الرب -جل وعلا- يعجز البشر عن إدراكها؛ فالقول في الصفات فرع القول في الذات.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-12, 03:49 PM
تابع المحكم والمتشابه:

أقوال العلماء في معنى المحكم والمتشابه:

[المتن]:

[قال القاضي: المحكم: المُفَسَّر، والمتشابه: المجمل(1)، وقال ابن عقيل: المتشابه: ما يَغْمُضُ علمه على غير العلماء المحققين؛ كالآيات المتعارضة(2)، وقيل: الحروف المقطعة(3)، وقيل: المحكم: الوعد والوعيد والحرام والحلال. والمتشابه: القصص والأمثال(4)، والصحيح: أن المتشابه: ما يجب الإيمان به، ويحرم تأويله كآيات الصفات(5)].

[الشرح]:

(1) (قال القاضي: المحكم: المُفَسَّر، والمتشابه: المجمل):

اختلفوا فيه على أربعة أقوال، وليس المراد الإحكام العام ولا التشابه العام، وإنما الخاص.

(وقال القاضي): أبو يعلى، وهو من أصحاب الإمام أحمد.

(المحكم هو المُفسَّر، والمتشابه هو المُجمَل): كل ما كان متضح المعنى فهو محكم، وكل ما كان مُجمَلا فهو مفسَّر، وهذا يؤيد ما ذكرته لكم؛ وهو أنه لا يوجد مجمل لم يتضح معناه في الكتاب والسنة، هل يوجد لفظ مجمل لم يتضح معناه؟

نقول: لا يوجد، حينئذ يؤكد أن المتشابه يُراد به وصف الكتاب ابتداء، أو يكون ابتداء وانتهاء في حق شخص معين.

(المحكم المفسّر، والمتشابه المجمل): فحينئذ كل مجمل في القرآن فهو متشابه، {وَالْمُطَلَّقَ تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ}[البقرة228]، {ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ} هذا لفظ مشترك، إذًا فيه إجمال، فيه إبهام؛ لأنه في اللغة يُطلَق على الحيض، ويُطلَق على الطهر، فنقول: هذا متشابه، مجمل متشابه، هل اتضح معناه أو لا؟

بعض أهل العلم رجّح بقرينة؛ بدليلٍ أنه الحيض، وبعضهم رجّح أنه الطهر، فصار في حقه متشابها أول الأمر لم يتضح معناه، ثم بعد ذلك صار محكما؛ لأنه رد المتشابه إلى المحكَم.

قول القاضي: (المحكم المفسّر، والمتشابه المجمل): هذا ذكره المصنف بالمعنى رواية، وإلا قوله في (العُدة): "المحكم: ما استقل بنفسه، ولم يحتج إلى بيان، والمتشابه: ما احتاج إلى بيان".

كل لفظ، كل حكم، كل قصة، كل وعد، كل وعيد، كل حلال، كل حرام استقل في الدلالة، وفُهم منه المعنى بنفسه فهو محكم، فإن احتاج إلى بيان فهو متشابه، وهذا أقرب ما يُقال في تفسير المحكم والمتشابه؛ ولذلك الظاهر أن المصنف قدمه هنا، وإن كان أطلق عبارة عامة في آخر المبحث سيأتي الوقوف معها، هذا القول الأول.

(2) (وقال ابن عقيل: المتشابه: ما يَغْمُضُ علمه على غير العلماء المحققين؛ كالآيات المتعارضة):

القول الثاني: قال:

(وقال ابن عقيل): أيضا من أصحاب الإمام أحمد.

(المتشابه: ما يَغْمُضُ علمه على غير العلماء المحققين): "يَغْمُضُ": يفعُل من باب: غمَض؛ كقعَد، يقال: "غمَض الحق يغمُض"، من باب قعد: خفي مأخذه، والغامض من الكلام: ضد الواضح، إذًا المتشابه عند ابن عقيل: ما خفي مأخذه على غير العلماء المحققين، وما عدا العلماء؟

يعني العوام إذا قرؤوا النصوص ولم يفهموا فهو متشابه في حقهم، والعالم إذا قرأ وفسّر النص؛ إما أن يكون النص مستقلا في الدلالة على المعنى بنفسه أو بغيره، فحينئذ صار في حقه محكما، إذًا يكون الإحكام والتشابه باعتبار الناظر، إن كان عالما محققا؛ فحينئذ ما ظهر له فهو محكم.

وهل يتصور في حق العالم -على هذا القول- أنه لا يظهر له شيء البتة؟

الجواب: لا؛ لأنه جعله عالما محققا، وما يقابله؛ إما عالم غير محقق، أو جاهل، فحينئذ نظر العالم غير المحقق أو الجاهل وما غمض عليه فهو متشابه، وما لم يغمض عليه فهو محكم، فيكون المحكم على رأي ابن عقيل: ما لم يغمض علمه على العلماء المحققين.

(كالآيات المتعارضة): هنا لا يقال: الآيات المتعارضة، وإنما يقال: الآيات التي ظاهرها تعارض؛ لأن القرآن ليس فيه تعارض بالذات، وإنما هو في فهم الناظر فقط.

قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}[القصص56]، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[الشورى52]، في ظاهره تعارض؛ لأن لفظ الهداية نُفي في موضع، وأُثبت في موضع، لكن لو فُسّرت الآية الأول: أن المراد بها هداية التوفيق، وأنها خاصة بالرب -جل وعلا-؛ لأن متعلقها التصرف في القلب، وهذا ليس لأحد من البشر، لا يملكها لا النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا غيره، وأن الثانية: المراد بها هداية الدلالة والإرشاد، المثبَت للنبي -صلى الله عليه وسلم-، بل ولغيره -كأهل العلم- هداية الإرشاد والدلالة والبيان؛ حينئذ ظاهرها التعارض.

هل ما يغمض في هاتين الآيتين يخفى على العلماء؟

لا، إذًا صار في حقهم محكما، وغير العلماء صار في حقهم متشابها.

(3) (وقيل: الحروف المقطعة):

القول الثالث: لم ينسبه إلى أحد، أشار إليه بقوله:

(وقيل): وهذه صيغة تضعيف في الأصل عند أهل العلم؛ لذلك أسند في الأول: (قال القاضي)، وفي الثاني: (وقال ابن عقيل)، ثم قال:

(وقيل): إما أنه تضعيف، وهذا هو الأكثر، وإما أنه لعدم تيقنه بقائله، وقد نسبه ابن كثير في تفسيره إلى مقاتل بن حيان، وقال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: إنه يُروى عن ابن عباس، ولفظة: "يُروى"؛ يعني ضعّفه.

(الحروف المُقطَعَة): يعني المتشابه هو الحروف المقطعة التي تكون في أوائل السور، ولو قال: الحروف الهجائية لكان أعم؛ لأن الحروف المقطعة يشمل ما رُكِب من حرفين فأكثر؛ {طسم}[الشعراء1]، أو {كهيعص}[مريم1] أما {ص}، و {ن}، و{ق}، هذه حروف هجائية، ولا يُقال: إنها حروف مقطعة.

(وقيل الحروف المقطعة): يعني ما عداه فهو محكم، إذًا ما وُصلت حروفه وأُريد معناه فهو محكم، فعلى ذلك القرآن كله محكم إلا الحروف الهجائية التي افتتحت بها بعض السور؛ فهي متشابه، وهذه على خلاف طويل بين المفسرين في المراد بالحروف الهجائية التي تكون في أول السور، والأصح أن يقال: إنها لا معنى لها من حيث دلالة اللغة العربية عليها؛ لأننا قررنا قاعدة: أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، فنسأل في لغة العرب هل ورد عندهم تركيب حروف لا معنى لها؛ تُؤلَف حروف لا يُراد معناها؟

لا؛ ولذلك دائما نقول: من حيث المعنى لا معنى لها، وإذا نُفي المعنى لا يلزم منه ألا يكون لها مغزى، إشارة إلى شيء معين آخر، ولذلك نقول: هي لا معنى لها أصلا، ولكن لها مغزى؛ لئلا نسلب الحروف أو الآيات من دلالتها على المعاني المطلقة، فالمعنى الداخلي للفظ غير موجود هنا؛ لأن العرب لم تركب هذه الحروف، لكن لها معنى آخر، وقد يكون أعظم وأجل مما لو دلت على معنى خاص بها، وهو: أن الله -جل وعلا- تحدى العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن، فكأنه قال: {الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ}، ذلك الكتاب الذي أُلِف مما تعرفون، وكانت هذه تآليف الكلمات والحروف من {الم}؛ فحينئذ عجزكم عن الإتيان بحروف تتألف منها هذه الحروف التي ذكرت في أوائل السور يدل على أن القرآن كلام الله، وليس من صنع البشر؛ ولذلك في الأغلب الأعم أن هذه الحروف إذا جاءت ذُكر بعدها الكتاب أو القرآن، هذا يدل على أن هذا الكتاب أُلف من هذه الحروف، ولكنكم عجزتم عن الإتيان بسورة، بل بآية من هذا القرآن، وهذا يدل على أنه كلام الله، لا يشبهه كلام أحد من البشر.

إذًا هذا القول المنسوب إلى ابن عباس؛ أن المتشابه هو الحروف المقطعة، وما عداه فهو المحكم.

(4) (وقيل: المحكم: الوعد والوعيد، والحرام والحلال. والمتشابه: القصص والأمثال):

القول الرابع: وهذا رُوي عن ابن عباس بمعناه، حكاه ابن عقيل أو القاضي: بأن المحكم: ما استفيد الحكم منه، والمتشابه: ما لا يفيد حكما.

المحكم: ما استفيد منه حكم إيجاب، تحريم، كراهة، ندب، وما عداه فهو متشابه، لذلك رواه بالمعنى؛ فقال:

(وقيل: المحكم: الوعد والوعيد، والحرام والحلال، والمتشابه: القصص الأمثال): وقد ضعفه ابن تيميه -رحمه الله تعالى-؛ لأن الوعد والوعيد قد يكون فيه نوع تشابه؛ بمعنى أنه يخفى معناه أولا، ثم يظهر؛ ولذلك اختلفوا اختلافا طويلا في قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ..}[النساء93]، هذه مُختَلف فيها مع أنها من الوعيد، حينئذ وقع الاشتباه في الوعيد، والحرام والحلال كذلك، وقع فيه كثير من النزاع والخلاف بين أهل العلم في المراد.

(والمتشابه: القصص والأمثال): أما القصص؛ فإيراده في المتشابه من أبعد ما يكون؛ لأن القصص من حيث المعاني وتركيب القصة ابتداء وانتهاء معلومة، ولذلك يستوي في فهمها العامي وغيره، بل تجد العوام يتعلقون بالقصص أكثر من غيرها؛ لفهمهم لها.

(والمتشابه: القصص والأمثال): لكن الله -جل وعلا- يقول: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت43]، هذه في الأمثال، وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أنها أقرب إلى المتشابه، لكن أيضا في الأصل هي تُفهَم، لكن المراد {وما يعقلها}؛ أي وما يعقل مغزاها وما أُريد بهذا المثل، أما معناه الأصلي فهذا يتضح، وقد يفهمه حتى العامي، وإذا قيل العامي فليس بالمقياس الموجود الآن، وإنما العامي الذي قد يكون ليس من أهل العلم في طبقة التابعين ومن بعدهم، أما الآن فلا يمكن أن يُقال: إنه مقياس؛ لأنه في اللغة وفي الشرع من أبعد ما يكون في العلم الشرعي.

(5) (والصحيح: أن المتشابه: ما يجب الإيمان به، ويحرم تأويله كآيات الصفات):

وهذه زلة.

(والصحيح): يعني القول الأصح عنده.

(أن المتشابه): يعني من القرآن.

(ما يجب الإيمان به): نقول: الإيمان بالقرآن كله أو بمتشابهه؟

بالقرآن كله، إذًا وجوب الإيمان يكون بالقرآن كله، هل يُفهَم من هذا أن المتشابه هو الذي يجب الإيمان به، والمحكم لا يجب الإيمان به؟

نقول: لا، بل القرآن كله سواء فهم منه أم لم يفهم، أدرك الحقيقة أم لم يدرك، حينئذ يسلم أن هذا حق، وهذه أحكام حق، وما ترتب على الحق فهو حق، علم أو لم يعلم؛ لأنه نزل من عند الحق، فإذا لم يفهم، أو فهم على جهة القصور فيتهم نفسه وعقله، ولا يتهم القرآن.

فليس المراد به أن يُفصّل في التصديق، لا، التصديق يستوي؛ لأن القرآن كله يجب الإيمان به مطلقا على جهة السواء، وإن كان من جهة إفادة المعنى قد يتعلق القلب بما فهمه أكثر مما لم يفهمه، أما من جهة القبول فحينئذ يستوي الحكم.

(ويحرم تأويله): ظاهر كلام المصنف أنه قصد بالتأويل هنا الذي هو عند المتأخرين؛ الذي الأصح أن يسمى تحريفا، وهو صرف اللفظ عن ظاهره؛ يعني عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقتضيه، إذا أطلق التأويل انصرف إلى هذا المعنى عند المتأخرين، يمثلون لذلك بهذا {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه5]؛ لأنه ذكر الصفات، قالوا: الرحمن -جل وعلا- على العرش استوى، {استوى}: يُفهَم منه الاستواء الحقيقي، وله معنى آخر، وهو المعنى المعنوي الذي يطلق عليه بالغلبة والقهر، فحينئذ لما امتنع أن يُحمَل اللفظ على ظاهره -وهو الاستواء بمعنى العلو الخاص- حُمل على المعنى المرجوح، وهو الاستيلاء.


استوى بِشر على العراق


حينئذ قالوا: استوى بِشر على العراق، لم يستوِ بذاته، وإنما استوى معنى، فصُرف اللفظ عن ظاهره الذي يقتضيه إلى معنى مرجوح لدليله.

وهذا نقول: فاسد.

أنا أذكر مثالا لما يذكرونه هم؛ لأن اللفظ هنا قالوا: له ظاهر، وله معنى مرجوح، ظاهره: الاستواء المعلوم في الذهن، وهذا لا يُوصف به إلا الأجسام، والله -جل وعلا- مُنزه عن الجسمية؛ فحينئذ يتعين المعنى المرجوح لدليل، وهذه العلة عندهم علة عقلية، وهي استحالة قيام الأوصاف التي تقضي الجسمية بالرب -جل وعلا-.

حينئذ قال: (ويحرم تأويله): أي صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقتضيه.

ويطلق التأويل أيضا بمعنى التفسير، لكن ظاهر كلام المصنف أنه أراد الأول لأنه قال:

(كآيات الصفات): وعليه هل يرى تأويل الصفات أو لا؟

لا يرى تأويل الصفات، لكن تمثيله بآيات الصفات للمتشابه هذا فيه نظر؛ لأن الحق التفصيل، وليس الإطلاق؛ لأن صفات الرب -جل وعلا- كلها لها نظران: نظر من جهة المعنى اللغوي الذي تدل عليه، وهذا معلوم واضح، محكم، بل من أحكم المحكم كما قال ابن القيم، الاستواء معلوم في اللغة، الرحمة معلومة، الرأفة، المغفرة، النزول معلوم، .. إلخ، كلها معلومة في اللغة، ولكن كيفية هذه الصفات نقول: هذا من المتشابه، لماذا؟

لأنه مما استأثر به الرب -جل وعلا-، فحينئذ نقول: إطلاق أن الصفات من المتشابه مطلقا خطأ، وإطلاق أنها من المحكم مطلقا خطأ؛ لأن الصفة ليس المراد بها الصفة مطلقا دون تعلقها بالموصوف، وإنما كلف المكلف -العبد المسلم- أن يؤمن بمدلول الصفات، وأما كيفية اتصاف الرب بها هذا لا تدركه العقول، حينئذ يؤمن في الأول، ويفوض في الثاني؛ ولذلك إذا قيل: هل مذهب السلف التفويض؟

نقول: فيه تفصيل، لا نقول: ليس مذهب السلف نفي التفويض، لا، نقول: لا بد من التفصيل؛ إن كان المراد تفويض المعنى، نقول: هذا باطل، ولذلك شيخ الإسلام يقول: شر الفرق المفوضة الذين يفوضون المعنى، يقولون: لا ندري، {الرحمن على العرش استوى}، ما معنى استوى؟

يقولون: الله أعلم، ما ندري، يقول شيخ الإسلام: المحرّف أخف ضررا وأخف بدعة من ذاك الذي يفوض المعنى.

إذًا نقول: تفويض المعنى؛ بأن نقول: لا ندري ما المراد بهذه الآية، لا ندري ما المراد بـ: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا"، الله أعلم بالنزول هذا، نقول: هذا تفويض للمعنى، هذا باطل.

لكن نقول: نفهم ما المراد بالنزول، وأما كيفية النزول فنفوضه إلى الرب -جل وعلا-، تفويض الكيف، نقول: هذا هو الحق، بل لا يجوز التكييف أصلا.

إذًا التمثيل للمتشابه بآيات الصفات فيه نظر، بل الصواب التفصيل.

نخلص من هذا أن المحكم والمتشابه موجودان في القرآن، وأن أصح ما يُقال فيهما: أن المحكم: ما اتضح معناه، وعكسه المتشابه: ما لم يتضح معناه، وإذا لم يتضح معناه يرد إلى المحكم فيتضح معناه، وليس عندنا متشابه في القرآن لم يتضح معناه مطلقا، هذا لا وجود له في القرآن.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-12, 04:11 PM
السنة:

تعريف السنة وأقسامها:

[المتن]:

[والسنّة: ما ورد عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- من قولٍ غير القرآن، أو فعل، أو تقرير(1)].

[الشرح]:

(1) (والسنّة: ما ورد عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم- من قولٍ غير القرآن، أو فعل، أو تقرير):

(والسنة): أي الأصل الثاني الذي يعتمده المجتهدون في استنباط الأحكام الشرعية، والذي يعتبر مصدرا من مصادر التشريع: سنة النبي -صلّى الله عليه وسلّم-؛ ولذلك إذا قيل: "السنة"، انصرفت إلى سنة النبي -صلّى الله عليه وسلّم-.

ما الدليل على أن السنة أصل؟

نقول: كل آية أمر الرب -جل وعلا- بطاعة النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في القرآن -وما أكثرها- فهي دليل على حجية السنة:

{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي}[آل عمران31].

{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}[النور54].

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر7]، وهذه الآية على جهة الخصوص؛ نصَّ أهل العلم أن جميع السنة داخلة في هذه الآية، كل ما أتاكم به، كل أمر سواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب فهو داخل في قوله نعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، وكل نهيٍ نهى عنه سواء كان نهي تحريم أو نهي تنزيه فهو داخل في قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}.

لكن المتكلمون لهم طريقة أخرى؛ يعني يُحيلون في إثبات حجية السنة إلى علم الكلام، فيُثبتون المعجزة، ويثبتون دلالة المعجزة، وهل هي حجة أو لا؟ وكيف تُعرف المعجزة؟ ثم المعجزة دلالتها على صدق النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، فإذا ثبت أنه صادق نقول: صدق ما جاء به .. إلخ، يبحثون هذه المسألة في علم الكلام، وبعضهم يستلها إلى كتب الأصول؛ لأنهم لا يعتمدون على الكتب، وإنما ينظرون إلى العقل.

نقول: هذا إن كان في مواجهة من لا يؤمن بالله ورسوله فلا إشكال، أما أن تقرر المسائل على هذه الصورة لأهل الإسلام؛ فحينئذ نقول: ليس على منهاج النبوة، ليس على الهدى المبين، وليست هي طريقة السلف، وإنما طريقة السلف: الوقوف مع النصوص كتابا وسنة، ويسوى بينهما، كل منهما يعتبر حجة، وكل منهما يؤيد الآخر، وكل منهما يفسر الآخر، لا تُضرَب النصوص بعضها ببعض، ولا يُوقف مع نص ويُهجر جميع النصوص، هذه طريقة أهل البدع.

وأهل البدع لا يستدلون -في الغالب- بالعقول فحسب كما يظنه الظان، لا، لا بد أنه يأخذ كلمة من القرآن وكلمة من السنة فيقفون معها، ويُحرفون كل معنى يمكن أن يدخل تحت الآية، أو يخصصون، أو يعممون، وتُهجَر جميع النصوص.

نقول: منهج السلف ليس كذلك؛ بل الجمع بين النصوص ومحاولة التوفيق، وأن يكون نظر الناظر أن ثم تآلفًا بين النصوص، وألا تُضرَب بعضها ببعض.

(والسنة): ما هي السنة؟

السنة تختلف من موضع عن موضع؛ لأنها في اللغة لها معنى خاص، وعند الأصوليين لها معنى خاص، وعند الفقهاء، وعند المحدثين، كل فنٍ اصطلح على معنى خاص.

أما السنة في اللغة: السيرة حميدة كانت أو ذميمة، {سنة الله}؛ أي طريقة الله في المكذبين لرسله، هكذا ورد في القرآن.


ولكل قوم سنة وإمامها


والسنة عند الأصوليين: (ما ورد عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- من قول غير -يجوز النصب والجر- القرآن، أو فعل، أو تقرير).

(ما ورد عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم-): إذًا كل ما ورد عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يسمى سنة، وهذا من اصطلاح العلماء؛ أن السنة تطلق في مقابلة القرآن، فحينئذ يطلق القرآن ويراد به كلام الله، وتطلق السنة ويُراد بها كلام النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، وهذا له أصل في الشرع، جاء في حديث مسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة».

(ما ورد عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- من قول ..، أو فعل، أو تقرير): يزيد أهل الحديث: "أو صفة خَلقية أو خُلقية"، وهم أسعد بالسنة في هذا؛ لأن نظرهم في الأخبار ومعرفتهم بأحوال النبي ألصق بالسنة من الأصوليين.

(ما ورد عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم-): لو وقف إلى هنا لصحَّ.

(من): "من" هذه يقال فيها: إنها بيانية؛ يعني بينت مُجمَلا، {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}[الحج30]، ما هو الرجس؟ الأوثان.

(ما ورد عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم-): ما الذي ورد؟

القول، والفعل، والتقرير، إذًا تكون "من" هذه بيانية.

(من قول غير القرآن): أخرج القرآن؛ لأن ما ورد عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- من قول؛ إما أن يكون حكاية عن قول الرب -جل وعلا-؛ يعني ما كان متضمنا كلام الرب، وهو القرآن، وإما أن يكون منشؤه هو النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، هل كله سنة؟

اصطلح الأصوليون على أن ما كان النبي -صلّى الله عليه وسلّم- مبلغًا به عن الرب -جل وعلا- لفظا ومعنى فهو قرآن، قابلته السنة، فحينئذ لا بد من إخراج القرآن، فقال:

(غير القرآن): إذًا القرآن لا يسمى سنة في الاصطلاح، كل قولٍ ورد عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- ليس قرآنًا فهو سنة.

يُفهَم من هذا أن الحديث القدسي من قول النبي -صلّى الله عليه وسلّم-؛ لأنه لم يستثنِ إلا القرآن، حينئذ إذا صدَّر النبي -صلّى الله عليه وسلّم- القول بـ قال الله تعالى: «من عادى لي وليًا»، هذا داخل في السنة؛ من قول النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أو لا؟

على هذا الاصطلاح نعم؛ كأن المصنف يميل إلى أن الحديث القدسي لفظه من النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، وهذا هو الأظهر، نقول: معناه من الرب -جل وعلا-، واللفظ من النبي -صلّى الله عليه وسلّم-.

(من قول): كقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، «إنما الأعمال بالنيات»، هذا نقول: قول النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، سنة قولية؛ لأنها منقولة عن لفظ النبي -صلّى الله عليه وسلّم-.

(من قول): قال بعضهم: ولو كان أمرا منه بكتابة؛ يعني يدخل في القول: لو أمر بالكتابة، «اكتبوا لأبي شاهٍ»، وأمر عليا يوم الحديبية أن يكتب، إذًا هو داخل في السنة القولية.

(أو فعل): إشارة إلى السنة الفعلية؛ كالطواف ومناسك الحج، وكذلك الصلاة، نقول: هذه سنن فعلية، كل ما حُكي من فعل النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في الحج فهو سنة فعلية، وكل ما حُكي من فعل النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في الصلاة فهو سنة فعلية.

زاد بعضهم: "ولو بإشارة على الصحيح"، لو أشار نقول: هذه سنة؛ لأنه كالأمر به، ولذلك جاء في حديث كعب بن مالك قال: «يا كعب»، قال: لبيك يا رسول الله، فأشار إليه بيده؛ أن ضع الشطر من دينك، طاف النبي -صلّى الله عليه وسلّم- على بعير فأشار إلى جهة الحجر الأسود، هذه سنة فعلية، كذلك إشارة النبي -صلّى الله عليه وسلّم- لأبي بكر أن يتقدم في الصلاة.

(أو تقرير): تقرير سيأتي تعريفه، وهو ترك الإنكار على فعل فاعل؛ يعني تقرير فعل غيره إذا فُعل بحضرة النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، أو لم يكن بحضرته وبلغه علمه فسكت، ترك الإنكار؛ نقول: سنة تقريرية؛ لأن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أقرّه، كذلك إذا قيل قول بحضرته فسكت -صلّى الله عليه وسلّم-، أو بلغه فسكت؛ يعني ترك الإنكار؛ نقول: سنة تقريرية.

سأل الجارية: «أين الله؟» فقالت: في السماء، أقرّها، يسمى تقريرا على قول، كذلك أكَل خالد بن الوليد الضب على مائدة النبي -صلّى الله عليه وسلّم- فسكت، ترك الإنكار نقول: هذه سنة تقريرية على فِعلٍ فُعل بحضرته.

كذلك إذا حصل شيء في زمنه، سواء بلغنا أنه علمه أو لا ولم يحصل إنكار؛ نقول: سنة تقريرية؛ ولذلك جاء في حديث جابر: "كنا نعزل والقرآن ينزل"؛ لأنه لو لم يعلمه النبي -قد يقول قائل: كيف يعلم النبي -صلّى الله عليه وسلّم- هذه الأمور؟ هذه خاصة-، لو لم يعلمه النبي -صلّى الله عليه وسلّم-؛ نقول: بل علمه من الله -عز وجل-؛ لأن كل مُنكر من القول أو الفعل يحصل في زمن التشريع؛ زمن تنزل الوحي لا يمكن أن يُقرّ على باطل، ولذلك لما بيّت المنافقون ما يبيتون فضحهم الله -عز وجل- بقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء108]، إذًا هذه فضيحة؛ لأن هذا مما يخفى على النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، النبي ما يعلم الغيب، {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل65]، حتى النبي -صلّى الله عليه وسلّم- ما يعلم، حينئذ إذا خفي على النبي -صلّى الله عليه وسلّم- علمه لا يخفى الله -جل وعلا-؛ لأن الزمن زمن تشريع، فالسكوت عليه حينئذ يكون تقريرا وإقرارا للمنكر من القول أو الفعل، هذه ثلاثة أنواع: سنة قولية، وسنة فعلية، وسنة تقريرية.

بعضهم زاد -وموجود في كتب المعاصرين-: سنة تَركية، يصح أو لا يصح؟ يعني ما تركه النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، وعلمنا أن تركه مقصود، هل نتأسى به، ونقول: هذا سنة، ونتركه كما ترك؟

هذه نردها لما مضى.


والترك فعل في صحيح المذهب


ولذلك إن ظهر أن الترك مقصود قلنا: هذا كف، فإذا كان كفا صار فعلا، وإذا كان فعلا صار سنة، ودخل في قوله: (أو فعل)، خطاب الله المتعلق بفعل المكلف، "بفعل"، قلنا: منه ما هو ترك، فحينئذ الفعل يكون تركا حتى في حق النبي -صلّى الله عليه وسلّم-؛ لأنه مكلف، والخطاب يتعلق به، ولذلك لو لم تظهر بدعة -كما في المولد ونحوه - نقول: إذا لم يفعله النبي -صلّى الله عليه وسلّم- ولا الصحابة الكرام؛ فالسنة عدم الفعل، لماذا تفعل شيئا ما تقرّب به النبي ولم يتقرب به كبار الصحابة ولا القرون المفضلة؟! نقول: تركه سنة، بقطع النظر تقرر هل هو بدعة أو لا؟ يعني تكون وقَّافا فعلا وتركا؛ ولذلك التأسي -كما ذكره غير واحد- أن تفعل كما فعل لأجل أنه فعل، وأن تترك كما ترك لأجل أنه ترك، هذه قاعدة عظيمة ينبغي لطلاب العلم أن يعتنوا بها؛ أن تفعل كما فعل، لا تقل: واجب، سنة، هل أأثم إذا تركت؟ هل أأثم إذا .. إلخ، هذه تستخدم عند التعارض، اختلطت عليك الأمور، لا تستطيع أن تقدم وتؤخر، تقول: هذا واجب، هذا أولى بالعناية يقدم على السنة، أما إذا لم يحصل تعارض فحينئذ لا يترك شيئا فعله النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، بل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- سمعته يقول: السؤال عن هذا واجب أو سنة، الأمر هذا أمر إيجاب أو ندب؟ نقول: هذا أقرب إلى البدعة، يقول: الصحابة كانوا إذا أُمروا يمتثلون مباشرة، ما يقفون يجادلون، هذا أمر تقصد به الإيجاب أو تقصد به الندب؟

أما إذا حصل التعارض فيرد السؤال من باب التخفيف على المكلف، إذا وقع تعارض وازدحمت عليك الأعمال حينئذ تقول: هذا سنة، وهذا واجب، والواجب مقدم، أما متى ما أمكن فلا يبخل على نفسه.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-12, 05:21 PM
تابع السنة:

حجية أقسام السنة:

القول:

[المتن]:

[(فالقول) حجة قاطعة يجب على من سمعه العمل بمقتضاه؛ لدلالة المعجز على صدقه(1)].

[الشرح]:

(1) ((فالقول) حجة قاطعة يجب على من سمعه العمل بمقتضاه؛ لدلالة المعجز على صدقه):

(فالقول): الفاء للتفصيل، أراد أن يفصّل لك القول وما يتعلق به، والفعل وما يتعلق به، والتقرير وما يتعلق به؛ فقال:

(فالقول حجة قاطعة): حجة بمعنى دليل، وسلطان، وبرهان، وآية، وعلامة، وأمارة كما سبق، إذًا حجة قاطعة؛ بمعنى أنها مُلزمة.

(يجب على من سمعه): إذا قيل: من سمع قول النبي -صلّى الله عليه وسلّم- فالحكم يختص بالصحابة -رضي الله عنهم-، أما من عداهم فلا يشملهم الحكم ولو سمعه في المنام.

(يجب على من سمعه: العمل بمقتضاه): حجة قاطعة يجب العمل على حسب ما يقتضيه من وجوب أو ندب.

إذًا ما حكم القول؟

نقول: إما أن يُباشره السامع أو لا، يُباشره السامع؛ يعني يسمعه بنفسه، فحينئذ يصير حجة قاطعة؛ بمعنى أنه يجب العمل بمقتضاه، إن اقتضى إيجابا وجب الامتثال، وإن اقتضى ندبا استحب الامتثال، لماذا؟ قال:

(لدلالة المعجزة على صدقه): هذا الذي قلناه سابقا؛ يعني لماذا صار قول النبي حجة؟

(لدلالة المعجزة على صدقه): يعني على صدق النبي -صلّى الله عليه وسلّم-؛ يعني المعجزة التي عبّر عنها القرآن بالآية تدل على أن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- نبي، وإذا كان نبيا فحينئذ يكون صادقا؛ لأن النبوة والرسالة تبليغ للشرع عن المُرسِل إلى المُرسَل إليه، فحينئذ يمتنع أن يتخذ المُرسِل من هو كاذبا، فأقام المعجزة على صدق المُرسَل لتصديق أخباره إذا أخبر، والمعجزة هذه مُفعِلة من أعجز الشيء أو معجزة اسم فاعل، من أعجز يعجز فهو مُعجز، وضابطها: أنها كل أمر خارق للعادة يظهرها الله -عز وجل- على يد نبي تأييدا له؛ كانشقاق القمر، وينبوع الماء من أصابعه، هذه نقول: معجزات، والتعبير بالآيات أوفق للقرآن.

أي الدليل على وجوب العمل بالسنة دلالة المعجزة على صدقه -صلّى الله عليه وسلّم-، وكل من دلت المعجزة على صدقه فهو صادق، وكل صادق فقوله حجة، فيكون قوله -صلّى الله عليه وسلّم- حجة، هكذا يقول المتكلمون، وهم كاسمهم متكلمون، وإلا لو وقفوا مع النصوص لما احتجنا إلى هذا.

وأحسن من هذا أن يُقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي} والاتباع يلزم منه التصديق، لو لم يكن صادقا لما أمره الله -جل وعلا- أن يقول: {فَاتَّبِعُونِي} ، لو لم يكن قوله حجة ملزمًا للغير لما قال: {فَاتَّبِعُونِي} .

إذًا عرفنا أن القول حجة قاطعة مُلزمة، يجب العمل بما دل عليه سواء بالنص أو بالظاهر المقترن بقرينة.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-12, 05:24 PM
تابع حجية أقسام السنة:

الفعل:

(1) الأفعال الجبلية:

[المتن]:

[وأما (الفعل) فما ثبت فيه أمر الجِبِلَّة؛ كالقيام والقعود، وغيرهما، فلا حكم له(1)].

[الشرح]:

(1) (وأما (الفعل) فما ثبت فيه أمر الجِبِلَّة؛ كالقيام والقعود، وغيرهما، فلا حكم له):

(وأما الفعل): يعني فعل النبي -صلّى الله عليه وسلّم- الذي هو السنة الفعلية.

(فما ثبت فيه أمر الجبلة): جِبلة بكسرتين مع التشديد، وهو الخِلقة والطبيعة.

(كالقيام والقعود، وغيرهما، فلا حكم له): فلا حكم له؛ يعني لا إيجاب، ولا تحريم، ولا ندب، ولا كراهة، بل يبقى على الإباحة؛ لأنه -صلّى الله عليه وسلّم- بشر كغيره يحتاج إلى القيام والقعود، والنوم، والأكل والشرب، كل ذي روح لا بد أن يسعى في مثل هذه الأعمال، وهذه ليست من باب التكليف؛ يعني ليست من باب الخطاب بأمر أو نهي، لم يُكلَّف الخلق باتباع النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في هذه الأمور، بل كلفوا باتباع أمره ونهيه، فما ثبت فيه أمر الجبلة؛ كالقيام والقعود، وغيرهما؛ كالأكل والشرب، والنوم؛ فلا حكم له.

لكن على كلام المصنف نقول: بالنظر إلى ذاته، لا بالنظر إلى صفته؛ لأنه من حيث الصفة قد يتعلق به الحكم، الأكل من حيث هو أكل أمر جبلي، لكن كونه مأمورا بأن يأكل باليمين، منهيا أن يأكل بالشمال؛ نقول: هذه صفة تعلقت بأمر جبلي في الأصل، فحينئذ يكون الحكم مقيدا هنا، النوم أمر جبلي، لكن وردت الصفة أنه يذكر ربه، وينام على طهارة، وينام على جنبه الأيمن إلخ، نقول: هذه صفات تعلقت بأمر جبلي.

إذًا من حيث الذات نقول: لا حكم له، ومن حيث ما تعلق به من صفة فله حكم، وهو الندب، هذا قول.

وقال بعضهم: إنه يُندب الاقتداء والتأسي بالنبي -صلّى الله عليه وسلّم- حتى في الأمور الجبلية، وهذا عزاه أبو إسحاق الإسفراييني إلى أكثر المحدثين، أكثر أهل الحديث: أن الأمور الجبلية للنبي -صلّى الله عليه وسلّم- يقتدى بها؛ لعموم قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب21]، {فِي رَسُولِ اللَّهِ}؛ يعني كل ما يصدر عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، إذا قيل: "في" الظرفية، ثم جيء بالرسول، والرسول الأصل فيه أنه ذات، إذًا {فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}؛ بمعنى تأسوا به، فهذا يدل على أن الأمر عام، فكل ما صدر عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- من أمر جبلي أو غيره؛ فالأصل فيه التأسي، ولذلك جاء في الحديث: «ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء»، ثم قال: «فمن رغب عن سنتي»، التي هي ماذا؟

سنتي: النوم والقيام، والأكل والصوم، كل هذه سماها سنة، فحينئذ أطلق على بعض الأمور الجبلية أنها سنة؛ حينئذ يكون الأصل الاقتداء به مطلقا.

وقيل: مُباح، وقيل: ممتنع.

وقيل: مباح. هذا ذكره المصنف هنا: (فلا حكم له): على أنه مباح، وقيل: ممتنع.

إذًا الفعل الجبلي من أفعال النبي اختلف الأصوليون فيه على ثلاثة أقوال: الإباحة، والامتناع، والندب، وهو منسوب لأكثر أهل الحديث، والأدلة تدل عليه.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-12, 05:28 PM
تابع الفعل:

(2) الأفعال الخاصة به:

[المتن]:

[وما ثبت خصوصه به؛ كقيام الليل فلا شركة لغيره فيه(1)].

(1) (وما ثبت خصوصه به، كقيام الليل فلا شركة لغيره فيه):

(وما ثبت خصوصه به؛ كقيام الليل فلا شركة لغيره فيه): يعني وما كان خاصًا بالنبي -صلّى الله عليه وسلّم- فهذا مختص به لا يشاركه فيه غيره من أمته، ولكن هذا -بالإجماع- لا يثبت إلا بدليل، لا بد من دليل يدل على أنه خاص به -صلّى الله عليه وسلّم-؛ كالزيادة على الأربعة في النكاح، كالوصال في اليومين في الصيام مثلا، كقيام الليل في وجوبه على القول بأنه غير منسوخ، الزواج بلفظ الهبة دون مهر: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[الأحزاب50]، هذا دليل على أنه خاص، فحينئذ الحكم لأمته: عدم المشاركة، لا يستوون، لا يقلدون النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، لا يتأسون به، وتكون هذه المخصصة لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، تكون هذه الآية مخصوصة بالأحكام التي اُختص بها النبي -صلّى الله عليه وسلّم- دون غيره من سائر أمته، وإلا الأصل الاستواء كما سيأتي.

وليس منه على الأصح إذا خاطب النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أمته بأمر ثم فعل خلافه، بعض الأصوليين وبعض الفقهاء إذا جاء لفظ عام موجه للأمة، ثم ثبت بدليل آخر أن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- فعل خلافه يقول: ما فعله النبي هذا خاص به، وهذا يتوجه للأمة.

نقول: هذا ليس بصحيح.

«لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها لغائط أو بول »، هذا خطاب عام، والأصل أن الخطاب العام للأمة يشمل النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، هذا الأصل، كل حكم شُرع للأمة فيشمل النبي -صلّى الله عليه وسلّم- إلا بدليل، ثبت أن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- كما في حديث ابن عمر قضى حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة، هل هذا يعتبر مخصصا أو لا؟ هل نحمله على التخصيص أو على الخصوصية؟

هذا هو محل النزاع، بعضهم كالشوكاني -رحمه الله تعالى- في (نيل الأوطار) في كل صفحتين أو ثلاث تجد هذه القاعدة، يقول: هذا عام للأمة، وهذا خاص به.

نقول: هذه قاعدة فاسدة، ليست بصحيحة؛ لأنها مخالفة لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، تأخذ الأصل معك، الأصل التأسي، ولا خصوصية إلا بدليل، الأصل التأسي؛ يعني أن تقتدي بالنبي -صلّى الله عليه وسلّم- فعلا وتركا، إيجابا وندبا، تحريما وكراهة، هذا هو الأصل، والأصل الثاني الذي تستصحبه معك -وهذا يفيدك في دراسة الفقه- أنه لا خصوصية إلا بدليل؛ أن يرد نص أن هذا للنبي -صلّى الله عليه وسلّم- كما قال تعالى: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ولذلك بعضهم يستدل بأن الأصل التأسي مع آية الأسوة قوله -جل وعلا-: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[الأحزاب37]، والأصل أن يقول: عليك، لم عدل وقال: {على المؤمنين}؟

لأن الأصل أن المؤمنين يتأسون بالنبي -صلّى الله عليه وسلّم-، فدل على أن الأصل التأسي، {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ}[الأحزاب37]؛ لأنك قدوتهم وأسوتهم، يفعلون كما تفعل، وهذا هو الأصل.

فحينئذ نقول: إذا ورد لفظ عام وورد ما يخالفه من فعل النبي؛ نقول: هذا تخصيص لا خصوصية، ولذلك الجمهور على أن الحكم في استقبال القبلة واستدبارها في البول والغائط خاص بالبناء دون الفضاء، وهذا هو الأرجح والأصح.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-12, 05:33 PM
تابع الفعل:

(3) ما فعله بيانا لمجمل:

[المتن]:

[وما فعله بيانا؛ إما بالقول، كقوله: «صَلُّوا كما رَأَيْتُمونِي أُصلي»، أو بالفعل، كقطع السارق من الكوع، فهو معتبر اتفاقا في حق غيره(1)].

(1) (وما فعله بيانا؛ إما بالقول؛ كقوله: «صَلُّوا كما رَأَيْتُمونِي أُصلي»، أو بالفعل؛ كقطع السارق من الكوع، فهو معتبر اتفاقا في حق غيره):

النوع الثالث من أفعال النبي -صلّى الله عليه وسلّم-: (ما فعله بيانا): لمجمَل؛ يعني له ارتباط بالقرآن، أو بحديث آخر فيه إجمال.

(ما فعله بيانا): لمجمل، قد يأتي اللفظ مجملا، محتملا لأمرين، فيفعل النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أحد الاحتمالين، فنقول: هذا بيان لمجمل.

والبيان إما أن يقع بالقول، وإما أن يقع بالفعل كما سيأتي في باب المجمل.

(إما بالقول؛ كقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: «صلّوا كما رأيتموني أصلي»): هكذا مثَّل المصنف كغيره من الأصوليين؛ أن هذا فيه بيان لكيفية الصلاة بالقول.

لكن هل يُسلّم؟ {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}، هذا مجمل، الصلاة ما هي؟ لو لم يرد من السنة تبيين الصلاة لما استطعنا الامتثال، {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}، أي صلاة هذه؟ ماذا نصنع؟

إذًا لا بد من أقوال تُفسَر، وأفعال تُفسَر، وشروط، وتروك .. إلخ، جاءت السنة مُبينة، هل «صلوا كما رأيتموني أصلي» مبينة لـ {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}؟ أو إحالة على مُبيِّن؟

إحالة، إذًا قوله: «صلّوا كما رأيتموني أصلي» ليس فيه بيان، وإنما هو إحالة على المُبين، «كما رأيتموني»، إذًا الرؤية، أمر يُدرَك بالحس، فحينئذ حصل بيان، قوله -جل وعلا-: {وأقيموا الصلاة} بفعله -صلّى الله عليه وسلّم-.

فما قاله المصنف فيه نظر، والأصح أن يُقال: قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: «فيما سقت السماء العُشر» بيان لمُجملِ قوله تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام141]، {حقه} ما هو؟

هذا فيه إجمال، لكن قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: «فيما سقت السماء العشر»، نقول: فيه نوع بيان، فحينئذ بُيّن النص {وَآتُواْ حَقَّهُ} المجمل بقوله -صلّى الله عليه وسلّم-، إذًا المثال الصحيح هو ما ذكرناه.

(أو بالفعل): أي يحصل البيان بالفعل.

(كقطع السارق من الكوع): قوله جل وعلا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}[المائدة38]، يقول المصنف: {أيديهما} فيه إجمال، لماذا؟

لأنه يحتمل هل من الكف أو من المرفق أو من الكتف؟ يحتمل أو لا؟

على ما يذكره الأصوليون يحتمل، على قول من يرى أن اليد في اللغة تطلق على اليد من الأصابع إلى الكتف فهذا مجمل، فجاء فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم -بكونه قطع يد السارق من الكوع- بيانا لمجمل بالفعل.

والصحيح: أن الآية ليس فيها إجمال؛ لأن الأصل في إطلاق اليد في لغة العرب هي من الأصابع من الأطراف إلى الكوع، ولذلك قال هناك: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}[المائدة6]، وفي التيمم قال: {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}[النساء43]، أطلق، {وَأَيْدِيكُمْ}، يُحمَل على ماذا؟

على معناها اللغوي، وهو إلى المفصل، لما أُريد الزيادة على مدلولها اللغوي قال: {إلى المرافق} في آية الوضوء.

والصحيح أن يُمثّل بأن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بيّن بفعله المناسك، {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}[آل عمران97]، الحج هذا مُجمل، جاءت السنة بالبيان كما في حديث جابر؛ بفعل النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، السنة الفعلية بينت المجمل الذي وقع في الآية.

(فهو): الضمير يعود على فعل النبي -صلّى الله عليه وسلّم- إذا وقع بيانا لمجمل، هل يختص هذا بالنبي -صلّى الله عليه وسلّم- أم غيره يشركه فيه؟ الثاني أم الأول؟

الثاني؛ لأنه قال: فهو معتبر؛ أي فعله -صلّى الله عليه وسلّم- الواقع بيانا لمجمل.

(معتبر اتفاقا في حق غيره): من الأمة؛ لأنه تشريع داخل في عموم قوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ}[النحل44]، النبي -صلّى الله عليه وسلّم- مُبلغ، مُبيِّن، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}[الشورى48]، حينئذ إذا وقع لفظ مجمل في القرآن فبينه بقوله أو فعله -صلّى الله عليه وسلّم- نقول: يستوي في الحكم هو وأمته، فلا يختص به، ليس كالأمر الجبلي الذي لا حكم له، وليس كما هو من خصوصية النبي -صلّى الله عليه وسلّم- فيما ثبت خصوصيته، بل يكون عاما له ولأمته.

** إذًا ما وقع لأمته من الخطاب فهو داخل فيه، ولا إشكال في هذا.

** وما كان خطابا له فأمته تشركه فيه؛ يعني إذا وُجّه الخطاب للأمة فالنبي -صلّى الله عليه وسلّم- يشمله الحكم؛ لأنه واحد وفرد من الأمة.

** كذلك إذا وُجّه الخطاب للنبي -صلّى الله عليه وسلّم- -ولو بالنداء- أمته في الحكم كهو -صلّى الله عليه وسلّم-؛ ولذلك جاء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء}[الطلاق1]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} هو واحد، ثم قال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء}، لماذا عدل إلى الجمع؟

لأن الخطاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} أنت وأمتك، إذًا {إذا طلقتم النساء} هذا على بابه؛ لأن الأمر للنبي أمر لأمته، وجاء {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ}[التحريم1-2]، لماذا {لَكُمْ}؟

لأن الأمر موجه للنبي -صلّى الله عليه وسلّم-، وأمته معه سواء.

لكن ما كان المبيَّن فيه واجبا: فعل النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يأخذ حكمه.

ما كان مستحبا: فعل النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يأخذ حكمه.

لأنه يرد السؤال: إذا كان النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يبين المجمل بقوله وفعله، ما حكم القول نفسه والفعل؟

نقول: ننظر إلى المجمل، ننظر إلى المبيَّن، إن كان واجبا ففعل النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وقوله واجب، إن كان المبيَّن مستحبا ففعله -صلّى الله عليه وسلّم- مستحب، يأخذ حكم المبيَّن.

{وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ}[المائدة6]، مسح كل الرأس، نقول: مسح كل الرأس من فعل النبي -صلّى الله عليه وسلّم- هذا واجب.

{فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}، {إلى}، قالوا: هذا فيها إجمال، هل المرافق داخلة أو لا؟

نقول: غسل النبي -صلّى الله عليه وسلّم- المرافق، إذًا حصل بيان المبين للمجمل، فيأخذ حكمه، وغسل اليدين واجب؛ فيكون إدخال المرافق في الغسل واجب.

{وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}[البقرة125]، طاف -صلّى الله عليه وسلّم-، ثم صلى ركعتين عند المقام؛ نقول: سنة؛ لأن الأصل أنه مبين للسنة؛ فيأخذ حكمه.

إذًا قول النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وفعله -صلّى الله عليه وسلّم- إذا وقع بيانا لمجمل أخذ حكمه.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-12, 05:41 PM
تابع الفعل:

(4) الأفعال المجردة:

[المتن]:

[وما سوى ذلك فالتشريك، فإن عُلِمَ حكمه من الوجوب والإباحة وغيرهما فكذلك اتفاقاً، وإن لم يعلم ففيه روايتان: إحداهما: أن حكمه الوجوب، كقول أبي حنيفة وبعض الشافعية، والأخرى: الندب، لثبوت رجحان الفعل دون المنع من الترك. وقيل: الإباحة، وتوقف المعتزلة؛ للتعارض، والوجوب أحوط(1)].

(1) (وما سوى ذلك فالتشريك، فإن عُلِمَ حكمه من الوجوب والإباحة وغيرهما فكذلك اتفاقا، وإن لم يعلم ففيه روايتان: إحداهما: أن حكمه الوجوب، كقول أبي حنيفة وبعض الشافعية، والأخرى: الندب، لثبوت رجحان الفعل دون المنع من الترك. وقيل: الإباحة، وتوقف المعتزلة؛ للتعارض، والوجوب أحوط):

(وما سوى ذلك فالتشريك، فإن عُلم حكمه، وإن لم يُعَلم): قسمه لك قسمين.

(وما سوى ذلك): المشار إليه: الجبلي، والخاص، وما فعله بيانا، ترك واحدة فقط، وهو ما احتمل الجبلي والتشريعي؛ لأن القسمة رباعية.

** جبلي قطعا؛ كالأكل والشرب.

** محتمل للجبلي والتشريعي؛ كجلسة الاستراحة، جلسة الاستراحة ما سميت في عهد السلف بجلسة الاستراحة، وإنما سماها الفقهاء، فلذلك بعضهم قال: هي من الاستراحة، قال: إذًا ليست بتشريع؛ لأنها معلومة الحكمة، ليست من باب التعبد، يحتمل أن تكون من باب التعبد، ويحتمل أنها من باب أنه يستريح؛ أنه صلى ركعة فأراد أن يقوم فاستراح؛ لأنه أريَح له -صلّى الله عليه وسلّم، لذلك تقول عائشة: "حَطَمَهُ النَّاسُ"؛ يعني لما كان في آخر الزمن، فهذا محتمل، ما حكمه؟

إذا احتمل الجبلي والتشريع نقول: إذا قلنا في الجبلي هناك: إنه ندب، فلا إشكال، استوى الحكم؛ فتكون جلسة الاستراحة سنة، ويكون الحج على الدابة سنة، ويكون النزول في المحصَّب سنة؛ لأن هذا مما احتمل الجبلية والتشريع، فحينئذ يستوي الحكم فيهما؛ فيكون ندبا.

كذلك لُبس العمّة والنعل، هل هما وصفان للحكم التكليفي أو وصفان للحكم الوضعي؟

أيضا فيه خلاف، المصنف هنا جرى على أنهما وصفان للحكم الوضعي، ووجهه: أن الشرع هل دعا الناس إليها؟ هل لبس العمة فقام على المنبر فدعا الناس إلى هذا؟

نقول: لا، فيبقى أنها من السنن العادية؛ يعني يُتأسى بالنبي -صلّى الله عليه وسلّم-، وصاحبها مُثاب؛ لأن الأصل التأسي.

ثم تبقى مسألة دعوة الناس إلى مثل هذه الأمور؛ نقول: الأصل أن ما دعا إليه النبي يُدعى إليه، وما لم يدعُ إليه النبي -صلّى الله عليه وسلّم- نقول: نتأسى؛ لأنه فعل، نفعل كما فعل لأجل أنه فعل.

ثم يبقى أنه ترك الدعوة إلى مثل هذه الأمور؛ فيبقى الأصل: التشريع، ثم بعد ذلك نقول: هذه المصلحة تقتضي الدعوة أو لا؟ إلخ، فالمسالة محتملة.

إذًا نقول: ما كان محتملا للجبلية والتشريع الأصل أنه الندب؛ لأنه محمول على القول السابق في الأمور الجبلية.

أما جلسة الاستراحة فهي ثابتة بالنص، فليست محتملة، ولذلك جاء في حديث مالك بن الحويرث: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وهو راوي جلسة الاستراحة، إذًا هي مأمور بها، داخلة في قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: «صلوا»، هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، هذا الأصل، لكن لكونها تركت في بعض المواضع، لم تُنقل؛ نقول: الأصل السنية، إذًا ثابتة بالنص وبالفعل.

(وما سوى ذلك): أي الجبلي، والخاص به -صلّى الله عليه وسلّم-، وما فعله بيانا.

(فالتشريك): يعني فحكمه التشريك بينه وبين أمته.

ثم قسم لك هذا قسمين: إما أن يُعَلم حكمه أو لا؛ يعني يفعله -صلّى الله عليه وسلّم- ويُنقَل أنه فعله على جهة الوجوب، أو يُنقل أنه على جهة الاستحباب، أو أنه فعله ولم يُنقل حكمه، إذًا قسم لك ما سوى الجبلي، والخاص، وما وقع بيانا، إلى قسمين.

(فإن عُلم حكمه): من أفعاله -صلّى الله عليه وسلّم-.

(من الوجوب والإباحة وغيرهما): بدليل القرآن –مثلا-، أو بدليل سنة أخرى، أو بفهم الصحابة -رضي الله عنهم-.

(فكذلك): يعني فإن أمته مثله في الحكم، ما كان واجبا عليه -صلّى الله عليه وسلّم- فهو واجب على أمته، وما كان مستحبا فهو مستحب في حق أمته.

(اتفاقا): قال: اتفاقا؛ لقوله –جل وعلا-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر7].

(وإن لم يُعلَم): هذا ما يُعَبر عنه بالفعل المجرد عند الأصوليين؛ يعني فُعل ولم يُعلم حكمه.

(ففيه روايتان): عن الإمام أحمد -رحمه الله-.

(إحداهما: أن حكمه الوجوب، كقول أبي حنيفة، وبعض الشافعية): ونُسب إلى مالك -رحمه الله تعالى-؛ حكمه الوجوب علينا وعليه؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.

لكن هنا في مثل هذا نقول: الأصح التفصيل؛ ما توقف عليه البلاغ في حقه على الصحيح فهو واجب، وإلا فندب، وأما في حقنا فالأصح أنه مندوب لما سيذكره.

هذه الرواية الأولى عن الإمام أحمد، وهي المرجحة، المذهب عند أكثر أصحابه الوجوب احتياطا.

(والأخرى: الندب؛ لثبوت رجحان الفعل دون المنع من الترك): لأن الوجوب والندب اشتركا في مطلق الطلب، إذًا هذا مشترك، إذًا الطلب أرجح من الترك، والواجب يمنع الترك، والمندوب يجيز الترك، فحينئذ أيهما أدنى وأيهما أعلى؟

الندب أدنى من الواجب ولا شك؛ لأن الواجب والندب كل منهما مطلوب الفعل، إلا أن الندب لا يمنع الترك، والواجب يمنع الترك، وما لا يمنع أخف مما يمنع، وما لا يمنع أدنى مما يمنع، فحينئذ قال هنا:

(لثبوت رجحان الفعل): لكونه ندبا.

(دون المنع من الترك): الذي هو لازم للواجب؛ لأن الذي يمنع من الترك هو الواجب؛ ما يُثاب على فعله، ويُعاقب على تركه، إذًا مُنع من الترك، وما لم يمنع من الترك هذا حمل الفعل المجرد عليه أحوط؛ لأنه أدنى، ثبتت شرعية فعل النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، وأدنى مراتب التشريع من جهة طلب إيجاد الفعل هو الندب؛ فحينئذ يكون اليقين، ولا يُحمَل على الأعلى -وهو الواجب- إلا بدليل، وهذا أرجح، أما في حقه -صلّى الله عليه وسلّم- فيكون واجبا إذا توقف عليه البلاغ، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة67]، إذًا توقف البلاغ على فعل أو على قول واجب في حق النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، ويكون في حق أمته ندبا، هذا إذا لم يُعلَم حكمه نقلا عنه.

(والأخرى: الندب؛ لثبوت رجحان الفعل دون المنع من الترك): الذي هو لازم للواجب؛ أي أن الفعل أرجح من الترك؛ لأن فعله له -صلّى الله عليه وسلّم- يدل على مشروعيته، وأقل أحوال المشروع: الندب، إما واجب، وإما ندب، أقل أحوال القربى: الندب.

(وقيل: الإباحة): حملا على أقل الأحوال؛ ولذلك سبق أن بعضهم يقول: الجائز هذا يُطلق على الواجب، والندب، والإباحة.

وهي والجواز قد ترادفا في مطلق الإذن لدى من سلفا

قلنا: يشمل الواجب، والندب، والإباحة، أدنى المراتب الثلاث: الإباحة، فحينئذ إذا اشتبه علينا حكم الفعل نقول: الأدنى؛ لأنه اليقين، ولا يعدل للأعلى إلا بثبات، لكن هذا ضعيف.

(وتوقف المعتزلة للتعارض): قالوا: يحتمل أنه واجب، ويحتمل أنه مندوب، فحينئذ توقفوا، المعتزلة لا التفات إليهم.

(والوجوب أحوط): يعني مطلقا.

لكن هذا ليس بصواب، الأصح التفصيل: أنه في حق الأمة سنة، وفي حقه -صلّى الله عليه وسلّم- إن توقف عليه البلاغ فهو واجب.

لكن تصور المسألة على وجهها الصحيح: المراد فعلٌ لم يُنقل حكمه عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، فعل فعلا ما، وليس عليه دليل من قول أو غيره مما يؤيد ندبيته أو وجوبه؛ يعني صورة المسألة في فعل لم يقترن بما يدل على الندب، وفي فعل لم يقترن به ما يدل على الوجوب، نُقل إلينا فعل فعله النبي -صلّى الله عليه وسلّم- ما حكمه؟

نقول: إذا لم يُنقل حكمه فالأصل أنه مندوب؛ لأن الأصل التشريع والتأسي.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-12, 05:45 PM
تابع حجية أقسام السنة:

التقرير:

[المتن]:

[وأما (تقريره) وهو ترك الإنكار على فعل فاعل. فإن عُلِمَ علةُ ذلك كالذمي على فطره رمضان، فلا حكم له، وإلا دلّ على الجواز(1)].

(1) (وأما (تقريره) وهو ترك الإنكار على فعل فاعل، فإن عُلِمَ علةُ ذلك؛ كالذمي على فطره رمضان، فلا حكم له، وإلا دلّ على الجواز):

(وأما تقريره): تقريره -صلّى الله عليه وسلّم-، وهو القسم الثالث: السنة التقريرية.

(وهو ترك الإنكار على فعل فاعل أو قوله): يعني قيل بحضرته قول فلم ينكر، ترك الإنكار، أو فُعل بحضرته فعل وترك الإنكار، كذلك لو حصل شيء ما في زمنه فبلغه؛ نقول: هذا تقرير؛ إما بالسكوت، وإما بالحديث.

والتقرير عند أكثر أهل العلم يُحتج به.

هل يحتج بتقرير النبي -صلّى الله عليه وسلّم- على إثبات السنة؟

الصواب: نعم، بل حكى ابن حجر -رحمه الله تعالى- الإجماع على ذلك؛ لأنه -صلّى الله عليه وسلّم- لا يسكت على منكَرٍ يُفعَل بحضرته؛ لأنه معصوم؛ ولأنه إذا سكت معناه مشارك لهم، {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر}، فحينئذ يمتنع أن يسكت -صلّى الله عليه وسلّم- على المنكر وهو معصوم عن ذلك.

(فإن عُلم علة ذلك): يعني لو نُقل أنه ترك الإنكار، لكن نُقل سبب ذلك.

(كالذمي): يعني فله عذر خاص، ذمي شرب الخمر، ترك الصيام في نهار رمضان ولم ينكر عليه النبي -صلّى الله عليه وسلّم- نقول: هذا له عذر خاص، و هذا العذر أخرج كونه مقرًّا عليه من جهة الشرع.

(كالذمي على فطره رمضان): أفطر في رمضان فسكت عنه النبي -صلّى الله عليه وسلّم- هل نقول: سنة تقريرية؟

لا نقول: سنة تقريرية.

(فلا حكم له): يعني لا يدل على الجواز.

(وإلا دل على الجواز): يعني وإلا نعلم على تركه الإنكار علة كان ذلك دليلا على الجواز.

إذًا كأنه يقول: ترك الإنكار من النبي -صلّى الله عليه وسلّم- له حالان:

** إما أن يترك الإنكار بعذر خاص يتعلق بفعل الفاعل؛ فحينئذ لا يدل على الجواز.

** وإما ألا نعلم ذلك؛ فحينئذ يدل على الجواز؛ لعموم قوله -جل وعلا-: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ}[الأعراف157].

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-20, 04:24 AM
طرق السنة في بلوغها للناس:

(1) من تصل إليه السنة بالمباشرة:

[المتن]:

[ثم العالم بذلك منه بالمباشرة -إما بسماع القول، أو رؤية الفعل، أو التقرير- فقاطع به(1)].

[الشرح]:

(1) (ثم العالم بذلك منه بالمباشرة -إما بسماع القول، أو رؤية الفعل، أو التقرير- فقاطع به):

هذا شروع من المصنف -رحمه الله تعالى- في تقسيم السنة من حيث بلوغها إلى الناس.

كيف تصل إلينا السنة؟

قال: لنا طريقان.

(ثم العالم بذلك): يعني بقوله -صلى الله عليه وسلم-، من سمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو رأى فعله، أو رأى تقريره.

(منه): من النبي -صلى الله عليه وسلم-، الضمير يعود على النبي -صلى الله عليه وسلم-، له طريقان:

** إما بالمباشرة.

** أو بغير المباشرة.

إما أن يرى ويسمع، وإما أن يصل إليه بطريق الخبر.

يرى ويسمع؛ هذا واضح أنه خاص بالصحابة -رضوان الله عليهم-؛ لأن من سمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة هو الصحابي، ومن رأى فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الصحابي، ومن رأى تقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الصحابي.

ومن يصل إليه بواسطة هو من بعد الصحابي؛ من كان الصحابة وسيلة في تبليغ الشرع إليه.

(بذلك): أي بالسنة بأنواعها الثلاث.

(منه): -صلى الله عليه وسلم-.

(بالمباشرة؛ إما بسماع القول): قول النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه.

(أو رؤية الفعل): فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-.

(أو التقرير): رؤية تقرير النبي -صلى الله عليه وسلم-، قيل قولٌ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فرأى صحابي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد سكت وترك الإنكار، إذًا يستفيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقرّ هذا القول، وأنه جائز، فنقول: قد وقف الصحابي على تقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمباشرة، إذا عرفنا أن الصحابي يباشر السنة بأنواعها الثلاثة قال:

(فقاطعٌ به): أي العالم بما ذُكر قاطع بحصوله من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فيكون حجة قاطعة في حقه، لا يسوغ أبدا خلافه، إلا بنسخ، أو جمع بين متعارضين، من سمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم- صار القول حجة قاطعة في حقه، لا يجوز تركه أو خلافه إلا بدعوى نسخ عند الصحابي، أو تعارض هذا القول مع قول أو فعل آخر.

(فقاطع به): إذًا عرفنا أن المباشر للسنة النبوية فعلا أو قولا أو تقريرا حكمه: وجوب العمل وجوبا قطعيا، لا ظنيا.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-20, 04:31 AM
تابع طرق السنة في بلوغها للناس:

(2) من تصل إليه السنة بطريق الخبر:

[المتن]:

[وغيره إنما يصل إليه بطريق الخبر عن المباشر، فيتفاوت في قطعيته بتفاوت طريقه؛ لأن الخبر يدخله الصدق والكذب، ولا سبيل إلى القطع بصدقه؛ لعدم المباشرة(1)].

[الشرح]:

(1) (وغيره إنما يصل إليه بطريق الخبر عن المباشر، فيتفاوت في قطعيته بتفاوت طريقه؛ لأن الخبر يدخله الصدق والكذب، ولا سبيل إلى القطع بصدقه؛ لعدم المباشرة):

(وغيره): أي غير الصحابي، أو غير المباشر؛ يعني غير العالم بالسنة مباشرة، وهو من وصلت إليه السنة بواسطة، بقطع النظر عن طول هذه الواسطة أو قصرها، ما حكمه؟

(إنما يصل إليه بطريق الخبر عن المباشر): لذلك يُقال: أول الإسناد وآخره، أول الإسناد من جهة البخاري مثلا، وآخره من جهة الصحابي، لا بد أن يكون متصلا إلى الصحابي، وإلا كان في السند خلل.

(وغيره إنما يصل إليه): يعني يصل إليه العلم بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- أو فعله أو تقريره.

(بطريق الخبر عن المباشر): إذا وُجدت واسطة بين المباشر وبين من نُقل إليه الخبر بواسطة ذلك المباشر، أو المباشر عن غيره.

(فيتفاوت في قطعيته بتفاوت طريقه): إذا كان في حق المباشر الحكم قطعيا لا يجوز الخلاف؛ فحينئذ يورث اليقين، اليقين حجة قاطعة؛ بمعنى أنه أفاد العلم اليقيني، العلم الضروري الذي لا يجوز خلافه البتة كما سيأتي في كلامه على التواتر.

أما من ثبتت الواسطة بينه وبين المباشر، وبينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حينئذ تتفاوت الأحكام، هل هو قطعي أو ظني؟

يختلف باختلاف تلك الواسطة، لا نقطع بكونه قطعي الدلالة أو قطعي الثبوت كما قطعنا في المباشر؛ لأن ذاك رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، لا يمكن أن يحتمل أن يكون الفعل غير فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، لا يمكن أن يحتمل أن يسمع من غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويرى سكوت النبي؛ حينئذ صار الحكم قطعيا في حقه، لا يجوز الخلاف أبدا، إلا بدعوى نسخ، أو جمع بين متعارضين.

أما غيره فلا؛ لوجود الواسطة، ولكون هذه الواسطة من البشر، ويعروهم من النقص والنسيان، وبعضهم الكذب والغفلة .. إلخ، حينئذ لا يمكن أن يُقطَع بكون هذا القول قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو ليس بقوله، بل سيتفاوت في قطعيته، وهذا مُسَلَّم حسًّا وعقلا وشرعا؛ يعني يدل على تفاوت الحكم بالقطع أو الظن: الحس، ويدل كذلك: الشرع، ويدل أيضا: العقل.

والحكم حينئذ يكون مرتبا على الواسطة التي نقلت إلينا الخبر، فلا بد من نظرٍ في تلك الواسطة، لا بد من النظر إلى العدد، هل وصلت إلى حد التواتر أو لا؟ حينئذ يُنظَر فيه على ما يذكره المصنف.

(فيُتفاوت في قطعيته بتفاوت طريقه): لماذا؟

(لأن الخبر): الذي ينقله إلينا تلك الواسطة.

(يدخله الصدق والكذب): لأنه خبر؛ هو ينقل خبرا، ونحن لم نقطع بأنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أو فعله أو تقريره، حينئذ نقول: هذا خبر من الأخبار، وأي خبر من الأخبار يحتمل الصدق والكذب لذاته؛ ولذلك لو قيّد المصنف: "لذاته" لكان أولى.

(يحتمل الصدق): بمعنى أنه مطابق للواقع.




محتمل للصدق والكذب الخبر




وغيره الإنشا ولا ثالث قر




تطـابق الواقـع صدق الخبر






وكِذْبُه عدمـه فـي الأشهـر





هكذا قال السيوطي في (عقود الجمان).

إذًا تطابق الواقع هذا هو صدق الخبر، متى يكون الخبر صادقا؟

ننظر في الخبر؛ فإذا به قد طابق الواقع، "قدم زيد"، هذا خبر، يحتمل أنه صدق، ويحتمل أنه كذب، إذا بالفعل وقع أن زيدا قدم؛ نقول: الخبر صادق؛ لأن له مدلولا حسيا في الخارج أُدرِك، "قدم زيد"، فترى زيدا إذا به قادم، نقول: هذا الخبر صادق؛ لأنه طابق الواقع، "قدم زيد"، فإذا بك تبحث لم يقدم زيد، إذًا لم يطابق الواقع؛ تقول: هذا كذب.

لكن لا بد من التقييد لذاته؛ لأن الخبر قد يُقطع بصدقه، وقد يُقطع بكذبه، وقد يستوي الأمران، وهو الذي ذكره المصنف.

قد يُقطع بصدقه؛ حينئذ نقول: خرج عن حد الخبر، ما احتمل الصدق والكذب، هذا هو الخبر، إذا لم نقل: "لذاته"، فأخبار الله -عز وجل- لا تحتمل، بل هي مقطوع بصدقها، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا} [النساء122].

خبر مُدعي النبوة أو الرسالة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- مقطوع بكذبه، هل نقول: هو خبر يحتمل الصدق والكذب؟ لا، إذًا لا بد أن نقول: "لذاته"؛ لذات الخبر دون النظر إلى قائله، ودون النظر إلى أمر خارج يُفسِّر الخبرَ نقول: يحتمل الصدق والكذب.

حينئذ نقول: الأخبار ثلاثة:

** ما قُطع بصدقه؛ كخبر الرب -جل وعلا-.

** ما قُطع بكذبه؛ كخبر مدعي الرسالة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-.

** ما جاز فيه الوجهان، وهو ما نُظر إليه لذاته.

ولذلك نقول: هذا مما يُبيَّن أن دعوى المجاز بأنه: ما صح نفيه، وما صح نفيه لا يجوز في القرآن.

نقول: القرآن فيه أخبار وإنشاءات بالإجماع، والخبر: ما احتمل الصدق والكذب لذاته بالإجماع، والقرآن مشتمل على الأخبار، فحينئذ اشتمل القرآن على ما يصح نفيه، لكن لذاته، لا بالنظر إلى غيره، فإذا جاز الخبر –وهو ما يصح تكذيبه- فلا مانع أن يقال: في القرآن مجاز مع صحة نفيه، لكن لذاته.

أما ما يُقال بأن المجاز يصح نفيه، وما يصح نفيه لا يجوز وقوعه في القرآن فهو ضعيف؛ يعني من أراد أن ينفي فبغير هذا الدليل؛ لأنه سيرد عليه الخبر، وهو يحتمل التكذيب، والتكذيب أشد من النفي.

هل في القرآن أخبار أو لا؟

نقول: نعم.

إذًا في القرآن ما يصح تكذيبه، ما الجواب؟

نقول: ما صح تكذيبه لذاته، وكذلك النظر للحقيقة والمجاز، النفي يعتبر للحقيقة؛ إذا قيل: كــ{جناح الذل} هذا يصح نفيه أو لا؟

الذي يصح نفيه هو المعنى الحقيقي، وليس هو ظاهر القرآن، {جناح الذل}، نقول: الأصل في الجناح أنه جناح حسي للطائر، والذل أمر معنوي، والمعنى لا يطير، ليس له جناح، نقول: نعم، إذا أُريد الجناح بأنه الحقيقة نُفي، إذًا نُفي المجاز هنا لا لذات المجاز، ولكن لكونه مستعملا في حقيقته، فإذًا فرق بين أن يُنفَى المجاز وأن يُنفى المعنى الحقيقي الذي نُقل عنه المجاز، والذي هو القرآن كـ{جناح الذل}، المعنى المجازي لا المعنى الحقيقي، والنفي سُلط على المعنى الحقيقي، وليس هو المراد.

كذلك نقول: الخبر مثله، فمن ينفي هناك ينفي هنا، وإلا لا يتناقض، وأنا أشد ما أنكر على طلاب العلم أن يتناقضوا، إما أن يكون مطردا؛ قواعد وأصول، وإما أن يسكت، أما أن يأتي في مواضع فيثبت أشياء، ثم يأتي في مواضع أخرى فينفي ما أثبته سابقا، هذا ليس مسلك طلاب العلم، هذا غالبا تجده عند الذين يتناقلون ولا يؤصلون أنفسهم، وخاصة في مجال الفقه، من درس الفقه بما يسمى بالفقه المقارن ابتداء، هذا غالبا يتناقض من حيث لا يشعر، يفتح مثلا (المجموع شرح المهذب) أو (المغني)، قال أبو حنيفة، قال مالك، روايتان عن أبي حنيفة، خمس روايات عن أحمد، ثم حسب ما يرى يقول: الراجح كذا؛ لأن دليله أقوى، ثم يأتي بمسألة أخرى، فإذا به يُرجّح مذهب أبي حنيفة؛ لأن دليله أقوى، أبو حنيفة ما يتكلم هكذا، كلامه مبني على أصول، هناك أصول وقواعد يسير عليها، ولذلك أضبط من يضبط الفقه على أصوله هم الأحناف، ولذلك سُميت بطريقة الفقهاء، طلبة العلم في السابق ما كان عندهم هذا الخلط، الآن تجده يُرجح في مسألةٍ مذهب أبي حنيفة، ويأتي في مسائل أخرى يُرجح بناء على أصلٍ ينفيه أبو حنيفة هناك؛ يعني يثبت مسألة مبنية على أصل، ثم يَنفي مسألة في موضع آخر مبنية على ذات الأصل، نقول: مرجع الفقه إلى أصوله، ولذلك ما يضبط ظاهرا وباطنا إلا من أخذ الفروع والأصول في مذهب واحد واطرد.

إذًا نقول: إذا وصلت إلينا السنة النبوية بطريق يوصلنا عن المباشر؛ فلا نقطع بصدق ذلك الخبر، بل تتفاوت القطعية وعدمها بالنظر إلى نفس الطريق الموصل إلى من باشر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه خبر، والخبر من حيث هو يحتمل الصدق والكذب لذاته، فحينئذ لا بد من نظرٍ في الرواة ونحوه.

(ولا سبيل إلى القطع بصدقه): يعني بصدق المخبر لعدم المباشرة؛ لأن من رأى أو سمع بنفسه فهو قاطع بنسبة القول للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن رأى الفعل فهو قاطع جازم بأن هذا الفعل فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن إذا وصلوا بواسطة عشرة هل يقطع؟

نقول: فيه تفصيل: يتفاوت بتفاوت السلسلة التي تكون بينه وبين المباشر.

إذًا بيَن لك أن السنة من حيث بلوغها إلى الناس لها طريقان:

الطريق الأول: بالمباشرة، وهذا تجعله بين قوسين خاصا بالصحابة -رضي الله عنهم-، وهذا حجة قاطعة في حقه، لا يجوز خلافها إلا بدعوى نسخ، أو دفع تعارض بين دليلين، ونحو ذلك.

الطريق الثاني: أن يكون بطريق موصل إلى المباشر؛ يعني ألا يكون مباشرة، وإنما يكون بواسطة، هذه الواسطة لا يمكن أن نقطع بصدقها؛ لأن المنقول خبر، وكل خبر يحتمل الصدق والكذب لذاته، إذًا ما هي أنواع الطرق الموصلة إل ذلك الخبر؟ قال:

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-20, 11:33 PM
تقسيم الخبر باعتبار وصوله إلينا:

(1) المتواتر:

[المتن]:

[والخبر ينقسم إلى: تواتر ، وآحاد(1)].

[الشرح]:

(1) (والخبر ينقسم إلى: تواتر ، وآحاد):

(والخبر): الذي يحتمل الصدق والكذب لذاته.

(ينقسم إلى متواتر وآحاد): وهذا مجرد اصطلاح، وإنما يُنظر ويناقش في الاصطلاح من حيث ما يترتب عليه من الأحكام، وكل اصطلاح يُنظَر فيه بحد ذاته، بقطع النظر عمن أنشأ ذلك الاصطلاح، أو عمن أتى به، فلا داعي أن نقول: التواتر والآحاد قال به المعتزلة، ثم نقول: كل ما قالت به المعتزلة فهو باطل، بل نقول: التواتر والآحاد من حيث وجودهما لا شك في وجودهما، لكن لا يُشترط أن يقيّد بما قيده به المعتزلة ونحوه، ولذلك من ينسب لابن القيم -رحمه الله تعالى– أنه أنكر وجود التواتر فقد أخطأ، ابن القيم -رحمه الله تعالى– أنكر ترتيب الحكم المرتّب على التواتر والآحاد؛ يعني من يقول: التواتر: أفاد القطع، والآحاد: يفيد الظن، إذًا قسموا السنة إلى متواتر وآحاد، ثم المتواتر يفيد اليقين، والآحاد لا يفيد اليقين، بل يفيد الظن، هذا الحكم دخيل، وهو الذي حُكم بكونه بدعة، وجاء به المعتزلة بناء على أن أكثر أحاديث الصفات والرؤيا والمعاد .. إلخ آحاد، ونفوا أن تنسب تلك الأحاديث للنبي -صلى الله عليه وسلم- بناء على أنها تفيد الظن، والاعتقاد يقولون: لا يُثبَت إلا بقاطع.

نقول: هذا التفصيل مُحدَث، والقول بأن أحاديث الآحاد أو خبر الواحد لا يفيد إلا الظن هذا أيضا قول محدث، والقول بأنه لا يُقبل في العقائد هذا قول محدث، لكن وجود نفس التواتر ونفس الآحاد، والآحاد أنه ما لم يبلغ حد التواتر هذا موجود، البخاري -رحمه الله تعالى- في جزء القراءة حكم على حديث «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» بأنه متواتر، قال: تواتر، هكذا أطلق اللفظ تواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والبخاري لم يتأثر بالمعتزلة، وإنما مفهوم التواتر حينئذ يُقيّد أو يُنظَر فيه، أما إنكار وجود المتواتر عند أهل الحديث نقول: هذا ليس بصحيح، وابن تيمية -رحمه الله تعالى– أنكر كثيرا من المسائل الدخيلة على الدين وخاصة ما ينسب لأهل الحديث ولم يتعرض لهذا؛ بل يقول: "هذا متواتر تواترا معنويا"، "وقد تواترت فضائل أبي بكر -رضي الله عنه- تواترا معنويا"، ويقسم التواتر إلى لفظي ومعنوي، ويثبت إفادة الحكم أو اليقين على التواتر، ويناقش في مسائل الآحاد، ولم يرد عنه -رحمه الله تعالى- أنه أنكر وجود المتواتر والآحاد.

إذًا قوله: (والخبر ينقسم إلى متواتر وآحاد): لا إشكال فيه، وهذا مجرد اصطلاح، ونقول: العبرة بما اصطلح عليه أهل الحديث وأطلقوه في مصنفاتهم.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-20, 11:36 PM
تابع تقسيم الخبر باعتبار وصوله إلينا:

(1) المتواتر:

[المتن]:

[فالتواتر: إخبار جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب(1)].

[الشرح]:

(1) (فالتواتر: إخبار جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب):

أراد أن يبين لنا التواتر في الاصطلاح، وهذه المسائل -الكلام في الأخبار، والتواتر، والمراسيل، والصحابة، ونحوهم- الأصل أنها تؤخذ من أهل الحديث، وإنما تذكر هنا لأن أهل الأصول يريدون أن يجمعوا كل ما يتعلق بأصول الفقه؛ لذلك يأتون بمباحث من السنة، ومباحث من اللغة، ومباحث من المنطق إلخ، يريدون أن يكون الكتاب جامعا، أن يغنوا طالب العلم النظر في تلك الكتب؛ يعني ما يحتاجه الأصولي من السنة هو الذي يذكره لك الآن، وما يحتاجه من اللغة هو الذي يذكره، لكن نقول: لا، هذه المقتطفات التي تكون في أصول الفقه لا تسمن ولا تغني من جوع، لا بد أن يكون الطالب راجعا إلى مظانها في فنونها، أما أن تأخذ أصول الفقه بآراء الجويني والغزالي ونحوهما ممن تأثر بعلم الكلام وهكذا فليس بصواب.

(فالتواتر): المراد به في اللغة: التتابع، والتتابع: مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما، لا بد أن يكون بينهما فترة، فإن لم يكن لا يطلق عليه أنه متواتر، {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا}[المؤمنون44]؛ أي رسولا بعد رسول بفترة بينهما، ولا يفهم {تترا} أنهم متتالون، لا، إنما مجيء رسول بعد رسول بفترة بينهما.

(فالتواتر إخبار جماعة): إذًا إخبار؛ لأنه خبر، متواترٌ خبر.

(إخبار جماعة): ليس واحدا، ولا اثنين، بل ثلاثة فأكثر، لا بد أن يكونوا جماعة. وهذه الجماعة تكون متفرقة.

(لا يمكن): يعني يستحيل.

(تواطؤهم): مأخوذ من التواطؤ؛ يعني توافقهم، "أرى رؤياكم قد تواطأت"؛ يعني توافقت. فـ (تواطؤهم): بمعنى توافقهم.

(على الكذب): الاستحالة المنفية هنا أن تكون عادة لا عقلا؛ لأن العقل لا يمنع أن يجتمع عدد يفيد التواتر -كالعشرين مثلا- فيتفقوا على خبر معين فيظنه الظان أنه متواتر، أما العادة -في القديم- أن يروي شخص في المغرب، وشخص آخر في المشرق، وشخص آخر في أوروبا، ونحوها، يُروى خبر واحد، العادة تمنع أن يتفقوا فيما بينهم، هذا يستحيل.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-20, 11:49 PM
تابع المتواتر:

شروط المتواتر:

[المتن]:

[وشروطه ثلاثة: إسناده إلى محسوس، كـ سمعت أو رأيتـ، لا إلى اعتقاد(1)، واستواء الطرفين والواسطة في شرطه(2)، والعدد، فقيل: أقله اثنان، وقيل: أربعة، وقيل: خمسة، وقيل: عشرون، وقيل: سبعون، وقيل غير ذلك(3). والصحيح: لا ينحصر في عدد، بل متى أخبروا واحدا بعد واحد حتى يخرجوا بالكثرة إلى حدّ لا يمكن تواطؤهم على الكذب حصل القطع بقولهم، وكذلك يحصل بدون عدالة الرواة وإسلامهم؛ لِقطعنا بوجود مصر(4)].

[الشرح]:

(1) (وشروطه ثلاثة: إسناده إلى محسوس؛ كـ سمعت أو رأيت ، لا إلى اعتقاد):

يعني متى يعتبر هذا المعنى؛ بأنه متواتر اصطلاحا وإن كان في المعنى أنه متواتر في اللغة؟

(وشروطه ثلاثة): يعني المتفق عليها في الجملة.

الشرط الأول: (إسناده إلى محسوس؛ كـ سمعت، أو رأيت، لا إلى اعتقاد): يعني أن يكون منتهى الخبر أمرا محسوسا، لا إلى الاعتقاد والعلم؛ لأن الأمر المحسوس هو الذي يمكن أن يُتَفق عليه، نرى الشمس طالعة فنخبر أن الشمس طالعة، هذا لا يمكن أن يقع فيه خطأ، والأمر المعتقد أو المعلوم يمكن أن يقع فيه الخلل والوهم والخطأ، ويمكن أن تتفاوت فيه الأشخاص.

(إسناده): يعني إخباره.

(إلى شيء محسوس): يُدرَك بإحدى الحواس.

(كـ سمعت، أو رأيت، لا إلى اعتقاد): يعني فإن كان إخبارهم عن علم واعتقاد لا يكون متواترا؛ لأن المتواتر يفيد العلم اليقيني الضروري، فحينئذ لا بد أن يكون المنتهى مما يتفق عليه، لا مما قد يتواطأ بعضهم في وضعه.

(2) (واستواء الطرفين والواسطة في شرطه):

هذا هو الشرط الثاني، في الأول قال: (إخبار جماعة)، والسند معروف أن له أول، وله أثناء، وله آخر، إخبار الجماعة هل هو مشترط في أول السند، ثم يُتساهل فيه؟ أو في آخر السند؟ أو في الأثناء؟ قال:

(واستواء الطرفين): يعني أن تكون الجماعة مستوية في أول السند، وفي آخره، وفي أثنائه؛ بحيث إنه -كما قيّده ابن حجر في شرح النخبة- لا يقل عن العدد الذي اشترط في حد التواتر، وليس المراد ألا يزيد، لا، ألا يقل، فإذا قيل مثلا: يشترط إخبار عشرة، أقل ما يفيد من العدد: عشرة، نقول: لا بد أن يكون الراوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة؛ لأن طبقة الصحابة داخلة، آخر الإسناد عند الصحابي -رضي الله عنهم- لا بد أن يكون عشرة رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله، أو عشرة سمعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول، ثم يأخذ عشرة عنهم، ثم عشرة، ثم عشرة إلى البخاري، لو نقص عند من يشترط العشرة -صار تسعة في إحدى الطبقات- انتفى كونه متواترا.

نقول: وهذا لا يكاد أن يكون له وجود، لكن أهل الكلام يثبتون هذه الشروط، لذلك النزاع يكون في الشروط، لا في ثبوت أصل التواتر.

(والواسطة): يعني ما بينهما.

(في شرطه): شرطه هذا مفرد مضاف فيعم كل شرط، وبعضهم قيّده بالعدد في الأخير، لكن الصواب أن المراد عندهم المراد به استواء الطرفين والواسطة في جميع الشروط؛ يعني بلوغ الرواة في الكثرة إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب، وأن يكون إخبارهم عن علم لا عن ظن، وأن يكون علمهم مستندا إلى الحس لا إلى الدليل العقلي.

(3) (والعدد، فقيل: أقله اثنان، وقيل: أربعة، وقيل: خمسة، وقيل: عشرون، وقيل: سبعون، وقيل غير ذلك):

هذا هو الشرط الثالث؛ يعني العدد الكثير؛ لأنه قال: (إخبار جماعة): إذًا لا بد أن يكون جماعة، وأقل الجمع ثلاثة، ثم اختلفوا هل يُعَين عدد معين أو لا؟ هل نقول: لا بد من عدد معين إن وُجد أفاد التواتر أو لا؟

فيه خلاف، أكثر الأصوليين وبعض متأخري المحدثين على التقييد، لا بد أن يكون عدد معين، ثم اختلفوا في التحديد، هنا قال:
(فقيل: أقله اثنان): لأن أقل الشهود اثنان، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم}[الطلاق2]، حملت الرواية على الشهادة.

(وقيل: أربعة): أقل ما يكون في السند أربعة رواة؛ باعتبار أعلى الشهادات؛ كما في القذف ونحوه.

(وقيل: خمسة): ليزيد على الشهادة بواحد.

(وقيل: عشرون): استنادا إلى قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون}[الأنفال65].

(وقيل: سبعون): {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا}[الأعراف155].

(وقيل غير ذلك): من الأعداد، قيل: عشرة، وقيل: اثنا عشر، وقيل: أربعون .. إلخ، وكلها أقوال ضعيفة، وقد ذكر السيوطي هذا في ألفيته:



وما رواه عدد جم يجب




إحالة اجتماعهم على الكذب




فالمتواتر، وقوم حددوا




بعشرة، وهو لدي أجود




عند السيوطي الأجود أن يُحد بعشرة.



والقول باثني عشر أو عشرينا




يحكى وأربعين أو سبعينا




إذًا قيل أقوال كثيرة، كلٌ نظر إلى دليلٍ من الشرع رُتِّب على عدد معين؛ قد يكون ثم مناسبة مختصة بتلك الواقعة، أو ثم أنه وُجد العلم اليقيني على ذلك العدد في تلك الواقعة المعينة فعمم الحكم على جميع الأخبار.

وهذا فيه قصور؛ لأنه إن أفاد في موضع لا يلزم أن يفيد في موضع آخر، قد يفيد العدد أربعة التواتر، لكن لا يلزم أنه كلما وُجد الأربعة وُجد التواتر، لا، إنما التواتر ما أفاد العلم اليقيني، ولذلك يقال فيه من ضابط الشروط الثلاثة كلها: الأصل عدم اعتبارها، وهذا الذي يُنتَقد على أهل الكلام والأصوليين؛ أن يقال: الشروط هذه لا وجود لها، وخاصة في مسألة العدد؛ لأنهم يشترطون الكثرة حتى في طبقة الصحابة، وهذا قلّ أن تجده، ولذلك أنكره بعضهم.




وبعضهم قد ادعى فيه العدم




وَبَعْضُهُمْ عِزَّتَهُ، وَهْوَ وَهَم




بل الصواب أنه كثير




وفيه لي مؤلف نضير




خمس وسبعون رووا "مَنْ كَذَبا"




ومنهم العشرة ثم انتسبا




وكلها متواتر معنوي، وليس لفظيا؛ لأنهم يقسمون التواتر إلى تواتر لفظي ومعنوي.

اللفظي: أن يكون منقولا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلفظه، وهذا إن صحّ التمثيل له حديث: «من كذب علي متعمدا» فقط، وما عداه؛ يعني دعوى التواتر اللفظي عزيزة، بل أنكره ابن الصلاح، قال: إن جُوِّز فيكون في حديث «من كذب علي ..»، والسيوطي وغيره ردوا على ابن الصلاح، وابن حجر وهّمَه، قال: "علة ذلك عدم اطلاعه على الطرق"، هذا في أول النزهة.

لكن الصواب ما قاله ابن الصلاح، وكل ما قيل إنه متواتر، وما ذكر السيوطي وغيره؛ فهو متواتر معنوي، وواضح أن التواتر المعنوي ليس باللفظي؛ أن تُحكى وقائع متعددة بينها قاسم مشترك كلي، نقول: هذا المعنى متواتر؛ كـ "جود حاتم"، رأوا أنه ذبح وأطعم، تصدق بفرس، أعطى .. إلخ، هذه وقائع كلها تفيد أنه جواد، لكن هل تواتر مثلا إعطاؤه فرس ونحو ذلك؟ لم يتواتر عين الواقعة، وإنما تواتر المعنى الكلي الذي يمكن أن يُستقى منه؛ فيُحَكم بأنه قطعي الثبوت، هذا ما يسمى بالتواتر المعنوي.



بل الصواب أنه كثير




وفيه لي مؤلف نضير




خمس وسبعون رووا "من كذبا"




ومنهم العشرة ثم انتسبا




لها حديث "الرفع لليدين"




"والحوض" "والمسح على الخفين"




وهذه كلها متواترة، نعم لا شك أنها متواترة وثابتة، وأحاديث الرؤية، وأحاديث القبر، كلها متواترة؛ لكن ليس بالتواتر الذي يخصه الأصوليون، وإنما التواتر الذي يعبر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- التواتر الخاص، ويعبِّرُ عن هذا الذي يذكره الأصوليون بالتواتر العام، التواتر الخاص أعلم به أهله، ولذلك إذا تواتر عند أهل الحديث لزم قبول ما حكم عليه أهل الحديث لغيرهم؛ كالأصولي والفقيه وغيرهم، إذا حكم المحدث الشهير الكبير والإمام بأن هذا الحديث متواتر -كما نص البخاري في جزء القراءة خلف الإمام بأن حديث «لا صلاة ..» بأنه متواتر- فحينئذ نقول: هذا إمام معتبر حكم بأن هذا الحديث متواتر فنقبل.
حينئذ ما أفاد العلم اليقيني العلم الضروري فهو متواتر.

(4) (والصحيح: لا ينحصر في عدد، بل متى أخبروا واحدا بعد واحد حتى يخرجوا بالكثرة إلى حدّ لا يمكن تواطؤهم على الكذب حصل القطع بقولهم، وكذلك يحصل بدون عدالة الرواة وإسلامهم؛ لِقطعنا بوجود مصر):

(والصحيح): على ما ذكره المصنف هنا، وهو أصح.

(لا ينحصر في عدد): يعني لا ينحصر التواتر -في نقله، أو في كونه إخبار جماعة- في عدد معين.

(بل متى أخبروا واحدا بعد واحد حتى يخرجوا بالكثرة إلى حد لا يمكن تواطؤهم على الكذب حصل القطع بقولهم): متى ما حصل التتابع حصل التواتر، بل قد يحصل التواتر وإفادة العلم اليقيني الضروري باثنين أو ثلاثة أو أربعة؛ ولذلك لو أخبر أبو بكر -رضي الله عنه- بعض التابعين هل يفيد هذا التابعي العلم اليقيني أو لا؟

يفيده بلا شك، إذًا حصل العلم اليقيني بخبر واحد؛ لما احتفّ به من صفاتٍ تميزه عن غيره، وهذا الذي يعبّر عنه شيخ الإسلام بالتواتر الخاص؛ يعني أفاد العلم اليقيني، والذي يحكم عليه هو المحدث؛ لأنهم يسمعون ما لا يسمع غيرهم، ويروون ما لا يروي غيرهم، فهم أعلم وأعرف بصنعتهم من غيرهم.

(بل متى أخبروا): يعني أخبروا بحدث.

(واحدا بعد واحد حتى يخرجوا بالكثرة إلى حد): ولا يشترط بالكثرة الكاثرة، قد يُفهم من كلام المصنف الكثرة؛ يعني لا بد من عشرة أو عشرين إلخ، لا، قد يحصل باثنين أو ثلاثة أو أربعة، ولا مانع من هذا.

(إلى حد لا يمكن عادة تواطؤهم على الكذب حصل القطع بقولهم): دون أن يكونوا محصورين في عدد معين.

(وكذلك يحصل بدون عدالة الرواة وإسلامهم): إذًا نأخذ من هذا أن التواتر ما رواه عدد جمٌّ يجب إحالة اجتماعهم على الكذب، ثم كل ما أفاد العلم اليقيني -مع هذا الضابط- فهو متواتر، عدد إذا نظر الناظر فيه لا يمكن أن يتفقوا على كذب معين، أو زيادة في خبر، أو نقص في خبر؛ نقول: حصل التواتر بما يذكره المصنف، ونشطب على ما ذكره من الشروط.

(وكذلك يحصل بدون عدالة الرواة وإسلامهم لقطعنا بوجود مصر): إخبار جماعة مسلمة أو كافرة، فساق أو عدول، عام، يحصل التواتر والعلم اليقيني ولو كان المخبرون كفارا أو مسلمين، أو كانوا كفارا ومسلمين، أو كانوا مسلمين عدولا أو فساقا مطلقا، ولكن هذا يقيد بمطلق الخبر، لا بالخبر في الشرعيات؛ لأن كلام الأصوليين عام، يتكلمون في الخبر العام، سواء كان عن زيد أو عن الشرع، فإذا كان الشرع لا بد من العدالة والإسلام، لا بد من التقييد؛ لذلك مثّل بوجود مصر؛ لأن وجود مصر ليس بحكم شرعي، ليس بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا فعله.

(لقطعنا): مثّل بقطعنا، وهذا حكم قطعي؛ يعني علم يقيني لا يحتمل الشك أبدا بوجود مصر؛ يعني أي بلد، وليس خاصا بمصر، وإن كان مصر قد يُستفاد من الشرع {ادْخُلُواْ مِصْرَ}[يوسف99]، هذا جاء في الشرع ذكره؛ يعني التمثيل بمصر قد يكون فيه نوع نظر، لكن أي بلد الإنسان لم يرها حينئذ نقول: العلم بها شهير بين الخاصة والعامة، بلد اسمها فرنسا مثلا، هل أحد يشك في هذا؟ ما ذهبنا ولا رأيناها، لا مباشرة ولا بدون مباشرة، فحينئذ نقول: هذا علم قطعي؛ لأنه تواتر عند الناس، الإنسان منذ الصغر يسمع فرنسا، فرنسا، حينئذ يحكم بوجود هذا البلد -ولم يره ولم يشاهده-؛ لما هو منتشر، وهو إخبار جماعة، ولا يشترط أن يكون المخبر مسلما ولا غيره، أما في الشرعيات فلا.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-20, 11:54 PM
تابع المتواتر:

ما يفيده الحديث المتواتر:

[المتن]:

[ويحصل العلم به، ويجب تصديقه بمجرده، وغيره بدليل خارجي(1)].

[الشرح]:

(1) (ويحصل العلم به، ويجب تصديقه بمجرده، وغيره بدليل خارجي):

(ويحصل العلم به): أي أن المتواتر يفيد العلم اليقيني؛ يعني إذا وُجدت تلك الشروط الثلاث مع الضابط العام حصل العلم به؛ يعني أفاد العلم، والعلم المراد به العلم اليقيني الضروري، وسيأتي خلاف هل المراد به الضروري أو النظري؟

نقول: الصواب: أنه الضروري -وهو قول جمهور أهل الحديث-؛ أن المتواتر يفيد العلم اليقيني، وهو القطع بصحة نسبة الخبر إلى من نقل عنه، هذا المراد في الخبر هنا، ليس المراد بالمدلول فحسب، لا في النسبة، هل هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أو لا؟

البحث في هذا، ثم مدلوله وما يستفاد منه، هذا قد يكون من جهة الدلالة قطعي الثبوت قطعي الدلالة؛ لأنه يقسّم النص إلى أربعة أقسام:

** قطعي الثبوت من جهة السند -وهو المراد هنا-؛ يعني طريقه في الثبوت إلينا في الحكم بكون هذا النص قرآنا حقيقة، أو خبرا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو فعلا، أو تقريرا .. إلخ، نقول: قد يكون طريقه قطعي الثبوت، والقرآن قطعي الثبوت ولا إشكال، يبقى الكلام في السنة.

وقد يكون ظني الثبوت، وهذا كما في القراءة الشاذة ونحوها، ظني الثبوت فيما زاد عن القراءات العشر، وكذلك في السنة يكون ظني الثبوت؛ يعني لا نقطع بكون هذا القول للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذلك من أثبت أن خبر الآحاد يفيد الظن تنبني عليه هذه المسألة؛ أنه لا يلزم أن هذا القول قد قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذه مشكلة.

(ويجب تصديقه): لأنه مفيد للعلم، وكل ما أفاد العلم لا يجوز تركه؛ كما كان في حق الصحابي، قال: (فقاطع به): الصحابي قاطع به؛ لأنه سمع مباشرة، وهنا يُنزل في الحكم منزلة المباشر، إذا كان المباشر قد قطع بكون هذا القول قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، كذلك إذا وصل إليه بطرق تفيد العلم اليقيني يقطع، ولا يجوز له أن يُجوّز أن كون هذا القول ليس للنبي -صلى الله عليه وسلم-، هذا المراد بقوله: (ويجب تصديقه) أي المتواتر.

(بمجرده): يعني بالنظر إلى ذاته دون نظر في عدالة، دون نظر في ضبط، دون نظر في دليل آخر، بمجرد الخبر، إخبار جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب مع الشروط، بمجرد ثبوت هذا الطريق أفاد العلم وجب التصديق لذاته؛ لا لأمر خارج؛ لأنه قد يفيد الشيء العلم اليقيني، لكن بقرينة خارجة، وليس الكلام في هذا، الكلام فيما يفيد من الأخبار القين بذاته دون النظر إلى عدالة أو ضبط، ولهذا لا يبحثون في المتواتر في العدالة، ولا يبحثون في الضبط، بل لا يبحثون في الإسلام أيضا.

(وغيره): أي غير المتواتر يحصل القطع به، ويجب تصديقه، لكن بدليل خارج؛ كأن يكون الحديث في البخاري ومسلم، أو أن تكون الأمة أجمعت على قبول الحديث، أو أن تكون الأمة أجمعت على العمل بمدلول هذا الحديث ولو كان في سنده بعض الشيء، حينئذ يُقطَع به، لكن لدليل خارج، لا لذات الخبر.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-20, 11:58 PM
تابع المتواتر:

نوع العلم الحاصل بالمتواتر:

[المتن]:

[والعلم الحاصل به ضروري عند القاضي، ونظري عند أبي الخطاب(1)].

[الشرح]:

(1) (والعلم الحاصل به ضروري عند القاضي، ونظري عند أبي الخطاب):

(والعلم الحاصل به): يعني المتواتر، إذًا أثبت أن المتواتر يفيد العلم، ثم هذا العلم نوعان: علم ضروري، وعلم نظري.

والضروري: ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال.

والنظري: ما احتاج إلى نظر واستدلال.

يعني إفادة العلم قد تحصل بالنظر والبحث وطلب الدليل، وقد تحصل هكذا دفعة بدون بحث ولا نظر ولا استدلال، الأول: يسمى النظري، والثاني: يسمى الضروري.




والنظريْ ما احتاج للتأمـــل




وعكسه هو الضروريُّ الجلي




والنظري ما احتاج للتأمل: إذًا يحتاج إلى بحث ونظر في الكتب والأسانيد إلخ، ثم يفيد العلم، وبعضه قد يفيد العلم دون نظر ودون استدلال، ما المراد بالعلم هنا الذي أفاده المتواتر؟ هل هو العلم الضروري -الذي يحصل بدون نظر واستدلال، وإنما يحصل دفعة واحدة- أو النظري؟

الجمهور على أنه الضروري لذلك قال المصنف:

(والعلم الحاصل به): يعني بالمتواتر.

(ضروري): وهو اليقيني، يُعَبر عنه باليقيني، وهو ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال.

(عند القاضي): أبي يعلى، وهو قول الجمهور.

(ونظري عند أبي الخطاب): نظري لأنه يحتاج إلى مقدمتين:

أولا: إثبات كثرة المخبرين، لا بد أن تثبت أن هذا الخبر أخبر به كثيرون لينطبق عليه حد التواتر.

الثاني: أن خبر هؤلاء يفيد اليقين.

فإذا أثبت كثرة المخبرين، ثم أثبت بالمقدمة الثانية أن خبرهم يفيد اليقين؛ حينئذ نحكم بأن هذا الخبر المعين -لا مطلقا- أفاد اليقين، فيكون مبنيا على مقدمتين.

لكن هذا مردود بأن العلم اليقيني حاصل في البديهيات وفي نحوها للصبيان والنساء والكبار والصغار إلخ، كل ما هو معلوم من أمور الدنيا بالضرورة يستوي فيه الصغير والكبير، مثلا وجود مصر هذا يعرفه الصغير، يعرف أن بلدا اسمها مصر ولم يرها، هذا حكم يقيني أو لا؟

يقيني.

هل حصل بمقدمتين؟

ما حصل بمقدمتين، وإنما حصل دفعة واحدة؛ ولذلك سمي ضروريا، قيل: من الضرورة لا يمكن دفعه، لو أراد الإنسان أن يدفع بعض المعلومات عن نفسه لا يمكن؛ مثل وجودك الآن في المسجد، لو أردت أن تقنع نفسك أنك لست في المسجد، ما تستطيع؛ لأنه علم ضروري يقيني، وهذا يسمى بالعلم الحُضوري عند المناطقة، العلم الحضوري: وهو الذي تعلمه بما أنت فيه من حال، اليوم السبت أو الأحد؟ هل يحتاج إلى دليل؟ ما يحتاج إلى بحث.

إذًا (والعلم الحاصل به ضروري عند القاضي، ونظري عند أبي الخطاب): كلاهما من الحنابلة، وما ذهب إليه القاضي أرجح.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-21, 12:01 AM
تابع المتواتر:

ما أفاد العلم في واقعة ولشخصٍ بدون قرينة أفاده في غيرها:

[المتن]:

[وما أفاد العلم في واقعة ولشخصٍ بدون قرينة أفاده في غيرها أو لشخص آخر(1)].

[الشرح]:

(1) (وما أفاد العلم في واقعة ولشخصٍ بدون قرينة أفاده في غيرها أو لشخص آخر):

يعني مراده أن العلم أو الخبر المتواتر إذا أفاد العلم اليقيني في واقعة معينة لشخص أفاد العلم اليقيني في واقعة أخرى كما أفاده في الأولى، والشخص الذي استفاد العلم اليقيني من واقعةٍ ما لو جاء آخر وأُخبر بنفس الخبر لاستفاد العلم اليقيني، إذًا لا يتفاوت؛ لأن النظر هنا إلى ذات المتواتر، فإذا قلنا: ذات المتواتر -بذاته، بمجرده، لا بدليل آخر، لا بقرائن تحتف به- أفاد العلم اليقيني؛ حينئذ إذا سمعه زيد وقرأه بكر هل يحصل العلم لهما؟

هذا هو محل الخلاف، هل يحصل العلم لهما؟

نقول: نعم؛ لأن الخبر المتواتر هنا أفاد العلم بذاته، وإذا كان بذاته؛ فكل قارئ، كل سامع يستفيد العلم اليقيني، ولا يتفاوت، لو قيل بالتفاوت للزم منه أن ثم أمرا خارجا عن مدلول المتواتر احتف به فأفاد العلم في حق زيد، ولم يفده في حق بكر، والمسألة مفروضة في متواتر لم تحتف به قرائن، ولذلك قال:

(وما أفاد): يعني خبر أفاد العلم في واقعة، ولشخص دون قرينة، دون قرينة هذا قيد لا بد منه؛ لأن القرينة يستلزم منها تفاوت المعلوم؛ لأن الشيء إذا احتف بقرينة، قد تؤمن أنت بدلالة؛ كقرينة، وقد لا تؤمن بها، أليس كذلك؟ إذا قيل مثلا: ما انفرد به البخاري مقدَّم على ما انفرد به مسلم، هل هذا مُسلَّم عند الكل؟

المغاربة يقدمون مسلما على البخاري، فحينئذ إذا احتفت قرينة بهذا الخبر لكونه مما رواه البخاري، هذا لا يستلزم أن يكون مطردا في حق كل أحد، قد يقول قائل: لا، أنا أقدم ما رواه مسلم على ما رواه البخاري، إذًا الخبر واحد، ولكن كون البخاري راويًا، هذه قرينة خارجة، قد يُسلِّم بها زيد، وقد لا يسلم بها عمرو، فحينئذ النظر يكون لذات الخبر، فما أفاد في واقعة ولشخص لا بد وأن يفيد في واقعة ولشخص آخر نفس الخبر، وليس ما استفيد منه، فلو لم يترتب ذلك العلم كان طعنا في المتواتر.

(وما أفاد العلم): أي أن العدد الحاصل بالعلم اليقيني لا يتفاوت بحسب الوقائع والأشخاص، ما أفاد العلم اليقيني بإخبار جماعة في عدد معين أو لا -على حسب ما ذكره المصنف- نقول: لا يتفاوت بحسب الوقائع والأشخاص، بل ما أفاده في واقعة ولشخص معين -كبكر- أفاده في غيرها، نفس العدد أفاده في غيرها، أو لشخص آخر، وعبارة صاحب المختصر (مختصر التحرير)، وفيها بعض الركة: "ومن حصل بخبره علم بواقعة لشخص معين حصل بمثله بغيرها لآخر"، "ومن حصل بخبره علم بواقعة لشخص معين"، واقعة معينة لشخص معين، قال: "حصل بمثله بغيرها لآخر"، لا بد أن يكون مطردا، وإلا كان نقضا للتواتر، وهذا إذا كان بدون قرينة، أما بالقرينة فلا؛ لأنها تختلف من شخص إلى شخص آخر، هذا ما يتعلق بالمتواتر.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-21, 12:03 AM
تابع تقسيم الخبر باعتبار وصوله إلينا:

(2) الآحاد:

[المتن]:

[والآحاد ما لم يتواتر(1)].

[الشرح]:

(1) (والآحاد ما لم يتواتر):

(والآحاد): أي القسم الثاني للخبر باعتبار وصوله، باعتبار الواسطة إلى من تبلغه السنة النبوية: الآحاد.

الآحاد في اللغة: جمع "أحد"، أصله "أأحَاد"، سكنت الهمزة الثانية، وقُلبت ألفا فصار "آحاد"؛ كـ "آدم" أصله "أأدم"، جمع أحدٍ؛ كـ "أجل"، و "آجال"، و "بطل"، و "أبطال"، أفعال، "آحاد"، و "أحد": فعل، إذا فَعَل يُجمع على أفعال، و "أحد" يُجمع على "آحاد"، و"آحاد": بمعنى واحد، الهمزة منقلبة عن واو، وهو لغة: ما يرويه الواحد.

أما في الاصطلاح: فقال:

(ما لم يتواتر): أي لم تبلغ نقلته مبلغ الخبر المتواتر، وعليه يكون التقسيم عندهم ثنائيا، فلا وجود للمستفيض، ولا للمشهور، فيكون المستفيض والمشهور داخلا في الآحاد، وأهل الحديث ما يوافقون على هذا.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-21, 12:14 AM
تابع الآحاد:

ما يفيده خبر الآحاد:

[المتن]:

[والعلم لا يحصل به في إحدى الروايتين، وهو قول الأكثرين ومتأخري أصحابنا، والأخرى: بلى، وهو قول جماعة من أصحاب الحديث، والظاهرية، وقد حُمل ذلك منهم على ما نقله الأئمة المتفق على عدالتهم، وتلقته الأمة بالقبول؛ لقوته بذلك؛ كخبر الصحابي(1)، فإن لم يكن قرينة أو عارضه خبر آخر فليس كذلك(2)].

[الشرح]:

(1) (والعلم لا يحصل به في إحدى الروايتين، وهو قول الأكثرين ومتأخري أصحابنا، والأخرى: بلى، وهو قول جماعة من أصحاب الحديث والظاهرية، وقد حُمل ذلك منهم على ما نقله الأئمة المتفق على عدالتهم، وتلقته الأمة بالقبول، لقوته بذلك، كخبر الصحابي):

(والعلم لا يحصل به): إذًا ما رواه شخص واحد -على ما نص المصنف-، أو شخصان، أو ثلاثة، أو أربعة، ولم يصل إلى حدٍ يفيد هذه الكثرة، أو هذا الجمع يفيد اليقين، ولم يكن منتهى خبره من حس، ولم يستو الطرفان؛ حكموا عليه بأنه آحاد؛ يعني المشهور داخل في الآحاد، والمستفيض داخل في الآحاد، ثم يختلفون هل يفيد الظن أو لا؟

(والعلم لا يحصل به): يعني لا يفيد الآحادُ اليقينَ، وإنما يفيد الظن، وما هو الظن؟ ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.




الـظـن تجـويـز امـرئ أمرين





مـرجـحـًا لأحــد الــأمرين





فالـراجحُ المذكور ظنًا يُسْمَى






والطرف المرجوحُ يُسْمَى وَهْمَا






إذًا المراد به هنا ترجيح صدق الراوي على كذبه في كون الخبر ثابتا للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو لا، فحينئذ إذا قيل: الآحاد -الذي هو لم يتواتر- لا يفيد العلم؛ حينئذ لا تقطع بكون هذا القول منسوبا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، أو كون هذا الفعل، أو هذا التقرير منسوبا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يترجح، فتقول: قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات»، هذا غير متواتر عندهم، هذا الراجح أنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أنه غير قوله؛ لوجود السلسلة، وكل منهم بشر يصيب ويخطئ، إذًا يحتمل الوهم، فلا نقطع بصدقه.

وهذا من الأمور الدخيلة، هذه بدعة؛ كون غير المتواتر لا يفيد العلم دون تفصيل، دون النظر إلى أحوال الرواة، دون قرائن .. إلخ، نقول: هذا من البدع، وهذا مما أحدثه المعتزلة.

أما التفصيل في شأن خبر الواحد؛ حينئذ لا إشكال، أو القول بأنه يفيد العلم مطلقا لا إشكال، أما أن يُقال: إنه لا يفيد العلم مطلقا، ولو كان مشهورا، ولو كان مستفيضا، ولو كان في البخاري ومسلم، لا يفيد إلا الظن، ولا يُقطع بنسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، هذه بدعة، وحدث في الدين، وهذا مما دخل به المعتزلة على أهل السنة، فنثبت الآحاد، ونناقش في الحكم، نثبت الآحاد؛ لأن الحس يدل عليه، أنت في أمور الدنيا قطعا لو أخبرك عشرة وكلهم من كبار أهل العلم، وشخص أخبرك بخبر واحد، هل يستوي العلم؟

لا تصدق الواحد كما تصدق العشرة، هذا أمر حسي وعقلي، وأمر شرعي أيضا ثابت؛ لذلك جاء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات6]، إذًا فرق بين الفاسق وبين العدل، فرّق {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}، {فتثبتوا}، مفهومه: إن جاءكم ثقة عدل بخبر فالأصل القبول.

فالصحيح أن نثبت الآحاد، ولا إشكال، ونثبت المتواتر، ولا إشكال، لكن لا نخص الخبر بأنه لا يفيد العلم اليقيني، ونقطع بكون هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا إذا كان متواترا، ثم نأتي بالمتواتر ونخنقه خنقا بشروط لا يكاد أنها تُوجد، ونأتي للآحاد ونقول: هذا لا يفيد إلا الظن؛ لأنه لا نقطع بأن هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل نُرجح صدق الراوي مع جواز كذبه ووهمه.

نقول: لا، هذا من المسائل الدخيلة، فحينئذ نفرق بين المصطلحات من حيث الاسم، ومن حيث الحكم، الحكم يُناقش فيه ولا إشكال، ومن حيث المصطلح الأمر فيه سعة.

(والعلم لا يحصل به في إحدى الروايتين): عن الإمام أحمد، وهذا ضعّفه ابن القيم، قال: لا تصح رواية أن الإمام أحمد قال: "خبر الآحاد لا يفيد إلا الظن، ولا يحصل به العلم".

(والعلم لا يحصل به): يعني اليقين والعلم الضروري أو النظري لا يحصل بخبر الآحاد في إحدى الروايتين، بل يفيد الظن؛ الذي هو رجحان صحة نسبته إلى من نُقل عنه.

(وهو قول الأكثرين): يعني قول جمهور العلماء، لكنهم المتأخرون، ليسوا المتقدمين، وغالبا هذه الأمور تأتي عند المتأخرين؛ أتباع المذاهب الأربعة، أما الأئمة: أبو حنيفة، والشافعي، ومالك، ومن قبلهم؛ هؤلاء في الغالب يَسلَمون من مثل هذه الأقوال.

(ومتأخري أصحابنا): يعني الحنابلة؛ وبعض الحنابلة يختار مسائل الإمام أحمد ينص على خلافها، وخاصة في أصول الفقه.

(والأخرى بلى): يعني يفيد العلم، خبر الآحاد يفيد العلم مطلقا، والمراد بخبر الآحاد يفيد العلم مطلقا هنا ليس مما وقع فيه نزاع، لا، هذا لا يكاد أن يقع فيه خلاف أنه يفيد الظن؛ يعني ما ضُعِّف، الذي يُسمى بالمُضعّف، ليس الضعيف، الضعيف: ما حُكم بكونه ضعيفا، والمُضعَّف: ما اختلف في تضعيفه وتصحيحه، هذا يفيد الظن لا يفيد القطع، أما الحديث الذي اتفق الأئمة على صحته، فهذا الرواية تُنزل عليه أنه يفيد العلم.

(وهو قول جماعة من أصحاب الحديث والظاهرية): بل المشهور عن أكثر المحدثين: أن خبر الواحد يفيد العلم؛ يعني القطع بكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قال هذا القول، أو فعله، أو أقرّه، والعبرة في مثل هذا أن نرجع إلى أهل الحديث؛ فإنهم أولى من يُؤخذ عنهم.

(وقد حُمِل ذلك منهم على ما نقله الأئمة): يعني حُرف القول السابق، قالوا: كيف يفيد العلم مطلقا؟ لماذا قلتم: إن خبر الواحد يفيد الظن مطلقا؟

قالوا: لو حصل بخبر الواحد العلم، كل خبر نسمعه لا بد أن يحصل العلم يكون مطردا معه، وهذا هل يشعر به الإنسان؟

لا يشعر به، قد تسمع خبرا فتشك فيه، وقد تسمع خبرا فتصدقه، وقد تسمع خبرا فيكون تصديقك له أعلى درجات التصديق، إذًا حصل الخلاف، فكيف نقول إذًا: خبر الواحد يفيد الظن أو يفيد العلم ونحن لا نشعر بهذا العلم أنه مطرد في كل خبر؟ فدل على أنه لا يفيد العلم.

كذلك قالوا: أعدل الرواة بشر، يجوز عليه الصدق والكذب، يجوز عليه الوهم، يجوز عليه الغلط، حينئذ ما جاز عليه الغلط فكيف يُحكَم بكونه يفيد العلم؟

نقول: المسألة شرعية، وهذه المسائل عقلية، ولا اجتهاد في مقابلة النص كما سيأتي.

إذا كونه يفيد العلم هذا القول الثاني في المسألة.

القول الثالث: التفصيل، إن احتف به قرائن توجب العلم أفاده، وإلا فلا، وهذا يختاره الكثير من المتأخرين؛ كابن حجر وغيره.

(وقد حُمل ذلك منهم على ما نقله الأئمة المتفق على عدالتهم، وتلقته الأمة بالقبول؛ لقوته بذلك، كخبر الصحابي): خبر الصحابي إذا أجمعت عليه الأمة صار حجة، كذلك خبر الصحابي إذا تكلم عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقره صار أعلى درجة، احتفت به قرينة، ليس كخبر الصحابي المجرد الذي لم تُجمع عليه الأمة، أو كخبر الصحابي الذي لم يقف عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسكت على ذلك القول؛ لأن الثاني يكون مقرًّا عليه مؤيدًا من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذًا كما اختلف خبر الصحابي قبل القرينة وبعد القرينة؛ قالوا: كذلك أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما احتفت به قرائن تفيد العلم أفاد العلم، وإلا أفاد الظن.

لكن المشهور عند أهل الحديث أنه يفيد العلم ما لم يحصل فيه نزاع أو خلاف، وابن حزم -رحمه الله تعالى- في كتاب (الإحكام) صال وجال في إثبات هذه المسألة، إذًا خبر الآحاد من حيث إفادة العلم فيه ثلاثة أقوال:

** يفيد الظن مطلقا.

** يفيد العلم مطلقا.

** يفيد العلم إذا احتفت به قرائن، وإلا أفاد الظن، وهذا بعضهم يجعله فيما رواه البخاري ومسلم، إذًا مما اختلف فيه أو مما احتفت به قرائن.



حد الصحيح مسند بوصله




بنقل عدل ضابط عن مثله




ولم يكن شذ ولا معللا




والحكم بالصحة والضعف على




ظاهره، لا القطع إلا ما حوى




كتاب مسلم أو الجُعفي سوى






ما انتقدوا فابن الصلاح رجحا




قطعًا به، وكم إمام جنحا






والنووي رجح في التقريب




ظنا به، والقطع ذو تصويب






يعني ما رواه البخاري ومسلم مما لم يُنتقدا فيه اختلف فيه هل يفيد القطع أو الظن؟

النووي رجح في التقريب ظنا به؛ يعني يفيد الظن مطلقا، كل ما رواه البخاري ومسلم ولو اتفقا عليه فهو يفيد الظن؛ يعني لا نجزم بأنه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والقطع ذو تصويب، هكذا رجح السيوطي مذهب ابن الصلاح أنه مقطوع به، فنجزم، لو قال إنسان: والله الذي لا إله غيره إن ما رواه البخاري ومسلم -اتفقا عليه- مما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- يحنث أو لا؟

نقول: لا يحنث.

(2) (فإن لم يكن قرينة أو عارضه خبر آخر فليس كذلك):

(فإن لم يكن قرينة): يعني دلت على صدق الخبر.

(أو عارضه خبر آخر فليس كذلك): فحينئذ حصل التعارض، وهذا لا إشكال فيه، القول بأنه يفيد الظن فيما حصل تعارض بينهما لا إشكال فيه، أما الحديث الصحيح السالم عن المعارضة أنه يفيد الظن هذا محل إشكال.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-21, 12:45 AM
تابع الآحاد:

التعبد بخبر الواحد عقلا:

[المتن]:

[وقد أنكر قوم جواز التعبد به عقلا؛ لاحتماله، وقال أبو الخطاب: يقتضيه، والأكثرون: لا يمتنع(1)].

[الشرح]:

(1) (وقد أنكر قوم جواز التعبد به عقلا؛ لاحتماله، وقال أبو الخطاب: يقتضيه، والأكثرون: لا يمتنع):

(وقد أنكر قوم جواز التعبد به عقلا): هل يجوز بالعقل أن يتعبدنا الرب بخبر واحد واثنين وثلاثة؟

محل نزاع عند المتكلمين

(وقد أنكر قوم جواز التعبد به عقلا): لماذا؟ قالوا:

(لاحتماله): أن يكون كذبا أو خطئا، والعمل بما احتمل أنه كذب أو خطأ عمل بشك وجهل، وهذا لا ينبغي عقلا للشارع -هكذا يقولون- أن يتعبد الخلق بخبر واحد أو اثنين.

وهذه عقول فاسدة، في مثل هذه المسائل نقول: عقول فاسدة ولا إشكال.

لا يجوز للشارع أن يتعبد الخلق بخبر واحد أو اثنين، لماذا؟

لأن خبر الواحد يحتمل الصدق والكذب، يحتمل أنه أخطأ، يحتمل أنه سها .. إلخ، فحينئذ إذا عُمِل بما أخبر به الواحد والاثنان ما لم يصل إلى حد التواتر يكون عملا بما هو مشكوك، وبما هو فيه جهل، وهذا لا ينبغي، فأنكروا عقلا.

وهذه مكابرة، هذه تسمى مكابرة؛ لأنهم لو وقفوا مع عقولهم لما منع العقل أن يتعبد بواحد، ومن هم الرسل إلا واحد.

(وقال أبو الخطاب: يقتضيه): عكس الأول؛ يعني يجب عقلا.

(يقتضيه): أي وجوب قبول خبر الواحد ثابت بالعقل، فإذا روى الواحد أو الاثنان -ولم يصلوا إلى حد التواتر- يجب عقلا قبول خبره.

وهذا أيضا مكابرة؛ لوجود الأمر السابق، وهو أنه قد يخطئ ويصيب، ما دامت المسألة عقلية فالعقل يُجوّز المستحيل.

(والأكثرون لا يمتنع): يجوز عقلا أن يتعبدنا الشارع، وقد لا يتعبدنا، الأمر بين الجواز، والعمل به جائز عقلا عند جماهير العلماء؛ لأنه لا يلزم منه مُحال، وليس احتمال الكذب والخطأ بمانع، هذه المسألة من جهة العقل.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-05-21, 12:47 AM
تابع الآحاد:

التعبد بخبر الواحد سمعا:

[المتن]:

[فأما سمعا فيجب عند الجمهور، وخالف أكثر القدرية، وإجماعُ الصحابة على قبوله يرد ذلك.(1)].

[الشرح]:

(1) (فأما سمعا فيجب عند الجمهور، وخالف أكثر القدرية، وإجماعُ الصحابة على قبوله يرد ذلك):

(فأما سمعا): الآن اختلفوا في جواز التعبد به عقلا، خبر الواحد من جهة العقل ومن جهة الشرع، هل أذن لنا الشرع بأن نعمل بخبر الواحد أو لا؟ قال:

(فأما سمعا): أي من جهة السمع والنقل عن الشرع.

(فيجب عند الجمهور): يعني يجب العمل به عند الجمهور.

والصواب أن نقول: فيجب العمل به إجماعا، ليس عند الجمهور، خبر الواحد مُجمَع عليه بين الصحابة، ولا يجوز أن نلتفت لأي خلاف حادث بعد الصحابة، وخاصة أن المخالفين قدرية ومعتزلة، إلى آخر ما يمكن أن يقال من أهل البدع ومن على شاكلتهم، بل نقول: إجماعًا، فيجب العمل بمدلول خبر الواحد مطلقا سواء كان في العقيدة أم في غيرها، في العلميات وفي العمليات بلا تفريق؛ لأن الأدلة التي أثبتت وجوب العمل به في العمليات عامة، ولم تفرق بين عقيدة وبين غيرها، فيجب العمل.

(وخالف أكثر القدرية): قالوا: لا يجوز العمل بخبر الواحد.

(وإجماع الصحابة على قبوله يرد ذلك): وهذا عجيب من المصنف، (فأما سمعا فيجب عند الجمهور): مراعاة لمخالفة القدرية، ثم يحكي إجماع الصحابة على وجوب العمل به، هل هذا صواب؟

نقول: ليس بصحيح، العلماء نحترمهم ونقدرهم ونجلهم، لكن الخطأ خطأ، نقول: هذا خطأ، فإذا أجمع الصحابة على شيء ما، على أمر ما، وخاصة إذا كان المخالف من شر أهل البدع، حينئذ لا يُجعَل المبتدع في مقابلة الصحابة، فإذا أجمعوا الحمد لله كُفينا، لماذا نقتفي أثر المبتدعة؟!

ولذلك جاء قوله جل وعلا: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُو اْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلِيهِم}[التوبة122]، هل النذارة تحصل بواحد؟

تحصل، والطائفة تطلق في اللغة على الواحد فصاعدا، إذًا رتب الرب -جل وعلا- وجوب النِّذارة والعمل بها على طائفة، والطائفة تصدق بالواحد وصاعدا.

حينئذ نقول: يجب العمل شرعا، وهذا لا خلاف فيه بين الصحابة؛ ولذلك جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح جاءهم آت فقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة"، في صلاة العشاء صلوا إلى القبلة، وهو أمر قطعي معلوم في تلك الساعة من الدين بالضرورة، جاءهم خبر واحد في صلاة الفجر فنقلوا القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، استداروا مباشرة، هذا يفيد العلم أو يفيد الظن؟

يفيد العلم قطعا.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 02:13 AM
شروط الراوي:

(1) الإسلام:

[المتن]:

[وشروط الراوي أربعة(1): الإسلام، فلا تقبل رواية كافر ولو ببدعة، إلا المتأول إذا لم يكن داعية في ظاهر كلامه(2)].

[الشرح]:

(1) (وشروط الراوي أربعة):

الراوي الذي ينقل لنا الخبر لا بد من وجود صفات، إن وُجدت في الراوي رجحنا اعتقاد صدقه على كذبه؛ لأنه -كما سبق- أن راوي حديث الآحاد يُبحث عن عدالته وضبطه؛ لأنه ليس كالمتواتر؛ لأنه لا يفيد العلم، لماذا لا يفيد العلم على حسب ما قرره المصنف؟

لأن الراوي يحتمل الصدق والكذب، إذًا لا بد من وضع قيود وشروط وضوابط من أجل أن يُعيَّن الراوي الذي تُقبَل روايته من عدمه، والبحث في الآحاد من حيث القبول والرد متوقف على معرفة الإسناد، والإسناد -كما هو معلوم- من موضوع علم الحديث.



عِلمُ الحديثِ ذُو قوانِينْ تُحَدْ




يُدْرَى بِها أَحْوَالْ مَتْنٍ وَسَنَـدْ




فَذَانِكَ الموضوعُ والمقصودُ




أَنْ يُعرَفَ المقبُولُ والمَـردُودُ




والـسنـدُ: اْلإِخْـبـارُ عنْ طَـرِيـقِ



مَتْن ......................




إذًا السند: هو الطريق الذي يحكي لنا المتن.

والمتن: هو ما انتهى إليه السند من الكلام.

إذًا عندنا سند ومتن، والسند والمتن هما موضوع علم الحديث، يُبحَث في السند من حيث القبول والرد؛ يعني متى ما توفرت الصفات المعتبرة في قبول رواية الراوي وُجد قبول الحديث، وإلا رُدت عليه.

(وشروط الراوي أربعة): يعني الشروط التي تعتبر في تحقق صفة القبول في الراوي أربعة باستقراء كلام أهل العلم:

(2) (الإسلام، فلا تقبل رواية كافر ولو ببدعة، إلا المتأول إذا لم يكن داعية في ظاهر كلامه):

الشرط الأول: (الإسلام): وهذا يقابل المتواتر هناك؛ لأنه قال: (لا يُعتَبر إسلامه)، إذًا الإسلام شرط في قبول خبر الآحاد، هذا مقصوده، إن وُجد الإسلام مع بقية الشروط ترتب عليه؛ لأننا نقول: هذا شرط، والشرط يلزم من عدمه العدم، لا يلزم من وجود إسلام الراوي أن نقبل، لا، وإنما كلما انتفى الإسلام انتفى القبول؛ لأنه شرط، والشرط يلزم من عدمه العدم، حينئذ يلزم من عدم الإسلام عدم قبول رواية الراوي.

والإسلام شرط للأداء لا للتحمل؛ لأن عندنا أداء، وعندنا تحمل، التحمل: هو السماع، أو كتابة الحديث، والأداء: هو إبلاغه للغير.

متى يُشترط الإسلام؟

يشترط في الأداء، لا في التحمل، فلو تحمل كافر، ثم أدى بعد إسلامه قُبِل منه، لماذا؟

هنا انتفى الإسلام وقت التحمل، لا وقت الأداء، والمعتبر عند أهل الحديث: أن يؤدي ويُبلغ الحديث مسلما، فإن حفظه أو سمعه أو كتبه وهو كافر، ثم أسلم فأداه؛ قُبِل منه، ولو أداه وهو كافر لم يُقبل منه.

إذًا الإسلام هنا شرط بالإجماع، وهو شرط للأداء، لا للتحمل؛ ولذلك جاء في صحيح البخاري عن جُبير بن مُطعم -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "قرأ في المغرب بالطور"، سمع هذا وهو كافر قبل إسلامه؛ لأنه كان أسيرًا من أسارى بدر، ثم أدّاه بعد إسلامه، ولذلك قال ابن حجر: هذا دليل على أن أهل الحديث إنما يشترطون الإسلام في الأداء، لا في التحمل.

وشرط الإسلام تتفرع عنه مسائل، قال:

(فلا تقبل): الفاء للتفريع.

(رواية كافر): الكافر لا تُقبل روايته، فإذا أخبرنا مُخبِرٌ وهو كافر -سواء كان يهوديا أو نصرانيا- لا نقبَل روايته؛ لأنه لا يُؤمَن عليه الكذب، هو عدو لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فحينئذ لا يُؤمن عليه أن يكذب وأن يفتري، إذًا أي خبر يصدر عن الكافر فالأصل فيه عدم القبول.

والمراد بالكفر هنا: الكفر الذي يخرج به الإنسان عن الملة؛ كاليهودية والنصرانية، أو الكفر الذي يكون لا بتأويل؛ لأن الكفر أقسام:

كفر متفق عليه؛ كاليهودية والنصرانية، فهذا لا يُقبَل خبره.

كذلك لو كفر ببدعة مكفّرة لا بتأويل -يعني لا باجتهاد، لا بنظر، لا ببحث- هذا أيضا لا تقبل روايته قولا واحدا.

ابن حجر -رحمه الله تعالى- ذكر في (شرح النخبة) أنه لو أطلق القول بعدم قبول رواية الكافر -وكثير من الطوائف يكفِّر بعضهم بعضا- لما جُعل ضابط للرد من حيث الكفر وعدمه، قال: إذًا لا بد من ضبطه بما إذا أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة، وما عداه لو وقع في بدعة مُكفِّرة؛ إذا انضم إليه: التقوى والورع والضبط والصدق قُبلت روايته.

أما من أتى ببدعة مُغلَّظة مُكفرة -كمن ادعى عليًا -رضي الله عنه- إلها مثلا- أجمع أهل العلم على كفر معتقده.

قال: (فلا تقبل رواية كافر ولو ببدعة): يعني ولو كان كفره بسبب بدعة، فحينئذ إذا قابل الكافر بالبدعة المكفرة يكون الكافر الأول في ظاهر كلامه الكافر الأصلي، فلو سمع يهودي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم أخبر، لا نقبل روايته؛ لأنه ليس بمسلم، لو سمع نصراني، كذلك لا نقبل روايته؛ لأنه ليس بمسلم، والعجب أن الناس الآن وقع عندهم فتنة، وهو ما شاع بأنه سُجِّل أرواح الناس يعذبون في القبور، وجاءت عن طريق الشيوعية، وتجد الأغبياء من المسلمين يسجلون ويوزعون، ويقولون: إن هذا خبر ثابت، وهذا خبر حق.

نقول: الآن نقرر قاعدة: لا تُقبَل رواية الكافر، وتجد أن بعض طلاب العلم يحتارون في الأمر يقول: هل نصدق أو لا؟

هذا من عجائب الدهر! طلاب العلم! بل بعض الدعاة يستغرب، أو يعني يقف، أو يحتار هل نصدق أو لا؟

ثم أيضا هو مخالف لأصل، عذاب القبر لو قيل بجواز كشفه فهو للبعض لا للكل، وهذا قد أصبح للكل، ما صار غيبا، ثم لو فُتح الباب وسُجلت مثل هذه الأشياء، غدا يأتون بالمرئيات، اليوم بصوتيات وصدقنا، غدا تجد أشرطة الفيديو، وترى القنوات يقولون: هذا عذاب القبر، وأنتم مسلمون صدقتم الأول، لمَ لا تصدقون الثاني؟ وغدا قد يأتوك بأشياء أخرى؛ صوت جبريل .. إلخ، إذا فُتح الباب لمثل هذه الأمور ما تُغلَق؛ فلذلك نقول: (فلا تقبل رواية كافر): سواء كان يهوديا أو نصرانيا أو شيوعيا.

(ولو ببدعة): يعني ولو كان كفره بسبب بدعة، فالبدعة المُكفرة سبب لرد الرواية.

(إلا المتأول): نفهم منه أن قول المصنف: (ولو ببدعة) خص به صاحبَ البدعة غير المتأول، ومراده بالمتأول: الذي استند إلى الكتاب والسنة فأدّاه إلى أن وقع في بدعة، وهذه البدعة تكون مكفرة، إلا أنه لو كُفر حينئذ تُقبَل روايته، خاصة إن انضم إليه الضبط والصدق.

(إذا لم يكن داعية): يعني إذا لم يدعو إلى بدعته، إذا لم يروِ ما يُؤيد بدعته؛ لأنه متهم حينئذ؛ لأن الهوى يُزين له تحسين البدعة، فحينئذ لا يُؤمَن عليه أن يزيد حرفا أو يُنقِص من الحديث -مثلا- من أجل أن يُروّج بدعته، فلما كانت الرواية التي تؤيد بدعته مظنة لترجيح الكذب على الصدق قُدِّم في هذا النوع، وما عداه فيكون على الأصل.

إذًا المتأول يُفرَّق فيه؛ إن كان مبتدعا داعية إلى بدعته فلا تُقبَل روايته، وإن لم يكن داعية إلى بدعته تُقبل روايته، قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "هذا المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمة"، فهذا هو الذي رجحه ابن حجر والنووي والسيوطي في ألفيته.

(في ظاهره كلامه): يعني في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ أنه فرّق بين المبتدع الداعي وغير الداعي؛ لأنه ورد عنه أنه قال: "يُكتَب حديث القدري إذا لم يكن داعية"، قال أصحابه: "والقدرية عند الإمام أحمد كفار"، إذًا هم أصحاب بدعة مُكفرة، وقال الإمام أحمد: "يُكتب حديثه إذا لم يكن داعية، فإن كان داعية فلا ولا كرامة"، هذا ظاهر كلام الإمام أحمد.

وعنه رواية أخرى بالرد مطلقا.

لكن كثير من المحققين يرون أن مدار البدعة وعدمها على الصدق، متى ما ثبتت ثقة الراوي وكان صادقا -سواء كان داعية أو لا- تُقبَل روايته؛ ولذلك في الصحيحين عن بعض أهل البدع، وهم دعاة، ولكن خرّج لهم أرباب الصحيح من أجل أن مدار الرواية على الصدق، فمتى ما انضم إلى صاحب البدعة: صدق، وضبط، وتقوى، وورع؛ تُقبَل روايته؛ لأنه إن كان ورعا تقيا فيعتقد أنه على حق، ولذلك ابن حزم شنّع على من يشترط هذا، يقول: "هو في باب المعتقد مبتدع، كيف تشترطون في قبول رواية المبتدع إن لم يكن داعية؟! هو يعتقد أنه حق، وأنه من الإسلام، وكل من اعتقد حقا فالأصل أنه يكون داعية"، فحينئذ اشتراط كونه داعية إلى بدعته أو لا؛ هذا يُنظر فيه من جهة الصدق وما ينضم إلى الراوي من التقوى والورع، فإن وُجد فحينئذ الأصل القبول، وإلا إذا وُجدت التهمة، فالأصل العدم.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 02:17 AM
تابع شروط الراوي:

(2) التكليف:

[المتن]:

[والتكليف حالة الأداء(1)].

[الشرح]:

(1) (والتكليف حالة الأداء):

الشرط الثاني قال:

(والتكليف): يعني يشترط في الراوي الذي تقبل روايته: أن يكون مُكلَفًا، وقد اصطلح أهل العلم أنهم إذا أطلقوا التكليف فمُرادهم به: البلوغ، والعقل؛ إذًا يشترط التكليف؛ بأن يكون الراوي -الذي يترجح صدقه على خطئِه وكذبه- مُكلفا.

(حالة الأداء): والأداء قلنا: المراد به: إبلاغ الحديث للغير، ليس كالتحمل.

إذًا التكليف المراد به: البلوغ، والعقل، واشتراط العقل هذا بالإجماع، لماذا؟

قالوا: إذ لا وازع لغير العاقل يمنعه من الكذب، هو لا يميز بين الكذب وغيره أصلا، فكيف يُقال: بأنه تُقبَل روايته؟!

ولذلك شرط العقل هذا للتحمل والأداء، فيُفَصّل في كلام المصنف هنا؛ لأنه أطلق، وأما البلوغ فهو شرط في الأداء كما قال المصنف.

إذًا العقل شرط لقبول رواية الراوي، هو أصل الضبط، والبلوغ هو الوازع عن الكذب، ولذلك الصبي الصغير لا يقبل خبره، والمجنون كذلك لا يُقبَل خبره؛ لكونه لا يعرف الله تعالى، ولا يخافه؛ ولذا اتفق الصحابة على قبول أخبار أصاغر الصحابة -كابن عباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، والحسن، والحسين، والنعمان بن بشير- إذا أدوا ذلك بعد البلوغ، تحملوا وهم صغار، ثم أدوا ذلك بعد البلوغ، فيكون البلوغ شرطا للأداء، لا للتحمل، بل كان كثير من أهل الحديث يأتون بأبنائهم في مجالس رواية الحديث من أجل أن يكتبوا، ولذلك اختلفوا متى يكتب الصبي؟

قيل: خمس سنين، وقيل: بالتمييز، إلى آخر الخلاف، لكن قال السيوطي رحمه الله:



وَكَتْبُهُ وَضَبْطُهُ حَيْثُ اسْتَعَـدّ




وَإِنْ يُقَدِّمْ قَبْلَـهُ الْفِقْـهَ أَسَـدّ




"وكتبه": أي كتب الصبي الصغير.

"وضبطه": يعني تشكيله.

"حيث استعد": متى ما كان مستعدا عقليا فليجلس وليكتب وليضبط.

"وَإِنْ يُقَدِّمْ قَبْلَـهُ الْفِقْـهَ أَسَـدّ": هذا على طريقة الأقدمين؛ أنه كان يُقدم الفقه على دراسة الحديث.

إذًا التكليف هو الشرط الثاني حالة الأداء، نقول: العقل إجماعا؛ إذ لا وازع لغير عاقل يمنعه من الكذب.

والبلوغ عند الأئمة الأربعة؛ لاحتمال كذب من لم يبلغ؛ كالفاسق، بل أولى؛ لأنه غير مُكلف، فلا يخاف العقاب، الصبي قد يكذب، فلو أدى قد يزيد، قد ينقص؛ لأنه لا يخاف، بل لا يدرك قدر الحديث، ولا أداء الحديث، ولا ما يترتب على كذبه، ونحو ذلك؛ ولذلك قيل: البلوغ شرط للأداء، لا للتحمل، والعقل لهما معا.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 02:19 AM
تابع شروط الراوي:

(3) الضبط:

[المتن]:

[والضبط سماعا وأداء(1)].

[الشرح]:

(1) (والضبط سماعا وأداء):

(والضبط): أي والشرط الثالث باعتبار قبول رواية الراوي: الضبط، ولم يقيده بالتمام؛ لكون الشرط عاما لمطلق الرواية التي تُقبَل، والذي يُقبَل لا يُختَص بالصحيح لذاته، قد يكون صحيحا لذاته، لغيره، حسنا لذاته، حسنا لغيره، فحينئذ يشترط مطلق الضبط، لا التمام؛ لأن المبحث هنا مبحث عام.

(والضبط سماعا وأداء): الضبط لئلا يُغير اللفظ والمعنى؛ فلا يوثق به، والمراد به: غلبة ضبطه؛ لأن الخطأ اليسير لا بد منه، هو بشر، فإذا وقع في سهوٍ ما أو غلطٍ ما ونحو ذلك يقبل، ويكون تام الضبط.

وكيف يحكم عليه بكونه ضابطا؟

يُقارن بينه وبين غيره من الأئمة الحُفّاظ -وهم الضابطون- فإن وُجِد أنه موافق لهم في الأغلب الأعم عُد ضابطا، وإلا فلا.

والضبط سماعا وأداء: أن يؤدي ما تحمله على وجهه من غير زيادة فيه ولا نقص سماعا وأداء، يسمع فيكتب، أو يحفظ فلا يزيد ولا ينقص، ثم يؤدي ذلك كما سمعه، يؤدي ما سمع كما سمع لا يزيد ولا ينقص، ولا يضر يسير خطأ؛ لعدم سلامته، وهذا يكاد يكون اتفاقا بين أئمة الحديث.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 02:23 AM
تابع شروط الراوي:

(4) العدالة:

[المتن]:

[والعدالة فلا تقبل من فاسق، إلا ببدعة متأولا عند أبي الخطاب والشافعي(1)].

[الشرح]:

(1) (والعدالة فلا تقبل من فاسق، إلا ببدعة متأولا عند أبي الخطاب والشافعي):

الشرط الرابع: فيمن تُقبل روايته أو تُرد.

(والعدالة): أن يكون عدلا، وهذا بالإجماع.

والعدالة لغة: التوسط في الأمر من غير زيادة ولا نقصان.

وفي الاصطلاح: صفة راسخة في النفس تحمله على ملازمة التقوى والمروءة وترك الكبائر والرذائل بلا بدعة مُغلَظة؛ يعني من كان آتيًا بالواجبات، مُجتنبا للكبائر والمحرَّمات، واقفا مع ما يخرم المروءة، متلبسًا بالآداب والأخلاق، آتيًا بما يحمده الناس، مُجتنبا ما يذمه ويُبغضه الناس، هذا هو العادل، تام العدالة.

(فلا تُقبل من فاسق): وهذا منصوص عليه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات6]؛ أي "تثبتوا" كما في القراءة الأخرى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ}؛ يعني من اتصف بالفسق، {فَتَبَيَّنُوا}، {فتثبتوا}، إذًا لا تقبَلوا خبره هكذا، وإنما لا بد من التبين والتثبت.

(إلا ببدعة متأولا): صاحب البدعة في الموضعين -سواء كانت البدعة مُكفرة أو مُفسقة- قد يكون صاحب هوى، غير متأول، مستندا إلى عقله دون كتاب أو سنة؛ هذا لا حكم له، ولا يُلتفت إليه، وأما صاحب البدعة المتأول -الذي اجتهد، وطلب الحق، ونظر إلى الكتاب والسنة، وكان مستنده قول الله تعالى وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم- هذا أمره أخف، وأهل البدع ليسوا على مرتبة واحدة، هذا لا بد من الوقوف معه، أهل البدع ليسوا على مرتبة واحدة، وإذا كانوا كذلك فيكون التعامل معهم على تفاوتهم ومراتبهم في بدعهم؛ ولذلك وقع الخلاف عند أئمة السلف في التفريق بين مبتدع ومبتدع، بين بدعة وبدعة، بدعة مُكفرة متأول أو غير متأول، بدعة مُفسقة متأول أو غير متأول، لو كانت على مرتبة واحدة لما اختلفوا، لو كان أهلها على مرتبة واحدة لهُجروا كليا، ولكن لمّا وقع التخفيف ولمّا وقع الاستثناء علمنا أن البدعة تختلف، ويكون أهلها على طبقات ومراتب.

(إلا ببدعة متأولا عند أبي الخطاب والشافعي): وهذا ما يسمي بالفسق الاعتقادي؛ لأنهم يقولون: من كان متأولا ببدعة؛ مرادهم: البدعة الاعتقادية؛ كأمور الصفات ونحوها، وأما الجوارح فهذا الأصل أنه لا يُغتفر؛ لعدم الشبهة، ولأنها داخلة في مسمى العدالة.

العدالة ما هي؟

سلامته من ترك الواجبات وفعل المحرمات.

حينئذ لو فُسّق من جهة الجوارح ليس كمن فسّق من جهة الاعتقاد متأولا، وهنا نفرق في الفسق؛ فسق اعتقادي، وفسق عملي، وهناك يذكرون عند المتأخرين بدعة اعتقاديه مكفرة فقط، ونضيف إليها بدعة أيضًا مُكفرة عملية؛ لأن الكفر قد يكون اعتقادا، وقد يكون عملا، هو ضد الإيمان، فنقول: الكفر ضد الإيمان، كما أن الإيمان يكون قولا واعتقادا وعملا، الكفر ضده يكون بالاعتقاد، ويكون بالقول، ويكون بالعمل؛ يعني قد يكفر عملا ولو لم يعتقد، وقد يكفر باللسان ولو لم يعتقد، وقد يكفر بالاعتقاد ولو لم يعمل، وكذلك الإيمان مركّب من ثلاثة أركان، وأعمال الجوارح -كما هو مذهب السلف- داخلة في مسمى الإيمان، ولذلك يذكرون في كتب المصطلح عند المتأخرين -تنبه إلى هذا يا طالب العلم- البدعة المكفرة يقصدون بها الاعتقادية، ولا يذكرون العملية، وهنا يذكرون البدعة المفسقة الاعتقادية والعملية؛ لأن أكثر المتأخرين أشاعرة، وعندهم الكفر اعتقادي فقط، ولا يكون الكفر عمليا، وهذا ليس بصحيح، بل هو مذهب الجهم بن صفوان، حصر الكفر في الاعتقاد؛ أنه لا كفر إلا بالاعتقاد، هذا مذهب الجهمية.

(والعدالة فلا تقبل من فاسق): لأن الخبر أمانة، علل بعضهم، ومنهم القرطبي -رحمه الله تعالى-، قال: "لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة تبطلها"، الخبر أمانة، والفاسق لا أمانة له.

(إلا ببدعة): أي إلا من فسق من جهة الاعتقاد، لا من جهة الجوارح عند أبي الخطاب والشافعي.

هذه أربعة شروط: الإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة، لا بد من وجودها، وأهل الحديث يذكرون اثنين فقط، ويدرجون بعضها تحت بعض.



لِنَاقِلِ الأَخْبَارِ شَرْطَانِ هُمَـا




عَدْلٌ، وَضَبْطٌ: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمَا




مُكَلَّفًا لَمْ يَرْتَكِـبْ فِسْقًـا




ولا خَـرْمَ مُـرُوءَةٍ وَلا مُغَفَّـلا




يَحْفَظُ إِنْ يُمْلِ، كِتَابًا يَضْبُـطُ




إِنْ يَرْوِ مِنْهُ عَالِمًا مَا يُسْقِطُ




إِنْ يَرْوِ بَالْمَعْنَى، وَضَبْطُهُ عُرِفْ




إِنْ غَالِبًا وَافَقَ مَنْ بِهِ وصِفْ




هكذا قال السيوطي في (ألفية المصطلح).

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 02:30 AM
حكم رواية المجهول:

[المتن]:

[والمجهول في شرط منها لا يقبل كمذهب الشافعي، وعنه: إلا في العدالة، كمذهب أبي حنيفة(1)].

[الشرح]:

(1) (والمجهول في شرط منها لا يقبل كمذهب الشافعي، وعنه: إلا في العدالة، كمذهب أبي حنيفة):

(والمجهول): من هو المجهول؟

الذي لا تعرف عينه، "عن رجل"، "حدثني رجل"، هذا ما عُرفت عينه، أو سماه: "حدثني زيد"، و "زيد" هذا لا يُعرَف، لم يُزكه أحد، أو يُجرَح، أو لم يرو عنه إلا شخص واحد؛ نقول: هذا مجهول.

(والمجهول في شرط منها): يعني لا يُعرَف هل هو مسلم أو لا؟ هل هو مكلف أو لا؟ هل أدى مكلفا؟ هل تحمل عاقلا؟ هل هو ضابط؟ هل هو عدل؟ إذا لم يُعرَف.

(لا يُقبَل): لأن هذه شروط وجودية، ليست من الشروط العدمية، لو كانت شروطا عدمية لاستصحبنا الأصل، لكن لا يمكن أن يكون الإنسان في الأصل ضابطا، أو في الأصل مسلما إلا إذا كان نشأ بين مسلمين، ولا يكون الأصل أنه عدل، وإنما هذه شروط وجودية، وإذا كانت الشروط وجودية لا بد من التحقق، ولا بد من التثبت، لا بد من العلم، فيكون العلم في الوجود، وليس عدم العلم بالوجود هو الشرط؛ يعني هل يشترط أن نعلم فسقه أو سلامته من الفسق؟ أو الأصل العلم بعدم الفسق؟

الأول؛ لأن العدالة وجود، ولا بد أن نُثبت العدالة بعلمنا بالعدالة، أما عدم علمنا بالعدالة ليس بعدالة، عدم علمنا بالفسق ليس بتعديل له من جهة الفسق، وهلم جرا.

حينئذ نقول: هذه الشروط الأربعة إنما هي شروط وجودية، والشيء إذا كان مشروطا للوجود لا بد من تحققه؛ وجوده بالفعل، ولا بد من تعلق الإدراك والعلم به، وإلا الأصل عدم وجوده.

ولذلك نقول: "من شك في ركن فكتركه"، هكذا المذهب؛ كأنه تركه، الشك هنا غير معتبر؛ لأنه هل فعل أو لم يفعل؟

الأصل عدم الوجود، والركن مطلوب الوجود، إذًا لا بد أن يعلم ويتحقق أنه ركع، أو قرأ الفاتحة، أو أنه سجد، فإذا لم يتحقق أنه سجد فالأصل عدم السجود، فلا بد أن يأتي بها.

فإذا شك في السجود سجد أو لم يسجد؟

نقول: الأصل أنه لم يسجد.

وإذا شك في الركوع هل ركع أو لا؟ شك في الفاتحة هل قرأ أو لا؟

نقول: الأصل عدم القراءة؛ لأن هذه أركان وجودية، والشيء إذا كان وجوديًا يتعلق العلم بوجوده، وعدم العلم هذا ليس بشيء.

(والمجهول في شرط منها لا يقبل كمذهب الشافعي): وهو مذهب الجمهور، قول الجمهور أنه لا يُقبَل مطلقا.

(وعنه): أي عن الإمام أحمد رواية أخرى.

(إلا في العدالة): لأن الشرط عدم العلم بالفسق، ليس العلم بالفسق، لا، نقول: العكس هو الأصح.

(وعنه إلا في العدالة): يعني مجهول العدالة يُقبَل، أما مجهول الإسلام، ومجهول الضبط، ومجهول التكليف؛ لا يُقبَل.

إذًا اتفقوا على شيء، واختلفوا في شيء.

اتفقوا على أن الجهل بالإسلام وبالتكليف وبالضبط لا يُقبَل.

ويكون الخلاف في الرابع فقط، وهو الجهل بالعدالة.

ولا فرق في الشك في العدالة وباقي الشروط، فلا يُفرَّق بينهما، والقياس على الشهادة -كما ادعاه بعضهم؛ لأن الشاهد لا بد وأن يكون عدلا- والقياس على الشهادة؛ يعني شهادة مجهول العدالة لا تقبل؛ يعني نقيسه على ماذا؟

يكون العكس هو الدليل، عدالة الشاهد لا بد أن تكون معلومة، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}[الطلاق2]، {ممن ترضون من الشهداء}، ولا ترضى إلا من كان عدلا، حينئذ نقيس الراوي على الشاهد.

إذًا لا بد من العلم بالعدالة، على العكس من يستدل بالتفريق بينهما، بل هما سيان، والمجهول في الأصل غير عدل.

(وعنه إلا في العدالة؛ كمذهب أبي حنيفة): لأنه لا تُقبل عنده إذا كان مجهول الإسلام أو التكليف أو الضبط، واستثنى مجهول العدالة فتُقبَل، وبعضهم يرى أن الأصل في المسلم العدالة، وهذا توسع فيه ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-، في مسألة العدالة؛ لأنه يقول: كيف تثبت العدالة؟

إما بالاستفاضة، وإما بالنص.

** إما بالاستفاضة؛ أن يكون مشهورا؛ كالأئمة الأربعة؛ كالبخاري، ومسلم، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم، نقول: هؤلاء مشهورون بالعدالة، فلا يُسأَل عنهم.

** أو بالنص من إمام عالم بأسباب الجرح والتعديل إلى آخره بأن فلانا عدل.



وَاثْنَانِ إِنْ زَكَّاهُ عَدْلُ وَالأَصَحْ




إِنْ عَدَّلَ الْوَاحِدُ يَكْفِي أَوْ جَرَحْ




أَوْ كَانَ مَشْهُورًا، وزَادَ يُوسُفُ




بِأَنَّ كُلَّ مِـنْ بِعِلْـمٍ يُعْـرَفُ




عَدْلٌ إِلَى ظُهُورِ جَرْحٍ، وَأَبَوْا



.............................




من هو يوسف؟

ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-، أن كل من عُرف بطلبه للعلم فهو عدل حتى يثبت الجرح، الأصل العدالة، وأبوا: رُد عليه -رحمه الله تعالى-.

إذًا الاستفاضة والشهرة بها تُعلَم العدالة، وكذلك بالتنصيص من عالم، والأصح أنه يكفي واحد، لو نصّ عالم إمام في الجرح والتعديل على أن فلانًا عدل نقبل، والقول بأنه لا بد من اثنين قول مرجوح، بل أكثر المحدثين على أن واحدا يكفي.



وَاثْنَانِ إِنْ زَكَّاهُ عَدْلُ وَالأَصَحْ





إِنْ عَدَّلَ الْوَاحِدُ يَكْفِي أَوْ جَرَحْ





فلو جرح واحد كفى، ولو عدّل واحد كفى، واشتراط الاثنين كالشهادة ليس بسديد.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 02:34 AM
شروط الراوي المختلف فيها:

[المتن]:

[ولا يشترط ذكوريته، ولا رؤيته، ولا فقهه، ولا معرفة نسبه(1)].

[الشرح]:

(1) (ولا يشترط ذكوريته، ولا رؤيته، ولا فقهه، ولا معرفة نسبه):

لأن بعضهم اشترط هذه الأمور.

(ولا يشترط): يعني للراوي.

(ذكوريته): أن يكون ذكرا، كم وكم روت عائشة -رضي الله عنها- من أحاديث! وأسماء، وأم عطية .. إلخ، فقَبل أئمة السلف رواية عائشة، وهي أنثى، إذًا لا يشترط ذكوريته.

(ولا رؤيته): يعنى رؤيته للنبي -صلى الله عليه وسلم- لو كان من جهة الصحابي، فالضرير تُقبَل روايته، كذلك لو كان من وراء سِتر، كم من الصحابة ممن رووا عن عائشة وهي من وراء حائل؟! إذًا لا يشترط الرؤية.

(ولا فقهه): لا يشترط أن يكون فقيها كما نصّ عليه بعضهم، «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ»، إذًا لا يشترط أن يكون الراوي فقيها، وإنما اشترطه بعضهم من أجل أنه إذا روى بالمعنى يكون عالما بما يروي.

(ولا معرفة نسبه): فتُقبَل رواية مجهول النسب، بل عديم النسب؛ كولد الزنا ونحوه؛ لأن هذه لا مدخل لها في تحقق صفة قبول رواية الراوي أو رده، كونه ذا نسب ليس لها دخل، وإنما النظر في ضبطه، في إسلامه، في تكليفه، في عدالته، فإذا توفرت هذه ليس لنا دخل في النسب، سواء كان له نسب مجهول، أو ليس له نسب، بل عديم النسب.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 02:36 AM
حكم رواية المحدود بالقذف إن كان شاهدا:

[المتن]:

[ويقبل المحدود في القذف إن كان شاهدا(1)].

[الشرح]:

(1) (ويقبل المحدود في القذف إن كان شاهدا):

شهادة الزنا لا بد أن تكون من أربعة، فلو وُجد ثلاث ولم يتم النصاب يُجلَد الثلاث؛ يُحد، حينئذ إذا حُدّوا في القذف نقول: يُحدوا للشرع، وتُقبل روايتهم؛ لأن الحد هنا ليس لكونهم ارتكبوا مُفسَّقًا، وإنما لنقص النصاب، وإخراجهم للشهادة هنا مخرج الخبر لا مخرج القذف، فالحد هنا لعدم تمام النصاب، لا لكونهم قاذفين؛ لأنه لو قذف لصار فاسقا، فلا بد من التوبة، فإذا علمنا توبته وثبتت؛ تُقبَل روايته؛ يعني من تاب عن فسق كمن لا ذنب له.

ولكن هنا المراد به: إن حُدّ المحدود في القذف؛ بحيث إنه كان أحد الشهداء ولم يتم النصاب، هل نعتبر هذا؟ لأن أبا بكرة وبعض الصحابة حُدّوا، وبعضهم طعن في من حُدّ في قذف عائشة -رضي الله عنها- من أجل ألا تُقبَل روايتهم.

نقول: لا، هذا ليس من أجل كونه فسقا، وإنما لأمر خارج عن العدالة، وهو عدم إتمام النصاب.

قال أصحاب الإمام أحمد: إن قَذَفَ بلفظ الشهادة قُبلت روايته؛ لأنه قد يَقذف بلفظ الشهادة؛ يعني يكون شاهدا، فلا يتم النصاب فيُقذف، وقد يَقذف فيقول: "يا زانٍ"، هذا فرق بين أن يُحد من أجل شهادة لم تتم، وبين أن يكون قاذفا "يا زانٍ" مثلا، نقول: قذف بنفسه، فلا بد من توبة؛ لأنه يُعَد مُفسقا.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 02:40 AM
عدالة الصحابة:

[المتن]:

[والصحابة كلهم عدول بإجماع المعتبرين(1)].

[الشرح]:

(1) (والصحابة كلهم عدول بإجماع المعتبرين):

(والصحابة): لم تكلم عن هذه الشروط الأربعة ومحترزاتها؟

ذكر الصحابة لأنهم هم الطبقة الأولى في رواية الأحاديث، وهل يُتعرض لهم بتعديل أو تجريح؟ وهل هذه الشروط تشملهم أو لا؟

(والصحابة كلهم): هذا تأكيد.

(عدول): بتعديل الله تعالى لهم، عدّلهم الله -عز وجل-.

(بإجماع المعتبرين): من يُعتَد به، بإجماع المعتمدين.



وَهُمْ عُدُولٌ كُلُّهُـمْ لا يَشْتَبِـهْ




النَّوَوِيْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِـهْ




قال النووي: "أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِـهْ"؛ من أهل العلم، أما من كان من أهل البدع -كالرافضة ونحوهم- فلا عبرة بهم في إجماعات أهل السنة والجماعة.

وإذا كان الصحابة عدولا فلا حاجة إلى البحث عن عدالتهم، فجهالة الصحابي لا تضر، ويُبنى على هذه المسألة -كما سيأتي- مرسل الصحابي.


وَمُرْسَلُ الصَّاحِبِ وَصْلٌ فِي الأَصَحْ


لأن الغالب أن الصحابي لا يروي إلا عن صحابي، فإذا أسقط الصحابي الواسطة بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- نقول: الصحابي جهالته لا تضر؛ لأن القاعدة أنهم كلهم عدول بإجماع العلماء المعتبرين.



وَهُمْ عُدُولٌ كُلُّهُـمْ لا يَشْتَبِـهْ




النَّوَوِيْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِـهْ




إذًا فهذا مبني على هذا، وأما من فصّل بأنهم عدول إلى زمن الفتنة، ثم لا بد من البحث .. إلخ، نقول: هذه الأقوال كلها ضعيفة ومردودة، قال تعالى في شأنهم: {وَالسَّابِقُون الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}[التوبة100]، وقال جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ}[الفتح18]، وقال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء}[الفتح29]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «خير الناس قرني»، وقال: «لا تؤذوني في أصحابي»، ثم فيما تواتر من صلاحهم وطاعتهم لله ولرسوله غاية التعديل، حبهم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وجهادهم، وتضحيتهم من أجل الدين هذا يكفي لعدالتهم، ولا نحتاج إلى أن نبحث، وما وقع فيما بينهم من خلاف؛ نقول: نسكت عما شجر بينهم، ولا يُعد ذلك طعنا، كلٌ مجتهد وإن كان فيهم مصيب وفيهم مُخطئ، لكن نقول: هذا حصل من باب الاجتهاد، والقاضي إذا اجتهد وأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ له أجر واحد، ولا نبحث ولا نستفصل ولا نتحامل على شخص معين، بل ولا نقرأ ولا نذكر هذا للناس عموما، وإنما تطوى ولا تُروى.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 02:45 AM
تعريف الصحابي:

[المتن]:

[والصحابي من صحبه ولو ساعة، أو رآه مؤمنا(1)].

[الشرح]:

(1) (والصحابي من صحبه ولو ساعة، أو رآه مؤمنا):

(والصحابي): من هو الصحابي؟

(من صحبه): يعني صحب النبي -صلى الله عليه وسلم-.

(أو رآه) يجعلنا نعمم قوله: (صحبه)؛ لأن المراد به الصحبة؛ فالصحبة المراد بها اللقاء؛ فحينئذ يعم البصير والأعمى.

(ولو ساعة): يعني لا يُشترط طول الصحبة كما هو مذهب كثير من الأصوليين، هذا التعريف جارٍ على مذهب أهل الحديث، أن شرف اللقاء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى الصحبة لكل من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو لم يجلس معه، ولو رآه عن بعد؛ فحينئذ نقول: لا يشترط طول الصحبة.



حَدُّ الصَّحَابِي مُسْلِمًا لاقَى الرَّسُولْ




وَإِنْ بِلا رِوَايَـةٍ عَنْهُ وَطُـولْ




"وَإِنْ بِلا رِوَايَـةٍ": ولو لم يرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو صحابي، وإن لم تطل صحبته، بل لو رآه ساعة؛ لو لحظة نحكم بصحبته، وإن كانوا يتفاوتون فيما بينهم، لذلك من لزم النبي -صلى الله عليه وسلم- مدة بعثته ليس كمن رآه قبل وفاته بعشرين يوم مثلا، لا يستويان قطعا.

(من صحبه ولو ساعة): حينئذ (ولو ساعة) فيه رد على من اشترط طول الصحبة كما هو مذهب كثير من الأصوليين وبعض أهل الحديث المتأخرين.

(أو): للتنويع.

(رآه): يعني رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو لم يجتمع به، رآه يقظة حيا، فلو رآه مُسَجّى لا تثبت الصحبة.

لو رآه في المنام؟

كان الصوفية كلهم صحابة!

قال ابن الصلاح: "وهذا لشرف منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطوا كل من رآه حكم الصحبة"، ولابن حجر -رحمه الله تعالى– تعريف مشهور: "من اجتمع بالنبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمنا به، ومات على ذلك ولو تخللت ردة في الأصح"، وله شرح جيد في المسألة.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 02:47 AM
طرق معرفة الصحابي:

[المتن]:

[وتثبت صحبته بخبر غيره عنه، أو خبره عن نفسه(1)]

[الشرح]:

(1) (وتثبت صحبته بخبر غيره عنه، أو خبره عن نفسه):

(وتثبت الصحبة): بماذا؟

نقول: بالتواتر؛ كالخلفاء الأربعة الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة، كذلك تثبت بالاستفاضة أو الشهرة؛ كضمام، وعكاشة، لكن دون التواتر.

أو (بخبر غيره عنه): لو أخبر صحابي بأن فلانا صحابي تثبت الصحبة.

(أو بخبره عن نفسه): عند الجمهور، لو قال: أنا صحابي، أنا التقيت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يُقبَل بشرط المعاصرة والعدالة؛ لأنه ثقة مقبول القول فقُبل في ذلك؛ كروايته بشرط أن يكون معاصرا؛ يعني وقت النبي -صلى الله عليه وسلم- عدلا.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 02:51 AM
ما تثبت به عدالة الراوي:

[المتن]:

[وغير الصحابي لا بدّ من تزكيته كالشهادة، والرواية عنه تزكية في رواية، بشرط أن يُعلم من عادة الراوي أو صريح قوله أنه لا يروي إلا عن عدل، والحكم بشهادته أقوى من تزكيته(1)].

[الشرح]:

(1) (وغير الصحابي لا بدّ من تزكيته كالشهادة، والرواية عنه تزكية في رواية، بشرط أن يُعلم من عادة الراوي أو صريح قوله أنه لا يروي إلا عن عدل، والحكم بشهادته أقوى من تزكيته):

(وغير الصحابي لا بد من تزكيته كالشهادة): كما أن الشهود لا بد من تزكيتهم كذلك غير الصحابي لا بد من تزكيته، كما ذكرنا في الشروط السابقة أن الأصل فيها العدم، فحينئذ لا بد من العلم بوجودها، التكليف، هل سمع؟ تحمّل بالغا أو لا؟ هل أدى بالغا أولا؟ هل هو حال كونه متحملا مسلما أو لا؟ لا بد من وجود هذه الشروط.

(وغير الصحابي لا بد من تزكيته): لا بد أن يزكيَهُ عالم بأسباب الجرح والتعديل.

(والرواية عنه): عن غير الصحابي.

(تزكية): فإذا روى عنه من عُرف بأنه لا يروي إلا عن ثقة أو روى عنه ثقة قال: (تزكية)؛ يعني إذا لم نجد نصا لعالم بأن الراوي الفلاني ثقة.

(والرواية عنه تزكية في رواية عن الإمام أحمد بشرط أن يُعلَم من عادة الراوي أو صريح قوله أنه لا يروي إلا عن عدل): يعني بعض المحدثين صرّح أنه لا يروي إلا عن عدل، فإذا قال: "عن رجل"، أو قال: "حدثني الثقة"، أو "حدثني من لا أتهمه"، فحينئذ قال: نحكم بأنه ثقة؛ بأنه عدل؛ لأن هذا الراوي المحدث الإمام قد حدث عنه، وعلمنا من حاله أو من صريح قوله أنه لا يحدث إلا عن ثقة.



وَلَيْسَ فِي الأَظْهَرِ تَعْدِيـلًا إِذَا




عَنْهُ رَوَى الْعَدْلُ وَلَوْ خُصَّ بِذَا




والأرجح عند المتأخرين أنه لا يعد، بل عند أكثر أهل الحديث أنه لا يعد تعديلا، بل حاله حال غيره لا بد من البحث والفحص، ولذلك قال السيوطي:



وَلَيْسَ فِي الأَظْهَرِ تَعْدِيـلًا إِذَا




عَنْهُ رَوَى الْعَدْلُ وَلَوْ خُصَّ بِذَا




"وليس في الأظهر": يعني القول الأظهر، "إِذَا عَنْهُ رَوَى الْعَدْلُ ولو خُص بذا" ولو خص بأنه لا يروي إلا عن العدول؛ نقول: هذا لا يعد تعديلا، بل لا بد من التنصيص، ولا بد من البحث والفحص.

إذًا والرواية عنه تزكية في رواية، إذًا الرواية الأخرى لا تعتبر تزكية، وهي أرجح، بشرط أن يُعلَم من عادة الراوي أو صريح قوله أنه لا يروي إلا عن عدل؛ ولذلك يقول القاسمي مُحشِّيًا على هذا: "خالف في ذلك الأكثر؛ فذهبوا إلى أن الرواية المذكورة ليس بتعديل"، وهذا أصرح، ورجحه السيوطي في ألفيته.

(والحكم بشهادته أقوى من تزكيته): إذا قضى القاضي بشهادة زيد مثلا كان ذلك تعديلا له؛ لأن الشهادة يُشترط فيها العدالة، لا بد أن يكون مُعدلا، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}[الطلاق2]، فإذا قضى القاضي بشهادة زيد كان هذا الشاهد عدلا، فحينئذ الحكم بشهادته يعتبر تعديلا ولا إشكال في هذا.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 02:53 AM
تعريف الجرح:

[المتن]:

[والجرح: نسبة ما تُرَدُّ به الشهادة(1)].

[الشرح]:

(1) (والجرح: نسبة ما تُرَدُّ به الشهادة):

(والجرح) هذا مقابل للتعديل، عندنا تعديل وتجريح، والجرح ما هو؟ قال:

(نسبة ما ترد به الشهادة): يعني أن يُنسَب إلى راوي الحديث ما لو نُسب إلى الشاهد في مقام الشهادة لردت شهادته؛ كأن يكون كذابا، أو فاسقا، أو لا يُعتمد عليه، أو لا يوثق في حديثه، أو عديم الأمانة، نقول: ترد الشهادة، فحينئذ إذا نُسب إلى الراوي ما تُرد به الشهادة يُعتبر مجروحا، قال تعالى في الشهادة: {ممن ترضون من الشهداء}، والفاسق والكذاب لا نرضاه، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ}، نقول: غير العدل لا يُؤمَن.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 02:55 AM
ترك العمل بالشهادة ليس جرحا:

[المتن]:

[وليس ترك الحكم بشهادته منه(1)].

[الشرح]:

(1) (وليس ترك الحكم بشهادته منه):

(وليس ترك الحكم بشهادته منه): يعني وليس ترك الحكم بشهادة زيد مثلا يعتبر من الجرح؛ لأنه قال في المقابل: (والحكم بشهادته أقوى من تزكيته)، إذًا يعتبر تعديلا له، لكن إذا ترك القاضي شهادة زيد؛ ردّ شهادته، هل يعتبر جرحا؟ إذا قبل شهادته يعتبر تعديلا، وإذا ردها هل يعتبر جرحا؟

لا؛ لأن سبب الرد في الشهادة ليس مبناه دائما ما يُوجب الفسق، لا، قد يرده للتهمة؛ تهمة القرابة؛ يأتي ويشهد لابنه، يرده القاضي، هل الرد هذا يعتبر جرحا؟ لا.

إذًا قوله: (وليس ترك الحكم بشهادته منه): لا بد من زيادة: (منه)؛ أي من الجرح؛ أي وليس ترك الحكم بشهادته من الجرح؛ لاحتمال وجود سبب آخر لترك العمل بشهادته غير الفسق؛ كعداوة أو تهمة قرابة.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 03:01 AM
هل يشترط العدد في الجرح؟ وهل يجب ذكر سبب الجرح؟

[المتن]:

[ويقبل ـكالتزكيةـ من واحد(1)، ولا يجب ذكر سببه، وعنه: بلى، وقيل: يُسْتَفْسَرُ غيرُ العالم(2)].

[الشرح]:

(1) (ويقبل ـ كالتزكية ـ من واحد):
ذكرنا هذا.



واثنان إن زكاه عدل والأصح



إن عدّل الواحد يكفي أو جرح




وهذا مذهب الأئمة الأربعة.

(2) (ولا يجب ذكر سببه، وعنه: بلى، وقيل: يُسْتَفْسَرُ غيرُ العالم):

(ولا يجب ذكر سببه): يعني سبب الجرح، إذا قال: "فلان مردود الرواية"، أو "لا يُقبَل خبره"، لا بد أن يُبين أو لا؟

قال: لا يجب؛ لأن أسباب الجرح معلومة؛ لأنه يحصل بأمر واحد، وهذا الأمر الواحد أمر معلوم مستفيضٌ عند المُجرحين والمُعدلين؛ حينئذ إذا قال: "فلان لا يوثق بحديثه"، أو "لا تُقبَل روايته"، أو قال: "فلان فاسق"، أو "فلان كذاب"؛ قال: (لا يجب ذكر سببه)، وهذا ليس على إطلاقه.

(وعنه بلى): وفي الرواية الأخرى عن الإمام أحمد قال: (بلى)؛ يعني يجب ذكر السبب؛ لأن أسباب الجرح فيها خلاف، قد يجرح بما لا يكون جارحا، فحينئذ لا بد أن يُبين، لا بد أن يذكر السبب الذي من أجله جرح الراوي ذاك؛ لأنه لو أراد أن يُبين لا يحتاج إلى صفحات، بخلاف العدالة، العدالة ذكرها يطول؛ يصلي، ويصوم، ويفعل، ويقوم الليل، هذه أسباب تعديل، لكن الجرح يكفي بواحد، قصة واحدة تكفي، فذكر سبب الجرح لا يشق عليه.

كذلك يُقال: أسباب الجرح مما يختلف فيها المجرحون، قد يُجرح زيد بما لا يُجرح الآخر، فلا بد من ذكر السبب.

(وقيل): قول ثالث.

(يُستفسر غير العالم): يعني يُقبل الجرح من غير ذكرٍ لسببه، من غير بيان لسببه إذا كان الجارح عالما بأسباب الجرح والتعديل، وأما غير العالم فلا بد من أن يُبين السبب.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 03:04 AM
تعارض الجرح والتعديل:

[المتن]:

[ويقدم على التعديل، وقيل: الأكثر(1)].

[الشرح]:

(1) (ويقدم على التعديل، وقيل: الأكثر):

يعني إذا تعارض الجرح والتعديل أيهما يُقدّم؟

قال: (ويقدم على التعديل): أي عند التعارض.


وَقَدِّمِ الْجَرْحَ وَلَوْ عَدَّلَهُ .......... أَكْثَرُ فِي الأَقْوَى، فَإِنْ فَصَّلَهُ


على كل يُقدّم الجرح على التعديل إن فصّل، وإن لم يُفصّل فحينئذ يُنظَر في تعارض الجرح والتعديل.

وذكر رواية أخرى أنه إذا كان المجرحون أكثر قُدم المجرحون، وإذا كان المُعدلون أكثر يعني من المُجرحين قُدم المعدلون.

(وقيل: الأكثر): يعني من الجارحين أو المُعدلين، وأهل الحديث لهم نظر خاص في مثل هذه المسائل.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 04:15 PM
ألفاظ الرواية من الصحابي:

[المتن]:

[و[أما] ألفاظ الرواية، فمن الصحابي خمسة(1): أقواها: سمعته، أو أخبرني، أو شافهني(2)، ثم قال: كذا؛ لاحتمال سماعه من غيره(3)، ثم أمر، أو نهى(4)، ثم أُمرنا، أو نُهينا؛ لعدم تَعَيُّن الآمر، ومثله: من السنّة(5)، ثم كنا نفعل، أو كانوا يفعلون، فإن أضيف إلى زمنه فحجة؛ لظهور إقراره عليه، وقال أبو الخطاب: (كانوا يفعلون) نقل للإجماع، خلافا لبعض الشافعية(6)].

[الشرح]:

(1) (و[أما] ألفاظ الرواية، فمن الصحابي خمسة):

لما انتهى من الحكم على الصحابي وغير الصحابي بالتزكية والتعديل والتجريح انتقل إلى بيان ألفاظ الروايات.

قال: (وأما ألفاظ الرواية): أي في نقل الحديث لا بد من ألفاظ تدل على الاتصال وإلا لحُكم بعدم اتصال السند، فحينئذ لا بد من النظر في الصيغة التي يؤدي بها الراوي؛ لأن من الصيغ ما يُفهَم منها اتصال السند، ومن الصيغ ما هي محتملة، ومن الصيغ ما تدل على عدم الاتصال.

(فمن الصحابي خمسة): لأن الناقل إما أن يكون صحابيا، وهو الذي يكون في آخر السند، وإما أن يكون غير صحابي، وهو ممن يأخذ عن الصحابي.

(2) (أقواها: سمعته، أو أخبرني، أو شافهني):

(أقواها): يعني أعلاها في الاحتجاج.

(سمعت أو أخبرني أو شافهني): إذا قال الصحابي: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم-"، "أخبرني النبي -صلى الله عليه وسلم-"، "شافهني النبي -صلى الله عليه وسلم-"، هذه أعلى درجات الأداء؛ لأنها تدل على عدم وجود الواسطة، والصحابي ثقة عدل، إذا قال: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم-"، حينئذ سمع النبي -صلى الله عليه وسلم-.

(3) (ثم قال: كذا؛ لاحتمال سماعه من غيره):

ثم المرتبة الثانية (قال كذا): "قال" هذه تحتمل، إذا قال شخص: "قال زيد"، يحتمل أنه سمعه ويحتمل أنه لم يسمعه؛ ولذا قال:

(لاحتمال سماعه من غيره): نزلت هذه مرتبة، "قال كذا"، و "فعل كذا" مثلها.

(لاحتمال سماعه من غيره): لكن نقول: الصحابي إذا قال: "قال النبي -صلى الله عليه وسلم-" وجزم؛ فاحتمال السماع من الغير ضعيف، لو كان في غير الصحابة نعم، أما في حق الصحابة لا، الاحتمال الذي يكون في صيغة "قال كذا" أو "فعل كذا"؛ نقول: هذا الاحتمال مرجوح، ويكون الراجح السماع.

إذًا (لاحتمال سماعه من غيره): نقول: الراجح حمله على عدم الواسطة هو أنه سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما عبر بهذا لحسب المقام.

(4) (ثم أمر، أو نهى):

ثم المرتبة الثالثة (أمر أو نهى)، إذا قال: "أمر" ولم يقل: "النبي -صلى الله عليه وسلم-"، أو قال: "أمر النبي -صلى الله عليه وسلم" أو "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم-"؛ فهذا ليس كـ "سمعته" أو "أخبرني" أو "شافهني" أو "قال كذا".

لماذا إذا قال: "أمر" جعلها دون الثانية؟

لأنها تحتمل الواسطة، إذا قال: "أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-" يحتمل أنه أخبره صحابي آخر فنسبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، ويحتمل أمرا ثانيا، -هم يقولون هذا-، إذا قال الصحابي: "أمر"، نقول: لا، هذا يحتمل، يحتمل الصحابي فهم أنه أمر وليس بأمر، أو أنه نهي وليس بنهي، وهذا غير صحيح، ولكنهم يذكرون هذا، نقول: نجعله في المرتبة الثالثة "أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-" أو "نهى" لاحتمال الواسطة؛ أنه نُقل إليه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أو نهى، ويُزاد عليه احتمال آخر، وهو أن يعتقد ما ليس بأمرٍ أمرًا، ثم "أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-" يحتمل الخصوصية، وليس بأمر عام، فلهذه الأمور الثلاثة قالوا: إذًا هي دون المرتبة الثانية.

والصواب: أنه إذا قال: "أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-" فقد أمر، والصحابي إذا فهم الأمر من النبي -صلى الله عليه وسلم- ففهمه حجة؛ لأن فهم مدلول الأمر هذا أمر لغوي، وهم في أعلى درجات الفصاحة -رضي الله عنهم-، هم علماء في اللغة، حينئذ إذا فهم الأمر من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو كما فهم، وإذا فهم النهي من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو كما فهم؛ بل قوله وفهمه مُقدَّم على غيره، ولذلك إذا لم يكن ثم خلاف بين الصحابة فقوله حجة بشرطه كما سيأتي.

إذًا قوله: "أَمر" أو "نَهى" نقول: الصواب أنه للنبي -صلى الله عليه وسلم-.

(5) (ثم أُمرنا، أو نُهينا؛ لعدم تَعَيُّن الآمر، ومثله: من السنّة):

(ثم أُمرنا أو نُهينا): هناك "أمر"، وهنا "أُمرنا" أو "نُهينا" نقول: هذا أيضا يحتمل أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أن يكون "أُمرنا" أو "نُهينا" الآمر هو أبو بكر أو عمر -رضي الله عنهما-، فحينئذ لوجود هذا الاحتمال ولوجود الواسطة وعدم المباشرة نزلت مرتبة رابعة.

(لعدم تعيين الآمر): من هو الآمر؟

قالوا: يحتمل، ومحل الخلاف في غير أبي بكر -رضي الله عنه-، اختلفوا في "نُهينا" و "أُمرنا"، ومحل الخلاف في غير أبي بكر، لو قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "أُمرنا" و "نُهينا"، ليس فوق أبي بكر إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن لو قال عمر؛ فيحتمل أنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أنه الخليفة الراشد الأول؛ لأنه له ولاية، حينئذ لو "أمرهم" وقال: "أُمرنا" لكان حقا، ولو قال: "نُهينا" وقد نهى أبو بكر لكان حقا، إذًا فيه احتمال، قالوا: هذا الاحتمال من عدم تعيين الآمر نزلت درجة، ولذلك إذا تعارض حديثان -وهذا يفيد عند التعارض- حديث مُصرح بـ "سمعت" وحديث "نُهينا" أو "أُمرنا"، حينئذ تأتي هذه من المُرجحات، إذا لم يكن الجمع إلا بهذا الطريق فما صرح فيه بالسماع مقدم؛ لأنه منقول بلفظ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وللقطع بعدم الواسطة، و "أُمرنا" و "نُهينا" هذا فيه واسطة، وإن كان الأصح أنه يُحمَل على أن الآمر والناهي هو النبي -صلى الله عليه وسلم-.



وَلْيُعَطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوابِ




نَحْوُ: مِنَ السُّنَّةِ، مِنْ صَحَابِي




كَذَا: أُمِرْنَا، وَكَذَا كُنَّا نَرَى




فِي عَهْدِهِ، أَوْ عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى




(ومثله من السنة): إذا قال الصحابي: "من السنة كذا" يُحمل على سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو كان ثم احتمال آخر أنها سنة أبي بكر أو سنة عمر أو عثمان أو علي.

نقول: الأصل إذا أطلق الصحابة مثل هذه الألفاظ فإنما يعنون بها صاحبَ الشرع، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان ثم احتمال فهو احتمال لغوي؛ يعني بالنظر إلى الصيغة، لو نظرنا إلى اللفظ (أُمرنا) مبني لما لم يسم فاعله، يحتمل، لكن هذا يُقرن بفعل الصحابة، باستقراء كلامهم وباستقراء أفعالهم أنهم يطلقون هذه العبارات في غير الشارع، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم-؟

الجواب: لا، فحينئذ نقطع بكون هذه الألفاظ كلها إذا أطلقها الصحابي فمراده النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يكون حقيقة عرفية، أما إذا نظرنا إلى المباحث اللغوية وإلى كل لفظ على حدة حينئذ تأتي هذه الاحتمالات، ثم هذه الاحتمالات احتمالات عقلية، فليُثبَت أن صحابيا أطلق: "من السنة" ولم يرد بها سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو قال: "أمر النبي" وتبين أنه لم يأمر، أو "نهى" وتبين أنه لم ينه، حينئذ يختلف الحكم، أما مجرد تجويزات عقلية فلا.

(6) (ثم كنا نفعل، أو كانوا يفعلون، فإن أضيف إلى زمنه فحجة؛ لظهور إقراره عليه، وقال أبو الخطاب: (كانوا يفعلون) نقل للإجماع، خلافا لبعض الشافعية):

(ثم): المرتبة الخامسة.

(كنا نفعل): هكذا دون أن يُقيدها بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

(أو كانوا يفعلون): دون إضافة إلى زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

(فإن أضيف إلى زمنه فحجة): يعني من قال: "كنا نفعل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-"، هذا أعلى درجة، ليس فيه إشكال، أعلى درجة من قوله: "كنا نفعل" ولم يضفه إلى زمنه -صلى الله عليه وسلم-، لماذا؟

(لظهور إقراره عليه): -صلى الله عليه وسلم-، إذا قال: "كنا نفعل في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-" صار إقرارا، كما قال جابر: "كنا نعزل والقرآن ينزل"، هذا صار إقرارا من الله -عز وجل-، كذلك لو قال: "كنا نفعل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-" سواء علمنا أنه شاع فبلغ النبي أو لم يشع فيبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه إن شاع فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- لا إشكال أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقره، فإذا لم يبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان سرا -كما هو في العزل ونحوه- نقول: هذا أقرّه الله -جل وعلا- من سبع سماوات؛ لأن الزمن زمن تشريع، فحينئذ لا يُسكَت على مُنكر.

(وقال أبو الخطاب: "كانوا يفعلون"): يعني إذا قال الراوي عن الصحابي: "كانوا يفعلون".

(نقل للإجماع): لأنه لا يقول ذلك إلا ويقصد إقامة الحجة، فيُحمَل على من قولهم حجة، وهو الإجماع.

(خلافا لبعض الشافعية): وهذا يحتاج إلى نظر.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 04:17 PM
قول الصحابي في نسخ الخبر وتفسيره:

[المتن]:

[ويقبل قوله: "هذا الخبر منسوخ" عند أبي الخطاب، ويرجع إليه في تفسيره(1)].

[الشرح]:

(1) (ويقبل قوله: "هذا الخبر منسوخ" عند أبي الخطاب، ويرجع إليه في تفسيره):

(ويقبل قوله): أي قول الصحابي -رضي الله عنه-.

(هذا الخبر منسوخ عند أبي الخطاب): إذا حكم الصحابي بكون هذا الخبر منسوخا فلا إشكال، فنذهب إلى قوله، ونقول بقوله إلا إذا تبين ما هو خلافه؛ لأنه قد يسمع الناسخ ويظنه ناسخا، وقد يكون أمرا آخر حدث في آخر الزمن ولم يطلع عليه، وكم من أمور يحكم فيها ابن مسعود -رضي الله عنه- وتكون منسوخة بأدلة أخرى! يعني قولهم: (ويُقبل قول الصحابي: هذا الخبر منسوخ): إذا لم يكن ما هو آكد في الأخذ به.

(ويرجع إليه في تفسيره): إذا كان الحديث فيه إجمال وفسره الصحابي فقوله أولى الأقوال، والنظر والوقوف مع قوله أولى ما يُوقَف ويُعتَبر عند تفسير الحديث، خاصة إذا كان راوي الحديث؛ حينئذ نقول: أولى، لكن لا نتقيد به كما يظنه بعض الأحناف، ولذلك يقولون: الحجة فيما روى لا فيما رأى؛ لأنه قد يرى رأيا وتكون السنة على خلافه، لكن الأحناف كثيرا ما يتركون الحديث بسبب أن أبا هريرة أفتى بكذا، ويكون قد رواه، فنرد عليهم نقول: الحجة فيما روى لا فيما رأى، هذا رأيه، لكن إذا لم يُعارَض، إذا لم يكن غيره حينئذ يكون أولى ما يُعتَمد.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 04:19 PM
ألفاظ الرواية لغير الصحابي:

(1) قراءة الشيخ على الراوي:

[المتن]:

[ولغيره مراتب: أعلاها: قراءة الشيخ عليه في مَعْرِضِ الإخبار فيقول: «حدثني» أو «أخبرني» و«قال» و«سمعته»(1).

[الشرح]:

(1) (ولغيره مراتب: أعلاها: قراءة الشيخ عليه في مَعْرِضِ الإخبار فيقول: «حدثني» أو «أخبرني» و«قال» و«سمعته»):

(ولغيره مراتب): أي لغير الصحابة من ألفاظ الرواية مراتب أيضا.

(أعلاها: قراءة الشيخ عليه): يعني على التلميذ؛ أن يقرأ الشيخ على التلميذ، هذا أعلى المراتب وأعلى الدرجات؛ لأنه يسمع لفظ الشيخ ففيه من التثبت والتحفظ ما لا يكون في غيره؛ يعني يسمع إخراج المخارج، يسمع إلى الحركات . . إلخ من لفظ الشيخ، وهذا أولى في التثبت والتحفظ.

(في معرض الإخبار): هذا قيد؛ يعني أن يقرأ الشيخُ على التلميذ في معرض الإخبار؛ يعني لا في معرض المذاكرة؛ لأنهم كانوا يتساهلون في المذاكرة ما لا يتساهلون في الإخبار.

(فيقول): التلميذ إذا قرأ عليه الشيخ.

(حدثني): إذا كان وحده، أو "حدثنا" إذا كان معه غيره.

(أو "أخبرني" و "قال" و "سمعته").

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 04:22 PM
تابع ألفاظ الرواية لغير الصحابي:

(2) القراءة على الشيخ:

[المتن]:

[ثم قراءته على الشيخ. فيقول الشيخ: نعم، أو يسكت، خلافا لبعض الظاهرية، فيقول: «أخبرنا» أو «حدثنا» قراءةً عليه، لا بدونه، في رواية(1)].

[الشرح]:

(1) (ثم قراءته على الشيخ، فيقول الشيخ: نعم، أو يسكت، خلافا لبعض الظاهرية، فيقول: «أخبرنا» أو «حدثنا» قراءة عليه، لا بدونه في رواية):

المرتبة الثانية: (ثم قراءته على الشيخ): الطالب يقرأ على الشيخ، وهذا يسمى بالعرض عند أهل الحديث.

(فيقول الشيخ: نعم): يعني يؤيد هذه القراءة.

(أو يسكت): ويكون سكوته حينئذ رضا بما قرأ الطالب، وليس ثم خطأ.

(خلافا لبعض الظاهرية): لأنهم قالوا: لا بد أن ينطق الشيخ بصحة ما قُرئ عليه، فسكوته ليس بدليل على الرضا.

(فيقول): الطالب إذا قرأ على الشيخ.

(أخبرنا، أو حدثنا، قراءة عليه): يعني ليس كالأول، الأول يقول: "أخبرنا"، "حدثنا"، "قال"، "سمعت"، والثاني هنا يقول:
"حدثنا"، "أخبرنا قراءة عليه"؛ يعني يقول: "أخبرنا قراءة عليه"، و "حدثنا قراءة عليه"، والظاهر من كلام المصنف أن القيد لـ "أخبرنا" و "حدثنا" بكلمتين، وهو رواية عن الإمام أحمد.

(لا بدونه في رواية): "بدونه" الضمير يعود على القيد، وهو قراءته عليه؛ يعني لا يُطلق فيقول: "أخبرنا" "حدثنا"، فحينئذ يكون كذبا؛ لأنه اصطُلح على أن "أخبرنا" و "حدثنا" فيما إذا قرأ الشيخ على الطالب، وإذا قرأ الطالب على الشيخ فقال: "أخبرنا" ولم يزد قراءة عليه يكون فيه لبس، وفيه كذب.

(لا بدونه): لأنه يوهِم السماع من لفظ الشيخ، وهذا كذب في الرواية فلا يجوز.

(في رواية): أي رواية عن الإمام أحمد أنه لا بد من القيد؛ أنه يقول: "أخبرنا" أو "حدثنا" لا بدونه في رواية، وفي رواية أخرى أنه يجوز أن يقول: "أخبرنا" و "حدثنا" بدون قيد، وفي رواية ثالثة وقول آخر الفرق بين "حدثنا" و "أخبرنا"؛ فيجوز في "أخبرنا"، ولا يجوز في "حدثنا"، على كل حال هذه اصطلاحات ذهبت وماتت.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 04:23 PM
حكم إبدال قول الشيخ "حدثنا" بـ "أخبرنا" وعكسه:

[المتن]:

[وليس له إبدال إحدى لفظتي الشيخ: "حدثنا"، أو "أخبرنا" بالأخرى، في رواية(1)].

[الشرح]:

(1) (وليس له إبدال إحدى لفظتي الشيخ: حدثنا، أو أخبرنا بالأخرى في رواية):

هذا إن عُلم أنه يُفرق؛ لأن ثَم من يفرق بين "أخبرنا" و "حدثنا"، فإذا كان الشيخ يفرق بين "أخبرنا" و "حدثنا"؛ فإذا قال: "أخبرنا" لا يجوز للطالب أن يرويه بـ "حدثنا"، وإذا قال: "حدثنا" لا يجوز أن يرويه بـ "أخبرنا"؛ لأن الشيخ يفرق بين الثنتين، هذا في رواية، والرواية الأخرى الجواز.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 04:25 PM
تابع ألفاظ الرواية لغير الصحابي:

(3) الإجازة:

[المتن]:

[ثم الإجازة، فيقول: أجزت لك رواية الكتاب الفلاني، أو مسموعاتي(1)].

[الشرح]:

(1) (ثم الإجازة، فيقول: أجزت لك رواية الكتاب الفلاني، أو مسموعاتي):

(ثم): المرتبة الثالثة من مراتب تحمل حديث.

(الإجازة): أن يأذن الشيخ بالرواية عنه.

(فيقول): وهذه صفة الإجازة، يقول للطالب:

(أجزت لك رواية الكتاب الفلاني): وهذا تعيين، إذًا تكون الإجازة مُعينة، فلا بد أن تكون مُعينة، أو تكون عامة.

(أو مسموعاتِي): إذًا الإجازة يشترط فيها أن تكون بمعين، وأن تكون عامة، فإذا قال: "أجزتك أن تروي عني بعض مسموعاتي" لا تصح؛ لأنها مجهولة.

ويشترط في الإجازة أن تكون بمعين، وبعضهم يقول: لمعين، فلو قال: أجزت لأهل الأرض، بعضهم لا يجوز ذلك، وإن كان توسعوا في الإجازة توسعا غريبا.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 06:03 PM
تابع ألفاظ الرواية لغير الصحابي:

(4) المناولة والوجادة:

[المتن]:

[والمناولة، فيناوله كتابا، ويقول: "اروه عني"، فيقول: "أنبأنا"، وإن قال: "أخبرنا"؛ فلا بدّ من إجازة أو مناولة(1)، وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف منع الرواية بهما(2)، ولا يُجيز الرواية "هذا الكتاب سماعي" بدون إذنه فيها، ولا وجوده بخطه، بل يقول: "وجدت كذا"(3)، ومتى وجد سماعه بخط يوثق به وغلب على ظنه رواه وإن لم يذكره خلافا لأبي حنيفة، وإن شك فلا(4)].

[الشرح]:

(1) (والمناولة، فيناوله كتابا، ويقول: اروه عني، فيقول: أنبأنا، وإن قال: أخبرنا؛ فلا بدّ من إجازة أو مناولة):

(والمناولة): وهذا نوع من الإجازة.

(فيناوله كتابا): هي نوع من الإجازة، الأولى؛ يقول: "أجزت لك الكتاب، تروي عني كتابي"، فتذهب السوق وتأخذ منه كتابا وترويه عن الشيخ، وهذه يناوله نفس الأصل الذي عند الشيخ، الشيخ يكون قد ضبط أصلا ما كصحيح البخاري يقول: "ارو عني هذا الكتاب"، هذه مناولة، هي آكد من الأولى، هي نوع من الإجازة لكنها أعلى؛ لأنها أضبط.

(ويقول: اروه عني): وهذا إذن في الرواية، لا بد من الإذن، فلو أعطاه الكتاب وسكت ما صحت، لا بد أن يقول له: "ارو عني هذا الكتاب"، "اروه عني".

(فيقول): إذا أراد أن يُبلغ ويروي الطالب.

(أنبأنا): فإذا قال "أنبأنا" نفهم أنها مناولة، تفريق دقيق.

(وإن قال: أخبرنا): له أن يقول: "أخبرنا" لكن.

(فلا بد من): زيادة قيد أخبرنا:

(إجازة أو مناولة): يقيد كما هنا قال: "أخبرنا" أو "حدثنا قراءة عليه"، هنا وإن قال: "أخبرنا الطالب" بدلا من "أنبأنا" والموقع والمحل هنا موقع أو محل مناولة فلا بد مِن إجازةً، هكذا تضبطها، "من": حرف جر, و "إجازةً" قصد لفظه، "أخبرنا إجازةً"، "حدثنا إجازةً".

(فلا بد مِن إجازةً أو مناولةً): يعني بالنصب فيهما، لا تقل: "من إجازةٍ"؛ لأن المقام مقام "اروه عني" وحصل إذن، حينئذ إن قال: "أخبرنا" فلا بد أن تزيد قيد، وهو إجازة أو مناولة.

(2) (وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف منع الرواية بهما):

يعني بالإجازة والمناولة، وهذا عند المتأخرين، وأكثر من ينسب إلى المتقدمين من أبي حنيفة وغيره أن المنع محمول على غير العالم بما في الكتاب، أما العالم فيجوز له الرواية؛ لأن البعض توسعوا إلى زماننا هذا، قد يُعطي من لم يُعرَف بعلم إجازة، "اروِ عني كتبي" أو "اروِ عني كذا"، والأولى أن تكون الإجازة لعالم بما في الكتاب، والمنع من الإجازة والمناولة هنا محمول عند أبي حنيفة لمن لم يكن عالما بالكتاب، فإن كان عالما فلا إشكال؛ لأن الإجازة ما أُعطيت إلا من أجل اكتساب الوقت واختصار الوقت كما هو معلوم.

(3) (ولا يُجيز الرواية هذا الكتاب سماعي بدون إذنه فيها ، ولا وجوده بخطه، بل يقول: وجدت كذا):

(ولا يُجيز الرواية هذا الكتاب سماعي بدون إذنه فيها): هذه النسخة بهذا التركيب لا إشكال، وفي الحاشية يقول: (ولا تجوز الرواية بقوله "خذ هذا الكتاب" أو "هو سماعي" بدون إذنه فيهما): يعني لو قال له: "خذ هذا الكتاب" أو قال: "هذه مسموعاتي" ولم يأذن له بالرواية هل يجوز له أن يرويها إجازة أو مناولة؟ لا يجوز، هذا مراده.

(ولا يجيز الرواية): هذا التركيب لا بأس به، هم يقولون: فيه خلط.

(ولا يُجير الرواية "هذا الكتاب سماعي" بدون إذنه فيها): لأن جواز الرواية مستفاد من الإذن فيها، وهو معدوم هنا، إذًا إذا قال الشيخ للتلميذ: "هذا كتابي"، "هذا سماعي"، إن قال: "اروه عني"، صح أن يرويه، إن لم يقل فالمنع؛ لأنه مجرد خبر، والإجازة والمناولة لا بد لها من الإذن، وليس عندنا إذن هنا.

(ولا وجوده بخطه): يعني لو وجد الشيء بخط شيخه فإنه لا يرويه عنه ولو كان شيخه، إلا إذا أخذ إجازة عامة مطلقة؛ حينئذ يصح أن يرويها عنه، أما هكذا لا يجوز.

(بل يقول: وجدت كذا): ما يسمى بالوجادة عند أهل الحديث، "وجدت بخط فلان كذا وكذا".

(4) (ومتى وجد سماعه بخط يوثق به، وغلب على ظنه رواه وإن لم يذكره، خلافا لأبي حنيفة، وإن شك فلا):

(ومتى وجد سماعه): يعني التلميذ من شيخه.

(بخط يُوثق به، وغلب على ظنه): أنه سمعه من الشيخ.

(وغلب على ظنه): لا يشترط في الإجازة هنا اليقين، بل متى ما غلب على ظنه وجد السماع، كانوا قديما يكتبون في آخر المجلس الأسماء، لو وجده بخط يوثق فيه وظن في نفسه أنه سمع هذا الكتاب أو هذه الأحاديث من شيخه.

(رواه): يعني جاز له أن يرويه.

(وإن لم يذكره): الضمير يعود إلى: (ومتى وجد السماع)؛ يعني جاز له أن يرويه اعتمادا على الخط وإن كان ناسيا للسماع؛ لأن مبنى الرواية على غلبة الظن، وقد وُجد.

(خلافا لأبي حنيفة): -رحمه الله تعالى-؛ حيث قال: لا يجوز ذلك؛ قياسا على الشهادة، وفرْقٌ بين الشهادة والرواية كما هو معلوم عند أهل الحديث.

(وإن شك فلا): هنا غلب على ظنه، وهنا شك؛ استواء الأمرين، استواء الطرفين، إن شك في سماع الحديث من شيخه فلا يروه عنه.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 06:05 PM
إذا أنكر الشيخ الحديث فهل تقبل رواية الفرع؟

[المتن]:

[فإن أنكر الشيخ الحديث، وقال: لا أذكره، لم يقدح، ومنع الكَرْخِيُّ منه(1)].

[الشرح]:

(1) (فإن أنكر الشيخ الحديث، وقال: لا أذكره، لم يقدح، ومنع الكَرْخِيُّ منه):

(فإن أنكر الشيخ الحديث): بدون جزم، بهذا القيد "بدون جزم"؛ يعني لم يقل: كذب عليه، أو "لم أروه"، شك.

(وقال: لا أذكره): أو "لا أستحضره"، أو "نسيته"، أو "لا أعرفه" قُبل الحديث.

(لم يقدح): في الفرع، الذي هو التلميذ؛ لأنه عدل، وأخبر، وطروء النسيان على الشيخ لا يمنع من قبول الحديث، ولذلك ألّف السيوطي رسالة كاملة (المؤتسي فيمن حدث ونسي)، يُحدث وينسى، لا بأس، يحدُث هذا حتى في الأمور العادية، فعلى كل يقبل الحديث هنا، ولم يقدح في الفرع؛ لأن الراوي عدل جازم بالرواية، فإن جزم الشيخ بأن كذّب الراوي رُد الحديث لكذب أحدهما دون تعيين، إذا جزم وكذّب الراوي في الإنكار نقول: رُد الحديث ولا يُقبل، ولا يطعن لا في الأصل ولا في الفرع.

(ومنع الكرخي منه): الضمير يعود على أي شيء؟ (فإن أنكر الشيخ الحديث بدون جزم، وقال: لا أذكره لم يقدح، ومنع الكرخي منه): قال: يقدح؛ لأن الفرع تبع للأصل، فإذا طُعن من جهة الأصل لا بد وأن يستلزم الطعن في الفرع؛ يعني إذا قال الشيخ: نسيت فلا بد أن يُطعَن في رواية الفرع.

وليس هذا بصحيح، بل أكثر أهل الحديث على أنه لا يطعن في الحديث.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 06:09 PM
زيادة الثقة:

[المتن]:

[ولو زاد ثقة فيه لفظا أو معنى قبلت(1)، فإن اتحد المجلس؛ فالأكثر: عند أبي الخطاب(2)، والمُثْبِتُ: مع التساوي في العدد والحفظ والضبط(3)، وقال القاضي: روايتان(4)].

[الشرح]:

(1) (ولو زاد ثقة فيه لفظا أو معنى قبلت):

هذا ما يُعنوَن له بالزيادة في زيادة ثقة.

(ولو زاد ثقة): هذا شرط، فلو لم يكن ثقة لا تُقبَل زيادته.

(لفظا أو معنى): يعني زاد في الحديث كلمة، هذه الكلمة قد لا تؤثر من جهة المعنى، لا تؤثر في الحكم، أو زاد كلمة تؤثر في
الحكم؛ بأن تكون أعم من تلك الكلمة التي في الحديث الآخر، هذا مراده لفظا أو معنى؛ يعني قد يزيد الراوي كلمة فلا تؤثر في الحكم، وقد يزيد كلمة فتؤثر في الحكم؛ كأن تكون الكلمة التي أبدلها تكون خاصة، وهذه عامة، إذًا زادت الأفراد.

(قُبلت): مطلقا، وهذا منهج أكثر الأصوليين وأكثر المتأخرين من أهل الحديث، والأصح أنه يُفصَّل في كل حديث على حدة؛ يعني لا يُعطَى قاعدة عامة لكل حديث؛ أنه إذا زيدت فيه زيادة بأنها تُقبَل.

(2) (فإن اتحد المجلس، فالأكثر: عند أبي الخطاب):

(فإن اتحد المجلس): مجلس الحديث.

(فالأكثر عند أبي الخطاب): يعني أكثر الرواة زادوا هذه اللفظة قُبلت، وإن كان أكثر الرواة لم يرووا هذه اللفظة رُدت، العبرة بالأكثرية عند أبي الخطاب.

(3) (والمُثْبِتُ مع التساوي في العدد والحفظ والضبط):

(والمثبت): للزيادة.

(مع التساوي في العدد والحفظ والضبط): إذا كان اتحد المجلس وكانت العبرة بالأكثر وتساووا في العدد، وليس عندنا أكثرية، وتساووا في الضبط والحفظ، قالوا: المُثبت للزيادة مُقدَّم؛ لأن معه زيادة علم، والنافي هذا ناقص.

(4) (وقال القاضي: روايتان):

(وقال القاضي): أبو يعلى.

(روايتان): عن الإمام أحمد؛ الأولى: يُقدَّم المُثبِت؛ لأن معه زيادة علم، والثانية: يُقدَّم النافي؛ لأن الأصل عدم الزيادة.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 06:11 PM
الرواية بالمعنى:

[المتن]:

[ولا يتعين لفظه، بل يجوز بالمعنى لعالم بمقتضيات الألفاظ عند الجمهور، فيبدل اللفظ بمرادفه، لا بغيره. ومنع منه بعض المحدثين مطلقا(1)].

[الشرح]:

(1) (ولا يتعين لفظه، بل يجوز بالمعنى لعالم بمقتضيات الألفاظ عند الجمهور، فيبدل اللفظ بمرادفه، لا بغيره. ومنع منه بعض المحدثين مطلقا):

(ولا يتعين لفظه، بل يجوز بالمعنى): هل يجوز رواية الحديث بالمعنى؟

جمهور السلف على أنه يجوز، لكن يُشترط في أنه غير المُتعبَد به، يعني لا يأتي يروي حديث "التحيات" بالمعنى، أو "الأذان"، أو "الإقامة"، لا، لا يقبل هذا، بل تبقى على أصلها، إنما تكون فيما يُستنبَط من أحكام، لكن ليس على إطلاقه، قيّده، هنا قال:

(لعالم): هذا الذي يجوز، أما عدا العالم فلا يجوز، حينئذ تأتي أهمية اللغة للمُشتغل بالحديث إذا أراد أن يروي بالمعنى.

(لعالم بمقتضيات الألفاظ عند الجمهور): مقتضيات الألفاظ يعني أن يعرف هذا عام، هذا خاص، هذا مُطلق، هذا مُقيَد.

(فيبدل اللفظ بمرادفه، لا بغيره): يأتي إلى لفظ فيرويه بمرادفه؛ بحيث لا يزيد معنى ولا يُنقص معنى، والأمر ليس بالسهل؛ أن يأتي بلفظ يُرادِف الحديث، ثم هذا اللفظ الذي أتى به لا يزيد معنى على الحديث ولا يُنقص، هذا يحتاج إلى أن يكون موسوعة، وخاصة في فقه اللغة؛ يعني العلم بما وُضعت له الألفاظ، "جعل اللفظ دليلا على المعنى"، هذا هو الوضع، هذا عند الجمهور كما ذكر.

(بمرادفه لا بغيره): لأنه لو غيَّره أو أبدله بغيره لا بد وأن يزيد أو يُنقص في المعنى، لا بد، شاء أو أبى، كل من أبدل لفظا نبويا بلفظ غير مرادف فلا بد أن يُنقص أو يزيد؛ لأن اللغة إما أن تكون ألفاظ مترادفة أو لا، إن لم تكن مترادفة لا بد من التفاوت في المعاني، وإذا كانت مترادفة فلا بد من التساوي في المعاني، وإنما يكون التغاير في الألفاظ.

(ومنع منه بعض المحدثين مطلقا): سواء كان عالما بمقتضيات الألفاظ أو لا، ولكن الأكثر على الأول.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 06:19 PM
مرسل الصحابي:

[المتن]:

[ومراسيل الصحابة مقبولة(1)، وقيل: إن عُلِمَ أنه لا يروي إلا عن صحابي(2)].

[الشرح]:

(1) (ومراسيل الصحابة مقبولة):

مراسيل: جمع مُرسَل، وهو مأخوذ من الإرسال، وهو الإطلاق، وهو ما أخبر به الصحابي عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أو فعله ولم يسمعه أو يشاهده، بخلاف المُرسَل عند غير الصحابي.



الْمُرْسَلُ الْمَرْفُوعُ بِالتَّابِـعِ أَوْ
أشهرها الأول .............



ذِي كِبَرٍ أَوْ سَقْطُ رَاوٍ قَدْ حَكَوْا
.............................




(ومراسيل الصحابة مقبولة): لأنهم عدول، معلوم أن الصحابي إذا روى قولا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يسمعه، أو روى فعلا عن النبي ولم يره؛ لا بد وأن يكون أخذه عن صحابي آخر، فحينئذ يكون الواسطة المجهولة بين الصحابي وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابي آخر، وإذا حكمنا بأنهم عدول كلهم؛ إذًا لا نبحث، نقول: "جهالة الصحابي لا تضر"، "ومراسيل الصحابة مقبولة"، وهذا عليه أئمة الحديث؛ لأنه موصول مرسل.


وَمُرْسَلُ الصَّاحِبِ وَصْلٌ فِي الأَصَحْ


هكذا قال السيوطي؛ لأن حقيقته أنه رواه عن صحابي آخر.

(2) (وقيل: إن عُلِمَ أنه لا يروي إلا عن صحابي):

(وقيل: إن عُلِمَ أنه لا يروي): عائشة -رضي الله عنها- تقول: كان أول ما بُدئ به الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا الصالحة، هذا متى؟

قبل أن تُولد عائشة -رضي الله عنها-، إذًا لا بد أنها أخذته إما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم تذكره، وإما عن صحابي آخر.

(وقيل إن عُلِمَ أنه): أي الصحابي.

(لا يروي إلا عن صحابي): نقول: كلهم هكذا، هذا الشرط متحقق في الجميع، ووجود بعض الصحابة يروي عن بعض التابعين؛ هذا موجود، لكنه ليس في الأحاديث، وإنما في الإسرائيليات وما على شاكلتها.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 06:22 PM
مرسل غير الصحابي:

[المتن]:

[وفي مراسيل غيرهم روايتان: القبول، كمذهب أبي حنيفة وجماعة من المتكلمين، اختارها القاضي، والمنع، وهو قول الشافعي، وبعض المحدثين، والظاهرية(1)].

[الشرح]:

(1) (وفي مراسيل غيرهم روايتان: القبول، كمذهب أبي حنيفة وجماعة من المتكلمين، اختارها القاضي والمنع، وهو قول الشافعي، وبعض المحدثين، والظاهرية):

(وفي مراسيل غيرهم روايتان): يعني هل يُقبَل مُرسَل غير الصحابي؟

والمشهور أنه مرفوع التابعي مطلقا سواء كان كبيرا أو صغيرا.


الْمُرْسَلُ الْمَرْفُوعُ بِالتَّابِـعِ، أَو ذِي كِبَرٍ أَوْ سَقْطُ رَاوٍ قَدْ حَكَوْا
أَشْـهَرُهَا الأَوَّلُ، ثُمَّ الْحُجَّـة بِــهِ رَأَى الأَئِمـَّةُ الثَّـلاثَـةُ
وَرَدُّهُ الأَقْوَى ............... ..............................


لأنه سقط راوٍ ليس بصحابي، إذًا لا نعلم هذه الواسطة، لا بد من ثبوت العدالة، وسقط صاحبها، فحينئذ لا بد من التوقف، ولا نحكم بصحة الحديث.

(وفي مراسيل غيرهم روايتان): يعني عن الإمام أحمد.

(القبول): يعني قبول مرسل غير الصحابي؛ لأن العدل لا يحذف الواسطة مع الجزم بالخبر إلا وهو عالم بأن الواسطة ثقة، لا يحذف هذه الواسطة إلا وقد ضمن لنا أنه ثقة، فحينئذ أسقطه، لكن نقول: الصواب: القول الثاني.

(وفي مراسيل غيرهم روايتان: القبول كمذهب أبي حنيفة وجماعة من المتكلمين، اختارها القاضي، والمنع للجهل بالساقط):
"ورده الأقوى" هكذا قال السيوطي.

(للجهل بالساقط): وهو قول الشافعي وبعض المحدثين والظاهرية، وإن كان الشافعي له شروط فيها معلومة.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 06:26 PM
خبر الواحد فيما تعم به البلوى:

[المتن]:

[وخبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول، خلافا لأكثر الحنفية(1)].

[الشرح]:

(1) (وخبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول، خلافا لأكثر الحنفية):

قعّدنا قاعدة قبل ذلك: أن خبر الواحد دلت الأدلة الشرعية على قبوله، وعلى أنه إذا لم يقع اختلاف في رده وقبوله فيُفيد العلم، حينئذ نقول: ما أثبت حُجية خبر الواحد -وهو الأدلة الشرعية وإجماع الصحابة- هل فرقت بين خبر وخبر؟

إذا كان في الحدود لا يُقبَل، إذا كان مخالفًا للقياس لا يُقبَل، إذا كانت تعم به البلوى لا يُقبَل، نقول: هذه التفصيلات -كل ما استفصل أو فُصل في أخبار الآحاد- فهو مبني على اجتهاد أو قياس أو رأي، فحينئذ كل ما سيذكره المصنف نقول: مبناه الاجتهاد والرأي والنظر.

وإذا ثبت أصل المسألة بدليل شرعي فحينئذ نقول: لا اجتهاد ولا نظر ولا قياس؛ لأن الأدلة عامة، حُجية خبر الواحد ثبتت بالشرع، والأدلة عامة مطلقة لم تُقيد ولم يستفصل الصحابة، بل حملوا جميع أخبار الآحاد على الحجية، واحتجوا على بعضهم لبعض بهذه الآحاد حينئذ نقول: أي تفصيل فهو مردود أيًا كان قائله.

(وخبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبولٌ خلافا لأكثر الحنفية) أي المتأخرين.

(وخبر الواحد): يعني حديث خبر الواحد.

(فيما تعم به البلوى): يعني ما يكثر وقوعه في الناس، بعضهم يرى أكثر المتأخرين إذا كانت تعم البلوى بالحكم الشرعي ويحتاجه أكثر الناس قالوا: هنا لا يُقبل خبر الواحد؛ لأنه مظنون، لا بد أن تكون الدواعي قد وُجدت لنقله والسؤال عنه بكثرة، وهذا أمر غريب؛ لأن أشد ما يحتاجه الناس وتكثر فيه الدعوى: التوحيد، ومع ذلك بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذا؛ واحدا «إنك تأتي قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله»، ثم قال: «فإن أجابوك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صلوات ثم الصدقة»، وهذه مما تعم به البلوى أو لا؟

هذا أولى من الوضوء، وأولى من الغسل، وأولى من السواك ونحوها، فإذا قُبل خبر الواحد وقد بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- واحدا وهذا فعله وهو حجة، نحتج بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث واحدًا، إذًا لو لم يكن معاذ حجة على من يبلغه هذا الخبر لما بعث النبي معاذا واحدا، لبعث له عشرة حتى يحصل التواتر أو عشرين، حينئذ نقول: ما تعم به البلوى، وهو ما يكثر وقوعه عند الناس أكثره أصول الدين، وقد حصل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث الآحاد إلى القبائل يخبرون بأمور تتعلق بالعقيدة، وهي آكد ما يكون على الناس، وخبر الواحد فيما تعم به البلوى؛ كرفع اليدين في الصلاة، هكذا مثّل المُحشِّي؛ كرفع اليدين في الصلاة ونقض الوضوء بمس الذكر ونحوه حُجة، من خالف أن ما تعم به البلوى تتوفر الدواعي على نقله فيشتهر عادة، إذا كثر السؤال عنه من الناس فلا بد وأن يشتهر، نقول: عائشة -رضي الله عنها- حصل خلاف بين الصحابة فيمن جامع ولم يُنزِل هل يجب عليه الغسل أو لا؟ هذا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا مما تعم به البلوى، فقالت: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل"، ماذا نقول في هذا؟ نرده لأنه تعم به البلوى؟ فلو كان حديثا صحيحا لاشتهر واشتهر عند الناس وروته عائشة وأم سلمة .. إلخ، نقول: لا يُقبَل، ولو كان مما تعم به البلوى، فوروده غير مشتهر دليل بطلانه هكذا يقول بعض الأحناف.

والجواب: لنا قبول السلف من الصحابة وغيرهم خبر الواحد مطلقا، ولهم اعتراضات أخرى.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 06:27 PM
خبر الواحد في إثبات الحدود وما تسقط به الشبهة:

[المتن]:

[وفي الحدود وما يسقط بالشبهة خلافا للكرخي(1)].

[الشرح]:

(1) (وفي الحدود وما يسقط بالشبهة خلافا للكرخي):

يعني إذا جاء خبر الواحد يُثبت حدًا أو ما تسقط به الشبهة والحدود؛ أيضا نقول: هذا يُقبَل؛ لأن الحدود أيضا تثبت بغلبة الظن، وكل هذه المسألة مبناها أن خبر الواحد يفيد الظن، هذه هي المصيبة عندهم؛ خبر الواحد يفيد الظن، فحينئذ لا بد أن يكون القاطع الذي يُقطَع به لا يثبت بمثل هذا، لا بد أن يثبت بمقطوع ولا يثبت بمظنون، ولذلك علل الكرخي هنا؛ لأنه مظنون غير مقطوع بصحته.

لماذا لا نقبل خبر الواحد في الحدود؟

نقول: لأنه مظنون غير مقطوع بصحته، فصار شبهة فيه، فلا يثبت به الحد، خبر الواحد صار شبهة.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 06:29 PM
خبر الواحد المخالف للقياس:

[المتن]:

[وفيما يخالف القياس، وحكي عن مالك تقديم القياس(1)].

[الشرح]:

(1) (وفيما يخالف القياس، وحكي عن مالك تقديم القياس):

(وفيما يُخالف القياس): يعني خبر الواحد مقبول فيما يُخالف القياس؛ يعني يقدم على القياس، والصحيح أنه ليس في الشرع مسألة تُخالف القياس؛ بل الشرع كله -سواء في الأصول وما استثناه الشرع- موافق للقياس، رد ابن القيم هذا في (إعلام الموقعين) بكلام طويل أنه لا يوجد؛ لأنه يأتي بعض الفقهاء يقول لك: العرايا على خلاف القياس، كيف على خلاف القياس؟

الأصل أنها ربا، نقول: لا، هي على وفق القياس الأصل والفرع كلاهما على وفق القياس، وليس عندنا في الشريعة ما هو على خلاف في القياس.

(وحُكي عن مالك تقديم القياس): على خبر الواحد، والشيخ الأمين -رحمه الله تعالى- يقول: "هذا لا يثبت عن مالك، مالك أجلّ من أن يُقدِّم القياس على خبر الواحد".

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-14, 06:30 PM
خبر الواحد المخالف للأصول:

[المتن]:

[وقال أبو حنيفة: ليس بحجة إن خالف الأصول أو معناها(1)].

[الشرح]:

(1) (وقال أبو حنيفة: ليس بحجة إن خالف الأصول أو معناها):

والمقصود بالأصول هنا الكتاب والسنة والإجماع، أو معناها القياس.

والحاصل أن خبر الواحد يُقبَل مطلقا بلا تفصيل، متى ما صح السند إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو مقبول سواء كان فيما تعم به البلوى، كان في العقيدة، كان في الغيبيات، كان في أشراط الساعة، كان في أحكام النكاح، مطلقا بلا تفصيل؛ لأن الصحابة قبلوا خبر الواحد بلا تفصيل، والأدلة الدالة على شرعيته بأنه حجة أثبتته بلا تفصيل.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-16, 06:39 PM
تعريف النسخ:

[المتن]:

[النسخ(1)، ثم الذي يرفع الحكم بعد ثبوته: (النسخ) (2)، وأصله: الإزالة(3)، وهو: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخٍ عنه(4)، والرفع: إزالة الشيء على وجه لولاه لبقيَ ثابتا، ليخرج زوال الحكم بخروج وقته(5)، والثابت بخطاب متقدم: ليخرج الثابت بالأصالة(6)، وبخطاب متأخر: ليخرج زواله بزوال التكليف(7)، ومتراخ عنه: ليخرج البيان(8)، وقيل: هو كشف مدة العبادة بخطاب ثانٍ(9)، والمعتزلة قالوا: الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص زائل على وجه لولاه لكان ثابتا. وهو خالٍ من الرفع الذي هو حقيقة النسخ(10)].

[الشرح]:

(1) (النسخ):

ذكرنا الأبواب التي تثبت الأحكام الشرعية من إيجاب، وتحريم، وندب، وكراهة، وإباحة.

ثم هل هذا الحكم يحتمل الرفع أو لا؟ هل يقبل التغيير؛ فيكون مباحا ثم يصير محرما؟ أو يكون محرما ثم تأتي الإباحة؟ أو يكون إيجابا ثم يُباح .. إلخ؟

(2) (ثم الذي يرفع الحكم بعد ثبوته: "النسخ"):

إذًا يمكن أن يُثبَت الحكم أولا، ثم بعد ذلك يُرفَع، ولكنه قليل بالنسبة للأحكام الشرعية، الأكثر فيها أنها ثابتة مستقرة، ما نُزِّلت الشريعة إلا من أجل أن تستقر وتكون ثابتة تامة من جهة الأحكام الشرعية، ولكن قد يعلّق الرب -جل وعلا- حكما على مصلحةٍ ما، ثم تزول المصلحة فيزول معها الحكم، فهنا يأتي النسخ.

(ثم الذي يرفع الحكم بعد ثبوته النسخُ): النسخ: فاعل يرفع الحكم؛ يرفع النسخُ الحكم، والنسخ له معنيان: لغوي واصطلاحي.

(3) (وأصله: الإزالة):

أما معناه في اللغة فقال -رحمه الله-:

(وأصله الإزالة): أصله من جهة اللغة: الإزالة، وهو الرفع حقيقة كما أخذه في حده الاصطلاحي، ولذلك يُقال: "نسخت الشمسُ الظل"؛ بمعنى أزالته، و "نسخت الريحُ آثار القوم"؛ بمعنى أزالتها.

ويُطلق أيضا على النقل، ولكن هل إطلاقه على النقل حقيقة أو مجاز؟

فيه نزاع، والمشهور في المذهب -عند الحنابلة- أنه مجاز.

يعني يُطلق النسخ مرادا به النقل، ولكن النقل يكون على مرتبتين:

* إما مع بقاء الأصل.

* وإما مع زوال الأصل.

يعني إما أن يبقى الأول؛ كنسخ الكتاب، تقول: "نسخت الكتاب"، ولم يزُل كله، بل هو باقٍ على أصله، وكذلك يُقال: "المناسخات في المواريث"، هذه نقلت الحكم، ولكن الأصل باق وهو المواريث.

إذًا النقل يكون مع إزالة الأصل، ومع عدم إزالة الأصل؛ يعني يكون الأصل باقيا على نفسه.

وهل إطلاقه على الأول حقيقة والثاني مجاز؟ أو بالعكس؟

هذا فيه نزاع بينهم.

(4) (وهو: رفع الحكم الثابت بخطابٍ متقدمٍ بخطابٍ متراخٍ عنه):

(وهو): أي النسخ في الاصطلاح، وهو الذي يعنينا.

(رفع الحكم الثابت بخطابٍ متقدمٍ بخطابٍ متراخٍ عنه): إذًا هما خطابان، وعليه لا بد أن يكون الناسخ والمنسوخ سمعيين؛ لأنه قال: (رفع الحكم)، وسيأتي تفسير الرفع بأنه تغييره من إيجاب إلى إباحة أو العكس.

(رفع الحكم الثابت): المراد بالحكم الثابت هنا المنسوخ؛ الحكم الذي نُسخ.

(بخطاب متقدم): يعني يكون هذا الحكم ثابتا بخطاب متقدم، لم يثبت بالبراءة الأصلية، وإنما ثبت بشرع، فإذا كان الحكم الأول -الذي نُسخ- حكما شرعيا، وقد ثبت بخطاب شرعي، وحصل الرفع بخطاب، بخطاب هذا متعلق بقوله: (رفع).

(بخطاب متراخ عنه): يعني عن الحكم، فحينئذ عندنا خطابان:

الخطاب الأول: أثبت حكما شرعيا، وجاء بعده خطاب آخر متراخ عنه -لا بد أن يكون منفصلا، ولا يصح أن يكون متصلا- يكون الثاني رافعا للأول، هذا في جملة ما ذكره، وسيأتي أنه يفسّر الحد كلمة كلمة.

(رفع): هنا عبَّر بالرفع؛ لأن النسخ مصدر، والرفع مصدر، بعضهم عبَّر بالخطاب قال: النسخ هو الخطاب الدال كما سيأتي عن المعتزلة.

وليس بصحيح؛ لأن الرفع هو النسخ، فحينئذ يطابق الحدُ المحدودَ لفظا ومعنى، وأما إذا قيل: الخطاب هو عين الخطاب صار تعريفا للناسخ، وليس للنسخ، وفرقٌ بين الناسخ والنسخ، فعندنا منسوخ، وناسخ، ونسخ، ونريد أن نعرف حقيقة النسخ، ما هو النسخ؟

هو عين الرفع، وأما الذي يُرفَع به فهذا الناسخ، والذي يكون مرفوعا هذا هو المنسوخ، وبحثنا في النسخ لا في الناسخ ولا في المنسوخ.

(رفع): إذًا عبَّر بالمصدر ليطابق الحدُ المحدودَ لفظا ومعنى.

(الثابت بخطاب): "بخطاب" الأول متعلق بقوله: "الثابت"؛ يعني الحكم الذي هو قابل للنسخ لا بد وأن يكون ثابتا بخطاب؛ يعني بشرع؛ بدليل شرعي، ولو قال: بدليل شرعي لكان أولى؛ لأن الخطاب قول، وقد يكون النسخ بالفعل؛ كما في نسخ الوضوء مما مست النار بأكل النبي من الشاة ولم يتوضأ، حصل به النسخ وهو فعل، فإذا قيل: "بخطابٍ" تعين أن يكون الناسخ قولا، وليس بلازم، ولذلك عبَّر بعضهم في حد النسخ بقوله: "رفع حكم شرعي بدليل شرعي" ليشمل القول والفعل.

(متراخٍ): ليُخرج المخصصات المتصلة كما ذكرناه سابقا في الفرق بين النسخ والتخصيص؛ أن التخصيص لا يشترط فيه الاتصال، بل قد يكون متصلا، وقد يكون منفصلا، وأما النسخ فلا بد أن يكون منفصلا، فإذا جاء متصلا بالدليل خرج عن كونه نسخا، مجرد اصطلاح وإلا الحكم قد يكون واحدًا، إلا أن النسخ رفع للجميع، هذا هو الغالب؛ يعني لجميع الحكم، وقد يكون النسخ رفعا لبعض الحكم، وأما التخصيص فلا يكون للجميع.

(متقدم): هذا الخطاب لا بد وأن يكون متقدما؛ لأنه لو كان الثاني المتراخي متصلا بالأول لصار من المخصصات.

(بخطاب متراخٍ عنه): أي الدليل عن الحكم.

(5) (والرفع: إزالة الشيء على وجه لولاه لبقيَ ثابتا، ليخرج زوال الحكم بخروج وقته):

أراد أن يبين بعض المحترزات، وهذا خروج عن عادته؛ لأنه لم يعتد أن يبين محترزات الحد، لكنه ذكرها هنا خروجا عن الأصل.

(والرفع): الرفع الذي أُخذ جنسا في حد النسخ؛ لأنه قال: (وهو رفع الحكم)، ما المراد بالرفع؟ قال:

(والرفع: إزالة الشيء): قلنا: النسخ في اللغة: هو الإزالة، إذًا حقق المعنى الغوي كما ذكرناه سابقا؛ أنه يُذكر في أول الاصطلاحات المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي؛ لبيان العلاقة بينهما؛ لأنه لا يمكن أن يكون المعنى الاصطلاحي مباينا للمعنى اللغوي من كل وجه، وإنما لا بد من الاشتراك، فيكون حينئذ المعنى اللغوي أعم من المعنى الاصطلاحي، هذا هو الغالب، لذلك النسخ في اللغة الإزالة، إزالة أي شيء؟

إزالة الماء من الكوب، إزالة الفرش من المسجد، إزالة كذا .. إلخ، ما لا يُحصى، كل ما يصح التعبير عنه بالإزالة فيصح أن يكون نسخا بالمعنى اللغوي، لكن في الشرع هنا -في الاصطلاح-: "رفع": إزالة حكم شرعي، تَقَيَّد، إذًا ليس على إطلاقه.

الرفع ما هو؟

قال: (إزالة الشيء على وجه): يعني على حال وعلى طريقة.

(لولاه): لولا تلك الإزالة، أو ذلك الرفع؛ لبقي ثابتا كما هو؛ يعني لولا إزالة ورفع الحكم بتوجه المصلي مستقبلا لبيت المقدس -لولا الرافع والناسخ- لبقي الحكم كما هو، لولا مجيء: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لبقينا نصلي إلى جهة بيت المقدس، إذًا ما المراد هنا بالإزالة؟

نقول: المراد بها تغيير الحكم من الإباحة إلى التحريم، أو العكس، أو من الإيجاب إلى الندب، أو غير ذلك، إذًا الحكم لم يبقَ على أصله، بل غُيّر، لكن بشروط يذكرها أهل الأصول.

مثّلوا له أيضا بنسخ وجوب الصدقة بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- عند المناجاة، كان واجبا ثم صار مباحا، إذًا تغير الحكم، أُزيل الحكم، رُفع الحكم ولم يبقَ على أصله، لولا قوله {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا} لبقي النص دالا على إيجاب الصدقة بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- عند المناجاة.

إذًا ما الفائدة من هذا القيد؟

قال: (ليخرج زوال الحكم بخروج وقته): إذًا رفع الحكم الثابت احترز به عن زوال الحكم بخروج وقته؛ أي انتهاء وقت الحكم، قد يكون الحكم واجبا، ثم بعد ذلك يزول ويرتفع ويتغير من إيجاب إلى إباحة، لكن لا لكون الحكم قد رُفع، وإنما لانتهاء وقته؛ كأن يكون مؤقتا بوقت معين؛ كالجمعة، الجمعة واجبة بشرطها، فلو تُعُمِّد وخرج الوقت، حينئذ نقول: ارتفع الحكم، وهو إيجاب الجمعة، لم ارتفع الحكم وهو إيجاب الجمعة؟

لأن الجمعة لا تُقضى، فحينئذ ليست بواجبة، وإنما يأثم ويصليها ظهرا.

فحينئذ عدم إيجاب الجمعة لمن أخرجها عن وقتها لا نقول: هذا رفع للحكم وهو نسخ، بل نقول: رفع للحكم، لكنه ليس بنسخ، وإنما لانتهاء وقت الحكم؛ لأن الحكم هنا مؤقت، فإذا خرج الوقت نقول: زال الحكم وارتفع.

(6) (والثابت بخطاب متقدم: ليخرج الثابت بالأصالة):

(والثابت بخطاب متقدم): هذا صفة الحكم المنسوخ، لا بد أن يكون الحكم المنسوخ ثابتا بخطاب متقدم؛ أي ورد للمكلفين متقدما؛ لأن الاعتبار باعتبار المكلفين، الحكم الأول يكون سابقا، ثم يليه الحكم الثاني، الأولية والثانوية هنا باعتبار المكلف، التقدم والتأخر باعتبار المكلف.

(ليخرج الثابت بالأصالة): رفع الحكم الثابت بالبراءة الأصلية ليس بنسخ، وقد سبق هذا.



وما من البراءة الأصلية




قد أُخذت وليست الشرعية




رفع الحكم الدال عليه بالبراءة الأصلية لا يسمى نسخا؛ لأنه لم يثبت بخطاب متقدم، البراءة الأصلية براءة عقلية ليست بدليل شرعي، ولذلك رفعها لا يسمى نسخا، بخلاف الإباحة الشرعية؛ لأن الإباحة نوعان:

* إباحة عقلية، وهي البراءة الأصلية.

* إباحة شرعية، حكم شرعي رفعه يسمى نسخا.

النوع الأول رفعه لا يسمى نسخا، كان الربا في أول أمره مباحا، ثم جاء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا}، نُهي عنه فصار مُحرما، هل إباحة الربا في الأول ثم النهي عنه يعتبر رفعا للحكم فصار نسخا؟

نقول: لا؛ لأن إباحة الربا لم تثبت بدليل شرعي، وإنما ثبتت بالبراءة الأصلية، وهي استصحاب العدم؛ يعني عدم التكليف، الأصل في المُكلف عدم تكليفه بشيء أبدا إلا بدليل شرعي، في الإثبات لا بد من دليل شرعي، وفي النفي قد يكون دليلا عقليا كما سيأتي.

المراد (بالأصالة): هنا البراءة، وهي عدم التكليف بشيء، كان الأصل إباحة الجمع بين الأختين قبل التحريم، فنزل قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}، معطوف على {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إذًا صار محرما، والإباحة الأولى عقلية؛ لأنها ثبتت بالبراءة الأصلية، وهي عدم التكليف.

(7) (وبخطاب متأخر: ليخرج زواله بزوال التكليف):

(وبخطاب متأخر): لماذا بخطاب متأخر؟

احترز به عن (زواله بزوال التكليف)، (ليخرج زواله): يعني زوال الحكم بزوال التكليف، متى يزول التكليف؟

بالموت، بالجنون، ونحو ذلك، فحينئذ لو زال الحكم وارتفع بزوال التكليف لا يسمى نسخا، كانت الصلوات واجبة عليه فمات هل وجبت عليه الصلاة؟

لم تجب عليه، ارتفع الحكم، هل نقول: نُسخ وجوب الصلاة في حقه؟

نقول: لا، ليس بنسخ؛ لأن الرفع هنا ليس بدليل شرعي؛ لأنه ليس بخطاب، ولذلك عبّر بخطاب ليخرج زواله بزوال التكليف.

(8) (ومتراخٍ عنه: ليخرج البيان):

والتخصيص؛ لأنه كما سبق أن التخصيص قد يكون متصلا، وقد يكون منفصلا، وأما النسخ فلا بد وأن يكون منفصلا.

حاصل التعريف الذي ذكره: أنه لا يمكن أن يُثبَت حكم النسخ إلا إذا كان فيه رفع لحكم شرعي، وهذا الحكم الشرعي قد ثبت بدليل شرعي سابق، ثم جاء دليل آخر متراخ عنه رفع ذلك الحكم، فحينئذ نقول: هذا نسخ، لكن شرط النسخ أنه لا يُعدَل إليه إلا عند عدم إمكان الجمع، هذا قيد لا بد منه؛ يعني الخطاب المتقدم والخطاب المتأخر لا يُدَّعى فيه مباشرة النسخ، وإنما لا بد من عدم إمكان الجمع، فإن أمكن الجمع فلا نسخ، متى ما أمكن الجمع فلا نسخ، إلا أن يرد نصٌ صريح واضح بيِّن بأن الحكم السابق قد نُسخ.

وأما مجرد الاحتمال وكون الثاني متراخيا عن الأول فحينئذ نقول: لا نسخ، إلا إذا تعذر الجمع بين الدليلين؛ ولذلك المراتب أربعة كما سيأتينا؛ لأن إعمال الدليلين دائما يكون أولى من إهمال أحدهما؛ لأنك إذا أعملت الثاني وأسقطت الأول قد أسقطت حكما أو بعض حكم.

لكن الأولى أن يُعبَّر بتعريف النسخ: بأنه "رفع حكم شرعي بدليل شرعي متراخ"، "متراخٍ": لتخرج المخصصات المتصلة، والمراد بالحكم هنا ما تعلق بالمكلّف بعد وجوده أهلا، وهذا واضح بيِّن.

(9) (وقيل: هو كشف مدة العبادة بخطاب ثانٍ):

(وقيل): في حد النسخ.

(هو كشف مدة العبادة بخطاب ثانٍ): وهذا فاسد؛ يعني مرادهم أن الخطاب الثاني لم يرفع الحكم، وإنما بيَّن أن الحكم الأول مؤقت، فحينئذ لم يشرعه الله -عز وجل- ليستمر أبدا، لم يُوجب –مثلا- الصدقة بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- على جهة التأبيد، لا، وإنما شرعه مؤقتا، ثم نزل قوله: {أَأَشْفَقْتُمْ} مبينًا أن الوقت قد انتهى.

وهذا ليس بصحيح، لأن النسخ حينئذ يكون من باب التخصيص، ولكنه تخصيص في الأزمان؛ لأن الأصل شمول الحكم لكل زمن، فجاء الخطاب المتراخي فبيَّن أن الزمن ليس مستغرقا لكل أوقات الحكم، بل هو مُنتهٍ بوقت ما، ويَرد عليه قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}، فإن انتهاء مدة الصوم بظهور الليل ليس رفعا؛ لأنه مُغيّا، {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}: بيَّن مدة العبادة، هل يعتبر ظهور الليل رافعا للحكم السابق؟

لا، النسخ لا بد وأن يكون فيه معنى الرفع والإزالة، وهنا ليس فيه معنى الرفع والإزالة، وعليه فيكون هذا الحد فاسدا.

(10) (والمعتزلة قالوا: الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص زائل على وجه لولاه لكان ثابتا، وهو خالٍ من الرفع الذي هو حقيقة النسخ):

(والمعتزلة قالوا): في حد النسخ.

(هو الخطاب الدال): "خطاب": هذا محل المأخذ، والخطاب الدال: هو الناسخ، والكلام في النسخ، لا في الناسخ، إذًا لم يتطابق الحد مع المحدود.

(الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص زائل على وجه لولاه لكان ثابتا): هذا لا إشكال فيه، كالأول.

(وهو): أي حد المعتزلة للنسخ.

(خال من الرفع): الذي هو حقيقة النسخ، لا بد من وجود حقيقة النسخ، وهو الرفع.

لكن لم يُبين لنا هل النسخ جائز عقلا أو لا؟

لأنه لا خلاف بين أهل السنة في ذلك، أما الرافضة فقالوا: لا يجوز القول بالنسخ أبدا؛ لأنه يؤدي إلى القول بالبداء، وهو باطل في حق الله -عز وجل- فنفوا النسخ.

ما المراد بالبداء؟

أنه كُشف له، علم بعد أن لم يكن يعلم، والرب -جل وعلا- مُنزّهٌ عن هذا، ولكن هذا باطل، والرافضة لا يُعتد بهم.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-16, 06:42 PM
نسخ الفعل قبل التمكن:

[المتن]:

[ويجوز قبل التمكن من الامتثال(1)].

[الشرح]:

(1) (ويجوز قبل التمكن من الامتثال):

النسخ له حالتان:

* قد يكون بعد التمكن من الامتثال، يُؤمرون بالتوجه إلى الشام في الصلاة؛ إلى بيت المقدس، تمكنوا وامتثلوا، ثم جاء الناسخ.

* أو تُشرع العبادة، وقبل أن يتمكنوا من الامتثال يرد النسخ.

لم يذكر الحالة الأولى؛ لأنها هي الكثيرة، وهي الأصل، إذا ورد النسخ انصرف إلى هذا المعنى.

لكن هل يشرع الرب -جل وعلا- عبادة، ثم يَدخلُ وقتُها، وقبل أن يتمكن المكلف من الامتثال تُرفَع العبادة؟

نعم يجوز، قال:

(ويجوز قبل التمكن): يعني يجوز النسخ ويقع قبل تمكن المكلف من الامتثال بمدلول الخطاب؛ أي قبل وقت الفعل، وهذا قول الجمهور؛ بدليل قصة إبراهيم -عليه السلام- أنه أُمر بذبح ابنه إسماعيل -عليه السلام-، ولكن هل تمكن من الفعل؟

الجواب: لا، {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 103-105]، ثم قال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ}[الصافات: 106]، إذًا حصل النسخ قبل التمكن، كذلك ما تواتر من نسخ فرض خمسين صلاة في السماء إلى خمس قبل الفعل، وإذا وقع دل على الجواز، الوقوع يكون دائما دليلا على الجواز، ولا إشكال في ذلك.

ما هي الحكمة في مثل هذا؟

الابتلاء؛ أن يكون الإنسان مُبتلى؛ لأن العبادة لها جهتان:

* قد يُؤمَر العبد بعبادة فيمتثل، فيكون المراد بها الامتثال، حصول الشيء.

* أو يُبتلى بأنه يُكلَّف بالشيء، ثم قبل فعله يُنسخ، ووجهه حينئذ يكون من باب هل أخذ في الأسباب أو لا؟ هل انقاد عندما سمع الخطاب أو لا؟ هذا بناء على أن الحكمة في العبادة هي الابتلاء والامتثال.


أو بينه والابتلا تَرَدَّدا ..................


يعني الحكمة في شرع العبادة بعضهم قال: الامتثال فقط، وبعضهم قال: لا، الامتثال هذا هو الأكثر، وقد يكون المراد به الابتلاء، وفائدته حينئذ زيادة الثواب؛ لأنه يعزم على الفعل، ويقول: سمعنا وأطعنا، ثم إذا أراد أن يفعل لا يُمكَّن، هذا الأمر ليس إليه.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-16, 06:48 PM
حكم الزيادة على النص:

[المتن]:

[والزيادة على النص إن لم تتعلق بالمزيد عليه -كإيجاب الصلاة، ثم الصوم- فليس بنسخ إجماعا(1)، وإن تعلقت وليست بشرط فنسخ عند أبي حنيفة(2)، فإن كانت شرطا -كالنية في الطهارة- فأبو حنيفة وبعض مخالفيه في الأولى نسخ(3)].

[الشرح]:

(1) (والزيادة على النص إن لم تتعلق بالمزيد [عليه]؛ كإيجاب الصلاة، ثم الصوم، فليس بنسخ إجماعا):

(الزيادة عن النص): مرادهم بها: أن يرد نص منفصل لعبادةٍ ما، ثم يرد نص آخر بعبادة أخرى، قد يكون لهذه العبادة الأخرى اتصال بالعبادة الأولى، وقد تكون مستقلة، ولذلك يُقال: الزيادة على النص نوعان:

* زيادة مستقلة عن العبادة الأولى.

* زيادة غير مستقلة.

زيادة مستقلة منفصلة؛ كإيجاب الصلاة أولا، ثم أوجَب بعد ذلك الصيام، إيجاب الصيام نقول: هذا زيادة على المكلف، {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}، هذا إيجاب، ثم نزل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، هذه زيادة لكنها منفصلة عن العبادة السابقة، هذه الزيادة بالإجماع ليست بنسخ؛ لأنه لو اعتُبر نسخا ما بقي شيء، يكون الأخير رافعا لما سبق، فكل ما فُرض في أول البعثة يكون مرفوعا بما فُرض في آخرها.

(والزيادة على النص إن لم تتعلق بالمزيد عليه): فسر هذا التعلق وعدمه.

(كإيجاب الصلاة، ثم الصوم): ثم إيجاب الصوم.

(فليس بنسخٍ إجماعا): لأن حقيقة النسخ رفع الحكم السابق، وهنا هل عندنا رفع؟

لما أُوجب الصوم هل بقي إيجاب الصلاة أو ارتفع؟

بقي إيجابها، إذًا ليس عندنا نسخ، فحقيقة النسخ مرتفعة هنا، ليست بثابتة، نقول: ليس بنسخ، وهذا إجماع بين الحنفية وغيرهم.

(2) (وإن تعلقت وليست بشرط؛ فنسخ عند أبي حنيفة):

(وإن تعلقت): هذا هو النوع الثاني، زيادة غير مستقلة، والزيادة غير المستقلة نوعان:

قال: (وإن تعلقت وليست بشرط؛ فنسخ): إن تعلقت هذه الزيادة -غير المستقلة عن المزيد عليه- قد تتعلق به على وجه لا يكون شرطا، لذلك قال:

(وليست بشرط): يعني تعلقت بالمزيد عليه على أي وجه إلا أن يكون شرطا.

(وإن تعلقت وليست بشرط؛ فنسخ عند أبي حنيفة): أي هذه الزيادة -غير المستقلة على المزيد عليه- تتعلق به على وجه لا يكون شرطا فيه؛ بأن تكون جزءا من العبادة الأولى.

مثّلوا بحد الزاني البكر، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}، حكم الزاني البكر: الجلد مائة، جاء في الحديث: «البكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة»، في بعض الروايات: «ونفي عام»، إذًا الحكم الأصلي -الذي هو الجلد- باق على ما هو عليه، وجاءت الزيادة -زيادة النفي- في النص الآخر، فالنفي صار جزءا من الحد، ضُم إليه شيء آخر من جنسه، إذًا غير مستقلة، اختلف في هذه الزيادة هل هي نسخ أو لا؟

الجمهور على أنها ليست بنسخ؛ لانتفاء حقيقة النسخ؛ لأن هذه الزيادة لم ترفع حكم الجلد أولا، ليس عندنا حقيقة النسخ، فحينئذ إذا انتفى تطبيق الحد على المثال نقول: انتفى النسخ، الجلد كما هو جلد، ولكنه ضُم إليه شيء آخر، فهو كما إذا ضُمّ إيجاب الصوم إلى إيجاب الصلاة، ولا فرق بينهما.

وذهب الحنفية إلى أنها نسخ؛ لأن الجلد كان هو الحد الكامل الذي يترتب عليه الحكم، وهو الفسق وإسقاط الشهادة على قوله، فلما زيد التغريب ارتفعت صفة الكمال، فحصل الرفع، إذًا وُجدت حقيقة النسخ، هذا وجه النسخ عند الأحناف؛ أنهم قالوا: الآية دلت على كمال الحد أنه مائة فقط ولا زيادة؛ لأنه رتب على هذا الحد الفسق وإسقاط الشهادة، فلما جاء التغريب رفع صفة الكمال عن الحد السابق، وإذا حصل الرفع ثبت النسخ.

لكن الجواب: أن النسخ إنما يكون رفعا لحكم شرعي، وصفة الكمال ليست بحكم شرعي، إذًا لم توجد حقيقة النسخ، فالوجوب باق لم يرتفع، وهو كل الواجب، فلما زيد التغريب لم يتغير، بل أُضيف إليه واجب آخر.

إذًا نقول: الزيادة على النص إما أن تكون مستقلة، أو غير مستقلة.

المستقلة ليست بنسخ إجماعا.

وغير المستقلة: إما أن تكون ثابتة على وجه لا يكون شرطا في المزيد عليه، فحينئذ هذه عند الجمهور ليست بنسخ، وهو الأحق، وهي نسخ عند أبي حنيفة -رحمه الله- وأصحابه.

(3) (فإن كانت شرطا؛ كالنية في الطهارة فأبو حنيفة وبعض مخالفيه في الأولى نسخ):

(فإن كانت شرطا): هذا النوع الثاني من الزيادة غير المستقلة.

(إن كانت): الزيادة.

(شرطا): للمزيد عليه.

(كالنية في الطهارة): وزيادة الطهارة في الطواف مثلا، فأبو حنيفة وبعض مخالفيه في الأولى نسخ، والجمهور ليست بنسخ؛ لأن حكم الصلاة لما أُضيف إليه الوضوء، أو النية في الطهارة نقول: هذا لم يرتفع حكم الأصل، لم يتحقق حكم الأصل، وكأن الأحناف ينظرون إلى أن المسألة تتجزأ، وإذا قبلت التجزيء وحصل نوع رفع حكموا بالنسخ؛ كما سبق معنا في المطلق والمقيد، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} "مؤمنة": قالوا: نسخ، والصواب: أنه ليس بنسخ، مذهب الجمهور أن تلك الزيادة ليست بنسخ؛ لانتفاء حقيقة النسخ، فقوله: {وأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} دل على أمرين: دل على إيجاب الصلاة، وعلى إجزائها؛ لأنه كما سبق أن امتثال المأمور به يدل على الإجزاء إذا أتي به على الوجه الشرعي، {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}: دل على أمرين: وجوب الصلاة والإجزاء، فلما جاءت الزيادة -وهي اشتراط الطهارة للصلاة، هذا على فرض أن الصلاة فُرضت أولا وصلوا قبل إيجاب الوضوء، ثم فُرض الوضوء، على هذا التقدير، وهو قول لبعض الفقهاء، حينئذ إذا أُوجب الوضوء بعد إيجاب الصلاة بقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}- هل هذه الزيادة شرط في المزيد عليه؟

شرط؛ لأن الشرع رتّب عليها فوات الصلاة بفوات الطهارة، فكانت شرطا في المزيد عليه، فلما جاءت الزيادة -وهي اشتراط الطهارة للصلاة- فالوجوب لم يرتفع، وجوب الصلاة باق كما هو قبل الزيادة، إذًا أين النسخ لإيجاب الحكم هنا؟

ليس عندنا نسخ، وأما الإجزاء فهو الذي حصل له الرفع بزيادة اشتراط الطهارة، فيكون هذا من باب التخصيص، وليس من باب النسخ.

(فإن كانت شرطا): أي الزيادة شرطا للمزيد عليه.

(كالنية في الطهارة): والطهارة بالنسبة للصلاة، فُرض الوضوء، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ . .}، إذا وقفنا مع الألفاظ ما ذُكرت النية، لكن قوله: «لا عمل إلا بنية»، أو «إنما الأعمال بالنيات» دلّ على أنه لا وضوء إلا بنية، إذًا زيادة على الطهارة، أو {أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}، ولم تُذكر الطهارة أصلا، فلما أُوجب الوضوء قيل: هذه زيادة على إيجاب الصلاة، وهي زيادة شرط في المشروط، فأبو حنيفة وبعض مخالفيه في الأولى نسخ، والصواب: أنها ليست بنسخ.

إذًا الزيادة على النص عند الجمهور مطلقا ليست بنسخ، سواء كانت مستقلة أو غير مستقلة.

وعند الأحناف التفصيل: إن كانت غير مستقلة مطلقا فهي نسخ، سواء كانت جزءا من المزيد عليه أو شرطا له، وإذا كانت مستقلة فليست بنسخ؛ كالجمهور.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-16, 11:58 PM
حكم النسخ إلى غير بدل، وأقسامه إلى بدل:

[المتن]:

[ويجوز إلى غير بدل(1)، وقيل: لا، وبالأخف والأثقل، وقيل: بالأخف(2)].

[الشرح]:

(1) (ويجوز إلى غير بدل):

الأصل في النسخ والأكثر أنه إذا نُسخ حكم شرعي جيء ببدله، {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، هذا هو الغالب، لكن هل يصح النسخ إلى غير بدل؛ يُرفع الحكم ولا يؤتى ببدله؟

نعم، وهذا عند الجمهور، والدليل على ذلك نسخ تقديم الصدقة أمام مناجاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كانت واجبة فارتفعت وما جيء ببدلها، وتحريم ادخار لحوم الأضاحي، ارتفع ولم يرد له بدل، وأيضًا يُعلَّلُ بأن المصلحة الشرعية التي رُتب عليها الحكم الشرعي قد تكون فيما نُسخ، ثم لما كانت هذه المصلحة معلقة مؤقتة ارتفع الحكم معها؛ يعني وُجد الحكم الشرعي بوجود المصلحة، فلما انتهت المصلحة ارتفع الحكم الشرعي، فحينئذ لا مانع أن يُنسخ الحكم الشرعي ولا يُؤتى ببدله، والوقوع دليل الجواز.

وقيل: لا يجوز، وهو قول الظاهرية؛ لأنه مخالف لقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا})، وهذا شرط، {ما}: شرطية، {ننسخ}: فعل الشرط،{نأت}: جواب الشرط، فإذا لم يأتِ ببدلها فلا نسخ.

الكلام عن هذه الآية طويل، وأحسن ما يُجاب به أن يُقال: هذا عام، وهو قابل للتخصيص، وإذا وقع وحصل النسخ إلى غير بدل؛ نقول: خُصت الآية بما حصل؛ لأنه ثابت أنه أُوجب أولا الصدقة بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- عند المناجاة، ثم ارتفع الحكم، الجمع بين هذا وبين آية البقرة: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} أن هذا عام وهذا خاص، والخاص مُقدّم على العام، ولا تعارض.

(2) (وقيل: لا، وبالأخف والأثقل، وقيل: بالأخف):

يعني النسخ له أحوال إذا نُسخ إلى بدل؛ لأنه قال: (ويجوز إلى غير بدل)، لا إشكال فيه، ثم إلى بدل، هذا البدل قد يكون أخف من المنسوخ، وقد يكون أثقل، وقد يكون مساويا.

(وبالأخف): يعني النسخ إلى بدل أخف، يكون الحكم -الذي يُعد ناسخا بخطاب متراخ- أخف على المكلفِين من الحكم المنسوخ، ولا خلاف في جوازه ووقوعه، هذا متفق عليه، {إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ}، ثم نزل قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ}، فمصابرة الواحد لاثنين أخف من مصابرة الواحد لعشرة منهم، ولا شك في هذا، إذًا صح ووقع النسخ إلى أخف.

(والأثقل): إلى بدل، ويكون أثقل باعتبار السابق، وهذا فيه خلاف، والأصح جوازه؛ بدليل الوقوع، كان المسلم مُخيرا بين الصيام والإطعام، ثم نزل قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، تعين الصوم، إذًا لا تخيير.

وإلى مساوٍ؛ مثل ما ذكرناه في القبلة؛ يعني يستوي عند المكلف أن يصلي إلى الشام أو يصلي إلى جهة الكعبة، يتجه فقط.
إذا اتفقوا على أن يكون بالأخف، قالوا: لأنه وردت الآيات الدالة على إرادة التخفيف: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ}، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وكل آية تدل على التيسير، فحينئذ قالوا: لا يمكن أن يُنسخ الحكم الشرعي ثم يأتي بأثقل.
نقول: هذا ليس بصحيح؛ لأن الأثقل هذا باعتبار المكلف بالحكم السابق، ليس باعتبار الحكم من حيث هو، فحينئذ لا تعارض بين أن يُنسخ هذا أو ذاك.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-17, 12:03 AM
هل يثبت حكم النسخ في حق من لم يبلغه؟

[المتن]:

[ولا نسخ قبل بلوغ الناسخ، وقال أبو الخطاب: كعزل الوكيل قبل علمه به(1)].

[الشرح]:

(1) (ولا نسخ قبل بلوغ الناسخ، وقال أبو الخطاب: كعزل الوكيل قبل علمه به):

يعني هل يجوز أن يُنسخ حكم ثم لا يعلمه المكلَّفون؟ فنعتبر أن الحكم قد نُسخ في حق المكلفين، والناسخ يكون في علم النبي ولم يُبلّغه، هل هذا جائز؟

قال: (ولا نسخ): أي لا حكم بالنسخ في حق المكلفين.

(قبل بلوغ الناسخ): إليهم؛ لأننا لو حكمنا عليهم بأن هذه العبادة التي فعلوها منسوخة –مع عدم علمهم بالناسخ- لكان تكليفا بما لا يُطاق، وسبق أن شرط الفعل المكلف به العلم به، فإذا لم يعلم فلا تكليف.

هنا عندنا قال: نسخ، امتثلوا العبادة السابقة، ثم نُسخت في حقهم هذه العبادة، رُفع الحكم لكن ما بلغهم الناسخ؛ نقول: عبادتهم صحيحة على ما هي عليه؛ استدلوا بأن أهل قباء لما كانوا مصلين الفجر جهة بيت المقدس وبلغهم الناسخ وهم في الصلاة -وقطعا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى إلى جهة الكعبة، وأنه بلغه الناسخ، ولكن لم يبلغ أهل قباء- استداروا مباشرة من جهة بيت المقدس إلى الكعبة، الناسخ موجود ولا شك، لكن هل بلغهم؟ لا، هل أُمروا بقضاء الركعة الأولى أو استئناف الصلاة؟ لا، عدم أمرهم بقضاء الصلاة، أو إعادتها، أو باستئنافها دليل على صحة تلك الصلاة، إذًا هم غير مُكلفين بالناسخ الذي لم يعلموه، وإنما هم مكلفون بما يعلمون، وهذا واضح؛ يعني هذا الدليل واضح في أنه لا نسخ قبل بلوغ الناسخ؛ لأننا لو نسخنا الحكم في حقهم قبل أن يعلموا أنه منسوخ لكان تكليفا بما لا يُطاق، وهذا مُمتنع في الشرع وإن جاز عقلا.

(وقال أبو الخطاب: كعزل الوكيل قبل علمه به): يعني يثبت النسخ قبل بلوغ الناسخ في حق المكلفين؛ يعني مقابل القول الأول، القول الأول: لا نسخ، هذا يقول: نعم فيه نسخ. لماذا؟

قاسه على مسألة فرعية، وهذا غريب؛ لأن الأصول تُفرّع عليها الفروع، ولا نُقعد قاعدة أصولية بناء على فرع، هنا يقول:

(كعزل الوكيل قبل علمه به): هذا مُختلف فيه، فينعزل الوكيل بعزل المُوكل وإن لم يعلم الوكيل، وكّلت زيدا يشتري ويبيع لي، ثم عزلته وأشهدتكم، وهو لا يعلم، على رأيه ينعزل، حصل العزل قبل بلوغه، فقاس هذه على هذه.

لكن نقول: هذا فاسد؛ لأنه من باب قياس الأصل على الفرع، والعكس هو الأصل، ثم المسألة الفرعية فيها خلاف.

والصواب: هو الأول بدليل الوقوع، وهو قصة أهل قباء وبلوغه -صلى الله عليه وسلم- وإقراره لهم، فهنا سنة تقريرية أنه لا نسخ قبل بلوغ الناسخ.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-17, 12:12 AM
أقسام النسخ باعتبار الناسخ:

[المتن]:

[ويجوز نسخ القرآن والسنّة المتواترة والآحاد بمثلها(1)، والسنّة بالقرآن، لا هو بها في ظاهر كلامه، خلافا لأبي الخطاب وبعض الشافعية(2)، فأما نسخ القرآن ومتواتر السنّة بالآحاد فجائز عقلا، ممتنع شرعا إلا عند بعض الظاهرية(3)، وقيل: يجوز في زمنه صلّى الله عليه وسلّم(4)، وما ثبت بالقياس، إن كان منصوصا على علته فكالنص يُنْسخ ويُنسخ به وإلا فلا(5)، وقيل: يجوز بما جاز به التخصيص(6)].

[الشرح]:

(1) (ويجوز نسخ القرآن والسنّة المتواترة والآحاد بمثلها):

هذه أحوال النسخ: يُنسخ القرآن بالقرآن، وتُنسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة، ويُنسخ الآحاد بالآحاد، وهذه كلها لا خلاف فيها.

(ويجوز نسخ القرآن): أي بالقرآن، وهذا جائز بلا خلاف كما في آية المصابرة السابقة، والعدة كذلك، والمناجاة بن يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-.

(والسنة المتواترة بها): يعني بالسنة المتواترة، وهذا من حيث الجواز أيضا متفق عليه، لكن يقولون: لا يوجد له مثال، لكن من حيث التأصيل لو وُجد حديث متواتر ونُسخ بحديث متواتر لا مانع من ذلك.

(والآحاد): أيضا بالآحاد، وهذا كثير، «كنت قد نهيتكم عن زيارة القبول ألا فزوروها»، "نهيتكم .. فزوروها"، هذا نسخ، والناسخ السنة، ما المنسوخ هنا؟

هو حديث واحد: «كنت نهيتكم»: هذا إخبار بالمنسوخ، «ألا فزوروها»: هذا هو الناسخ، إذًا نهيتكم فيما سبق، فحينئذ ثبت بآحاد.

(2) (والسنّة بالقرآن، لا هو بها في ظاهر كلامه، خلافا لأبي الخطاب وبعض الشافعية):

(والسنة بالقرآن): يعني السنة تُنسخ بالقرآن، ومثاله: نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة بالقرآن: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.

(لا هو): الضمير يعود إلى لقرآن.

(بها): أي بالسنة المتواترة.

ومراده: (السنة بالقرآن): السنة المتواترة، وليس الآحاد.

(لا هو بها): أي لا يُنسخ القرآن بالسنة المتواترة.

(في ظاهر كلامه): يعني في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ لأنه ورد عنه أنه قال: "لا ينسخ القرآن إلا القرآنُ يجيء بعده"، وبه قال الشافعي -رحمه الله تعالى-؛ لقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، وهل السنة مثل القرآن أو خير من القرآن؟

الجواب: لا، فقالوا: إذًا لا يُنسخ القرآن بالسنة المتواترة.

(خلافا): منصوب على أنه مفعول مطلق، ودائمًا تجدها منصوبة.

(لأبي الخطاب وبعض الشافعية): القائلين بجواز نسخ القرآن بالسنة، وهو قول الجمهور؛ صحة نسخ القرآن بالسنة المتواترة؛ لأن الكل وحي من عند الله، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، فكله وحي، ولأن الناسخ في الحقيقة هو الله -عز وجل-، هو الذي يُثبت الحكم أولا، وهو الذي يرفع هذا الحكم، {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ}، كما سبق أن الحاكم هو الله -سبحانه وتعالى- في القرآن أو على لسان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومحل النسخ أيضا هو الحكم لا اللفظ، إذًا الإيجاب أو التحريم أو الكراهة أو الاستحباب أو الإباحة هي المنسوخة، فحينئذ قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} الأصل في النسخ أنه رفع للحكم، وليس للفظ.

وعليه فقوله تعالى: {بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يكون من السنة كما يكون من القرآن، والأحكام كلها من عند الله -سبحانه وتعالى-.

(3) (فأما نسخ القرآن ومتواتر السنّة بالآحاد فجائز عقلا، ممتنع شرعا إلا عند بعض الظاهرية):

(فأما نسخ القرآن): بالآحاد.

(ومتواتر السنة بالآحاد فجائز عقلا): العقل لا يمنع أن يتعبدنا الله بنسخ القرآن الثابت بدليل قطعي بدليلي ظني، كذلك السنة المتواترة دليل قطعي لا يمنع ولا يحيل العقل أن يتعبدنا الله -عز وجل- بنسخ السنة المتواترة بدليل ظني من جهة العقل، لكن هل كل ما جاز عقلا جاز التعبد به شرعًا؟

قالوا: لا، لذلك قال:

(فجائز عقلا، ممتنعٌ شرعا): يعني النسخ يكون بمثله فقط، ولا يكون بما هو دونه؛ يعني إما أن يكون مثلا له في الثبوت، أو أعلى منه، ولذلك جوَّزوا نسخ القرآن بالسنة المتواترة؛ لأنه مثله من حيث الثبوت، فاشترطوا في الناسخ أن يكون مساويا للمنسوخ من حيث الثبوت، فالأدنى لا ينسخ الأعلى، والأعلى ينسخ الأدنى، ولا إشكال، وللأسف هذا قول الجمهور، قالوا: الظني لا ينسخ القطعي.

(إلا عند بعض الظاهرية): فيجوز نسخ القرآن ومتواتر السنة بالآحاد؛ لأن القطعي هو اللفظ، ومحل النسخ هو الحكم، وكما أن مدلول القطعي قد يكون ظنيا فلا مانع من نسخه بظني، وهذا كله بناء على أن أحاديث الآحاد تفيد الظن لا العلم، وإذا قلنا: العلم استرحنا.

إذًا دليل الظاهرية: أن القرآن إذا قيل: إن ثبوته قطعي، لكن لا يلزم أن يكون مدلوله قطعيا؛ لأن الظاهر والمحتمل والمشترك هذه دلالة ظنية، ولذلك تُقسّم من حيث الثبوت والدلالة إلى أربعة أقسام:

* قطعي الثبوت قطعي الدلالة.

* ظني الثبوت ظني الدلالة.

* قطعي الثبوت ظني الدلالة.

* ظني الثبوت قطعي الدلالة.

لا يلزم أن كل ما كان قطعي الثبوت أن يكون قطعي الدلالة.

فلو كان الآحاد ظني الثبوت -على التسليم بهذا والتنزل له- لا يلزم أن يكون ظني الدلالة، بل قد يكون القرآن قطعي الثبوت ظني الدلالة، وعكسه الآحاد؛ فيكون الآحاد من جهة الدلالة قطعيا، ومن جهة الثبوت ظنيا، فحينئذ لا مانع من أن يَنسخَ القرآن، وهذا هو الأصح؛ أن العبرة بصحة السند، فمتى ما صح السند صح النسخ به.

(4) (وقيل: يجوز في زمنه صلّى الله عليه وسلّم):

لا بعده، وهذا غريب؛ لأنه لا نسخ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكيف يُقيَّد بزمنه؟! لأننا نقول: بخطاب متراخٍ، من الذي يُبلغنا هذا الخطاب؟

النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحينئذ يجوز في زمنه -صلى الله عليه وسلم- لا بعده، وهذا داخل في قول الظاهرية؛ لأن الظاهرية جوَّزوا النسخ بالآحاد، وهذا إنما يكون في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا بعده، وحينئذ لا يظهر فرق بين هذا القول والسابق؛ لأن الأصل في النسخ إنما يكون في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

(5) (وما ثبت بالقياس، إن كان منصوصا على علته فكالنص ينسخ ويُنسخ به وإلا فلا):

هل القياس يُنسخ به؟

إذا قيل: بخطاب متراخٍ أو دليل شرعي هل يدخل في ذلك القياس؟

الصواب: أن القياس لا ينسَخُ ولا ينسخ به قطعا ومطلقا؛ سواء كانت علته منصوصة أو لا.

(وما ثبت بالقياس): يعني الحكم الثابت بالقياس.

(إن كان منصوصا على علته): وهذا لا مثال له، مسألة فرضية؛ جدلية فقط، أما في الواقع لا وجود لها، إذا كان يُختَلف في الآحاد، والجمهور على أنه لا ينسخ القرآن ولا السنة المتواترة، فكيف بالقياس؟! هذا بعيد جدا.

(إن كان منصوصا على علته): من قبل الشرع.

(فكالنص): لأن القياس لا بد أن يستند إلى نص، فإذا كانت العلة منصوصة صار حكم القياس منصوصا عليه بواسطة تلك العلة؛ يعني صار مستندا إلى نص شرعي، والمستند إلى نص شرعي كالنص الشرعي؛ فلذلك صح أن يُنسَخ به.

(فكالنص): ينسَخُ ويُنسخ به.

(وإلا فلا): يعني وإن لم تكن العلة منصوصا عليها؛ يعني مستنبطة، إذا صارت العلة مستنبطة، صارت محلا للاجتهاد، والاجتهاد قابل للخطأ، فالصواب أنه حينئذ لا يكون ناسخا، لا يقوى على رفع الحكم الشرعي.

والصواب: أنه لا يُنسَخ بالقياس مطلقا لو وجد له مثال.

(6) (وقيل: يجوز بما جاز به التخصيص):

يجوز النسخ بكل ما جاز به التخصيص، وهذا فاسد أيضا؛ لأن النسخ رفع، والرفع إبطال، والتخصيص بيان، والبيان تقرير، وهناك يصححون أن قول الصحابي يجوز به التخصيص، والمفاهيم يجوز بها التخصيص .. إلخ، فكل ما جاز به التخصيص جاز أن يُنسَخ به، وعليه؛ يجوز النسخ بالقياس مطلقا، سواء كانت علته منصوصة أو لا، والصواب: أنه لا.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-18, 08:38 PM
الإجماع وتعريفه:

[المتن]:

[و(الإجماع)(1)، وأصله: الاتفاق(2)، وهو اتفاق علماء العصر من الأمة على أمر ديني(3)، وقيل: اتفاق أهل الحل والعقد على حكم الحادثة قولا(4)].

[الشرح]:

(1) (و(الإجماع)):

هذا عطف؛ إن أراد مطلق الأصول المتفق عليها فالإجماع معطوف على "الكتاب"؛ على الأول، وإن أراد الترتيب فالإجماع معطوف على "السنة".

(2) (وأصله: الاتفاق):

الإجماع: مصدر أجمع يُجمِع إجماعا، وأصله في اللغة: الاتفاق والعزم؛ يعني يطلق الإجماع بمعنى الاتفاق، ويُطلق الإجماع بمعنى العزم، "أجمع القوم على كذا"؛ إذا اتفقوا، "أجمعتُ على الأمر"؛ أي عزمت عليه.

(3) (وهو اتفاق علماء العصر من الأمة على أمر ديني):

وأما في الاصطلاح فعرفه المصنف بقوله: (وهو اتفاق علماء العصر من الأمة على أمر ديني).

(وهو اتفاق): أخذ المعنى اللغوي، حينئذ خرج كل خلاف ولو صدر من واحد.

(اتفاق): جنس في الحد، إذًا لا بد من وجود المعنى اللغوي، فلو حصل خلاف ولو من واحد ارتفع الإجماع؛ لأن المعنى الحقيقي للإجماع هو الاتفاق، لو اتفق تسعة وتسعون نقول: بقي واحد، هذا خرم الإجماع؛ لأنه لا بد من اتفاق جميع العلماء.

(وهو اتفاق علماء): إذًا ليس اتفاق أي أحد.

(اتفاق علماء العصر): وليس كل العلماء أيضا، بل مجتهدي العلماء، ليس كل عالم صار مجتهدا؛ لأن العالم قد يُتوَسَع فيه بأنه من حصَّل العلم ولو ظاهرا، لكن كونه مجتهدا من أهل النظر والبحث والتأمل والتدبر هذا قلة، إذًا المراد مجتهدو العصر.

(من الأمة): يعني من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلا عبرة باتفاق علماء غيرهم، لو اتفق اليهود والنصارى على أمر يتعلق بالشريعة نقول: هذا ليس بإجماع؛ لأن شرط الإجماع أن يكون العلماء والمجتهدون من أمة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ أمة الإجابة.

(على أمر ديني): خرج على أمر دنيوي؛ كالبيع والشراء ونحو ذلك؛ كالمواد المتعلقة باللغة، وكالفاعل بأنه مرفوع إلى آخره، فكل صنعة فيها إجماع يختص به أهلها، إجماع النحاة يختلف عن إجماع الفقهاء، وإجماع الفقهاء يختلف عن إجماع الأصوليين، إذًا كل فن له علماء مجتهدون، ولكن المراد به هنا الحكم الشرعي الذي يتعلق به، أو يتعلق بكل المكلفين، ولذلك يستوي فيه الجميع.

ولا بد من قيد "بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-"؛ لأن الاتفاق في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُسمى إجماعا، ولذلك ينقل بعض الصحابة: "كانوا يفعلون كذا"، هل يُعَد إجماعا؟

لا يُعَد إجماعا؛ لأن اتفاقهم في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بإجماع؛ لأنه لا إجماع إلا بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك قيل: "كانوا يفعلون كذا": هذا له حكم الرفع، سواء أضافه إلى عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أو لا، "كانوا يفعلون كذا"، أطلق، يحتمل أنه بعد عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإذا قال: "كانوا يفعلون على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا"، هذا قيَّده، هذا أقوى من ذاك؛ لأنه مُقيد بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو مُطلق على النوعين يُحمَل ويُعطَى حكم الرفع، إذًا هو اتفاق، خرج به الخلاف، فلا إجماع مع الخلاف؛ لأنه يجوز أن يُصيب الواحد أو الأقل ويُخطئ الأكثر، ولذلك صُوِّب عمر -رضي الله عنه- في أسرى بدر بخلاف من قابله.

(4) (وقيل: اتفاق أهل الحل والعقد على حكم الحادثة قولا):

هنا زاد: (أهل الحل والعقد)، نقول: إن كان مراده المجتهدين فلا إشكال، وإن كان مراده ما هو أعم من ذلك فيرد الإشكال؛ لأن الشريعة مبناها على أقوال أهل العلم المجتهدين، وأما غيرهم من أهل الحل والعقد في غير الشريعة فحينئذ لا عبرة بأقوالهم.
(على حكم الحادثة): الواقعة، النازلة، أشار فيه إلى أن النازلة هذه وقعت بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليست في عهده؛ إذ لا إجماع.

(قولا): يعني لا فعلا ولا غيره؛ ليختص الحد بالإجماع الصريح؛ يعني لا بد أن يكون منطوقا به، لو نطق البعض وسكت الآخرون -الذي هو الإجماع السكوتي- فليس بإجماع عند أرباب هذا الحد، الأصل في الإجماع إذا أُطلق انصرف إلى الإجماع الصريح.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-18, 08:41 PM
حجية الإجماع:

[المتن]:

[وإجماع أهل كل عصر حجة خلافا لداود، وقد أومأ أحمد إلى نحو قوله(1)].

[الشرح]:

(1) (وإجماع أهل كل عصر حجة خلافا لداود، وقد أومأ أحمد إلى نحو قوله):

(إجماع أهل كل عصر): من العصور إلى قيام الساعة.

(كل عصر): كل قرن، إذا أجمع علماء ذلك القرن، أو ذلك العصر فهو حجة على من بعده، فليس خاصا بعهد الصحابة كما ظنه البعض، داود نُسب إليه هذا؛ أنه هو الإجماع الذي يمكن ضبطه، أما من بعدهم فدعوى الإجماع أقرب ما يكون للكذب كما قال: الإمام أحمد.

لكن هل معنى ذلك أنه لا إجماع بعد الصحابة وينحصر دليل الإجماع فيهم فقط؟ أو أنه إذا أمكن -ولو مع التعذر أو العسر- ضبط الإجماع بعد عهد الصحابة فيكون دليلا أو لا؟

هذا محل المأخذ هنا، يعني لا نقيده بعهد الصحابة، بل هو دليل مطلق، متى ما أمكن الإجماع نقول: هو حجة على من بعدهم، وفرق بين أن يُقال: الإجماع حجة ودليل شرعي، والذي يمكن ضبطه هو إجماع الصحابة، لماذا؟

لأنه لا يمكن أن يحصر كل العلماء فيسمع منهم لتفرق الأمة وشتاتها .. إلخ.

(حجة): ودليل شرعي يجب العمل به؛ لأن الأدلة الشرعية دالة على حجية الإجماع، وإذا ثبتت حجية الإجماع فلا يخلو عصر منها؛ أي من دلالة تلك الأدلة، فالأدلة شاملة تدل على أن اتباع غير سبيل المؤمنين مُشاقة لله ورسوله، هل هذه المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين خاص بالصحابة؟

نقول: لا، في كل عصر، ولو لم يمكن إثبات الإجماع.

(خلافا لداود): لأنه خص الإجماع بالصحابة وحدهم، ولو أجمع التابعون وتحقق وثبت الإجماع فليس بإجماع، قال: لأن الخطاب الذي ثبت به الإجماع خطاب للحاضرين فقط، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس}، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، يقول: هذا خاص بالصحابة.

نقول: إذًا مثل ذلك: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}، ما الفرق بينهما؟ لمَ خصَّصْتَ هذا بالصحابة دون غيرهم؟! إذًا هذا الدليل فاسد، ليس بصحيح.

(وقد أومأ): يعني أشار.

(أحمد إلى نحو قوله): إذا قيل: أومأ الإمام أحمد يُفهَم أنه ليس بصريح، هذه الرواية قد يُختَلف فيها، قد يوافق من استنبط هذا القول الموافق لداود، وقد يخالف؛ لأن الرواية قد تكون صريحة، وقد تكون غير صريحة؛ مثل ما قلنا في المنطوق؛ قد يكون صريحا، وقد يكون غير صريح؛ لأنه جاء في مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود قوله: "الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ثم هو من بعد التابعين مُخيَّر -لا يفيد هذا-؛ لعدم إمكان الإجماع"، لا لكونه لا إجماع، هذا يمكن تأويله؛ لأن النصوص عامة، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} دلّ على أن الإجماع حجة، وأن المشاقة والخروج عن سبيل المؤمنين خروج على الحق، فحينئذ الأدلة عامة فتشمل كل العصور.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-18, 08:44 PM
اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول:

[المتن]:

[وإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة: اعتبره أبو الخطاب والحنفية(1)، وقال القاضي وبعض الشافعية: ليس بإجماع(2)].

[الشرح]:

(1) (وإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة: اعتبره أبو الخطاب والحنفية):

الصحابة اختلفوا على قولين، ثم أجمع التابعون على أحد القولين، هل يعتبر إجماعا أو لا؟

الصواب: أنه لا يعتبر إجماعا؛ لأن شرط الإجماع ألا يكون مسبوقا بخلاف؛ لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها، فيبقى القول ولو مات صاحبه، فيعتبر القول كما لو وُجد قائله، فالأقوال لا تموت بموت أصحابها، فإذا اختلف الصحابة على قولين لا يمكن دعوى الإجماع بعدهم، نعم يمكن تقييده، يُقال: أُجمع على أحد القولين، لا إشكال، أما إطلاق الإجماع فيُراد به الإجماع الصريح فلا.

لا مانع أن يُقال: انعقد الإجماع بعد الخلاف، لا بد من الإشارة، انعقد الإجماع بعد الخلاف، لا بأس بهذه العبارة؛ لأنه إجماع مُقيد، يُفهَم منه أنه ثم خلاف، ثم بعد ذلك حصل نوع اتفاق.

قال: (اعتبره أبو الخطاب والحنفية): هذا هو القول الأول؛ يعني اعتبره إجماعا؛ لأنه اتفاق من أهل العصر الثاني، وقد دل الدليل على كونه معصوما من الخطأ؛ كما لو اتفق الصحابة على أحد القولين؛ يعني كأنه نزَّل حقيقة الإجماع حيث التعريف عليه، لكن نقول: "اتفاق علماء العصر"، هنا لم يحصل اتفاق؛ لوجود الخلاف، ولو وُجد القول دون قائله، إذًا أين دعوى الاتفاق؟ ليس فيه اتفاق، بل حقيقة الإجماع منتفية، وكون التابعين أجمعوا، نقول: لم يُجمعوا؛ لأن القول الآخر موجود، سواء مات قائله أم بقي.

(2) (وقال القاضي وبعض الشافعية: ليس بإجماع):

هذا القول الآخر، وهو الصحيح، فيجوز حينئذ الأخذ بالقول الآخر على خلاف القول السابق، إذا قيل: إجماع؛ معناه القول الآخر يُطرَح، لا يجوز الأخذ به، وإذا قيل: ليس بإجماع؛ جاز للمخالف أن يأخذ بالقول الآخر ولو اُدعي إجماع التابعين، ولا يكون القول الآخر مُطرَّحًا؛ لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-18, 08:47 PM
إجماع الصحابة مع مخالفة تابعي مجتهد لهم:

[المتن]:

[والتابعي معتبر في عصر الصحابة عند الجمهور خلافا للقاضي وبعض الشافعية، وقد أومأ أحمد إلى القولين(1)].

[الشرح]:

(1) (والتابعي معتبر في عصر الصحابة عند الجمهور خلافا للقاضي وبعض الشافعية، وقد أومأ أحمد إلى القولين):

إذا قيل: إجماع الصحابة: اتفاق علماء العصر، لو وُجد تابعي معتبر مُجتهد، وُجدت فيه آلة الاجتهاد، وأدرك أكثر الصحابة، واتفق الصحابة، وخالف التابعي، هل يعتبر نقدا للإجماع أو لا؟

فيه خلاف.

(والتابعي معتبر): إذا بلغ رتبة الاجتهاد.

(في عصر الصحابة): فإنه يُعتَد به في الإجماع.

(عند الجمهور): وهو رواية عن الإمام أحمد؛ لأنه مُجتهد من علماء الأمة، فلا طريق حينئذ إلى عدم اعتباره، وإذا اعتُبر قولهم في الاجتهاد فليعتبر في الإجماع؛ لأن الصحابة أفتوا، وكبار التابعين -كسعيد بن المسيب وغيره- أفتوا في عهد الصحابة، وسكت الصحابة، وأذنوا لهم بالإفتاء، بل دلوا عليهم الناس؛ وأخذوا ببعض أقوالهم، إذًا اعتبروا اجتهادهم، فحينئذ فليعتبر كذلك إجماعهم.

وأيضًا الأدلة تشملهم، اتفاق علماء العصر، ثم الدليل على مشروعية أو حجية الإجماع؛ كقوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} إلى أن قال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} هذا يشمل الصحابة والتابعين معا.

(خلافا للقاضي): أبي يعلى.

(وبعض الشافعية): في أن التابعي المجتهد لا يعتد بخلافه، قالوا: كالعوام؛ لأن التابعين مع الصحابة كالعوام مع العلماء، وهذا ليس بصحيح.

(وقد أومأ أحمد إلى القولين): يعني الإمام عنه روايتان؛ ولكنهما ليستا صريحتين؛ إلى اعتبار التابعي، وإلى عدم اعتبار التابعي.
ووجهه إلى عدم اعتبار التابعي: أن الصحابة أعلم من غيرهم، وشاهدوا التنزيل، والتقوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وعرفوا مواقع الآيات، والناسخ والمنسوخ .. إلخ، قال: هم أعلم، فحينئذ لو خالف التابعي وأراد إسقاط اتفاق الصحابة بدعوى الإجماع، قالوا: هذا غير معتبر.

لكن القول الأول أصح؛ لشمول الأدلة له.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-18, 08:49 PM
حكم الإجماع مع مخالفة واحد أو اثنين:

[المتن]:

[ولا ينعقد بقول الأكثرين، خلافا لابن جرير، وأومأ إليه أحمد(1)].

[الشرح]:

(1) (ولا ينعقد بقول الأكثرين خلافا لابن جرير، وأومأ إليه أحمد):

قلنا في الحد: "اتفاق"، فلو اتفق الكل وخالف واحد أو اثنان هل يعتبر الإجماع أو لا؟

لا يعتبر؛ لانتفاء حقيقة الإجماع، وهنا (اتفاق علماء العصر)، فإذا وُجد أكثر العلماء قائلين بقولٍ ما وخالف واحد أو اثنان حينئذ نقول: هذا نقض للإجماع؛ لأن الشرط هو اتفاق كل علماء الأمة؛ يعني المجتهدين.

(ولا ينعقد بقول الأكثرين): لانتفاء حقيقة الإجماع، ولأن العصمة من الخطأ إنما هي للكل لا للبعض.

(خلافا لابن جرير): -رحمه الله تعالى-؛ فإنه قال: "لا عبرة بخلاف الواحد والاثنين".

(وأومأ إليه أحمد): يعني أشار في إحدى الروايات إلى عدم انعقاد الإجماع بقول الأكثرين، هكذا فسره بعضهم، ويحتمل رجوعه إلى قول ابن جرير، لكن الأظهر أنه لقوله: (ولا ينعقد بقول الأكثرين)، وهناك رواية عن الإمام أحمد تشير إلى هذا.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-18, 08:51 PM
إجماع أهل المدينة:

[المتن]:

[وقال مالك: إجماع أهل المدينة حجة(1)].

[الشرح]:

(1) (وقال مالك: إجماع أهل المدينة حجة):

هذه كلها مسائل فرضية فقط، أما في الواقع فلا وجود لها، فإن الإجماع لا يمكن اعتباره إلا في الصحابة فقط، هذا هو الظاهر، ومن بعدهم إن وُجد فهو حجة شرعية ولا إشكال؛ لعموم الأدلة، لكن أين هو؟! وعليه يُحمَل قول الإمام أحمد: "من ادعى الإجماع فهو كاذب"؛ يعني في غير الصحابة.

(وقال مالك: إجماع أهل المدينة حجة): اشتهر هذا عن الإمام مالك؛ أن إجماع أهل المدينة حجة، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- له كلام جيد في هذه المسألة، قال -رحمه الله-: إجماع أهل المدينة على أربع مراتب:

الأولى: ما يجري مجرى النقل؛ مثل الأذان بكلماته، والإقامة، الصاع ومقداره، والمد ومقداره، ما يجري فيه الربا، هذه كلها جارية مجرى النقل، قال: هذه حجة باتفاق.

الثانية: العمل القديم قبل فتنة عثمان -رضي الله عنه-، فهذا حجة عند مالك، وهو المنصوص عن الشافعي، وظاهر مذهب الإمام أحمد؛ لأنه مما سنه الخلفاء الراشدون، فيجب العمل به.

الثالثة: إذا وقع خلاف بين روايتين؛ هل يصح جعل إجماع أهل المدينة من المرجحات أو لا؟ فتُرَجح الرواية التي عليها عمل أهل المدينة دون غيرهم؟

هذا محل النزاع، والأظهر: أنه لا يعتبر من المرجحات.

الرابعة: العمل المتأخر بالمدينة؛ يعني بعد مقتل عثمان، فالأئمة الكبار متفقون على أنه ليس بحجة.

وأكثر ما فُسِّر به قول الإمام مالك -رحمه الله تعالى- في كون إجماع أهل المدينة حجة أنه مراده ما كان جاريًا مجرى النقل المستفيض مما كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنه لو تغير لعُلم، ما دام الناس قد جروا على هذا فمعناه أن العمل متصل بما كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم وُصل به إلى زمن الإمام مالك، فأما في مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء، هذا أصح ما يُقال: في تفسير مراد الإمام مالك.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-18, 09:19 PM
اشتراط انقراض العصر في حجية الإجماع:

[المتن]:

[وانقراض العصر شرط في ظاهر كلامه، وقد أومأ إلى خلافه، فلو اتفقت الكلمة في لحظة واحدة فهو إجماع عند الجمهور، واختاره أبو الخطاب(1)].

[الشرح]:

انقراض العصر هل هو شرط أو لا؟ يعني هل يُشترط في انعقاد الإجماع أن يموت كل المتفقين؛ فحينئذ نحتج بالإجماع؟ أو بمجرد الاتفاق حصل الإجماع؟

هذه مسائل عقلية ما أظن أن لها وجودا في الواقع، يعني إذا قيل: (اتفاق علماء العصر) كيف يتفق هؤلاء؟ متى نحكم بأنهم اتفقوا؟ بمجرد حصول النطق أو لا بد أن يتفقوا ثم يموتوا؛ لأنه يحتمل أن يرجعوا عن أقوالهم؟

فيه خلاف.

(وانقراض العصر شرط في ظاهر كلامه): يعني في كلام الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-؛ أي أن يموت أهل الإجماع وينقرض عصرهم، ثم يبدأ الاحتجاج بإجماعهم، لماذا؟

قالوا: لاحتمال رجوع البعض عن اجتهاده ما دام حيًا.

(وقد أومأ إلى خلافه): أشار الإمام أحمد -رحمه الله- إلى خلاف كون انقراض العصر شرطًا، وهو أنه ليس بشرط، وهذا هو الصحيح؛ أنه لا يعتبر انقراض العصر شرطًا.

(فلو اتفقت الكلمة في لحظة واحدة فهو إجماع عند الجمهور): فيصير حجة على من أراد الرجوع منهم، لو اتفقوا في لحظة واحدة حينئذ صار الإجماع منعقدا؛ فصار حجة على كل واحد منهم، فهل يجوز له أن يرجع عن قوله؟

الجواب: لا؛ لانعقاد الإجماع في اللحظة الأولى، منذ اتفقت الكلمة حصل الإجماع فصار حجة، فحينئذ لا يجوز لواحد أن يرجع، أما على القول الأول تعذر حصول الإجماع حتى في عهد الصحابة وخاصة على القول بأن التابعي معتبر، فحينئذ إذا اتفقوا ننتظر حتى يموتوا، فيأتي تابعي جديد فيتعلم فيكون أهلا للاجتهاد فيُخالف، إذًا نقض الإجماع على اشتراط انقراض العصر لا يمكن أن يتصور، فهو إجماع عند الجمهور؛ لأن انقراض العصر ليس بشرط.

(واختاره أبو الخطاب): لماذا؟

لأن الأدلة الدالة على حجية الإجماع ليس فيها ذكر اشتراط انقراض العصر، فهي مطلقة، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} حصل الاتفاق، فحينئذ اشتراط انقراض العصر يحتاج إلى دليل، ولا دليل، فيبقى الأمر على أنه لا يشترط انقراض العصر، فبمجرد اتفاق الكلمة انعقد الإجماع فصار حجة عليهم هم أولا، ثم على غيرهم، فلا يجوز حينئذ لأحد أن يرجع عن قوله.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-18, 09:21 PM
حكم إحداث قول ثالث:

[المتن]:

[وإذا اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- على قولين لم يجز إحداث قول ثالث عند الجمهور، وقال بعض الحنفية، والظاهرية: يجوز(1)].

[الشرح]:

(1) (وإذا اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- على قولين لم يجز إحداث قول ثالث عند الجمهور، وقال بعض الحنفية والظاهرية: يجوز):

(وإذا اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- على قولين لم يَجُز): لمن بعدهم.

(إحداث قول ثالث عند الجمهور): إذا اختلف الصحابة في مسألةٍ ما على قولين، قيل: مُباح، وقيل: مكروه، هل يجوز أن يأتي ثالث بعدهم فيقول: لا، بل مُحرّم؟

نقول: لا يجوز؛ لأن اتفاقهم وإجماعهم على القولين حصر للحق في أحد القولين، وإذا جُوِّز أن يكون الحق في غير القولين جاز أن يخلو ذلك العصر من ناطق بالحق، وهذا باطل.

(وقال بعض الحنفية والظاهرية: يجوز): لأن المختلفين لم يُصرحوا بتحريم قول ثالث؛ فجاز إحداثه، والأول هو الأصح؛ أنه لا يجوز.

لكن اختلفوا في إحداث قول متوسط؛ يعني يكون القول الأول بالمنع، والثاني بالجواز، فيأتي ثالث يأخذ بعض هذا القول وبعض القول الآخر هل يجوز أو لا؟

هذا محل خلاف، مس الذكر ناقض للوضوء، مس الذكر لا ينقض الوضوء، قولان متقابلان، قال بهذا بعضهم، وقال بهذا بعضهم، جاء الثالث بعدهم قال: إن مس بشهوة فناقض وإلا فلا، هذا القول الثالث بعض هذا وبعض هذا، قول متوسط أخذ من هذا وأخذ من هذا، وهذه طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، كثيرًا ما يقول: "هذا بعض قول الإمام أحمد، وهذا قول بعض الإمام أبي حنيفة مثلا"، وهذه مسألة فيها نزاع.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-18, 09:28 PM
الإجماع السكوتي تعريفه وحكمه:

[المتن]:

[وإذا قال بعض المجتهدين قولا وانتشر في الباقين وسكتوا، فعنه: إجماع في التكاليف، وبه قال بعض الشافعية(1)، وقيل: حجة لا إجماع(2)، وقيل: لا إجماع ولا حجة(3)].

[الشرح]:

(1) (وإذا قال بعض المجتهدين قولا وانتشر في الباقين وسكتوا، فعنه: إجماع في التكاليف، وبه قال بعض الشافعية):

هذا شروع منه في بيان الإجماع السكوتي، الكلام السابق في الإجماع الصريح، لا بد من الاتفاق قولا؛ أن ينص كلُ عالم من المتفقين على الحكم صراحة.

(وإذا قال: بعض المجتهدين قولا): "المجتهدين" قيد في قوله: "علماء العصر"، أو "أهل الحل والعقد".

(قولا وانتشر في الباقين وسكتوا): إذًا لم يتكلم الكل، "الباقين" مراده هنا من؟

باقي المجتهدين؛ لأنه قال: "بعض المجتهدين".

(إذا قال: بعض المجتهدين): أين البعض الآخر؟ سكتوا.

(وانتشر في الباقين وسكتوا): لكن مع قدرتهم على الاعتراف أو الإنكار، لو أرادوا أن ينكروا على هذا القول لأنكروا، أو أن يقولوا بما قال به ذاك البعض لقالوا، أما إذا وُجد خوف أو نحوه فلا اعتبار حينئذ.

(فعنه): عن الإمام أحمد.

(إجماع في التكاليف، وبه قال بعض الشافعية): أي حجة قطعية في الأحكام المتعلقة بالتكليف، وبعضهم يجعل "في التكاليف" هذا قيدا في الإجماع السكوتي؛ أنه لا عبرة به، أو أن الخلاف في الأحكام الشرعية الفرعية، أما العقدية فلا، لا بد من الإجماع الصريح.

إذًا عنه أنه حجة قطعية في التكاليف، وإذا لم يكن الحكم تكليفيًا لم يكن إجماعًا ولا حجة، لماذا؟

قالوا: لأن الساكت هنا يُنزَّل منزلة الراضي الموافِق، وإن كان الأصح أنه لا يُنسَب لساكت قول.

(2) (وقيل: حجة لا إجماع):

(وقيل: حجة): أي حجة ظنية.

(لا إجماع): يمتنع مخالفته؛ لأنه إذا قيل: إجماع؛ فإنه لا يجوز مخالفته، وإذا قيل: حجة، لا إجماع؛ صار الحجة يجوز مخالفتها، والإجماع لا يجوز مخالفته.

هنا قال: (حجة لا إجماع)، السابق: (فعنه إجماع)؛ وعليه فهو حجة، ولم يصرح بالحجة؛ لأن كل إجماع حجة.

هنا قال: (وقيل: حجة): أي الإجماع السكوتي حجة ظنية، وليس بإجماع؛ لأن الحجة يجوز مخالفتها، يجوز للإنسان أن يُخالف، وأما الإجماع فلا يجوز مخالفته؛ لذلك فُرّق بينهما.

لماذا اعتبر حجة وليس إجماعا؟

لعدم تحقق حقيقة الإجماع التي هي "اتفاق"، ولا بد من الاتفاق، والاتفاق الحقيقي إنما يكون بالتصريح؛ أن ينطق ويتكلم كل عالم مجتهد بالحكم، وهنا لم يوجد هذا القيد؛ لذلك صار حجة فقط، لكن لما كان لرجحان دلالة السكوت على الموافقة اعتُبر حجة ظنية؛ يعني لما ورد إيهام أن سكوت البعض للرضا -والرضا هو الظاهر، وهو الراجح- اعتبر حجة ظنية، لا إجماع، إذًا نُفي الإجماع لعدم تصريح الباقين بالحكم الشرعي، واعتبر حجة؛ لأن الظاهر المتبادر أن سكوت الباقين إنما سكتوا للرضا والموافقة، ولذلك فُصِّل بين القولين.

(3) (وقيل: لا إجماع ولا حجة):

لماذا؟

لأنه لا يُنسَب لساكت قول.

لأن سكوت البعض له احتمالات، يحتمل أنه سكت خوفا، أو جُبنا، أو خجلا، يكون المتكلمون كبارا فسكت هو من باب الحياء، ويحتمل أنه لم يبلغه القول، أو أنه لم يعلم حكم المسالة، يحتاج إلى بحث، فالسكوت لا يدل على الرضا المطلق، ولا يدل على الموافقة، بل فيه احتمالات.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-18, 09:29 PM
مستند الإجماع:

[المتن]:

[ويجوز أن ينعقد عن اجتهاد، وأحاله قوم، وقيل: يتصور وليس بحجة(1)].

[الشرح]:

(1) (ويجوز أن ينعقد عن اجتهاد، وأحاله قوم، وقيل: يتصور وليس بحجة):

الإجماع لا بد وأن يكون مستندا إلى نص من كتاب أو سنة، هذا شرط الإجماع، هل يجوز أن ينعقد الإجماع عن اجتهاد؟

قالوا: يجوز، هنا قال: نعم، وهذا مذهب الأكثرين؛ أن ينعقد الإجماع لا عن دليل من كتاب أو سنة، لماذا؟

قالوا: لأنه وقع وحصل، أجمعوا على تحريم شحم الخنزير قياسًا على لحمه، والقياس هذا من باب الاجتهاد والرأي، هذا قول.

(وأحاله قوم): يعني منعوه، قالوا: لا يُتصور عقلا، أحالوه من العقل، قالوا: لا يجوز عقلا أن ينعقد عن اجتهاد؛ يعني لا يُتصور الإجماع عن اجتهاد وقياس؛ لأن القياس مختلف في ثبوته أصلا فكيف يكون الأصل مختلفًا فيه والفرع متفقًا عليه؟! هذا لا يُتصَور.

(وقيل: يتصور وليس بحجة): لأنه اجتهاد ظني، والإجماع دليل قطعي.

والصواب: الأول؛ أنه يجوز، وهو مذهب الأكثرين؛ لأنه لا يمتنع اتفاق الأمة على حصول ظني الحكم بالقياس، ثم تُجمع على ذلك الحكم؛ يعني يحصل قياس، ثم ما أفاده القياس يكون حكمًا ظنيًا، ثم ينعقد الإجماع على وجود ذلك الحكم الظني الذي حصل بالقياس.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-18, 09:31 PM
هل الأخذ بأقل ما قيل تمسك بالإجماع:

[المتن]:

[والأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع(1)].

[الشرح]:

(1) (والأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع):

يعني إذا اختُلف في مسألةٍ ما؛ قال بعضهم: إزالة النجاسة لا تكون إلا بثلاث، وقال آخرون: بسبع، إذًا من نص على الثلاث نفى الزيادة، ومن قال بسبع قال بالثلاث ثم زاد، إذا تركنا ما زاد على الثلاث وأخذنا بالثلاث -الوسط بين القولين- إذًا هل يكون إجماعا أو لا؟

لا يكون إجماعًا؛ لجواز مخالفته، لو قيل: إن الثلاث قد أُجمع عليها؛ حينئذ لا يجوز أن يقول قائل بالسبع، فإذا جُوِّز أن يقول: بالسبع دلّ على أنه لا إجماع؛ لأنه لو حصل الإجماع صار حجة، وصار دليلا قاطعًا.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-18, 09:32 PM
قول الخلفاء الأربعة ليس بإجماع:

[المتن]:

[واتفاق الخلفاء الأربعة ليس بإجماع(1)، وقد نقل عنه: لا يُخْرج عن قولهم إلى قول غيرهم، وهذا يدل على أنه حجة لا إجماع(2)].

[الشرح]:

(1) (واتفاق الخلفاء الأربعة ليس بإجماع):

لأنهم بعض الأمة، وشرط الإجماع أن يكون اتفاق كل الأمة، والعصمة المرتبة على الإجماع مقرونة بالكل لا بالبعض.

(2) (وقد نقل عنه: لا يُخْرج عن قولهم إلى قول غيرهم، وهذا يدل على أنه حجة لا إجماع):

(لا يُخرَج عن قولهم): هذا معروف عن الإمام أحمد، وجعله ابن القيم -رحمه الله- من أصول مذهب الإمام أحمد؛ أنه لا يعدل عن قول، أو لا يأتي بمسألة ليس للصحابة فيها قول، فإذا وُجد قول فيها للصحابة فلا يعدل عنهم، ولكن الظاهر هنا أنه أراد به الخلفاء الأربعة دون غيرهم؛ لذلك قال: (لا يُخرَج عن قولهم)؛ أي الأربعة.

(إلى قول غيرهم، وهذا يدل على أنه حجة لا إجماع): إذًا لا يُعتَبر اتفاق الأربعة الخلفاء إجماعا.

فإذا قيل: ليس بإجماع، لكن ليس المراد أنه من السهولة أن يُخالَف، لا، إذا وجد حُكم اتفق عليه الأربعة فهو أولى بالاتباع.

أبو أمامة عفا الله عنه
2014-06-18, 09:42 PM
الاستصحاب تعريفه، وحكمه:

[المتن]:

[وأما الأصل الرابع ـ وهو دليل العقل في النفي الأصلي ـ فهو : أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف، فيستمر حتى يرد غيره ويسمى استصحابا، وكل دليل فهو كذلك، فالنص حتى يرد الناسخ، والعموم حتى يرد المُخَصِّصُ، والملك حتى يرد المزيل، والنفي حتى يرد المثبت، ووجوب صلاة سادسة وصوم غير رمضان يُنفى بذلك(1)، وأما استصحاب الإجماع في مثل قولهم: الإجماع على صحة صلاة المتيمم، فإذا رأى الماء في أثناء الصلاة لم تبطل استصحابا للإجماع فـفاسد عند الأكثرين، خلافا لابن شاقلا، وبعض الفقهاء، فهذه الأصول الأربعة لا خلاف فيها(2)].

[الشرح]:

(1) (وأما الأصل الرابع، وهو دليل العقل في النفي الأصلي، فهو : أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف، فيستمر حتى يرد غيره ويسمى استصحاباً، وكل دليل فهو كذلك، فالنص حتى يرد الناسخ، والعموم حتى يرد المُخَصِّصُ، والملك حتى يرد المزيل، والنفي حتى يرد المثبت، ووجوب صلاة سادسة وصوم غير رمضان يُنفى بذلك):

انتقل إلى الأصل الرابع، وهو دليل العقل في النفي الأصلي، وهو أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف حتى يرد غير ذلك.

وقد ذكرنا أن الأصول المتفق عليها أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والنفي الأصلي، والمراد به استصحاب العدم.

(وأما الأصل الرابع): من الأصول المتفق عليها.

(وهو دليل العقل في النفي الأصلي): هل يثبت بالعقل أحكام شرعية؟

الجواب: لا، ليس هذا المراد، وإنما مرادهم أن الأحكام الشرعية إثباتها؛ إما بالإثبات، أو بالنفي؛ لأن النفي حكم كما أن الإثبات حكم.

حينئذ نقول: الأحكام الشرعية إما من جهة الإثبات أو من جهة النفي، الإثبات لا يكون إلا بدليل شرعي، لا تثبت عبادة إلا بدليل شرعي، لكن النفي للعقل فيه مدخل؛ يعني يُحكَم بدلالة العقل الذي يسمى بالبراءة الأصلية على نفي الأحكام قبل ثبوتها، فيقول لك: الأصل عدم التكليف؛ لأنه كما سبق أن العلم بالمُكلف لا بد أن يكون ثابتًا، فإذا لم يكن ثابتًا فلا تكليف، فدلّ العقل على نفي التكليف؛ إذًا للعقل مجال في نفي الأحكام الشرعية التي لم تكن ثابتة بالأصالة، أما ثبوتها فيحتاج إلى دليل؛ لأن الثبوت إيجاد، وهذا لا بد من دليل، والنفي عدم، وإذا كان موافقًا للأصل فلا إشكال.

أما إذا ورد النفي بعد الإثبات فلا عبرة بالنفي؛ يعني لو ثبت أن الصلوات خمس، فقال قائل: ليست بخمس.

نقول: نفيه هذا لا يُعتبَر؛ لأن الحكم ثبت.

لكن لو قال: لا صلاة سادسة واجبة على المكلفين كل يوم.

نقول: وجوب صلاة سادسة هل ثبت أو لا؟

لم يثبت، إذًا نفيه بالعقل؛ نقول: هذا هو الاستصحاب الذي سيذكره المصنف هنا، وهو دليل العقل في النفي الأصلي المسمى عندهم بالاستصحاب؛ أي البراءة الأصلية؛ بمعنى أن العقل دلّ على براءة الذمة من الواجبات قبل مجيء الشرع.

(فهو: أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف): ذمة المكلف قبل الشرع، قبل إثبات الأحكام ونزول الشريعة بريئة ومنفكة من التكاليف مطلقًا، فلا إيجاب إلا بدليل، ولا تحريم إلا بدليل، ولا كراهة إلا بدليل، ولا توجب أي عبادة إلا بدليل؛ لأن الأصل عدم التكليف، وأن الذمة قبل تعلق الشريعة بالمكلفين بريئة من التكاليف كلها بلا استثناء.

(فيستمر حتى يرد غيره): أي فيستمر النفي الأصلي حتى يرد غيره، وهو الدليل الشرعي الناقل عن الأصلي، فنقول: الأصل عدم إيجاب صلاة مطلقًا في ذمة المكلف، فيستمر هذا النفي حتى يثبت أن ثم خمس صلوات واجبة على المكلف في اليوم والليلة، فهو دليل شرعي ناقل عن البراءة الأصلية.

(ويُسمى استصحابًا): يسمى الدليل العقلي في النفي الأصلي استصحابًا، استفعال من طلب الصحبة؛ كالاستغفار طلب المغفرة.

واصطلاحًا: استدامة إثبات ما كان ثابتًا أو نفي ما كان منفيًا، هكذا عرّفه ابن القيم -رحمه الله-.

استدامة إثبات ما كان ثابتًا، فالأصل العموم، الأصل أن اللفظ عام يشمل كل الأفراد ولا يُخرَج عنه إلا بدليل التخصيص، ولا دليل، إذًا الإثبات أو العدم هنا الأصل، الأصل الإثبات؛ استدامة إثبات ما أثبته الدليل حتى يرد المخصص، أو نفي ما كان منفيًا، الأصل عدم وجوب صلاة سادسة فيبقى هذا الأصل حتى يرد دليل يثبت الصلاة السادسة.

(وكل دليل فهو كذلك): كل دليل يصلح أن يكون مُستصحَبًا، كل الأدلة الشرعية، كل دليل يُتصَوّر الاستصحاب فيه.

(فالنص حتى يرد الناسخ): يعني فالأصل الإحكام ولا نسخ، إذا تردد وصار الاحتمال بين أن يكون الحكم منسوخًا أو لا؛ نقول: الأصل عدم النسخ، هذا استصحاب للدليل الشرعي حتى يرد الناقل، ولا يوجد ناقل بالحكم؛ بأن الحكم منسوخ هنا.

(والعموم حتى يرد المُخَصِّصُ): الأصل العموم حتى يرد المُخصص، اللفظ العام يُحمَل الحكم المُعلَق عليه على كل فرد فرد من أفراد موضوعه، ولا يُخرَج فرد واحد إلا بدليل يدل على التخصيص، لو احتمل التخصيص؛ نقول: الأصل بقاء العموم على عمومه حتى يرد المُخصص، هذا استصحاب للدليل الأصلي.

(والملك حتى يرد المزيل): والأصل المُلك حتى يرد المزيل؛ يعني إذا كانت السلعة في يد المكلف نقول: الأصل أنه مالك لها ولا يثبت عكس ذلك؛ عكس الملك إلا بدليل؛ إما بإثبات أنه وهبها أو باعها أو أجّرها .. إلخ، فالأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا كان هو مالكًا للسعلة فنقول: الأصل أنه مالك لها، ولا تزول يده عنها إلا بدليل، ومثله الطهارة، نقول: الأصل الطهارة إذا شك في الحدث؛ استصحاب الأصل، وهو أنه متطهر، وإذا كان الأصل الحدث وشك في الطهارة فنقول: الأصل معتمد، وهو استصحاب الحدث.

(والنفي حتى يرد المُثبِت): الأصل النفي، لا صلاة سادسة، لا إيجاب صوم غير رمضان حتى يرد المُثبت، هذه أمثلة ذكرها المصنف هنا لتدل على أن الاستصحاب أربعة أنواع:

الأول: استصحاب البراءة الأصلية، ومثّل له بقوله: (والنفي حتى يرد المُثبت)، هذا هو الأصل، استصحاب البراءة الأصلية، وهو المراد عند الإطلاق.

الثاني: استصحاب الدليل الشرعي الأصلي حتى يرد الناقل، وإذا أُطلق الاستصحاب أيضًا انصرف إلى هذا، ومثَّل له بقوله: (فالنص حتى يرد الناسخ، والعموم حتى يرد المُخصص).

الثالث: استصحاب الوصف المُثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه، استصحاب الوصف المُثبت للحكم -كالملك- هذا مثبت للحكم، والطهارة المُثبتة للحكم، والحدث المُثبت للحكم، الأصل استصحاب هذا الوصف حتى يرد الناقل.

الرابع: وسيذكره المصنف فيما يأتي: استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع، إذًا أربعة أنواع للاستصحاب ذكرها في هذه الأمثلة السابقة.

(ووجوب صلاة سادسة وصوم غير رمضان يُنفى بذلك) يعني بالأخير. قال:

(والنفي حتى يرد المُثبت): مثل ماذا؟

(وجوب صلاة سادسة): الأصل عدم الوجوب، حينئذ يُستصحَب عدم إيجاب صلاة سادسة، سادسة يعني يومية على الخمس صلوات، وأما النذر ونحوه فهذا لا يكون يوميًا، ولا يُقال: صلاة سادسة، سادسة على ماذا؟ أين الخامسة والرابعة؟ المراد بها الخمس صلوات؛ لأنها واجبة بإجماع، هل هناك صلاة سادسة؟ لأنا إذا قلنا: بوجوب الوتر صار الإيجاب ستا لا خمسا؛ لأنه لو ترك الوتر لصار آثمًا، ولو ترك فرضا من الفروض الخمس صار آثما، وإن كان يختلف في بعض الأحكام.

(ووجوب صلاة سادسة): كمن أوجب صلاة الوتر، للنافي أن يقول: لا تجب فيستصحب العدم.

(وصوم غير رمضان): يُنفى بذلك أيضًا، إيجاب صوم مستمر على كل المكلفين غير شهر رمضان نقول: يُنفى بذلك.

(2) (وأما استصحاب الإجماع في مثل قولهم: الإجماع على صحة صلاة المتيمم، فإذا رأى الماء في أثناء الصلاة لم تبطل استصحابا للإجماع فـفاسد عند الأكثرين، خلافا لابن شاقلا، وبعض الفقهاء):

(وأما استصحاب الإجماع): وهو النوع الرابع من أنواع الاستصحاب.

(وأما استصحاب الإجماع في مثل قولهم): أي في محل النزاع.

(مثل قولهم: الإجماع على صحة صلاة المتيمم): المتيمم الذي فقد الماء حسًا أو حكما أجمع العلماء على أنه إذا تيمم صحت صلاته ابتداء وانتهاء؛ لعدم وجود الماء، فله أن يشرع في الصلاة بالتيمم، هذا بالإجماع، لكن لو رأى الماء في أثناء الصلاة فما الحكم؟

اختلف العلماء، هنا قال:

(الإجماع على صحة صلاة المتيمم): هذا مُجمَع عليه، ابتداء الشروع في الصلاة متيممًا عند عدم وجود الماء هذا مُجمَع عليه، لكن إذا وُجد الماء في أثناء الصلاة نقول: هذه مسالة أخرى؛ ولذلك وقع النزاع فيها؛ إذ لو كان الإجماع الأول يدل على الثاني لما وقع نزاع.

(فإذا رأى الماء في أثناء الصلاة لم تبطل استصحابًا للإجماع): من رأى استصحابًا للإجماع استصحبه.

ولكن هذا غير صحيح؛ لأن الإجماع إنما دل على الدوام فيها حال عدم الماء؛ يعني الإجماع على صحة الصلاة المتيمم بشرط عدم وجود الماء، فالإجماع مخصوص بحالة معينة، وليس مطلقًا أن المتيمم تصح صلاته مطلقًا؛ كل من تيمم عند عدم وجود الماء فصلاته صحيحة، ولذلك لو تيمم فوُجد الماء قبل الشروع في الصلاة بطل تيممه، مع أنهم أجمعوا على أن له أن يشرع في الصلاة، كذلك لو وجد الماء بعد شروعه في الصلاة الإجماع الأول لا يشمل الحالة الثانية؛ لأن إجماعهم مُقيَّد بعدم وجود الماء، فإذا وُجد الماء الإجماع لم ينعقد حينئذ، ففرق بين العدم والوجود، فلا يقاس الوجود على العدم.

بعض أهل العلم استصحب ورأى أنه يصح استصحاب الإجماع فاستصحب الإجماع الأول على الحالة الثانية فصحح الصلاة مع وجود الماء في أثناء الصلاة، ومن قال: بالمنع، قال: بطلت صلاته؛ لأنه وُجد الماء، إنما جاز التيمم له عند عدم الماء.

(ففاسد عند الأكثرين) "ففاسد"، الفاء هذه واقعة في جواب "أما"، (وأما استصحاب الإجماع)؛ يعني في محل النزاع، (ففاسد عند الأكثرين)؛ يعني الاستصحاب فاسد؛ لأن الكلام ليس في مسألة الصلاة والتيمم؛ لأن هذه مسألة فرضية، ليس البحث فيها، وإنما هي مثال لما استصحب فيه بعض المجتهدين الإجماع في محل النزاع؛ نقول: الاستصحاب فاسد بقطع النظر عن ماهية وحقيقة المسألة.

(ففاسد عن الأكثرين): يعني عند الجمهور؛ لأن فرقًا بين الحالين، الإجماع انعقد على حال عدم الماء، ومحل النزاع فيما إذا وُجد الماء، وفرق بين الوجود والعدم.

(خلافًا لابن شاقْلا): "شاقلا" بإسكان القاف وفتح اللام، وبعضهم يقرأها شاقّلا.

(وبعض الفقهاء): في أنه حجة، وابن القيم يميل إلى هذا؛ إلى أنه حجة.

(خلافًا لابن شاقلا وبعض الفقهاء): في أن استصحاب الإجماع حجة؛ لأنه يحسم الخلاف، فيستحيل وقوعه، فالإجماع انعقد على صحة صلاة المتيمم حالة الشروع، والدليل الدال على صحة الشروع دال على دوامه إلا بدليل؛ يعني قلبوا القضية.

والصحيح أن نقول: الصلاة باطلة؛ لأن الإجماع انعقد في حالة غير حالة الوجود.