حامد الأنصاري
2008-01-23, 09:15 PM
الفرق بين الاعتراض النحوي والبياني .
بسم الله ، والحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد فقد أردت أن أزيل عن أمثالي من طلبة العلم الإشكال في مسألة من المسائل التي كثر فيها اللغظ ، وهي الفرق بين الاعتراض النحوي والبياني والله أسأل أن يوفقني لتوضيح الفرق بينهما فهو على ذلك قدير وبالإجابة جدير ، وهو حسبي ونعم الوكيل .
أقول مستعينا بالله :
قال الأزهري([1]) في تهذيب اللغة: (( ويقال اعترض الشيء ، إذا مَنَع ، كالخشبة المعترضة في الطريق تمنع السالكين سلوكها . )) ([2]) .
ويشتق مِـن هـذه الْمـادة عـدة ألفـاظ ، والْـمهـم منها فـي هـذا البحث مـا يستخـدمه علماء الـنحـو ، والأصـول ، واللغــة ، والْتفسير ، والبلاغة ، ومَـن سَلَك مسلكـهـم مِـن أرباب علـوم العربية والشريعة .
والملاحظ استخدامُهم لفظ ( اعترض ) بمعني ( منع ، وحال وانتصب ) ، وأخذهم هذا المعنى اللُّغوي وإطلاقــه مجازاً على كل كلام فصل بين كلامين يقول ابن فــارس في كتابه الصاحبي في فقـه اللغة : (( إنَّ من سنن العرب أن يعترض بين الكلام وتمامه ، كلام لا يكون إلاَّ مفيداً )) ([3]) ، وهـذا المعترض هو ما اصطلح على تسميته ( الجملة المعترضة ) ؛ يقول الجرجاني في التعريفات : (( الجملة المعترضة هي الّتي تتوسط بين أجزاء الجملة المستقلة لتقرير معنى يتعلق بها ، أو بأحد أجزائها .)) ([4]) ، وسُمَيَّتْ كذلك لأنَّ المتكلم لا يكمل جملته حتى يأتي بها ، وتكون معترضةً نطقَهُ ، يقول الفيروزآبادي في القاموس: (( الاعتراضُ المَنْعُ ، والأصلُ فيه أنَّ الطريق إذا اعتَرَضَ فيه بناءٌ أو غيرهُ ، منع السابلة من سلوكِهِ . )) ([5]).
ـ معنى مادة ( عرض ) اصطلاحاً .
عرف أبوهلال العسكري ([6]) الاعتراض في كتابه الصناعتين بقوله : (( هو اعتراض كلام في كلام لم يتم ، ثمَّ يرجع إليه فيتمه . )) ([7]).
وعرفه الزَّرْكَشِيّ ([8]) فِـي كتابه البرهـان في علوم القرآن بقوله : (( هو أن يؤتى في أثناء الكلام ، أو كلامين متصلين معنى ، بشيء يتم الغرض الأصلي بدونه ولا يفوت بفواته فيكون فاصلاً بين الكلام أو الكلامين لنكتة . )) ([9]) .
ويعرف النحاة الجملة المعترضة اصطلاحاً بـ( أنَّها تفيد تأكيداً وتسديداً للكلام الذي اعترضت بين أجزائه ) ([10]) كما نص على ذلك ابن هشام الأنصاري ([11]) في كتابه المغني ، وهي على هذا الحد لا تقع إلاَّ بين متلازمين ([12]) .
كالمبتدأ والخبر في نحو قول الله سبحانه :{ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } [ص : 57] ، فجـملة : ( فَلْيَذُوقُوهُ ) اعتراض بين المبتدأ ( هذا ) وخبره ( حميم ٌ )
وكالجملة الواقعة بين الشرط وجوابه في نحو الله جل وعلا : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة : 24] ، فجـملة : ( وَلَن تَفْعَلُواْ ) وقعت بين الشرط وجوابه .
وكالجملة الواقعة بين الصِّفة وموصوفها نحو قوله سبحانه: { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [الواقعة : 76] فجملة ) ö لَّوْ تَعْلَمُونَ ) واقعة بين المنعوت : ( قسمٌ ) ونعتها : ( عظيمٌ ) ، وهلمَّ جرا في كلِّ متلازمين .
ثُمَّ إنَّ العلماء اتفقوا على جـــواز الاعتراض بـجملة واحــدة ، واختلفوا في جوازه بـجملتين أو أكثر ، فالْجمهـور على جــوازه ، و أبو علي الفارسي ([13]) على منعه ([14]) ، والدَّليل مع الْجمهـور ـ والله أعلم ـ ، بدليل قوله جل جلاله : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [آل عمران : 36] ، فجملة: ( وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ) الاسمية ، وجملة : ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ) الفعلية معترضتان بين الجملتين المتعاطفتين المتضمنتين كلام امرأة عمران .
الفرق بين الاعتراض النَّحوي والبَيَاني .
يتفق النُّحاة والبيانيّون ([15]) في تسمية ما وقع بين متلازمين اعتراضاً ، ودليل هذا قول ابن الأثير ([16]) في كتابه المثلُ السائر : (( الاعتراض ، وبعضهم يسمية الحشو . وحدُّهُ كل كلام أدخل فيه لفظ مفرد أو مركب لو أسقط لبقى الأول على حاله . )) ([17]) ، وقول الْـخَطِيب الْقَزْوِيني ([18]) في كتابه الإيضاح في علوم البلاغة: (( الاعتراض ، هو أنْ يُؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب ... كالتنزيه والتعظيم في قوله جل جلاله : { وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } [النحل : 57] . )) ([19]) ، وقول السيوطي في كتابه همع الهوامع في حد الجملة المعترضة هي : (( التي تفيد تأكيداً وتسديداً للكلام الذي اعترضت بين أجزائه . )) ([20]) .
ويخالف البيانيون النُّحاة في تسميتهم التكميل ، والتتميم ، والتذييل ، اعتراضاً ، يقول الخطيب في كتابه الإيضاح في علوم البلاغة : (( ومن النَّاس من لا يقيد فائدة الاعتراض بما ذكرناه ، بل يجوز أن تكون دفع توهم ما يخالف المقصود . )) ([21]) .
وهؤلاء فرقتان ([22]) :
الفرقــــــة الأولى : فرقة لا تشترط في الاعتراض أن يكون واقعاً في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى ، بل يـجوز أن يقـــــع فـي آخـــر كلام لا يليه كـــلام غير متصل به معنى ، فالاعــــتراض عندهم يشمل التذييل ، كما قال ابن عاشور في التحرير والتنوير عند تفسيره لقول الله جل جلاله : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } [النساء : 122] ، فالواو اعتراضية لأنَّ التذييل من أصناف الاعتراض ، وهو اعتراض في آخر الكلام . )) ([23]) ، ومن التكميل مالا مـحل له من الإعراب ، جملــة كان أو أكثر من جملة .
الفــــرقة الثانية : فرقــــة لا تشترط في الاعتراض أن يكون جـملـــــــة ، فالاعتراض عندهم يشمل من التتميم ما كان واقعاً فـي أحد الموقعين ، ومن التكميل ما كــــــان واقعاً في أحدهــما ولا محل له من الإعراب .
ويفهم من كلام الخطيب القزويني([24]) أنَّ بعض علماء البلاغة خالفوا النُّحاة في مصطلح الاعتراض على قولين :
القول الأول : قول يوافق النُّحاة في أصل الاعتراض ، ويخالفهم في اشتراطهم أن يكون جملة أو أكثر، بل يعترضون بالمفرد ، ومنه قول ابن الأثير في المثل السائر: (( الاعتراض ، وبعضهم يسميه الحشو ، وحدُّه كل كلام أدخل فيه لفظ مفرد أو مركب لو أسقط لبقى الأول على حاله . )) ([25]) .
القول الثاني : قول لا يشترط فيه أن يكون واقعاً بين متلازمين ، بل يجوز أن يقع في آخر كلام لا يليه كلام أو يليه كلام غير متصل به معنى ، وهو المفهوم من عبارات الزَّمخشري في تفسيره إن لم يكن هناك تعارض بين متلازمين كقوله : (( { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } حال من فاعل نعبد ، أو من مفعوله ، لرجوع الهاء إليه في له . ويجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد ، وأن تكون جملة اعتراضية مؤكدة ، أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون .)) ([26]) في تفسير ه لقول الله سبحانه وتعالى : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133]
إذا عُلِمَ هذا فليعلم أنَّ البيانيين لا يخالفون النحاة في الاعتراض مطلقاً ، وإنَّما يخالفونهم فيما إذا أرادوا به التكميل ، أوالتتميم ، أوالتذييل لإكمال المعنى ، أو أرادوا به الاعتراض المفرد .
ولذلك يعد مفهوم الاعتراض عند البلاغيين أعمُّ من مفهومِهِ عند النُّحاة ؛ لأنَّ البلاغيين يعدون الجملة الواقعة بين الكلامين المتصلين معنى لا لفظاً ، جملةً معترضةً ، أمَّا النحاةُ فلا يعدونها اعتراضية حتى يكون بين ما قبلها وما بعدها اتصال لفظي ، والجملة الاعتراضية المتوسطة بين متلازمين سقوطها أو بقاؤها لا يؤثر في سياق الجملة المتوسَّط بينها نحوياً ، فلا صلة لها بغيرها ولا محل لها من الإعراب .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
حرر الطالب : حامد الأنصاري
في 15 / مُحـرم / 1429 هـ
--------------------------------------------------------------------------------
[1])) ـ هو محمد بن أحمد الأزهري بن طلحة الهروي اللُّغوي ( 282هـ ـ 370هـ ) أخذ عن نفطويه ، وابن السراج ، من مصنفاته : التقريب في التفسير ، وتفسير ديوان أبي تمام . ينظر : طبقات الشافعية : 2/106 ، ووفيات الأعيان :3/67 .
([2]) ـ تهذيب اللغة مادة ( عرض ) : 3/2399 .
([3]) ـ الصاحبي في فقه اللغة :63ـ نسخة الشاملة .
([4]) ـ التعريفات : 83
([5]) ـ القاموس المحيط مادة ( عرض ) : 2/335 .
[6])) ـ هو أبو هلال الحسن بن عبد الله ابن سهل بن سعيد بن يحيي بن مهران اللغوي العسكري ( ت بعد : 395 هـ ) كان الغالب عليه الأدب والشعر ، له كتاب التلخيص ، وكتاب صناعتي النظم والنثر . ينظر : معجم الأدباء : 8/258 .
([7]) ـ كتاب الصناعتين : 394
[8])) ـ هو بدرالدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي المصري ( ت 745هـ ) ، أخذ عن الأسنوي ، والبلقيني ، من تصانيفه : شَرح علوم الحديث ، والبرهان في علوم القرآن . ينظر : طبقات الشافعية :3/167، والدرر الكامنة :5/133.
([9]) ـ البرهان في علوم القرآن : 3/56
([10]) ـ مغني اللبيب : 2/386 .
([11]) ـ هو أبومحمد عبدالله جـمال الدين ابن هشام الأنصاري الحنبلي النحوي المصري ( 708هـ ـ 761 هـ ) ، أخذ عن التبريزي ، والفاكهاني ، من تصانيفه : الإعراب عن قواعد الإعراب ، ومغني اللبيب . يُنظر : العبر :6/336 ، والدرر الكامنة :3/93 .
[12])) ـ وليس المرادُ بالكلام هنا ، المسند والمسند إليه فقط ؛ بل جميع ما يتعلق به من الفضلات والتوابع ـ فاصلة سواء أكانا مفردين ، أو كانا جملتين متصلتين معنى ، وذلك لإفادة الكلام تقوية ، أو ايضاحاً وبياناً ، لنكتة سوى دفع الإيهام . ينظر : الخصائص :1/335 ـ 340 . ومغني اللبيب : 2/386 ـ 393 .
[13])) ـ هو أبو علي الحسن بن أحمد عبد الغفار الفارسي الفسوي البغدادي ( 288 هـ ـ 377 هـ ) ولِدَ ببلده فسا ، وعلت منزلته في العربية ، وصنف فيها كتباً كثيرة لم يُسبق إلى مثلها حتى اشتهر ذكره في الآفاق ، له : الإيضاح والتكملة ، وكتاب الحُجَّة في القراءات . ينظر : تاريخ بغداد : 7/275 ، ووفيَّات الأعيان : 2/80 .
[14])) ـ ينظر : الخصائص : 1/388 ، وموصل الطلاب إلى قواعد الإعراب : 59 .
[15])) ـ كلمة البياني نسبة إلى البيانيين ، والمراد بهم عُلماء البلاغة عند المتقدمين لا علماء علم البيان فقط ؛ لأنَّ المتقدمين يطلقون على المشتغل بالبلاغة بيانياً هذا من جهةٍ ، ومن جهةٍ أخرى هذه المسألة ، وهي مسألة الاعتراض من مباحث علم المعاني لا علم البيان ، فعُلِمَ من ذلك إنَّ كلمة البيانيين هي من باب إطلاق الجزء على الكل عند المتأخرين ، وإطلاق الكل على الجزء عند المتقدمين .
[16])) ـ هو أبو الفتح ضياء الدين نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير الموصلي ( 555هـ ـ 630 هـ ) . ينظر : وفيات الأعيان : 3/304 ، والنجوم الزاهرة : 6/318 .
[17])) ـ المثلُ السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير :2/ 172.
[18])) ـ هو أبوالمعالي محمد بن عبدالرحمن الخطيب القزويني الشافعي ( 666 هـ ـ 739 هـ ) ، فقيه ، محدث ، أصولي ، عالم بالعربية والمعاني ، والبيان ، من تصانيفه : تلخيص المفتاح ، وشرح الموجز في الطب . ينظر : طبقات الشافعية الكبرى :9/159، والدرر الكامنة :5/249 .
[19])) ـ الإيضاح في علوم البلاغة : 182 .
[20])) ـ همع الهوامع : 2/327 .
[21])) ـ الإيضاح في علوم البلاغة : 184 .
[22])) ـ ينظر : الإيضاح في علوم البلاغة :184 .
[23])) ـ التحرير والتنوير : 5/207 .
[24])) ـ ينظر : الإيضاح في علوم البلاغة : 184 ، 186 .
[25])) ـ المثل السائر : 172 .
([26]) ـ الكشاف :1 /136ـ نسخة الشاملة .
بسم الله ، والحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد فقد أردت أن أزيل عن أمثالي من طلبة العلم الإشكال في مسألة من المسائل التي كثر فيها اللغظ ، وهي الفرق بين الاعتراض النحوي والبياني والله أسأل أن يوفقني لتوضيح الفرق بينهما فهو على ذلك قدير وبالإجابة جدير ، وهو حسبي ونعم الوكيل .
أقول مستعينا بالله :
قال الأزهري([1]) في تهذيب اللغة: (( ويقال اعترض الشيء ، إذا مَنَع ، كالخشبة المعترضة في الطريق تمنع السالكين سلوكها . )) ([2]) .
ويشتق مِـن هـذه الْمـادة عـدة ألفـاظ ، والْـمهـم منها فـي هـذا البحث مـا يستخـدمه علماء الـنحـو ، والأصـول ، واللغــة ، والْتفسير ، والبلاغة ، ومَـن سَلَك مسلكـهـم مِـن أرباب علـوم العربية والشريعة .
والملاحظ استخدامُهم لفظ ( اعترض ) بمعني ( منع ، وحال وانتصب ) ، وأخذهم هذا المعنى اللُّغوي وإطلاقــه مجازاً على كل كلام فصل بين كلامين يقول ابن فــارس في كتابه الصاحبي في فقـه اللغة : (( إنَّ من سنن العرب أن يعترض بين الكلام وتمامه ، كلام لا يكون إلاَّ مفيداً )) ([3]) ، وهـذا المعترض هو ما اصطلح على تسميته ( الجملة المعترضة ) ؛ يقول الجرجاني في التعريفات : (( الجملة المعترضة هي الّتي تتوسط بين أجزاء الجملة المستقلة لتقرير معنى يتعلق بها ، أو بأحد أجزائها .)) ([4]) ، وسُمَيَّتْ كذلك لأنَّ المتكلم لا يكمل جملته حتى يأتي بها ، وتكون معترضةً نطقَهُ ، يقول الفيروزآبادي في القاموس: (( الاعتراضُ المَنْعُ ، والأصلُ فيه أنَّ الطريق إذا اعتَرَضَ فيه بناءٌ أو غيرهُ ، منع السابلة من سلوكِهِ . )) ([5]).
ـ معنى مادة ( عرض ) اصطلاحاً .
عرف أبوهلال العسكري ([6]) الاعتراض في كتابه الصناعتين بقوله : (( هو اعتراض كلام في كلام لم يتم ، ثمَّ يرجع إليه فيتمه . )) ([7]).
وعرفه الزَّرْكَشِيّ ([8]) فِـي كتابه البرهـان في علوم القرآن بقوله : (( هو أن يؤتى في أثناء الكلام ، أو كلامين متصلين معنى ، بشيء يتم الغرض الأصلي بدونه ولا يفوت بفواته فيكون فاصلاً بين الكلام أو الكلامين لنكتة . )) ([9]) .
ويعرف النحاة الجملة المعترضة اصطلاحاً بـ( أنَّها تفيد تأكيداً وتسديداً للكلام الذي اعترضت بين أجزائه ) ([10]) كما نص على ذلك ابن هشام الأنصاري ([11]) في كتابه المغني ، وهي على هذا الحد لا تقع إلاَّ بين متلازمين ([12]) .
كالمبتدأ والخبر في نحو قول الله سبحانه :{ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } [ص : 57] ، فجـملة : ( فَلْيَذُوقُوهُ ) اعتراض بين المبتدأ ( هذا ) وخبره ( حميم ٌ )
وكالجملة الواقعة بين الشرط وجوابه في نحو الله جل وعلا : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة : 24] ، فجـملة : ( وَلَن تَفْعَلُواْ ) وقعت بين الشرط وجوابه .
وكالجملة الواقعة بين الصِّفة وموصوفها نحو قوله سبحانه: { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [الواقعة : 76] فجملة ) ö لَّوْ تَعْلَمُونَ ) واقعة بين المنعوت : ( قسمٌ ) ونعتها : ( عظيمٌ ) ، وهلمَّ جرا في كلِّ متلازمين .
ثُمَّ إنَّ العلماء اتفقوا على جـــواز الاعتراض بـجملة واحــدة ، واختلفوا في جوازه بـجملتين أو أكثر ، فالْجمهـور على جــوازه ، و أبو علي الفارسي ([13]) على منعه ([14]) ، والدَّليل مع الْجمهـور ـ والله أعلم ـ ، بدليل قوله جل جلاله : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [آل عمران : 36] ، فجملة: ( وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ) الاسمية ، وجملة : ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ) الفعلية معترضتان بين الجملتين المتعاطفتين المتضمنتين كلام امرأة عمران .
الفرق بين الاعتراض النَّحوي والبَيَاني .
يتفق النُّحاة والبيانيّون ([15]) في تسمية ما وقع بين متلازمين اعتراضاً ، ودليل هذا قول ابن الأثير ([16]) في كتابه المثلُ السائر : (( الاعتراض ، وبعضهم يسمية الحشو . وحدُّهُ كل كلام أدخل فيه لفظ مفرد أو مركب لو أسقط لبقى الأول على حاله . )) ([17]) ، وقول الْـخَطِيب الْقَزْوِيني ([18]) في كتابه الإيضاح في علوم البلاغة: (( الاعتراض ، هو أنْ يُؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب ... كالتنزيه والتعظيم في قوله جل جلاله : { وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } [النحل : 57] . )) ([19]) ، وقول السيوطي في كتابه همع الهوامع في حد الجملة المعترضة هي : (( التي تفيد تأكيداً وتسديداً للكلام الذي اعترضت بين أجزائه . )) ([20]) .
ويخالف البيانيون النُّحاة في تسميتهم التكميل ، والتتميم ، والتذييل ، اعتراضاً ، يقول الخطيب في كتابه الإيضاح في علوم البلاغة : (( ومن النَّاس من لا يقيد فائدة الاعتراض بما ذكرناه ، بل يجوز أن تكون دفع توهم ما يخالف المقصود . )) ([21]) .
وهؤلاء فرقتان ([22]) :
الفرقــــــة الأولى : فرقة لا تشترط في الاعتراض أن يكون واقعاً في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى ، بل يـجوز أن يقـــــع فـي آخـــر كلام لا يليه كـــلام غير متصل به معنى ، فالاعــــتراض عندهم يشمل التذييل ، كما قال ابن عاشور في التحرير والتنوير عند تفسيره لقول الله جل جلاله : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } [النساء : 122] ، فالواو اعتراضية لأنَّ التذييل من أصناف الاعتراض ، وهو اعتراض في آخر الكلام . )) ([23]) ، ومن التكميل مالا مـحل له من الإعراب ، جملــة كان أو أكثر من جملة .
الفــــرقة الثانية : فرقــــة لا تشترط في الاعتراض أن يكون جـملـــــــة ، فالاعتراض عندهم يشمل من التتميم ما كان واقعاً فـي أحد الموقعين ، ومن التكميل ما كــــــان واقعاً في أحدهــما ولا محل له من الإعراب .
ويفهم من كلام الخطيب القزويني([24]) أنَّ بعض علماء البلاغة خالفوا النُّحاة في مصطلح الاعتراض على قولين :
القول الأول : قول يوافق النُّحاة في أصل الاعتراض ، ويخالفهم في اشتراطهم أن يكون جملة أو أكثر، بل يعترضون بالمفرد ، ومنه قول ابن الأثير في المثل السائر: (( الاعتراض ، وبعضهم يسميه الحشو ، وحدُّه كل كلام أدخل فيه لفظ مفرد أو مركب لو أسقط لبقى الأول على حاله . )) ([25]) .
القول الثاني : قول لا يشترط فيه أن يكون واقعاً بين متلازمين ، بل يجوز أن يقع في آخر كلام لا يليه كلام أو يليه كلام غير متصل به معنى ، وهو المفهوم من عبارات الزَّمخشري في تفسيره إن لم يكن هناك تعارض بين متلازمين كقوله : (( { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } حال من فاعل نعبد ، أو من مفعوله ، لرجوع الهاء إليه في له . ويجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد ، وأن تكون جملة اعتراضية مؤكدة ، أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون .)) ([26]) في تفسير ه لقول الله سبحانه وتعالى : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133]
إذا عُلِمَ هذا فليعلم أنَّ البيانيين لا يخالفون النحاة في الاعتراض مطلقاً ، وإنَّما يخالفونهم فيما إذا أرادوا به التكميل ، أوالتتميم ، أوالتذييل لإكمال المعنى ، أو أرادوا به الاعتراض المفرد .
ولذلك يعد مفهوم الاعتراض عند البلاغيين أعمُّ من مفهومِهِ عند النُّحاة ؛ لأنَّ البلاغيين يعدون الجملة الواقعة بين الكلامين المتصلين معنى لا لفظاً ، جملةً معترضةً ، أمَّا النحاةُ فلا يعدونها اعتراضية حتى يكون بين ما قبلها وما بعدها اتصال لفظي ، والجملة الاعتراضية المتوسطة بين متلازمين سقوطها أو بقاؤها لا يؤثر في سياق الجملة المتوسَّط بينها نحوياً ، فلا صلة لها بغيرها ولا محل لها من الإعراب .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
حرر الطالب : حامد الأنصاري
في 15 / مُحـرم / 1429 هـ
--------------------------------------------------------------------------------
[1])) ـ هو محمد بن أحمد الأزهري بن طلحة الهروي اللُّغوي ( 282هـ ـ 370هـ ) أخذ عن نفطويه ، وابن السراج ، من مصنفاته : التقريب في التفسير ، وتفسير ديوان أبي تمام . ينظر : طبقات الشافعية : 2/106 ، ووفيات الأعيان :3/67 .
([2]) ـ تهذيب اللغة مادة ( عرض ) : 3/2399 .
([3]) ـ الصاحبي في فقه اللغة :63ـ نسخة الشاملة .
([4]) ـ التعريفات : 83
([5]) ـ القاموس المحيط مادة ( عرض ) : 2/335 .
[6])) ـ هو أبو هلال الحسن بن عبد الله ابن سهل بن سعيد بن يحيي بن مهران اللغوي العسكري ( ت بعد : 395 هـ ) كان الغالب عليه الأدب والشعر ، له كتاب التلخيص ، وكتاب صناعتي النظم والنثر . ينظر : معجم الأدباء : 8/258 .
([7]) ـ كتاب الصناعتين : 394
[8])) ـ هو بدرالدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي المصري ( ت 745هـ ) ، أخذ عن الأسنوي ، والبلقيني ، من تصانيفه : شَرح علوم الحديث ، والبرهان في علوم القرآن . ينظر : طبقات الشافعية :3/167، والدرر الكامنة :5/133.
([9]) ـ البرهان في علوم القرآن : 3/56
([10]) ـ مغني اللبيب : 2/386 .
([11]) ـ هو أبومحمد عبدالله جـمال الدين ابن هشام الأنصاري الحنبلي النحوي المصري ( 708هـ ـ 761 هـ ) ، أخذ عن التبريزي ، والفاكهاني ، من تصانيفه : الإعراب عن قواعد الإعراب ، ومغني اللبيب . يُنظر : العبر :6/336 ، والدرر الكامنة :3/93 .
[12])) ـ وليس المرادُ بالكلام هنا ، المسند والمسند إليه فقط ؛ بل جميع ما يتعلق به من الفضلات والتوابع ـ فاصلة سواء أكانا مفردين ، أو كانا جملتين متصلتين معنى ، وذلك لإفادة الكلام تقوية ، أو ايضاحاً وبياناً ، لنكتة سوى دفع الإيهام . ينظر : الخصائص :1/335 ـ 340 . ومغني اللبيب : 2/386 ـ 393 .
[13])) ـ هو أبو علي الحسن بن أحمد عبد الغفار الفارسي الفسوي البغدادي ( 288 هـ ـ 377 هـ ) ولِدَ ببلده فسا ، وعلت منزلته في العربية ، وصنف فيها كتباً كثيرة لم يُسبق إلى مثلها حتى اشتهر ذكره في الآفاق ، له : الإيضاح والتكملة ، وكتاب الحُجَّة في القراءات . ينظر : تاريخ بغداد : 7/275 ، ووفيَّات الأعيان : 2/80 .
[14])) ـ ينظر : الخصائص : 1/388 ، وموصل الطلاب إلى قواعد الإعراب : 59 .
[15])) ـ كلمة البياني نسبة إلى البيانيين ، والمراد بهم عُلماء البلاغة عند المتقدمين لا علماء علم البيان فقط ؛ لأنَّ المتقدمين يطلقون على المشتغل بالبلاغة بيانياً هذا من جهةٍ ، ومن جهةٍ أخرى هذه المسألة ، وهي مسألة الاعتراض من مباحث علم المعاني لا علم البيان ، فعُلِمَ من ذلك إنَّ كلمة البيانيين هي من باب إطلاق الجزء على الكل عند المتأخرين ، وإطلاق الكل على الجزء عند المتقدمين .
[16])) ـ هو أبو الفتح ضياء الدين نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير الموصلي ( 555هـ ـ 630 هـ ) . ينظر : وفيات الأعيان : 3/304 ، والنجوم الزاهرة : 6/318 .
[17])) ـ المثلُ السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير :2/ 172.
[18])) ـ هو أبوالمعالي محمد بن عبدالرحمن الخطيب القزويني الشافعي ( 666 هـ ـ 739 هـ ) ، فقيه ، محدث ، أصولي ، عالم بالعربية والمعاني ، والبيان ، من تصانيفه : تلخيص المفتاح ، وشرح الموجز في الطب . ينظر : طبقات الشافعية الكبرى :9/159، والدرر الكامنة :5/249 .
[19])) ـ الإيضاح في علوم البلاغة : 182 .
[20])) ـ همع الهوامع : 2/327 .
[21])) ـ الإيضاح في علوم البلاغة : 184 .
[22])) ـ ينظر : الإيضاح في علوم البلاغة :184 .
[23])) ـ التحرير والتنوير : 5/207 .
[24])) ـ ينظر : الإيضاح في علوم البلاغة : 184 ، 186 .
[25])) ـ المثل السائر : 172 .
([26]) ـ الكشاف :1 /136ـ نسخة الشاملة .