المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التأويل



محمد طه شعبان
2014-02-13, 08:32 AM
التَّأْوِيلُ لُغَةً: مَعْنَاهُ الرُّجُوعُ؛ آلَ إِلَى الشَّيْءِ أَوْلًا وَمَآلًا: رَجَعَ، وَأَوَّلَ إِلَيْهِ الشَّيْءَ رَجَّعَهُ، وَأُلْتُ عَنِ الشَّيْءِ ارْتَدَدْتُ([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1)).
وَالتَّأْوِيلُ يَأْتِي عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ فِي الشَّرْعِ وَاصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ:
الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: التَّفْسِيرُ وَالْبَيَانُ: وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))».
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: ((التَّأْوِيلُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ، هَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ؛ كَمَا يَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّفْسِيرِ: وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ التَّأْوِيلِ([3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3))))ا ه.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله: ((وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، فَمُرَادُهُمْ بِهِ مَعْنَى التَّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ: الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى كَذَا وَكَذَا؛ يُرِيدُ تَفْسِيرَهُ([4] (http://majles.alukah.net/#_ftn4))))ا ه.
الْمَعْنَى الثَّانِي: الْحَقِيقَةُ الَّتِي يَئُولُ إِلَيْهَا الْكَلَامُ: فَإِنْ كَانَ خَبَرًا، فَتَأْوِيلُهُ وُقُوعُهُ، وَتَصْدِيقُ الْمُكَلَّفِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا، فَتَأْوِيلُهُ تَنْفِيذُهُ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله: ((لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ نَوْعَيْنِ: خَبَرٌ وَطَلَبٌ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ تَصْدِيقُهُ، وَمِنَ الطَّلَبِ امْتِثَالُهُ، كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَأْوِيلِ الْخَبَرِ هُوَ تَصْدِيقُ مُخْبَرِهِ، وَمِنْ تَأْوِيلِ الطَّلَبِ هُوَ امْتِثَالُهُ([5] (http://majles.alukah.net/#_ftn5))))ا ه.
فَمِثَالُ تَأْوِيلِ الْخَبَرِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100]؛ أَيْ: وُقُوعُ رُؤْيَايَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]؛ يَعْنِي: هَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا وُقُوعَ مَا وُعِدُوا بِهِ.
وَقَوُلُهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39].
قَالَ الْبَغَوِيُّ رحمه الله: (({وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أَيْ: عَاقِبَةُ مَا وَعَدَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، أَنَّهُ يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ([6] (http://majles.alukah.net/#_ftn6))))ا ه.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ رحمه الله: (({وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}؛ وَلَمْ يَأْتِهِمْ بَعْدُ حَقِيقَةُ مَا وُعِدُوا فِي الْكِتَابِ([7] (http://majles.alukah.net/#_ftn7))))ا ه.
وَمِثَالُ تَأْوِيلِ الْأَمْرِ:
مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ([8] (http://majles.alukah.net/#_ftn8)).
تَعْنِي رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ يُنَفِّذُ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3].
الْمَعْنَى الثَّالِثُ – وَهُوَ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُو نَ -: هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى الرَّاجِحِ إِلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ: وَهَذَا الصَّرْفُ عَنِ الظَّاهِرِ، أَوْ عَنِ الْمَعْنَى الرَّاجِحِ، إِنْ كَانَ بِدَلِيلٍ، فَهُوَ تَأْوِيلٌ مَقْبُولٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَهُوَ تَأْوِيلٌ مَرْدُودٌ؛ وَلَا يَسْتَعْمِلُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلُهُ أَهْلُ الْكَلَامِ وَالْأَهْوَاءِ؛ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَحْرِيفٌ وَلَيْسَ تَأْوِيلًا.
وَهَذَا النَّوْعُ – وَهُوَ التَّأْوِيلُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ – هُوَ الَّذِي عَنَاهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله بِقَوْلِهِ: ((وَلَا أَتَأَوَّلُ)).
فَمِنْ أَمْثِلَةِ صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِدَلِيلٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، فَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، النِّسْيانَ هُنَا بِمَعْنَى التَّرْكِ([9] (http://majles.alukah.net/#_ftn9)).
وَهَذَا تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ تَأْوِيلٌ بِدَلِيلٍ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
وَمِنْ أَمْثِلَةِ صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ: تَأْوِيلُ الْأَشَاعِرَةِ صِفَةَ الْيَدِينِ بِأَنَّهَا النِّعْمَةُ أَوِ الْقُدْرَةُ، وَتَأْوِيلُهُمُ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاء ِ، وَتَأْوِيلُهُمُ النُّزُولَ بِمَعْنَى نُزُولِ الرَّحْمَةِ أَوِ النِّعْمَةِ، أَوْ نُزُولِ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَأْوِيلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ؛ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَإِلْحَادٌ فِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ؛ ((لِأَنَّ التَّأْوِيلَ إِخْبَارٌ عَنْ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، لَا إِنْشَاءٌ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فَهْمَ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ، فَإِذَا قِيلَ: مَعْنَى اللَّفْظِ كَذَا وَكَذَا، كَانَ إِخْبَارًا بِالَّذِي عَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْخَبَرُ مُطَابِقًا كَانَ كَذِبًا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ([10] (http://majles.alukah.net/#_ftn10)))).
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ رحمه الله: ((وَالتَّأْوِيلُ نَقْلُ اللَّفْظِ عَمَّا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُهُ وَعَمَّا وُضِعَ لَهُ فِي اللَّغَةِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ؛ فَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ قَدْ صَحَّ بِبُرْهَانٍ، فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ اطُّرِحَ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، وَحُكِمَ لِذَلِكَ النَّقْلِ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ([11] (http://majles.alukah.net/#_ftn11))))ا ه.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: ((وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِمَعْنَى صَرِفِ اللَّفْظِ عَنِ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ؛ كَتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ: اسْتَوَى، بِمَعْنَى اسْتَوْلَى، وَنَحْوِهِ؛ فَهَذَا عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بَاطِلُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَآيَاتِهِ.
فَلَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ: لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، بَلْ يُقَالُ فَيهِ: {قَلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18]؛ كَتَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَرَامِطَة ِ الْبَّاطِنِيَّة ِ؛ كَتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ: بِمَعْرِفَةِ أَسْرَارِهِمْ، وَالصِّيَامَ، بِكِتْمَانِ أَسْرَارِهِمْ، وَالْحَجَّ: بِزِيَارَةِ شُيُوخِهِمْ، وَالْإِمَامَ الْمُبِينَ: بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَئِمَّةَ الْكُفْرِ: بِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ: بِبَنِي أُمَيَّةِ، وَاللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ: بِالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَالتِّينَ وَالزَّيْتُونَ وَطُورَ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدَ الْأَمِينَ: بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَالْبَقَرَةَ: بِعَائِشَةَ، وَفِرْعَوُنَ: بِالْقَلْبِ، وَالنَّجْمَ وَالْقَمَرَ وَالشَّمْسَ: بِالنَّفْسِ وَالْعَقْلِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ مِنْ بَابِ التَّحْرِيفِ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَالْإِلْحَادِ فِي آيَاتِ اللهِ، وَهِيَ مِنْ بَابِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَكِتَابِهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ لَا تُجْعَلُ حَقًّا حَتَّى يُقَالَ إِنَّ اللهَ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا، بَلْ هِيَ بَاطِلٌ.
وَأَصْلُ وُقُوعِ أَهْلِ الضَّلَالِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّحْرِيفِ: الْإِعْرَاضُ عَنْ فَهْمِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ، وَمُعَارَضَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ بِمَا يُنَاقِضُهُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَادَّةِ للهِ وَلِرَسُولِهِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ النِّفَاقِ وَالْخِدَاعِ([12] (http://majles.alukah.net/#_ftn12))))ا ه.
[1] (http://majles.alukah.net/#_ftnref1))) ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (10/ 448).

[2] (http://majles.alukah.net/#_ftnref2))) صحيح: أخرجه البخاري (143) بدون لفظة: ((وعلمه التأويل))، وأحمد (2397)، والحاكم (6280)، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)) ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في ((الصحيحة)) (2589).

[3] (http://majles.alukah.net/#_ftnref3))) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 55).

[4] (http://majles.alukah.net/#_ftnref4))) ((الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)) (1/ 178).

[5] (http://majles.alukah.net/#_ftnref5))) ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) (1/ 206).

([6]) ((تفسير البغوي)) (1/ 134).

[7] (http://majles.alukah.net/#_ftnref7))) ((التفسير الوسيط)) (2/ 548).

[8] (http://majles.alukah.net/#_ftnref8))) متفق عليه: أخرجه البخاري (784)، ومسلم (484).

[9] (http://majles.alukah.net/#_ftnref9))) ((تفسير البغوي)) (1/ 135).

[10] (http://majles.alukah.net/#_ftnref10))) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 202).

[11] (http://majles.alukah.net/#_ftnref11))) ((الإحكام في أصول الأحكام)) (1/ 42).

[12] (http://majles.alukah.net/#_ftnref12))) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 352، 353).

محمد طه شعبان
2014-02-13, 08:43 AM
وَهَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ مَانِعٌ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ رحمه الله.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله:
((وَبِالْجُمْلَة ِ فَالتَّأْوِيلُ الَّذِي يُوَافِقُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَجَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَيُطَابِقُهَا هُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ، وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي يُخَالِفُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَجَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ هُوَ التَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ بَابِ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّ تَأْوِيلٌ وَافَقَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ الْمَقْبُولُ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ الْمَرْدُودُ؛ فَالتَّأْوِيلُ الْبَاطِلُ أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهُا: مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ؛ كَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: «حَتَّى يَضَعُ رَبُّ الْعِزَّةِ عَلَيْهَا رِجْلَهُ([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))» بِأَنَّ الرِّجْلَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ الْبَتَّةَ.
الثَّانِي: مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ اللَّفْظُ بِبِنْيَتِهِ الْخَاصَّةِ مِنْ تَثْنِيَةٍ أَوْ جَمْعٍ؛ وَإِنِ احْتَمَلَهُ مُفْرَدًا؛ كَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، بِالْقُدْرَةِ.
الثَّالِثُ: مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ سِيَاقُهُ وَتَرْكِيبُهُ؛ وَإِنِ احْتَمَلَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ السِّيَاقِ؛ كَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، بِأَنَّ إِتْيَانَ الرَّبِّ إِتْيَانُ بَعْضِ آيَاتِهِ الَّتِي هِيَ أَمْرُهُ، وَهَذَا يَأْبَاهُ السِّيَاقُ كُلَّ الْإِبَاءِ؛ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ التَّقْسِيمِ وَالتَّرْدِيدِ وَالتَّنْوِيعِ.
وَكَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» فَتَأْوِيلِ الرُّؤْيَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ بِمَا يُخَالِفُ حَقِيقَتَهَا وَظَاهِرَهَا فِي غَايَةِ الِامْتِنَاعِ، وَهُوَ رَدٌّ وَتَكْذِيبٌ تَسَتَّرَ صَاحِبُهُ بِالتَّأْوِيلِ.
الرَّابِعُ: مَا لَمْ يُؤْلَفِ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي لُغَةِ الْمُخَاطَبِ؛ وَإِنْ أُلِفَ فِي الِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ؛ وَهَذَا مَوْضِعٌ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامُهُمْ؛ حَيْثُ تَأَوَّلُوا كَثِيرًا مِنْ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ بِمَا لَمْ يُؤْلَفِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ لَهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْبَتَّةَ؛ وَإِنْ كَانَ مَعْهُودًا فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِي نَ؛ وَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ؛ فَإِنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِهِ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ مَا حَصَلَ.
كَمَا تَأَوَّلَتْ طَائِفَةٌ قَوْلَهُ تَعَالَى {فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76]، بِالْحَرَكَةِ، وَقَالُوا: اسْتَدَلَّ بِحَرَكَتِهِ عَلَى بُطْلَانِ رُبُوبِيَّتِهِ.
وَلَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَنَّ الْأُفُولَ هُوَ الْحَرَكَةِ الْبَتَّةَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ.
وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ الْأَحَدِ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ الْبَتَّةَ، ثُمَّ قَالُوا: لَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ لَمْ يَكُنْ أَحَدًا.
فَإِنَّ تَأْوِيلَ الْأَحَدِ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ وَلَا أَهْلُ اللُّغَةِ، وَلَا يُعْرَفُ اسْتِعْمَالُهُ فِي لُغَةِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ أَصْلًا؛ وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَة ِ وَالْمُعْتَزِلَ ةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ.
وَكَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف54]، بِأَنَّ الْمَعْنَى: أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ.
فَإِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، بَلْ وَلَا غَيْرِهِا مِنَ الْأُمَمِ أَنَّ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى الشَّيْءِ يُقَالُ: قَدِ اسْتَوَى عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ لِمَنْ أَقْبَلَ عَلَى الرَّحْلِ: قَدِ اسْتَوَى عَلَيْهِ، وَلَا لِمَنْ أَقْبَلَ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ: قَدِ اسْتَوَى عَلَيْهَا، وَلَا لِمَنْ أَقْبَلَ عَلَى الْأَكْلِ: قَدِ اسْتَوَى عَلَى الطَّعَامِ، فَهَذِهِ لُغَةُ الْقَوْمِ وَأَشْعَارُهُمْ وَأَلْفَاظُهُمْ مَوْجُودَةٌ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذَلِكَ الْبَتَّةَ.
وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَبْطُلُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ سَنَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا؛ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا إِلَّا تَكْذِيبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبِ هَذَا التَّأْوِيلِ لَكَفَاهُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))» فَكَانَ الْعَرْشُ مَوْجُودًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ؟!
وَالتَّأْوِيلُ إِذَا تَضَمَّنَ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ فَحَسْبُهُ ذَلِكَ بُطْلَانًا.
وَأَكْثَرُ تَأْوِيلَاتِ الْقَوْمِ مِنْ هَذَا الطِّرَازِ، وَسَيَمُرُّ بِكَ مِنْهَا مَا هُوَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِكُلِّ مُوَحِّدٍ وَسَخْنَةُ عَيْنٍ لِكُلِّ مُلْحِدٍ.
الْخَامِسُ: مَا أُلِفَ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى لَكِنْ فِي غَيْرِ التَّرْكِيبِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، فَيَحْمِلُهُ الْمُتَأَوِّلُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُهُ عَلَى مَجِيئِهِ فِي تَرْكِيبٍ آخَرَ يَحْتَمِلُهُ.
وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْغَلَطِ وَالتَّلْبِيسِ؛ كَتَأْوِيلِ الْيَدَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص75]، بِالنِّعْمَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: "لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ" وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ لِلصِّدِّيقِ: "لَوْلَا يَدٌ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكْ بِهَا لَأَجَبْتُكَ.
وَلَكِنْ وُقُوعُ الْيَدِ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ الَّذِي أَضَافَ سُبْحَانَهُ فِيهِ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الْيَدِ بِالْبَاءِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ خَاصَّةً خَصَّ بِهَا صَفِيَّهُ آدَمَ دُونَ الْبَشَرِ، كَمَا خَصَّ الْمَسِيحَ بِأَنَّهُ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَخَصَّ مُوسَى بِأَنَّهُ كَلَّمَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَهَذَا مِمَّا يُحِيلُ تَأْوِيلَ الْيَدِ فِي النَّصِّ بِالنِّعْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي تَرْكِيبٍ آخَرَ تَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِيَةِ اللَّفْظِ لِمَعْنًى (مَا) فِي تَرْكِيبٍ، صَلَاحِيَتُهُ لَهُ فِي كُلِّ تَرْكِيبٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22، 23]، يَسْتَحِيلُ فِيهَا تَأْوِيلُ النَّظَرَ بِانْتِظَارِ الثَّوَابِ؛ فَإِنَّهُ أَضَافَ النَّظَرَ إِلَى الْوُجُوهِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّهُ، وَعَدَّاهُ بِحَرْفِ (إِلَى) الَّتِي إِذَا اتَّصَلَ بِهَا فِعْلُ النَّظَرِ كَانَ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ لَيْسَ إِلَّا، وَوَصْفُ الْوُجُوهِ بِالنَّضْرَةِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إِلَّا مَعَ حُضُورِ مَا يَتَنَعَّمُ بِهِ؛ لَا مَعَ التَّنْغِيصِ بِانْتِظَارِهِ، وَيَسْتَحِيلُ مَعَ هَذَا التَّرْكِيبِ تَأْوِيلُ النَّظَرِ بِغَيْرِ الرُّؤْيَةِ؛ وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي قَوْلِهِ {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد13]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل35]، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيِّ الْمُلَبِّسِ: إِذَا قَالَ لَكَ الْمُشَبِّهُ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فَقُلْ لَهُ: الْعَرْشُ لَهُ عِنْدَنَا سَبْعَةُ مَعَانٍ، وَالِاسْتِوَاءُ لَهُ خَمْسَةُ مَعَانٍ، فَأَيُّ ذَلِكَ الْمُرَادُ؛ فَإِنَّ الْمُشَبِّهَ يَتَحَيَّرُ، وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَيَكْفِيكَ مَؤُونَتَهُ.
فَيُقَالُ لِهَذَا الْجَاهِلِ الظَّالِمِ الْفَاتِنِ الْمَفْتُونِ: وَيْلَكَ مَا ذَنْبُ الْمُوَحِّدِ الَّذِي سَمَّيْتَهُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ مُشَبِّهًا، وَقَدْ قَالَ لَكَ نَفْسَ مَا قَالَ اللهُ، فَوَاللهِ لَوْ كَانَ مُشَبِّهًا كَمَا تَزْعُمُ لَكَانَ أَوْلَى بِاللهِ وَرَسُولِهِ مِنْكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ النَّصَّ.
وَأَمَّا قَوْلُكَ: "لِلْعَرْشِ سَبْعَةُ مَعَانٍ" أَوْ نَحْوُهَا، "وَلِلِاسْتِوَاء ِ خَمْسَةُ مَعَانٍ" فَتَلْبِيسٌ مِنْكَ وَتَمْوِيهٌ عَلَى الْجُهَّالِ، وَكَذِبٌ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِعَرْشِ الرَّحْمَنِ الَّذِي اسْتَوَى عَلَيْهِ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَرْشِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عِدَّةُ مَعَانٍ؛ فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَقَدْ صَارَ بِهَا الْعَرْشُ مُعَيَّنًا؛ وَهُوَ عَرْشُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ الَّذِي هُوَ سَرِيرُ مُلْكِهِ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وَأَقَرَّتْ بِهِ الْأُمَمُ إِلَّا مَنْ نَابَذَ الرُّسُلَ.
وَقَوْلُكَ: "اِلاسْتِوَاءُ لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ" تَلْبِيسٌ آخَرُ؛ فَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ الْمُعَدَّى بِأَدَاةِ (عَلَى) لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ، وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ الْمُطْلَقُ فَلَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: "اسْتَوَى كَذَا" إِذَا انْتَهَى وَكَمُلَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص14]، وَتَقُولُ: "اسْتَوَى وَكَذَا" إِذَا سَاوَاهُ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: "اسْتَوَى الْمَاءُ وَالْخَشَبَةُ، وَاسْتَوَى اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ" وَتَقُولُ: "اسْتَوَى إِلَى كَذَا" إِذَا قَصَدَ إِلَيْهِ عُلُوًّا وَارْتِفَاعًا؛ نَحْوُ "اسْتَوَى إِلَى السَّطْحِ وَالْجَبَلِ" "وَاسْتَوَى عَلَى كَذَا" أَيْ: إِذَا ارْتَفَعَ عَلَيْهِ وَعَلَا عَلَيْهِ، لَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ غَيْرَ هَذَا؛ فَالِاسْتِوَاءُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنَاهُ، كَمَا هُوَ نَصٌّ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص14]، لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنَاهُ، وَنَصٌّ فِي قَوْلِهِمْ: "اسْتَوَى اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ" فِي مَعْنَاهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَدَعُوا التَّلْبِيسَ فَإِنَّهُ لَا يُجْدِي عَلَيْكُمْ إِلَّا مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا.[1] (http://majles.alukah.net/#_ftnref1))) متفق عليه: أخرجه البخاري (6661)، ومسلم (2848)، وأحمد (13457)، وغيرهم بلفظ: ((حَتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ))، ولم أجده بلفظ: ((رجله)).

[2] (http://majles.alukah.net/#_ftnref2))) صحيح: أخرجه مسلم (2653)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

محمد طه شعبان
2014-02-13, 08:45 AM
السَّادِسُ: اللَّفْظُ الَّذِي اطَّرَدَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْنًى هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ وَلَمْ يُعْهَدِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَى الْمُؤَوَّلِ، أَوْ عُهِدَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ نَادِرًا، فَتَأْوِيلُهُ حَيْثُ وَرَدَ وَحَمْلُهُ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، بَاطِلٌ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَلْبِيسًا وَتَدْلِيسًا يُنَاقِضُ الْبَيَانَ وَالْهِدَايَةَ، بَلْ إِذَا أَرَادُوا اسْتِعْمَالَ مِثْلِ هَذَا فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ الْمَعْهُودِ حَفُّوا بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يُبَيِّنُ لِلسَّامِعِ مُرَادَهُمْ بِهِ لِئَلَّا يَسْبِقُ فَهْمُهُ إِلَى مَعْنَاهُ الْمَأْلُوفِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ لُغَةَ الْقَوْمِ وَكَمَالَ هَذِهِ اللُّغَةِ وَحِكْمَةَ وَاضِعِهَا تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَنَّهُمْ يَأْتُونَ إِلَى لَفْظٍ لَهُ مَعْنًى قَدْ أُلِفَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ فَيُخْرِجُونَهُ عَنْ مَعْنَاهُ وَيُطْرِدُونَ اسْتِعْمَالَهُ فِي غَيْرِهِ مَعَ تَأْكِيدِهِ بِقَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا مَعْنَاهُ الْأَصْلِيَّ، فَهَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ.
مِثَالُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء164]، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلاَ حِجَابٌ يَحْجُبُهُ([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1))» وَقَوْلُهُ: «إِنَّكُمْ تَرَونَ رَبَّكُمْ عَيَانًا» وَهَذَا شَأْنُ أَكْثَرِ نُصُوصِ الصِّفَاتِ؛ إِذَا تَأَمَّلَهَا مَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِقَبْولِهَا وَفَرِحَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ مِنْهَا يَرَاهَا قَدْ حُفَّتْ مِنَ الْقَرَائِنَ وَالْمُؤَكِّدَا تِ بِمَا يَنْفِي عَنْهَا تَأْوِيلَ الْمُتَأَوِّلِ.
السَّابِعُ: كُلُّ تَأْوِيلٍ يَعُودُ عَلَى أَصْلِ النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ كَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» بِحَمْلِهِ عَلَى الْأَمَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ - مَعَ شِدَّةِ مُخَالَفَتِهِ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ - يَرْجِعُ عَلَى أَصْلِ النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» وَمَهْرُ الْأَمَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلسَّيِّدِ، فَقَالُوا نَحْمِلُهُ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، وَهَذَا يَرْجِعُ عَلَى أَصْلِ النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ فَإِنَّهُ أَتَى فِيهِ (بِأَيِّ) الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَدَوَاتِ الْعُمُومِ، وَأَكَّدَهَا (بِمَا) الْمُقْتَضِيَّة ِ تَأْكِيدَ الْعُمُومِ، وَأَتَى بِالنَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ؛ وَهِيَ تَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَعَلَّقَ بُطْلَانَ النِّكَاحِ بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ الْمُقْتَضِي لِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِ؛ وَهُوَ نِكَاحُهَا نَفْسَهَا، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْبُطْلَانِ؛ وَهِيَ افْتِيَاتُهَا عَلَى وَلِيِّهَا، وَأَكَّدَ الْحُكْمَ بِالْبُطْلَانِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَحَمْلُهُ عَلَى صُورَةٍ لَا تَقَعُ فِي الْعَالَمِ إِلَّا نَادِرًا يَرْجِعُ عَلَى مَقْصُودِ النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ، وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ عَامَّةَ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ رَأَيْتَهَا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، بَلْ أَشْنَعُ.
الثَّامِنُ: تَأْوِيلُ اللَّفْظِ الَّذِي لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ لَا يُفْهَمْ مِنْهُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ سِوَاهُ بِالْمَعْنَى الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ؛ كَتَأْوِيلِ لَفْظِ (الْأَحَدِ) الَّذِي يَفْهَمُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ: بِالذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا مَعْنَيَانِ بِوَجْهٍ مَا؛ فَإِنَّ هَذَا لَوْ أَمْكَنَ ثُبُوتُهُ فِي الْخَارِجِ لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بَعْدَ مُقَدِّمَاتٍ طَوِيلَةٍ صَعْبَةٍ جِدًّا، فَكَيْفَ وَهُوَ مُحَالٌ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا يَفْرِضُهُ الذِّهْنُ فَرْضًا ثُمَّ يُسْتَدَلُّ عَلَى وُجُودِهِ الْخَارِجِيِّ؟! فَيَسْتَحِيلُ وَضْعُ اللَّفْظِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْخَفَاء.
التَّاسِعُ: التَّأْوِيلُ الَّذِي يُوْجِبُ تَعْطِيلَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْعُلُوِّ وَالشَّرَفِ، وَيَحُطُّهُ إِلَى مَعْنًى دُونَهُ بِمَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِعَزْلِ سُلْطَانٍ عَنْ مُلْكِهِ وَتَوْلِيَتِهِ مَرْتَبَةً دُونَ الْمُلْكِ بِكَثِيرٍ.
مِثَالُهُ: تَأْوِيلُ الْجَهْمِيَّةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام18]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل50]، وَنَظَائِرَهُ بِأَنَّهَا فَوْقِيَّةُ الشَّرَفِ؛ كَقَوْلِهِمُ: "الدِّرْهَمُ فَوْقَ الْفِلْسِ، وَالدِّينَارُ فَوْقَ الدِّرْهَمِ".
فَتَأَمَّلْ تَعْطِيلَ الْمُتَأَوِّلِي نَ حَقِيقَةَ الْفَوْقِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَهِيَ الْمُسْتَلْزِمَ ةُ لِعَظَمَةِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَحَطَّهَا إِلَى كَوْنِ قَدْرَهُ فَوْقَ قَدْرِ بَنِي آدَمَ، وَأَنَّهُ أَشْرَفُ مِنْهُمْ.
وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُهُمْ عُلُوَّهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ كَعُلُوِّ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ، وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُهُمُ اسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ غَالِبٌ لَهُ؛ فَيَاللهِ الْعَجَبُ هَلْ ضَلَّتِ الْعُقُولُ، وَتَاهَتِ الحِلَامُ([2] (http://majles.alukah.net/#_ftn2))، وَشَكَّتِ الْعُقَلَاءُ فِي كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ غَالِبًا لِعَرْشِهِ قَادِرًا عَلَيْهِ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ سُبْحَانَهُ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، مُطَّرِدَةٌ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعٌ وَاحِدٌ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُتَأَوِّلُو نَ، وَهَذَا التَّمَدُّحُ وَالتَّعْظِيمُ كُلُّهُ لِأَجْلِ أَنْ يُعَرِّفَنَا أَنَّهُ قَدْ غَلَبَ عَرْشُهُ وَقَدَرَ عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَفَتَرَى لَمْ يَكُنِ سُبْحَانَهُ غَالِبًا لِلْعَرْشِ قَادِرًا عَلَيْهِ فِي مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ، ثُمَّ تَجَدَّدَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ؟!
الْعَاشِرُ: تَأْوِيلُ اللَّفْظِ بِمَعْنًى لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَلَا مَعَهُ قَرِينَةٌ تَقْتَضِيهِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ الْمُبِينُ الْهَادِي بِكَلَامِهِ؛ إِذْ لَوْ قَصَدَهُ لَحَفَّ بِالْكَلَامِ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُخَالِفِ لِظَاهِرِهِ حَتَّى لَا يُوقِعُ السَّامِعَ فِي اللَّبْسِ وَالْخَطَأِ؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ كَلَامَهُ بَيَانًا وَهُدًى؛ فَإِذَا أَرَادَ بِهِ خِلَاف ظَاهِرِهِ وَلَمْ تَحُفَّ بِهِ قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَتَبَادَرُ غَيْرُهُ إِلَى فَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ، لَمْ يَكُنْ بَيَانًا وَلَا هُدًى.
فَهَذِهِ بَعْضُ الْوُجُوهِ الَّتِي يُفَرَّقُ بِهَا بَيْنَ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ وَالْبَاطِلِ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ([3] (http://majles.alukah.net/#_ftn3))))ا ه.[1] (http://majles.alukah.net/#_ftnref1))) متفق عليه: أخرجه البخاري (7443)، ومسلم (1016).

[2] (http://majles.alukah.net/#_ftnref2))) قال في ((النهاية)): «ليَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلَام والنُّهَى» أى: ذوو الألباب، والعقول؛ وَاحِدُهَا: ((حِلْمٌ)) بِالْكَسْرِ، وَكَأَنَّهُ مِنَ الحِلْم: الأناةِ والتَّثبُّت فِي الْأُمُورِ، وَذَلِكَ مِنْ شِعار العقُلاء.

[3] (http://majles.alukah.net/#_ftnref3))) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 187- 201).