تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي حياته العلمية و جهوده الدعوية و آثاره الحميدة



محمد طه شعبان
2014-03-12, 11:59 PM
محمد بن احمد سيد احمد
المدرس بدار الحديث الخيرية
اسمه ونسبه :
هو العالم الجليل والسلفي النبيل عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية بن عبد البر بن شرف الدين النوبي ولد في الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري وعلى وجه التحديد في السابع والعشرين من شهر رجب سنة 1323 هـ الموافق 16 ديسمبر سنة 1905 م ، في قرية شنشور مركز أشمون التابع لمحافظة المنوفية وهي إحدى محافظات مصر .
نشأته وبيئته :
نشأ الشيخ عبد الرزاق في بيئة معطرة بأنفاس القرآن الكريم وسط أسرة محافظة وفي مجتمع ريفي بعيد عن فتن الحواضر ومفاسدها .
ففي قرية شنشور ، تلك القرية الهادئة المتواضعة التي تترابط أسرها وتمتزج في كيان واحد وتتنسم عبير الإخاء والود : في هذه القرية نشأ الفتى عبد الرزاق عفيفي ، نشأة صالحة ، تغمرها العاطفة الدينية الجياشة وتوثق عراها سلامة الفطرة وحسن الخلق والبعد عن الخرافات والخزعبلات وكان لهذه النشأة الطيبة أثرها البالغ في حياة المترجم له حيث بدأ حياته العلمية بحفظه لكتاب الله تعالى حفظاً متقناً مع تجويده على يد عدد من مشايخه آنذاك ومنهم الشيخ محمد بن حسن عافية والشيخ محمد بن عبود عافية هذا فضلاً عن والده الذي قام على تربيته وتنشئته أحسن ما ينشأ الفتيان الذين في مثل سنه ، قال الشاعر :
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
وما كان الفتى نجماً ولكن يعوده التدين أقربوه
أصوله وفروعه :
ينتمي الشيخ عبد الرازق عفيفي إلى أسرة كريمة ، طيبة الأخلاق محمودة السيرة حسنة السمعة متمسكة بالأخلاق الإسلامية وأخلاق أهل القرية والريف التي لم تتلون بمظاهر الحضارة الكاذبة .
فوالده هو الشيخ عفيفي بن عطية النوبي ، من مشاهير قرية شنشور وصالحيها ، كان حافظاً لكتاب الله تعالى ، وكان الشيخ عبد الرازق كثيراً ما يتحدث عن والده للخاصة من طلابه وقد ذكر لي فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام – حفظه الله – أنه رأى والد الشيخ عبد الرازق عند أول قدوم له إلى المملكة سنة (1368هـ) وهي نفس السنة التي قدم فيها الشيخ عبد الرازق إلى أرض الحرمين الشريفين وكان والد الشيخ عبد الرازق يرتدي العمامة البيضاء المستديرة فوق رأسه وهي لباس أهل مصر آنذاك .
فروع الشيخ عبد الرزاق عفيفي :
إن من أعظم النعم وأكبر المنن أن يوفق الإنسان بعد تقوى الله عز وجل إلى زوجة صالحة تعينه على أمر دينه ودنياه ، تطيعه إذا أمر وتسره إذا نظر ، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله ، تتقن عملها وتعتني بنفسها وبيتها وزوجها ، فهي زوجة صالحة ، وأم شفيقة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ولا أدل على ذلك من قوله r : " المرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها " وقوله r وقوله عليه الصلاة والسلام : " الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة" وقوله r :" من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة ، والمسكن الصالح والمركب الصالح "
ولقد كان من نعم الله وحسن بلائه على فضيلة الشيخ عبد الرزاق أن وفقه لزوجة صالحة وسيدة فاضلة من أسرة كريمة وعائلة فاضلة هي عائلة (سالم ) بالإسكندرية ، وأصلها من إسنا بصعيد مصر وقد رزقه الله منها عدداً من البنبن والبنات .
أما الأبناء فهم :
1- المهندس الزراعي أحمد عاصم بن عبد الرزاق عفيفي ولد سنة 1364هـ - 1944م ، وتوفى في حرب العاشر من رمضان سنة 1393هـ - 1973م بمصر
2- الأستاذ محمد نبيل بن عبد الرزاق عفيفي – حفظه الله – ويعمل مراقباً مالياً بالخطوط السعودية بجدة ، وهو من أبر أبناء الشيخ وأرعاهم لحقوقه في حياته وبعد وفاته جزاه الله خيرا وهو من مواليد سنة 1366هـ - 1946 م
3- الأستاذ محمود بن عبد الرزاق عفيفي – حفظه الله – عمل مدرساً بالرياض ثم ترك التدريس وتفرغ لخدمة والده في السنوات الأخيرة من حياته – رحمه الله – فجزاه الله خيراً وجعل أعماله الصالحة في موازين حسناته ، وهو من مواليد سنة 1369 هـ - 1949م .
4- الأستاذ عبد الله بن عبد الرزاق عفيفي توفى في حياة والده سنة 1412هـ - 1992م – رحمة الله
5- الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الرزاق عفيفي توفى في حياة والده اثر حادث وقع عليه سنة1408-1988 وكان من طلبه العلم المبرزين ومن اكثر أبناء الشيخ اتصافا به وكان يعمل بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالرياض – رحمه الله .
واما البنات فثلاث وقد أكرمها الله بأصهار صالحين بررة ولا نزكي علي الله أحدا نحسبهم كذلك وكان الشيخ عبد الرزاق – يرحمه الله –يهتم بتربية أولاده بل وحتى أحفاده وينشئهم تنشئة صالحة – فكانوا مثالا في الاستقامة والبر ورعاية واداء الأمانات .

محمد طه شعبان
2014-03-16, 10:37 PM
أوصافة الخلقية وصفاته الخلقيةأ – أوصافة الخلقية:
كان رحمه الله قوي البنية جسيما مهيبا طويل القامة عظيم الهامة مستدير الوجه قمحي اللون له عينان سوداوان يعلوهما حاجبان غزيران ومن دون ذلك فم واسع ولحية كثة غلب البياض فيها علي السواد وكان عريض الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكفين والقدمين ينم مظهره عن القوة في غير شدة .
هيئته ولباسه :
كان الشيخ عبد الرزاق – رحمه الله – حسن الهيئة ، جميل المظهر في غير تكلف ، له سمت خاص في لباسه ، يرتدي ثوبا فضفاضا أشبه ما يكون بلباس أهل مصر ، إلا أنه محاك على السنة . وكان يعجبه اللباس الخشن من الثياب في غالب الأوقات وهو سلفى المظهر والشارة .
ومجمل القول : أن الشيخ – رحمه الله – كان رجلا متميزا في هيئته ولباسه يرتدي ما يراه متفقا مع مكانة العلم والعلماء وظل متمسكا بهذه الهيئة المتميزة من اللباس إلى آخر حياته المليئة بالجد والكفاح والمثابرة . هيبته :
كان الشيخ – رحمه الله – رجلا مهيبا ، من رآه بديهة هابه ، فيه عزة العلماء ، لا يتزلف إلى أصحاب المناصب زائرا أو مزورا ، يقول أحد تلاميذه : إن الشيخ كان يفرض احترامه على طلابه وكان الطلاب يهابون حياء ويقدرونه في أنفسهم وما سمعت منه كلمة مؤذية قط .
لقد كان الشيخ مهيبا حقا ومع هذه الهيبة كان آية في التواضع وحسن المعاشرة وعلو الهمة ، بعيدا عن الصلف والتكلف المذموم ، أبيا عزيز النفس وكأن الشاعر قد عناه بقوله:
يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمع ضيرته لي سلما
وما كل برق لاح لي يستفزني ولا كل من لاقيت أرضاه منعما
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظمأ
فصاحته :
اللغة العربية لغة جميلة فهي لغة القرآن والسنة ، أسلوبا ومنهجا ومقصدا ومغزى فهي الطريق إلى فهمها والعمدة في إدراك أسرارهما فهي بحق من مستلزمات الإسلام وضروراته.
والشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – يعد وبجدارة من أرباب الفصاحة وأساطين اللغة في علم النحو الخاصة وعلوم العربية كافة .
كان آية في التحدث بلغة الضاد ( اللغة العربية الفصحة ) كتابة ومحادثة وكان هذا بيان مشرق متدفق وأداء جميل ونبرات مؤثرة في غير تكلف وكان إذا تكلم أسمع وعقل عنه .
وكانت إحاطته بمفردات اللغة العربية تكاد تكون شاملة وهو إلى جانب ذلك سهل العبارة ، عذب الأسلوب ، تتسم عباراته بالإيجاز والإحكام والبيان والجزالة وكان بعيدا عن التكلف والتمتمة والفأفأة والتنطع والتشدق .
وإني أتمنى أن يعتني طلبة العلم وحملة الشريعة ورواد المعرفة بهذه اللغة العظيمة ، اللغة العربية ، لغة القرآن الكريم .
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : : تعلموا العربية فإنها من دينكم " وعن عمرو بن زيد قال : " تفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي " . وقال عبد الحميد بن يحي : " سمعت شعبة يقول : تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل " .
وقال عبد الملك بن مروان : " اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه " . وأوصى بعض العرب بنيه فقال : " يا بني أصلحوا ألسنتكم فإن الرجل تنوبه النائبة فيحتال فيها فيستعير من أخيه دابته ومن صديقه ثوبه ولا يجد من يعيره لسانه " .
وقال ابن تيمية – رحمه الله - : " الدين فيه فقه أقوال وأعمال . ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله وفقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله " .
فراسته :
قال ابن القيم – رحمه الله - : الفراسة الإيمانية سببها نور يقذفه الله في قلب عبده ، يفرق به بين الحق والباطل والحال والعاطل والصادق والكاذب وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ووقائع فراسته مشهورة فإنه ما قال لشيء : " أظنه كذا إلا كان كما قال " ويكفي في فراسته موافقته ربه في مواضع عدة .
وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة وأصل هذا النوع من الفراسة من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير فلا تكاد فراسته تخطيء . قال تعالى : ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ) .
قال بعض السلف : من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بالمراقبة وظاهره باتباع السنة لم تخطيء فراسته .
قال الماوردي – رحمه الله - : ينبغي أن يكون للعالم فراسة يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته وقدر استحقاقه ، ليعطيه ما يتحمله بذكائه أو يضعف عنه ببلادته فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم .
والشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – ولا أزكى على الله أحدا كان صاحب بصيرة نافذة وفراسة حادة يعرف ذلك عنه من خالطه وأخذ العلم على يديه ومما يدلل ويؤكد على فراسة الشيخ أنه كان يتأمل وجوه تلاميذه ويتفرس فيهم فيعرف المجد من الخامل والنابه من الجاهل فيخص هؤلاء بعلم قد لا يخص به أولئك . وثم دليل آخر على فراسة الشيخ أنه كان – رحمه الله – يدرك حقيقة ما يعرض عليه من المشكلات ويتأمل وجوه أصحابها فيكشف ما وراءها من الدوافع ببصيرته الفذة وقلما ينطلي عليه مكر أو احتيال . ومما يدل كذلك على صدق فراسة الشيخ ومعرفته بالرجال ما ذكره فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد عبد المنعم قائلا : حدثني – رحمه الله – في مجلس الفتوى في ( منى ) فقال : إذا سأل البدوي عن مسألة وكان الجواب موافقا لما يهوي فإنه يسأل سؤالا آخر قريبا من الأول أو بعيدا أما إذا كان الجواب بخلاف ما يهوى فإنه يسأل سؤالا آخر قريبا من الأول أو بعيدا أما إذا كان كان الجواب بخلاف ما يهوى فإنه يسكت وينصرف .
وهكذا أكسبه طول التعامل مع المستفتين معرفة لنفسياتهم فكانت إجاباته بإيضاح الحكم فيما يسأل عنه من التوسع أو من الإيجاز ، ملحوظا فيها ما ينقدح في ذهنه من مقصد السائل عند إلقاء السؤال من رغبة في معرفة الحكم الشرعي في المسألة أو في خلاف ذلك .
ولله در من قال :
ألمعي يرى بأول رأي آخر الأمر من وراء المغيب
لوذعي له فؤاد ذكي ما له في ذكائه من ضريب
لا يروي ولا يقلب طرفا وأكف الرجال في تقليب

الشريف حازم
2014-03-17, 01:30 AM
جزاكم الله خيرا
وجعلنا نعم الخلف لخير سلف

محمد طه شعبان
2014-03-18, 02:13 PM
آمين

محمد طه شعبان
2014-03-18, 02:14 PM
قوة حافظته وحضور بديهته :
كان رحمه الله قوي الحافظة ، سريع البديهة ، مستحضر الفهم ، شديد الذكاء وافر العلم غزير المادة ، صاحب ألمعية نادرة ونجابة ظاهرة .
إن نعمة الحفظ وقوة الذاكرة من أقوى الأسباب – بعد توفيق الله عز وجل – على طلب العلم ولقد كان لهذه الحافظة القوية والذاكرة الجبارة أثرها البالغ في تحصيل ثروته العلميه والتي بنيت على محفوظاته التي علقت بذاكرته في مرحلة التعلم والتعليم وقد رزقه الله من الذكاء وقوة الحفظ ما مكنه من إدراك محفوظاته العلمية عن فهم وبصيرة فكان الشيخ يدرك حقيقة ما يعرض عليه من المشكلات فيكشف ما وراءها من الدوافع بتوفيق الله ثم بذكائه الحاد وبصيرته النافذة ولم يكن ينطلي عليه خداع أو احتيال .
ومما يؤكد ويبرهن على قوة حافظة الشيخ وسيلان ذهنه أن أحد الموظفين بإدارات البحوث العلمية والإفتاء سأل الشيخ وأنا جالس بجانبه – في مقر هيئة كبار العلماء بمدينة الطائف – عن مرجع لمسألة يريد أن يرجع إليها فدله الشيخ على كتاب المغنى لابن قدامه وذكر له الجزء والصفحة والمكان وهذا إن دل فإنما يدل على شدة ملاحظته وتوقد ذهنه – رحمه الله .
وثم دليل آخر يؤكد على قوة ذاكرة الشيخ وهو أنه رحمه الله كان يقص قصصا ويذكر أحداثا ووقائع من أعماق التاريخ ترجع إلى أكثر من ثلاثة أرباع القرن ، يذكرها وكأنها ماثلة أمام عينه .
وثم دليل ثالث على عمق حافظة الشيخ وحضور بديهته ، ما ذكره أحد تلامذته من أن الشيخ أملى عليهم من حفظه في مادة التفسير أكثر من مائة صفحة .
ويؤكد هذا كله فضيلة الشيخ محمد بن سعد السعيد قائلا : " لقد حباه الله قوة الحافظة والدقة في الفهم وسرعة البديهة وحصافة الرأي مع اتسامه بالورع والزهد والتواضع .
وفور عقله وبعد نظره :
إن من المسلم به أن لكل فضيلة أسا ولكل أدب ينبوعا وأس الفضائل وينبوع الآداب هو العقل الذي جعله الله تعالى للدين أصلا وللدنيا عمارا فأوجب التكليف بكماله وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه وألف به بين خلقه مع اختلاف همهم ومآربهم وتباين أغراضهم ومقاصدهم .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أصل الرجل عقله وحسبه دينه ومروءته خلقه وقال الحسن البصري رحمه الله : ما استودع الله أحدا عقلا إلا استنقذه به يوما وقال بعض الأدباء : صديق كل امريء عقله .
وقال إبراهيم بن حسان :
يزين الفتى في الناس صحة عقله وإن كان محظورا عليه مكاسبه
يشين الفتى في الناس قلة عقله وإن كرمت أعراقه ومناسبه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه على العقل يجري علمه وتجاربه
وأفضل قسم الله للمرء عقله فليس من الاشياء شيء يقاربه
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله فقد كملت أخلاقه ومآربه
وإنني لأشهد بالله أن الشيخ عبد الرازق عفيفي – يرحمه الله – كان من العلماء القلائل الذين جمع الله لهم بين وفرة العلم ووفر العقل وبعد النظر فكان مثالا للداعية المسلم الحق الذي يدعو إلى الله على بصيرة وإلى جانب تعقل الشيخ وبعد نظره فقد تميز – رحمه الله – بسعة علمه ومقدرته على الفهم الدقيق والاستنباط الواعي والتمييز المستبصر .
إن كل من رأى الشيخ وبعد نظره فقد تميز – رحمه الله – بسعة علمه ومقدرته على الفهم الدقيق والاستنباط الواعي والتمييز المستبصر .
إن كل من رأى الشيخ وجلس إليه يشهد له بحنكة باهرة وحكمة ظاهرة واطلاع واسع وعدم خوضه فيما لا يعنيه وإعراضه عن التحدث في الموضوعات ذات الحساسية وهو مع ذلك فقيه بواقع أمته ومطلع على ظروف عصره ، يعيش آمال الأمة وآلامها ساعة بساعة ولحظة بلحظة .
ولقد أكسبته هذه الخصال الحميدة والسجايا الحسنة احترام الناس له وتقديرهم لعلمه وفضله حتى أصبح موضع تقدير الجميع علماء وعامة .
يقول فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان : كان الشيخ – رحمه الله – كثير الصمت يفرض احترامه على جالسيه كثير التأمل شديد الملاحظة ، وافر العقل ، نافذ الفراسة .
وقال فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي : ما رأيت رجلا من المصريين أعقل من الشيخ عبد الرزاق – رحمه الله – جمع بين العلم والعقل فيا سعادة من جمع العلم والعقل إذ لا يستغنى أحدهما عن الآخر .
لقد كان الشيخ – يرحمه الله – صافي الذهن ، بعيد النظر ، ينظر الى عواقب الأمور ويوازن بين المصالح والمفاسد ويبين لجالسيه وطلابه أن التعجل والتهور وعدم النظر في وعدم النظر في العواقب ، يجلب على الأمة ويلات كثيرة فلله دره من عالم فحل وعاقل متأدب وداعية محنك لم يهزه طيش ولم يستفزه خرق .
ولقد صدق من قال :
إذا تم عقل المرء تمت أموره وتمت أمانيه وتم بناؤه
وقال أبو بكر بن دريد :
العالم العاقل ابن نفسه أغناه جنس علمه عن جنسه
كن ابن من شئت وكن مؤدبا وإنما المرء بفضل كيسه
وليس من تكرمه لغيره مثل الذي تكرمه لنفسه

محمد طه شعبان
2014-03-18, 02:16 PM
مواهبه وسجاياه :
لقد كان الشيخ عبد الرزاق – يرحمه الله – يتمتع بمواهب وسجايا وخصال قل أن تجتمع في غيره فقد كان – رحمه الله – يتحلى بسعة العلم والأناة والحلم والهدوء في المحاورة والمناقشة والقدرة على الإقناع وتقريب الأمور إلى الأذهان .
يقول أحد طلابه : لقد حباه الله قوة الحافظة ودقة الملاحظة وسرعة الفهم وسيلان الذهن وحصافة الرأي مع اتسامه بالورع والزهد والتواضع ولين الجانب وكان كثير الصمت قليل الكلام إلا فيما ترجحت فائدته ومصلحته . أ ه .
وبالجملة فقد كان الشيخ – رحمه الله – يتمتع بصفات حسنة وسجايا كريمة . لقد كان مثالا يحتذى في أدبه وعلمه وأخلاقه وقدوة في تصرفاته . لقد كان موهوبا .

محمد طه شعبان
2014-03-18, 02:17 PM
صفات الخلقية :
إن من عاصر الشيخ عبد الرازق – رحمه الله – وخالطه وعاشره يتفق معي أنه كان رجلا قوي الشخصية متميز التفكير مستقل الرأي نافذ البصيرة ، سليم المعتقد حسن الاتباع ، جم الفضائل ، كثير المحاسن ، مثال العلماء العاملين والدعاة المصلحين فيه عزة العلماء وإباء الأتقياء ، غاية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع حكمة ولطف وبعد نظر لا يجابه أحدا بما يكره ولا ينتصر لنفسه .
كان زاهدا عابدا أمينا صادقا كثير التضرع إلى الله قريب الدمعة زكي الفؤاد ، سخى اليد ، طيب المعشر ، صاحب سنة وعبادة ، كثير الصمت ، شديد الملاحظة ، نافذ الفراسة ، دقيق الفهم راجح العقل ، شديد التواضع ، عف اللسان . وبالجملة : فقد اتصف الشيخ – رحمه الله – بصفات جميلة وخلال حسنة وشيم كريمة ، يجمال بنا أن نتناولها بشيء من التفصيل .
زهده وعفته :
إن الزهد في الدنيا معنى جميل ، لا يستقم إلا لكل نفس كبيرة فهو خير معين على التفرغ للعظائم وأقوى محقق لمعاني القوة في النفس والعقل والبدن . وأكبر عامل على صفاء القلب وصوله عما يتورط فيه من الحقد والغل والحسد وأدعى شيء الى العفاف والترفع عن السفاسف والى عزة النفس والصدع بالحق ومقاومة الشر
وعلى الجملة فهو كنز النفس العظيمة وميزة الصفوة المختارة والخيرة الأبرار .
والزهد ليس كما يزعم بعض الجاهلين قبوعا عن كل جليل وعظيم من الاعمال وليس الزهد كما يخيل للحمقى والمغفلين الذين غرر الشيطان بهم . هو الذلة والمسكنة والفقر والمتربة والضعف والحاجة والكسل اللاصق بالارض القانع بالدون من الحياة .
لكنه زهد تربية وزهد النفس التي تعف فيما تملك وتترفع عن أن تمد عينيها الى ما لا تملك إنه العزة التي لا يذلها مطمع من مطامع الدنيا ولا تغريها شهوة من شهواتها إنه زهد القلب وعفة الروح وطهارة الجوارح إنه التجرد الكامل من رق النفس وأهوائها وشهواتها .
لقد كان زهد السلف الصالح رضي الله عنهم وخشونة ملبسهم وجئوبة مطمعهم ، من أبلغ عوامل الرهبة في قلوب أعدائهم وأوكد اسباب خضوع الدنيا لهم .
وعندما خلف من بعدهم خلف خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ورغبوا في العاجل وأعرضوا عن الآجل ، تبددت الرهبة من صدور أعدائهم وتمنعت الدنيا وعزت على عمالهم وتكالبت عليهم الأمم وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها " فقال قائل أو من قلة نحن يومئذ ؟ قال " بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن " . فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن . قال : " حيث الدنيا وكراهية الموت " .
لقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – رمزا ومثالا يحتذى وقدوة تؤتسى في الزهد والورع وإنكار الذات .
كان زاهدا في الدنيا متقللا منها معرضا عنها ، متحليا بالطاعة ، مستشعر العفاف والكفاف ، مقتصرا من نفقته وملبسه على ما تدعو اليه الحاجة والضرورة .
لقد كان – رحمه الله – متواضعا في مسكنه ومأكله ومشربه وسائر أموره وما عرفت الدنيا طريقا الى قلبه ولم يكن يهتم بها ومع أن غيره ممن هو دونه كان ينقلب في النعيم وينام على الوثير من الفراش ، كان الشيخ – رحمه الله – متواضعا في مسكنه ومشربه وسائر أموره وما عرفت الدنيا طريقا الى قلبه ولم يكن يهتم بها ومع ان غيره ممن هو دونه كان يتقلب في النعيم وينام على الوثير من الفراش يؤثر خشونة العيش وعدم التوسع في الملذات على الرغم من أنه مد بأسبابها .
والبرهان على أنه ليس طالب مجد دنيوي أنه ما سلك سبيلا لازدياد كسب مادي وما أكثر سبل الكسب المادي لو أرادها ومما يؤكد ذلك ويدعمه أنه كان – رحمه الله – محبا للتستر بعيدا عن المظاهر والتصدر يكره الشهرة ويأبى أن تسلط عليه الأضواء ويبتعد عن وسائل الإعلام بعدا لا هوادة فيه .
يقول أحد طلابه : لقد جاء الشيخ إلى السعودية على علمه وسجيته لم يجتذبه طمع في مال أو جاه أو منصب وقد علم الله صلاح نيته فانقادت له كل أسباب العز الدنيوي وهو لم يطلبها فكان في هذه المملكة أستاذ جيل بحق .
قلت : ومما لا ينكر من أخلاقه الظاهرة وزهده وورعه ، كراهيته الشديدة للمدح والثناء عليه وتقبيل رأسه ويديه فما كان يرضى من أحد أن يثنى عليه أو يبالغ في مدحه .
وأما عفة الشيخ وتعففه فهو بحر لا ساحل له وقد تكفي الإشارة إن لمة تسعف العبارة وصفوة القول أن الشيخ – رحمه الله – كان شديد التعفف ، غاية في الزهد ، نموذجا للأسوة الحسنة والقدوة الصالحة .
كما كان رحمه الله عف اللسان عفيف النفس طاهر الذيل ، بعيدا عن المحارم ، مجانبا للمآثم .
يبيت مشمرا سهر الليالي وصام نهاره لله خيفة
وصان لسانه عن كل إفك وما زالت جوارحه عفيفة
يعف عن المحارم والملاهي ومرضاة الإله له وظيفة

محمد طه شعبان
2014-03-18, 02:19 PM
تواضعه :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد " . والتواضع هو انكسار القلب لله وخفض جناح الذل والرحمة للخلق ومنشأ التواضع من معرفة الإنسان قدر عظمة ربه ومعرفة قدر نفسه فمن عرف نفسه وتواضع لربه فإنه لا يتمرض على خالقه باقتراف الجرائم والآثام كما أنه يعامل الناس معاملة حسنة بلطف ورحمة ورفق ولين جانب ، لا يزهو على مخلوق ولا يبالي بمظاهر العظمة الكاذبة ولا يترفع عن مجالسة الفقراء والمشي معهم وإجابة دعوتهم ومخاطبتهم بالكلام اللين ولا يأنف من استماع نصيحة من هو دونه . قال تعالى : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) .
لقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي لين الجانب ، سهل الخلق ، شديد الزهد في أعراض الدنيا ، يلبس الخشن من الثياب ويرتاح لذلك ويعلله بأنه يناسب بدنه صحيا ولم يكن له ترتيب خاص به في حياته كما هي عدة الأثرياء والوجهاء ، كما أنه ليس له ترتيب خاص به في مجلسه وطعامه ولقائه بالعلماء والعامة وطلبة العلم وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس وكان كثير التأمل ، شديد الملاحظة ، يؤثر الصمت ولا يتكلم إلا عند الحاجة ولا يزيد عن المطلوب منه وكان لا يتشدق في الكلام ولا يتكلف ما ليس عنده ولا يزهو على أحد بعلمه ولا يترفع على جلسائه بل يباسطهم ويمتزج بهم ومع هذا فهو بتواضعه متميز بخفض جناحه لطلابه وجلسائه ، متعزر قد زاده التواضع رفعة وخفض الجناح شرفا .
يقول الدكتور عبد الله بن حافظ الحكمي : كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – محل القدوة والأسوة ، شديد التواضع تغلب عليه البساطة في مجلسه ، إذا ارتاح لمحدثه استرسل في ذكر الأحداث والمواقف ونزل معه على قدره صغيراً كان أو كبيراً .
وقال الدكتور محمد بن لطفي الصباغ : كان الشيخ عبد الرزاق متواضعاً يكرم الصبيان والفتيان ولا يدعوهم إلا بألقاب التكريم ، وقد رأيته يوم أن جاء الشيخ حسن حبنكة أحد كبار علماء بلاد الشام لزيارة مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله – رأيته في قمة التواضع إذ كان يؤثر الكثيرين في الجلوس في المقاعد المتقدمة مع أنه أحق منهم بهذا التقديم .

محمد طه شعبان
2014-03-18, 02:19 PM
صدقه وأمانته :
إ من أعظم مكارم الأخلاق التي أمر الله بها وأمر بها رسوله r الصدق . قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) وقال r " إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة "
لقد بلغ الشيخ عبد الرزاق عفيفي – يرحمه الله – من الصدق والأمانة مبلغاً وغاية جعلته موضع التقدير والاحترام والتوقير من طلابه ومحبيه كان لا يتكلم إلا بما يعتقد أنه الحق وكان يؤثر الصمت في بعض الأوقات ولكنه إذا تكلم في أمر من الأمور أقنع محدثه لقوة حجته وصدق لهجته وبعده عن الكلام المبتذل والتلون في الحديث ، وهذه الصفات الحسنة والخلال الحميدة جعلت الشيخ يحتل مكان الصدارة بين أساتذة الكليات والمعاهد العلمية والمؤسسات الدعوية بالمملكة .
ويؤكد هذا أحد طلابه قائلاً : عرفت الشيخ عبد الرزاق أستاذاً ماهراً وبحراً زاخراً بمختلف علوم التفسير والعقيدة والفقه والأصول وغيرها من جوانب العلوم الشرعية واللغة العربية وعرفته كذلك محدثاً واعظاً ومرشداً أميناً جم المعرفة غزير العلم متواضعاً كثير الزهد والتقشف مقبلاً على الله في جميع أقواله وأعماله.
قلت : ومن قرأ فتاوي الشيخ واستمع إلى ردوده على المستفتين يدرك أنه كان – رحمه الله – صادقاً في قوله أميناً في نقله لكلام أهل العلم ومذاهبهم وانه – رحمه الله – كان يلتمس الحق من وجهته ، ويتبعه من مظانه.

محمد طه شعبان
2014-03-18, 02:20 PM
حلمه وسعة وصدره :
من الصفات الحميدة والفضائل الرشيدة ، التي ميز الله بها الإنسان على غيره من بقية المخلوقات فضيلة الحلم .
فالحلم من أشرف الأخلاق وأنبل الصفات واجمل ما يتصف به ذوو العقول الناضجة والأفهام المستنيرة . وهو سبيل كل غاية حميدة ونتيجة حسنة ونهاية سعيدة .
ولقد بين رسول الله r منزلة الحليم وما له من أجر وثواب عظيم عند الله وكفى بمحبة الله له ، وثناء رسول الله r عليه ودليل ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي r قال : لأشج عبد القيس " أن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة " رواه البخاري ومسلم وفي سنن أبي داود أن المنذر الأشج قال : يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما ؟ قال : " بل الله جبلك عليهما " قال : الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله .
وبلوغ الحليم هذه المنزلة ليس بعجيب ولا غريب ذلك أن الحلم هو سيد الفضائل وأس الآداب ومنبع الخيرات قال الله تعالى )وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63)
قال عطاء بن أبي رباح في تفسير قوله تعالى (هوناً) " حلماء علماء "
وقال أكثم بن صيفي : " دعامة العقل الحلم وجماع الأمر الصبر وخير الأمور العفو "
وقال عطاء بن أبي رباح : " كان يقال ما أضيف شئ إلى شئ مثل حلم إلى علم "
ولقد من الله تعالى على فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي فجمع له بين أكرم خصلتين وأعظم خلتين : هما العلم والحلم والعالم العظيم حقاً كلما حلق في آفاق الكمال اتسع صدره وامتد حلمه وعذر الناس من أنفسهم والتمس الأعذار لأغلاطهم .
يقول الدكتور محمد بن لطفي الصباغ : من الصفات التي تميز بها الشيخ عبد الرزاق سعة صدره ، وبعد نظره وزهده في الدنيا ومتاعها .
كان رحمه الله من سعة صدره يتحمل مسيرة جميع أصناف البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم وعوائدهم وأخلاقهم وتباين آرائهم لا يمل حديثهم ولا يسام من سماع مشكلاتهم ولا يغضب من كثرة أسئلتهم وفتاواهم ويؤكد هذا فضيلة الشيخ يوسف المطلق فيقول : كان الشيخ عبد الرزاق يشجع على العلم والدعوة وكان يخصص وقته بين إجابة السائل شخصياً أو تحريرياً وما كان يسأم من السائلين بل كان يبذل جهده حتى يفهم سائله .
وبالجملة فقد كان رحمه الله رحب الصدر عميق الفكر واسع المدارك حليما رفيقا لا يواجه أحدً بما يكرهه وذلك لسعة صدره وغزارة علمه وحيائه رحمه الله .

محمد طه شعبان
2014-03-18, 02:21 PM
كرمه ومروءته :
الكرم في اصطلاح العلماء هو التبرع بالمعروف قبل السؤال والإطعام في المحل وإكرام السائل مع بذل النائل .
والشيخ عبد الرزاق رحمه الله كان كريماً كرماً أصيلاً لا يتكلف لأحد وكان يكره المباهاة والمفاخرة يقدم ما تيسر من الطعام ومما كان يعده لنفسه وكان بذلك قادراً على أن يقيم في كل يوم وليمة وكان إذا علم بمجئ عالم أو صديق يعرفه دعاه إلى الطعام وكان طعامه طيب النكهة شهي المذاق كان يفد إلى بيته طلبة العلم والعلماء والدعاة والذين يبغون الشفاعة في أمر من أمورهم فكان بيته ملتقى الضيوف وذوي الحاجات ومنتدى العلماء وطلبة العلم كان جواداً بالخير جالساً على محجة باررة للضيوف .
وهذه الصورة المشرقة عن كرم الشيخ ومروءته تعتبر بمثابة دعوة مفتوحة إلى التنافس في الخير والتسابق في ميادين الفضيلة والبعد عن الشح والحرص ذلك أن الإسلام دين يقوم على التعاون والبذل والإنفاق ويحذر من الأنانية والإمساك ولذلك رغب في أن تكون النفوس بالعطاء سخية والأكف بالخير ندية ووصى أمته بالمسارعة إلى دواعي الإحسان ووجوه البر وبذل المعروف وإلى كل خلق نبيل .
وأما مروءته فهي بحر زخار ونهر غمر ولا شك أن المروءة من شواهد الفضل ودلائل الكرم وهي حلية النفوس وزينة الهمم.
إن المروءة كلمة يراد بها الشهامة والرجولة ونصرة المظلوم وكف يد الظالم وبذل الإحسان وقرى الضيف وكل هذه المعاني الحسنة والخلال الطيبة كانت من أبرز سمات الشيخ عبد الرزاق بل كانت أس حياته ومفتاح شخصيته وكأن لسان حاله
يقول :
وإني لتطريني الخلال كريمة طرب الغريب بأوبة وتلاق
وتهزني ذكرى المروءة والندى بين الشمائل هذه المشتاق
فإذا رزقت خليقة محمودة فقد اصطفاك مقسم الأرزاق
فالناس هذا حظه مال وذا علم وذاك مكارم الأخلاق
احترامه لنفسه وحسن معاشرته لغيره :
إن الخلق الحسن والأدب الجم هما المعيار لسلامة النفس من الآفات الظاهرة والباطنة ، ولقد جمع الشيخ عبد الرزاق ولا أزكى على الله أحداً أخلاقاً عالية وأداباً سامية ، إلى جانب كرمه وعفته وزهده ومروءته لا يعرف ذلك عنه إلا من خالطه عن قرب ونهل من علمه واستفاد من تجاربه وفضلاً عن ذلك فإن الشيخ رحمه الله كان ذا هيبة ووقار بريئاً من الكذب بعيداً عن التصنع مستقل الرأي لا يدعي ما ليس فيه ولم يكن متكبراً ولا ذليلاً وكان يعرف لنفسه قدرها ولم يكن من شأنه التلاعب بالأقوال والقضايا الجدلية المؤدية إلى العبث بالحقائق بل كان جاداً يكره أن يحوط نفسه بمظاهر العظمة الكاذبة .
ولا شك أن هذه الصفات الحسنة والخلال الكريمة جعلت الشيخ موضع تقدير واحترام وإكبار من أقرانه من العلماء ومن طلابه ومحبيه وعارفي فضله والفضل فضله والفضل يعرفه ذووه.
وفضلاً عن ذلك كله فإن الشيخ –رحمه الله كان غاية في حسن المعاشرة وقدوة في روعة المؤانسة لا يحسد ولا يحقد مجلسه مجلس خير وعلم ومحله محل حياء وحلم يجيب دعوة من دعاه ويعود المرضى ويتجاوز عمن أساء إليه ويدفع بالتي هي أحسن ويدعو أصدقاءه وطلابه بكناهم وأحب أسمائهم إليهم ويميل إلى محادثتهم والتلطف معهم وهو مع ذلك عزيز النفس موفر الكرامة قوى الإرادة زاهداً فيما عند الناس .

محمد طه شعبان
2014-03-18, 02:21 PM
ثباته على مبدئه :
إن الأخلاق إذا تعاورتها الشدائد والأهوال سبكتها وأخرجت منها خلقاً قويماً ثابتاً فالشدائد تظهر ما هو كامن في الإنسان فإما أن تجعل منه خلقاً عظيماً يظل على مر الليالي والأعوام نبراساً يستضاء به وإما أن تقضي عليه فتجعله أثراً بعد عين
ومن أجل ذلك وجب على من يطمحون إلى الظفر وبلوغ المقاصد العظيمة أن يعدوا أنفسهم لركوب متن الأهول واحتمال الشدائد وتوطين أنفسهم على المكاره .
وما أروع ما قاله صفي الدين الحلي :
لا يمتطى امجد من لم يركب الخطرا ولا ينال العلا من قدم الحذرا
ومن أراد العلا عفواً بلا تعب قضى ولم يقض من إدراكها وطرا
لابد للشهد من نحل يمنعه لا يجتن النفع من لم يحمل الضررا
لا يبلغ السؤال إلا بعد مؤلمة ولا تتم المنى إلا لمن صبرا
إن على أصحاب النفوس الكبيرة والهمم العالية والأغراض السامية أن يتأسوا برسول الله r في ثباته وسائر أخلاقه .
إن السابر لأغوار الشيخ عبد الرزاق والواقف على سيرته والمتتبع لمراحل حياته يدرك تمام الإدراك أن الشيخ تميز بصفة الثبات على المبدأ فما عرف منه التذبذب في الرأي والتعددية في القول وما عرفت المداهنة والمجاملة طريقاً إليه بل كان يقول الحق ويقصده ويتحرى الصدق ويؤثره وادل دليل على ذلك إن الشيخ رحمه الله كانت له آراء خاصة في بعض المسائل العلمية لا يذكرها إلا للخاصة من أصحابه ولا يسؤه أن يكون هناك من يخالف فيها وإذا ذكرت أمامه الآراء التي تخالفه لا ينفعل ولا يتشنج لأنها تخالفه بل يقول : لكل رأيه وكثيراً ما كنت أسمعه يقول لمن يستفتونه ويسألونه في أمور دينهم بعد أن يبين لهم الحكم الشرعي فيما سألوه فيه " ما أعرفه قلته إسألوا غيري ؟ وهذا إن دل فغنما يدل على ثقته بنفسه واعتزازه بدينه وخوفه من ربه لا يخشي في ذات الله لومة لائم وفضلاً عن ذلك فقد كان رحمه الله قوياً صلبا لينا سهلاً في الرجوع إلى الصواب وإلى ما يظهر له انه خلاف الحق الذي ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة .

محمد طه شعبان
2014-03-18, 02:22 PM
ابتلاؤه وصبره :
الابتلاء سنة من سنن الله الكونية به يتميز الطيب من الخبيث والمؤمن من المنافق.
إن الشدائد والنوازل تستجيش مكنون القوى وكوامن الطاقات وتتفتح في القلوب منافذ ما كان ليعلهما المؤمن من نفسه إلا حين يتعرض للابتلاء إن من حكمة الله في الابتلاء أن تستيقظ النفس ويرق القلب بعد طول غفلة فتتوجه الخلائق إلى ربها يتضرعون إليه يرجون رحمته وعفوه .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : لابد من الابتلاء بما يؤذي الإنسان فلا حرص لأحد مما يؤذيه البتة ولهذا ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه أنه لابد أن يبتلي الإنسان بما يسره وما يسؤوه فهو محتاج إلى أن يكون صابراً شكوراً .
قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنّ كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) .
لقد ابتلى الشيخ عبد الرزاق رحمه الله بابتلاءات عظيمة في هذه الدنيا ونزلت به كوارث شديدة فلم تضعفه هذه الابتلاءات وتلك الكوارث بل كان صابراً محتسباً ومن هذه الابتلاءات التي ابتلى بها الشيخ في حياته أنه أصيب نصفي وعافاه الله منه وأصيب بعدد من الأمراض فكان نعم العبد الصابر وقتل ولده الأكبر أحمد عاصم فتلقى الخبر صابراً محتسباً ثم توفى أصغر أبنائه عبد الرحمن فكان كذلك غاية في الصبر والرضي بقضاء الله وقدره ثم توفى ابنه عبد الله فجأة فكان أيضاً مثالاً في الصبر والاحتساب .
ومما يدل على صبر الشيخ وتجلده أنه لما جاءه خبر وفاة ابنه أحمد وهو مدير ومحاضر في المعهد العالي للقضاء لم يتوقف عن برنامجه اليومي بل جاء إلى طلابه وألقى المحاضرة عليهم دون تأثر أو تعلثم .
فرحم الله الشيخ رحمة واسعة وضاعف مثوبته.

محمد طه شعبان
2014-03-19, 11:13 PM
نظرته إلى المجتمع ونظرة المجتمع إليه :
أما نظرته إلى المجتمع الإسلامي فقد كان الشيخ رحمه الله يعيش عصره ويدرك بعمق شراسة الغزو الفكري الاستعماري للمسلمين ويعرف التيارات الفكرية والسياسية التي تسود العالم وتغزو بلاد المسلمين يعرفها تمام المعرفة ويدرك واقع الأمة الإسلامية تمام الإدراك ويعي قضاياها ويعيش أحداثها ساعة بساعة ولحظة بلحظة وكانت معرفته بالرجال المعاصرين من الأعلام وغيرهم معرفة دقيقة وكان حكمه عليهم حكما سديدا ، يعرف أوضاعهم الاجتماعية وعادات بيئاتهم ومدى تأثرهم بذلك كله .
كان قوي العزم في معالي الأمور ، لا يعتريه فتور ولا خور في نصر العقيدة الصافية والمبادئ الإسلامية ولا يقعده عن البلاغ رغبة ولا رهبة ولا خوف من ذي سلطان لأن القلب الذي أشرب حلاوته الإيمان يكتسب قوة روحية وحصانة دينية ونوراً ربانياً فلا يجد أحد لإغوائه سبيلا .
أما نظرة المجتمع إليه فقد كانت نظرة تقدير واحترام وإكبار ، ذلك أن الشيخ – رحمه الله – كان محبوبا من المجتمع ومن كل من عرفه وخالطه وتتلمذ على يديه كما كان محل التقدير والإجلال من كل الناس على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم.
كان يتميز – رحمه الله – بطيب المعشر والزهد في الدنيا والبعد عن مباهجها وكان يصدق قوله وفعله وكان غاية في التواضع يقدر الناس ويكرمهم مهما كانت منازلهم وقد حببه ذلك لكل من عرفه أو جالسه أو درس على يديه ونهل من مناهل علمه الغزير .
لقد كان العلماء والعامة وطلبة العلم يقبلون على مجلس الشيخ ويستمعون إلى نصائحه القيمة وتوجيهاته السديدة وآرائه النيرة مع توقيرهم لشخصه وتقديرهم لعلمه ، مع محبة صادقة خالصة يرجى بها وجه الله لعالم بذل علمه ووقته وماله دفاعا عن دينه وذبا عن عقيدته وغيرة على مجتمعه وأمته .
لقد كان – رحمه الله – حريصا على صيانة المجتمع الإسلامي من الانحرافات العقدية وصيانته من الاعتقادات الشركية ، كان مجاهدا في سبيل الله ونشر دعوة التوحيد بقلمه ولسانه .
ومما يؤكد هذا ويدعمه ما كتبه فضيلة الدكتور صالح بن سعود آل على قائلا : لقد خبرت فضيلة الشيخ عبد الرزاق – رحمه الله – عن قرب ورأيت فيه ما كنت أقرأ عن علماء السلف من العلم الجم والفقه في الدين والتحلي بمبادئ هذا الدين ، من تواضح وتقي وزهد وورع وصبر وحب لهذه الأمة وحرص على أن تظل كما هو مؤمل منها ، منارة هدى ومصدر إشعاع وموئل عز للإسلام والمسلمين .

محمد طه شعبان
2014-03-19, 11:16 PM
مكانته العلمية :
إن العلم حياة القلوب ونور البصائر وشفاء الصدور ورياض العقول ولذة الأرواح وأنس المستوحشين ودليل المتحيرين وهو الميزان الذي توزن به الأقوال والأعمال والأحوال وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين والغي والرشاد والهدى والضلال به يعرف الله ويعبد ويذكر ويوحد وبه تعرف الشرائع والأحكام ويتميز الحلال من الحرام وهو كل لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك ، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وفي السلوك سادة .
ومن هذا يتبين ما للعلم من مزية وفضيلة ومكانة في الحياة العاجلة والآجلة ولهذا سارع في طلبه العقلاء وتنافس فيه المتنافسون وبه تفاوت الكثير من الناس في منازلهم ودرجاتهم حسب تفاوتهم في مداركهم وتحصيلهم وإنتاجهم وبه انتظم أمر الكون ونهضت الأمم وكان لمن برز فيه القدح المعلي والمقام الأسمى وإنما يكون ذلك لمن شدد الله خطاه وبصره بشؤون دينه ودنياه فعلم وعلم وكان مثالا يحتذي في قوله وعمله وسيرته وخلقه .
ومن هؤلاء العلماء – ولا نزكي على الله أحداً – فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي – يرحمه الله – فقد كان من العلماء الذين عرفوا بجهودهم ودعوتهم إلى الله وبذلهم أنفسهم أوقاتهم وزهرة شبابهم دفاعاً عن دينهم وذباً عن عقيدتهم وقد اشتغل – يرحمه الله – بالعلم منذ نعومة أظافره حتى صار عالما فحلا وصار العلم شغله الشاغل فلا تراه إلا دارساً متعمقاً محباً للعلم منكبا عليه ، صاحب بصر نافذ ونفس طلعة لا تكاد تشبع محباً للعالم ولا تمل من البحث ولا تروي من المطالعة ، مع التوفر على ذلك وقطع النفس له وصرف الهمة نحوه ، يصيب الإنسان عنده العلم الذي لا يصيبه عند غيره .
وبالجملة فقد ربي الشيخ عبد الرزاق عفيفي تربية عالية فتعلم كثيراً من العلزوم التي كانت رائجة في عصره ومن ثم احتل مكانة بارزة بين أقرانه من رجال العلم وعلماء الدين وحملة الشريعة .
وقد تميز الشيخ – يرحمه الله – عن كثير من علماء عصره بزهده في الدنيا وتقلله من متاعها وحرصه الشديد على نشر العلم وتعليمه والعمل بمقتضاه .
وكان يرى أن من أوجب الواجبات إرشاد المسلمين وإفتاء المستفتين ونصح الطالبين وإظهار العلم للسائلين . وقد أبان عن هذا كله وحرره في كلمته الوافية التي ألقاها عند توليه لرئاسة جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر ذاكراً في كلمته وموضحا واجب العالم نحو أمته ودينه فقال :
" لقد كان العالم من سلف هذه الأمة يجد نفسه وقد أنعم الله عليه بنعمة العلم وعهد إليه أن يبلغه للناس مضطراً إلى القيام بهذا العلم فلا يعتريه في نشر الثقافة الدينية والمبادئ الإسلامية فتور ولا خزر ولا يقعده عن البلاغ رغبة ولا رهبة ولا خوف من سلطان ، لأن القلب الذي أشرب حلاوة الإيمان يكتسب قوة روحية وحصانة دينية ونوراً ربانياً فلا يجد أحد إلى إغوائه سبيلا فمهما جاهد الشيطان هذا المخلص فلن يتاح له أن يوهن عزيمته أو أن يمس عقيدته .
وإن قلبا قد صبغ بصبغة الله وتشبع بتعاليم الإسلام حتى ملكت سويداءه ليأبى أن يخضع لسلطة ربه واشتد خوفه منه وعلم أنه ملك قهار جبار بيده نواصي العباد وأن ذلك ليخلق منه سيفا مسلطا ونارا متأججة يقذف بها من عاد الله وبارزه بعصيان . لا يخاف في الله لومة لائم .
كان العلماء بذلك قوامين على الدين حفظاً ونشراً وبلاغاً ونصيحة وإرشاداً وكانوا خير قدوة للناس ومثلا عليا في إصابة الحق وتأييده وكشف الباطل وإزهاقه قولا وعملا ، يقصدهم الناس ليكشفوا لهم وجه الصواب بما ورثوه عن نبيهم r فيجدوا لديهم ما يروي غلتهم ويزيل شبهتهم ويزيد يقينهم وإيمانهم وتعلقهم بشريعة سيد المرسلين ولم يكن يدخل في أمر الفتيا من ليس من أهله فعرف كل قدره ووقف عند حده . . " .
قلت : وقد ثبتت له الإمامة في كثير من الجوانب العلمية فهو إمام في العقيدة ومن المبرزين في هذا الباب وإمام في السنة لشدة تمسكه بها ودفاعه عنها وإمام في الفقه وأصوله لا يشق له غبار وإمام في التفسير وقد ذكر ذلك عنه كثير من تلاميذه وأبانوا عنه في كتاباتهم .
يقول الدكتور صالح بن آل سعود بن علي : كان رحمه الله ذا باع طويل في الشريعة وله القدح المعلى في التفسير وعلوم القرآن . وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلوم العقائد والمذاهب والملل والنحل أما في علم أصول الفقه فهو علم من أعلامه ، له في ميدانه اليد الطولي وأما الفقه فإليه فيه المنتهى .
بداية تلقيه للعلم :
تعتبر البداية الحقيقية لطلب الشيخ للعلم عندما وجهه والده إلى كتاب القرية لحفظ كتاب الله تعالى ذلك أن الناشئ من العلماء ينشأ مرتبطا بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
وقد أكب الشيخ – رحمه الله – على حفظ كتاب الله فأحسن تلاوته وحفظ كثيرا منه وقد أوتي سرعة في الحفظ وقوة في الفهم وجودة في الخط كثيرا منه وكل هذا وغيره مكنه من حفظ كتاب الله تعالى والإقبال عليه بكليته على الرغم من صغر سنه وحق للقرآن أن تفنى فيه الأعمار وأن تعمر به الأزمان لقد كان حفظ الشيخ لكتاب الله في سن مبكرة هي الخطوة الأولى للدخول في طلب العلم الشرعي بصورة جادة ومنتظمة ثم واصل الشيخ بعد ذلك دراسته في همة لا تعرف الكلل ونفس طلعة لا تعرف الملل .
وقد أكد هذا الكلام فضيلة الشيخ عبد الحميد بن عبد المطلب الهلالي من أعيان قرية ( شنشور ) في كلمته التي تناول فيها نشأة الشيخ ووضح فيها بداية تلقيه للعلم قائلا : لقد نشأ فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي نشأة طيبة وسط أسرة طيبة الأعراق حسنة السمعة ، درس القرآن الكريم منذ نعومة أظافره على يد كل من والده الشيخ عفيفي عطية النوبي ثم في كتاب القرية حيث كان نابغاً في حفظ كتاب الله تعالى وقد أعفى من الجندية ( الخدمة العسكرية ) حسب النظام المعمول به وقتئذ لحفظه القرآن الكريم كاملا .
قلت : وإلى جانب حفظ الشيخ للقرآن ، كان يحفظ بعض المتون كما هي عادة طلبة العلم الذين كانوا يدرسون في الكتاتيب في هذا الوقت ، فضلا عن ذلك فقد كان يعطي جل وقته – على الرغم من حداثة سنه – لمراجعة محفوظاته ولتعلم قواعد النحو والإملاء والحساب بتوجيه من والده .

محمد طه شعبان
2014-03-19, 11:17 PM
نبوغه المبكر وتقدمه على أقرانه:لقد عرف الشيخ عبد الرزاق عفيفي منذ صغره بالألمعية النادرة والنجابة الظاهرة والذكاء المفرط والنبوغ المبكر حتى بز أقرانه وفاق أترابه وعلى الرغم من حداثة سنه فقد كان صاحب همة عالية ونفس أبية جعلته موضع تقدير ومحل تبجيل من كل من عرف الشيخ وخالطه وزامله .
ومن الأدلة على نبوغ الشيخ وشدة ذكائه حفظه المتقن لكتاب الله تعالى في سن مبكرة مما كان سببا في إعفائه من الخدمة العسكرية بمصر ولعل سائلا يسأل : ما سر تفوقه ؟ ومتا سبب نبوغه وتقدمه ؟
والجواب :
إن المتأمل في سيرة المترجم له ، السابر لأغواره يدرك أن وراء ذلك أسبابا عديدة منها :
1- إخلاص النية في طلب العلم ، مع حسن القصد وصدق التوجه إلى الله تعالى .
إن من عمر ظاهرة بالسنة واطنه بالإخلاص تفجرت في صدره ينابيع العلم ولم يكن ينطق إلا بالحكمة وقد أكد ذلك الشوكاني – رحمه الله – بقوله : " إن لحسن النية وإخلاص العمل تأثيراً كبيراً في هذا المعنى " .
2- نشأته الصالحة في بيئة ريفية لم يكدر صفوها مظاهر الحضارة الكاذبة ولا بريق المدينة الزائف .
3- عناية ربانية رحيمة ومنن إلهية أمتن الله بها على الشيخ فكان لها أعظم الأثر في تفوقه العلمي ونبوغه المبكر .
4- استعداده الفطري وصفاء ذهنه وحضور بديهته وقوة حافظته وغير ذلك من المواهب التي أنعم الله بها عليه وكان لها أبلغ الأثر في حياته .
5- دقة استحضاره وسلامة منهجه واستقامة حياته وجولان ذهنه ورعاية والده له وحسن استجابته لتوجيهات ونصائح أساتذته وشيوخه .
6- استثمار وقته في البحث والمطالعة مع توفر همته وتوقد رغبته في مدارسة العلم بمختلف فنونه ومجالسة العلماء والاستفادة منهم .

محمد طه شعبان
2014-03-26, 09:21 PM
شيوخه ومؤهلاته:
ـــــــ
في تراجم العلماء كثيراً ما تذكر الأسماء العديدة لمشايخ المترجم له وبخاصة الشخصيات العلمية البارزة والكفاءات العالية ذات التأثير القوي وغالبا ما يكون هؤلاء عددا قليلا ومحدودا .
ومن العلماء الذين تتلمذ الشيخ لهم ونهل من علمهم واستفاد من دروسهم .
الشيخ محمد بن حسن عافية والشيخ محمد بن عبود عافية وهما من علماء قريته ( شنشور ) وأما أشهر شيوخه وأكثرهم تأثيرا فيه فمنهم الشيخ احمد نصر شيخ السادة المالكية والشيخ دسوقي العربي والشيخ عبد المعطي الشربيني والشيخ يوسف الدجوى والشيخ محمد العتريس والشيخ إبراهيم الجبالي والشيخ مصطفى المراغي وغيرهم .
وأما أقران الشيخ ومعاصروه فهم أمم لا يحصون ومنهم على سبيل المثال لا الحصر :
الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار والشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر والشيخ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر آنذاك والعلامة الشيخ احمد محمد شاكر والشيخ العلامة محمد الخضر حسين والشيخ الإمام حسن مأمون مفتي مصر في زمنه والشيخ الدكتور محمد عبد الرحمن بيصار الأمين العام للمجلس الأعلى للأزهر سابقا والشيخ الإمام جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر سابقا رحمهم الله جميعا . ومن أقرانه أيضا : فضيلة الدكتور محمد حسن فايد – رحمه الله – والدكتور عبد المنعم النمر والدكتور محمد الطيب النجار – حفظهما الله – وكذلك فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقا وفضيلة الشيخ عبد الظاهر أبو السمح مدير دار الحديث ومؤسسها بمكة المكرمة وإمام وخطيب المسجد الحرام وفضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة والشيخ محمد علي عبد الرحيم والشيخ محمد عبد الوهاب بحيري والشيخ محمد خليل هراس والشيخ عبد الله بن يابس والشيخ عبد العزيز بن راشد وفضيلة الشيخ العلامة محمد بن عبد العزيز بن مانع رحمهم الله جميعا .
- ومن أبرز أقرانه وأشهر معاصريه :
- سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي السابق للمملكة العربية السعودية ورئيس الكليات والمعاهد العلمية – رحمه الله .
- وسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء حفظه الله .
- ومنهم سماحة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله .
- وسماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ عبد الرحمن الأفريقي رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ محب الدين الخطيب صاحب المكتبة السلفية رحمه الله.
- ومنهم فضيلة الشيخ محمد بهجت البيطار رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ سعدي ياسين رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ إسماعيل الأنصاري – رحمه الله .
وأمم يصعب حصرهم واستقصاؤهم .
مؤهلاته العلمية :
وأما مؤهلات الشيخ العلمية فهي على النحو التالي :
لقد تحصل الشيخ عبد الرزاق – رحمه الله – على عدد وافر من الشهادات والإجازات العلمية وأعلى هذه الشهادات والمؤهلات التي نالها الشيخ حفظه المتقن والمجود لكتاب الله والذي أتاح له فرصة الالتحاق بالأزهر في عصره الذهبي حيث التقى الشيخ في ساحته وبين أروقته وباحته بجبال العلم وشيوخ المعرفة وأفذاذ الطلبة وجهابذة المحدثين .
وقد تخرج الشيخ في الأزهر من أعلى مستوياته فقد تحصل على الشهادتين الابتدائية والثانوية ثم تحصل على شهادة العالمية في الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة 1351 هـ الموافق السادس عشر من شهر أغسطس سنة 1923 م .
وفي الرابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة 1355 هـ الموافق الثامن والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1936 م منح شهادة التخصص في الفقه وأصوله وهي التي تعرف اليوم بشهادة ( الدكتوراه ) .
ثم واصل الشيخ تحصيله العلمي حتى أضحى من العلماء الفحول والحفظة العدول .
ومما تجدر الإشارة إليه : أن الشيخ عبد الرزاق – يرحمه الله – لم يكن يعبأ بهذه الشهادات ولم يفاخر بها وما سمعته قط يتحدث عنها ذاكراً أو آثرا .
ويؤكد هذا فضيلة الدكتور محمد بن سعد الشويعر قائلاً : كان الشيخ عبد الرزاق رحمه الله ممن يزهد في الشهادات الدراسية والتشدق بذكرها وإنما يراها وسيلة لحمل العلم وثقل الأمانة التي يجب أن تؤدي ولم نسمعه يوماً يتحدث عن المؤهل الذي تحصل عليه .
فرحم الله هذا العالم المحقق والحافظ المدقق والمحدث الجهبذ والعالم الجليل والفقيه النبيل .

محمد طه شعبان
2014-03-26, 09:27 PM
تلاميذه :
من الصعب جدا حصر الطلاب الذين تلقوا العلم على فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – وقعدوا منه مقعد الدرس والتحصيل ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله .
لقد تخرج به أعداد كبيرة من العلماء والدعاة والمحصلين تسلموا مناصب علمية وعملية مرموقة في داخل المملكة العربية السعودية وخارجها زمن هؤلاء العلماء الذين تخرجوا به – رحمه الله – وأصبحوا أنجما متألقة في سماء العلم والمعرفة :
- صاحب الفضيلة الشيخ : صالح بن محمد لحيدان ، رئيس مجلس القضاء الأعلى وعضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : ناصر بن حمد الراشد رئيس ديوان المظالم بالمملكة العربية السعودية .
- صاحب الفضيلة الدكتور : عبد الله عبد المحسن التركي ، وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن البسام ، رئيس هيئة التمييز بالمنطقة الغربية .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد العزيز السعيد ، الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ، عضو هيئة كبار العلماء وإمام وخطيب جامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد العزيز بن محمد عبد المنعم ، الأمين العام لهيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : ناصر بن عبد العزيز بن محمد الشثري ، المستشار بالديوان الملكي .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن بن إديان ، عضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية وعضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : صالح الفوزان آل فوزان ، عضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : محمد بن عبد الله السبيل ، الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وعضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : محمد بن خليل القطان ، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام سابقاً .
- صاحب الفضيلة الشيخ : محمد بن عبد الله العجلان ، مدير جامعة الإمام سابقاً وعضو مجلس الشورى .
- صاحب الفضيلة الدكتور : محمد بن لطفي الصباغ ، الأستاذ بجامعة الملك سعود بالرياض .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن سليمان بن منيع ، القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة وعضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين عضو الإفتاء بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن حسن بن قعود من علماء المملكة العربية السعودية .
- صاحب الفضيلة الدكتور : عبد العزيز كامل وزير الأوقاف المصري سابقاً .
- صاحب الفضيلة الشيخ : راشد بن خنين ، المستشار بالديوان الملكي .
- صاحب الفضيلة الدكتور : صالح الأطرم ، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية .
وأما تلاميذه بالمعهد العالي للقضاء فمنهم :
فضيلة الشيخ : إبراهيم بن محمد\ سلطان وفضيلة الشيخ علي بن حمد التركي وفضيلة الشيخ محمد العسكري وفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم العريني وفضيلة الشيخ محمد بن حمد الحناكي وفضيلة الشيخ سعيد بن محمد بن رشيد وفضيلة الشيخ محمد بن مرزوق بن معيتق وفضيلة الشيخ إبراهيم بن عيسى العود وفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان وفضيلة الشيخ سالم بن محمد السالم وفضيلة الشيخ صالح بن محمد النجيدي وفضيلة الشيخ محمد بن عبد الله الأمير وفضيلة الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم الهويش وفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الراشد وفضيلة الشيخ مسفر البحري وفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم بن قعود وأمم لا يحصون كثرة قد تخرجوا به في المملكة العربية السعودية ومصر والشام وغيرها من البلاد .

محمد طه شعبان
2014-03-26, 09:28 PM
مؤلفاته ورأيه في التأليف :
كان الشيخ عبد الرزاق – يرحمه الله – لا يرى التأليف ولا يرغب فيه مع غزارة علمه وسعة إدراكه ووفرة مادته وكان يعلل ذلك بأن الناس عامة وطلبة العلم خاصة بحاجة ماسة إلى القراءة والاطلاع أكثر من حاجتهم للتأليف والتصنيف .
ولعل السبب الحقيقي الذي حمل الشيخ على ترك التأليف مع التمكن من أدواته ، زهده في الشهرة والسمعة والمناصب وتفرغه لتربية الأجيال وبناء النفوس وإعداد العلماء وتهيئتهم بالعلم والعمل وحمل أمانة التبليغ .
وبينما يرى الشيخ أنه لا حاجة للناس في التأليف وأن هذه الكتب والمؤلفات الحديثة لا فائدة فيها وأنه يكتفي بما كتبه وجمعه العلماء السابقون ، حيث أنهم تطرقوا إلى كل فن وأوضحوا ما يحتاج إلى توضيح وأن من جاء بعدهم عيال عليهم .
أقول : بينما يرى ذلك الشيخ ويؤكده في كل مجلس يجلسه ، يرى غيره من العلماء ومن طلبة العلم ، رأياً آخر يخالف رأي الشيخ ، يدعو إلى التوسع في التأليف والتصنيف ويحتج لذلك بقول الشاعر :
قل لمن لا يرى المعاصر شيئاً ويرى للأوائل التقديمــا
إن ذاك القديم كان حديثاً وسيبقى هذا الحديث قديماً
قلت : ومن أجمل ما قرأت في هذا الخصوص ، ما كتبه جمال الدين القاسمي في كتابه القيم ( قواعد التحديث ) ، قال رحمه الله :
اعلم : أن نتائج الأفكار لا تقف عند حدٍ وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية ، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له وليس لأحد أن يزاحمه فيه لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر والفيض الإلهي ، ليس له انقطاع ولا آخر والعلوم منح إلهية ومواهب صمدانية ، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ، ما لم يدخر لكثير من المتقدمين فلا تغتر بقول القائل : " ما ترك الأول للآخر ! " بل القول الصحيح الظاهر : " كم ترك الأول للآخر " ، فإنما يستجاد الشيء ويسترذل ، لجودته ورداءته في ذاته ، لا لقدمه وحدوثه . ويقال : " ليس كلمة أضر بالعلم من قولهم : ما ترك الأول شيئاً " لأنه يقطع الآمال عن العلم ويحمل على التقاعد عن التعلم فيقتصر الآخر على ما قدم الأول من الظاهر وهو خطر عظيم وقول سقيم فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها فالأواخر فازوا بتفريغ الأصول وتشييدها .
وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد : " إني رأيت آخر كل طبقة واضعي كل حكمة ومؤلفي كل أدب ، أهذب لفظاً وأسهل لغة وأحكم مذهباً وأوضح طريقة من الأول ، لأنه ناقد متعقب والأول بادئ متقدم " .

محمد طه شعبان
2014-03-29, 06:12 PM
مذهبه وفقهه :
لعل من نافلة القول ومكرور الكلام أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي – يرحمه الله – كان إماماً متفقاً على إمامته وجمعه على جهة التمكن بين علمي الحديث والفقه .
وكان مالكي المذهب وكان يتمثل بقول الشاعر الذي كان يتمثل به مالك رحمه الله:
وخير أمور الدنيا ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع
لكن من المؤكد أن الشيخ – رحمه الله – وهو صاحب العقل الراجح والفكر المستنير لم يكن يتعصب للمذهب المالكي ولا لغيره . بل كان يكره التعصب والهوى ولا ينتصر لغير الدليل .
لذا فإنه لم يقف في دراسته الفقهية عند حدود مذهب بعينه بل خرج عن هذا الإطار المحدد إلى الدراسة الواسعة الشاملة كما أننا نجد له في ثنايا فتاواه وكتاباته اختيارات من مختلف المذاهب الإسلامية وأحياناً يخرج عنها إلى اجتهاده ويدعمه بالدليل والبرهان .
وكان يرى رأي إمام دار الهجرة مالك بن أنس من أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها وهو رأي كل حكيم عليم بداء الأمة ودوائها قديماً وحديثاً . ومما يؤكد ويبرهن على مصداقية ما ذكرته ما كتبه أحد معاصريه قائلا : كان الشيخ عبد الرزاق – يرحمه الله – فقهياً مجتهداً وما كان يرضى التعصب لمذهب من المذاهب مع إحاطته بها بل كان يمشي مع الدليل وقد تكونت لديه ملكة فقهية عظيمة .
ويقول فضيلة الشيخ صالح الأطرم : كانت دراسة الشيخ في الفقه على مذهب مالك ويدرسنا المقنع على مذهب احمد بكل يسر وسهولة .
وبالجملة فقد كان – رحمه الله – غاية في معرفة المذاهب وأقوال الفقهاء لا يقلد أحداً وله عادات جميلة في نقل المذاهب وأقوال أهل العلم فإنه لا ينقل قولاً منسوباً إلى أحد الفقهاء إلا وهو على ثقة تامة أنه قوله وكانت له عناية شديدة بالحديث وطرق رواته فلا يذكر باباً من أبواب الفقه أو مسألة من مسائله إلا وهو يذكر باباً من أبواب الفقه الحديث وطرقه ودرجته استدلالاً به على المسألة .
ويمتدح فضيلة الدكتور عبد الله بن حافظ الحكمي فقه الشيخ وتضلعه في هذا العلم فيقول : كان الشيخ عبد الرزاق – رحمه الله – في علم الفقه سريع الاستحضار للأحكام الشرعية محيطاً بأدلتها ، عالماً بقواعدها وأصولها ، مدركاً لأشباه المسائل ونظائرها ، سديد الرأي ، صائب الاجتهاد يفتي السائل على حسب حالته ومستواه من الجهل والعلم .
وتأكيداً لما ذكره العلماء من ثبوت الإمامة للشيخ عبد الرزاق في الفقه وغيره يقول فضيلة الدكتور صالح بن آل سعود على : كان – رحمه الله – ذا باع طويل في علوم الشريعة ، له القدح المعلى في التفسير وعلوم القرآن وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلوم العقائد وأما علم أصول الفقه فهو علم من أعلامه ، له في ميدانه اليد الطولي وأما الفقه فإليه فيه المنتهى .
وبعد هذه الكلمات المضيئة التي أثنى فيها كاتبوها على فقه الشيخ وتضلعه في كثير من العلوم والفنون فإنه يجمل بي أن أوقف القارئ الكريم على مقتطفات من كتابات الشيخ وبحوثه الفقهية وهي كتابات وبحوث تتسم بالأصالة والعمق والشمولية والاستيعاب والإحاطة بالمباحث والمسائل من جميع جوانبها . ومن هذه المباحث الفقهية التي أدلى الشيخ فيها بدلوه " مبحث المعاملات المصرفية ومبحث البورصة " وفي هذين المبحثين يلحظ القارئ أن الشيخ عبد الرزاق كان من العلماء المتكنين في الفقه الإسلامي الواقفين على مستجداته كما يلحظ ميل الشيخ إلى التقعيد الفقهي وعقد المقارنة بين المذاهب الفقهية في المسائل المطروحة للبحث والترجيح بينها وقد تجلى ذلك في مقدمة مبحث " المعاملات المصرفية " فقال :
" المعاملات المصرفية أنواع كثيرة متشعبة الجوانب وبعضها واضح قريب المأخذ لا يحتاج إلى كثير تفكير أو بذل مزيد من الجهد وآخر منها يشوبه الغموض ويداخله الاشتباه فيحتاج إلى دقة في بحثه وبذل جهد في تمحيصه وتشخيصه وتخليصه مما شابه وإلى بعد نظر في عرضه على القواعد الشرعية الإسلامية وتطبيقها عليه مع الاقتصار على الخطوط الرئيسية لهذه الأنواع والمعاملات المهمة التي كثر تداولها وانتشر التعامل بها والتي إذا محصت وعرف حكمها في الشريعة الإسلامية عرف حكم ما تشعب عنها من فروعها الجانبية " .
ثم يستعرض الشيخ في هذا عدداً من أنواع المعاملات المصرفية التي قام ببحثها ممهداً لهذه الدراسة الموسعة بتعريف دقيق للربا مع بيان حكمه وعلته فيقول :
الربا بالقصر : الزيادة وهو مصدر ربا الشيء يربو إذا زاد سواء كانت زيادة الشيء في نفسه أم بالنسبة لغيره وفي اصطلاح الفقهاء زيادة أحد عوضين من جنس على الآخر أو تأخير بعضه ، في عقد معاوضة على معادن أو أطعمة مخصوصة بينتها السنة النبوية .
وقد نص القرآن صريحا على تحريمه وتوعد من اقترفه بالمحق وآذنه بالحرب إلا من تاب واكتفى بأخذ رأس ماله فإن الله يتوب عليه .
قال الله تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) إلى أن قال : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) إلى أن قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوس ُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) .

محمد طه شعبان
2014-03-29, 06:13 PM
وبين النبي صلى الله عليه وسلم نوعية ربا الفضلوربا النساء وحرم كلاً منهما في كثير من الأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم :" لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعواالورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز" رواه البخاري ومسلم . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهبوالفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاًبمثل سواء يداً لبيد " رواه احمد ومسلم .
وأجمعت الأمة على تحريمه واشتهر ذلك بين المسلمين شهرةتغني عن الاستدلال عليه وصار تحريمه واشتهر ذلك معلوما من الدين بالضرورة فمنأنكره فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كفراً ، إلا إذا كان جاهلا بيتوقع من مثلهجهله فيعذر ويعلم كحديث عهد بكفر وما وقع بين الفقهاء من اختلاف فيه فإنما هو فيالتفصيل وتطبيق النصوص على الوقائع والجزئيات .
وصرحت السنة بستة أنواع يجري فيها الربا وهي المذكورة فيرواية احمد ومسلم السابقة فلذا لم يختلف فيها الفقهاء وإنما اختلفوا في قياس غيرهاعليه بناء على الاختلاف في تعليل حكمها فمن قال أنه غير معلل قصر تحريم الربا عبلىالأصناف الستة السابقة وأقدم من يروي عنه ذلك قتادة وهو مذهب أهل الظاهر واختارهابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس ، قال : لأن علل القياسين في مسألة الرباعلل اختلفوا في علته فقال عمار وأبو حنيفة : هي الكيل والوزن وهو ظاهر مذهب احمد\وخصه الشافعي بالطعام وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً وهو رواية عن احمد . وخصهسعيد بن المسبب بالطعام إذا كان مكيلاً أو موزوناً وهو قول الشافعي ورواية عن احمد. وخصه مالك بالقوت وما يصلحه ورجحه ابن القيم بما ذكر في كتابه إعلام الموقعين .وهذا الخلاف بينهم في علة الربا في البر والشعير والتمر والملح .
والذي يعنينا هنا بيان علة الربا في الذهب والفضة عندالجمهور القائلين بالتعليل مع الترجيح وقد ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين مافيها من خلاف بين الفقهاء فقال : وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة : العلةفيهما من خلاف بين الفقهاء فقال : وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة : العلةفيهما كونهما موزونين وهذا مذهب احمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة .
وقالت طائفة : العلة فيهما الثمنية وهذا قول مالكوالشافعي واحمد في الرواية الأخرى وهذا هو الصحيح بل الصواب فأنهم أجمعوا على جوازإسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد ونحوهما فلو كان النحاس والحديد ونحوهماربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسهجاز التفاضل فيه دون النساء والعلة إذا انتفضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها .وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض ، بخلاف التعليل فالتعليلبالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية فإن الدراهم والدنانيرأثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال فيجب أن يكونمحدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض ، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكنلنا ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعاتحاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا بثمنتقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره ، إذ يصير سلعة يرتفعوينخفض فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهموالضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم ولو جعلتثمنا واحدا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم بها الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمرالناس ، فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير – مثل أن يعطي صحاحا ويأخذ مكسرةأو خفافاً ويأخذ ثقالاً أكثر منه – لصارت متجراً أو جر ذلك إلى ربا النساء فيهاولا بد فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع فإذا صارت فيأنفسها سلعاً تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدىإلى سائر الموزونات . أ هـ .
ثم ذكر ابن القيم أن ربا الفضل حرم تحريم الذرائع وأنربا النساء حرم تحريم المقاصد فكان تحريم ربا الفضل وإن كان من الكبائر أخف منتحريم ربا النساء ولذلك أستثنى منه بيع المصوغ والحلية المباحين بجنسهما منالدراهم والدنانير نقداً مع التفاضل لشدة الحاجة إلى استعمالها ولا يمكن تكليف كلإنسان أن يصنع لنفسه ولا يمكن إهدار الصنعة ببيعها بجنسها من الدراهم والدنانيروزنا بوزن ولا يعقل إبطال هذه الصناعة ومن الحرج تكليفهما المعاوضة مع اختلافالجنس وبين أن الضرورة الداعية إلى اختلافهما استثناء العرايا ونحوها مما رخص فيهفروع الفقه وأورد اعتراضات منها إنه يلزم على ذلك جواز بيع الفرع بأصله نتفاضلاًكالخبز بالبر .
فألتزم جوازه ومنها أنه يلزم جواز الزيادة في معارضةالرديئة من الفضة بالجيدة منها لتقابل الزيادة الجودة وأجاب عن ذلك بالفرق بأنالجودة هنا طبيعية والصناعة كسبية فأورد عليه الدراهم والدنانير المضروبة معالمكسرة فأجاب بالفرق أيضا فإن السكة لا تتقوم فيها الصناعة للمصلحة العامةالمقصودة منها وهي أن تكون معياراً للناس فلا تقابل بالزيادة في العرف وإلا لفسدتالمعاملة بخلاف بخلاف المصوغ فإن العرف جرى بتقويم زيادة الصناعة فيه وليس فيتقويمها نقض للمصلحة العامة ولا إفساد المعاملة للناس .
وقد يناقش نقد ابن القيم تعليل الربا في النقدين بالوزنبأنه لا إجماع على جواز إسلام الذهب أو الفضة في الحديد والنحاس والرصاص ونحوها منالموزونات فإن من الحنابلة من منع من ذلك وجعلها ربوية بناء على أن العلة الوزنكما في إحدى الروايتين عن أحمد أما على الرواية الأخرى وهي تعليل الربا في النقدينبالثمنية فيجوز إسلامهما في الحديد ونحوه من الموزونات .
وقد يناقش أيضا تعليل الربا في النقدين بأنه غير منعكسفإن التفاضل محرم باتفاق في المعرضة بين أفراد الجنس الواحد من الأجناس الأربعة ،البر والشعير والتمر والملح وإن كانت يداً بيد وكذا النساء محرم باتفاق في المعرضةبين أفراد بينها وان اختلف الجنس وليس منها ما هو ثمن عرفاً فوجد الحكم ولم توجدعلة الثمنية ويمكن أن يجاب بأن الحكم بتحريم الربا واحد بالجنس لا بالشخص فيصحتعليله في كل نوع بعلة فيعلل تحريم الربا في النقدين بالثمنية ويعلل تحريم الربافي الأربعة المذكورة بكونها قوتاً مثلاً وكل منهما علة مطردة منعكسه فيما جعلت علةفيه .
وقد يناقش التعليل بالثمنية أيضاً بأنها قاصرة غيرمتعدية مستنبطة ، ليست منصوصاً على عليتها ولا مجمعاً عليها فلا يصح التعليل بهالعدم الفائدة . ويجاب أن فائدة التعليل غير منحصرة في التعدية فإن الحكم إذا كانمعقول المعنى كان أدعى إلى الانقياد وأسرع إلى القبول وأيضاً يمتنع بتقدير ظهوروصف آخر في محل العلة القاصرة تعدية الحكم به دون ترجيحه على القاصرة إلى فوائدأخرى للتعليل ، فصح التعليل بها.

محمد طه شعبان
2014-03-29, 06:15 PM
ومما يدل على أنه صاحب ملكة فقهية وأنه مطلع علىمستجدات العصر واقف على مشاكله ما كتبه من وجهة نظره – معقبا به على مبحث الأوراقالنقدية من اعتبارها إسنادا أو عروضا أو فلوسا أو بدلا عن ذهب أو فضة أو نقدامستقلا بذاته وما يترتب على تلك الأقوال من أحكام شرعية – فقد كتب ما نصه : "فلما كانت الأوراق النقدية لا قيمة لها في نفسها ولم تكن قيمتها مستمدة من مجردإصدار الدولة لها وحمايتها إياها وإنما قيمتها فيما أكسبها ثقة الدول بها وجعلهامع سن الدولة لها وحمايتها إياها وإنما قيمتها فيما أكسبها ثقة الدول بها وجعلهامع سن الدولة لها قوة شرائية وأثمانا للسلع ومقياسا للقيم ومستودعا عاما للادخارولما كان الذي أكسبها ذلك وجعلها صالحة للحلول محل ما سبقها من العملات المعدنيةهو ما استندت إليه من الغطاء ذهبا أو فضة أو ما يقدر بهما من ممتلكات الدولة أوإنتاجها أو احتياطها أو أوراق مالية تجارية . . لما كان الأمر كذلك كانت الأوراقالنقدية بدلاً عما حلت محله من عملات الذهب أو الفضة التي سبقتها في التعامل بهاوكانت تابعة لهما فما كان منها متفرعاعن ذهب فله حكم الذهب وما كان منها متفرعا عن فضله فله حكم الفضة وعلى هذا تجبفيها الزكاة كأصلها ويقدر فيها النصاب بما قدر به في أصلها ويجري فيها ربا الفضلوالنسيئة مع اعتبار أن ما كان منها متفرعا عن فضة حسب الأصل جنس وما كان متفرعا عنذهب في الأصل جنس ولا يجوز بيع الورقة النقدية بما تفرعت عنه من الذهب والفضة معالتفاضل ويعتبر قبض الأوراق النقدية في حكم قبض ما حلت محله من الذهب أو الفضة . .هذا وليس بلازم أن يكون في خزينة الدولة ذهب أو فضة بالفعل ما دامت خاماتها وسائرإمكانياتها التي تقدر بوحدتها السابقة من الذهب أو الفضة قائمة محققة تقوم مقامهافي استمرار الثقة بالأوراق النقدية في دولة الإصدار وغيرها من الدول وليس بلازمأيضا أن تسلم مؤسسة النقد ذهبا أو فضة لحامل الورقة النقدية مقابل ما فيها ما دامتالأوراق النقدية تؤدي وظيفتها وتقوم بما أنشئت من أجله فإن لولي الأمر أن يتصرف فيغطاء الأوراق النقدية أيا كان الغطاء فيما يعود على أمته بالمصلحة من وجوه تنميةالثروة والترفيه عن الرعية حتى لا تبقى معطلة في خزينة الدولة أو معرضة للتبديدوالتهريب في أيدي الأفراد .
وبهذا يعرف أن عدم وجود الغطاء في خزينة الدولة بالفعلوعدم رد المقابل لحاملها لا يعتبر إلغاء ولا إبطال له ما دام الغطاء الذي هو روحالعملة السرية وسر الثقة بها موجودا قائما ممثلا فيما يثبت ملاءة الدولة وقوةإمكانيتها ويكسب الثقة بها في الداخل والخارج من كل ما يقدر بوحدتها التي كانتالدولة تتعامل بها قبل إصدار الأوراق النقدية .
وإن وجود وحدة متفق عليها كالذهب مثلا تقاس بها موجوداتوإمكانيا ت الدول ليعرف بها مدى ملاءة كل دولة بالنسبة للأخرى لا ينافي وجود غطاءلأوراق الدولة النقدية وإن تنوع كما أنه لا ينافي وجود وحدة خاصة بكل دولة تتصلبعملتها المعدنية السابقة وقد سئل سعادة محافظ مؤسسة النقد أسئلة منها ما هو فيالموضوع ومن اختصاصه كالأسئلة المتعلقة بالغطاء وبالسر في ارتفاع سعر العملة وانخفاضهافسلم وجود الغطاء وإن تنوع وأن من الدول ما لها احتياطي ومنها ما ليس لهااحتياطيأو لها احتياطي ضعيف ومنها ما ليس من اختصاصه بل من اختصاص الهيئة كالسؤال: هل الأوراق النقدية عملة قائمة بنفسها أو بدل عن غيرها فإن الجواب عن هذا السؤالمن اختصاص الهيئة بعد سؤالها عن مقدمات اقتصادية يبنى على الجواب عنها حكم الهيئةبأن الأوراق النقدية عملة قائمة بنفسها أو بدل عن غيرها حالة محلها وهناك أسئلةأخرى لم توجه إلى سعادة محافظ المؤسسة إما لضيق الوقت وقد كان من الممكن أن يستدعىفي جلسة أخرى وإما لاكتفاء الأكثرية بالإجابة عن بعض الأسئلة وبالرجوع إلى ما كتبالأعضاء من الأسئلة وجعل عند فضيلة الأمين والمقارنة بينها وبين الأجوبة يتبين ماذكرت من عدم توجيه كل الأسئلة لسعادة المحافظ . .
والله الهادي إلى سواء السبيل وصلى الله وسلم على نبينامحمد وآله . . في 16/4/1393 هـ .
وفي مبحث هدي التمتع والقران يوضح فضيلة الشيخ عبدالرازق وجهة نظره فيما يتعلق بتحديد نهاية ذبح هدي التمتع بالقرآن فيقول :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وصحبه وبعد : ففيالدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في النصف الأول منشهر ربيع الآخر سنة 1396 هـ . بحث المجلس موضوع ذبح هدي التمتع والقران من جميعنواحيه واتخذ في ذلك قرارا ز وأنا أوافق على جميع ما جاء فيه من الأحكام ما عداتحديد آخر وقت الذبح بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق فأرى أن من أخر ذبحهدي التمتع والقران عن أيام التشريق يجزئه ولا يأثم بذلك لعموم قوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) .
بالنسبة لزمن الذبح لم يثبت في الكتاب ولا السنة ما يخصهذا العموم من حيث نهاية وقت الذبح وغاية ما يدل عليه ذبح النبي صلى اللهعليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في يوم العيد وأيام التشريق أن ذلك سنة لا فرضولا شرط صحة في الذبح وقد جاء ما يخص هذا العموم بالنسبة لتقديم ذبح هدي – التمتعوالقران وهو امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح هديه بعد أن أدى العمرة حتىيبلغ محله ثم ذبح هديه يوم العيد فدل على أنه لا يصح تقديم ذبحه عن يوم العيد وكانهذا من البيان العملي والقولي للمجمفي قوله تعالى : ( وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْحَتّ َى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم . . .
هذا وهناك كتابات أخرى ومسائل فقهية تطرق الشيخ إليهاورأيت أنه من الأكمل أن يطلع القارئ عليها إتماما للفائدة وتعميما للنفع ومن هذهالمسائل : مسألة تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة وقد ذكر الشيخ أقوال العلماءفي هذه المسألة فقال :
اتفق العلماء على طلب تحية المسجد في الجملة لمن دخل المسجدكما اتفقوا على طلب الإنصات والإصغاء للخطيب يوم الجمعة في الجملة أيضا واختلفوافيما ينبغي لمن دخل والخطيب يخطب للجمعة : هل الإنصات والإصغاء فلا يصلي التحية ؟أم يصلي صلاة التحية . فذهب إلى الأول من الأئمة الأربعة مالك وأبو حنيفة وإلىالثاني منهم الشافعي واحمد . وهاك مأخذ الفريقين ومنزع المذهبين وبيان ما يعطيهالحجاج من الحق : احتج الأولون أولاً : بعموم قوله تعالى: ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْتُرْ حَمُونَ) .
قالوا : أمر الله تعالى بالإنصات والاستماع للقرآن :فالخطبة كذلك إذ هي قرآن وفي أداء التحية وقتئذ تشاغل وإعراض عن امتثال الأمر فلايجوز .
وثانيا : بقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا قلتلصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت " – متفق عليه – قالوا : أعتبر إرشادهلجليسه إلى الخير وأمره بالمعروف لغوا مع قصر زمنه فالتشاغل بالتحية أولى من يكونلغوا فيمنع .
وثالثاً : بما رواه الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا :" إذا دخل أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام " .
والجواب عن الثلاثة جملة أنها مخصوصة بمن دخل فلا يعمهحكمها لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطبفليركع ركعتين وليتجوز فيهما " رواه مسلم واحمد وأبو داود ، فإنه إذا تعارضالخاص والعام قضي بالخاص على العام.
ويخص الأول : أن إطلاق القول بأن الخطبة قرآن دعوى لادليل عليها . نعم يجوز إن يكون فيها منه آية أو أكثر ومع ذلك فالحكم للغالب .
ويخص الثاني : أن مصلي الركعتين يطلق عليه منصت ونظيرهفي ذلك : ما رواه أبو هريرة في افتتاح الصلاة أنه قال : يا رسول الله سكوتك بينالتكبير والقراءة ما تقول فيه ؟ فأطلق السكوت على القول سراً فهنا كذلك .
ويخص الثالث : أنه حديث ضعيف فيه أيوب بن نهيك قال أبوزرعة وأبو حاتم إنه منكر الحديث فلا تقوم به حجة .
واستدلوا رابعاً بما رواه أبو داود والنسائي وصححه ابنخزيمة من طريق عبد الله بن يسر قال : جاء رجل يتخطى رقاب الناس والنبي صلى اللهعليه وسلم يخطب فقال له : " اجلس فقد آذيت " وفي رواية " وآنيت " .
قالوا : أمره بالجلوس دون التحية فدل على عدم مشروعيتهاحينئذ .
والجواب عنه من وجوه الأول : أنه يحتمل أن يكون هذاالرجل قد صلى التحية في مؤخرة المسجد على مرأى منه صلى الله عليه وسلم ثم تقدمليتمكن من سماع الخطبة فتخطى الرقاب فأنكر عليه .
الثاني : يحتمل أن يكون الرجل دخل في أواخر الخطبة وقدضاق الوقت بحيث لا يتمكن من التحية قبل الإقامة فلا يطالب بها ويدل على ذلك ما فيبعض الروايات : " فقد آذيت وآنيت " أي أبطأت .
الثالث : أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم " اجلسي" النهي عن تخطي الأعناق بدليل قوله " لقد آذيت " وأما التحية فقدوكله صلى الله عليه وسلم إلى ما علمه الرجل قبل ذلك من ضرورة التحية ومع هذهالاحتمالات لا يقوى الحديث المذكور على الاحتجاج به في محل النزاع .
ذلك جملة حجج المانعين . وقد بينا ما فيها من عيوب .واحتج الآخرون أولاً : بقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا جاء أحدكم يومالجمعة والإمام يخطب . فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " . وهو قاض على عموم لفظما ذكروه من الأدلة ولا مطعن فيها ، قال النووي : لا أظن عالماً يبلغه هذا اللفظصحيحا فيخالفه .
واحتجوا ثانيا : بما رواه جابر بن عبد الله قال : جاءرجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال : " صليت يا فلان "قال : لا ، فقال : " قم فاركع " وفي رواية : " فصل ركعتين "رواه الجماعة وهذا الرجل هو سليك الغطفاني ، وأجاب المانعون بأنها واقعة حال لاعموم لها . ويبدل على اختصاصها بسليك ما روى من حديث أبي سعيد أن الرجل كان فيهيئة بذه فقال له : " أصليت ؟ " قال : لا ، قال : " صل ركعتين" وحض على الصدقة .
وأيضا في هذا الحديث عند أحمد أن النبي صلى الله عليهوسلم قال : إن هذا الرجل دخل في هيئة بذة وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه " .
ورد بأن الأصل عدم الخصوصية وما ذكروه من قصد الصدقة لايمنع القصد إلى التحية – أيضا – معها فيكون كل منهما جزء للأمر ولو كان للفت النظرإلى الرجل فحسب لقال : إذا رأيتم ذا بذة فتصدقوا عليه .
وأجابوا عن حديث سليك – أيضا – بأن النبي صلى الله عليه وسلم سكت حتى فرغ سليك من صلاته فقد جمع سليك بين التحية والإنصات فلم يبق فيحديثه حجة لمن أتاح التحية وقتئذ.
ورد بأن حديث سكوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يفرغسليك ضعيف فإن الدارقطني الذي أخرجه من حديث أنس بن مالك قد ضعفه وقال الصواب :إنه من رواية سليمان التيمي مرسلا أو معضلا فلا صحة فيه : على أنه لو ثبت لكان مخالفا لقاعدتهم فإن العمل بعد الشرع فيه لا يجوز قطعه عندهم . لاسيما إذا كان
نرى ما يحملنا على ترك الصحيح الثابت . والتحول عنه إلىالضعيف الواهي . اللهم إلا العصبية الممقوتة والتقليد الأعمى .
هدانا الله إلى سواء السبيل .

محمد طه شعبان
2014-03-29, 06:24 PM
تضلعه في أصول الفقه :
إن من المسلم به أن علم أصول الفقه من أهم العلوم الموصلة إلى معرفة أحكام الله تعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو العلم الذي ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع فأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل فلا هو تصرف بمحض العقول الذي لا يتلقاه الشرع بالقبول ولا ولا هو مبنى على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتسديد والتأييد .
إن المطلع على ما كتبه الشيخ رحمه الله من تعليقات نفسية وقيمة على كتاب " الموافقات " للشاطبي " والمستصفى " للغزالي " والإحكام في أصول الحكام " للآمدي يدرك غزارة علمه وعمق إدراكه ونفاذ بصيرته وصحة قريحته يجيب على الإشكالات وينقد الاستدلالات التي يرى أن غيرها أقوى منها بعبارة واضحة ومأخذ سليم .
إن ما كتبه الشيخ في هذا العلم ( علم أصول الفقه ) متقن الأسلوب محكم البناء ، واضح القصد راسخ القواعد .
وهذا يدل على أن المترجم له أصولي متجر في هذا العلم واقف على دقائقه مطلع على كتبه مستحضر لما فيها فإذا سألته عن كتاب من كتب الأصول ذكر لك خصائصه ومزاياه وطريقته والمآخذ التي تؤخذ عليه .
وبالجملة فقد كان الشيخ عبد الرزاق رحمه الله إماماً شهيراً وعلامة كبيراً ونظاراً متضلعاً في كثير من العلوم وبخاصة علمي الفقه وأصوله مع الإحاطة بكثير من أسرارها ومعرفة محاسنها وغوامضها وتحرير عويصها وحل مشكلاتها وساعده في ذلك أن له باعاً في المنطق والعقليات وسائر العلوم .
لقد تميز الشيخ رحمه الله بسعة علمه ومقدرته على الفهم الدقيق والاستنباط الواعي والترجيح السديد .
يقول أحد تلامذته : لقد عرفت في فضيلة شيخنا الدقة العلمية والاستيعاب الواسع لجوانب المباحث المطروحة متميزاً رحمه الله بدقة فهمه واستيعابه للأصول والقواعد التي تصدر عنها الأحكام وسرعة استحضاره لكلام أهل العلم.
ويقول آخر : لقد كان الشيخ رحمه الله يقوم كل بحث او رأى على ضوء الأسس والأصول الصحيحة التي التزمها السلف الصالح والأئمة الكبار حينما واجهوا الفلسفات المادية والاختلافات في الأصول والفروع .
إن من المؤكد بعد عرض هذه الأقوال أن الشيخ عبد الرزاق رحمه الله كان بمثابة مدرسة فريدة في التأصيل والتعقيد والتدقيق والتحقيق كما كان مدرسة في الأخلاق والتربية وفقه النفس ونشر الفضائل .
وفي الصفحات التالية مقتطفات من كتاباته المتخصصة في هذا العلم الثر ( علم أصول الفقه ) وضح فيها فوائد هذا العلم وأهميته وشدة الحاجة إليه والسبب الباعث على التأليف فيه ، وكل هذا قد انتظمته مقدمته الرائعة والموفقة لكتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي وفي هذه المقدمة يدرك القارئ جودة التصنيف وسلامة العبارة وجزالة اللفظ وحسن الترتيب ويدرك أيضاً أنه يقرأ لشخصية علمية متميزة الأسلوب متعددة المواهب واسعة الاطلاع كما سوف يتضح للقارئ جليا وهو يقرأ هذه المقتطفات وما يتلوها من تعليقات نفيسة على كتاب الآمدي انه يقرأ لعالم منصف وفقيه متقن يعي ما يكتب ويدرك ما يقول .
لقد أبان الشيخ عبد الرزاق رحمه الله في مقدمة كتاب " الإحكام " عن أهمية علم أصول الفقه لحملة الشريعة ورواد المعرفة ولمس ما في بعض كتب الأصول من مباحث جدلية ، وآراء شاذة ، وتخرصات أهل الكلام وسفستطهم ولذا فقد رغب في أن يقرر كتاباً متميزاً الأسلوب سهل العبارة جامعاً لما تناثر من مباحث هذا العلم ليكون مرجعاً وافياً لطلبة المعهد العالي للقضاء وبعد تأمل لعدد من كتب أصول الفقه ومصنفاته وقع اختيار الشيخ على كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي وهو كما يقول الشيخ عبد الرزاق – كتاب عالي الأسلوب واضح العبارة بسط مؤلفه القول فيه وأرخى لقلمه العنان في بيان معانيه .
وقد رغب طلبة المعهد العالي للقضاء أن يكتب لهم عميد معهدهم وشيخهم الشيخ عبد الرزاق كلمات على هذا الكتاب تبين مجمله وتوضح مشكله وتحل عويصة فاستجاب لطلبهم وقد ذكر ذلك في مقدمة كتاب " الإحكام " قائلاً : هذا ولما عزم الأخ الكريم الشيخ على بن حمد الصالحي على طبع كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " لكونه من مراجع الدراسة في المعهد العالي للقضاء ولنفاد ما طبع منه قبل ذلك وقد سألني طلاب المعهد أن أكتب عليه كلمات فاستجبت لطلبهم تحقيقاً لرغباتهم وأداء بعض الواجب على ولم أحاول أن اقف من الكتاب وقف الشارح فالكتاب واضح العبارة عالي الأسلوب وهو غني بوضوحه عن الشارح بل من أراد ذلك منه احتقر عبارة نفسه إلى جانب عبارة الآمدي .
وبعد أن وضح الشيخ أهمية هذا الكتاب وما يمثله من قيمة علمية عالية شرع في بيان أهمية علم أصول الفقه وفائدته فقال :
أصول الفقه من العلوم التي عم نفعها وعظمت فائدتها فقد استطاع به المجتهدون فطرة واستعداداً أو دراسة واكتساباً أن يستثمروا نصوص الشريعة وأن يستنبطوا بها الأحكام من أدلتها التفصيلية على أكمل وجه وأتقنه وأوضح طريق وأبينه ووقف من عني بدراسته من العلماء المقلدين على مآخذ الأئمة المجتهدين ومداركهم وعرفوا طريقهم في اجتهادهم ومذاهبهم في استنباطهم فطبقوا قواعدهم على ما جد من أقضية واستخرجوا على أصولهم أحكاماً في كثير من المسائل نسبوها إليهم تخريجاً حيث لم يثبت عنهم فيها حكم نصاً .
وقد يبلغ من يعني بعلم الأصول ويأخذ نفسه بدراسة قواعده استدلالاً عليها وتطبيقاً لها على نهج من تقدمه من الأئمة أن يكون مجتهداً مطلقاً يعتمد في بحثه على أصول الشريعة ويرجع إلى أدلتها ويستنبط منها الأحكام وربما كان هذا أيسر له وأعم نفعاً وأسلم عاقبة من اجتهاده في المسائل على مقتضى أصول إمام معين واستخراج الفروع على أصوله.
ثم يذكر الشيخ عقب ذلك أن عصر الصحابة والتابعين لم يكن بحاجة إلى تدوين أصول يرجع إليها في استنباط الأحكام ثم يوضح أسباب ذلك قائلاً :
وقد كانت العربية سليقة للصحابة رضي الله عنهم وبلغتهم نزل القرآن وبها بينه النبي r فكانوا يعرفون مقصد الكلام ومغزاه من لحن القول وفحواه وقد شهدوا عهد الوحي والتنزيل ولزموا النبي r في سفره وإقامته وكانوا مع ذلك على جانب عظيم من الفطنة والذكاء وسلامة الذوق ونور البصيرة والحرص على التشريع علماً وعملاً فوفقوا على أسرار الشريعة ومقاصدها ولم يجدوا في أنفسهم حاجة إلى دراسة قواعد يستعينون بها في استثمار نصوص الشريعة ولا ضرورة تلجئهم إلى تدوين أصول يرجع إليها في استنباط الأحكام من الأدلة .
وقد سار التباعون على مدرجتهم وسلكوا سبيلهم فاستغنوا غناهم لقرب العهد بالوحي وقوة الصلة بالصحابة وكثرة الأخذ عنهم والمخالطة لهم وغلبة السلامة على اللغة العربية من الكلمات الداخلية .
ثم يتحدث الشيخ بعد ذلك عن عناية العلماء بتدوين أصول الفقه وأول من عني بالتدوين فيقول :
وكان أول من عني بتدوين أصول القه فيما اشتهر بين العلماء أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي فأملي كتابه المعروف بـ " الرسالة " وكتبه عنه الربيع بن سليمان المرادي . وقد جمع في إملاء الرسالة بين أمرين إجمالاً :
الأول : تحرير القواعد الأصولية وإقامة الأدلة عليها من الكتاب والسنة وإيضاح منهجه في الاستدلال وتأييده بالشواهد من اللغة العربية .
الثاني : الإكثار من الأمثلة لزيادة الإيضاح والتطبيق لكثير من الأدلة على قضيا في أصول الشريعة وفروعها مع نقاش للمخالفين تزيده جزالة العبارة قوة وتكسبه جمالاً فكان كتابه قاعدة محكمة بني عليها من جاء بعده ومنهجه فيه طريقاً واضحاً سلكه من ألف هذا العلم وتوسع فيه .
وقد تبعه في الأمرين أبو محمد على بن حزم في كتابه " الإحكام في أصول الأحكام " بل كان أكثر منه سرداً للأدلة النقلية مع نقدها وإيراد للفروع الفقهية مع ذكر مذاهب العلماء فيها وما احتجوا به عليها ثم يوسع ذلك نقداً ونقاشاً ويرجح ما يراه صواباً غير أن أبا محمد وإن كان غير مدافع في سعة علمه وإطلاعه على النصوص وتمييز صحيحها من سقيمها والمعرفة بمذاهب العلماء وأدلتها وإيراد ذلك في أسلوب رائع وعبارات سهلة واعية لم يبلغ مبلغ الشافعي ، فقد كان الشافعي أخبر منه بالنقل وأعرف بطرقه وأقدر على نقده وأعدل في حكمه وأدرى بمعاني النصوص ومغزاها وأرعى لمقاصد الشريعة وأسرارها وبناء الأحكام عليها مع جزالة في العبارة تذكر بالعربية في عهدها الأول ومع حسن أدب في النقد وعفة لسان في نقاش الخصوم والرد على المخالفين .
ولو سلك المؤلفون في الأصول بعد الشافعي طريقته في الأمرين تقعيداً واستدلالاً وتطبيقاً وإيضاحاً بكثرة الأمثلة وتركوا الخيال وكثرة الجدل والفروض وطرحوا العصبية في النقاش والحجاج ولم يزيدوا إلا ما تقتضي طبيعة النماء في العلوم إضافته من مسائل وتفاصيل لما أصل في الأبواب وإلا ما تدعوا إليه الحاجة من التطبيق والتمثيل من واقع الحياة للإيضاح كما فعل ابن حزم لسهل هذا العلم على طالبيه ولا تنهي بمن اشتغل به إلى صفوف المجتهدين من قريب .
ثم يواصل الشيخ حديثه عن مناهج العلماء في تدوين أصول الفقه بعد أن وضح منهج المتقدمين من السلف في تدوينه ومن هذه المناهج التي تحدث عنها الشيخ في هذا الخصوص منهج المتكلمين والأحناف ومن جاء بعدهم ثم وضح أوجه التباين بين طريقة المتكلمين وطريقة الأحناف في التدوين ثم بين الشيخ المنهج الأمثل في التدوين قائلاً :
ولو سلك هؤلاء طريق الاستقراء فأكثروا المسائل الفقهية من أبوب شتى على أن يجمعها وحدة أصولية ، كما فعل ذلك الشاطبي أحياناً في كتاب الموافقات وقصدوا بذلك الشرح والإيضاح والإرشاد إلى ما بينها من معنى جامع يقتضي اشتراكها في الحكم دون تقيد بمذهب معين ليخلصوا إلى القاعدة الأصولية ، وأتبعوا ذلك ما يؤيد الاستقراء من أدلة العقل والنقل لكان طريقاً طبيعياً تألفه الفطر السليمة وتعتمده عقول الباحثين المنصفين ولأكسبوا من قرأ في كتبهم استقلالاً في الحكم وفتحوا أمامهم باب البحث والتنقيب ويسروا لهم تطبيق القواعد الأصولية على ما جد ويجد من القضايا في مختلف العصور .
وخير لمن يريد فهم علم الأصول على وجهه ويرسخ فيه أن يرجع في قراءته إلى كتب الأوائل فإنها أقعد وعبارتها ادق وأوضح وتحريرهم لمحل النزاع وحكايتهم للخلاف أوفق لأنهم بذلك أعرف ونقاشهم للأدلة جار على أصول النقد وقواعد الجدل والمناظرة عند العلماء .
ويختتم الشيخ عبد الرزاق مقدمته الوافية لكتاب " الإحكام " بترجمة لمؤلفه سيف الدين الآمدي ، ومما يدل على إنصاف الشيخ وتجرد ونزاهة قلمه عند الحكم على الرجال أنه عندما أراد أن يترجم للآمدي نقل ترجمته من عدة كتب بعضها تحمل على الآمدي وتنال منه وتتهمه في دينه ومن هذه الكتب " ميزان الاعتدال" للذهبي وبعضها الآخر تدافع وتنافح عن الآمدي وتنال منه وتتهمه في دينه ومن هذه الكتب " ميزان الاعتدال " للذهبي وبعضها الآخر تدافع وتنافح عن الآمدي وتبرئه مما رمي به وتنصفه من خصومه ومن هذه الكتب " وفيات الأعيان " لابن خلكان و " البداية والنهاية " لابن كثير الذي ذكر أن الآمدي كان كثير البكاء رقيق القلب وأن غالب ما رمي به لا دليل عليه .

محمد طه شعبان
2014-03-29, 06:24 PM
ثم ينصف الشيخ عبد الرزاق – رحمه الله – الآمدي من خصومه قائلاً : عنالآمدي درس الفلسفة بأقسامها المختلفة وتوغل فيها وتشبعت بها روحه حتى ظهر أثر ذلكفي تأليفه ومن قرأ كتبه وخاصة ما ألفه في علم الكلام وأصول الفقه يتبين له ما ذكرتكما يتبين له منها انه كان قوي العارضة كثير الجدل واسع الخيال كثير التشقيقات فيتفصيل المسائل والترديد والسبر والتقسيم في الأدلة إلى درجة قد تنتهي بالقارئأحياناً إلى الحيرة.
فمن كره من الولاة والعلماء منطق اليونان والخوض في سائر علومالفلسفة وخاصة ما يتعلق منها بالآلهيات وكره كثرة الجدل والاسترسال في الخيالوالإكثار من تأويل النصوص وذكر الاحتمالات خشية ما تفضي إليه من الحيرة والمتاهاتمع قلة الجدوى منها تارة وعدم الفائدة أحياناً كالأشرف والذهبي كره الآمدي ديناً .وأنكر عليه ما رآه منكراً وقد يجد في كتبه ومسلكه في تأليفها ما يؤيد رأيهفيه ويدعو إلى النيل منه .
ومن لم يكره ذلك ولكنه ضاق ذرعاً بالآمدي لعجزه عن أن يصل إلىما وصل إليه من التبحر في العلوم وقوة عارضته وحضور بديهته في الجدل والمناظرةوحسن أسلوبه وبارع بيانه في التدريس وصناعة التأليف حسده حيث لم يؤت مثل ما أوتيفي نظره كما ذكره ابن خلكان عن بعض العلماء في سبب خروجه من مصر مستخفياً .
ومن لم ير بأساً بدراسة المنطق وسائر علوم الفلسفة وألف التأويلللنصوص وكثرة الرفوض والاحتمالات دراسة ومناظرة وتأليفاً رفع من شأن الآمدي وعنيبالذب عنه وانهال بالملامة على من حط من قدره أو اتهمه في دينه او طعن في تأليفهكابن السبكي حيث عاب الذهبي في انتفاضة للآمدي .
ثم يختم الشيخ ترجمته للآمدي بكلمات تكتب بماء الذهب لنفاستهابل هي في الحقيقة تعتبر منهجاً تربوياً لقاصد الحق وصادق الهدف وفي هذه الخاتمةيقول الشيخ :
وقصارى القول أن العلماء لهم منازع شتى ومشارب متباينة فمناتفقت نزعاتهم تحابوا وتناصروا وأثنى بعضهم على بعض خيراً ومن اختلفت أفكارهمووجهات نظرهم تناحروا وتراموا بالنبال إلا من رحم الله .
وأسعدهم بالحق من كانت نزعته إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى اللهعليه وسلم ووسعه ما وسع السلف مع رعاية ما ثبت من مقاصد الشريعة باستقراءنصوصها فكلما كان العالم أرعى لذلك وألزم له كان أقوم طريقاً وأهدى سبيلاًوالمعصوم من عصمه الله وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليهوسلم وكل بني آدم خطاءوخير الخاطئين التوابون وما الآمدي إلا عالم من علماء البشر يخطئ ويصيب فلننتفعبالصواب من قوله ولنرد عليه خطأه ولنستغفر الله له وليكن شاننا معه كشأننا مع غيرهمن علماء المسلمين وليكن شعارنا مع الجميع :
( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَابِالْ أِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَاإِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) .
نماذج من تعليقات الشيخ عبد الرزاق على كتاب
"الإحكام " للآمدي :
لقد علق الشيخ على كتاب الآمدي تعليقات نفيسة وهي وإن كانتقليلة المبنى إلا أنها قوية المعنى وهي تدل بلا شك على سعة علم الشيخ وتبحره فيعلم أمصول الفقه وغيره من العلوم كما أن هذه التعليقات تحمل ضمناً نقداً قوياًلأبي الحسن الآمدي وقد يكون النقد لاذعاً أحياناً إلا أنه يخرج به عن الإنصاف ولايتجاوز به حد الأدب في المناقشة .
ومن هذه التعليقات تعليقه على قول الآمدي : " وكهفالراغبين " واصفاً بذلك الله تعالى فعلق الشيخ على هذه العبارة قائلاً :
لو قال : غوث اللاجئين لكان أرعى للأدب مع الله وأبعد عن وحشةالعبارة فيما ينسب إليه سبحانه.
قلت : وهذا يدل على عناية الشيخ بالألفاظ وعلى أنه صاحب منهجسلفي ، يتجلى هذا المنهج الحق في كثير من تعليقات الشيخ وتعقباته للآمدي . ومن هذاتعليقه على قول الآمدي : " وهو أي علم الله – ينقسم إلى قديم لا أول لوجوده" فعلق الشيخ على مقولة الآمدي قائلاً : وصف الله أو غيره من صفاته بالقدم لميرد في نصوص الشرع وهو يوهم نقصاً وفي موضع آخر يعلق على قول الآمدي "لاستحالة خلق القديم الواجب لذاته " فيعلق الشيخ قائلاً : أسماء الله وصفاتهتوفيقية ولم يرد في كتابه سبحانه ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم تسميته بالقديم ولا إضافة القدم إليه أو إلى صفةمن صفاته سبحانه فيجب ألا يسمى سبحانه بذلك وألا يضاف إليه وخاصة أن القدم يطلقعلى ما يذم كالبلي وطول الزمن وامتداده في الماضي وإن كان لمن اتصف به ابتداء فيالوجود
وفي تعليق آخر يدمغ به الشيخ منهج الاستدلال العقلي للمتكلمينويوضح فيه خطأ نسبة الجهة إلى الله نفياً أو إثباتاً حيث ذكر الآمدي " أنالعقل يثبت رؤية الله تعالى لا في جهة " فعلق الشيخ على قوله " لا فيجهة " قائلاً :
لم يرد في النصوص نسبة الجهة إلى الله نفياً ولا إثباتاً ثم هيكلمة مجملة تحتمل حقاً وباطلاً فإن اثباتها لله يحتمل أن يراد به انه تعالى فوقعباده مستو على عرشه وهذا حق ويحتمل أن يراد به أنه يحيط به شئ من خلقه وهذا باطلونفيها عن الله يحتمل نفي علوه على خلقه واستوائه على عرشه وهذا باطل ويحتملتنزيهه عن أن يحيط به شئ من خلقه وهذا حق .
وإذن لا يصح نسبة الجهة إلى الله نفياً ولا إثباتاً لعدم ورودهاولاحتماله ا الحق والباطل .
ثم مقابلة العقلي بالشرعي تشعر بأن رؤية الله وتنزيهه عن الشريكونحوهما إنما ثبت بالدليل العقلي لا بدليل الشرع وهذه طريقة كثير من المتكلمينفإنهم يرون أن ادلة النصوص خطابية لا برهانية لا تكفي لإثبات القضايا العقليةوالمسائل الأصولية اللهم إلا عن طريق الخبر كتاباً وسنة بعد الاستقراء وبعد ثبوتأصل الشرع بالعقل وهذا غير صحيح فإن نصوص الشرع كما جاءت بالخبر الصادق في القضاياالعقلية وغيرها جاءت بالخبر الصادق في القضايا العقلية وغيرها جاءت بتقرير الحق فيذلك بأوضح حجة وأقوى برهان لكنها لم تجئ على أسلوب الصناعة المنطقية المتكلفة بلعلى أسلوب من نزل القرآن بلغتهم بأفصح عبارة وأعلى بيان وأقرب طريق إلى الفهموأيسره لأخذ الأحكام .

محمد طه شعبان
2014-03-29, 06:26 PM
ومن تتبع أدلة القرآن في إثبات التوحيد والرسالة والبعث وغير ذلك من أصول التشريع واستقرأ السنة في ذلك تبين له خطأ أولئك الذين وصموا ربهم وكتابه ونبيه وسنته بما لا يصدر إلا من عدو للمسلمين يريد الكيد لهم في أصول دينهم ومصادر تشريعهم ليردهم بذلك إلى ما يزعمه أصولاً عقلية وغالبها شكوك ومحارات وإن كان فيها شئ من الأدلة الحقة فقد جاء به الشرع فاللهم أغننا بكتابك وسنة نبيك عن مراد الوهم ومزالق الضلال.
وفي تعليق آخر على ما ذكره الآمدي من أن أعلام شعيب وغيره من الأنبياء إنما لم ينقل لأنهم لم يدعوا الرسالة حتى يستدلوا عليها بالمعجزات فتعقبه الشيخ قائلاً : انظر هذه الدعوى مع قوله تعالى : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ) .
عطفاً على معمولي الإرسال في قوله في سورة الأعراف ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِه) وعطفاً على معمولي الإرسال أيضاً في قوله تعالى في سورة هود : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ) وانظرها أيضاً مع قصة شعيب في سورة الشعراء وفيها ) إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(هود: من الآية25) فإن في ذلك الكفاية في إبطال هذه الدعوى ولو أجاب بأنها لم تنقل اكتفاء بشهادة النبي الصادق والقرآن المعجزة برسالته لكان أبعد له عن المزالق .
ويعلق الشيخ أيضاً على قول الآمدي : وأما نقل باقي معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم غير القرآن فإنما تولاه الأحاد لنه لم يوجد شئ من ذلك بمشهد من الخلق العظيم بل إنما جرى ما جرى منها بحضور طائفة يسيرة ولا سيما انشقاق القمر فغنه كان من الآيات الليلية وقعت والناس بين نائم وغافل في لمح البصر فعلق الشيخ على ذلك قائلاً : ليس ذلك بصحيح فإن حنين الجذع كان بحضرة جمع عظيم في المسجد ونبع الماء من بن أصابعه صلى الله عليه وسلم كان بحضرة الجيش وقد انتفعوا بالماء شرباً وطهارة وتزودوا منه وزالت به شدتهم ومع ذلك نقل آحاداً ومتى سلم أن القمر انشق وانه آية قصد بها إقامة الحجة أو تقويتها استحال في حكمه الله أن يفعل ذلك والناس بين نائم وغافل مدة لمح البصر دون دعوة لرؤيته ولا تنبيه لمشاهدته فلابد ان يكون شاهده كثير ويؤيد ذلك أنه نقل نقلاً مستفيضاً بل متواتر المعنى وإن لم يتواتر لفظاً ومع ذلك قد يقال إن كثيراً من العلماء استغنى بذكره في القرآن عن نقله .
وفي موضع آخر من مسألة جواز التعبد بخبر الواحد عقلاص ووجوب العمل به يقول الآمدي : ولقائل أن يقول : وإن سلمنا تنفيذ الآحاد بطريق الرسالة والقضاء وأخذ الزكوات والفتوى وتعليم الأحكام فلا نسلم وقوع تنفيذ الآحاد بالأخبار التي هي مدارك الأحكام الشرعية ليجتهدوا فيها وذلك محل نزاع فعلق الشيخ على ذلك قائلاً : يكفي في رد هذا الاعتراض أنه دعوة يكذبها الواقع فقد أرسل صلى الله عليه وسلم الآحاد من أصحابه لإبلاغ الأخبار بل لتحفيظ القرآن ومن استقرا بعث الولاة والدعاة كفاه دليلاً على بطلان تلك الدعوى .
وفي مسألة أخرى يقول الآمدي : إذا ورد خطاب خاص بالنبي r كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) .
لا يعم الأمة ذلك الخطاب عند أصحابنا خلافا لأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأصحابهما في قولهم أنه يكون خطاباً للأمة إلا ما دل الدليل فيه على الفرق ودليلنا في ذلك أن الخطاب الوارد نحو الواحد موضوع في أصل اللغة لذلك الواحد فلا يكون متناولاً لغيره بوضعه .
وقد علق الشيخ عبد الرزاق على هذا الكلام قائلاً : قد يقال أن الخطاب وإن لم يتناول بوصفه في أصل اللغة غير المخاطب إلا أنه قد يتناوله عرفاً أو لقرائن أخرى ككونه صلى الله عليه وسلمرسولاً فإن ذلك يقتضي أنه ليس مقصودا بالخطاب لذاته بل ليعمل وليبلغ الأمة ما شرع الله عن طريقة ويشهد لذلك قوله تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .
ونحوه من النصوص والإجماع وإذا فالأصل العموم إلا أن يدل دليل على الخصوص وذلك فيما يختلف فيه حال أمته وبه يندفع ما ذكر بعد من الاستدلال باختلاف الأحكام لتفاوت أحوال الناس .

محمد طه شعبان
2014-04-03, 10:05 AM
تدريسه وقدرته الهائلة على إيصال المعلومات:
إن من المقطوع به أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – كان يتمتع بمزايا فريدة لا كاد تتوافر إلا في القليل من الرجال الذين وهبهم الله ذكاء وفطنة وعلماً وإخلاصاً كان الشيخ – رحمه الله – مضرب الأمثال في تدريسه وفي قدرته الهائلة على إيصال المعلومات .
لقد أوتي عقلاً كبيراً وقدرة فائقة على الإقناع كان عالماً مشرق العبارة حسن الأداء يشد انتباه من يستمع إليه
ويشهد لذلك أحد كبار تلامذته ومعاصريه فيقول :
إنني منذ طفولتي وإلى هذه اللحظة لم ألق عالما مثله في سعة علمه واطلاعه ودقة استحضاره وحفظه وسلامة منهجه واستقامة حياته وجولان ذهنه وقدرته على إعطاء الحكم الدقيق في المسألة المطروحة ومعاصرته لأحداث زمانه .
كان مفسراً عظيماً وإن أنسى لا أنس دروسه الرائعة في تفسير القرآن التي كان يلقيها في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في ( دخنه ) في الرياض لقد كان يغوص في المعاني الدقيقة في الآية ويذكر ارتباطها بما في قلبها وما بعدها ويصل بين تلك المعاني وبين حياة الناس ويشير إلى أسرار البلاغة ونواحي إعجاز فيها .
ويقول آخر : لقد تميز الشيخ في دروسه بتأصيل المسائل العلمية وتحليل فروعها وتحرير مواطن الخلاف فيها .
ويقول ثالث : كان رحمه الله ذا باع طويل في علوم الشريعة وله القدح المعلي في التفسير وعلوم القرآن وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلوم العقائد والملل والنحل .
ويؤكد هذا كله أحد تلامذته بقوله : لقد أرسلنا درسنا الشيخ عبد الرزاق في معهد الرياض العلمي وفي كلية الشريعة وفي المعهد العالي للقضاء ، في التفسير والتوحيد وفي الفقه وفي البلاغة وفي النحو والأصول وما درس مادة إلا أبدع فيها . وكان إذا درس مادة أتمها .
لقد كان تدريسه يمتاز بوضوح الكلام وقلته وتكييف المادة بحيث تصل إلى الأذهان من أول وهلة .
ويؤيد هذا ويقويه ما ذكره أحد أبرز تلامذته قائلاً :
لقد تشرفت بتلقي العلم عن سماحته في جميع المراحل الدراسية ، في المرحلة الثانوية وفي المعهد العلمي وفي المرحلة الجامعية في جامعة الإمام محمد بن سعود – رحمه الله – عندما كانت تعرف بالمعاهد العلمية والكليات وكذا في الدراسة العليا في المعهد العالي للقضاء في الرياض .
فكان – رحمه الله – في المعهد العلمي شيخا جليلا يعطي دروسه لطلاب علم في مستوى الابتدائي ، يحاول أن ينقل العلم إلى نفوسهم وقلوبهم بما يستطيعون فهمه وإدراكه وقد أصاب ، فقد كانت المعلومات في المواد التي ندرسها عليه جزلة ومركزة ومفيدة وقد تلقيناها من سماحته بطريقة منطقية رسخت في نفوسنا وعقولنا وكان – رحمه الله – في الكليات شيخا ذا مقام متميز على زملائه في التدريس وقد رأيناه عالما كبيرا خلاف ما رأيناه في المعهد يعطي دروسا لطلاب علم في مستوى متمكن من الفهم والإدراك .
وفي العهد العالي للقضاء رأينا شيخنا عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – عالما متميزا في علمه في الأصول والتفسير والحديث لا يجاريه من زملائه أحد ، لا سيما في القدرة العجبية على جذب أنظار طلابه إليه بما يستنبطه من المسائل العلمية في الاعتقاد والفقه وبما يعطيه من تحليلات علمية في مسائل الخلاف والنظر والاعتبار وكنا معشر الطلاب نتابع التساؤل والاستغراب من قدرة شيخنا – رحمه الله – على التحمل والاستيعاب وهذه موهبة ومكرمة من الله تعالى .
قلت : وقد ذكر لي جم غفير ممن تتلمذوا للشيخ وأخذوا عنه أنه كان جادا في أدائه فلا يترك فرصة للعب وإلى جانب حديثه كان صاحب ملحة مؤدبة وكان ينظر إلى طلابه بمنظار العدل ، فكان يتعاهد الطالب الخامل والمجد على السواء .
لقد أعطى الشيخ عبد الرزاق – رحمه الله – قدرة فائقة يتعاهد الطالب الخامل والمجد على السواء .
لقد أعطى الشيخ عبد الرزاق – رحمه الله – قدرة فائقة على التعبير وقوة في العقل ولم يكن يمسك كتابا في يده وكان حفظه من صدره وكان كثيرا ما يعلق على الكتب التي في أيدي طلبته وكان إذا تكلم عقل عنه وكان لا يتردد في كلامه وكان يبدع في شرح العبارات العويصة والمعاني الغامضة ويضع لدرسه بداية ووسطا ونهاية وكان يلتزم بالموضوع محل البحث ولا يخرج عنه ، فإذا انتهى من شرحه وجه الأسئلة إلى طلابه فيما شرح لهم وكان يلزم العربية في جميع دروسه ومجالسه كتابةً ومحادثة – رحمه الله .

محمد طه شعبان
2014-04-03, 10:06 AM
علو همته وغزارة مادته العلمية واحترامه لطلابه:
قال الماوردي – رحمه الله – بعد استشهاده على علو الهمة بقول الشاعر :
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
قال : والداعي إلى استسهال المصاعب وتحمل المشاق أمور منه علو الهمة وشرف النفس أما علو الهمة فلأنه باعث على التقدم وداع إلى الهمة وشرف النفس التخصيص ، أنفة من خمول الضعة واستنكاراً لمهانة النقص .
وعلو الهمة : هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور .
إن معالي الأمور وعرة المسالك ، محفوظة بالمكاره والعلم أرفع ما تطمح إليه الهمم وأشرف غاية تتسابق إليها الأمم فلا يخلص إليه الطالب دون أن يقاسي شدائد ويحتمل متاعب ولا يستهين بالشدائد إلا كبير الهمة ماضي العزيمة .
إن عظيم الهمة يستخف بالمرتبة السفلى أو المرتبة المتوسطة من معالي الأمور ولا تهدأ نفسه إلا حين يضع نفسه في أسمى منزلة وأقصى غاية ويعبر عن هذا المعنى النابغة الجعدي بقوله :
بلغنا السماء مجدنا وجدونا وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
لقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – ماضي العزم عالي الهمة له نفس تواقة ما بلغت شيئا إلا وتاقت إلى ما هو أعلى منه ، إن شغفه بمعالى الأمور وذرا الفضائل دفعه منذ صباه إلى طلب العلم والنصب في ذلك وكأن لسان حاله يقول :
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليلاً من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
لقد كان ( للمترجم له ) القدح العلمي في كثير من العلوم والفنون ولقد اتفقت كلمة العلماء على إمامته وفضله وتضلعه وتقدمه في كثير من المعارف حتى وصفه بعض العلماء بأنه دائرة معارف متحركة .
كان إذا تكلم في فن من فنون العلم ظن السامع أنه لا يحسن غيره وأنه متخصص فيه وحده وقد قصده الطلاب من كل حدب وصوب لينتفعوا من علمه وليصيبوا عنده ما لم يصيبوه عند غيره .
لقد كان الشيخ عبد الرزاق – رحمه الله – آية في تقديره لطلابه واحترامه لهم ، اختلف يوماً مع أحد طلابه بالمعهد العالي للقضاء وكان الشيخ مديراً لهذا المعهد ومشرفا على بحث الطالب فقال له الطالب:
إذا كنت ستتمسك برأيك في هذه المسألة عند مناقشة هذه الرسالة ، ثم أعود إلى رأيي خطأ تؤاخذني عليه فسآخذ برأيك بصفة مؤقتة حتى ينتهي أمر مناقشة هذه الرسالة ثم أعود إلى رأيي المخالف لرأيك فما كان من الشيخ عبد الرزاق – رحمه الله – إلا أن قال له : يا عبد الله أنا أحترم الرأي العلمي وإن كنت لا أراه ، ما دام منياً على اجتهاد وإني لا أعتقد العصمة في الإصابة لنفسي ولا الخطأ لمخالفي وعليك أن تجتهد في الاستزادة من تبرير رأيك المخالف وسأعتبر تمسكك برأيك منقبة علمية أكافؤك عليها .
لقد كان الشيخ – رحمه الله – لين الجانب ، طلق الوجه ، حسن الملاحظة ، فهو أمام الطلاب والزوار يظهر الفرح والسرور والانبساط في الكلام والإجابة على الأسئلة ، بدون غضب أو ملل أو تبرم أو رد شديد للسائل .
فالطالب في مجلسه يلقى منه كل التقدير والمؤانسة والتبسم بحيث لا يمل جليسه منه كما أنه يكرم من زاره ولا يتكلف في كرمه .
يقول أحد تلامذته : كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي يتميز بطيب المعشر والزهد في الدنيا وكان يقدر من يفد إليه في منزله وعمله ابتغاء مرضاة الله سبحانه ورغبة فيما عنده .
ويذكر أحد ممن جلسوا منه مجلس العلم والتحصيل : أنه كان لا يحب أن يكون تلميذه فاقد الوزن ، لذلك كان همه الأول وشغله الشاغل أن يولد في نفس الطالب ثقة تقيم صلبه وتجلو مداركه وتذلل له وعثاء الطريق وكان يحاور الطالب وعلى شفتيه ابتسامة توحي له أنه حاز الإعجاب ووافق الصواب .
وبعد هذه النقول عن تلامذة الشيخ يتقرر عندنا أن ثمة علاقة قوية كانت تربط الشيخ بطلابه وكل الواردين من قاصدين يتتبعون خطاه ويتحرون دروسه ومن باحثين وعلماء يستهدونه ويلتمسون صواب رأيه فيما يعرض لهم من مشكلات . وكانوا جميعاً عنده محل التقدير والاحترام .

محمد طه شعبان
2014-04-10, 06:08 PM
جهوده الدعوية في مصر :
قضى الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – حياته في خدمة العلم والدين ، مجاهداً في سبيل الدعوة إلى الله وطلب العلم وتعليمه .
لقد أمضى الشطر الأول من حياته في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وكان داعية من أبرز دعاة جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر والأسكندرية ومن المؤسسين لها .
كان داعية متميزا في علمه ودعوته وكان لسعة اطلاعه وقوة حجته وثباته على الحق أبلغ الأثر في نجاح دعوته .
يتحدث عنه أحد زملائه بالأزهر وأحد رفقاء دربه ( يوسف الضبع ) فيقول : " وفي الإسكندرية وضواحيها المترامية بسط نطاق دراسته الدينية ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) .
فكان الشيخ يلقي فيها عظات ودروساً دينية حسبة لله وابتغاء وجهه وكانت هذه العظات وتلك الدروس إلى جانب جدوله الدراسي في المعهد الديني بالإسكندرية وقد تتلمذ له وآوى إلى حلقاته كثير من شيوخ الإسكندرية وشبابها وأشهد أنه بلغ من الورع والتقوى والكرم والشجاعة وأصالة الرأي ورسوخ القدم ما جعله أشبه بعلماء السلف الصالح ، لقد كانت دروسه اليومية في الإسكندرية وضواحيها بمثابة مدرسة كبرى يجتمع فيها الجم الغفير من الناس على اختلاف مستوياتهم للاستماع والنقاش والحزار مع عالم مبرز وفقيه ثقة ، إذا جادل أقنع ولم تقتصر دروسه ومواعظه على مكان بعينه في الإسكندرية ، بل كان يغشى معظم معظم مساجد هذه المدينة الكبيرة وغيرها من المدن من وقت لآخر لإلقاء دروس في التوحيد والعقيدة الإسلامية التي كان حريصا أشد الحرص على تنقيتها وتصفيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي والخرافات والخزعبلات وما أكثرها في مجتمعه " .
لقد عرف الشيخ عبد الرزاق – رحمه الله – من خلال دروسه بسعة علمه وعمق فهمه وصحة معتقده فكان زملاؤه المدرسون يعتبرونه مرجعا أمينا لهم .
وفي رحلته العلمية وجهوده الدعوية ، كانت له عناية خاصة بتربية تلاميذه على العقيدة السلفية ونبذ البدع والضلالات والأخذ بأيديهم إلى هدي الكتاب والسنة وسلف هذه الأمة فاحتضن نخبة متميزة من هؤلاء التلاميذ وتعهدها منذ الطفولة واصطحبها معه حتى نمت وشبت عن الطوق ونهجت نهجه . وغدا هو وهم يجوبون القرى والنجوع ويتجولون في الضواحي والأحياء المتعددة لأداء رسالة هي من أعظم الرسالات ألا وهي رسالة الدعوة إلى الله وهداية الناس .
وحيث كانت معظم المساجد لا تخلو من البدع ويجهل عامة الناس مسائل العقيدة الصحيحة فقد ركز – غفر الله له – على الجوانب العقدية والعودة إلى منابع أصولها الصافية والتمسك بالسنة الصحيحة وما كان عليه أمر المسلمين في القرون المشهود لهم فيها بالخير وكان إذا تعذر عليه تغيير المنكر سعى في إقامة مسجد خاص يقوم عليه من هداهم الله لدعوته ويتخذون منه منطلقا للدعوة .
ويتحدث فضيلة الشيخ مناع بن خليل قطان منوها بجهود الشيخ الدعوية في محافظة شبين الكوم بمصر قائلا :
1- عين شيخنا مدرسا بالمعهد الديني بشبين الكوم التابع للأزهر سنة 1355 هـ - 1973 م .
2- استأجر بيتا لسكناه ( وهو عزب ) فأسكن معه طلاب ( شنشور – منوفية ) .
3- ثم تزوج وسكن في بيت مستقل ولكنه كان يدعو طلابه بالجامعة ويرعاهم كما يرعى الأب أبناءه .
4- قام بتدريس مادة الحديث المقررة في المرحلة الثانوية " صفوة صحيح البخاري " فكان أستاذا متميزاً بترتيب الموضوع وجودة العرض وحسن التعليق ورجاحة العقل ويسجل النابهون من طلابه إضافاته العلمية على هامش الكتاب المقرر .
5- يهاب الطلاب شخصيته وينصتون لسماع درسه ويحرصون على الأستفادة منه .
6- اتفقت معه الجمعية الشرعية بشبين الكوم برئاسة الشيخ احمد الزيات على أن يلقي درساً أسبوعياً منتظماً في مسجدها ، فكان هذا الدرس مدرسة يجتمع فيه الجم الغفير للاستماع والنقاش والحوار .
7- كان يغشي المساجد الأخرى من وقت لآخر لإلقاء دروس فيها .
8- كان منهجه السلفي سمة بارزة فيه بأسلوب شائق جذاب يدعمه الدليل والحجة ولا يمس أحداً بتجريح مما جعل استجابة الناس عن حب وقناعة .
9- توثقت علاقته بمدير المعهد آنذاك ( الشيخ عبد الجليل عيسى ) فكان موضع شوراه .
10- كان يزن طلابه بميزان دقيق في الجوانب المتعددة ولا يخفي حبه لمن يتوسم فيهم الخير فيعاملهم – وهم بمنزلة أبنائه – معاملة الأخ الأكبر لاخوته الصغار .
11- عرف بسعة علمه وعمق فهمه فكان زملاؤه المدرسون يعتبرونه مرجعا لهم .
12- أضفى عليه تواضعه حلة من زيادة التقدير والاحترام لدى كل من عرفه .
وفضلا عن ذلك كله فقد كان له القدح المعلى في تخليص قريته ( شنشور ) من العادات الجاهلية التي هدمها الإسلام كالنياحة وإقامة السرادقات . . . إلخ
لقد كانت جهوده في هذا الميدان لها أبلغ الأثر في نفوس العامة فضلا عن المتعلمين لما يعلمونه عن الشيخ من علم واسع ورفق في الدعوة وحرص على هداية الناس وقد تحقق ما أراد بإذن الله وتوفيقه ، فهدى الله على يده آلافا من الناس وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
إن حياة الشيخ عبد الرزاق وجهوده الدعوية المباركة جديرة بالتأمل فقد أوقف حياته على نشر العلم والدعوة إلى هذا الدين وإظهار محاسنه والدفاع عن ساحته وترسيخ مبادئه وتعميق التوعية بمعانيه .
والواقع الذي لا يماري فيه أحد من دعاة هذا الدين وإظهار محاسنه وحملته في مصر وغيرها هو إجماعهم على أن فضيلة الشيخ عبد الرزاق قد بلغ من العلم والفضل والفقه في الدين منزلة عظيمة لا يجحدها إلا حاسد أو حاقد وفي هذه الكلمات المشرقة والنصائح القيمة التي يوجهها الشيخ إلى الدعاة أكبر شاهد على ما ذكرت فقد قال – رحمه الله - :
وخير طريق يحتذيه الدعاة في القيام بمهمتهم وأمثل منهاج يسلكونه في استمالة قلوب الناس إلى الخير والإعذار إلى من لم يستجب للحق بعد بيان الحجة وإقامة البرهان هو طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام ومنهاجهم في دعوتهم إلى الله بقولهم المفضل وسيرتهم الحميدة .
وعقب ذلك يلقي الشيخ الضوء على سيرة رسول الله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيقول :
كان إبراهيم الخليل ( عليه الصلاة والسلام ) مثلا أعلى في صدق اللهجة والإيمان بما يدعو إليه من التوحيد وشرائع الإسلام والتصديق به على وجه اطمأنت به نفسه ورسخ في سويداء قلبه وقد أثنى الله عليه بذلك في محكم كتابه في مطلع الحديث عنه حينما قام يدعو أباه إلى التوحيد فقال :
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً) .
فعلى الداعي إلى الحق أن يكون مؤمنا به ، مخلصا لما يدعو إليه صادق اللهجة فيه وإلا انكشف سره وافتضح أمره فإن ثياب الزور تشف عما وراءها وعند ذلك يكون وبالا على الدعوة .
بدأ إبراهيم الخليل بأبيه في الدعوة إلى التوحيد فإنه أقرب الناس إليه وألصقهم به فكان أولى بمعروفه وبره وإحسانه وإلى جانب ذلك يكون ردا له إذا استجاب لدعوته وظهرا له يحميه بدافع أخوة الإيمان وعصبية النسب .
قال تعالى في وصفه لإبراهيم في دعوته : ( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) .
وقد تلطف معه في الدعوة فذكره بما بينهما من الرحم ووشائج النسب استمالة لقلبه وتنبيها له إلى أنه لو كذب الناس جميعا ما طابت نفسه بالكذب عليه وأنه لو غشهم جميعا لم يكن منه إلا النصح له لما بينهما من أواصر القربى والنسب .
وبدأ دعوته لأبيه بالتوحيد الذي هو أصل الدين وجوهر الشرائع السماوية وعليه تقوم فروع الإسلام وبه صلاح القلب وبصلاحه تصلح سائر الجوارح وتستقيم أحوالها .
" ألا وإن الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " .
وسلك في دعوته إلى التوحيد طريق الاستدلال عليه بأن ما يعبده أبوه وقومه لا يسمعهم إذا دعوه لكشف غمة أو تفريج كربة ولا يراهم إذا عبدوه وتضرعوا إليه ولا يجلب لهم نفعا ولا يدفع عنهم ضراً وإذا كان لا يرجى نفعه ولا يخشى بأسه فكيف يستحق أن يعبد أوو يتقرب إليه وبذلك أقام عليهم الحجة وقطاع عذرهم .
فيجب على من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر أن يقتفي أثر إبراهيم الخليل في دعوته فيتلطف مع من يدعوهم ويسوسهم حسب ما تقتضيه أحوالهم ويبدأ بأقرب الناس إليه وأولادهم بإرشاد ويقدم الإرشاد إلى عقيدة التوحيد ويركز الحديث فيها ويقيم على ذلك الدليل ليقنعهم بالحجة ويسقط أعذارهم .
ادعى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أن الله آتاه من العلم ما لم يؤت أباه ، لا ليفخر بذلك أو يتعالى على أبيه حتى يكون خلقا ذميما ينفر الناس من حوله ويمقتونه من أجله ، بل ادعى ذلك ليلفت النظر إلى وجوب الإصغاء إليه واتباعه فيما جاء به من الحق المبين ليهديهم به إلى الصراط المستقيم .
قال تعالى في وصفه لإبراهيم في دعوته : ( يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) .
نهى إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام ) أباه عن طاعة الشيطان في وسوسته واتباعه فيما يسوله ويزينه إليه من الشرك بالله وسائر المنكرات فإن طاعته له وإسلام قياده إليه عبادة له من دون الله ونبه أباه إلى عصيان الشيطان لربه وتمرده عليه وإذن فليس على هدى في وسوسته ولا يزين للناس إلا ما هو شر وضلال .
قال تعالى في وصفه دعوة الخليل : (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً) .
فعلى الداعية إلى الحق أن يكشف الغطاء عن معنى العبادة ويزيدها إيضاحا حماية لعقيدة التوحيد وبيانا لأصولها ويستعمل أسلوب التنفير من عبادة غير الله اقتداء بخليل الرحمن ( عليه الصلاة والسلام ) .
أنذر إبراهيم أباه إنذار المتلطف معه المشفق عليه بأنه يخشى عليه مغبة شركه وعاقبة عبادته للشيطان وطاعته له فيعذبه الله على ذلك ولا يجد ممن تولاهم بالعبادة من يدفع عنه بأس الله وعذابه .
قال تعالى في وصف إبراهيم في دعوته : (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً) .
فعلى الداعية أن يستعمل أسلوب الإنذار والتخويف من سوء العواقب والتذكير بعذاب الله وأليم عقابه يوم يتبرأ دعاة السوء ممن غرروا بهم ويتمنى المخدوعون بزخرف القول أن لو عادوا إلى الدنيا فيتبرءوا من دعاة السوء كما تبرؤوا منهم يوم القيامة وأني لهم ذلك .
لا تأثير للدعوة إلى الحق وإن كانت صادقة إلا إذا وجدت آذانا صاغية وقلوبا واعية وفطرة سليمة لم تفسها الأهواء ولذا لم يستجب لإبراهيم أبوه بل أنذره لئن لم ينته ليرجمنه وأمره بهجره مليا فصبر إبراهيم على أذاه وقابل سيئته بالحسنة وقال له : (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً) .
واعتزلهم وما يدعون من دون الله ، بعدا عن الفتنة إذ لم يستطع القضاء عليها وأملا في أن يجد لدعوته أرضا خصبة فوهب الله له إسحاق ويعقوب وجعل كلا منهما نبيا ، جزاء وفاقا لصدقة في الدعوة وإخلاصه فيها وصبره على الأذى في سبيل نشرها وهجره للشرك وأهله إتقاء للبشر وبعداً عن مواطنه ومظاهره .
فعلى الدعاة أن يتذرعوا بالصبر وسعة الصدر وأن يقابلوا السيئة بالحسنة وأن لا ينتقموا لأنفسهم ما استطاعوا إلى العفو سبيلا لكن إذا انتهكت حرمات الشريعة انتصفوا لها وأخذوا على أيدي العابثين وعليهم أن يهجروا الشر وأهله إذا لم يمكنهم إزالته أو تخفيفه ، خشية أن تصيبهم الفتنة أو يعمهم البلاء أو تكون مخالطتهم حجة عليهم أو معرة لهم وذريعة للنيل منهم وعدم الاستماع لنصائحهم وعليهم أن يتحروا المجالس التي يرجى فيها قول الحق وقبوله والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
جهوده الدعوية في المملكة العربية السعودية :
وأما جهوده الدعوية في المملكة العربية السعودية فهي بحر لا ساحل له وهي جديرة بأن يفرد لها دراسات ومؤلفات خاصة به .
قدم العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي – غفر الله له ورحمه – إلى المملكة العربية السعودية – بلاد الحرمين الشريفين – سنة 1368 هـ بعد أن قضى شطر عمره في ميادين العلم والدعوة والتربية في مصر .
لقد جاء إلى المملكة العربية السعودية على سجيته ، لم يجتذبه طمع في مال أو جاه أو منصب ، لم يأت إلى المملكة ليكون سلفياً بل كان سلفيا قبل مجيئه إليها وأدل دليل على هذا أن نشر الكتب السلفية التي تعني بأمر المعتقد كان شاغله الشاغل وعمله الدؤوب ومن أوائل هذه الكتب التي قام على تحقيقها ونشرها في مصر : كتاب " العلو " للذهبي .
والشيخ عبد الرزاق عفيفي يعتبر من أوائل من جاؤوا للتدريس في هذه المملكة المباركة قبلة العلماء العاملين وملاذ الأئمة المصلحين والدعاة المخلصين جاء الشيخ إلى بلاد استجابة لرغبة كريمة من مؤسس هذه الدولة الغراء الملك عبد العزيز آل سعود – يرحمه الله – فقد وجه أمره الكريم إلى صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع ، معتمد المعارف السعودية آنذاك وأحد أبرز رجال التعليم في المملكة العربية السعودية بأن يذهب إلى مصر لترشيح واختيار نخبة ممتازة من العلماء الذين عرفوا بصحة المعتقد وسلامة المنهج وهدفه من ذلك تنفيذ سياسته الصارمة في محاربة الجهل واقتلاع جذوره بعد أن خيم ردها من الزمن على أجزاء من هذه الجزيرة . وفي مصر وقع الأختيار على فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ليكون في طليعة من يذهبون إلى المملكة العربية السعودية للمشاركة في النهضة العلمية بها وإزاء تلك الثقة الغالية من الملك عبد العزيز – يرحمه الله – والأمراء من أبنائه آثر الشيخ عبد الرزاق الاستقالة من الأزهر وقدم إلى هذه البلاد مع كوكبة من علماء الأزهر منهم فضيلة الشيخ محمد على عبد الرحيم وفضيلة الشيخ محمد خليل هراس وفضيلة الشيخ الشيخ محمد عبد الوهاب بحيري وفضيلة الشيخ حسين محمد مخلوف وفضيلة الشيخ محمد حسين الذهبي وفضيلة الشيخ عبد المنعم النمر وفضيلة الشيخ يوسف الضبع والشيخ احمد القط والشيخ محمد عبد الدائم وغيرهم وقد امتاز – رحمه الله – عن غالب زملائه وأقرانه الذين درسوا في الأزهر وفي غيره من المؤسسات العلمية بشدة متابعته لكتاب الله وسنة رسوله r .
ويشيد معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والارشاد بجهود فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – فيقول :
لقد استمر عطاؤه في الكليات والمعاهد العلمية بعد وفاة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم – عليه رحمة الله – ثم في مجال الإفتاء والدعوة في رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد . وقد أفنى عمره في نشر العلم والدعوة إلى الله والدفاع عن دينه .
لقد أدى الشيخ عبد الرزاق عفيفي – غفر الله له ورحمه – على مدار تسعة وأربعين عاماً دوراً مهماً وفعالاً في الحياة العلمية والاجتماعية يمكن إجماله فيما يلي :
1)- جهوده التعليمية والتربوية والدعوية في دار التوحيد بالطائف ( 1368 – 1370 هـ ) .
2)- محاضراته القيمة ودروسه العلمية في معهدي عنيزة العلمي والرياض ( 1370 – 1371 هـ ) .
3)- تأسيسه وتدريسه في كليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض .
4)- معاصرته لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض منذ نواتها الأولى واستمرار عطائه لها إلى أن توفاه الله .
5)- جهوده المخلصة وعمله الدؤوب إبان إدارته للمعهد العالي للقضاء ( 1385 – 1390 ) وتخريج أفواج من طلبة العلم والدعاة على يديه .
6)- مشاركته في اللجان العلمية التي كان من ثمرتها إنشاء الكليات والمعاهد العلمية بالمملكة .
7)- عضويته الفاعلة وجهوده المتواصلة في وضع مناهج ومقررات الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية .
8)- تحريره وصياغته لآلاف الفتاوي والبحوث التي تتسم بالعمق والأصال والدقة وذلك خلال عمله نائبا لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
9)- دروسه العلمية ومحاضراته وندواته المفيدة في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم وفي منزله وفي بعض المعاهد التربوية ودور العلم .
يقول أحد تلامذته : كان الشيخ – رحمه الله – ذا باع طويل في علوم الشريعة وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلوم العقائد أما في علم أصول الفقه فإليه فيه المنتهى وقد شرفت بأن أكون أحد تلاميذه في كلية الشريعة ثم في المعهد العالي للقضاء وخبرته عن قرب ورأيت فيه ما كنت أقرأ عن علماء السلف من العلم الجم والفقه في الدين والتحلي بمباديء هذا الدين من تواضع وتقى وزهد وورع وصبر وحب لهذه الأمة وحرص على أن تظل كما هو مؤمل منها منارة هدى ومصدر إشعاع ومئل عز للإسلام والمسلمين .
ويقول آخر : كان الشيخ عبد الرزاق – يرحمه الله – مسار إعجاب طلبة العلم وكان الطلاب ينقلون أخباره لأهاليهم وذويهم موضحين مواقفه وجهوده في التعليم والتربية وتفوقه في علم الشريعة ودقة فهمه لأحكامها وحسن تنزيله للأحكام على الوقائع في التدريس والفتوى وقوة شخصيته وسداد توجيهه وحسن تربيته وعرفته الساحة في المملكة في كل مجال من مجالاتها في التعليم والتربية والتوجيه والوعظ والإرشاد وفي الفتوى والمجالس العلمية ، ذا علم غزير ورأي متميز وأدب جم ، جمع الله له بين العلم النافع والعمل الصالح والقبول عند الناس والاحترام في المجتمع .
10)- إشرافه على عشرات الرسائل العلمية ( دكتوراه وماجيستير ) ومناقشته للمئات منها فضلا عن مئات البحوث والدراسات المتخصصة التي قومها وأبدى رأيه الصائب فيها ومن هذه الرسائل العلمية التي أشرف عليها :
· رسالة الدكتوراه للشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي وموضوعها ( ابن قدامة وتخريج أحاديث كتاب " الكاف " ) .
· رسالة الدكتوراه للشيخ عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان وموضوعها ( تحقيق ودراسة كتاب التوحيد وإثبات صفات الله عز وجل لابن خزيمة ) .
· رسالة الدكتوراه للشيخ صالح الفوزان وموضوعها ( الأطعمة ما يحل منها وما يحرم ) .
· رسالة الدكتوراه للشيخ سعود بن عبد الله الفنسيان وموضوعها ( اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره ) .
· رسالة الدكتوراه للشيخ محمد بن سعيد القحطاني وموضوعها ( اهتمام المحدثين بنقد الحديث سندا ومتنا ) .
وأما رسائل الماجستير والبحوث الشرعية الأخرى فهي لاا تحصى كثرة .
11)- تقويمه للأعمال العلمية والأبحاث التي تتسم بالأصالة والابتكار لكثير من الأساتذة طلبا للترقية إلى درجة العلمية التي يستحقونها .
12)- إلقاؤه للعديد من المحاضرات والندوات والكلمات وعقد مئات المجالس العلمية في المساجد وفي بيته .
هذا غيض من فيض وقليل فيما يتعلق بجهود الشيخ رحمه الله .
والحق يقال : لقد أفنى الشيخ حياته في العلم والتعليم والإفتاء وانتفع بعلمه ودروسه أمم لا يحصون كثرة واعترفوا له بالفضل بعد فضل الله سبحانه وتعالى وافتخروا بالانتماء إلى تعليمه وما تلقونه عليه من خلال دروسه في المعاهد العلمية والمساجد وغيرها .