أبوعاصم أحمد بلحة
2013-08-15, 02:54 PM
كلمة حق في توسعة المسعى
(دراسة علمية تاريخية عن حكم توسعة المسعى)
ملحوظة:
لم تطب نفسي بنشر البحث حتى عرضته على عدد من أهل العلم وطلابه؛ فاستحسنوه، وحثوا على نشره، والحمد لله على إعانته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا أظن أن مسألة فقهية معاصرة قد حظيت بما حظيت به توسعة المسعى التي قامت مؤخرا من نقاش علمي وحشد إعلامي، وقد كنت متابعا لما يُكتب ويُقال منذ ابتداء العمل فيها وإلى هذه الأيام.
ولقد هالني ما قرأت وما سمعت مما أجلب عليه كثير من المتكلمين في الموضوع من أدلة، وما طوعوه من قواعد ليوافق ما اختاروا، ولست بالتأكيد أعني الجميع.
إن الحق الذي لا ريب فيه أن الصفا والمروة من شعائر الله، والمسعى بينهما محلٌ توقيفي عرفه المسلمون أجمعون كما هو دون زيادة أو نقصان، وتوارثوه على حاله جيلا بعد جيل.
والقائلون بجواز هذه التوسعة لم يظفروا –على كثرة ما بحثوا وقالوا- بدليل صحيح صريح الدلالة لا معارض له يعضد ما نصروا، ولا بنص واحد عن إمام معتبر من أئمة المسلمين السابقين يجيز فيه توسعة المسعى، ولا بنقل عن أحد منهم أنه سعى في غير المسعى المعروف.
وهذه الأوراق فيها بحث هذا الموضوع: تأصيلا له، ومناقشة لأدلة المجيزين، وكان الوصول إلى الحق قصدي في كتابتها.
كما قصدت السعي في الذب عن أعراض علماء أعلام تناولتهم ألسنة وأقلام بغمز ولمز لفتواهم بعدم الجواز، مع أنهم –دون شك- أسعد بالصواب.
أسأل الله أن يجعل هذا المكتوب مسددا نافعا، كما أسأله أن يوفق ولاة أمرنا وعلماءنا إلى ما يحب، وأن يأخذ بأيديهم إلى ما يرضيه، والله المستعان.
المسألة الأولى: محل السعي.
إن مما لا تختلف فيه كلمة المسلمين أن محل السعي شرعا: ما بين الصفا والمروة، ودليل ذلك من كتاب الله قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
ودليله من السنة: كونه المحل الذي سعى فيه النبي عليه الصلاة والسلام، وقد جاء في السنة عشرات الأحاديث –في الصحيحين وغيرهما- فيها التنصيص على أنه عليه الصلاة والسلام سعى بين الصفا والمروة، وهو القائل: (خذوا عني مناسككم) أخرجه مسلم.
وعليه فمن سعى خارجا عما بين الصفا والمروة لم يكن ممتثلا للأمر الشرعي؛ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) أخرجه مسلم.
ولأجل هذا فقد نص جمع من الفقهاء على أن من شروط صحة السعي أن يكون في محله بين الصفا والمروة.
قال الرملي في نهاية المحتاج 3/291: (ويشترط [أي في السعي] قطع المسافة بين الصفا والمروة كل مرة، ولا بد أن يكون قطع ما بينهما من بطن الوادي، وهو المسعى المعروف الآن). ثم نقل إجماع العلماء وغيرهم من وقت الأزرقي (قيل إنه توفي في 223هـ، وقيل 250هـ، وقيل غير ذلك) إلى زمانه (توفي في 1004هـ) على أن السعي إنما هو في المسعى المعروف.
وانظر أيضا: حاشية البجيرمي على الخطيب 2/375، وغيرها من كتب الشافعية.
وأنبه هنا إلى أن الوادي في كلام الرملي وغيره من العلماء في هذا المقام يراد به المسيل الذي بين الصفا والمروة، قال ابن جبير في رحلته 88: (وما بين الصفا والمروة مسيل). وليس هذا هو الوادي الآخر الممتد شرقا وغربا الذي يمر به في موضع الهرولة.
ومن كلام العلماء في الاشتراط المذكور قول الحطاب المالكي في مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 4/118: (وللسعي شروط ... ومنها كونه بين الصفا والمروة؛ فلو سعى في غير ذلك المحل بأن دار من سوق الليل أو نزل من الصفا فدخل المسجد لم يصح سعيه).
وفي المسلك المتقسط في المنسك المتوسط (192) لملا علي القاري –مع حاشيته إرشاد الساري- أثناء الكلام عن شروط السعي؛ ذكر في الشرط الأول: ((كينونته بين الصفا والمروة) أي بأن لا ينحرف عنهما إلى أطرافهما).
وهذا الاشتراط لم تخل منه كتب الفقه المعاصرة أيضا؛ ففي فقه السنة لسيد سابق 1/639 أثناء الكلام عن شروط السعي: (وأن يكون السعي في المسعى؛ وهو الطريق الممتد بين الصفا والمروة).
وهذا الحكم قد توارد على تقريره كثير من أهل العلم.
قال النووي في المجموع 8/102: ((فرع) قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعي؛ فلو مرّ وراء موضع السعي في زقاق العطارين أو غيره لم يصح سعيه؛ لأن السعي مختص بمكان فلا يجوز فعله في غيره كالطواف.
قال أبو علي البندنيجى في كتابه الجامع: موضع السعي بطن الوادي.
قال الشافعي في القديم: فإن التوى شيئا يسيرا أجزأه، وإن عدل حتى يفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجز.
وكذا قال الدارمي: إن التوى في السعي يسيرا جاز، وان دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا، والله أعلم).
ونقل قول الشافعي هذا غير واحد، منهم: الروياني في بحر المذهب 5/173، والرملي في نهاية المحتاج 3/291 وغيرهم.
على أن من الشافعية من استشكل جواز هذا عن الشافعي وتأوله بأنه أراد الالتواء الذي لا يخرج عن حدود المسعى، كما تجده في تحفة المحتاج وحواشي الشرواني وغيرها من كتب الشافعية.
وقال النووي –أيضا- في الإيضاح في مناسك الحج 290 –مع حاشية الهيتمي-: ( ... فلو أنه لما عاد من المروة عدل عن موضع السعي وجعل طريقه في المسجد أو غيره وابتدأ المرة الثانية من الصفا أيضا لم يصح). إذن فللسعي موضعه الواضح المعلوم.
ومن تقرير العلماء لهذا الحكم أيضا: قول شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة 2/599: (لو سعى في مسامتة المسعى وترك السعي بين الصفا والمروة لم يجزه).
وقول القطب الحنفي في كتابه الإعلام 103 –نقلا عن تحصيل المرام 1/342-: (السعي بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية التي أوجبها الله تعالى علينا، ولا يجوز العدول عنه، ولا تُؤدى هذه العبادة إلا في ذلك المكان المخصوص الذي سعى فيه صلى الله عليه وسلم).
وقول العلامة الشنقيطي في أضواء البيان 5/253: (اعلم أنه لا يجوز السعي في غير موضع السعي، فلو كان يمر من وراء المسعى حتى يصل إلى الصفا والمروة من جهة أخرى لم يصح سعيه؛ وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه.
وعن الشافعي في القديم: أنه لو انحرف عن موضع السعي انحرافا يسيرا أنه يجزئه. والظاهر أن التحقيق خلافه، وأنه لا يصح السعي إلا في موضعه).
المسألة الثانية: تحديد المسعى.
قد تقرر في القرآن الكريم أن الصفا والمروة من شعائر الله سبحانه، قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أي من أعلام دينه الظاهرة التي تعبّد بها عباده.
وهذا الموضع معروف بيّن عند المسلمين كافة لا يختلفون فيه، وليس لهم –عبر تاريخهم- مكان يسعون فيه سواه.
يقول أبو المعالي الجويني في نهاية المطلب 4/304: (ومكان السعي معروف لا يُتعدى).
ويقول ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح 5/475: (والمسعى هو المكان المعروف اليوم؛ لإجماع السلف والخلف عليه كابرا عن كابر).
ويقول الفاسي في كتابه شفاء الغرام 1/521: (وما حُفظ عن أحد منهم [أي أهل العلم] إنكارٌ لذلك [أي السعي في محل السعي المعروف] ولا أنه سعى في غير المسعى اليوم).
ويقول مؤرخ مكة محمد طاهر الكردي في كتابه التاريخ القويم 5/363 –أثناء كلامه عن اختلاف أوضاع الناس في السعي سهولة وصعوبة منذ القدم وإلى العصر الحاضر-: (موضع السعي هو هو؛ لم يتغير ولم يتبدل ولم ينقص ولم يزد).
ومع كون هذا المشعر العظيم معلوما ظاهرا للناس قد جرى تواترهم العملي على تعيينه - فإن كثيرا من العلماء قد عُنوا بتحديده؛ سواء أكانوا من علماء الفقه أو التفسير أو التاريخ أو من أصحاب الرحلات.
ويمكن استخلاص تحديد المسعى في كلام العلماء من جهتين:
الأولى: تحديد عرض المسعى.
والثانية: تحديد الصفا والمروة.
أما عن الأولى: فإن من العلماء من ذكر حد المسعى إجمالا؛ وهو عرض الوادي –كما سبق النقل من المجموع للنووي – وهذا الوادي كان موجودا قديما، وهو محل السعي.
غير أن آخرين من أهل العلم كانوا أكثر تدقيقا؛ فقد حددوا عرض المسعى بالذراع، وأقدم من وقفت عليه قد اعتنى بهذا الأمر: أبو الوليد الأزرقي (قيل إنه توفي في 223هـ، وقيل 250هـ، وقيل غير ذلك) ؛ فإنه ذكر في أخبار مكة 2/119 أن عرض المسعى –فيما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي على دار العباس- خمسة وثلاثون ذراعا ونصف ذراع.
وعلى القول بأن الذراع 46.2 سم (انظر: معجم لغة الفقهاء 420)؛ فيكون العرض إذن: ستة عشر مترا ونصفا تقريبا، وعلى القول بأن الذراع 48 سم –كما في تاريخ عمارة المسجد الحرام لباسلامة-فيكون عرض المسعى: سبعة عشر مترا تقريبا. وإذا كان المقصود بالذراع الذراع الهاشمية فإنها أكبر من ذلك إذ تبلغ (64 سم) (انظر: المعجم الوسيط 311).
ومن الكتب التي نصت عليه أيضا: كتاب: المناسك وطرق الحج، فقد جاء فيه ص502: (وذرع المسعى من المسجد الحرام إلى دار العباس: اثنان وثلاثون ذراعا).
وبناء على هذا التحديد يكون عرضه: أقل من خمسة عشر مترا بقليل أو أكثر بقليل؛ بحسب الاختلاف في طول الذراع.
وقريب من هذا التحديد ما جاء عند الفاسي في شفاء الغرام (1/519) إذ جعل المسافة بين باب العباس إلى دار العباس: إحدى وثلاثين ذراعا وخمسة أسباع ذراع. وأما من العلم الذي بالمنارة المعروفة بمنارة باب علي إلى الميل المقابل له في الدار المعروفة بدار سلمة فقد ذكر أنه سبعة وثلاثون ذراعا ونصف ذراع وسدس سبع ذراع.
وممن اعتنى بذكر عرضه أيضا: الفاكهي؛ فقد قال رحمه الله في أخبار مكة 2/243: (وذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه -وبينهما عرض المسعى- خمسة وثلاثون ذراعا واثنتا عشرة أصبعا) فيكون العرض: ستة عشر مترا تقريبا.
وقد تابعه على هذا جماعة من فقهاء الشافعية؛ كما في تحفة المحتاج وحاشية البجيرمي على المنهاج وحاشية الجمل وحواشي الشرواني وحاشيتا قليوبي وعميرة وغيرها.
ومما يضاف إلى ذلك: ما أورده القطب الحنفي في كتابه الإعلام 104-106 (نقلا عن تحصيل المرام للصباغ 1/346-348) في قصة تعدي أحد التجار –واسمه: ابن الزمن- على المسعى حين اغتصب من جانبه ثلاثة أذرع ليجعلها ضمن أرض يبني عليها رباطا للفقراء؛ فمنعه قاضي مكة ابن ظهيرة وجمع محضرا من العلماء وفيهم من علماء المذاهب الأربعة وقابلوا هذا التاجر (وأنكر عليه جميع الحاضرين وقالوا له في وجهه: أنت أخذت من المسعى ثلاثة أذرع وأدخلتها، وأحضروا له النقل بعرض المسعى من تاريخ الفاكهي، وذرعوا من جدار المسجد إلى المحل الذي وضع فيه ابن الزمن الأساس فكان عرض المسعى ناقصا ثلاثة أذرع).
وأما عن تحديد عرض الصفا والمروة: فقد تقدم أن السعي شرعا هو ما بين الصفا والمروة، وقد كان المتقدمون –ممن وقفت على كلامهم- يكتفون بالوصف الإجمالي لهما.
ومن تأمل ما ذكره العلماء في هذا الموضع يقطع أن الصفا والمروة جُبيلان صغيران، وسيأتي النقل في هذا -بعون الله- مفصلا.
أما عن المعاصرين: فإن منهم من اعتنى بتحديده تحديدا دقيقا؛ من ذلك ما قام به المؤرخ الأستاذ حسين باسلامة؛ فإنه قام بذرع عرض الصفا؛ فقال: (وعرض أصل الصفا التي عليها الثلاثة العقود (12) مترا) تاريخ عمارة المسجد الحرام ص 303.
كما قامت اللجنة التي كُلفت في عهد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والمكونة من الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبدالله بن جاسر، والشيخ عبد الله بن دهيش، والشيخ علوي مالكي، والشيخ محمد الحركان، والشيخ يحيى أمان، بحضور صالح قزاز وعبد الله ابن سعيد مندوبي الشيخ محمد بن لادن بذرع الصفا كاملا –بما في ذلك ما زاد على العقود الثلاثة- وكان فيما قررت اللجنة: (وبناء على ذلك فقد جرى ذرع عرض الصفا ابتداء من الطرف الغربي للصخرات إلى نهاية محاذاة الطرف الشرقي للصخرات المذكورة في مسامتة موضع العقود القديمة، فظهر أن العرض المذكور يبلغ ستة عشر مترًا) فتاوى الشيخ ابن إبراهيم 5/148
وسبب الاختلاف بين التقديرين راجع إلى أن باسلامة قد ذرع ما عليه العقود الثلاثة فقط، أما اللجنة فقد ذرعت أصل الصفا، وفيه قدر زائد على ما وضعت العقود عليه.
والملاحظ أن هذه المسافة التي ذكرها أعضاء اللجنة توافق تحديد العلماء لعرض المسعى قديما تقريبا منذ عهد الأزرقي (ت223هـ، أو250هـ) وإلى هذا العصر، مرورا بمن ذُكر سابقا؛ وهذا يرد قول من قال: إن ما ذُكر في كتب العلماء من تحديد للمسعى ما هو إلا حكاية للواقع؛ لأنه لو كان كذلك لاختلف من عصر إلى عصر؛ والواقع خلاف ذلك؛ فجميع من حدّد عرض المسعى متفقون في تحديدهم أو متقاربون؛ من عهد الأزرقي وإلى هذا العصر.
وإذا كان هناك اختلاف بين تلك التحديدات السابقة فهو يسير لا يتجاوز المتر إلى المترين؛ والخطب في ذلك يسير، إذ ذراع اليد ليس مقياسا منضبطا؛ وإنما هو مقياس تقريبي، والأذرع متفاوتة طولا وقصرا، ثم إن هناك أنواعا من الأذرع سوى ذراع اليد؛ فثمة ذراع الحديد، والذراع الهاشمية، وكل ذلك معروف في كتب أهل العلم؛ فقد يكون تفاوت التقديرات لتفاوت نوع الذراع، والله أعلم.
غير أن الذي لا شك فيه أن التوسعة السعودية الأولى –عند مقارنتها بكلام العلماء في تحديد المسعى- قد جاءت مستوعبة لعرضه على أوسع تقدير؛ فليس هناك مجال للزيادة عليها.
ثم إنها قد جعلت المسعى على استقامة واحدة؛ وهذا يقتضي أنها أزالت بروز بعض المباني المشرفة عليه الذي كان يضيق به عرض المسعى في بعض المواضع؛ وذلك البروز -مما كان قبل التوسعة- إما أن يكون داخلا في حدود المسعى؛ فيكون قد أزيل؛ أو لا يكون كذلك؛ فتكون إزالته من الالتواء اليسير المغتفر الذي رخص فيه بعض أهل العلم –كما سبق- إذ لا يخرج الساعي عن كونه ساعيا بين الصفا والمروة، وفي قرار اللجنة المضمن في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم (5/143) ما يشير إلى ذلك.
ولا ريب أن الضرورة تقتضي جعل المسعى على استقامة واحدة من أوله إلى آخره؛ لأنه مع الزحام الشديد فيه سيحصل ضرر كبير على الساعين لو كان واسعا في موضع ضيقا في موضع آخر.
وأنبه أخيرا إلى أنه ليس فيما تقدم حجة للمجيزين للتوسعة الجديدة؛ فأين الترخص بمتر ونحوه من إنشاء مسعى جديد يبلغ عشرين مترا؟!
والخلاصة المستفادة من هذه المسألة وما قبلها ما يأتي:
1- أن السعي شرعا هو ما بين الصفا والمروة، ومن سعى خارجا عن حدودهما فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع.
2- أن الفقهاء قد نصوا على أنه يشترط لصحة السعي أن يكون فيما بين الصفا والمروة، ومنعوا من السعي خارجا عن ذلك، وبعضهم رخص في الالتواء اليسير.
3- أن المسعى معلوم ظاهر التحديد لم يزل المسلمون يعرفونه ويتوارثونه.
4- أن العلماء قد حددوا المسعى تحديدا دقيقا منذ القرن الثالث –أو آخر الثاني- وإلى العصر الحاضر ولم يكن بينهم في هذا التحديد خلاف يُذكر.
5- أن التوسعة السعودية الأولى قد استوعبت حدود المسعى، وجعله على استقامة واحدة لم يخرجه عن كونه المشعر الحرام المحفوظ عبر القرون.
المسألة الثالثة: مناقشة استدلالات المجيزين لتوسعة المسعى.
سبق في المسألتين السابقتين بيان محل السعي شرعا، وتحديد المسعى.
وهذه المسألة متعلقة بما أثير في هذه الأيام من الكلام عن جواز التوسعة الجديدة، وسوف أورد أهم ما وقفت عليه مما استُدل به على جواز هذه التوسعة مع مناقشته، سائلا الله تعالى التوفيق للحق والصواب.
وقبل أن ألج إلى ذلك أقدم بتمهيد لا بد منه، مشتمل على أمرين:
الأمر الأول: ينبغي أن يدرك الناظر في هذا الموضوع أن المسعى كان واضح المعالم لدى المسلمين منذ الصدر الأول، وكلام العلماء في هذا مستفيض، وقد نقلت بعضا منه فيما مضى.
وأشير هنا إلى نكتة لم أشر إليها سابقا؛ ألا وهي أن في قول الشافعي رحمه الله (ت 204هـ) المنقول عنه بجواز الالتواء اليسير في السعي، أو في منع غيره من ذلك أو من السعي في السوق ونحوه - دليلا على أن المسعى كان واضح المعالم، مستوعبا لمحله عندهم؛ فلأجل هذا سهلوا في الالتواء اليسير أو منعوا من السعي في السوق ونحوه؛ ولو كان المسعى غير منضبط عندهم لم يكن لهذا الحكم معنى.
وعليه فالأمر على ما قال أبو المعالي الجويني في نهاية المطلب 4/304: (ومكان السعي معروف لا يُتعدى).
الأمر الثاني: لاحظت أن كثيرا ممن تناولوا هذا الموضوع لم يقفوا مليا عند المسعى الحالي وسبب اقتصاره على وضعه الذي هو عليه؛ مع أن هذا من أهم ما يلزم التأمل فيه.
لقد كان الاهتمام ببيت الله الحرام والمشاعر المشرفة وخدمة الحجاج والمعتمرين محط اهتمام ولاة الأمر في هذه البلاد المباركة، وكان أن وفق الله الملك عبد العزيز ومن ثم ابنه سعودا –رحمهما الله- إلى العناية البالغة بالمسجد الحرام؛ فشمل ذلك رصف المسعى وإحكام تسقيفه وإزالة الأسواق المحدقة به، إضافة إلى التوسعة الكبرى للمسجد.
ولأجل أن تكون هذه العناية والتوسعة موافقة للأحكام الشرعية فقد تم تكليف مفتي البلاد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله بالنظر في التحديد الشرعي للمسعى والمصعد إلى الصفا والمروة وبعض المباني المجاورة لذلك؛ فقام رحمه الله بتشكيل لجان مكونة من أهل العلم الشرعي ومن أهل المعرفة بمكة وجغرافيتها لتقلد هذه الوظيفة بالغة الأهمية، فقاموا بما أوكل إليهم بعد معاينة للواقع، ومراجعة علمية وتاريخية، والوقوف على الخرائط المتعلقة بهذا المشعر، مع السؤال والتحقيق، ويتابع هذا سماحة المفتي رحمه الله.
والظن فيهم أنهم كانوا يستحضرون عظم هذه المسئولية التي اضطلعوا بها، وأن ملايين المسلمين سيؤدون عبادة السعي في ضوء ما يقررونه من مساحة المسعى طولا وعرضا.
ثم إن هذا كله كان على مرأى من علماء مكة ووجهائها وبقية علماء البلاد وغيرها.
إن هذه الحقبة المهمة في تاريخ المسعى وما يتعلق بها من خلفيات وملابسات لا يناسب أن يُتعامل معها بغض الطرف، ولا أن تُتناول بأطراف الأصابع؛ بل ينبغي أن تقدر قدرها، وأن تُعطى أهميتها اللائقة بها.
إن أي رأي يُطرح هذه الأيام يدعو إلى توسعة المسعى يجب أن يستحضر جيدا وضع المسعى الحالي ولِم كان بهذه الحدود المعروفة، وهل ما يخالف هذه الحدود يستند إلى ما هو أقوى؟
أعتقد أن من أنعم النظر وأنصف سيجيب بالنفي، ولعل في الصفحات الآتية تجلية الأمر.
ويحسن التنبيه ههنا إلى ما يشير إليه بعضهم من أن اقتصار اللجان العلمية إبان التوسعة السابقة على هذا القدر الحالي إنما كان لأجل أنهم رأوا أن الاقتصار على هذا القدر كافٍ ومؤدٍ للغرض بالنظر إلى أعداد الحجاج والمعتمرين في ذاك الزمان؛ كلا؛ لم يكن الأمر كذلك؛ فإن من يتأمل ما قرره المشايخ –كما في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم- يلحظ أنه كان ثمة رغبة جادة في معرفة جميع ما يمكن دخوله في حدود المسعى وإضافته إلى المشروع توسعةً على المسلمين وتخفيفاً لتزاحمهم.
الاستدلال الأول: شهادة الشهود بأن الصفا والمروة كانا أوسع مما عليه عرض المسعى حاليا.
فقد اشتهر أن جماعة بلغوا نحوا من ثلاثين من معمري أهل مكة قد شهدوا بأنهم أدركوا جبلي الصفا والمروة أوسع مما عليه عرض المسعى حاليا بما لا يقل عن عشرين مترا، بل ذكر بعضهم أن الجبلين متسعين شرقا اتساعا كبيرا، وأن لهما أكتافا، وأنه قد قام عليهما بيوت ومساكن.
والظاهر من حال المستدل بهذا الدليل أنه لا ينازع في أن المطلوب شرعا أن يكون السعي فيما بين الصفا والمروة ولا يخرج عن حدودهما، غير أنه ينازع في قصر المسعى على هذا القدر الموجود الآن، ويرى أن عرض المسعى الحالي أقل من عرض الجبلين سابقا؛ وبناء عليه فإنه لا يرى حرجا في توسعة المسعى؛ لأن هذه التوسعة لن تخرج عن عرض الجبلين.
هذا باختصار تقرير هذا الاستدلال، وهو –فيما يبدو- أقوى ما احتج به المجيزون.
والذي يظهر –والله تعالى أعلم-أنه دليل ضعيف جدا؛ وبيانه بأمرين:
الأمر الأول: أن شهادة هؤلاء الشهود إنما هي في أمر ظاهر للعيان؛ لأنها شهادة برؤية جبل كبير متسع، وعليه فيقال: إن شهادتهم هذه معارَضة بشهادة تخالفها، وهي أرجح منها؛ ويظهر هذا بما يأتي:
أ- أن اللجان المشكلة لدراسة وضع المسعى إبان التوسعة السعودية الأولى قد شهدت بخلاف ذلك؛ وهو وأن جبلي الصفا والمروة إنما هما بهذا العرض الذي جُعل عليه المسعى الحالي؛ ومن نظر في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم (5/138-149) علم صدق ذلك.
وتوضيح ذلك: أن هذا التحديد قد شهد به أعضاء اللجنة المكونة لدراسة وضع الصفا ودخول دار الشيبي ومحل الأغوات الواقعين بين موضع الصفا وبين الشارع العام الملاصق للمسجد الحرام مما يلي باب الصفا، وذلك في عام 1374هـ -وهم: الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله ابن دهيش، والشيخ علوي مالكي- وقد قاموا بهذا وشاهدوا الواقع بأنفسهم؛ فقد جاء في قرارهم: (فقد توجهنا فوقفنا على "الميل" المذكور. وصحبنا معنا مهندسًا فنيًا، وجرى البحث فيما يتعلق بتحديد عرض المسعى مما يلي الصفا) فتاوى ابن إبراهيم 5/139
وقد قاموا –كما جاء في منصوص القرار- بالإضافة إلى هذه المعاينة بمراجعة كلام العلماء والمؤرخين فيما يتعلق بذلك، وساقوا جملة من نصوصهم التي وقفوا عليها، كما قاموا بمراجعة بعض الصكوك المسجلة بالمحكمة الكبرى بمكة، وسؤال أغوات الحرم عن تاريخ وحدود دارهم.
وتُوج هذا بوقوف الشيخ محمد بن إبراهيم على هذا الواقع مع عدة من الثقات؛ ففي الفتاوى 5/139: (فبعد الوقوف على هذا الموضع في عدة رجال من الثقات رأيت هذا القرار صحيحًا، وأفتيت بمقتضاه، قاله الفقير إلى عفو الله محمد بن إبراهيم آل الشيخ).
ب- ومن ذلك أيضا: ما شهد به جملة من أهل العلم فيما يتعلق بالصفا؛ ففي فتاوى ابن إبراهيم 5/144 يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (وحيث قد وعدت جلالتكم بالنظر في موضوع الصفا؛ ففي هذا العام بمكة المكرمة بحثنا ذلك، وتقرر لدي ولدى المشايخ: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ علوي عباس المالكي، والأخ الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن دهيش، والشيخ عبد الله بن جاسر، والشيخ عبد العزيز ابن رشيد: على أن المحل المحجور بالأخشاب في أسفل الصفا داخل في الصفا، ماعدا فسحة الأرض الواقعة على يمين النازل من الصفا فإننا لم نتحقق أنها من الصفا. أما باقي المحجور بالأخشاب فهو داخل في مسمى الصفا ... هذا وعند إزالة هذا الحاجز والتحديد بالفعل ينبغي حضور كل من المشايخ: الأخ الشيخ عبد الملك، والشيخ علوي المالكي، والشيخ عبد الله بن جاسر والشيخ عبد الله بن دهيش، حتى يحصل تطبيق ما قرر هنا، وبالله التوفيق). وكان هذا عام 1380هـ.
ج- ومن ذلك أيضا: ما شهد به جملة من أولئك المشايخ؛ ففي فتاوى الشيخ ابن إبراهيم أيضا 5/147: (في يوم الثلاثاء الموافق 10/2/1378هـ اجتمعت اللجنة المكونة من كل من: الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن جاسر، والشيخ عبد الله بن دهيش، والسيد علوي مالكي، والشيخ محمد الحركان، والشيخ يحيى أمان، بحضور صالح قزاز وعبد الله ابن سعيد مندوبي الشيخ محمد بن لادن، للنظر في بناء المصعدين المؤديين إلى الصفا ...
وبناء على ذلك فقد جرى ذرع عرض الصفا ابتداء من الطرف الغربي للصخرات إلى نهاية محاذاة الطرف الشرقي للصخرات المذكورة في مسامتة موضع العقود القديمة، فظهر أن العرض المذكور يبلغ ستة عشر مترًا ...
كما وقفت اللجنة أيضًا على المروة، فتبين لها بعد الاطلاع على الخرائط القديمة والحديثة للمسعى، وبعد تطبيق الذرع للمسافة فيما بين الصفا والمروة كما نص على ذلك الإمام الأزرقي والإمام الفاسي في تأريخهما بأن المسافة المذكورة تنتهي عند مراجعة موضع العقد القديم من المروة ...) إلى آخر ما جاء في هذا القرار.
د- ومن ذلك أيضا شهادة المؤرخ حسين باسلامة الذي قام بذرع المسعى بنفسه كما في: تاريخ عمارة المسجد الحرام 302-304، وقد تقدم شيء من كلامه سابقا.
فبعد كل ذلك يقال: إن كان الشهود المعاصرون قد شهدوا برؤيتهم فإن هؤلاء العلماء قد شهدوا برؤيتهم أيضا؛ وإذا كان لا بد من الترجيح بين الشهادتين –نظرا لتعارضهما- فإن مما لا شك فيه أن شهادة أولئك المشايخ مقدمة؛ وذلك لوجوه:
أولا: أن أولئك المشايخ أرفع قدرا وأعلى كعبا في العلم والفهم إلى غير ذلك من خلالهم الكريمة؛ ومن المعلوم عند أهل العلم أن رواية الأوثق وشهادته مقدمة على من دونه.
ثانيا: أن ما قرره أولئك المشايخ ليس شهادة فحسب؛ بل هو شهادة وزيادة؛ إنه قرار مبني على تكليف من ولي الأمر بتحديد مشعر تقام فيه عبادة شرعية؛ فلا ريب أنهم استفرغوا وسعهم في تحقيق ما أنيط بهم على الوجه المرضي؛ فجمعوا بين المعاينة والدراسة والمراجعة والسؤال والاطلاع على الخرائط والصكوك –كما هو مدون في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم- لعلمهم بأن التحديد الذي سيصدرون عنه سيكون له ما وراءه.
وأضيف إلى ما سبق أيضا: ما ذكرته آنفا من أن من يتأمل ما قرره المشايخ –كما في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم- يلحظ أنه ليس مجرد تحديد ما هو واقع؛ بل كان ثمة رغبة جادة في معرفة جميع ما يمكن دخوله في حدود المسعى وإضافته إلى المشروع توسعةً على المسلمين وتخفيفاً لتزاحمهم.
فهل بعد هذا ثمة مقارنة بين قرارهم وهذه الشهادة الحديثة التي أخبروا فيها بمجرد مشاهدة شاهدوها، وعمر بعضهم في ذلك الوقت لم يتجاوز أربع عشرة سنة!
ويا لله العجب! جبل ممتد لأكثر من خمسين مترا –كما يقول بعض الشهود- تتعلق به عبادة عظيمة، وجبل مثله على الجانب الآخر، ولا يراهما أهل العلم المكلفون بالنظر إليهما وتحديدهما، ويظفر برؤيتهما فلان وفلان ممن دونت شهادتهم!
هل هذا مقبول عقلا؟
لست أتهم الشهود بالكذب، حاشا وكلا، كما أني لست أشك أن الذي رآه هؤلاء ليس هو الصفا والمروة اللذين تعلقت بهما عبادة السعي قطعا؛ لقد رأى الشهود شيئا آخر؛ وسيأتي بيان ذلك بوضوح بعون الله.
يتبعُ ،،،،
(دراسة علمية تاريخية عن حكم توسعة المسعى)
ملحوظة:
لم تطب نفسي بنشر البحث حتى عرضته على عدد من أهل العلم وطلابه؛ فاستحسنوه، وحثوا على نشره، والحمد لله على إعانته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا أظن أن مسألة فقهية معاصرة قد حظيت بما حظيت به توسعة المسعى التي قامت مؤخرا من نقاش علمي وحشد إعلامي، وقد كنت متابعا لما يُكتب ويُقال منذ ابتداء العمل فيها وإلى هذه الأيام.
ولقد هالني ما قرأت وما سمعت مما أجلب عليه كثير من المتكلمين في الموضوع من أدلة، وما طوعوه من قواعد ليوافق ما اختاروا، ولست بالتأكيد أعني الجميع.
إن الحق الذي لا ريب فيه أن الصفا والمروة من شعائر الله، والمسعى بينهما محلٌ توقيفي عرفه المسلمون أجمعون كما هو دون زيادة أو نقصان، وتوارثوه على حاله جيلا بعد جيل.
والقائلون بجواز هذه التوسعة لم يظفروا –على كثرة ما بحثوا وقالوا- بدليل صحيح صريح الدلالة لا معارض له يعضد ما نصروا، ولا بنص واحد عن إمام معتبر من أئمة المسلمين السابقين يجيز فيه توسعة المسعى، ولا بنقل عن أحد منهم أنه سعى في غير المسعى المعروف.
وهذه الأوراق فيها بحث هذا الموضوع: تأصيلا له، ومناقشة لأدلة المجيزين، وكان الوصول إلى الحق قصدي في كتابتها.
كما قصدت السعي في الذب عن أعراض علماء أعلام تناولتهم ألسنة وأقلام بغمز ولمز لفتواهم بعدم الجواز، مع أنهم –دون شك- أسعد بالصواب.
أسأل الله أن يجعل هذا المكتوب مسددا نافعا، كما أسأله أن يوفق ولاة أمرنا وعلماءنا إلى ما يحب، وأن يأخذ بأيديهم إلى ما يرضيه، والله المستعان.
المسألة الأولى: محل السعي.
إن مما لا تختلف فيه كلمة المسلمين أن محل السعي شرعا: ما بين الصفا والمروة، ودليل ذلك من كتاب الله قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
ودليله من السنة: كونه المحل الذي سعى فيه النبي عليه الصلاة والسلام، وقد جاء في السنة عشرات الأحاديث –في الصحيحين وغيرهما- فيها التنصيص على أنه عليه الصلاة والسلام سعى بين الصفا والمروة، وهو القائل: (خذوا عني مناسككم) أخرجه مسلم.
وعليه فمن سعى خارجا عما بين الصفا والمروة لم يكن ممتثلا للأمر الشرعي؛ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) أخرجه مسلم.
ولأجل هذا فقد نص جمع من الفقهاء على أن من شروط صحة السعي أن يكون في محله بين الصفا والمروة.
قال الرملي في نهاية المحتاج 3/291: (ويشترط [أي في السعي] قطع المسافة بين الصفا والمروة كل مرة، ولا بد أن يكون قطع ما بينهما من بطن الوادي، وهو المسعى المعروف الآن). ثم نقل إجماع العلماء وغيرهم من وقت الأزرقي (قيل إنه توفي في 223هـ، وقيل 250هـ، وقيل غير ذلك) إلى زمانه (توفي في 1004هـ) على أن السعي إنما هو في المسعى المعروف.
وانظر أيضا: حاشية البجيرمي على الخطيب 2/375، وغيرها من كتب الشافعية.
وأنبه هنا إلى أن الوادي في كلام الرملي وغيره من العلماء في هذا المقام يراد به المسيل الذي بين الصفا والمروة، قال ابن جبير في رحلته 88: (وما بين الصفا والمروة مسيل). وليس هذا هو الوادي الآخر الممتد شرقا وغربا الذي يمر به في موضع الهرولة.
ومن كلام العلماء في الاشتراط المذكور قول الحطاب المالكي في مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 4/118: (وللسعي شروط ... ومنها كونه بين الصفا والمروة؛ فلو سعى في غير ذلك المحل بأن دار من سوق الليل أو نزل من الصفا فدخل المسجد لم يصح سعيه).
وفي المسلك المتقسط في المنسك المتوسط (192) لملا علي القاري –مع حاشيته إرشاد الساري- أثناء الكلام عن شروط السعي؛ ذكر في الشرط الأول: ((كينونته بين الصفا والمروة) أي بأن لا ينحرف عنهما إلى أطرافهما).
وهذا الاشتراط لم تخل منه كتب الفقه المعاصرة أيضا؛ ففي فقه السنة لسيد سابق 1/639 أثناء الكلام عن شروط السعي: (وأن يكون السعي في المسعى؛ وهو الطريق الممتد بين الصفا والمروة).
وهذا الحكم قد توارد على تقريره كثير من أهل العلم.
قال النووي في المجموع 8/102: ((فرع) قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعي؛ فلو مرّ وراء موضع السعي في زقاق العطارين أو غيره لم يصح سعيه؛ لأن السعي مختص بمكان فلا يجوز فعله في غيره كالطواف.
قال أبو علي البندنيجى في كتابه الجامع: موضع السعي بطن الوادي.
قال الشافعي في القديم: فإن التوى شيئا يسيرا أجزأه، وإن عدل حتى يفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجز.
وكذا قال الدارمي: إن التوى في السعي يسيرا جاز، وان دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا، والله أعلم).
ونقل قول الشافعي هذا غير واحد، منهم: الروياني في بحر المذهب 5/173، والرملي في نهاية المحتاج 3/291 وغيرهم.
على أن من الشافعية من استشكل جواز هذا عن الشافعي وتأوله بأنه أراد الالتواء الذي لا يخرج عن حدود المسعى، كما تجده في تحفة المحتاج وحواشي الشرواني وغيرها من كتب الشافعية.
وقال النووي –أيضا- في الإيضاح في مناسك الحج 290 –مع حاشية الهيتمي-: ( ... فلو أنه لما عاد من المروة عدل عن موضع السعي وجعل طريقه في المسجد أو غيره وابتدأ المرة الثانية من الصفا أيضا لم يصح). إذن فللسعي موضعه الواضح المعلوم.
ومن تقرير العلماء لهذا الحكم أيضا: قول شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة 2/599: (لو سعى في مسامتة المسعى وترك السعي بين الصفا والمروة لم يجزه).
وقول القطب الحنفي في كتابه الإعلام 103 –نقلا عن تحصيل المرام 1/342-: (السعي بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية التي أوجبها الله تعالى علينا، ولا يجوز العدول عنه، ولا تُؤدى هذه العبادة إلا في ذلك المكان المخصوص الذي سعى فيه صلى الله عليه وسلم).
وقول العلامة الشنقيطي في أضواء البيان 5/253: (اعلم أنه لا يجوز السعي في غير موضع السعي، فلو كان يمر من وراء المسعى حتى يصل إلى الصفا والمروة من جهة أخرى لم يصح سعيه؛ وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه.
وعن الشافعي في القديم: أنه لو انحرف عن موضع السعي انحرافا يسيرا أنه يجزئه. والظاهر أن التحقيق خلافه، وأنه لا يصح السعي إلا في موضعه).
المسألة الثانية: تحديد المسعى.
قد تقرر في القرآن الكريم أن الصفا والمروة من شعائر الله سبحانه، قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أي من أعلام دينه الظاهرة التي تعبّد بها عباده.
وهذا الموضع معروف بيّن عند المسلمين كافة لا يختلفون فيه، وليس لهم –عبر تاريخهم- مكان يسعون فيه سواه.
يقول أبو المعالي الجويني في نهاية المطلب 4/304: (ومكان السعي معروف لا يُتعدى).
ويقول ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح 5/475: (والمسعى هو المكان المعروف اليوم؛ لإجماع السلف والخلف عليه كابرا عن كابر).
ويقول الفاسي في كتابه شفاء الغرام 1/521: (وما حُفظ عن أحد منهم [أي أهل العلم] إنكارٌ لذلك [أي السعي في محل السعي المعروف] ولا أنه سعى في غير المسعى اليوم).
ويقول مؤرخ مكة محمد طاهر الكردي في كتابه التاريخ القويم 5/363 –أثناء كلامه عن اختلاف أوضاع الناس في السعي سهولة وصعوبة منذ القدم وإلى العصر الحاضر-: (موضع السعي هو هو؛ لم يتغير ولم يتبدل ولم ينقص ولم يزد).
ومع كون هذا المشعر العظيم معلوما ظاهرا للناس قد جرى تواترهم العملي على تعيينه - فإن كثيرا من العلماء قد عُنوا بتحديده؛ سواء أكانوا من علماء الفقه أو التفسير أو التاريخ أو من أصحاب الرحلات.
ويمكن استخلاص تحديد المسعى في كلام العلماء من جهتين:
الأولى: تحديد عرض المسعى.
والثانية: تحديد الصفا والمروة.
أما عن الأولى: فإن من العلماء من ذكر حد المسعى إجمالا؛ وهو عرض الوادي –كما سبق النقل من المجموع للنووي – وهذا الوادي كان موجودا قديما، وهو محل السعي.
غير أن آخرين من أهل العلم كانوا أكثر تدقيقا؛ فقد حددوا عرض المسعى بالذراع، وأقدم من وقفت عليه قد اعتنى بهذا الأمر: أبو الوليد الأزرقي (قيل إنه توفي في 223هـ، وقيل 250هـ، وقيل غير ذلك) ؛ فإنه ذكر في أخبار مكة 2/119 أن عرض المسعى –فيما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي على دار العباس- خمسة وثلاثون ذراعا ونصف ذراع.
وعلى القول بأن الذراع 46.2 سم (انظر: معجم لغة الفقهاء 420)؛ فيكون العرض إذن: ستة عشر مترا ونصفا تقريبا، وعلى القول بأن الذراع 48 سم –كما في تاريخ عمارة المسجد الحرام لباسلامة-فيكون عرض المسعى: سبعة عشر مترا تقريبا. وإذا كان المقصود بالذراع الذراع الهاشمية فإنها أكبر من ذلك إذ تبلغ (64 سم) (انظر: المعجم الوسيط 311).
ومن الكتب التي نصت عليه أيضا: كتاب: المناسك وطرق الحج، فقد جاء فيه ص502: (وذرع المسعى من المسجد الحرام إلى دار العباس: اثنان وثلاثون ذراعا).
وبناء على هذا التحديد يكون عرضه: أقل من خمسة عشر مترا بقليل أو أكثر بقليل؛ بحسب الاختلاف في طول الذراع.
وقريب من هذا التحديد ما جاء عند الفاسي في شفاء الغرام (1/519) إذ جعل المسافة بين باب العباس إلى دار العباس: إحدى وثلاثين ذراعا وخمسة أسباع ذراع. وأما من العلم الذي بالمنارة المعروفة بمنارة باب علي إلى الميل المقابل له في الدار المعروفة بدار سلمة فقد ذكر أنه سبعة وثلاثون ذراعا ونصف ذراع وسدس سبع ذراع.
وممن اعتنى بذكر عرضه أيضا: الفاكهي؛ فقد قال رحمه الله في أخبار مكة 2/243: (وذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه -وبينهما عرض المسعى- خمسة وثلاثون ذراعا واثنتا عشرة أصبعا) فيكون العرض: ستة عشر مترا تقريبا.
وقد تابعه على هذا جماعة من فقهاء الشافعية؛ كما في تحفة المحتاج وحاشية البجيرمي على المنهاج وحاشية الجمل وحواشي الشرواني وحاشيتا قليوبي وعميرة وغيرها.
ومما يضاف إلى ذلك: ما أورده القطب الحنفي في كتابه الإعلام 104-106 (نقلا عن تحصيل المرام للصباغ 1/346-348) في قصة تعدي أحد التجار –واسمه: ابن الزمن- على المسعى حين اغتصب من جانبه ثلاثة أذرع ليجعلها ضمن أرض يبني عليها رباطا للفقراء؛ فمنعه قاضي مكة ابن ظهيرة وجمع محضرا من العلماء وفيهم من علماء المذاهب الأربعة وقابلوا هذا التاجر (وأنكر عليه جميع الحاضرين وقالوا له في وجهه: أنت أخذت من المسعى ثلاثة أذرع وأدخلتها، وأحضروا له النقل بعرض المسعى من تاريخ الفاكهي، وذرعوا من جدار المسجد إلى المحل الذي وضع فيه ابن الزمن الأساس فكان عرض المسعى ناقصا ثلاثة أذرع).
وأما عن تحديد عرض الصفا والمروة: فقد تقدم أن السعي شرعا هو ما بين الصفا والمروة، وقد كان المتقدمون –ممن وقفت على كلامهم- يكتفون بالوصف الإجمالي لهما.
ومن تأمل ما ذكره العلماء في هذا الموضع يقطع أن الصفا والمروة جُبيلان صغيران، وسيأتي النقل في هذا -بعون الله- مفصلا.
أما عن المعاصرين: فإن منهم من اعتنى بتحديده تحديدا دقيقا؛ من ذلك ما قام به المؤرخ الأستاذ حسين باسلامة؛ فإنه قام بذرع عرض الصفا؛ فقال: (وعرض أصل الصفا التي عليها الثلاثة العقود (12) مترا) تاريخ عمارة المسجد الحرام ص 303.
كما قامت اللجنة التي كُلفت في عهد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والمكونة من الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبدالله بن جاسر، والشيخ عبد الله بن دهيش، والشيخ علوي مالكي، والشيخ محمد الحركان، والشيخ يحيى أمان، بحضور صالح قزاز وعبد الله ابن سعيد مندوبي الشيخ محمد بن لادن بذرع الصفا كاملا –بما في ذلك ما زاد على العقود الثلاثة- وكان فيما قررت اللجنة: (وبناء على ذلك فقد جرى ذرع عرض الصفا ابتداء من الطرف الغربي للصخرات إلى نهاية محاذاة الطرف الشرقي للصخرات المذكورة في مسامتة موضع العقود القديمة، فظهر أن العرض المذكور يبلغ ستة عشر مترًا) فتاوى الشيخ ابن إبراهيم 5/148
وسبب الاختلاف بين التقديرين راجع إلى أن باسلامة قد ذرع ما عليه العقود الثلاثة فقط، أما اللجنة فقد ذرعت أصل الصفا، وفيه قدر زائد على ما وضعت العقود عليه.
والملاحظ أن هذه المسافة التي ذكرها أعضاء اللجنة توافق تحديد العلماء لعرض المسعى قديما تقريبا منذ عهد الأزرقي (ت223هـ، أو250هـ) وإلى هذا العصر، مرورا بمن ذُكر سابقا؛ وهذا يرد قول من قال: إن ما ذُكر في كتب العلماء من تحديد للمسعى ما هو إلا حكاية للواقع؛ لأنه لو كان كذلك لاختلف من عصر إلى عصر؛ والواقع خلاف ذلك؛ فجميع من حدّد عرض المسعى متفقون في تحديدهم أو متقاربون؛ من عهد الأزرقي وإلى هذا العصر.
وإذا كان هناك اختلاف بين تلك التحديدات السابقة فهو يسير لا يتجاوز المتر إلى المترين؛ والخطب في ذلك يسير، إذ ذراع اليد ليس مقياسا منضبطا؛ وإنما هو مقياس تقريبي، والأذرع متفاوتة طولا وقصرا، ثم إن هناك أنواعا من الأذرع سوى ذراع اليد؛ فثمة ذراع الحديد، والذراع الهاشمية، وكل ذلك معروف في كتب أهل العلم؛ فقد يكون تفاوت التقديرات لتفاوت نوع الذراع، والله أعلم.
غير أن الذي لا شك فيه أن التوسعة السعودية الأولى –عند مقارنتها بكلام العلماء في تحديد المسعى- قد جاءت مستوعبة لعرضه على أوسع تقدير؛ فليس هناك مجال للزيادة عليها.
ثم إنها قد جعلت المسعى على استقامة واحدة؛ وهذا يقتضي أنها أزالت بروز بعض المباني المشرفة عليه الذي كان يضيق به عرض المسعى في بعض المواضع؛ وذلك البروز -مما كان قبل التوسعة- إما أن يكون داخلا في حدود المسعى؛ فيكون قد أزيل؛ أو لا يكون كذلك؛ فتكون إزالته من الالتواء اليسير المغتفر الذي رخص فيه بعض أهل العلم –كما سبق- إذ لا يخرج الساعي عن كونه ساعيا بين الصفا والمروة، وفي قرار اللجنة المضمن في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم (5/143) ما يشير إلى ذلك.
ولا ريب أن الضرورة تقتضي جعل المسعى على استقامة واحدة من أوله إلى آخره؛ لأنه مع الزحام الشديد فيه سيحصل ضرر كبير على الساعين لو كان واسعا في موضع ضيقا في موضع آخر.
وأنبه أخيرا إلى أنه ليس فيما تقدم حجة للمجيزين للتوسعة الجديدة؛ فأين الترخص بمتر ونحوه من إنشاء مسعى جديد يبلغ عشرين مترا؟!
والخلاصة المستفادة من هذه المسألة وما قبلها ما يأتي:
1- أن السعي شرعا هو ما بين الصفا والمروة، ومن سعى خارجا عن حدودهما فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع.
2- أن الفقهاء قد نصوا على أنه يشترط لصحة السعي أن يكون فيما بين الصفا والمروة، ومنعوا من السعي خارجا عن ذلك، وبعضهم رخص في الالتواء اليسير.
3- أن المسعى معلوم ظاهر التحديد لم يزل المسلمون يعرفونه ويتوارثونه.
4- أن العلماء قد حددوا المسعى تحديدا دقيقا منذ القرن الثالث –أو آخر الثاني- وإلى العصر الحاضر ولم يكن بينهم في هذا التحديد خلاف يُذكر.
5- أن التوسعة السعودية الأولى قد استوعبت حدود المسعى، وجعله على استقامة واحدة لم يخرجه عن كونه المشعر الحرام المحفوظ عبر القرون.
المسألة الثالثة: مناقشة استدلالات المجيزين لتوسعة المسعى.
سبق في المسألتين السابقتين بيان محل السعي شرعا، وتحديد المسعى.
وهذه المسألة متعلقة بما أثير في هذه الأيام من الكلام عن جواز التوسعة الجديدة، وسوف أورد أهم ما وقفت عليه مما استُدل به على جواز هذه التوسعة مع مناقشته، سائلا الله تعالى التوفيق للحق والصواب.
وقبل أن ألج إلى ذلك أقدم بتمهيد لا بد منه، مشتمل على أمرين:
الأمر الأول: ينبغي أن يدرك الناظر في هذا الموضوع أن المسعى كان واضح المعالم لدى المسلمين منذ الصدر الأول، وكلام العلماء في هذا مستفيض، وقد نقلت بعضا منه فيما مضى.
وأشير هنا إلى نكتة لم أشر إليها سابقا؛ ألا وهي أن في قول الشافعي رحمه الله (ت 204هـ) المنقول عنه بجواز الالتواء اليسير في السعي، أو في منع غيره من ذلك أو من السعي في السوق ونحوه - دليلا على أن المسعى كان واضح المعالم، مستوعبا لمحله عندهم؛ فلأجل هذا سهلوا في الالتواء اليسير أو منعوا من السعي في السوق ونحوه؛ ولو كان المسعى غير منضبط عندهم لم يكن لهذا الحكم معنى.
وعليه فالأمر على ما قال أبو المعالي الجويني في نهاية المطلب 4/304: (ومكان السعي معروف لا يُتعدى).
الأمر الثاني: لاحظت أن كثيرا ممن تناولوا هذا الموضوع لم يقفوا مليا عند المسعى الحالي وسبب اقتصاره على وضعه الذي هو عليه؛ مع أن هذا من أهم ما يلزم التأمل فيه.
لقد كان الاهتمام ببيت الله الحرام والمشاعر المشرفة وخدمة الحجاج والمعتمرين محط اهتمام ولاة الأمر في هذه البلاد المباركة، وكان أن وفق الله الملك عبد العزيز ومن ثم ابنه سعودا –رحمهما الله- إلى العناية البالغة بالمسجد الحرام؛ فشمل ذلك رصف المسعى وإحكام تسقيفه وإزالة الأسواق المحدقة به، إضافة إلى التوسعة الكبرى للمسجد.
ولأجل أن تكون هذه العناية والتوسعة موافقة للأحكام الشرعية فقد تم تكليف مفتي البلاد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله بالنظر في التحديد الشرعي للمسعى والمصعد إلى الصفا والمروة وبعض المباني المجاورة لذلك؛ فقام رحمه الله بتشكيل لجان مكونة من أهل العلم الشرعي ومن أهل المعرفة بمكة وجغرافيتها لتقلد هذه الوظيفة بالغة الأهمية، فقاموا بما أوكل إليهم بعد معاينة للواقع، ومراجعة علمية وتاريخية، والوقوف على الخرائط المتعلقة بهذا المشعر، مع السؤال والتحقيق، ويتابع هذا سماحة المفتي رحمه الله.
والظن فيهم أنهم كانوا يستحضرون عظم هذه المسئولية التي اضطلعوا بها، وأن ملايين المسلمين سيؤدون عبادة السعي في ضوء ما يقررونه من مساحة المسعى طولا وعرضا.
ثم إن هذا كله كان على مرأى من علماء مكة ووجهائها وبقية علماء البلاد وغيرها.
إن هذه الحقبة المهمة في تاريخ المسعى وما يتعلق بها من خلفيات وملابسات لا يناسب أن يُتعامل معها بغض الطرف، ولا أن تُتناول بأطراف الأصابع؛ بل ينبغي أن تقدر قدرها، وأن تُعطى أهميتها اللائقة بها.
إن أي رأي يُطرح هذه الأيام يدعو إلى توسعة المسعى يجب أن يستحضر جيدا وضع المسعى الحالي ولِم كان بهذه الحدود المعروفة، وهل ما يخالف هذه الحدود يستند إلى ما هو أقوى؟
أعتقد أن من أنعم النظر وأنصف سيجيب بالنفي، ولعل في الصفحات الآتية تجلية الأمر.
ويحسن التنبيه ههنا إلى ما يشير إليه بعضهم من أن اقتصار اللجان العلمية إبان التوسعة السابقة على هذا القدر الحالي إنما كان لأجل أنهم رأوا أن الاقتصار على هذا القدر كافٍ ومؤدٍ للغرض بالنظر إلى أعداد الحجاج والمعتمرين في ذاك الزمان؛ كلا؛ لم يكن الأمر كذلك؛ فإن من يتأمل ما قرره المشايخ –كما في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم- يلحظ أنه كان ثمة رغبة جادة في معرفة جميع ما يمكن دخوله في حدود المسعى وإضافته إلى المشروع توسعةً على المسلمين وتخفيفاً لتزاحمهم.
الاستدلال الأول: شهادة الشهود بأن الصفا والمروة كانا أوسع مما عليه عرض المسعى حاليا.
فقد اشتهر أن جماعة بلغوا نحوا من ثلاثين من معمري أهل مكة قد شهدوا بأنهم أدركوا جبلي الصفا والمروة أوسع مما عليه عرض المسعى حاليا بما لا يقل عن عشرين مترا، بل ذكر بعضهم أن الجبلين متسعين شرقا اتساعا كبيرا، وأن لهما أكتافا، وأنه قد قام عليهما بيوت ومساكن.
والظاهر من حال المستدل بهذا الدليل أنه لا ينازع في أن المطلوب شرعا أن يكون السعي فيما بين الصفا والمروة ولا يخرج عن حدودهما، غير أنه ينازع في قصر المسعى على هذا القدر الموجود الآن، ويرى أن عرض المسعى الحالي أقل من عرض الجبلين سابقا؛ وبناء عليه فإنه لا يرى حرجا في توسعة المسعى؛ لأن هذه التوسعة لن تخرج عن عرض الجبلين.
هذا باختصار تقرير هذا الاستدلال، وهو –فيما يبدو- أقوى ما احتج به المجيزون.
والذي يظهر –والله تعالى أعلم-أنه دليل ضعيف جدا؛ وبيانه بأمرين:
الأمر الأول: أن شهادة هؤلاء الشهود إنما هي في أمر ظاهر للعيان؛ لأنها شهادة برؤية جبل كبير متسع، وعليه فيقال: إن شهادتهم هذه معارَضة بشهادة تخالفها، وهي أرجح منها؛ ويظهر هذا بما يأتي:
أ- أن اللجان المشكلة لدراسة وضع المسعى إبان التوسعة السعودية الأولى قد شهدت بخلاف ذلك؛ وهو وأن جبلي الصفا والمروة إنما هما بهذا العرض الذي جُعل عليه المسعى الحالي؛ ومن نظر في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم (5/138-149) علم صدق ذلك.
وتوضيح ذلك: أن هذا التحديد قد شهد به أعضاء اللجنة المكونة لدراسة وضع الصفا ودخول دار الشيبي ومحل الأغوات الواقعين بين موضع الصفا وبين الشارع العام الملاصق للمسجد الحرام مما يلي باب الصفا، وذلك في عام 1374هـ -وهم: الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله ابن دهيش، والشيخ علوي مالكي- وقد قاموا بهذا وشاهدوا الواقع بأنفسهم؛ فقد جاء في قرارهم: (فقد توجهنا فوقفنا على "الميل" المذكور. وصحبنا معنا مهندسًا فنيًا، وجرى البحث فيما يتعلق بتحديد عرض المسعى مما يلي الصفا) فتاوى ابن إبراهيم 5/139
وقد قاموا –كما جاء في منصوص القرار- بالإضافة إلى هذه المعاينة بمراجعة كلام العلماء والمؤرخين فيما يتعلق بذلك، وساقوا جملة من نصوصهم التي وقفوا عليها، كما قاموا بمراجعة بعض الصكوك المسجلة بالمحكمة الكبرى بمكة، وسؤال أغوات الحرم عن تاريخ وحدود دارهم.
وتُوج هذا بوقوف الشيخ محمد بن إبراهيم على هذا الواقع مع عدة من الثقات؛ ففي الفتاوى 5/139: (فبعد الوقوف على هذا الموضع في عدة رجال من الثقات رأيت هذا القرار صحيحًا، وأفتيت بمقتضاه، قاله الفقير إلى عفو الله محمد بن إبراهيم آل الشيخ).
ب- ومن ذلك أيضا: ما شهد به جملة من أهل العلم فيما يتعلق بالصفا؛ ففي فتاوى ابن إبراهيم 5/144 يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (وحيث قد وعدت جلالتكم بالنظر في موضوع الصفا؛ ففي هذا العام بمكة المكرمة بحثنا ذلك، وتقرر لدي ولدى المشايخ: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ علوي عباس المالكي، والأخ الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن دهيش، والشيخ عبد الله بن جاسر، والشيخ عبد العزيز ابن رشيد: على أن المحل المحجور بالأخشاب في أسفل الصفا داخل في الصفا، ماعدا فسحة الأرض الواقعة على يمين النازل من الصفا فإننا لم نتحقق أنها من الصفا. أما باقي المحجور بالأخشاب فهو داخل في مسمى الصفا ... هذا وعند إزالة هذا الحاجز والتحديد بالفعل ينبغي حضور كل من المشايخ: الأخ الشيخ عبد الملك، والشيخ علوي المالكي، والشيخ عبد الله بن جاسر والشيخ عبد الله بن دهيش، حتى يحصل تطبيق ما قرر هنا، وبالله التوفيق). وكان هذا عام 1380هـ.
ج- ومن ذلك أيضا: ما شهد به جملة من أولئك المشايخ؛ ففي فتاوى الشيخ ابن إبراهيم أيضا 5/147: (في يوم الثلاثاء الموافق 10/2/1378هـ اجتمعت اللجنة المكونة من كل من: الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن جاسر، والشيخ عبد الله بن دهيش، والسيد علوي مالكي، والشيخ محمد الحركان، والشيخ يحيى أمان، بحضور صالح قزاز وعبد الله ابن سعيد مندوبي الشيخ محمد بن لادن، للنظر في بناء المصعدين المؤديين إلى الصفا ...
وبناء على ذلك فقد جرى ذرع عرض الصفا ابتداء من الطرف الغربي للصخرات إلى نهاية محاذاة الطرف الشرقي للصخرات المذكورة في مسامتة موضع العقود القديمة، فظهر أن العرض المذكور يبلغ ستة عشر مترًا ...
كما وقفت اللجنة أيضًا على المروة، فتبين لها بعد الاطلاع على الخرائط القديمة والحديثة للمسعى، وبعد تطبيق الذرع للمسافة فيما بين الصفا والمروة كما نص على ذلك الإمام الأزرقي والإمام الفاسي في تأريخهما بأن المسافة المذكورة تنتهي عند مراجعة موضع العقد القديم من المروة ...) إلى آخر ما جاء في هذا القرار.
د- ومن ذلك أيضا شهادة المؤرخ حسين باسلامة الذي قام بذرع المسعى بنفسه كما في: تاريخ عمارة المسجد الحرام 302-304، وقد تقدم شيء من كلامه سابقا.
فبعد كل ذلك يقال: إن كان الشهود المعاصرون قد شهدوا برؤيتهم فإن هؤلاء العلماء قد شهدوا برؤيتهم أيضا؛ وإذا كان لا بد من الترجيح بين الشهادتين –نظرا لتعارضهما- فإن مما لا شك فيه أن شهادة أولئك المشايخ مقدمة؛ وذلك لوجوه:
أولا: أن أولئك المشايخ أرفع قدرا وأعلى كعبا في العلم والفهم إلى غير ذلك من خلالهم الكريمة؛ ومن المعلوم عند أهل العلم أن رواية الأوثق وشهادته مقدمة على من دونه.
ثانيا: أن ما قرره أولئك المشايخ ليس شهادة فحسب؛ بل هو شهادة وزيادة؛ إنه قرار مبني على تكليف من ولي الأمر بتحديد مشعر تقام فيه عبادة شرعية؛ فلا ريب أنهم استفرغوا وسعهم في تحقيق ما أنيط بهم على الوجه المرضي؛ فجمعوا بين المعاينة والدراسة والمراجعة والسؤال والاطلاع على الخرائط والصكوك –كما هو مدون في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم- لعلمهم بأن التحديد الذي سيصدرون عنه سيكون له ما وراءه.
وأضيف إلى ما سبق أيضا: ما ذكرته آنفا من أن من يتأمل ما قرره المشايخ –كما في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم- يلحظ أنه ليس مجرد تحديد ما هو واقع؛ بل كان ثمة رغبة جادة في معرفة جميع ما يمكن دخوله في حدود المسعى وإضافته إلى المشروع توسعةً على المسلمين وتخفيفاً لتزاحمهم.
فهل بعد هذا ثمة مقارنة بين قرارهم وهذه الشهادة الحديثة التي أخبروا فيها بمجرد مشاهدة شاهدوها، وعمر بعضهم في ذلك الوقت لم يتجاوز أربع عشرة سنة!
ويا لله العجب! جبل ممتد لأكثر من خمسين مترا –كما يقول بعض الشهود- تتعلق به عبادة عظيمة، وجبل مثله على الجانب الآخر، ولا يراهما أهل العلم المكلفون بالنظر إليهما وتحديدهما، ويظفر برؤيتهما فلان وفلان ممن دونت شهادتهم!
هل هذا مقبول عقلا؟
لست أتهم الشهود بالكذب، حاشا وكلا، كما أني لست أشك أن الذي رآه هؤلاء ليس هو الصفا والمروة اللذين تعلقت بهما عبادة السعي قطعا؛ لقد رأى الشهود شيئا آخر؛ وسيأتي بيان ذلك بوضوح بعون الله.
يتبعُ ،،،،