محمد عماد نوفل
2013-08-25, 05:07 AM
وظيفة علماء الدين ودور المثقف المسلم الملتزم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبعد:
عندما نتصدى للحديث عن مهام العلماء والمثقفين المسلمين اليوم لا يجب أن نقف عند الإشارات والدلالات التي يمكن أن نستنبطها من كتاب الله وسنة نبيه وأقوال علماء الأمة فيما يخص العلوم الشرعية فحسب؛ بل يجدر بنا أن لا نغفل حاجيات الأمة إلى الإجابة القاطعة عن العلوم "الإنسانية" المتجددة والمتنامية، واتساع رقعة تدخل العلماء المسلمين في حياة المسلمين في جميع جوانبها الفكرية صيانة لهم من الفكر الدخيل المعارض للدين.
نحن نعلم أن العلماء والنظار والفقهاء والمحدثين والمفسرين وعلماء اللغة والنحو اكتسبوا في التراث الإسلامي تصنيفات عديدة وتقسيمات بديعة تدل على غنى الساحة الفكرية عند المسلمين وتشبعها بالاختصاصات، مما يدل أنه في فترات من التاريخ الإسلامي كانت العقلية الإسلامية قابلة للإخصاب وللجديد، ولهذا ظهرت اختصاصات أو تصنيفات الواحدة تلو الأخرى. وكون ثقافة ما تتقبل الاختصاصات الجديدة يعني حتمًا قبول تلك العقلية للتجديد بناء على الاستكشاف العلمي والتدقيق في البحث والاستقصاء.
فإذا كانت التحديات الجديدة التي تواجه الأمة باتت أمرًا واقعًا مشاهدًا يعلمه كل أفراد الأمة، ولم تعد حكرًا على فئة المثقفين بحيث صار الحديث عن صعوبة العصر ومشاكله حديث الخاص والعام - فهل لقيت هذه التحديات من المثقف المسلم جوابًا مناسبًا، أو إنه تجاهلها وجمد على مواقف طائفته وجماعته التي ينتمي إليها، أو أنه فهمها بشكل سيئ فراح يطلب لها حلولًا خاطئة، وأحيانًا مميتة لأمته؟!
نوع العلماء الذين تحتاجهم الأمة ودورهم:
يكثر بعض المعاندين معرفيًّا من القول: إن الكلام عن فقه الواقع والإحاطة بالثقافة العصرية تلبيس يمارسه دعاة الضلالة لتضليل الأمة والطعن في أهل العلم وغير ذلك، وحتى نبين لهم أن فقه الواقع والإحاطة بالثقافة المعاصرة مطلب شرعي دل عليه الشرع ومارسه أكبر علماء الملة، وأن مهاجمة من يحث على ذلك تقع في غالب الأحيان من أناس هم أقرب إلى التصوف السلبي والدروشة منهم إلى العلم والفكر الصحيح..
ـ ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن أنه يرفع درجات من يشاء، ذكره في مناظرة إبراهيم عليه السلام فقال: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم}[الأنعام]، وهي مناظرة جرت بين إبراهيم و قومه، ظهر عليهم إبراهيم عليه السلام بالحجة أو أسلوب النقض وقياس الأولى.
وفي قصة احتيال يوسف عليه السلام قال: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم}[يوسف].
قال العلماء: يرفعهم بالعلم. ونحن إذا نظرنا في قصة إبراهيم لوجدناها في العلم بالحجة والمناظرة لدفع ضرر الخصم المشبه في الدين، أما قصة يوسف فهي في العلم بالسياسة والتدبير لتحصيل المنفعة. فالعلم الأول: هو العلم الذي يدفع المضرة عن الدين، أو علم الأقوال النافعة عند الحاجة إليها، ويدخل في هذا معرفة حجج أعداء الدين وعلومهم وثقافتهم التي يهاجمون بها الدين، وهذا من فقه الواقع. والعلم الثاني: هو علم الأفعال النافعة عند الحاجة إليها، فالحاجة جلب المنفعة ودفع المضرة، وهذا عين الواقع.
قال ابن تيمية في هذا الشأن في "المجموع" (276/14): "و لهذا كان المقصرون عن علم الحجج والدلالات، وعلم السياسة والأمارات - مقهورين مع هذين الصنفين، تارة بالاحتياج إليهم إذا هجم عدو يفسد الدين بالجدل أو الدنيا بالظلم، وتارة بالاحتياج إليهم إذا هجم على أنفسهم من أنفسهم ذلك، وتارة بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شر بعض في الدين والدنيا، وتارة يعيشون في ظلهم في مكان ليس فيه مبتدع يستطيل عليهم، ولا وال يظلمهم، وما ذاك إلا لوجود علماء الحجج الدامغة لأهل البدع والسياسة الدافعة للظلم".
فإذن العلماء الذين يستطيعون دفع صيال من يريد إفساد الدين من مختلف أعدائه، ويوجهون مختلف الفاعلين في المجتمع وينصحونهم بصدق - هم العلماء الذين يحيطون بثقافة عصرهم وثقافة عدوهم وثقافة المخالف لهم، ويحسنون تسييس الناس كل الناس، وكل هذا يحتاج إلى نوع فقه للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والإحاطة بثقافة العصر، وذلك بتوجيه إشارات معينة للفاعلين في المجتمع، واقتراح الإصلاحات في مختلف القطاعات والمجالات. فهؤلاء العلماء يملكون زمام المبادرة إلى اقتراح إصلاح كل ما يرونه فاسدًا أو قابلًا للتحسين، ففرق بين من يبادر وبين من ينتظر أن يستشار.
و الخلاصة أن نقول: لا يقتصر دور علماء الدين على حراسة الدين والحفاظ عليه، ولكن حراسة حملة الدين والحفاظ عليهم، أقصد أن الدين لا يكون دينًا حتى يحمله الناس و يتدينون به، وحراسته دون حراستهم إخلال بهذا الدين أولًا، وتضييع له ثانيًا؛ فالإنسان الحامل للدين ليس أقل شأنًا من الدين نفسه إذ هو المقصود بالدين، على معنى حرمة المسلم أعظم من حرمة البيت الحرام؛ فقد جاء في الحديث: "مرحبا بك من بيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك! وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك، إن الله حرم منك واحدة وحرم من المؤمن ثلاثًا: دمه، وماله، وأن يظن به ظن السوء"، فكيف نحرس الدين ولا نحرس هذا الإنسان من كل ما يضيع دينه ودنياه ويفسده من ظلم و تجهيل؟
لقد علمنا من خلال آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وممارسات علماء الأمة في العصور الذهبية للإسلام أن دور العلماء أولًا: تكريس الجهود لتفسير النصوص الشرعية وتحديد معانيها الدقيقة، واستنباط الأحكام انطلاقًا من هذه المعاني. صرنا اليوم نرى فئة منهم لا تهمهم مسألة المعنى بقدر ما يهمهم الوقوف عند ظاهر ألفاظها دون تجاوزها إلى باطن معانيها. وعندما نقول: باطنها لا نقصد أن للنصوص باطنًا؛ وإنما نقصد البحث عن العلل والمقاصد والمناط، أو مراعاة تكامل منظومة النصوص؛ فالنصوص الشرعية متشابكة فيما بينها، وهي بمجموعها تشكل منظومة تشع روحًا وجوهرًا، وقد عبر عن هذا الأمر علماء الأصول في مسألة "جمع النصوص وأخذ الحكم الزائد".
وأحيانًا نجد وقوف هذه الطائفة من العلماء عند مقالات لأئمة كثر تداولها في عصرهم، ولكنها لا تمثل ما يسميه ابن تيمية: "الشرع المنزل"؛ بل هي من قبيل الشرع المؤول، وأحيانًا الشرع المبدل.
فالشرع ثلاثة أقسام:
- شرع منزل، وهو القرآن والسنة على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الآية المحكمة من القرآن والحديث الصحيح الصريح.
- وشرع مؤول، وهو اجتهادات العلماء لمعرفة مراد الرسول استنباطًا واستقراءً، قد تكون من الشرع المنزل موافقة، وقد تكون من غيره.
- وشرع مبدل، وهو شرع لا أساس شرعي يعتمد عليه.
ولعل أبرز ما يدل على انغلاق هذه الفئة داخل سياج الممارسات الخاطئة الموروثة -أي البدع وظاهرها- هو تمثلات فكرهم عمليًّا، وكيف أنهم يولون الشكل والظاهر أهمية تكاد تكون أصولية وأساسية عندهم سواء في ممارساتهم التعبدية التي تتسم بالموسمية، وحتى في مسألة الشعارات والانتساب إلى فلان وعلان من الصالحين.
إن التحديدات العملية التي أغلق بواسطتها بعض المسلمين على النصوص الشرعية الصحيحة تبين كيفية توظيفهم للنصوص الشرعية؛ حيث أدى بهم ذلك إلى جعل الاستثنائي عامًّا. ففي تصورهم عمومًا: التفكر في معاني هذه النصوص غير خاضع لحرية البحث والنظر، ولا يتاح للعقل النظر البتة للجمع بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، وإنما هو التلقي من فيض الشيوخ والتقليد بدون فهم وبحث، ولذلك لا يوجد في قاموسهم كلمة اجتهاد وفكر، ولا فكر إسلامي له نطاق معين، بل ويعظمون التوله والحيرة ويذمون العقل. يأتي أحدهم إلى آية من كتاب الله عامة تتناول مسألة تعبدية، ومحكومة بعرف من نزلت فيهم وفهمهم، ثم يغلق عليها داخل سياج أو جدار من ممارسته العملية هو، ثم بعد ذلك يوظف هذه الآية في نشاطه الدعوي جازمًا أنه السنة والشرع والحق، والمخالف لفهمه مخالف لأولياء الله الصالحين، مبتدع يعادي الذكر وتطهير النفس، أو يحارب أولياء الله ، لا يقولون: يحارب الله ورسوله والمؤمنين.
فمن خلال هذا يتبين لك أن المعرفة عند بعض المسلمين هي مجرد استنباط لغوي من النصوص لا تعتمد مبدأ كيف فهمها من نزل فيهم القرآن، أو هي ما ورثته عن الشيخ والزاوية، وليست عبارة عن استنباط للمعاني حر من قيود المذهبية والطائفية والأفكار المسبقة، داخل نطاق الفكر الإسلامي وثوابته المتفق عليها وهي: الكتاب والسنة، والإجماع، فلا المعاني مستنبطة، ولاهي تتجدد بتجدد الفكر ودواعيه ليشمل الإسلام كل جديد.
لقد رسخ هذا المنظور عند بعض المسلمين المعاصرين من مختلف المشارب، وبنوا عليه كل البناء التشريعي الفقهي والأخلاقي، فلم نلاحظ عندهم أية ممارسة فكرية لتراث الأمة الإسلامية بمنظور تطلب المعاني المتجددة. وعليه؛ صار هؤلاء منغلقين على أنفسهم، قد اتخذ فريق منهم مجموعة تدابير أسميها "الإجراءات البوليسية" للحفاظ على كيانهم من الذوبان داخل ساحة فكرية أقوى منهم وأكثر منطقا وسلامة في التحليل تعتمد النص الصحيح رغم بعض الممارسات المشينة.
في حين أن الفريق الآخر ذاب في متاهات العصر وأراد أن يجعل الإسلام على مقاس العصر فأخذ يقطع من أطرافه من هنا وهناك تأويلًا أو حتى تبديلًا.
وليس هذا خاصًّا بهذين الفريقين؛ بل جل المذاهب والجماعات الإسلامية تعاني من نفس المشكل.
فمنهم من لا يهجر الأفراد ممن يظهر بمظهر المنفتح، ولكنه يمارس حجرًا علميًّا على كتب بعض العلماء المسلمين الذين غيروا مجرى التاريخ المعرفي للأمة، كابن تيمية؛ فإن سياسة الحجر عليه قد أضرتهم أكثر مما أضرت به أو بكتبه؛ إذ فاتهم علم جم كانوا بحاجة إليه لبناء النهضة الإسلامية؛ فمسألة نقض المنطق الصوري أو الأرسطي -وهي مسألة معرفية جوهرية في البناء الحضاري المعرفي المعاصر، إذ لولا المنهج التجريبي لما وصل الغرب إلى ما هو عليه- قد سبق إليه ابن تيمية جون ستوارت مل وديكارت بقرون، ولكن الحجر عليه هو الذي دفع بمراكز علمية مرموقة في العالم الإسلامي أن تتخلف قرونًا طويلة، فمجرد النظر في المقرر فيها في علم المنطق تدرك في أي الأزمان الغابرة بقيت المعرفة عند المسلمين في هذا المجال، كأنما توقف العلم وسكن البحث ومات الاجتهاد.
وبدون أن أنقل بحثًا كاملًا في هذه المسألة أقول: "مهما كانت النزعة التجريبية الحسية شائعة بين النظار الإسلاميين عامة، فإن ابن تيمية يبقى هو الوحيد الذي اعتمدها مذهبًا معرفيًّا في نقده للمنطق المشائي، وهو الوحيد الذي جعل من التجربة الحسية مظهرًا لفطرية الدين الإسلامي ومعيارًا لرد جميع الآراء التي لا تقبلها الفطرة السليمة.
كما وجدنا ابن تيمية منفردًا في طبيعة عمله وفي جلالة هذا العمل؛ لأنه تفرد بالجمع بين المعرفة بالشريعة الإسلامية ومنطقها وبالفلسفة المشائية ومنطقها، وبالروح النقدية، ولم يبد لنا أن هذه الخصال الثلاث قد اجتمعت لأحد ممن سبقه أو تبعه من الذين عابوا المنطق المشائي، فبعضهم حرمه، وبعضهم أوجبه، دون أن ينتبه فريق منهم إلى أن المنطق الصناعي لا يمكن تحريمه لأنه يتبطن منطقًا طبيعيًّا فطر الله الناس عليه، ودون أن ينتبه الفريق الآخر إلى أن ما أوجبوه هو تحصيل لحاصل، لأن الله غرز أصول هذا المنطق في فطرة الإنسان.
ولذلك بقي نقد ابن تيمية للمنطق المشائي مفتقرًا إلى عالم بالشريعة عارف بأساليب التفكير الفطري وصوره الصناعية، متشبع بالروح النقدية؛ حتى يستطيع مواصلة عمل قام به الفقهاء وعلماء نظار الذين جدوا في حماية عقيدة عرفوا بساطتها فنفوا عنها التعقيد، وأدركوا صحتها فأبعدوا عنها عناصر الفساد، وشعروا بالخطر يتهدد أصالتها، وبالسموم تدب في أوصالها مما كانت تتجرعه من مناهل المعرفة التي كان الصراع من أجل البقاء يوجب عليها ورودها، والتي فتحتها سماحتها على آفاقها جميعًا، فهبوا يذودون عنها بسلاح يفل كل سلاح ولا يفله سلاح، هو سلاح الفطرة التي لا يستطيع الإنسان ولو حاول الانسلاخ عنها، بذلك نقدوا الفلسفة المشائية وردوا منطقها، وبذلك نقد ابن تيمية منطق المشائين نقدًا لم يبلغ أحد من الفقهاء أو من علماء الكلام شأوه فيه؛ لأنه نقد مذهبي قصد به صاحبه على حماية أساليب التفكير الإسلامية وبيان أهميتها ومكانتها بين أساليب التفكير الأخرى فيكون بذلك قد دافع عن الفطرة بمنطق الفطرة"، عن بحث للدكتور محمود اليعقوبي.
إن القلب ليتفطر حسرة على ما فعل التعصب بالمسلمين، فبعضهم ودون دراسة شاملة وعميقة يريد أن يجعل من أبي حامد الغزالي -رحمه الله- قنطرة التجديد في الفكر الإسلامي وهو من دعاة التقليد في نظرية البناء المعرفي أو أطر الإدراك، "فإذا كان لا يمكننا أن ننكر أن جميع من كتب من المسلمين باللغة العربية في المنطق لم يخرجوا عن الحدود التي رسمها أرسطو، وأن المتأخرين منهم قد اكتفوا بتجريد منطق المشائين من الميتافيزياء التي تبطنه، فإنه لا جدال في أن هؤلاء لا يمثلون جميع أصناف الطالبين المسلمين، ولا جميع الذين تحدثوا في المنطق، بل كان إلى جانب هؤلاء المعجبين بالفلسفة اليونانية عامة والمنطق المشائي خاصة طائفة من النظار الإسلاميين لم يقبلوا هذه الفلسفة؛ لأن أصولها مخالفة لأصول العقيدة الإسلامية، ولم يستسيغوا هذا المنطق؛ لأنه من جهة أداة لهذه الفلسفة، ولأنه من جهة أخرى مبني على بعض أصول هذه الفلسفة فكأنه جزء منها. فالغزالي الذي جعل هو الآخر من المنطق مقدمة لكل علم ["المستصفى"(10/1)] بما في ذلك علم أصول الفقه لا يمكن اعتماده كمنطلق نحو تجديد العلوم الإسلامية، وكذلك ابن حزم الذي كان من السابقين إلى نعت المنطق ومدحه إلى حد التوكيد بأن: "من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وجاز عليه من الشغب جوازًا لا يفرق بينه وبين الحق، ولم يعلم دينه إلا تقليدًا، والتقليد مذموم" [التقريب لحد المنطق ص:3]"، عن كتاب: "ابن تيمية والمنطق الأرسطي" للدكتور محمود اليعقوبي.
أرزيو/ الجزائر في 2009-04-25
مختار الأخضر طيباوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبعد:
عندما نتصدى للحديث عن مهام العلماء والمثقفين المسلمين اليوم لا يجب أن نقف عند الإشارات والدلالات التي يمكن أن نستنبطها من كتاب الله وسنة نبيه وأقوال علماء الأمة فيما يخص العلوم الشرعية فحسب؛ بل يجدر بنا أن لا نغفل حاجيات الأمة إلى الإجابة القاطعة عن العلوم "الإنسانية" المتجددة والمتنامية، واتساع رقعة تدخل العلماء المسلمين في حياة المسلمين في جميع جوانبها الفكرية صيانة لهم من الفكر الدخيل المعارض للدين.
نحن نعلم أن العلماء والنظار والفقهاء والمحدثين والمفسرين وعلماء اللغة والنحو اكتسبوا في التراث الإسلامي تصنيفات عديدة وتقسيمات بديعة تدل على غنى الساحة الفكرية عند المسلمين وتشبعها بالاختصاصات، مما يدل أنه في فترات من التاريخ الإسلامي كانت العقلية الإسلامية قابلة للإخصاب وللجديد، ولهذا ظهرت اختصاصات أو تصنيفات الواحدة تلو الأخرى. وكون ثقافة ما تتقبل الاختصاصات الجديدة يعني حتمًا قبول تلك العقلية للتجديد بناء على الاستكشاف العلمي والتدقيق في البحث والاستقصاء.
فإذا كانت التحديات الجديدة التي تواجه الأمة باتت أمرًا واقعًا مشاهدًا يعلمه كل أفراد الأمة، ولم تعد حكرًا على فئة المثقفين بحيث صار الحديث عن صعوبة العصر ومشاكله حديث الخاص والعام - فهل لقيت هذه التحديات من المثقف المسلم جوابًا مناسبًا، أو إنه تجاهلها وجمد على مواقف طائفته وجماعته التي ينتمي إليها، أو أنه فهمها بشكل سيئ فراح يطلب لها حلولًا خاطئة، وأحيانًا مميتة لأمته؟!
نوع العلماء الذين تحتاجهم الأمة ودورهم:
يكثر بعض المعاندين معرفيًّا من القول: إن الكلام عن فقه الواقع والإحاطة بالثقافة العصرية تلبيس يمارسه دعاة الضلالة لتضليل الأمة والطعن في أهل العلم وغير ذلك، وحتى نبين لهم أن فقه الواقع والإحاطة بالثقافة المعاصرة مطلب شرعي دل عليه الشرع ومارسه أكبر علماء الملة، وأن مهاجمة من يحث على ذلك تقع في غالب الأحيان من أناس هم أقرب إلى التصوف السلبي والدروشة منهم إلى العلم والفكر الصحيح..
ـ ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن أنه يرفع درجات من يشاء، ذكره في مناظرة إبراهيم عليه السلام فقال: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم}[الأنعام]، وهي مناظرة جرت بين إبراهيم و قومه، ظهر عليهم إبراهيم عليه السلام بالحجة أو أسلوب النقض وقياس الأولى.
وفي قصة احتيال يوسف عليه السلام قال: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم}[يوسف].
قال العلماء: يرفعهم بالعلم. ونحن إذا نظرنا في قصة إبراهيم لوجدناها في العلم بالحجة والمناظرة لدفع ضرر الخصم المشبه في الدين، أما قصة يوسف فهي في العلم بالسياسة والتدبير لتحصيل المنفعة. فالعلم الأول: هو العلم الذي يدفع المضرة عن الدين، أو علم الأقوال النافعة عند الحاجة إليها، ويدخل في هذا معرفة حجج أعداء الدين وعلومهم وثقافتهم التي يهاجمون بها الدين، وهذا من فقه الواقع. والعلم الثاني: هو علم الأفعال النافعة عند الحاجة إليها، فالحاجة جلب المنفعة ودفع المضرة، وهذا عين الواقع.
قال ابن تيمية في هذا الشأن في "المجموع" (276/14): "و لهذا كان المقصرون عن علم الحجج والدلالات، وعلم السياسة والأمارات - مقهورين مع هذين الصنفين، تارة بالاحتياج إليهم إذا هجم عدو يفسد الدين بالجدل أو الدنيا بالظلم، وتارة بالاحتياج إليهم إذا هجم على أنفسهم من أنفسهم ذلك، وتارة بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شر بعض في الدين والدنيا، وتارة يعيشون في ظلهم في مكان ليس فيه مبتدع يستطيل عليهم، ولا وال يظلمهم، وما ذاك إلا لوجود علماء الحجج الدامغة لأهل البدع والسياسة الدافعة للظلم".
فإذن العلماء الذين يستطيعون دفع صيال من يريد إفساد الدين من مختلف أعدائه، ويوجهون مختلف الفاعلين في المجتمع وينصحونهم بصدق - هم العلماء الذين يحيطون بثقافة عصرهم وثقافة عدوهم وثقافة المخالف لهم، ويحسنون تسييس الناس كل الناس، وكل هذا يحتاج إلى نوع فقه للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والإحاطة بثقافة العصر، وذلك بتوجيه إشارات معينة للفاعلين في المجتمع، واقتراح الإصلاحات في مختلف القطاعات والمجالات. فهؤلاء العلماء يملكون زمام المبادرة إلى اقتراح إصلاح كل ما يرونه فاسدًا أو قابلًا للتحسين، ففرق بين من يبادر وبين من ينتظر أن يستشار.
و الخلاصة أن نقول: لا يقتصر دور علماء الدين على حراسة الدين والحفاظ عليه، ولكن حراسة حملة الدين والحفاظ عليهم، أقصد أن الدين لا يكون دينًا حتى يحمله الناس و يتدينون به، وحراسته دون حراستهم إخلال بهذا الدين أولًا، وتضييع له ثانيًا؛ فالإنسان الحامل للدين ليس أقل شأنًا من الدين نفسه إذ هو المقصود بالدين، على معنى حرمة المسلم أعظم من حرمة البيت الحرام؛ فقد جاء في الحديث: "مرحبا بك من بيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك! وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك، إن الله حرم منك واحدة وحرم من المؤمن ثلاثًا: دمه، وماله، وأن يظن به ظن السوء"، فكيف نحرس الدين ولا نحرس هذا الإنسان من كل ما يضيع دينه ودنياه ويفسده من ظلم و تجهيل؟
لقد علمنا من خلال آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وممارسات علماء الأمة في العصور الذهبية للإسلام أن دور العلماء أولًا: تكريس الجهود لتفسير النصوص الشرعية وتحديد معانيها الدقيقة، واستنباط الأحكام انطلاقًا من هذه المعاني. صرنا اليوم نرى فئة منهم لا تهمهم مسألة المعنى بقدر ما يهمهم الوقوف عند ظاهر ألفاظها دون تجاوزها إلى باطن معانيها. وعندما نقول: باطنها لا نقصد أن للنصوص باطنًا؛ وإنما نقصد البحث عن العلل والمقاصد والمناط، أو مراعاة تكامل منظومة النصوص؛ فالنصوص الشرعية متشابكة فيما بينها، وهي بمجموعها تشكل منظومة تشع روحًا وجوهرًا، وقد عبر عن هذا الأمر علماء الأصول في مسألة "جمع النصوص وأخذ الحكم الزائد".
وأحيانًا نجد وقوف هذه الطائفة من العلماء عند مقالات لأئمة كثر تداولها في عصرهم، ولكنها لا تمثل ما يسميه ابن تيمية: "الشرع المنزل"؛ بل هي من قبيل الشرع المؤول، وأحيانًا الشرع المبدل.
فالشرع ثلاثة أقسام:
- شرع منزل، وهو القرآن والسنة على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الآية المحكمة من القرآن والحديث الصحيح الصريح.
- وشرع مؤول، وهو اجتهادات العلماء لمعرفة مراد الرسول استنباطًا واستقراءً، قد تكون من الشرع المنزل موافقة، وقد تكون من غيره.
- وشرع مبدل، وهو شرع لا أساس شرعي يعتمد عليه.
ولعل أبرز ما يدل على انغلاق هذه الفئة داخل سياج الممارسات الخاطئة الموروثة -أي البدع وظاهرها- هو تمثلات فكرهم عمليًّا، وكيف أنهم يولون الشكل والظاهر أهمية تكاد تكون أصولية وأساسية عندهم سواء في ممارساتهم التعبدية التي تتسم بالموسمية، وحتى في مسألة الشعارات والانتساب إلى فلان وعلان من الصالحين.
إن التحديدات العملية التي أغلق بواسطتها بعض المسلمين على النصوص الشرعية الصحيحة تبين كيفية توظيفهم للنصوص الشرعية؛ حيث أدى بهم ذلك إلى جعل الاستثنائي عامًّا. ففي تصورهم عمومًا: التفكر في معاني هذه النصوص غير خاضع لحرية البحث والنظر، ولا يتاح للعقل النظر البتة للجمع بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، وإنما هو التلقي من فيض الشيوخ والتقليد بدون فهم وبحث، ولذلك لا يوجد في قاموسهم كلمة اجتهاد وفكر، ولا فكر إسلامي له نطاق معين، بل ويعظمون التوله والحيرة ويذمون العقل. يأتي أحدهم إلى آية من كتاب الله عامة تتناول مسألة تعبدية، ومحكومة بعرف من نزلت فيهم وفهمهم، ثم يغلق عليها داخل سياج أو جدار من ممارسته العملية هو، ثم بعد ذلك يوظف هذه الآية في نشاطه الدعوي جازمًا أنه السنة والشرع والحق، والمخالف لفهمه مخالف لأولياء الله الصالحين، مبتدع يعادي الذكر وتطهير النفس، أو يحارب أولياء الله ، لا يقولون: يحارب الله ورسوله والمؤمنين.
فمن خلال هذا يتبين لك أن المعرفة عند بعض المسلمين هي مجرد استنباط لغوي من النصوص لا تعتمد مبدأ كيف فهمها من نزل فيهم القرآن، أو هي ما ورثته عن الشيخ والزاوية، وليست عبارة عن استنباط للمعاني حر من قيود المذهبية والطائفية والأفكار المسبقة، داخل نطاق الفكر الإسلامي وثوابته المتفق عليها وهي: الكتاب والسنة، والإجماع، فلا المعاني مستنبطة، ولاهي تتجدد بتجدد الفكر ودواعيه ليشمل الإسلام كل جديد.
لقد رسخ هذا المنظور عند بعض المسلمين المعاصرين من مختلف المشارب، وبنوا عليه كل البناء التشريعي الفقهي والأخلاقي، فلم نلاحظ عندهم أية ممارسة فكرية لتراث الأمة الإسلامية بمنظور تطلب المعاني المتجددة. وعليه؛ صار هؤلاء منغلقين على أنفسهم، قد اتخذ فريق منهم مجموعة تدابير أسميها "الإجراءات البوليسية" للحفاظ على كيانهم من الذوبان داخل ساحة فكرية أقوى منهم وأكثر منطقا وسلامة في التحليل تعتمد النص الصحيح رغم بعض الممارسات المشينة.
في حين أن الفريق الآخر ذاب في متاهات العصر وأراد أن يجعل الإسلام على مقاس العصر فأخذ يقطع من أطرافه من هنا وهناك تأويلًا أو حتى تبديلًا.
وليس هذا خاصًّا بهذين الفريقين؛ بل جل المذاهب والجماعات الإسلامية تعاني من نفس المشكل.
فمنهم من لا يهجر الأفراد ممن يظهر بمظهر المنفتح، ولكنه يمارس حجرًا علميًّا على كتب بعض العلماء المسلمين الذين غيروا مجرى التاريخ المعرفي للأمة، كابن تيمية؛ فإن سياسة الحجر عليه قد أضرتهم أكثر مما أضرت به أو بكتبه؛ إذ فاتهم علم جم كانوا بحاجة إليه لبناء النهضة الإسلامية؛ فمسألة نقض المنطق الصوري أو الأرسطي -وهي مسألة معرفية جوهرية في البناء الحضاري المعرفي المعاصر، إذ لولا المنهج التجريبي لما وصل الغرب إلى ما هو عليه- قد سبق إليه ابن تيمية جون ستوارت مل وديكارت بقرون، ولكن الحجر عليه هو الذي دفع بمراكز علمية مرموقة في العالم الإسلامي أن تتخلف قرونًا طويلة، فمجرد النظر في المقرر فيها في علم المنطق تدرك في أي الأزمان الغابرة بقيت المعرفة عند المسلمين في هذا المجال، كأنما توقف العلم وسكن البحث ومات الاجتهاد.
وبدون أن أنقل بحثًا كاملًا في هذه المسألة أقول: "مهما كانت النزعة التجريبية الحسية شائعة بين النظار الإسلاميين عامة، فإن ابن تيمية يبقى هو الوحيد الذي اعتمدها مذهبًا معرفيًّا في نقده للمنطق المشائي، وهو الوحيد الذي جعل من التجربة الحسية مظهرًا لفطرية الدين الإسلامي ومعيارًا لرد جميع الآراء التي لا تقبلها الفطرة السليمة.
كما وجدنا ابن تيمية منفردًا في طبيعة عمله وفي جلالة هذا العمل؛ لأنه تفرد بالجمع بين المعرفة بالشريعة الإسلامية ومنطقها وبالفلسفة المشائية ومنطقها، وبالروح النقدية، ولم يبد لنا أن هذه الخصال الثلاث قد اجتمعت لأحد ممن سبقه أو تبعه من الذين عابوا المنطق المشائي، فبعضهم حرمه، وبعضهم أوجبه، دون أن ينتبه فريق منهم إلى أن المنطق الصناعي لا يمكن تحريمه لأنه يتبطن منطقًا طبيعيًّا فطر الله الناس عليه، ودون أن ينتبه الفريق الآخر إلى أن ما أوجبوه هو تحصيل لحاصل، لأن الله غرز أصول هذا المنطق في فطرة الإنسان.
ولذلك بقي نقد ابن تيمية للمنطق المشائي مفتقرًا إلى عالم بالشريعة عارف بأساليب التفكير الفطري وصوره الصناعية، متشبع بالروح النقدية؛ حتى يستطيع مواصلة عمل قام به الفقهاء وعلماء نظار الذين جدوا في حماية عقيدة عرفوا بساطتها فنفوا عنها التعقيد، وأدركوا صحتها فأبعدوا عنها عناصر الفساد، وشعروا بالخطر يتهدد أصالتها، وبالسموم تدب في أوصالها مما كانت تتجرعه من مناهل المعرفة التي كان الصراع من أجل البقاء يوجب عليها ورودها، والتي فتحتها سماحتها على آفاقها جميعًا، فهبوا يذودون عنها بسلاح يفل كل سلاح ولا يفله سلاح، هو سلاح الفطرة التي لا يستطيع الإنسان ولو حاول الانسلاخ عنها، بذلك نقدوا الفلسفة المشائية وردوا منطقها، وبذلك نقد ابن تيمية منطق المشائين نقدًا لم يبلغ أحد من الفقهاء أو من علماء الكلام شأوه فيه؛ لأنه نقد مذهبي قصد به صاحبه على حماية أساليب التفكير الإسلامية وبيان أهميتها ومكانتها بين أساليب التفكير الأخرى فيكون بذلك قد دافع عن الفطرة بمنطق الفطرة"، عن بحث للدكتور محمود اليعقوبي.
إن القلب ليتفطر حسرة على ما فعل التعصب بالمسلمين، فبعضهم ودون دراسة شاملة وعميقة يريد أن يجعل من أبي حامد الغزالي -رحمه الله- قنطرة التجديد في الفكر الإسلامي وهو من دعاة التقليد في نظرية البناء المعرفي أو أطر الإدراك، "فإذا كان لا يمكننا أن ننكر أن جميع من كتب من المسلمين باللغة العربية في المنطق لم يخرجوا عن الحدود التي رسمها أرسطو، وأن المتأخرين منهم قد اكتفوا بتجريد منطق المشائين من الميتافيزياء التي تبطنه، فإنه لا جدال في أن هؤلاء لا يمثلون جميع أصناف الطالبين المسلمين، ولا جميع الذين تحدثوا في المنطق، بل كان إلى جانب هؤلاء المعجبين بالفلسفة اليونانية عامة والمنطق المشائي خاصة طائفة من النظار الإسلاميين لم يقبلوا هذه الفلسفة؛ لأن أصولها مخالفة لأصول العقيدة الإسلامية، ولم يستسيغوا هذا المنطق؛ لأنه من جهة أداة لهذه الفلسفة، ولأنه من جهة أخرى مبني على بعض أصول هذه الفلسفة فكأنه جزء منها. فالغزالي الذي جعل هو الآخر من المنطق مقدمة لكل علم ["المستصفى"(10/1)] بما في ذلك علم أصول الفقه لا يمكن اعتماده كمنطلق نحو تجديد العلوم الإسلامية، وكذلك ابن حزم الذي كان من السابقين إلى نعت المنطق ومدحه إلى حد التوكيد بأن: "من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وجاز عليه من الشغب جوازًا لا يفرق بينه وبين الحق، ولم يعلم دينه إلا تقليدًا، والتقليد مذموم" [التقريب لحد المنطق ص:3]"، عن كتاب: "ابن تيمية والمنطق الأرسطي" للدكتور محمود اليعقوبي.
أرزيو/ الجزائر في 2009-04-25
مختار الأخضر طيباوي