أبو الفداء
2011-05-06, 10:53 AM
الحمد لله وحده، المتفرد بالخلق والأمر والسلطان، القائل في محكم التنزيل: ((ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)) [الحج : 32] والصلاة والسلام على النبي العدنان، محمد بن عبد الله وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، وثبت على هديهم ونهجهم ما تقلبت به الأمصار والأزمان،
أما بعد،
فقد وقفت على كلام خطير (وإن كان قديما) للدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية في فتوى من فتاواه التي جمعها في كتابه (البيان لما يشغل الأذهان) بشأن قضية تطبيق الشريعة، وهي الفتوى رقم 16 (ج1، ص47)، وهي جواب سؤال نصه: "كيف تطبق الشريعة في العصر الحديث؟ وما هي النسبة التي تمثلها الحدود من مجموع الشريعة الإسلامية؟" وقد انتشرت هذه الفتوى على المنتديات كمقال مستقل تحت عنوان "حقائق حول تطبيق الشريعة والحدود"، رأيت فيه من الشبهة الأصولية ما أعده آية على ما قد يصل إليه العالم من تضييع وتعطيل لشرع الله تعالى بدعوى تطبيق الاستدلال المقاصدي والاستناد إلى "روح الشريعة" ومراعاة تغير الأحوال في الفتيا، وغير ذلك من مسالك كلية هي صحيحة في نفسها لو أحسن الأصولي تنزيلها! ذلك أن الدكتور جمعة - هداه الله - في هذا المقال قد اتخذ من تلك المسالك مطية إلى ما بمثله تنهدم الشريعة كلها، وتضيع سائر شعائرها ومعالمها وأحكامها (كما سيأتي من إلزامات في أثناء هذا الرد)! فانتهى الدكتور إلى تقرير كلام كان ولا يزال هو ومن يوافقونه فيه يسوغون به البقاء على تعطيل الحدود الجنائية لحكام المسلمين في زماننا في كثير من بلاد المسلمين، والرضى باستبدال القانون الوضعي بها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وكفى به مدعاة للحسرة والندامة أن يصبح كلام الفقيه حجة لكل مفسد مبغض لشرع الله تعالى، بل يصبح كلامه تكأةً لكل زنديق يريد الانخلاع من دين رب العالمين، يقول "لقد تغير الزمان ولم تعد تلك الحدود تصلح للإقامة في بلادنا"، نسأل الله السلامة!
وفي الحقيقة فإنما حملني على الرد على هذا المقال أنني رأيته منذ ثلاث سنوات أو يزيد وإلى يومنا هذا لم يقيض الله له من يرده ردا علميا رصينا ينقض بنيانه بالحجة والبرهان، على خطورة ما فيه من شبهة! وقد عاد هذا المقال للظهور والرواج في هذه الأيام لأسباب لا تخفى، ولا يزال الناس في حاجة إلى من يبين لهم وجه الحق ويرد الشبهة، في خضم تلك الحملة الفاحشة في سائر وسائل الإعلام على الشريعة وتطبيق الشريعة وإقامة الحدود الجنائية، والله المستعان لا رب سواه!
يقول الدكتور علي جمعة في مستهل الفتوى أو المقال: "قضية تطبيق الشريعة لا بد أن تفهم بصورة أوسع من قَصرها على تطبيق الحدود العقابيةبإزاء الجرائم، كما هو شائع في الأدبيات المعاصرة، سواء عند المسلمين أو عند غيرهم،حيث إن تطبيق الشريعة له جوانب مختلفة، وله درجات متباينة، وليس من العدل أن نَصفواقعاً ما بأنه لا يطبق الشريعة لمجرد مخالفته لبعض أحكامها في الواقع المعيش، حيثإن هذه المخالفات قد تمت على مدى التاريخ الإٍسلامي وفي كل بلدان المسلمين ودولهمبدرجات مختلفة ومتنوعة، ولم يقل أحد من علماء المسلمين إن هذه البلاد قد خرجت عنربقة الإٍسلام أو إنها لا تطبق الشريعة، بل لا نبعد في القول إذا ادعينا أن كلمةتطبيق الشريعة كلمة حادثة."
قلت، أما قول الدكتور إن قضية تطبيق الشريعة لا يصح أن تقصر على مسألة تطبيق الحدود العقابية وحدها، فلا يُختلف على صحته بالجملة! ولكن لا يخفى على مثل الدكتور أن ما جعل من مسألة الحدود الجنائية محورا لجهود المنافحة عن تطبيق الشريعة عند علماء الأمة من زمان السنهوري باشا وغيره في زمان الخديو إسماعيل وإلى يوم الناس هذا، أنها كانت ولا تزال أظهر ما أسقطه دعاة التغريب في مصر تحت شعار النهضة والرقي الثقافي والحضاري الذي كاد أن يذهب بعقل ودين الخديوي إسماعيل كما لا يخفى على قارئ منصف لتاريخ مصر الحديث! وأقول (قارئ منصف) لأني أعلم أن الدكتور جمعة من أشد الناس دعوة (متبعا في ذلك سلفه محمد عبده وغيره من رؤوس تلك الدعاوى التنويرية) إلى قلب موازين ما اتفق عليه عقلاء الأمة من علماء الأزهر الشريف وغيره من معاقل العلم الشرعي في بلاد المسلمين على أن ما شهدته مصر في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي كان في حقيقته انسلاخا من شريعة الإسلام واستيرادا لشرائع أخرى وافدة أدخلها من أدخلها من دعاة التغريب لانبهارهم بزخرفها ولانهزام نفوسهم بإزاء ما رأوه في تلك البلاد من تطور شاسع في سائر الصناعات والعلوم الدنيوية! كيف يلبس الإنسان المصري المتحضر البدلة والكرافتة في مطلع القرن العشرين، ويركب السيارة ويذهب إلى المسرح ويقرأ فلسفات وأشعار الأمة المتغلبة الرائدة ويسبح بحمد فلاسفتها ومبدعيها في كل المجالات ليل نهار عساه أن يصيبه من نور نهضتها ما ينجو به من تخلفه وجهله، ومع ذلك تظل محاكمه على تشريع يلزمه بأن يحفر حفرة للزاني والزانية يرجمهما حتى الموت، بدعوى الدين والتشريع الديني؟ هذه أشياء يجب أن تزول حتى تستنير بذلك العقول!
هذا هو بيت القصيد وأصل القضية عند من أطلقوها في بلادنا قبل قرابة قرن ونصف من الزمان، وراحوا يلبسونها لبوس التجديد الفقهي ليغتر بها العوام والجهلاء، ويقع فيها بعض من تمكنت الفتنة من نفسه من العلماء والفقهاء! إنه أقرب شيء عرفه تاريخ المسلمين الحديث مثلا إلى صنيع أصحاب السبت من بني إسرائيل ولا حول ولا قوة إلا بالله!
في سلسلة مقالات نشرها الدكتور جمعة في جريدة الأهرام المصرية، وهي الآن منشورة على موقعه الرسمي على الشبكة بعنوان (التجربة المصرية)، ذهب الدكتور هداه الله إلى حدّ لم أر مثله من قبل في المغالطة الاستدلالية للانتصار لما ورثه عمن أسماهم "بآباء القانون المصري"، فكان هجيراه من أول السلسلة إلى آخرها بما حاصله: "لا تكفروا هؤلاء فإنما كان القوم أهل اجتهاد وعلم، وكانوا حريصين على لزوم شريعة الإسلام بما أدخلوا فيها من قوانين مستوردة!" ونقول إن الدكتور بهذا المسلك يصادر على أصل المسألة (وما أخطرها من مسألة!)! فبغض النظر عن حكم إسلام هؤلاء من عدمه، كيف يصوب الدكتور ما صنعوه بهذه السهولة، ليس هذا فحسب، بل يطالبنا بإعادة قراءة تاريخ تلك التجربة حتى تكون مثالا يحتذى في التشريع في سائر بلاد المسلمين، تُتلمس فيه الوسطية بين ما يعده هو من الإفراط وما يراه من التفريط؟ كيف يطمع الدكتور هداه الله في الدفاع عن حال القانون المصرية بما يستند إليه من كون الزمان زمان جهل وشبهة وضرورة، ثم هو في نفس الوقت يدعونا إلى تقرير هذه التجربة وإثباتها بل ونقلها إلى بلاد كالمملكة السعودية وغيرها، مراعاة لروح العصر ولأحوال الزمان وللوسطية المزعومة؟
يقول في مطلع المقال الأول من السلسلة المذكورة: "النموذج المصري نموذج يستحق الدراسة في ماضيه وحاضره ومستقبله، وذلك لأنه نموذج رائد، ولأنه أيضا نموذج فريد، ولأن النماذج التي جاءت من بعده تحتاج إلى إعادة تقويم،"
فهل كان منظرو القانون المصري في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلادي يتحركون من منطلق مراعاة جهل الجاهلين من العوام في ذلك الوقت، وتخلف شروط تطبيق الحدود الجنائية في عموم البلد قياسا على عام الرمادة كما يدعي الدكتور هداه الله ومن ينتصر لهم من سلفه التغريبيين، أم كان الأمر من منطلق إشباع التطلعات الخديوية الواسعة للارتقاء الشامل بالبلاد من خلال الانفتاح التام على أوروبا وما هو معمول به عند الأوروبيين على شتى الأصعدة، ومخالفة الدولة العثمانية والانفصال عن نظامها التشريعي كله تأكيدا لانفصال سيادة أسرة محمد علي باشا عن الباب العالي، والانطلاق في بناء الدولة على النوذج الأوروبي العلماني عوضا عن النموذج العربي الإسلامي؟
إن القارئ المنصف لتاريخ مصر في ذلك الزمان يدري تمام الدراية ويرى بجلاء لا يتطرق إليه الخفاء، أن عامة المصريين كانوا في عافية (بغض النظر عن غلبة الجهل عليهم في علوم الدنيا) مما ابتليت به تلك الحفنة من المفكرين والأدباء "التنويريين" من الافتتان بأضواء فرنسا! وكان التعليم الديني لا يزال هو التعليم السائد في عموم الناس، المطروقة سبيله من نعومة الأظفار، وكان لعلماء الأزهر الشريف صوتهم المسموع في ديار المسلمين، وكان الناس يعظمونهم ويوقرونهم بما هم أهله وينزلونهم منازلهم! ولم يكن للنصارى ثمة صوت في إثارة الشبهات والاعتراضات على الشريعة وما كانوا يجترئون، ولم يكن للعلمانيين "شعبية" ولا حضور أصلا، وإنما كان مهد دعوتهم الغريبة في بلادنا في تلك الأيام على أيدي دعاة التغريب هؤلاء! وكان العُبَّاد والزهاد (بل والمتصوفة الذين يدين الدكتور بصدق ولايتهم لله تعالى وصحة مسلكهم إليه إجمالا) شتى في صفوف المصريين يومئذ تراهم في كل مكان! فهل كان هؤلاء في تلك الأيام، في زمان تفتقد فيه شهادة العدول وتسقط معه شرائط الحدود هكذا جملة واحدة؟ سبحانك ربي هذا بهتان عظيم!
لقد كانت الحدود الجنائية هي التشريع المعتمد في باب العقوبات في مصر، بما في ذلك الباب من تعزيرات وعقوبات شرعية أخرى تجري على وفق أحكام الشرع على مذاهب أهل السنة في ذلك، وبما فيه من أحكام وضوابط لحالة الضرورة لم تكن أبدا لتلجئ أئمة المسلمين على امتداد قرون الأمة المتطاولة إلى الأخذ عن تشريعات الأوروبيين أو غيرهم في تلك الحال المعنية أو غيرها! وما قال أحد من علماء البلاد إن تخلف شروط الحدود الجنائية – مهما طال أمده في البلاد - يسوغ لنا حذفها من المرجعية القضائية نفسها ووضع غيرها من الشرائع والقوانين المستوردة في مكانها!
هكذا كان الحال في أرض الكنانة إلى أن خرج عليها محمد علي باشا وأولاده (لا سيما إسماعيل) وسدنتهم من المنظرين بمطلبهم الشيطاني الأثيم، وانبرى "آباء القانون الجنائي" في اختراع الحجج الكلامية التي تنتقض بها تلك الأحكام ويُتحايل بها على تعطيلها، لعلنا "نبرأ" من تلك الخصال التي رمانا المستشرقون الأوروبيون بالتخلف بسببها، وحكم علينا مفكروهم بسببها بأننا لا رجاء لنا في الرقي والتطور والنهضة إلا بإسقاط تلك الأحكام "الشنيعة"، وبإذابة سلطان الفقهاء والعلماء الشرعيين على العملية القضائية نفسها، كما كان صنيع الليبراليين الأوروبيين الذين اتخذهم أئمة التنوير في مصر يومئذ سادة لهم وأئمة! ومن أراد الوقوف على مواقف علماء الأزهر وقطاعات من المصريين معهم في مقاومة تلك الدعاوى في ذلك الوقت فسيجد ذلك في مظانه ولن يعدمه!
لذا فلا عبرة بمن كان وقوعه في تلك الفتنة يومئذ من خطإ في الاجتهاد، كما قد يقع العالم المنضبط في عموم أمره ومنهجه في موافقة المبتدعة والضلال فلا يلحق بهم حكما! فلا قيمة في ميزان العلم لاستناد الدكتور في انتصاره لتلك المصيبة التي يدافع عنها إلى العلامة فلان والشيخ فلان من مشايخ ذلك الزمان! ولو كان صادقا لساق موقف الأكثرية لا تلك الأقلية الشاذة، ما دام لا يجد من الأدلة العلمية ما يقيم به دعواه سوى القول بأن هؤلاء قوم لا يساء الظن في نواياهم ولا يتواطؤون على مفسدة! فإن قال لسنا في مقام استدلال وإنما في مقام استئناس، فدع عنك أننا لم نر الدليل في شيء مما كتب في هذه المسألة إلى الآن، فإن العدل والإنصاف والتجرد الذي يطالبنا به يفرض عليه ويقتضي منه أن يسوق الصورة التاريخية للنزاع العلمي الذي جرى في تلك الأيام سياقا كاملا لا على هذا الوجه الانتقائي العوير! وسيأتي معنا في سياق هذا الرد المستفيض بيان أوجه المغالطات الاستدلالية في كلام الدكتور هداه الله كلُّ في محله!
تأمل أيها القارئ الكريم قول الدكتور هداه الله في مقاله (التجربة المصرية (2)) تعقيبا على صنيع السنهوري باشا في وضعه لقانون الجنايات المصري:
" وتوجهه هذا لاقى معارضة شديدة من كثير من علماء الأزهر الشريف، خاصة أصحاب الدراسات القانونية في السربون، ولعل أعظمهم هو عبد الله حسين التيدي الذي ألف كتابًا تحت عنوان (المقارنات التشريعية) في أربع مجلدات أصدرناه أيضا من دار السلام، لتتم هذه المجموعة لدراسة التجربة المصرية، وهو يعارض منهج السنهوري باشا، ويرد عليه، لكن أبدًا لم يكفره، بل اعتبره متبنيًا لنموذج معرفي آخر، مع بقاء نموذجنا المعرفي قادرا على العطاء، ومن الغريب أن لجنة مراجعة مشروع السنهوري باشا، والذي صار بعد ذلك هو القانون المدني المصري لم يكن فيها أحد من أولئك المعارضين." اهـ.
قلت تأمل قوله بأن المعارضين كان كثير منهم من دارسي القانون في السربون، يتكلم وكأنما يحدثنا عن قوم درسوا علوم الذرة في جامعات أوروبا ورجعوا إلينا بالقنبلة الذرية، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهذا غير صحيح، بل كانت قاعدة المعارضة ممثلة بالأساس في علماء الشرع الربانيين من سادة الأزهر الشريف ورجالاته، رحمهم الله جميعا، وهو يدري ذلك الأمر جيدا ويشهد به في غير هذا الموضع! فهل غاية ما يريده الدكتور مما كتب في تلك السلسلة، الدفاع عن السنهوري باشا ضد من حكموا بكفره وردته؟ فإن لم يكن كذلك، فأين الأدلة العلمية على صحة ما صنع الرجل ومن عاصروه وواطنوه ومن تابعوه من بعده؟ وكيف يصر على الدفاع عن هؤلاء الآباء القانونيين وهو يشهد بلسانه بأن لجنة مراجعة "المشروع السنهوري" لم يكن فيها أحد من أولئك المعارضين (الذين هم الكافة من علماء الأزهر ومشايخه يومئذ إلا من شذّ منهم وبَعُد)؟
لهذا نبه وحذر العلماء الربانيون في المملكة – حفظها الله تعالى – من خطورة دعوى تقنين الشريعة (على النسق الأوروبي في وضع مواد القانون والأحكام القانونية) بما يفوت على المفتي والقاضي الشرعي حقه – بل واجبه - في تغيير اجتهاده من حالة إلى أخرى وفق ما تؤديه إليه القرائن والأحوال منضبطا في ذلك بأصول مذهبه القديم أو الجديد إن ترجح لديه تغييره، ويفتح الباب لتلاعب فلاسفة القانون الوضعي بنظام القضاء الإسلامي المتبع في البلاد تمهيدا لإقصاء الشريعة عن القضاء (كما عن سائر السلطات وعن مطلق السيادة في البلاد) على خطوات!
فالسؤال الآن: أي عموم لضرورة أو جهل أو فساد هذا الذي يتذرع به الدكتور وآباؤه الذين يقلدهم في ذلك؟ وعلى التسليم – تنزلا - بأن الزمان كان زمان شبهة (وسيأتي التفصيل في أمر هذا الاصطلاح في محله)، فكيف يستوي من درأ الحد الشرعي لقيام الشبهة وتخلف الشروط في هذه الحالة أو تلك عند من يفقه دين الله تعالى، بمن نسخ تشريع الحدود نفسه رأسا ووضع قانونا بشريا في مكانه؟ هل يستوي التعطيل العارض المشروط (وفق ضوابط شريعة ما)، بالتبديل (الانتقال الدائم إلى شريعة أخرى)؟ وهل هذا ما صنعه عمر رضي الله عنه، الذي يزعم القوم أنه سلفهم في تبديل الحدود؟ هل انبرى عمر والصحابة بعد عام الرمادة يدعون الناس للبقاء على الجهل والشبهة، يجعلون في مكان الحدود الشرعية قوانين فلاسفة التشريع من الكفار؟ بالله كيف يستساغ اجتهاد كهذا ويقال إن صاحبه يدور بين الأجر والأجرين، وأن أصاحبه كانوا يضعون الحفاظ على الشريعة نصب أعينهم؟ نعوذ بالله من الخذلان!
إن الدكتور هداه الله يستهل سلسلته المذكورة بجملة من التساؤلات التي حاصلها "كيف نكون بلدا متحضرا متقدما يواكب العصر؟"، وذلك في معرض التمهيد لإقناع القارئ بنفس الشبهة التي يبثها العلمانيون والملاحدة من كون تلك الأحكام الجنائية وغيرها مما أطبق عليه المسلمون على امتداد تاريخهم وكان معمولا بها في شتى أقطار الأمة من زمان الوحي وإلى وقت قريب، هي السبب في التخلف وتحجر الفكر الذي ابتلينا به في قروننا المتأخرة، إذ لم تعد تلك التشريعات تصلح لاستيعاب المستجدات العلمية والفكرية الوافرة التي صارت تنهال على رؤوسنا كالمطر! إنه لمما يؤسَف له حقا، أن أجدني مضطرا إلى كتابة ما سأكتبه الآن، في الرد على مثل الدكتور علي جمعة هداه الله!
فإنه لا يسعني ولا يسع أي عاقل يعظم شعائر الله تعالى وحدوده، وهو يقرأ كلام الدكتور إلا أن يتساءل: ما العلاقة – أصلا – بين التشريع الجنائي الذي شرعه الله تعالى وبقيت عليه الأمة قرونا طويلة، وبين التطور في الانترنت والصناعات المختلفة، والانفتاح على ما عند "الآخر" من علوم ومعارف نافعة، وما عنده من تطور في سائر الصناعات والأنظمة الإدارية وغيرها مما سبقنا فيه الغرب؟ الجهة منفكة أصلا بين القضيتين! بل لو قال قائل إن استقرار المجتمع وفشو الأمن فيه (الذي يسهم فيه ولا شك تطبيق نظام رادع للعقوبات لا تهاون فيه، يؤمن المسلمون بأنه لا شيء يعلو عليه في باب الردع وحفظ الأمن) يفضي ولابد إلى خلق بيئة اجتماعية حاضنة للرقي العلمي والفكري، تعين المبدعين على بذل مساعي الرقي والإبداع في كل ما هو نافع ومفيد = لكان قوله هذا مما تدعمه الفطرة السوية وتدل عليه بداهة العقل بما يغني عن الاستدلال لإثباته!
فلا نحتاج إلى أن نوقف الدكتور أصلحه الله – كما نوقف العلمانيين والملاحدة – على الدليل التاريخي الذي يبرهن لرقي بلاد المسلمين في علوم الدنيا في عصور كانت أوروبا فيها تتمحض في الجهل والانحطاط، وكانت السيادة القضائية في بلادنا تامة مطلقة للشريعة الإسلامية دون عبث من فلاسفة التغريب والحداثيين وغيرهم ولا تطرق لشبهة كهذه أصلا! لذا فإنه من العجيب حقا – بل من المضحك المبكي - أن يشير الدكتور جمعة في سياق مقاله المذكور إلى أن بعض أقسام القانون الوضعي المأخوذ من أوروبا يقال إن أصله كان مأخذوا عن المذهب المالكي الذي كان شائعا في بلاد الأندلس!
تأمل قوله هداه الله في المقال الثاني من السلسلة يصف صنيع الخديوي إسماعيل في سعيه للتلفيق بين شريعة الإسلام والقانون الفرنسي:
" وكان حريصًا على إيجاد علاقة بين القانون الفرنسي المأخوذ أساسًا من تشريعات لويس، والتي قيل إنها تأثرت بالفقه المالكي عبر الأندلس،" قلت كيف رضي الدكتور جمعة لنا بأن نترك الأصل المجمع عليه لدى الفقهاء والأئمة ونرضى ببضاعة مزجاة من وضع قوم كفار "قيل" – وتأمل - إنهم تأثروا فيها بفقه المسلمين وتشريعهم؟ أهذا ما به يستدل على صحة مسلك الخديوي ورجاله فيما أرادوا وما صنعوا؟ يا له من خُلف يحار فيه العقلاء!
إن الخلط والتلبيس في هذا الكلام إنما مرجعه بالأساس إلى المساواة النظرية المفتعلة بين قضيتين كليتين لا تستويان بحال، كلتاهما يضعهما الدكتور ومن وافقه في كفة التجديد في أصول الفقه وفي علوم الشريعة بعموم! أما القضية الأولى فحقيقة نشهد بها ونتفق مع دعاة التجديد الفقهي من العلماء والعقلاء في ضرورة النظر فيها وبذل الجهد لاستنباط أحكام الشرع فيها (وإن شئت فقل: التجديد فيها) تأصيلا وتفريعا، ألا وهي قضية ظهور الحاجة إلى الاجتهاد بما يغطي كثيرا من المستجدات والنوازل الإدارية والسياسية المعاصرة فيحقق لبلاد المسلمين أحسن ما يمكن أن يكون من استفادة بما ينفعهم مما ابتكرته عقول معاصريهم في الغرب من نظم معقدة ومتراكبة تخدم مصالح مشروعة لدينا بالجملة. ومثالها الاجتهاد في قضية حقوق الملكية الفكرية وما تحتها من تشعبات كثيرة، والاجتهاد في قضية خصوصية المعلومات على شبكة الانترنت وسائر ما يتعلق بتلك الشبكة من نوازل ومستجدات، لها ما وضعه الغربيون من قوانين تنظمها عندهم! ومن ذلك النظر الفقهي الدقيق فيما يسمى بوثيقة آداب وأخلاقيات المهنة التي يضعها المختصون في سائر المهن والفنون العلمية والعملية الحديثة في بلادنا تقليدا للغرب دون مرجعية شرعية تذكر مع أن كثيرا منها يحتاج إلى لجان علمية متعددة التخصصات من كبار الفقهاء وكبار العلماء في كل مجال من تلك المجالات، فإن فيها مسائل حادثة دقيقة لو عرضت على كبار الصحابة لتهيبوا من الإفتاء فيها، ولجمع لها عمرٌ أهل بدر! ومنها النظر بميزان الشريعة في نظريات علماء الجريمة المعاصرة وعلماء الاجتماع وعلم النفس وعلم الجغرافيا وغيرها من العلوم الإنسانية لجلب ما ينفع منها، والحث على الزيادة عليه وتحسينه بما يرجع بالمنفعة على البشرية ككل، لا على الأمة وحدها! ومن ذلك النظر في كيفية تحقيق المنفعة المتبادلة والمصلحة المشتركة بيننا وبين دول الغرب عند اختلافنا معهم في بعض ما شرعوا في ذلك وغيره (لا سيما ما كان منه قانونا دوليا تدخل الدول تحته بموجب الاتفاقت الدولية الشاملة) لأسباب تمليها علينا شريعتنا وثوابتنا.. والأمثلة كثير.
نعم نشهد جميعا بأن المكتبة الفقهية والأصولية المعاصرة تعاني من نقص واضح وكبير في مجمل تلك الأبواب ولا شك. ولكن هذه القضية كلها عندنا في كفة ونصاب، ومسألة نسخ الشرائع الجنائية وبعض أحكام الأحوال الشخصية بالقانون الوضعي الغربي بدعوى أن تلك النوازل والمستجدات جميعا تلزمنا بإعادة النظر في تلك التشريعات جريا على تحقيق المقاصد الشرعية الكبرى، هذه قضية أخرى مختلفة تمام الاختلاف، فلا يردان على مورد واحد إلا عند صاحب هوى أو شبهة! وما ضاع حكم الشريعة في بلاد المسلمين في هذا الزمان إلا من الخلط بين هاتين القضيتين وجعلهما في بابة واحدة! فأكرر لفت انتباه القارئ الفطن في هذا المقام إلى اضطراب وتناقض مأخذ الدكتور جمعة هداه الله فيما ينتصر له! فهل يريد البقاء على إعمال القانون الوضعي في مكان حدود الشريعة في الجنايات وغيرها لأنه يرى أننا لن نستوعب جديد العلوم ومستحدثها ولن نتقدم ولن نتعاون مع دول العالم المعاصر فيما فيه خيرنا وخيرهم إلا بهذا؟ أم أنه يريد البقاء على ذلك لأنه يرانا في غلبة جهالة وانخرام عدالة وعموم شبهة وزمان ضرورة.. الخ؟ أم أن الأمرين سواء عنده؟
المسألة إنما انقدح زنادها أول الأمر في القصر الخيديوي، ثم عُرض الأمر على بعض المنتسبين إلى العلوم الشرعية والقضاء في ذلك الوقت من المقربين إلى القصر، ليبحثوا عن مخرج شرعي لتسويغها، فجاء الطلب على هوى أصحاب الأصول العقلية الاعتزالية منهم وقتئذ وعلى وفق ما استحسنوه من قراءاتهم في مصنفات الفلاسفة الأوروبيين، فجرى قلم التاريخ بما كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذا أمر جلي لا يماري فيه إلا مماحك! وإلا فلماذا كان الخديوي إسماعيل حريصا – على حد كلام الدكتور - على إيجاد علاقة بين القانون الفرنساوي وشريعة المسلمين، وما وجه هذا الحرص عنده وهو العامي الجاهل، وما محركه؟ وأي حجة تكون لعاقل من المسلمين في أن استبدال القانون الفرنسي بالحدود الجنائية الشرعية خير وأرجى لتحقق مقاصد النهضة الشاملة التي كان يحلم بها إسماعيل، وكيف طاوعه من طاوعه من المتفقهة في ذلك؟ إنه صنيع قلوب قد أشربت بشبهات المستشرقين وفلاسفة التنوير! إنه الهوى المحض.. نعوذ بالله من غلبته على قلوب الخلائق!
لذا فإن الأصوليين من أهل السنة والحديث يقولون: إذا كان يصح أن تحدث نوازل تلجئ المسلمين إلى استنباط أحكام جديدة من الأقيسة والقواعد الكلية للشريعة، ويصح أن الأحكام تتقلب مع العلل وشروط الوضع والتنزيل وجودا وعدما، فإنه ليس يُتصور في الوجود حدوث نازلة أصولية أيا ما كانت، تجيز للناظر فيها أن ينسخ الحدود الجنائية جملة واحدة ليضع في مكانها قانونا جنائيا مأخوذا من هنا أو هناك! فإنه لو صح هذا، لكان لازمه أن الشريعة ناقصة وأنها ألجأت المسلمين إلى استبدال شرائع الكفار بها أو ببعضها! لذا نقول إن هذا الاستبدال الذي جرى على تلك الشرائع، واستقر عليه الأمر في التشريع منذ وقوعه إلى يوم الناس هذا وإلى أجل غير مسمى، هذا نسخ في الحقيقة وليس إرجاءً لتلك الأحكام لتخلف شروطها، وليس هو تعليقا عارضا مشروطا بتغير أحوال المسلمين كما يدعي من أحدثوه! وإلا فأين هو ذا القيد الذي قيد القوم به ذلك التبديل، ومتى يتصورون أن يكون رجوعهم إلى إقامة الحدود في البلاد ونبذ تلك القوانين الوضعية التي جعلوها في مكانها؟ إن مضى التاريخ بنا إلى الماضي لا إلى المستقبل يوما ما، فرجعنا بذلك إلى زمان الخلافة العثمانية أو ما قبلها؟ هذا ما نأخذه من كلام الدكتور وموافقيه في التذرع بمطلق مستجدات الزمان (هكذا بلا تفصيل ولا بيان)! فلا قيد ثمّ ولا شرط!
بل إن هذا التبديل ناقض لنفس قاعدة دوران الحكم مع العلة، فهو يبطل التعليل كما لا يخفى! فإن كان عمر قد حكم بتخلف الحكم لتخلف العلة في تلك الفترة التي أسقط فيها حد السرقة، لقيام ضرورة السرقة لحفظ النفس عند الناس، فإنه لم ينسخ ذلك التشريع نفسه، بخلاف ما صنعه هؤلاء، حيث جعلوا العلة مفضية إلى حكم آخر بخلاف ما جاء به الشرع سواء في الحدود أو التعزيرات، بل إنهم بدلوا العلل نفسها بموجب تلك القوانين التي استوردوها، فلا بقيت العلة علة شرعية بذلك ولا الحكم حكما شرعيا! فلو كان الأمر تعطيلا للحد لتخلف شرط إثباته كما يقولون (لوجود الشبهة)، للزمهم سقوط مطلق العقوبة كما صنع عمر! أما وقد اتخذوا عقوبة أخرى بشروط أخرى للإثبات، فهذا تشريع ناسخ لشريعة الحدود! وإلا فإن لم يكن هذا نسخا في التشريع فما النسخ إذن؟ هذا نسخ واضح لا التباس فيه، وليس إجراءً للقواعد الكلية العامة التي أعملها الفقهاء طوال قرون الأمة عند تغير الأحوال وتخلف العلل والشروط الشرعية!
أما قول الدكتور: " بل لا نبعد في القول إذا ادعينا أن كلمةتطبيق الشريعة كلمة حادثة"
فأقول نعم هي حادثة، فكان ماذا؟ العبرة بالمعنى المراد من الاصطلاح الحادث! والمراد به هنا قيام ولاة الأمر بتفعيل المرجعية الشرعية الصحيحة وتفعيل أحكام الشرع في سائر أبواب الحكم والقضاء بلا تفريق، بخلاف أولئك الذين يحكمون بشريعة مختلطة! هذا هو الأصل في كل حاكم مسلم! فلولا أن صارت أكثر بلاد المسلمين إلى خلاف هذا الأصل لما اضطررنا إلى تسمية البلدان الباقية على الأصل بأنها (تطبق الشريعة)! تماما كما اضطررنا إلى استحداث مصطلح (ملتحي) لوصف كل رجل باق على أصل خلقته وأصل ما هو مشروع في شعر الوجه للرجال أنه يعفى ولا يحلق، حينما غلبت على المسلمين عادة حلق اللحية! وكما اضطررنا من قبل ذلك بقرون لسبك مصطلح (أهل السنة والجماعة) لتمييز من بقي على الأصل من علماء المسلمين وعامتهم عند دعوى الحاجة الشرعية إلى ذلك، ممن فارق الجماعة واتبع السبل، وهكذا. وما دام الأمر على الاصطلاح، فإنه لا أحد ممن يستعملون هذا الاصطلاح، يدعي أن البلاد التي نُسخ ما نسخ فيها من شرائع الإسلام قد نسخت فيها الشريعة كلها في كل مستوياتها وأبوابها! ولكن في نفس الوقت فإنه لا يستوي هذا النسخ كما أسلفنا بما يدعي الدكتور أنه من السوابق التي مرت بها بلدان المسلمين مرارا دون أن يستنكرها أهل العلم! وإلا فهلا سمى لنا الدكتور حالة واحدة سبق فيها نسخ العقوبات الإسلامية (رفعها واتخاذ قانون وضعي مستورد في مكانها) بدعوى الضرورة وموافقة متطلبات العصر، خلال ثنتي عشر قرنا خلت من عمر الأمة قبل صنيع هؤلاء "التنويريين"؟!
هذه الشبهة التي يسوغون بها تبديل شريعة رب العالمين لم تُعرف في تاريخ الأمة إلا في هذين القرنين الآخرين! ذلك أنها لم تظهر إلا على أيدي قوم أكل الهوان والخذلان قلوبهم بإزاء اتهامات الأوروبيين في تفسيرهم للفجوة الحضارية الواسعة التي نشأت فيما بيننا وبينهم خلال تلك القرون المتأخرة! فصار الواحد منهم يكاد يصرح بقوله: إن أوروبا لم تنهض حتى فصلت بين سلطان الدين وسلطان الدولة، فهكذا نصنع عندنا كذلك ولابد! ولنعِد النظر في تلك الشرائع التي يستشنعها سادة النهضة الأوروبية (لا سيما الحدود الجنائية)، لعلها لم تعد تناسب زماننا كما يقولون، فعسانا نجد في الشرع مخرجا لإسقاطها! ففي أي قرن من قرون الأمة عُرف هذا الانحطاط الفكري في أمتنا قبل "التنوير" الأوروبي؟
يقول الدكتور جمعة في مقاله الأول من سلسلته الموسومة (التجربة المصرية):
"اتجه محمد علي باشا إلى بناء الدولة العصرية الحديثة في مصر، وهي دولة حاولت أن تستقل عن أشخاصها بقدر الإمكان، والاستقلال بين الدولة وأشخاصها يتم عن طريق المؤسسات، ويتم عن طريق النظام، ويتم عن طريق الدستور، ويتم عن طريق التقنين، ويتم عن طريق الفصل بين السلطات، ونحو ذلك. والديمقراطية بالأساس مبنية على المساواة بين المواطنين، وأن فكرة المواطنة وليس فكرة الرعايا هي التي تسود في دولة ما، والمساواة هنا تشمل المساواة في الحقوق وفي الواجبات، وتشمل عدم الاستثناء من القانون أو التمييز العنصري، وكلما تحقق ذلك كانت الدولة أقرب إلى تحقيق الديمقراطية. والليبرالية تعني احترام الحريات، حرية العقيدة، حرية الانتقال، حرية العمل، الحرية السياسية، والتي هي بالأساس مبناها التعددية، ومبناها التمثيل الشعبي. ثم بعد ذلك تأتي النظم والتنظيمات التفصيلية التي قد تختلف من بلد إلى آخر طبقا للتجربة التاريخية، وطبقا لما يمكن أن نسميه بالثقافة السائدة، والتي لا يجوز الخروج عنها إلا بقدر تحقيق المصلحة، لأن الخروج عن الثقافة السائدة –خاصة في صورة طفرات- يؤدي إلى ضياع المصالح وإلى اضطرابات، أكثر ما يؤدي إلى تحقيق المصالح والمقاصد لشعب ما." اهـ.
قلت فليتأمل القارئ في هذا الكلام مليا وليخبرني كل فطن ذو بصيرة وعلم، هل هذا كلام فقيه أصولي، أم هو كلام فيلسوف من فلاسفة التنوير الأوروبيين في القرن التاسع عشر؟ لا يقولنّ قائل إن العبرة بمفهوم الكلام ولا مشاحة على من يستعمل مصطلحا من غير صنعة الفقه وأصوله، فإنما عن المفهوم أتكلم!! ما معنى أن "تستقل الدولة عن أشخاصها"؟ إن قلنا إن المراد منه ضبط أمر السلطان فيها بما يحفظ للرعية مصلحتها ولا يجعلهم عبيدا عند حاكم مستبدّ (مثلا)، أليس مثل هذا المقصد مما يطلب النظر في آليات تحققه في معاقد فقه السياسة الشرعية الذي توارثه المسلمون على اعتقاد مسبق بأنه لا يمكن أن يكون أمر بهذه الخطورة قد تركه الشارع بلا إحكام عندنا؟؟ أم أننا نضطر لأجل تحقيقه إلى طلب ذلك من شرائع الثورة الفرنسية؟ ما وجه قوله إن هذا المقصد يتحقق من خلال المؤسسات (أي مؤسسات وما نوعها؟)، وعن طريق النظام (أي نظام؟؟)، وعن طريق الدستور (دستور من؟؟)، وعن طريق التقنين (أي تقنين؟؟) والفصل بين السلطات ونحو ذلك؟؟ أحقا يرى الدكتور أن المسلمين لم يعرفوا في تاريخهم تحقيقا لهذا المقصد البتة، حتى جاء الفيسلوف التنويري الأوروبي ليصلح لهم ميزان الإمامة والسلطان بهذه الأشياء التي ذكرها الدكتور (ونحوها)؟! وهل نحن الآن نتكلم في وسائل مباحة تدخل تحت باب المصالح المرسلة في خدمة غايات مفصلة لتحقيق ذلك المقصد الكلي، أصلها (أي تلك الغايات أو الآليات) متقرر في شريعتنا بما تتحقق به الكفاية، أم أننا نتكلم عن غايات أو آليات مستوردة بكليتها (بما تحتها من وسائل تخدمها) فلا سند لها في شريعتنا أصلا؟ هذا وجه من النظر الكلي دقيق لا يغفل عنه أصولي ذو مكنة من صنعته! ولذلك أقول لو كان المتكلم بهذا الكلام عاميا من جهال الصحافة أو علمانيا من متثقفة الإعلام لهان الأمر ولكن المتكلم أستاذ في أصول الفقه، يتقلد منصب مفتي الديار في بلد من كبرى بلاد المسلمين، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله!
تامل قوله "الديمقراطية مبنية بالأساس على المساواة بين المواطنين"! فهل في شريعة رب العالمين هذه المساواة التامة بين "المواطنين"؟ هل في شريعة رب العالمين قلب مفهوم الرعية إلى مفهوم المواطنة على نحو ما يقرر الدكتور؟ يقول هداه الله: "، والمساواة هنا تشمل المساواة في الحقوق وفي الواجبات، وتشمل عدم الاستثناء من القانون أو التمييز العنصري، وكلما تحقق ذلك كانت الدولة أقرب إلى تحقيق الديمقراطية" فهو إذن يطالبنا بمساواة تامة بين الرعايا في الحقوق والواجبات، فهل يغفل فضيلة الدكتور ما يؤدي إليه قوله ذاك من هدم لأبواب كاملة في فقه المسلمين هي محل إجماع مستقر لا يتطرق إليه النزاع؟ هل حقا يطالبنا بالاستغراق في الديمقراطية والليبرالية والخضوع "للثقافة السائدة" لمجرد أنها سائدة ولأن "الخروج عليها" لا يتسبب إلا في ضياع المصالح (لشعب) ما؟؟ أحقا هذه الإطلاقات والمجملات قد كتبها أستاذ في علوم الشريعة؟ أفبدلا من أن نعمل على إصلاح الأمة وتغيير الواقع (بالطرق المشروعة) للوصول به إلى وفاق ما شرع الله تعالى للمسلمين، نعمل على تغيير الشرع نفسه ليصبح على وفق "الثقافة السائدة" وليكون عند الغاية في الديمقراطية والليبرالية؟؟ أهذا ما يدعونا إليه الدكتور؟
ما أقول إلا "إنا لله وإنا إليه راجعون"!
وينتقل بنا الدكتور في مقاله أو فتواه المعنونة (حقائق حول تطبيق الشريعة) إلى جملة من النقاط يصفها بأنها حقائق، فيقول:
"أن الشريعة تعني ما يتعلق بالعقائد والرؤية الكلية من أن هذا الكون مخلوق لخالق، وأن الإنسان مكلف بأحكام شرعية تصف أفعاله، وأن هذا التكليف قد نشأ من قبيل الوحي، وأن الله أرسل به الرسل وأنزل الكتب، ويوم آخر للحساب وللثواب والعقاب، كما أنها تشتمل على الفقه الذي يضبط حركة السلوك الفردي والجماعي والاجتماعي، وتشتمل أيضا على منظومة من الأخلاق وطرق التربية ومناهج التفكير والتعامل مع الوحي قرآناً وسنة، ومع الواقع مهما تغير أو تبدل أو تعقد." اهـ.
قلت من العجب حقا أن يشاححنا الدكتور في استعمالنا لمصطلح تطبيق الشريعة على قوله إنه لا سابقة له في تاريخ الأمة، ثم يأتينا الآن بمعني اصطلاحي لكلمة الشريعة هو يدري أنه ليس ما يقصده المتكلمون بهذه الكلمة في سياق الإنكار عليه وعلى من يوافقونه! ذلك أن مصطلح الشريعة كمصطلح السنة سواء بسواء، يطلق أحيانا ويراد به المعنى العام الذي يشمل العقائد والأصول الكلية كما يشمل الفرعيات والتشريعات العملية، ويطلق في سياقات أخرى ويراد به المعنى الخاص، فيقال السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد كتاب الله تعالى، وهي كل ما أُثر من قول أو فعل أو تقرير للنبي عليه السلام، وكذلك يقال الشريعة هي فقه الأحكام التكليفية الخمسة المستنبطة من مصادر التشريع في الإسلام. وهذا الاصطلاح الأخير هو المراد بقولنا إنهم يعطلون شريعة الله تعالى ويبدلونها، فبغض النظر عن اصطلاحات كل من الأصوليين والفقهاء وعلماء التوحيد والفلاسفة والمتكلمين فإن مرادنا واضح معروف، ولا ينطلي على حدث من الأحداث في طلب العلم هذا التنقل بين المعاني الاصطلاحية في مدافعة الاتهام بتعطيل الشريعة، والله الهادي!
ونقول نعم ولا شك الإسلام (أو إن شئت فقل الشريعة) تشمل كل ما ذكر الدكتور، وهي كذلك وستظل كذلك مهما تغير الزمان ومهما تبدل الواقع أو تعقد، ولكنهم بدلوها (في شطر منها) مع ذلك التبدل في الواقع على طريقة لا سلف لهم فيها ولا حجة! فما أعظمه من فرق بين أن يتخلف الحكم في جملة كبيرة من القضايا بحد من الحدود أو حكم من الأحكام الشرعية إعمالا لقواعد الشريعة العامة في ذلك، وبين أن تعطل الشريعة كلها في باب من أبواب الأحكام ويؤتى في مكانها بقانون وضعي!! كيف يستوي المسلكان عند فقيه يدري ما يقول؟ ولو أن قاضيا اليوم اجتهد في قضية من القضايا ورأى أن شروط إقامة حد من الحدود الشرعية قد تحققت فيها، أفيسمحون له بذلك؟ امرأة زنت – على سبيل المثال – ولاعنها زوجها، أو أتى بأربعة من الشهود العدول (المتوفرة فيهم شروط الشهادة)، فأراد القاضي أن يحكم فيها بحكم الله تعالى، فبأي سلطان يمنعونه؟ ما حجتهم وقد اجتهد القاضي وأداه نظره إلى تحقق الشروط وانتفاء الموانع وانتفاء الشبهة في تلك الحالة؟ وبأي شرع يوجبون عليه النزول عن ذلك والخضوع لقانون الجنايات المدني؟ وما بال الرجل والمرأة غير المحصنين إن تواقعا برضاهما (وهما يعلمان أنه زنى في شريعة ربهم وأن العقوبة لاحقة بهما ولابد)، بأي حجة يمنع القاضي من الحكم عليهما بشيء؟ وما بال الزوج يزني في غير "منزل الزوجية"، وتثبت عليه التهمة بالبينة القطعية، كيف يمنع القاضي من تجريمه بذلك؟ بل ما بال الزوج يزني بامرأة أخرى برضا زوجته وفي بيتها وتحت أنفها؟ ألا يكون زانيا بذلك؟ وهل أمثال هذه التفاصيل في التشريع المنقولة بتصرفات يسيرة عن القانون الفرنسي، يقال إن الحامل على البقاء عليها الضرورة وزمان الشبهة؟؟ سبحانك ربي هذا بهتان عظيم!
فإلى متى إذن يبقى هذا الاضطرار المزعوم وما منتهاه؟ أن يرضى الفرنسيون وغيرهم بشريعة الإسلام في العقوبات فنرضى نحن بها تبعا؟ أهو من خوفنا على مشاعر النصارى والعلمانيين والملاحدة، وكأنما هبط علينا النصارى والزنادقة من السماء في هذين القرنين الآخرين ولم يكونوا هم وغيرهم شركاء لنا في هذا الوطن تحت حكم شريعتنا طوال بضعة عشر قرنا من الزمان؟ أم من خوفنا من إلحاق أمريكا بلادنا بطالبان وأفغانستان بمجرد ذلك، واتهامها إيانا بأننا نخرم قاعدة من قواعد "حقوق الإنسان"؟ أمم الكفار خرجت تقول إن الإنسان من حقه كذا وكذا، ونحن لدينا شريعة من رب العالمين تقول إن هذا ليس من حق "الإنسان" في شيء، فكيف يقال إن شريعتنا نفسها تبيح لنا النزول عنها في ذلك والخضوع لهذا الإفك والجهل المبين بدعوى الضرورة؟ ما هي الضرورة وما حدها وما ضابطها معاشر الفقهاء النبهاء؟
قالوا لنا هذا التشريع عندكم يخالف حقوق الإنسان، فقلنا لهم نحن قوم مسلمون نؤمن بأن الله الذي خلقنا هو أدرى منا ومنكم بما يصلح الإنسان وما يفسده، وبأنه وحده الذي يملك الحق في منح الحقوق وفرض الواجبات على خلق الله جميعا، فاختلفنا معهم في ذلك والتزمنا شريعتنا ولم نجبرهم على لزوم قولنا فيما يشرعون لرعاياهم من الشرائع (بالنظر إلى فقه الضرورة)، فكان ماذا؟ أهذا موقف نلحق بسببه بتنظيم القاعدة (مثلا)، ونتهم بالإرهاب والتطرف، أو نتهم بأننا نظلم رعايانا من المسلمين وغيرهم بذلك؟ وليكن أنهم اتهمونا بذلك، فكان ماذا؟ ألا تنصحون ولي الأمر بأن ينصب من علماء البلاد وفقهائها جبهة فكرية لدفع تلك الشبهة وسباكة الجواب العلمي والعقلي عنها في خطاب رسمي محكم يوجه إلى أصحاب التهمة والشبهة، كل منهم بما يليق به؟ أفبدلا من النصح لهم والأخذ بأيديهم إلى إصابة مقاصد الإسلام العليا، يكون العمل على تزيين تلك الحال المنحطة وزخرفتها لهم، وجعل "التجربة المصرية" في التشريع الجنائي مثالا يحتذى في بلاد المسلمين؟ ألا تدافعون الضرورة والشبهة مع المدافعين نصحا لله ورسوله؟ أم هو الرضا بقرار وبقاء تلك الضرورة المزعومة في الأمة إلى أجل غير مسمى؟ نسأل الله السلامة!
الذي نراه أن كثيرا من أرباب الفقه "القانوني" يلتزمون خطابين لا يجتمعان! خطاب يوجه للمسلمين (أو إن شئت فقل "للإسلاميين") بقولهم إننا في زمان شبهة وضرورة وسنرجع إلى إقامة الحدود الشرعية ما أن تزول تلك الضرورة، وخطاب آخر يوجهونه لغير المسلمين عادة بقولهم إن الإسلام دين سمح يقبل تغير الزمان وتتغير أحكامه بذلك، وهو على وفاق تام مع النظام المدني الحديث، فنحن معكم في سائر ما يقتضيه ذلك النظام من شرائع ونحن باقون على ذلك ملتزمون به لا محالة! فإن كنتم يا معاشر العقلاء تؤمنون بأن النظام المدني لا يتفق – أصلا – مع إقامة تلك الحدود والتزام القضاء الشرعي في سائر الأبواب بلا تفريق، فكيف تزعمون أن الشبهة عارضة وأننا راجعون إلى أصل الأمر بمجرد أن تزول الشبهة والضرورة، وأنتم توافقون على بقاء التشريع على هذا الحال ما دام الناس على النظام المدني الذي هو نتاج عقول الناس في هذا الزمان وثمرة التطور والتقدم وكذا، وهو مقتضى تغير الزمان وإن بقي إلى قيام الساعة؟ كيف يجتمع قولكم إنها ضرورة إلى زوال بقولكم إن النظام المدني خير ما يكون عليه الناس في هذا الزمان؟ فإن تذرع القوم بأن الحاجة العامة لعموم الدولة المسلمة (على الدقة في تقديرها: كتحصيل الأقوات والكساء والسكن والتسلح وإعداد العدة الحربية ونحوها مما تلحق المهلكة العامة بالبلاد من عموم النقص فيه) توجب على ولي الأمر ما توجبه الضرورة على آحاد الناس من العمل بما يلزم العمل به من المحظورات عند انسداد سبل الحلال في تحصيل ذلك، فهل يدخل في تلك المحظورات نسخ شطر من شريعة الجنايات عند المسلمين بشرائع الدولة المدنية الغربية؟ هل عدمتم السبل إلى الجمع بين النافع والمفيد من معطيات النظام المدني من جانب، وتحكيم الشريعة على سائر الأصعدة من جانب آخر (بما في ذلك قيام ولاة الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أوجبه الله عليهم) كما صنعت المملكة السعودية وغيرها، حتى يقال إن السبل قد ضاقت بكم فلم تجدوا إلا هذا، على التسليم تنزلا بوحدة المحل أصلا بين مسألة التشريع الجنائي وتحصيل تلك المصالح العامة (والجهة منفكة كما لا يخفى وكما سبق تقريره)؟ أهو مقتضى الضرورة والشبهة العارضة حقا أم مقتضى الرضا بالحال يا عباد الله؟ من الذي فرض هذه الحال المعوجة على المسلمين وقد كانوا منها في عافية وما حجته في ذلك؟
........ يتبع...........
أما بعد،
فقد وقفت على كلام خطير (وإن كان قديما) للدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية في فتوى من فتاواه التي جمعها في كتابه (البيان لما يشغل الأذهان) بشأن قضية تطبيق الشريعة، وهي الفتوى رقم 16 (ج1، ص47)، وهي جواب سؤال نصه: "كيف تطبق الشريعة في العصر الحديث؟ وما هي النسبة التي تمثلها الحدود من مجموع الشريعة الإسلامية؟" وقد انتشرت هذه الفتوى على المنتديات كمقال مستقل تحت عنوان "حقائق حول تطبيق الشريعة والحدود"، رأيت فيه من الشبهة الأصولية ما أعده آية على ما قد يصل إليه العالم من تضييع وتعطيل لشرع الله تعالى بدعوى تطبيق الاستدلال المقاصدي والاستناد إلى "روح الشريعة" ومراعاة تغير الأحوال في الفتيا، وغير ذلك من مسالك كلية هي صحيحة في نفسها لو أحسن الأصولي تنزيلها! ذلك أن الدكتور جمعة - هداه الله - في هذا المقال قد اتخذ من تلك المسالك مطية إلى ما بمثله تنهدم الشريعة كلها، وتضيع سائر شعائرها ومعالمها وأحكامها (كما سيأتي من إلزامات في أثناء هذا الرد)! فانتهى الدكتور إلى تقرير كلام كان ولا يزال هو ومن يوافقونه فيه يسوغون به البقاء على تعطيل الحدود الجنائية لحكام المسلمين في زماننا في كثير من بلاد المسلمين، والرضى باستبدال القانون الوضعي بها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وكفى به مدعاة للحسرة والندامة أن يصبح كلام الفقيه حجة لكل مفسد مبغض لشرع الله تعالى، بل يصبح كلامه تكأةً لكل زنديق يريد الانخلاع من دين رب العالمين، يقول "لقد تغير الزمان ولم تعد تلك الحدود تصلح للإقامة في بلادنا"، نسأل الله السلامة!
وفي الحقيقة فإنما حملني على الرد على هذا المقال أنني رأيته منذ ثلاث سنوات أو يزيد وإلى يومنا هذا لم يقيض الله له من يرده ردا علميا رصينا ينقض بنيانه بالحجة والبرهان، على خطورة ما فيه من شبهة! وقد عاد هذا المقال للظهور والرواج في هذه الأيام لأسباب لا تخفى، ولا يزال الناس في حاجة إلى من يبين لهم وجه الحق ويرد الشبهة، في خضم تلك الحملة الفاحشة في سائر وسائل الإعلام على الشريعة وتطبيق الشريعة وإقامة الحدود الجنائية، والله المستعان لا رب سواه!
يقول الدكتور علي جمعة في مستهل الفتوى أو المقال: "قضية تطبيق الشريعة لا بد أن تفهم بصورة أوسع من قَصرها على تطبيق الحدود العقابيةبإزاء الجرائم، كما هو شائع في الأدبيات المعاصرة، سواء عند المسلمين أو عند غيرهم،حيث إن تطبيق الشريعة له جوانب مختلفة، وله درجات متباينة، وليس من العدل أن نَصفواقعاً ما بأنه لا يطبق الشريعة لمجرد مخالفته لبعض أحكامها في الواقع المعيش، حيثإن هذه المخالفات قد تمت على مدى التاريخ الإٍسلامي وفي كل بلدان المسلمين ودولهمبدرجات مختلفة ومتنوعة، ولم يقل أحد من علماء المسلمين إن هذه البلاد قد خرجت عنربقة الإٍسلام أو إنها لا تطبق الشريعة، بل لا نبعد في القول إذا ادعينا أن كلمةتطبيق الشريعة كلمة حادثة."
قلت، أما قول الدكتور إن قضية تطبيق الشريعة لا يصح أن تقصر على مسألة تطبيق الحدود العقابية وحدها، فلا يُختلف على صحته بالجملة! ولكن لا يخفى على مثل الدكتور أن ما جعل من مسألة الحدود الجنائية محورا لجهود المنافحة عن تطبيق الشريعة عند علماء الأمة من زمان السنهوري باشا وغيره في زمان الخديو إسماعيل وإلى يوم الناس هذا، أنها كانت ولا تزال أظهر ما أسقطه دعاة التغريب في مصر تحت شعار النهضة والرقي الثقافي والحضاري الذي كاد أن يذهب بعقل ودين الخديوي إسماعيل كما لا يخفى على قارئ منصف لتاريخ مصر الحديث! وأقول (قارئ منصف) لأني أعلم أن الدكتور جمعة من أشد الناس دعوة (متبعا في ذلك سلفه محمد عبده وغيره من رؤوس تلك الدعاوى التنويرية) إلى قلب موازين ما اتفق عليه عقلاء الأمة من علماء الأزهر الشريف وغيره من معاقل العلم الشرعي في بلاد المسلمين على أن ما شهدته مصر في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي كان في حقيقته انسلاخا من شريعة الإسلام واستيرادا لشرائع أخرى وافدة أدخلها من أدخلها من دعاة التغريب لانبهارهم بزخرفها ولانهزام نفوسهم بإزاء ما رأوه في تلك البلاد من تطور شاسع في سائر الصناعات والعلوم الدنيوية! كيف يلبس الإنسان المصري المتحضر البدلة والكرافتة في مطلع القرن العشرين، ويركب السيارة ويذهب إلى المسرح ويقرأ فلسفات وأشعار الأمة المتغلبة الرائدة ويسبح بحمد فلاسفتها ومبدعيها في كل المجالات ليل نهار عساه أن يصيبه من نور نهضتها ما ينجو به من تخلفه وجهله، ومع ذلك تظل محاكمه على تشريع يلزمه بأن يحفر حفرة للزاني والزانية يرجمهما حتى الموت، بدعوى الدين والتشريع الديني؟ هذه أشياء يجب أن تزول حتى تستنير بذلك العقول!
هذا هو بيت القصيد وأصل القضية عند من أطلقوها في بلادنا قبل قرابة قرن ونصف من الزمان، وراحوا يلبسونها لبوس التجديد الفقهي ليغتر بها العوام والجهلاء، ويقع فيها بعض من تمكنت الفتنة من نفسه من العلماء والفقهاء! إنه أقرب شيء عرفه تاريخ المسلمين الحديث مثلا إلى صنيع أصحاب السبت من بني إسرائيل ولا حول ولا قوة إلا بالله!
في سلسلة مقالات نشرها الدكتور جمعة في جريدة الأهرام المصرية، وهي الآن منشورة على موقعه الرسمي على الشبكة بعنوان (التجربة المصرية)، ذهب الدكتور هداه الله إلى حدّ لم أر مثله من قبل في المغالطة الاستدلالية للانتصار لما ورثه عمن أسماهم "بآباء القانون المصري"، فكان هجيراه من أول السلسلة إلى آخرها بما حاصله: "لا تكفروا هؤلاء فإنما كان القوم أهل اجتهاد وعلم، وكانوا حريصين على لزوم شريعة الإسلام بما أدخلوا فيها من قوانين مستوردة!" ونقول إن الدكتور بهذا المسلك يصادر على أصل المسألة (وما أخطرها من مسألة!)! فبغض النظر عن حكم إسلام هؤلاء من عدمه، كيف يصوب الدكتور ما صنعوه بهذه السهولة، ليس هذا فحسب، بل يطالبنا بإعادة قراءة تاريخ تلك التجربة حتى تكون مثالا يحتذى في التشريع في سائر بلاد المسلمين، تُتلمس فيه الوسطية بين ما يعده هو من الإفراط وما يراه من التفريط؟ كيف يطمع الدكتور هداه الله في الدفاع عن حال القانون المصرية بما يستند إليه من كون الزمان زمان جهل وشبهة وضرورة، ثم هو في نفس الوقت يدعونا إلى تقرير هذه التجربة وإثباتها بل ونقلها إلى بلاد كالمملكة السعودية وغيرها، مراعاة لروح العصر ولأحوال الزمان وللوسطية المزعومة؟
يقول في مطلع المقال الأول من السلسلة المذكورة: "النموذج المصري نموذج يستحق الدراسة في ماضيه وحاضره ومستقبله، وذلك لأنه نموذج رائد، ولأنه أيضا نموذج فريد، ولأن النماذج التي جاءت من بعده تحتاج إلى إعادة تقويم،"
فهل كان منظرو القانون المصري في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلادي يتحركون من منطلق مراعاة جهل الجاهلين من العوام في ذلك الوقت، وتخلف شروط تطبيق الحدود الجنائية في عموم البلد قياسا على عام الرمادة كما يدعي الدكتور هداه الله ومن ينتصر لهم من سلفه التغريبيين، أم كان الأمر من منطلق إشباع التطلعات الخديوية الواسعة للارتقاء الشامل بالبلاد من خلال الانفتاح التام على أوروبا وما هو معمول به عند الأوروبيين على شتى الأصعدة، ومخالفة الدولة العثمانية والانفصال عن نظامها التشريعي كله تأكيدا لانفصال سيادة أسرة محمد علي باشا عن الباب العالي، والانطلاق في بناء الدولة على النوذج الأوروبي العلماني عوضا عن النموذج العربي الإسلامي؟
إن القارئ المنصف لتاريخ مصر في ذلك الزمان يدري تمام الدراية ويرى بجلاء لا يتطرق إليه الخفاء، أن عامة المصريين كانوا في عافية (بغض النظر عن غلبة الجهل عليهم في علوم الدنيا) مما ابتليت به تلك الحفنة من المفكرين والأدباء "التنويريين" من الافتتان بأضواء فرنسا! وكان التعليم الديني لا يزال هو التعليم السائد في عموم الناس، المطروقة سبيله من نعومة الأظفار، وكان لعلماء الأزهر الشريف صوتهم المسموع في ديار المسلمين، وكان الناس يعظمونهم ويوقرونهم بما هم أهله وينزلونهم منازلهم! ولم يكن للنصارى ثمة صوت في إثارة الشبهات والاعتراضات على الشريعة وما كانوا يجترئون، ولم يكن للعلمانيين "شعبية" ولا حضور أصلا، وإنما كان مهد دعوتهم الغريبة في بلادنا في تلك الأيام على أيدي دعاة التغريب هؤلاء! وكان العُبَّاد والزهاد (بل والمتصوفة الذين يدين الدكتور بصدق ولايتهم لله تعالى وصحة مسلكهم إليه إجمالا) شتى في صفوف المصريين يومئذ تراهم في كل مكان! فهل كان هؤلاء في تلك الأيام، في زمان تفتقد فيه شهادة العدول وتسقط معه شرائط الحدود هكذا جملة واحدة؟ سبحانك ربي هذا بهتان عظيم!
لقد كانت الحدود الجنائية هي التشريع المعتمد في باب العقوبات في مصر، بما في ذلك الباب من تعزيرات وعقوبات شرعية أخرى تجري على وفق أحكام الشرع على مذاهب أهل السنة في ذلك، وبما فيه من أحكام وضوابط لحالة الضرورة لم تكن أبدا لتلجئ أئمة المسلمين على امتداد قرون الأمة المتطاولة إلى الأخذ عن تشريعات الأوروبيين أو غيرهم في تلك الحال المعنية أو غيرها! وما قال أحد من علماء البلاد إن تخلف شروط الحدود الجنائية – مهما طال أمده في البلاد - يسوغ لنا حذفها من المرجعية القضائية نفسها ووضع غيرها من الشرائع والقوانين المستوردة في مكانها!
هكذا كان الحال في أرض الكنانة إلى أن خرج عليها محمد علي باشا وأولاده (لا سيما إسماعيل) وسدنتهم من المنظرين بمطلبهم الشيطاني الأثيم، وانبرى "آباء القانون الجنائي" في اختراع الحجج الكلامية التي تنتقض بها تلك الأحكام ويُتحايل بها على تعطيلها، لعلنا "نبرأ" من تلك الخصال التي رمانا المستشرقون الأوروبيون بالتخلف بسببها، وحكم علينا مفكروهم بسببها بأننا لا رجاء لنا في الرقي والتطور والنهضة إلا بإسقاط تلك الأحكام "الشنيعة"، وبإذابة سلطان الفقهاء والعلماء الشرعيين على العملية القضائية نفسها، كما كان صنيع الليبراليين الأوروبيين الذين اتخذهم أئمة التنوير في مصر يومئذ سادة لهم وأئمة! ومن أراد الوقوف على مواقف علماء الأزهر وقطاعات من المصريين معهم في مقاومة تلك الدعاوى في ذلك الوقت فسيجد ذلك في مظانه ولن يعدمه!
لذا فلا عبرة بمن كان وقوعه في تلك الفتنة يومئذ من خطإ في الاجتهاد، كما قد يقع العالم المنضبط في عموم أمره ومنهجه في موافقة المبتدعة والضلال فلا يلحق بهم حكما! فلا قيمة في ميزان العلم لاستناد الدكتور في انتصاره لتلك المصيبة التي يدافع عنها إلى العلامة فلان والشيخ فلان من مشايخ ذلك الزمان! ولو كان صادقا لساق موقف الأكثرية لا تلك الأقلية الشاذة، ما دام لا يجد من الأدلة العلمية ما يقيم به دعواه سوى القول بأن هؤلاء قوم لا يساء الظن في نواياهم ولا يتواطؤون على مفسدة! فإن قال لسنا في مقام استدلال وإنما في مقام استئناس، فدع عنك أننا لم نر الدليل في شيء مما كتب في هذه المسألة إلى الآن، فإن العدل والإنصاف والتجرد الذي يطالبنا به يفرض عليه ويقتضي منه أن يسوق الصورة التاريخية للنزاع العلمي الذي جرى في تلك الأيام سياقا كاملا لا على هذا الوجه الانتقائي العوير! وسيأتي معنا في سياق هذا الرد المستفيض بيان أوجه المغالطات الاستدلالية في كلام الدكتور هداه الله كلُّ في محله!
تأمل أيها القارئ الكريم قول الدكتور هداه الله في مقاله (التجربة المصرية (2)) تعقيبا على صنيع السنهوري باشا في وضعه لقانون الجنايات المصري:
" وتوجهه هذا لاقى معارضة شديدة من كثير من علماء الأزهر الشريف، خاصة أصحاب الدراسات القانونية في السربون، ولعل أعظمهم هو عبد الله حسين التيدي الذي ألف كتابًا تحت عنوان (المقارنات التشريعية) في أربع مجلدات أصدرناه أيضا من دار السلام، لتتم هذه المجموعة لدراسة التجربة المصرية، وهو يعارض منهج السنهوري باشا، ويرد عليه، لكن أبدًا لم يكفره، بل اعتبره متبنيًا لنموذج معرفي آخر، مع بقاء نموذجنا المعرفي قادرا على العطاء، ومن الغريب أن لجنة مراجعة مشروع السنهوري باشا، والذي صار بعد ذلك هو القانون المدني المصري لم يكن فيها أحد من أولئك المعارضين." اهـ.
قلت تأمل قوله بأن المعارضين كان كثير منهم من دارسي القانون في السربون، يتكلم وكأنما يحدثنا عن قوم درسوا علوم الذرة في جامعات أوروبا ورجعوا إلينا بالقنبلة الذرية، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهذا غير صحيح، بل كانت قاعدة المعارضة ممثلة بالأساس في علماء الشرع الربانيين من سادة الأزهر الشريف ورجالاته، رحمهم الله جميعا، وهو يدري ذلك الأمر جيدا ويشهد به في غير هذا الموضع! فهل غاية ما يريده الدكتور مما كتب في تلك السلسلة، الدفاع عن السنهوري باشا ضد من حكموا بكفره وردته؟ فإن لم يكن كذلك، فأين الأدلة العلمية على صحة ما صنع الرجل ومن عاصروه وواطنوه ومن تابعوه من بعده؟ وكيف يصر على الدفاع عن هؤلاء الآباء القانونيين وهو يشهد بلسانه بأن لجنة مراجعة "المشروع السنهوري" لم يكن فيها أحد من أولئك المعارضين (الذين هم الكافة من علماء الأزهر ومشايخه يومئذ إلا من شذّ منهم وبَعُد)؟
لهذا نبه وحذر العلماء الربانيون في المملكة – حفظها الله تعالى – من خطورة دعوى تقنين الشريعة (على النسق الأوروبي في وضع مواد القانون والأحكام القانونية) بما يفوت على المفتي والقاضي الشرعي حقه – بل واجبه - في تغيير اجتهاده من حالة إلى أخرى وفق ما تؤديه إليه القرائن والأحوال منضبطا في ذلك بأصول مذهبه القديم أو الجديد إن ترجح لديه تغييره، ويفتح الباب لتلاعب فلاسفة القانون الوضعي بنظام القضاء الإسلامي المتبع في البلاد تمهيدا لإقصاء الشريعة عن القضاء (كما عن سائر السلطات وعن مطلق السيادة في البلاد) على خطوات!
فالسؤال الآن: أي عموم لضرورة أو جهل أو فساد هذا الذي يتذرع به الدكتور وآباؤه الذين يقلدهم في ذلك؟ وعلى التسليم – تنزلا - بأن الزمان كان زمان شبهة (وسيأتي التفصيل في أمر هذا الاصطلاح في محله)، فكيف يستوي من درأ الحد الشرعي لقيام الشبهة وتخلف الشروط في هذه الحالة أو تلك عند من يفقه دين الله تعالى، بمن نسخ تشريع الحدود نفسه رأسا ووضع قانونا بشريا في مكانه؟ هل يستوي التعطيل العارض المشروط (وفق ضوابط شريعة ما)، بالتبديل (الانتقال الدائم إلى شريعة أخرى)؟ وهل هذا ما صنعه عمر رضي الله عنه، الذي يزعم القوم أنه سلفهم في تبديل الحدود؟ هل انبرى عمر والصحابة بعد عام الرمادة يدعون الناس للبقاء على الجهل والشبهة، يجعلون في مكان الحدود الشرعية قوانين فلاسفة التشريع من الكفار؟ بالله كيف يستساغ اجتهاد كهذا ويقال إن صاحبه يدور بين الأجر والأجرين، وأن أصاحبه كانوا يضعون الحفاظ على الشريعة نصب أعينهم؟ نعوذ بالله من الخذلان!
إن الدكتور هداه الله يستهل سلسلته المذكورة بجملة من التساؤلات التي حاصلها "كيف نكون بلدا متحضرا متقدما يواكب العصر؟"، وذلك في معرض التمهيد لإقناع القارئ بنفس الشبهة التي يبثها العلمانيون والملاحدة من كون تلك الأحكام الجنائية وغيرها مما أطبق عليه المسلمون على امتداد تاريخهم وكان معمولا بها في شتى أقطار الأمة من زمان الوحي وإلى وقت قريب، هي السبب في التخلف وتحجر الفكر الذي ابتلينا به في قروننا المتأخرة، إذ لم تعد تلك التشريعات تصلح لاستيعاب المستجدات العلمية والفكرية الوافرة التي صارت تنهال على رؤوسنا كالمطر! إنه لمما يؤسَف له حقا، أن أجدني مضطرا إلى كتابة ما سأكتبه الآن، في الرد على مثل الدكتور علي جمعة هداه الله!
فإنه لا يسعني ولا يسع أي عاقل يعظم شعائر الله تعالى وحدوده، وهو يقرأ كلام الدكتور إلا أن يتساءل: ما العلاقة – أصلا – بين التشريع الجنائي الذي شرعه الله تعالى وبقيت عليه الأمة قرونا طويلة، وبين التطور في الانترنت والصناعات المختلفة، والانفتاح على ما عند "الآخر" من علوم ومعارف نافعة، وما عنده من تطور في سائر الصناعات والأنظمة الإدارية وغيرها مما سبقنا فيه الغرب؟ الجهة منفكة أصلا بين القضيتين! بل لو قال قائل إن استقرار المجتمع وفشو الأمن فيه (الذي يسهم فيه ولا شك تطبيق نظام رادع للعقوبات لا تهاون فيه، يؤمن المسلمون بأنه لا شيء يعلو عليه في باب الردع وحفظ الأمن) يفضي ولابد إلى خلق بيئة اجتماعية حاضنة للرقي العلمي والفكري، تعين المبدعين على بذل مساعي الرقي والإبداع في كل ما هو نافع ومفيد = لكان قوله هذا مما تدعمه الفطرة السوية وتدل عليه بداهة العقل بما يغني عن الاستدلال لإثباته!
فلا نحتاج إلى أن نوقف الدكتور أصلحه الله – كما نوقف العلمانيين والملاحدة – على الدليل التاريخي الذي يبرهن لرقي بلاد المسلمين في علوم الدنيا في عصور كانت أوروبا فيها تتمحض في الجهل والانحطاط، وكانت السيادة القضائية في بلادنا تامة مطلقة للشريعة الإسلامية دون عبث من فلاسفة التغريب والحداثيين وغيرهم ولا تطرق لشبهة كهذه أصلا! لذا فإنه من العجيب حقا – بل من المضحك المبكي - أن يشير الدكتور جمعة في سياق مقاله المذكور إلى أن بعض أقسام القانون الوضعي المأخوذ من أوروبا يقال إن أصله كان مأخذوا عن المذهب المالكي الذي كان شائعا في بلاد الأندلس!
تأمل قوله هداه الله في المقال الثاني من السلسلة يصف صنيع الخديوي إسماعيل في سعيه للتلفيق بين شريعة الإسلام والقانون الفرنسي:
" وكان حريصًا على إيجاد علاقة بين القانون الفرنسي المأخوذ أساسًا من تشريعات لويس، والتي قيل إنها تأثرت بالفقه المالكي عبر الأندلس،" قلت كيف رضي الدكتور جمعة لنا بأن نترك الأصل المجمع عليه لدى الفقهاء والأئمة ونرضى ببضاعة مزجاة من وضع قوم كفار "قيل" – وتأمل - إنهم تأثروا فيها بفقه المسلمين وتشريعهم؟ أهذا ما به يستدل على صحة مسلك الخديوي ورجاله فيما أرادوا وما صنعوا؟ يا له من خُلف يحار فيه العقلاء!
إن الخلط والتلبيس في هذا الكلام إنما مرجعه بالأساس إلى المساواة النظرية المفتعلة بين قضيتين كليتين لا تستويان بحال، كلتاهما يضعهما الدكتور ومن وافقه في كفة التجديد في أصول الفقه وفي علوم الشريعة بعموم! أما القضية الأولى فحقيقة نشهد بها ونتفق مع دعاة التجديد الفقهي من العلماء والعقلاء في ضرورة النظر فيها وبذل الجهد لاستنباط أحكام الشرع فيها (وإن شئت فقل: التجديد فيها) تأصيلا وتفريعا، ألا وهي قضية ظهور الحاجة إلى الاجتهاد بما يغطي كثيرا من المستجدات والنوازل الإدارية والسياسية المعاصرة فيحقق لبلاد المسلمين أحسن ما يمكن أن يكون من استفادة بما ينفعهم مما ابتكرته عقول معاصريهم في الغرب من نظم معقدة ومتراكبة تخدم مصالح مشروعة لدينا بالجملة. ومثالها الاجتهاد في قضية حقوق الملكية الفكرية وما تحتها من تشعبات كثيرة، والاجتهاد في قضية خصوصية المعلومات على شبكة الانترنت وسائر ما يتعلق بتلك الشبكة من نوازل ومستجدات، لها ما وضعه الغربيون من قوانين تنظمها عندهم! ومن ذلك النظر الفقهي الدقيق فيما يسمى بوثيقة آداب وأخلاقيات المهنة التي يضعها المختصون في سائر المهن والفنون العلمية والعملية الحديثة في بلادنا تقليدا للغرب دون مرجعية شرعية تذكر مع أن كثيرا منها يحتاج إلى لجان علمية متعددة التخصصات من كبار الفقهاء وكبار العلماء في كل مجال من تلك المجالات، فإن فيها مسائل حادثة دقيقة لو عرضت على كبار الصحابة لتهيبوا من الإفتاء فيها، ولجمع لها عمرٌ أهل بدر! ومنها النظر بميزان الشريعة في نظريات علماء الجريمة المعاصرة وعلماء الاجتماع وعلم النفس وعلم الجغرافيا وغيرها من العلوم الإنسانية لجلب ما ينفع منها، والحث على الزيادة عليه وتحسينه بما يرجع بالمنفعة على البشرية ككل، لا على الأمة وحدها! ومن ذلك النظر في كيفية تحقيق المنفعة المتبادلة والمصلحة المشتركة بيننا وبين دول الغرب عند اختلافنا معهم في بعض ما شرعوا في ذلك وغيره (لا سيما ما كان منه قانونا دوليا تدخل الدول تحته بموجب الاتفاقت الدولية الشاملة) لأسباب تمليها علينا شريعتنا وثوابتنا.. والأمثلة كثير.
نعم نشهد جميعا بأن المكتبة الفقهية والأصولية المعاصرة تعاني من نقص واضح وكبير في مجمل تلك الأبواب ولا شك. ولكن هذه القضية كلها عندنا في كفة ونصاب، ومسألة نسخ الشرائع الجنائية وبعض أحكام الأحوال الشخصية بالقانون الوضعي الغربي بدعوى أن تلك النوازل والمستجدات جميعا تلزمنا بإعادة النظر في تلك التشريعات جريا على تحقيق المقاصد الشرعية الكبرى، هذه قضية أخرى مختلفة تمام الاختلاف، فلا يردان على مورد واحد إلا عند صاحب هوى أو شبهة! وما ضاع حكم الشريعة في بلاد المسلمين في هذا الزمان إلا من الخلط بين هاتين القضيتين وجعلهما في بابة واحدة! فأكرر لفت انتباه القارئ الفطن في هذا المقام إلى اضطراب وتناقض مأخذ الدكتور جمعة هداه الله فيما ينتصر له! فهل يريد البقاء على إعمال القانون الوضعي في مكان حدود الشريعة في الجنايات وغيرها لأنه يرى أننا لن نستوعب جديد العلوم ومستحدثها ولن نتقدم ولن نتعاون مع دول العالم المعاصر فيما فيه خيرنا وخيرهم إلا بهذا؟ أم أنه يريد البقاء على ذلك لأنه يرانا في غلبة جهالة وانخرام عدالة وعموم شبهة وزمان ضرورة.. الخ؟ أم أن الأمرين سواء عنده؟
المسألة إنما انقدح زنادها أول الأمر في القصر الخيديوي، ثم عُرض الأمر على بعض المنتسبين إلى العلوم الشرعية والقضاء في ذلك الوقت من المقربين إلى القصر، ليبحثوا عن مخرج شرعي لتسويغها، فجاء الطلب على هوى أصحاب الأصول العقلية الاعتزالية منهم وقتئذ وعلى وفق ما استحسنوه من قراءاتهم في مصنفات الفلاسفة الأوروبيين، فجرى قلم التاريخ بما كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذا أمر جلي لا يماري فيه إلا مماحك! وإلا فلماذا كان الخديوي إسماعيل حريصا – على حد كلام الدكتور - على إيجاد علاقة بين القانون الفرنساوي وشريعة المسلمين، وما وجه هذا الحرص عنده وهو العامي الجاهل، وما محركه؟ وأي حجة تكون لعاقل من المسلمين في أن استبدال القانون الفرنسي بالحدود الجنائية الشرعية خير وأرجى لتحقق مقاصد النهضة الشاملة التي كان يحلم بها إسماعيل، وكيف طاوعه من طاوعه من المتفقهة في ذلك؟ إنه صنيع قلوب قد أشربت بشبهات المستشرقين وفلاسفة التنوير! إنه الهوى المحض.. نعوذ بالله من غلبته على قلوب الخلائق!
لذا فإن الأصوليين من أهل السنة والحديث يقولون: إذا كان يصح أن تحدث نوازل تلجئ المسلمين إلى استنباط أحكام جديدة من الأقيسة والقواعد الكلية للشريعة، ويصح أن الأحكام تتقلب مع العلل وشروط الوضع والتنزيل وجودا وعدما، فإنه ليس يُتصور في الوجود حدوث نازلة أصولية أيا ما كانت، تجيز للناظر فيها أن ينسخ الحدود الجنائية جملة واحدة ليضع في مكانها قانونا جنائيا مأخوذا من هنا أو هناك! فإنه لو صح هذا، لكان لازمه أن الشريعة ناقصة وأنها ألجأت المسلمين إلى استبدال شرائع الكفار بها أو ببعضها! لذا نقول إن هذا الاستبدال الذي جرى على تلك الشرائع، واستقر عليه الأمر في التشريع منذ وقوعه إلى يوم الناس هذا وإلى أجل غير مسمى، هذا نسخ في الحقيقة وليس إرجاءً لتلك الأحكام لتخلف شروطها، وليس هو تعليقا عارضا مشروطا بتغير أحوال المسلمين كما يدعي من أحدثوه! وإلا فأين هو ذا القيد الذي قيد القوم به ذلك التبديل، ومتى يتصورون أن يكون رجوعهم إلى إقامة الحدود في البلاد ونبذ تلك القوانين الوضعية التي جعلوها في مكانها؟ إن مضى التاريخ بنا إلى الماضي لا إلى المستقبل يوما ما، فرجعنا بذلك إلى زمان الخلافة العثمانية أو ما قبلها؟ هذا ما نأخذه من كلام الدكتور وموافقيه في التذرع بمطلق مستجدات الزمان (هكذا بلا تفصيل ولا بيان)! فلا قيد ثمّ ولا شرط!
بل إن هذا التبديل ناقض لنفس قاعدة دوران الحكم مع العلة، فهو يبطل التعليل كما لا يخفى! فإن كان عمر قد حكم بتخلف الحكم لتخلف العلة في تلك الفترة التي أسقط فيها حد السرقة، لقيام ضرورة السرقة لحفظ النفس عند الناس، فإنه لم ينسخ ذلك التشريع نفسه، بخلاف ما صنعه هؤلاء، حيث جعلوا العلة مفضية إلى حكم آخر بخلاف ما جاء به الشرع سواء في الحدود أو التعزيرات، بل إنهم بدلوا العلل نفسها بموجب تلك القوانين التي استوردوها، فلا بقيت العلة علة شرعية بذلك ولا الحكم حكما شرعيا! فلو كان الأمر تعطيلا للحد لتخلف شرط إثباته كما يقولون (لوجود الشبهة)، للزمهم سقوط مطلق العقوبة كما صنع عمر! أما وقد اتخذوا عقوبة أخرى بشروط أخرى للإثبات، فهذا تشريع ناسخ لشريعة الحدود! وإلا فإن لم يكن هذا نسخا في التشريع فما النسخ إذن؟ هذا نسخ واضح لا التباس فيه، وليس إجراءً للقواعد الكلية العامة التي أعملها الفقهاء طوال قرون الأمة عند تغير الأحوال وتخلف العلل والشروط الشرعية!
أما قول الدكتور: " بل لا نبعد في القول إذا ادعينا أن كلمةتطبيق الشريعة كلمة حادثة"
فأقول نعم هي حادثة، فكان ماذا؟ العبرة بالمعنى المراد من الاصطلاح الحادث! والمراد به هنا قيام ولاة الأمر بتفعيل المرجعية الشرعية الصحيحة وتفعيل أحكام الشرع في سائر أبواب الحكم والقضاء بلا تفريق، بخلاف أولئك الذين يحكمون بشريعة مختلطة! هذا هو الأصل في كل حاكم مسلم! فلولا أن صارت أكثر بلاد المسلمين إلى خلاف هذا الأصل لما اضطررنا إلى تسمية البلدان الباقية على الأصل بأنها (تطبق الشريعة)! تماما كما اضطررنا إلى استحداث مصطلح (ملتحي) لوصف كل رجل باق على أصل خلقته وأصل ما هو مشروع في شعر الوجه للرجال أنه يعفى ولا يحلق، حينما غلبت على المسلمين عادة حلق اللحية! وكما اضطررنا من قبل ذلك بقرون لسبك مصطلح (أهل السنة والجماعة) لتمييز من بقي على الأصل من علماء المسلمين وعامتهم عند دعوى الحاجة الشرعية إلى ذلك، ممن فارق الجماعة واتبع السبل، وهكذا. وما دام الأمر على الاصطلاح، فإنه لا أحد ممن يستعملون هذا الاصطلاح، يدعي أن البلاد التي نُسخ ما نسخ فيها من شرائع الإسلام قد نسخت فيها الشريعة كلها في كل مستوياتها وأبوابها! ولكن في نفس الوقت فإنه لا يستوي هذا النسخ كما أسلفنا بما يدعي الدكتور أنه من السوابق التي مرت بها بلدان المسلمين مرارا دون أن يستنكرها أهل العلم! وإلا فهلا سمى لنا الدكتور حالة واحدة سبق فيها نسخ العقوبات الإسلامية (رفعها واتخاذ قانون وضعي مستورد في مكانها) بدعوى الضرورة وموافقة متطلبات العصر، خلال ثنتي عشر قرنا خلت من عمر الأمة قبل صنيع هؤلاء "التنويريين"؟!
هذه الشبهة التي يسوغون بها تبديل شريعة رب العالمين لم تُعرف في تاريخ الأمة إلا في هذين القرنين الآخرين! ذلك أنها لم تظهر إلا على أيدي قوم أكل الهوان والخذلان قلوبهم بإزاء اتهامات الأوروبيين في تفسيرهم للفجوة الحضارية الواسعة التي نشأت فيما بيننا وبينهم خلال تلك القرون المتأخرة! فصار الواحد منهم يكاد يصرح بقوله: إن أوروبا لم تنهض حتى فصلت بين سلطان الدين وسلطان الدولة، فهكذا نصنع عندنا كذلك ولابد! ولنعِد النظر في تلك الشرائع التي يستشنعها سادة النهضة الأوروبية (لا سيما الحدود الجنائية)، لعلها لم تعد تناسب زماننا كما يقولون، فعسانا نجد في الشرع مخرجا لإسقاطها! ففي أي قرن من قرون الأمة عُرف هذا الانحطاط الفكري في أمتنا قبل "التنوير" الأوروبي؟
يقول الدكتور جمعة في مقاله الأول من سلسلته الموسومة (التجربة المصرية):
"اتجه محمد علي باشا إلى بناء الدولة العصرية الحديثة في مصر، وهي دولة حاولت أن تستقل عن أشخاصها بقدر الإمكان، والاستقلال بين الدولة وأشخاصها يتم عن طريق المؤسسات، ويتم عن طريق النظام، ويتم عن طريق الدستور، ويتم عن طريق التقنين، ويتم عن طريق الفصل بين السلطات، ونحو ذلك. والديمقراطية بالأساس مبنية على المساواة بين المواطنين، وأن فكرة المواطنة وليس فكرة الرعايا هي التي تسود في دولة ما، والمساواة هنا تشمل المساواة في الحقوق وفي الواجبات، وتشمل عدم الاستثناء من القانون أو التمييز العنصري، وكلما تحقق ذلك كانت الدولة أقرب إلى تحقيق الديمقراطية. والليبرالية تعني احترام الحريات، حرية العقيدة، حرية الانتقال، حرية العمل، الحرية السياسية، والتي هي بالأساس مبناها التعددية، ومبناها التمثيل الشعبي. ثم بعد ذلك تأتي النظم والتنظيمات التفصيلية التي قد تختلف من بلد إلى آخر طبقا للتجربة التاريخية، وطبقا لما يمكن أن نسميه بالثقافة السائدة، والتي لا يجوز الخروج عنها إلا بقدر تحقيق المصلحة، لأن الخروج عن الثقافة السائدة –خاصة في صورة طفرات- يؤدي إلى ضياع المصالح وإلى اضطرابات، أكثر ما يؤدي إلى تحقيق المصالح والمقاصد لشعب ما." اهـ.
قلت فليتأمل القارئ في هذا الكلام مليا وليخبرني كل فطن ذو بصيرة وعلم، هل هذا كلام فقيه أصولي، أم هو كلام فيلسوف من فلاسفة التنوير الأوروبيين في القرن التاسع عشر؟ لا يقولنّ قائل إن العبرة بمفهوم الكلام ولا مشاحة على من يستعمل مصطلحا من غير صنعة الفقه وأصوله، فإنما عن المفهوم أتكلم!! ما معنى أن "تستقل الدولة عن أشخاصها"؟ إن قلنا إن المراد منه ضبط أمر السلطان فيها بما يحفظ للرعية مصلحتها ولا يجعلهم عبيدا عند حاكم مستبدّ (مثلا)، أليس مثل هذا المقصد مما يطلب النظر في آليات تحققه في معاقد فقه السياسة الشرعية الذي توارثه المسلمون على اعتقاد مسبق بأنه لا يمكن أن يكون أمر بهذه الخطورة قد تركه الشارع بلا إحكام عندنا؟؟ أم أننا نضطر لأجل تحقيقه إلى طلب ذلك من شرائع الثورة الفرنسية؟ ما وجه قوله إن هذا المقصد يتحقق من خلال المؤسسات (أي مؤسسات وما نوعها؟)، وعن طريق النظام (أي نظام؟؟)، وعن طريق الدستور (دستور من؟؟)، وعن طريق التقنين (أي تقنين؟؟) والفصل بين السلطات ونحو ذلك؟؟ أحقا يرى الدكتور أن المسلمين لم يعرفوا في تاريخهم تحقيقا لهذا المقصد البتة، حتى جاء الفيسلوف التنويري الأوروبي ليصلح لهم ميزان الإمامة والسلطان بهذه الأشياء التي ذكرها الدكتور (ونحوها)؟! وهل نحن الآن نتكلم في وسائل مباحة تدخل تحت باب المصالح المرسلة في خدمة غايات مفصلة لتحقيق ذلك المقصد الكلي، أصلها (أي تلك الغايات أو الآليات) متقرر في شريعتنا بما تتحقق به الكفاية، أم أننا نتكلم عن غايات أو آليات مستوردة بكليتها (بما تحتها من وسائل تخدمها) فلا سند لها في شريعتنا أصلا؟ هذا وجه من النظر الكلي دقيق لا يغفل عنه أصولي ذو مكنة من صنعته! ولذلك أقول لو كان المتكلم بهذا الكلام عاميا من جهال الصحافة أو علمانيا من متثقفة الإعلام لهان الأمر ولكن المتكلم أستاذ في أصول الفقه، يتقلد منصب مفتي الديار في بلد من كبرى بلاد المسلمين، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله!
تامل قوله "الديمقراطية مبنية بالأساس على المساواة بين المواطنين"! فهل في شريعة رب العالمين هذه المساواة التامة بين "المواطنين"؟ هل في شريعة رب العالمين قلب مفهوم الرعية إلى مفهوم المواطنة على نحو ما يقرر الدكتور؟ يقول هداه الله: "، والمساواة هنا تشمل المساواة في الحقوق وفي الواجبات، وتشمل عدم الاستثناء من القانون أو التمييز العنصري، وكلما تحقق ذلك كانت الدولة أقرب إلى تحقيق الديمقراطية" فهو إذن يطالبنا بمساواة تامة بين الرعايا في الحقوق والواجبات، فهل يغفل فضيلة الدكتور ما يؤدي إليه قوله ذاك من هدم لأبواب كاملة في فقه المسلمين هي محل إجماع مستقر لا يتطرق إليه النزاع؟ هل حقا يطالبنا بالاستغراق في الديمقراطية والليبرالية والخضوع "للثقافة السائدة" لمجرد أنها سائدة ولأن "الخروج عليها" لا يتسبب إلا في ضياع المصالح (لشعب) ما؟؟ أحقا هذه الإطلاقات والمجملات قد كتبها أستاذ في علوم الشريعة؟ أفبدلا من أن نعمل على إصلاح الأمة وتغيير الواقع (بالطرق المشروعة) للوصول به إلى وفاق ما شرع الله تعالى للمسلمين، نعمل على تغيير الشرع نفسه ليصبح على وفق "الثقافة السائدة" وليكون عند الغاية في الديمقراطية والليبرالية؟؟ أهذا ما يدعونا إليه الدكتور؟
ما أقول إلا "إنا لله وإنا إليه راجعون"!
وينتقل بنا الدكتور في مقاله أو فتواه المعنونة (حقائق حول تطبيق الشريعة) إلى جملة من النقاط يصفها بأنها حقائق، فيقول:
"أن الشريعة تعني ما يتعلق بالعقائد والرؤية الكلية من أن هذا الكون مخلوق لخالق، وأن الإنسان مكلف بأحكام شرعية تصف أفعاله، وأن هذا التكليف قد نشأ من قبيل الوحي، وأن الله أرسل به الرسل وأنزل الكتب، ويوم آخر للحساب وللثواب والعقاب، كما أنها تشتمل على الفقه الذي يضبط حركة السلوك الفردي والجماعي والاجتماعي، وتشتمل أيضا على منظومة من الأخلاق وطرق التربية ومناهج التفكير والتعامل مع الوحي قرآناً وسنة، ومع الواقع مهما تغير أو تبدل أو تعقد." اهـ.
قلت من العجب حقا أن يشاححنا الدكتور في استعمالنا لمصطلح تطبيق الشريعة على قوله إنه لا سابقة له في تاريخ الأمة، ثم يأتينا الآن بمعني اصطلاحي لكلمة الشريعة هو يدري أنه ليس ما يقصده المتكلمون بهذه الكلمة في سياق الإنكار عليه وعلى من يوافقونه! ذلك أن مصطلح الشريعة كمصطلح السنة سواء بسواء، يطلق أحيانا ويراد به المعنى العام الذي يشمل العقائد والأصول الكلية كما يشمل الفرعيات والتشريعات العملية، ويطلق في سياقات أخرى ويراد به المعنى الخاص، فيقال السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد كتاب الله تعالى، وهي كل ما أُثر من قول أو فعل أو تقرير للنبي عليه السلام، وكذلك يقال الشريعة هي فقه الأحكام التكليفية الخمسة المستنبطة من مصادر التشريع في الإسلام. وهذا الاصطلاح الأخير هو المراد بقولنا إنهم يعطلون شريعة الله تعالى ويبدلونها، فبغض النظر عن اصطلاحات كل من الأصوليين والفقهاء وعلماء التوحيد والفلاسفة والمتكلمين فإن مرادنا واضح معروف، ولا ينطلي على حدث من الأحداث في طلب العلم هذا التنقل بين المعاني الاصطلاحية في مدافعة الاتهام بتعطيل الشريعة، والله الهادي!
ونقول نعم ولا شك الإسلام (أو إن شئت فقل الشريعة) تشمل كل ما ذكر الدكتور، وهي كذلك وستظل كذلك مهما تغير الزمان ومهما تبدل الواقع أو تعقد، ولكنهم بدلوها (في شطر منها) مع ذلك التبدل في الواقع على طريقة لا سلف لهم فيها ولا حجة! فما أعظمه من فرق بين أن يتخلف الحكم في جملة كبيرة من القضايا بحد من الحدود أو حكم من الأحكام الشرعية إعمالا لقواعد الشريعة العامة في ذلك، وبين أن تعطل الشريعة كلها في باب من أبواب الأحكام ويؤتى في مكانها بقانون وضعي!! كيف يستوي المسلكان عند فقيه يدري ما يقول؟ ولو أن قاضيا اليوم اجتهد في قضية من القضايا ورأى أن شروط إقامة حد من الحدود الشرعية قد تحققت فيها، أفيسمحون له بذلك؟ امرأة زنت – على سبيل المثال – ولاعنها زوجها، أو أتى بأربعة من الشهود العدول (المتوفرة فيهم شروط الشهادة)، فأراد القاضي أن يحكم فيها بحكم الله تعالى، فبأي سلطان يمنعونه؟ ما حجتهم وقد اجتهد القاضي وأداه نظره إلى تحقق الشروط وانتفاء الموانع وانتفاء الشبهة في تلك الحالة؟ وبأي شرع يوجبون عليه النزول عن ذلك والخضوع لقانون الجنايات المدني؟ وما بال الرجل والمرأة غير المحصنين إن تواقعا برضاهما (وهما يعلمان أنه زنى في شريعة ربهم وأن العقوبة لاحقة بهما ولابد)، بأي حجة يمنع القاضي من الحكم عليهما بشيء؟ وما بال الزوج يزني في غير "منزل الزوجية"، وتثبت عليه التهمة بالبينة القطعية، كيف يمنع القاضي من تجريمه بذلك؟ بل ما بال الزوج يزني بامرأة أخرى برضا زوجته وفي بيتها وتحت أنفها؟ ألا يكون زانيا بذلك؟ وهل أمثال هذه التفاصيل في التشريع المنقولة بتصرفات يسيرة عن القانون الفرنسي، يقال إن الحامل على البقاء عليها الضرورة وزمان الشبهة؟؟ سبحانك ربي هذا بهتان عظيم!
فإلى متى إذن يبقى هذا الاضطرار المزعوم وما منتهاه؟ أن يرضى الفرنسيون وغيرهم بشريعة الإسلام في العقوبات فنرضى نحن بها تبعا؟ أهو من خوفنا على مشاعر النصارى والعلمانيين والملاحدة، وكأنما هبط علينا النصارى والزنادقة من السماء في هذين القرنين الآخرين ولم يكونوا هم وغيرهم شركاء لنا في هذا الوطن تحت حكم شريعتنا طوال بضعة عشر قرنا من الزمان؟ أم من خوفنا من إلحاق أمريكا بلادنا بطالبان وأفغانستان بمجرد ذلك، واتهامها إيانا بأننا نخرم قاعدة من قواعد "حقوق الإنسان"؟ أمم الكفار خرجت تقول إن الإنسان من حقه كذا وكذا، ونحن لدينا شريعة من رب العالمين تقول إن هذا ليس من حق "الإنسان" في شيء، فكيف يقال إن شريعتنا نفسها تبيح لنا النزول عنها في ذلك والخضوع لهذا الإفك والجهل المبين بدعوى الضرورة؟ ما هي الضرورة وما حدها وما ضابطها معاشر الفقهاء النبهاء؟
قالوا لنا هذا التشريع عندكم يخالف حقوق الإنسان، فقلنا لهم نحن قوم مسلمون نؤمن بأن الله الذي خلقنا هو أدرى منا ومنكم بما يصلح الإنسان وما يفسده، وبأنه وحده الذي يملك الحق في منح الحقوق وفرض الواجبات على خلق الله جميعا، فاختلفنا معهم في ذلك والتزمنا شريعتنا ولم نجبرهم على لزوم قولنا فيما يشرعون لرعاياهم من الشرائع (بالنظر إلى فقه الضرورة)، فكان ماذا؟ أهذا موقف نلحق بسببه بتنظيم القاعدة (مثلا)، ونتهم بالإرهاب والتطرف، أو نتهم بأننا نظلم رعايانا من المسلمين وغيرهم بذلك؟ وليكن أنهم اتهمونا بذلك، فكان ماذا؟ ألا تنصحون ولي الأمر بأن ينصب من علماء البلاد وفقهائها جبهة فكرية لدفع تلك الشبهة وسباكة الجواب العلمي والعقلي عنها في خطاب رسمي محكم يوجه إلى أصحاب التهمة والشبهة، كل منهم بما يليق به؟ أفبدلا من النصح لهم والأخذ بأيديهم إلى إصابة مقاصد الإسلام العليا، يكون العمل على تزيين تلك الحال المنحطة وزخرفتها لهم، وجعل "التجربة المصرية" في التشريع الجنائي مثالا يحتذى في بلاد المسلمين؟ ألا تدافعون الضرورة والشبهة مع المدافعين نصحا لله ورسوله؟ أم هو الرضا بقرار وبقاء تلك الضرورة المزعومة في الأمة إلى أجل غير مسمى؟ نسأل الله السلامة!
الذي نراه أن كثيرا من أرباب الفقه "القانوني" يلتزمون خطابين لا يجتمعان! خطاب يوجه للمسلمين (أو إن شئت فقل "للإسلاميين") بقولهم إننا في زمان شبهة وضرورة وسنرجع إلى إقامة الحدود الشرعية ما أن تزول تلك الضرورة، وخطاب آخر يوجهونه لغير المسلمين عادة بقولهم إن الإسلام دين سمح يقبل تغير الزمان وتتغير أحكامه بذلك، وهو على وفاق تام مع النظام المدني الحديث، فنحن معكم في سائر ما يقتضيه ذلك النظام من شرائع ونحن باقون على ذلك ملتزمون به لا محالة! فإن كنتم يا معاشر العقلاء تؤمنون بأن النظام المدني لا يتفق – أصلا – مع إقامة تلك الحدود والتزام القضاء الشرعي في سائر الأبواب بلا تفريق، فكيف تزعمون أن الشبهة عارضة وأننا راجعون إلى أصل الأمر بمجرد أن تزول الشبهة والضرورة، وأنتم توافقون على بقاء التشريع على هذا الحال ما دام الناس على النظام المدني الذي هو نتاج عقول الناس في هذا الزمان وثمرة التطور والتقدم وكذا، وهو مقتضى تغير الزمان وإن بقي إلى قيام الساعة؟ كيف يجتمع قولكم إنها ضرورة إلى زوال بقولكم إن النظام المدني خير ما يكون عليه الناس في هذا الزمان؟ فإن تذرع القوم بأن الحاجة العامة لعموم الدولة المسلمة (على الدقة في تقديرها: كتحصيل الأقوات والكساء والسكن والتسلح وإعداد العدة الحربية ونحوها مما تلحق المهلكة العامة بالبلاد من عموم النقص فيه) توجب على ولي الأمر ما توجبه الضرورة على آحاد الناس من العمل بما يلزم العمل به من المحظورات عند انسداد سبل الحلال في تحصيل ذلك، فهل يدخل في تلك المحظورات نسخ شطر من شريعة الجنايات عند المسلمين بشرائع الدولة المدنية الغربية؟ هل عدمتم السبل إلى الجمع بين النافع والمفيد من معطيات النظام المدني من جانب، وتحكيم الشريعة على سائر الأصعدة من جانب آخر (بما في ذلك قيام ولاة الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أوجبه الله عليهم) كما صنعت المملكة السعودية وغيرها، حتى يقال إن السبل قد ضاقت بكم فلم تجدوا إلا هذا، على التسليم تنزلا بوحدة المحل أصلا بين مسألة التشريع الجنائي وتحصيل تلك المصالح العامة (والجهة منفكة كما لا يخفى وكما سبق تقريره)؟ أهو مقتضى الضرورة والشبهة العارضة حقا أم مقتضى الرضا بالحال يا عباد الله؟ من الذي فرض هذه الحال المعوجة على المسلمين وقد كانوا منها في عافية وما حجته في ذلك؟
........ يتبع...........