هويدامحمد
2013-08-13, 08:49 PM
المكارِم منوطة بالمكارِه
الكـاتب : عبد الرحمن بن عبد اللّه السحيم (file:///C:/author/689)
يظن بعض الناس أن السعادة أن يعيش الإنسان حياة صافية من كلّ كَدَر.
أوْ لا يُصادِفه مُنغِّصَات
أوْ لا تُصيبه مُصيبة
أوْ لا يتعرّض لِفتنَة
وهذه لا بُدّ منها فهي كالملْح في الطّعام!
ثم إن طبيعة هذه الحياة الدنيا أنها طُبِعت على كَدَرٍ
جُبِلَتْ على كَدَرٍ وأنت تَرُومُها *** صفواً من الأقذار والأكدارِ
ومكلِّف الأيام ضِدّ طِباعِها *** مَتَطَلِّبٌ في الماء جذوة نارِ
وإذا رَجَوتَ المستحيل فإنما *** تَبْنِي الرّجاء على شفيرٍ هارِ
فهي لا تصفو لأحد، ولا تدوم لِمخلوق.
سمع الْحَسَن البصري رجلاً يقول لآخر: لا أراك الله مكروهاً أبداً. فقال له: دَعَوتَ الله له بالموت! فإن الدنيا لا تخلو عن المكروه!
وقد وصف الله حياة ابن آدم فقال: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) فهو في مَشَقّـةٍ ومُكابَدةٍ في دنياه، كما قال بعض المفسِّرين.
إذاً..ما هي الحياة الطيبة؟
وكيف تُوجد السَّعادة؟
اختلفت عبارات السَّلَف حول معنى الحياة الطيبة.
قال ابن عباس: هي الرزق الحلال.
وقال الحسن: هي القناعة.
وقال مُقاتل بن حيان: يعني العيش في الطاعة.
وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة.
وقال القاضي البيضاوي: (فَلَنُحْيِيَنَ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً) في الدنيا يعيش عيشا طيباً، فإنه إن كان مُوسِراً فظاهر، وإن كان مُعْسِراً يَطيب عيشه بالقناعة والرضا بالقسمة وتوقّع الأجر العظيم. ا.هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: مَنِ أراد السعادة الأبدية فليلزم عَتَبَة العبودية.
وعلى كلٍّ هي:
حياةُ قلبٍ مؤمن بالله، راضٍ بقضائه، مُسْتَسْلِم لِحُكْمِه، واثق بِوَعْدِه.
والحياة الطيبة ربما يعيشها المؤمن وهو لا يشعر بها، وربما لا يَجِد لذّتها.
كيف؟
ربما عاش المؤمن راحة البال، ووجَد الأمن النّفسي، لا يُزعجه المستقبل، ولا يُقلقه ما في غـدٍ.
الأمن النفسي من أعظم ما يَمنّ الله به على عبده المؤمن.
ولذا قال - سبحانه وتعالى -: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)
ليس فقط الأمن الاجتماعي في الأوطان، بل حتى الأمن النفسي في نفوس المؤمنين.
وهذا يُفسِّر لنا سِـرّ سعادة الكافر إذا أسلم، إذ وَجَـد ما كان يفتقده، وعاش لـذّة الطاعة، وخالطت قلبه بشاشة الإيمان.
ويُظهر لنا بِجلاء كيف عاش بعض السّلف هذه السعادة في لحظة مقْتلِه!
قال حرام بن مِلحان - رضي الله عنه - لما طَعَنَه الكافر الغادر: فُـزْتُ وربِّ الكعبة فكان الكافر الغادر يتساءل: أي فوز فازه وأنا قتلته؟!
فالسعادة ليست في كأس وغانية!
وليست في مالٍ وجارية!
ولا في المراكب الفارِهة!
ولا في القصور العامِرة!
وإنما هي بطاعة الله جل جلاله.
ويُبين لنا هذا أن من العلماء من وُضِع في السّجن والقيد، فما يزيد على أن يبتسم!
لقد كان يتذوّق طعم السعادة!
ويعتبر السجن خلوة!
والقيد وسام فخر!
يَرى الدنيا بعين مؤمن راضٍ بقضاء الله
يجِد حلاوة الإيمان في قلبه.. ولا سبيل للوصل إلى قلبه!
يُدفع بإمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل إلى السّجن، فما يَردّه ذلك عن مبادئه، ولا يُزحزحه عن مواقفـه، يُضرب بالسِّياط فما يشكو ولا يئِنّ، يَغتسل السّوط في جُرحه فيصدع بما يَكرهون.
لقد مَزَج مرارة الألم بحلاوة الإيمان فطَغَتْ حلاوة الإيمان..
إن بعض الناس يشكو أنه لا يعيش الحياة الطيبة في حين أنه يعمل الأعمال الصالحة، وهو أهنأ ما يكون في عيش وصحّة، وأمن ورخاء.
وهذا ربما تُوجَد عنده صُورة العَمَل، ولا تُوجد حقيقة العمل.
والفَرْق بينهما كما بين الثرى والثريّا
إن الرجلين ربما صَلَّيَا إلى جوار بعض، وبينهما في صلاتهما كما بين المشرق والمغرب!
فَرَجُل قلبه يحوم حول العَرش يُسبِّح بِحَمْدِ ربِّـه
وآخر يحوم حول القاذورات!
قال بعض السلف: إن هذه القلوب جَوّالة؛ فمنها ما يَجُول حول العَرْش، ومنها ما يَجُول حَول الْحُشّ " بيت الخلاء ".
فيا بُعد ما بينهما!
والله لا يستويان لا في الصلاة والأجر، ولا في أثَرِهَا.
فَمَن صلّى بقلبه نَهَتْه صلاته، ورَفَعتْ درجاته، وكفّرت سيئاته.
ومن صلّى بِبَدَنِه أجزأته!
فَمن تعلّق قلبه بالله، ملأه الله غنىً ورضاً وطُمأنينة.
ومن تعلّق بغيره وُكِل إليه "تَعِسَ عَبْدُ الدينار وعَبْدُ الدرهم وعَبْدُ الخميصة".
قال ابن القيم - رحمه الله -:
نَزِّه سماعك إن أردت سماعا *** ذيّاك الغنا عن هـذه الألحانِ
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتحرم *** ذا وذا يـا ذلـة الحرمان
إن اختيارك للسماع النازل الأدنى *** على الأعلى من النقصان
والله إن سماعهم في القلـب *** والـإيمان مثل السـمّ فـي الأبـدان
والله ما انفكّ الذي هـو دأبـه *** أبـداً مـن الإشـراك بالرحمـن
فالقلب بيت الرب جل جلالـه *** حُباً وإخلاصاً مـع الإحسـان
فإذا تعلّـق بالسَّمـاع أصـاره *** عبـداً لكـل فُلانـة وفـلان
حُبّ الكتاب وحب ألحان الغنـا *** في قلب عبـد ليـس يجتمعـان
ثَقُل الكتـاب عليهـم لمـا رأوا *** تقييـده بشـرائـع الإيـمـان
واللهو خـفّ عليهـم لمـا رأوا *** ما فيه من طرب ومـن ألحـان
قوت النفوس وإنما القـرآن قـوت *** القلب أنى يستوي القوتـان؟
وألَذّهُم فيـه أقلّهـم مـن الـ ***ــعقل الصحيح فَسَلْ أخَا العرفان
يا لذّة الفساق لستِ كَلَـذَّةِ *** الـأبـرار فـي عَقْـلٍ ولا قـرآنِ
فإن أردت المكارم فتحمّل المكارِه.
وإن أردت السعادة الأبدية فالزم عَتَبة العبودية.
والله يتولاك.
الكـاتب : عبد الرحمن بن عبد اللّه السحيم (file:///C:/author/689)
يظن بعض الناس أن السعادة أن يعيش الإنسان حياة صافية من كلّ كَدَر.
أوْ لا يُصادِفه مُنغِّصَات
أوْ لا تُصيبه مُصيبة
أوْ لا يتعرّض لِفتنَة
وهذه لا بُدّ منها فهي كالملْح في الطّعام!
ثم إن طبيعة هذه الحياة الدنيا أنها طُبِعت على كَدَرٍ
جُبِلَتْ على كَدَرٍ وأنت تَرُومُها *** صفواً من الأقذار والأكدارِ
ومكلِّف الأيام ضِدّ طِباعِها *** مَتَطَلِّبٌ في الماء جذوة نارِ
وإذا رَجَوتَ المستحيل فإنما *** تَبْنِي الرّجاء على شفيرٍ هارِ
فهي لا تصفو لأحد، ولا تدوم لِمخلوق.
سمع الْحَسَن البصري رجلاً يقول لآخر: لا أراك الله مكروهاً أبداً. فقال له: دَعَوتَ الله له بالموت! فإن الدنيا لا تخلو عن المكروه!
وقد وصف الله حياة ابن آدم فقال: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) فهو في مَشَقّـةٍ ومُكابَدةٍ في دنياه، كما قال بعض المفسِّرين.
إذاً..ما هي الحياة الطيبة؟
وكيف تُوجد السَّعادة؟
اختلفت عبارات السَّلَف حول معنى الحياة الطيبة.
قال ابن عباس: هي الرزق الحلال.
وقال الحسن: هي القناعة.
وقال مُقاتل بن حيان: يعني العيش في الطاعة.
وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة.
وقال القاضي البيضاوي: (فَلَنُحْيِيَنَ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً) في الدنيا يعيش عيشا طيباً، فإنه إن كان مُوسِراً فظاهر، وإن كان مُعْسِراً يَطيب عيشه بالقناعة والرضا بالقسمة وتوقّع الأجر العظيم. ا.هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: مَنِ أراد السعادة الأبدية فليلزم عَتَبَة العبودية.
وعلى كلٍّ هي:
حياةُ قلبٍ مؤمن بالله، راضٍ بقضائه، مُسْتَسْلِم لِحُكْمِه، واثق بِوَعْدِه.
والحياة الطيبة ربما يعيشها المؤمن وهو لا يشعر بها، وربما لا يَجِد لذّتها.
كيف؟
ربما عاش المؤمن راحة البال، ووجَد الأمن النّفسي، لا يُزعجه المستقبل، ولا يُقلقه ما في غـدٍ.
الأمن النفسي من أعظم ما يَمنّ الله به على عبده المؤمن.
ولذا قال - سبحانه وتعالى -: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)
ليس فقط الأمن الاجتماعي في الأوطان، بل حتى الأمن النفسي في نفوس المؤمنين.
وهذا يُفسِّر لنا سِـرّ سعادة الكافر إذا أسلم، إذ وَجَـد ما كان يفتقده، وعاش لـذّة الطاعة، وخالطت قلبه بشاشة الإيمان.
ويُظهر لنا بِجلاء كيف عاش بعض السّلف هذه السعادة في لحظة مقْتلِه!
قال حرام بن مِلحان - رضي الله عنه - لما طَعَنَه الكافر الغادر: فُـزْتُ وربِّ الكعبة فكان الكافر الغادر يتساءل: أي فوز فازه وأنا قتلته؟!
فالسعادة ليست في كأس وغانية!
وليست في مالٍ وجارية!
ولا في المراكب الفارِهة!
ولا في القصور العامِرة!
وإنما هي بطاعة الله جل جلاله.
ويُبين لنا هذا أن من العلماء من وُضِع في السّجن والقيد، فما يزيد على أن يبتسم!
لقد كان يتذوّق طعم السعادة!
ويعتبر السجن خلوة!
والقيد وسام فخر!
يَرى الدنيا بعين مؤمن راضٍ بقضاء الله
يجِد حلاوة الإيمان في قلبه.. ولا سبيل للوصل إلى قلبه!
يُدفع بإمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل إلى السّجن، فما يَردّه ذلك عن مبادئه، ولا يُزحزحه عن مواقفـه، يُضرب بالسِّياط فما يشكو ولا يئِنّ، يَغتسل السّوط في جُرحه فيصدع بما يَكرهون.
لقد مَزَج مرارة الألم بحلاوة الإيمان فطَغَتْ حلاوة الإيمان..
إن بعض الناس يشكو أنه لا يعيش الحياة الطيبة في حين أنه يعمل الأعمال الصالحة، وهو أهنأ ما يكون في عيش وصحّة، وأمن ورخاء.
وهذا ربما تُوجَد عنده صُورة العَمَل، ولا تُوجد حقيقة العمل.
والفَرْق بينهما كما بين الثرى والثريّا
إن الرجلين ربما صَلَّيَا إلى جوار بعض، وبينهما في صلاتهما كما بين المشرق والمغرب!
فَرَجُل قلبه يحوم حول العَرش يُسبِّح بِحَمْدِ ربِّـه
وآخر يحوم حول القاذورات!
قال بعض السلف: إن هذه القلوب جَوّالة؛ فمنها ما يَجُول حول العَرْش، ومنها ما يَجُول حَول الْحُشّ " بيت الخلاء ".
فيا بُعد ما بينهما!
والله لا يستويان لا في الصلاة والأجر، ولا في أثَرِهَا.
فَمَن صلّى بقلبه نَهَتْه صلاته، ورَفَعتْ درجاته، وكفّرت سيئاته.
ومن صلّى بِبَدَنِه أجزأته!
فَمن تعلّق قلبه بالله، ملأه الله غنىً ورضاً وطُمأنينة.
ومن تعلّق بغيره وُكِل إليه "تَعِسَ عَبْدُ الدينار وعَبْدُ الدرهم وعَبْدُ الخميصة".
قال ابن القيم - رحمه الله -:
نَزِّه سماعك إن أردت سماعا *** ذيّاك الغنا عن هـذه الألحانِ
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتحرم *** ذا وذا يـا ذلـة الحرمان
إن اختيارك للسماع النازل الأدنى *** على الأعلى من النقصان
والله إن سماعهم في القلـب *** والـإيمان مثل السـمّ فـي الأبـدان
والله ما انفكّ الذي هـو دأبـه *** أبـداً مـن الإشـراك بالرحمـن
فالقلب بيت الرب جل جلالـه *** حُباً وإخلاصاً مـع الإحسـان
فإذا تعلّـق بالسَّمـاع أصـاره *** عبـداً لكـل فُلانـة وفـلان
حُبّ الكتاب وحب ألحان الغنـا *** في قلب عبـد ليـس يجتمعـان
ثَقُل الكتـاب عليهـم لمـا رأوا *** تقييـده بشـرائـع الإيـمـان
واللهو خـفّ عليهـم لمـا رأوا *** ما فيه من طرب ومـن ألحـان
قوت النفوس وإنما القـرآن قـوت *** القلب أنى يستوي القوتـان؟
وألَذّهُم فيـه أقلّهـم مـن الـ ***ــعقل الصحيح فَسَلْ أخَا العرفان
يا لذّة الفساق لستِ كَلَـذَّةِ *** الـأبـرار فـي عَقْـلٍ ولا قـرآنِ
فإن أردت المكارم فتحمّل المكارِه.
وإن أردت السعادة الأبدية فالزم عَتَبة العبودية.
والله يتولاك.