خالد الشافعي
2013-04-01, 07:55 PM
منقول من الشيخ أكرم زيادة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الذي جعل المسجد الأقصى قلبا لفلسطين.
والصلاة والسلام على سيد المرسلين الذي أُسري به في ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى آية للعالمين.
وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فهذه الحلقة الأولى من رحلتي المقدسية، وفوائدي الماسية منها بعنوان:
«في فلسطين.. لأول مرة أذوق الحلوة والمُرَّةَ».
راجيا تعليقاتكم وتوجيهاتكم.
فإن من عظيم نعم الله عليَّ التي لا تُحصى أن يسر لي زيارة فلسطين أرض الأنبياء، وبلاد الأجداد والآباء.
من صباح يوم الجمعة 26/4/1434هـ، الموافق 8/3/2013م.
إلى مساء يوم الجمعة 3/5/1434هـ، الموافق15/3/2013م.
وقد سميتها ابتداءً:
«الفوائدالماسية من الرحلة المقدسية».
واقترح عليَّ فضيلةالشيخ علي الحلبي ـ حفظه الله ـ هاتفياً تسميتها:
«القول المبين في رحلة القدس وفلسطين».
ثم اقترح الشيخ علي أبو هنية المقدسي تسميتها:
«إسعادالقلب الحزين برحلتي إلى ربوع بلادي فلسطين».
ولأنني سبق وأن كتبت مقالات بعناوين مقاربة للعنوان الأول مثل:
«الفوائدالمعتمد ة من زيارة كندا».
و
«الفوائدالثمينة من رحلة مكة والمدينة».
أحببت أن يكون العنوان الأول:
«الفوائدالماسية من الرحلة المقدسية».
مكملا للعنوانين السابقين ومتمما لهما، مع خالص حبي وتقديري لاقتراح (العَلِيَيْن)الف اضلين.
تقدمت بطلب التأشيرة من السفارة (الصهيونية) في عمان عن طريق أحد المكاتب السياحية المتخصصة باستخراج التأشيرات وتسهيل سفر المسافرين سُيَّاحَاً وزائرين، بعد عودتي من رحلة العمرة الأخيرة، ومشاركتي في دورة المسجد الأقصى المبارك في المدينة النبوية في الفترة ما بين 8/3/1434هـ، الموافق: 20/1/2013م،و14/3/1434هـ، الموافق: 26/1/2013م.
أي تقدمت بطلب التأشيرة في نهايات شهر كانون ثاني (يناير) 2013م، ولم تتم الموافقة الأمنية طبعا على التأشيرة إلا في 6/3/2013م أي بعد حوالي شهر ونصف من التقدم بالطلب.
وكانت تأشيرتي ـ ولله الحمد ـ تأشيرة زيارة؛ زيارة الأهل والأصدقاء، والأحبة، وهي غير تأشيرة السياحة، ولا (تطبيع) فيها ولا ما يفترون!!.
استكملت إجراءات المكتب المذكور يوم الخميس: 25/4/1434هـ، الموافق: 7/3/2103م، وبدأت بالاستعداد للسفر من مساء اليوم المذكور، وبادرت بالاتصال بالأخ الفاضل أمجد سلهب في القدس وأخبرته باحتمال صلاة الجمعة عندهم في بيت المقدس غداً الجمعة، مما شكل له مفاجأة سارة، كما أخبرني بذلك وردده على مسامعي ومسامع الكثيرين من إخواننا في فلسطين بعد ذلك.
اتصل بي ابن أخي (عمار) عدة مرات أثناء استعداداتي لإنهاء إجراءات السفر للذهاب للوالد ونقله إلى بيتي بناء على رغبته الملحة، ولأزوف سفر والده (أخي أحمد) إلى عمله في السعودية، فقلت لنفسي: هذه مُحبطة من المحبطات، ولا سفر غدا وترك الوالد وحده!!.
نقلت الوالد من بيته إلى بيتي، وأصر الوالد أن أنام بقربه، وبقيت مستيقظا إلى ما بعدالثانية فجرا حتى نام الوالد، ثم نمت برهة من الوقت قبيل الفجر، وسفري مقرر بعد الفجر، فقررت إلغاء السفر الذي طالما حلمت به، ولكن أبنائي وزوجتي ـ حفظهم الله ـ تعهدوا بأن يبقوا في خدمة الوالد طيلة فترة غيابي والتي ستستمر أسبوعا كاملاً، فعزمت مع هذا التعهد على السفر.
أخبرت إخواني الذين يقرؤون صباح كل يوم جمعة «موطأ الإمام مالك»، و«عمل اليوم والليلة للنسائي»، وغيرهم بعد قراءتهم بأن لا يحضروا يوم الجمعة القادم بسبب سفري إلى فلسطين.
انطلقت بعد نهاية المجلس في سيارتي رفقة ولدي «محمد قصي» ـ حفظه الله تعالى ـ نحو نقطة تجمع وانطلاق الرحلة في شارع الملكة نور؛ وهو الشارع المؤدي إلى رئاسة الوزراء، بين دوارالداخلية ـ ميدان جمال عبد الناصر ـ والدوار الرابع ـ ميدان الأمير غازي بن محمد.
وصلتُ نقطة التجمع في الوقت المحدد الساعة 8.30 صباحاً، وانتظرنا حتى 8.45، وكان المفترض الانتظار حتى الساعة التاسعة إلا أن جميع الذين قرروا المشاركة في الرحلة كانوا قد تواجدوا في المكان المحدد قبل الوقت الأقصى للانتظار، فانطلقنا على بركة الله من نقطة التجمع إلى نهاية شارع الملكة نور، ثم انعطفنا إلى شارع زهران عند التقاء الشارعين في الدوار الرابع ـ ميدان الأمير غازي بن محمد ـ.
سارت بنا الحافلة في جو ربيعي هادئ جميل، وشوارع يوم جمعة شبه فارغة مُغَرِّبَةً نحو الدوار الثامن، وتمثلت بقول القائل:
سارت مُشَرِّقَةً وسرتُ مُغَرِّبَاً شتان بين مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ!!
مستذكرا تشريقنا مساءالخامس من حزيران سنة النكسة؛ 1967م، حين سرنا من نفس هذا الطريق ـ وكان ضيقاً وباتجاه واحد فقط ـ من منطقة عراق الأمير غرب وادي السير باتجاه وسط العاصمة عمان لاجئين للمرة الثانية بعد المرة الأولى في نكبة سنة 1948م وما تبعها.
ها أنا أعود مرة أخرى إلى فلسطين ومن نفس الطريق التي أُخرجتُ منها قبل نحو ست وأربعين سنة من الآن، رغم أن الطرق الموصلة إلى فلسطين من العاصمة الأردنية عمان كثيرة ومتعددة ولكن شاء الله تعالى أن يعيدني من نفس الطريق تقريبا، فاستبشرت بذلك خيراً.
انعطفت بنا الحافلة قبيل الدوار الثامن باتجاه شارع المدينة الطبية المؤدي إلى منطقة صويلح، ولي على طول هذه الطريق وجانبيها وما حولها ذكريات جميلة وحميمية تعود إلى سنة 1967م وما قبلها بسنوات حيث كنا في كل سنة؛ وفي العطلة الصيفة نأتي إلى هذه المناطق للحصاد، وجني محاصيل القطاني؛ (تقليع) العدس والحمص، وكنت على صغر سني دؤوب الحركة، كثير النشاط بين مضاربنا في الحصيدة والعمل، ومضارب أصحاب الأرض أودكاكين بيادر وادي السير لتزويد الأسرة الحاصدة العاملة الكادحة بالتموينات الضرورية.
فيض من الذكريات تدفقت على رأسي وأنا أمر عبر ربيع بلادنا الأخضر، مستذكرا حين كنا ننطلق من محافظة القدس إلى محافظة العاصمة في المملكةالأردنية الهاشمية، أو العكس، دون أن يكون هناك معوقات، أو تأشيرات، أو احتلال بغيض مقيت يحول بن جناحي الوطن الواحد الموحد، وضفتي النهر الخالد في البلد الواحد!!
انعطفت بنا الحافلة قبيل بلدة صويلح مصعدة في طريق متلويٍ نحو منطقة الإرسال المشرفة على منطقة صويلح وما حولها، ثم بعد أن وصلنا قرب القمة تقريبا بدأنا بالانحدار التدريجي في السفح الغربي من جبل الإرسال في صويلح نحو حي الكمالية غرب صويلح وعلى طريق السلط، والذي له مكانة مميزة في قلبي لأسباب عديدة يطول ذكرها!!
قبيل دخولنا حدود مدينة السلط الكبرى، وعلى إحدى محطات الوقود المعروفة على يمين الطريق صعد مندوب الشركة الناقلة وأخذ يتفقد أسماء المشاركين في الرحلة، وكان أكثر من نصفهم من النساء، وأكثرهن بغير محارم!!
سارت بنا الحافلة من طريق العارضة نحو غور الأردن وأنا أذكر الله وأدعوه أن يُسَلِّمَ بسبب صعوبة الطريق، مستذكرا الحادث الأليم الذي وقع قريبا؛ وقبل نحو شهر في تلك الطريق وراح ضحيته العديد من الناس.
وصلنا غور الأردن وقد لفت انتباهي خلو الطريق من نقطة التفتيش العسكرية الوحيدة التابعة للفرقة المدرعة الرابعة والتي كانت قريبا من طرف الغور وقبل مثلث العارضة، إلى عهد قريب، في حين أن كل معسكرات الجيش والدرك والأمن في البلد محصنة!!
سرنا في غور الأردن متجهين من مثلث العارضة نحو الشمال، إلى معبر بيسان؛ أو معبر وادي الأردن، أو جسرالشيخ حسين.. سموه ما شئتم!!
دخلنا المعبر الأردني المؤدي إلى المعبر الصهيوني، وكانت الإجراءات في المعبر الأردني سلسة وسهلة، وإن كان فيها بعض الطول حتى امتلأت الحافلة الأردنية التي ستنقلنا إلى الطرف الآخر من المعبر، والتي تبين لنا ـ فيما بعد عند عودتنا ـ أن أجرتها تزيد بنسبة 60% عن أجرة مثيلتها في الجانب الصهيوني، فأجرة الحفلة الأردنية من الجانب الأردني إلى الجانب الصهيوني (160) قرشاً أردنياً، والحافلة الصهيونية أجرتها ديناراً أردنياً، أو (5) شواقل صهيونية.
توقفت الحافلة الأردنية على المعبر الآخر وقتا طويلاً نسبياً مع الوقوف في المعبر الأردني حتى سُمح لها الدخول إلى الجانب الآخر من المعبر، بينما لم تتأخر الحافلة الصهيونية ـ كما سيتبين لنا في العودة ـ على المعبر الأردني شيئاً .
دخلنا المعبر الآخر إلى الأراضي الفلسطينية التاريخية، وهذه المرة الأولى في حياتي التي أضطر فيها للتعامل مع الصهاينة المحتلين الغاصبين، وتم تفتيش أمتعتي إلكترونيا بسهولة وسلاسة، ولم يسألني أحد من الصهاينة عن شيء، وصرت في الطرف الآخر من المعبر، وانتظرنا ساعات حتى بدأوا بإجراءات دخولنا، والتدقيق في هوياتنا وجوازات سفرنا وتأشيرتنا الجماعية، بسبب تأخر مندوب الشركة الناقلة لنا، والذي معه تأشيرتنا الجماعية ـ كما أخبرونا على المعبر معتذرين عن تأخيرنا ـ بالوصول من القدس.
لاحظت تأخير الصهاينة للعرب الذين يحملون جنسيات أمريكية على المعبر أكثر من غيرهم، حتى قال بعض الفضلاء: الأمريكي لا يجد إذلالاً على الحدود والمعابر إلا في هذا الكيان!!
قبيل العصر بقليل انتهت الاجراءات، وسلمونا ورقة بيضاء عليها ختم المعبر كوثيقة، مع صورة جواز السفر لنتمكن من الحركة بها داخل وطننا المحتل، وتجاوزنا نقطة الحدود على المعبر إلى داخل الاستراحة الملاصقة للانتقال بالحافلة بعد ذلك من الاستراحة إلى داخل فلسطين التاريخية.
توضأت في الاستراحة، وخرجت إلى ساحة عشبية مزروعة بشجرات نخيل بيسانية حديثة!!.
أذَّنْتُ بصوت يسمعه من حولي ومنظري يوحي بالأذان أيضاً، وأقمت الصلاة لصلاة الظهر، فلم يشاركني الصلاة إلا رجل واحد فقط من نحو خمسين راكباً رجالا ونساء معي على نفس الحافلة غير سائقي الحافلات الأخرى المسلمين المتواجدين في الاستراحة.
سجدت للمرة الأولى في حياتي بعد بلوغي سن التكليف على أرض فلسطين التاريخية، فوالله لقد شممت للأرض عبقاً خاصاً لم أشمه لغيرها، ولا أدري أهو شعور نفسي، أم هو حقيقة بيولوجية طبيعية، وكان لسجودي وصلاتي الأولى على أرض فلسطين خشوع خاص، وطعم خاص، ورائحة خاصة.
صليت الظهر والعصر جمعا وقصرا على أرض بيسان التاريخية، وتحت شجرها التاريخي، بعد أن توضأت من مياهها لأول مرة في حياتي بعد أن جاوزت نصف قرن من عمري ولم أنعم بوضوء من ماء بلدي، أو صلاة ـ بعد بلوغي ـ على ثراها!!
ذكرني عبق وريح العشب البيساني الذي صليت عليه بقول حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قبل الإسلام، وربما بعده كما يوحي بذلك البيت الثاني إن صحت نسبته إليه:
مِن خَمْرِ بَيْسَانَ تَخَيّرْتُها دِرْياقَةً تُوشِكُ فَتْرَ العِظامْ
وهي حرامٌ طَيِّبٌ شُرْبُها يا ربّ ماأَطْيَبَ شُرْبَ الحرامْ
فقلت لنفسي معارضا ولست بشاعر:
من عشب بيسان تشممتها أرضَ فلسطين رغم الرغام
وهي أرضي من عقود فقدتُها فيا رب رُدَّ أرض الكرام
اتصلت ـ كعادتي ـ بعد انتهاء إجراءات الدخول إلى فلسطين ببعض من يهمني أمرهم، ويهمهم أمري، في الأردن وغيرها، وأخبرتهم بسفري ووجهتي، وفترة غيبتي المقررة مسبقاً، وعلى الشرائح الهاتفية الأردنية والتي بقيت عاملة طيلة الوقت على جانبي النهر وضفتيه إلى ما بعد مدينة أريحا!!.
خرجت بنا الحافلة المقدسية، والتي يقودها سائقان عربيان من مدينة الخليل أو من مدينة القدس كما توحي بذلك أسماء عشيرتيهما ولهجتهما، لأن كثيرا من عشائر الخليل لها فروع في مدينة القدس لأسباب تاريخية ونضالية معروفة بدأب مدينة الخليل وعشائرها على مساندة القدس والمقدسيين في فترات الجهاد والنضال على مدى التاريخ، مما حدا بكثير من أهل الخليل على الاستقرار في مدينة القدس على مدى التاريخ، وهو سر اشتراك كثير من أسماء العشائر في القدس والخليل بنفس الاسم.
توجهت بنا الحافلة من المعبر الشمالي القريب من بيسان نحو الغرب، ثم سرعان ما واجهتنا لوحة طريق إرشادية ترشد إلى القدس جنوباً، وإلى طبريا شمالاً، فاتجهنا جنوبا في طريق الغور الغربي نحو بيت المقدس.
وتمثلت بقول أبي نواس:
وقاسَيْنَ لَيْلاً دونَ بَيْسانَ لم يكَدْ سنَا صُبْحِهِ للناظرينَ يُنِيرُ
وأصْبحنَ قد فوّزْنَ من نهرِ فُطرُسٍ وهُنّ عنِ البيْتِ المقدّسِ زُورُ
طوالبَ بالرّكْبانِ غزة َ هاشمٍ وفي الفَرَمَا من حاجِهِنّ شُقُورُ
هالني منظر السهول الخضراء التي تموج بسنابل القمح في هذا الوقت الربيعي من السنة، وكذلك مزارعا لأبقار الحافلة بالأبقار السمينة الحلوب، ولأول مرة في حياتي أشاهد من يُطلق عليهم اسم ووصف (المتدينين) الصهاينة بلحاهم الكثة، وملابسهم السوداء، وقبعاتهم الأمريكية التي تشبه قبعات رعاة البقر الأمريكان.
ولفت انتباهي كثرة استخدام المحتلين الصهاينة للطاقة الشمسية بكثرة لافتة للنظر وللانتباه، وكأنهم يريدون سرقة الطاقة الشمسية من بلادنا قبل أن يرحلوا عنها قريبا إن شاء الله تعالى.
تذكرت ـ وأنا أنظر إلى إشجار النخيل من نوع (مجهول) ـ والذي أخبرنا سائق الحافلة أن فسائله قد استُورِدَت أو نُهبت من العراق ـ على جانبي الطريق وخاصة الأيسر منه ـ ونحن متجهون جنوبا نحو أريحا وبيت المقدس ـ بمحاذاة نهر الأردن ـ حديث تميم بن أوس الداري الذي في «صحيح مسلم» (7573) والذي ترويه فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أُخْتَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ عن صفة الجساسة، والدجال، وسؤاله عن نخل بيسان ـ وبيسان صارت خلفنا في الشمال ـ فَقَالَ [الدجال]:
«أَخْبِرُونِى عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ؟! قُلْنَاعَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟! قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ. قَالَ أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لاَ تُثْمِرَ. قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ؟ !. قُلْنَا عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟! قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ. قَالَ أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ...».
تذكرت هذا الحديث بتمامه، وكنت سمعت به أول مرة في نحو سنة1973م، قبيل حرب العاشر من رمضان سنة 1393هـ، (تشرين، أكتوبر) سنة 1973م، ورجعت إلى كتاب «رياض الصالحين» ـ حينها ـ حيث الحديث فيه، أردد النظر وأقلبه، وأسأل عن طبريا وبيسان ونخلها، وما يتعلق بهما، وحين كنت أردده على مسامع بعض أصحابي لا يصدقون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرف طبريا وماءها، وبيسان ونخلها.
سرحت في أفكاري بعيدا إلى القرن الأول، والعصر النبوي الأزهر، والمسجد النبوي الأنور، وتصورت النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وحوله أصحابه الكرام مجتمعين، وفي أول صفوف النساء فاطمة بنت قيس تسمع وترى، وتحفظ، لتروي بعد ذلك وتُخبر، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم جالسٌ على المنبر في مسجده المطهر، جَذلاً فَرِحاً بخبر تميم ابن أوس الداري الذي صَدَّقَ قولَه الذي أخبر به أصحابه من قبل عن خبر الدجال، ثم ها هو تمبم يأتي مسلما مبايعا مخبرا عن عجيبة رآها، وحادثة معينة خَبِرَها ووعاها، وها نحن الآن نسير في أرض عرفها الدجال قبلنا بقرون عديدة، ويعرف خبرها ومستقبلها أكثر مما نعرفه نحن، ولولا خبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لما عرفنا عنها شيئاً؛ بل لولا الحديث النبوي الشريف واهتمامنا به لما عرفنا من هذه الأخبار شيئا، ولكان حالنا كحال كثير ممن معنا الآن في هذه الراحلة!! الحافلة.
سرحت وأنا أنظر يمينا ويسارا مبهورا بخصوبة بلادنا وبخضرتها، وأمدُّ النظر أحيانا هناك شرقي النهر على بعد مئات الأمتار أحيانا وبضع كيلو مترات أحيانا أخرى لأرى ما يحاذي هذه البلاد من الشق الآخر من الوطن، وأتصور الطائر بجناحيه وأنا على جناح من جناحيه، وقبل ساعات كنت على الجناح الآخر، وطن واحد كان وسيبقى على مدى التاريخ يفصل بين شقيه نهر وشريان الحياة الخالد لا حدا فاصلا بل شريانا واصلا لضفتيه وشقيه.
تذكرت الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وهم يتنقلون بين ضفتي الوطن، وبين ربوع الشام من دمشق وبيروت وعمان إلى بيت المقدس مرورا بهذه الأرض التي نسير عليها لا يخشون مستوطنا مغتصبا، ولا حاجز احتلال وتفتيش، ولا كاميرات مراقبة ترقب الصغير والكبيرالمتحرك على هذه الضفة أو تلك!!.
لفت نظري أيضا كثرة (المناحل)؛ ـ صناديق خلايا النحل ـ على جانبي الطريق مما أكد في نفسي ما أخبرني به أحد الأخوة الفضلاء بعد ذلك وهو يتجول بي في أرض فلسطين التاريخية مؤكدا لي أن اليهود ـ عموما والصهاينة خصوصا ـ مبدعون في الزراعة دون غيرها، وأنهم مزارعون بامتياز، وليسوا صناعيين، ولا أكاديميين ولا علميين، ولا طبيعيين، مما ذكرني بما رواه البخاري رحمه الله تعالى برقم (2720) عن عَبْدِ اللهِ بن مسعود، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:
«أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا».
لأنهم لما افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ «وَاشْتَرَطَ أَنَّ لَهُ الأَرْضَ، وَكُلَّ صَفْرَاءَ، وَبَيْضَاءَ، قَالَ أَهْلُ خَيْبَرَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِالأَرْضِ مِنْكُمْ، فَأَعْطِنَاهَا عَلَى أَنَّ لَكُمْ نِصْفَ الثَّمَرَةِ، وَلَنَا نِصْفٌ». فَزَعَمَ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ حِينَ يُصْرَمُ النَّخْلُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَحَزَرَعَلَيْه ِمُ النَّخْلَ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْخَرْصَ،فَقَا لَ: فِي ذِهْ كَذَا وَكَذَا. قَالُوا: أَكْثَرْتَ عَلَيْنَا يَا ابْنَ رَوَاحَةَ، فَقَالَ: فَأَنَا أَلِي حَزْرَ النَّخْلِ، وَأُعْطِيكُمْ نِصْفَ الَّذِي قُلْتُ: قَالُوا: هَذَا الْحَقُّ، وَبِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ،قَدْ رَضِينَا أَنْ نَأْخُذَهُ بِالَّذِي قُلْتَ».
رواه أبو داود (3410)، وابن ماجه (1820) ـ كلاهما، وغيرهما ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وحسنه شيخنا فيهما، وفي العديد من كتبه.
سرحت في أفكاري تلك، وأغلقت المصحف في يدي أرقب وأكتب بعض ما أمر به من ملاحظات ستعينني ـ إن شاء الله ـ على كتابتي هذه، حتى تنبهت على صوت السائق يشير بيده يسارا نحو حاجز تفتيش كأنه معبر حدودي، وعليه لوحة إرشادية تشير غربا إلى حيفا والعفولة، قائلا:
هذا حاجز بيسان، ونحن خارجون الآن إلى أراضي السلطة الفلسطينية، وليس هنا ما يُشَكِّلُ مُشْكِلَةً، ولكن عندما تدخلون من الجهة الأخرى فسوف تقفون للتفتيش وكأنكم على معبر حدودي، تُنزلون الأغراض، وتُفَتَّشون، فتنبهوا لمثل هذا.
ها أنا الآن أتمثل قول عبد الرحمن بارود:
تابعواالَكشفَ يا زَعاماتِ قَومي فبِكم تَفْخَرُ الكشوفُ العِظامُ
أيهوديةٌ فلسطيُن أيضاً ؟ وأخونا ذو الغِبْطةِ الحاخامُ ؟
أَوَ هذا وَعْدٌ لبلفورَ ثانِ ؟ فامضِ بِلْفورُ.. ما عليكَ مَلامُ
أيهاالبائعونَ حيفا ويافا أهجومٌ هذا أمِ استسلامُ ؟
قد جَلَبْتُمْ عارَ الزمان .. ولكنْ عَضَّ فَكَّ المعارضينَ اللِّجامُ
ومن الناسِ- يا جميلُ - .. قرودٌ ومِنَ الناسِ - إي وربي - نَعامُ
تجاوزنا الحاجز، وإن شئت فقل: المعبر الحدودي، فتغيرت رصفة الطريق وتعبيدها مباشرة من الحسن إلى الأسوأ، ولكن الخضرة لا زالت كثيرة، والزروع وفيرة، وعلم فلسطين يرفرف هنا وهناك في بعض المواقع، واختلفت لوحات السيارات من الأصفر البرتقالي، إلى الأبيض والأخضرالفاتح، ففهمت أنها أرقام سيارات الضفة الغربية، والسلطة الفلسطينية، ولكن الطريق الأمني الرملي الممهد المحاذي للشبك الحدودي والطريق لا زال مرافقا لطريقنا.. مساجد ومآذن هنا وهناك.. دحنون أحمر.. زهر أصفر..(براكيات) وخرابيش.. مضارب وبيوت شَعَر.. عمال وعاملات فلسطينيون بائسون يعملون في الأرض بكد.. الحاجز الحدودي..الأسلاك الشائكةالحديدية المزدوجة غرب النهر.
لفت انتباهي تلك اللوحة المستطيلة العمودية الحمراء المنصوبة على عمودين قائمين ـ والتي سأراها بعد ذلك بكثرة عند تداخل حدود الأراضي الفلسطينية تحت حكم السلطةالوطنية الفلسطينية والأراضي المغتصبة تحت الاحتلال الصهيوني الغاشم ـ والمكتوبة بخطوط بيضاء عربية وعبرية وإنجليزية تحذر المستوطنين خصوصاً، والصهاينة عموماً من دخول مناطق السلطة الفلسطينية الخطرة تحت طائلة المسؤولية الجنائية لما يشكله دخولهم إليها من مخاطر على سلامتهم وأمنهم، فقلت لنفسي:
لا يردع هؤلاء المحتلين الغاصبين إلا الخوف والرعب.
قال سائق الحافلة ـ مشيرا إلى بعض الحقول والأراضي المزروعةـ: هذه أراضي أردنية، وبعضها فلسطيني، واليهود الآن يستأجرونها ويزرعونها بموجب اتفاقيات (أوسلو)، ومعاهدة وادي عربة.. الأرض المحتلة المغتصبة أيضا يعمل فيها العمال الفلسطينيون أجراء!!.
نظرت إلى الطرق الرملية الممهدة بمحاذاة الأسلاك الشائكة الحدودية، وتذكرت الفدائيين الفلسطينيين من مختلف الفصائل قبل أيلول سنة 1970م، وبياناتهم الكثيرة والمتضاربة حول العمليات اليومية والليلية عبر النهر على المواقع والمستوطنات والدوريات الصهيونية المحتلة.
تذكرت حرب الاستنزاف بين حزيران سنة 1967م، وشباط سنة 1968م قبيل معركة الكرامة في 21/3/1968م حين كنا في مخيم غور النمرين، ثم في مخيم دامية، قرب جسر (اللنبي)، ثم في مخيم غور النمرين مرة أخرى قبل الرحيل إلى الفحيص، ثم مخيم ماركا الذي صار بعد ذلك مخيم (شنلر) فمخيم حطين.
تذكرت كيف كنا نرى وهج الرصاص ينطلق من بنادق المقاتلين المهاجمين، وبنادق المدافعين المحتلين يُتَبَادَلُ ليليا في جبال القدس وأريحا ونابلس قبالة المخيمين.
تذكرت أولئك المقاتلين حين كانوا يمرون عن المخيمات أو ينطلقوا منها أو يعودوا إليها مساء أو صباحا نحو أهدافهم غرب النهر أو شرقه..
تذكرت الرياح والزوابع التي كانت تقتلع الخيام في أواخر فصل الصيف وأوائل فصل الخريف في رمضان في مخيم غور النمرين..
ثم تذكرت المطر والطين والخيام الغير مانعة من الماء في فصل الشتاء الذي حلَّ مبكراسنة 1967 و1968م بعد النكسة..
تذكرت وتخيلت كم من رجل مغوار حمل روحه على راحته وعبر هذه الحدود في تلك السنوات
الثلاث قبل أيلول الأسود سنة 1970م.
يتبع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الذي جعل المسجد الأقصى قلبا لفلسطين.
والصلاة والسلام على سيد المرسلين الذي أُسري به في ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى آية للعالمين.
وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فهذه الحلقة الأولى من رحلتي المقدسية، وفوائدي الماسية منها بعنوان:
«في فلسطين.. لأول مرة أذوق الحلوة والمُرَّةَ».
راجيا تعليقاتكم وتوجيهاتكم.
فإن من عظيم نعم الله عليَّ التي لا تُحصى أن يسر لي زيارة فلسطين أرض الأنبياء، وبلاد الأجداد والآباء.
من صباح يوم الجمعة 26/4/1434هـ، الموافق 8/3/2013م.
إلى مساء يوم الجمعة 3/5/1434هـ، الموافق15/3/2013م.
وقد سميتها ابتداءً:
«الفوائدالماسية من الرحلة المقدسية».
واقترح عليَّ فضيلةالشيخ علي الحلبي ـ حفظه الله ـ هاتفياً تسميتها:
«القول المبين في رحلة القدس وفلسطين».
ثم اقترح الشيخ علي أبو هنية المقدسي تسميتها:
«إسعادالقلب الحزين برحلتي إلى ربوع بلادي فلسطين».
ولأنني سبق وأن كتبت مقالات بعناوين مقاربة للعنوان الأول مثل:
«الفوائدالمعتمد ة من زيارة كندا».
و
«الفوائدالثمينة من رحلة مكة والمدينة».
أحببت أن يكون العنوان الأول:
«الفوائدالماسية من الرحلة المقدسية».
مكملا للعنوانين السابقين ومتمما لهما، مع خالص حبي وتقديري لاقتراح (العَلِيَيْن)الف اضلين.
تقدمت بطلب التأشيرة من السفارة (الصهيونية) في عمان عن طريق أحد المكاتب السياحية المتخصصة باستخراج التأشيرات وتسهيل سفر المسافرين سُيَّاحَاً وزائرين، بعد عودتي من رحلة العمرة الأخيرة، ومشاركتي في دورة المسجد الأقصى المبارك في المدينة النبوية في الفترة ما بين 8/3/1434هـ، الموافق: 20/1/2013م،و14/3/1434هـ، الموافق: 26/1/2013م.
أي تقدمت بطلب التأشيرة في نهايات شهر كانون ثاني (يناير) 2013م، ولم تتم الموافقة الأمنية طبعا على التأشيرة إلا في 6/3/2013م أي بعد حوالي شهر ونصف من التقدم بالطلب.
وكانت تأشيرتي ـ ولله الحمد ـ تأشيرة زيارة؛ زيارة الأهل والأصدقاء، والأحبة، وهي غير تأشيرة السياحة، ولا (تطبيع) فيها ولا ما يفترون!!.
استكملت إجراءات المكتب المذكور يوم الخميس: 25/4/1434هـ، الموافق: 7/3/2103م، وبدأت بالاستعداد للسفر من مساء اليوم المذكور، وبادرت بالاتصال بالأخ الفاضل أمجد سلهب في القدس وأخبرته باحتمال صلاة الجمعة عندهم في بيت المقدس غداً الجمعة، مما شكل له مفاجأة سارة، كما أخبرني بذلك وردده على مسامعي ومسامع الكثيرين من إخواننا في فلسطين بعد ذلك.
اتصل بي ابن أخي (عمار) عدة مرات أثناء استعداداتي لإنهاء إجراءات السفر للذهاب للوالد ونقله إلى بيتي بناء على رغبته الملحة، ولأزوف سفر والده (أخي أحمد) إلى عمله في السعودية، فقلت لنفسي: هذه مُحبطة من المحبطات، ولا سفر غدا وترك الوالد وحده!!.
نقلت الوالد من بيته إلى بيتي، وأصر الوالد أن أنام بقربه، وبقيت مستيقظا إلى ما بعدالثانية فجرا حتى نام الوالد، ثم نمت برهة من الوقت قبيل الفجر، وسفري مقرر بعد الفجر، فقررت إلغاء السفر الذي طالما حلمت به، ولكن أبنائي وزوجتي ـ حفظهم الله ـ تعهدوا بأن يبقوا في خدمة الوالد طيلة فترة غيابي والتي ستستمر أسبوعا كاملاً، فعزمت مع هذا التعهد على السفر.
أخبرت إخواني الذين يقرؤون صباح كل يوم جمعة «موطأ الإمام مالك»، و«عمل اليوم والليلة للنسائي»، وغيرهم بعد قراءتهم بأن لا يحضروا يوم الجمعة القادم بسبب سفري إلى فلسطين.
انطلقت بعد نهاية المجلس في سيارتي رفقة ولدي «محمد قصي» ـ حفظه الله تعالى ـ نحو نقطة تجمع وانطلاق الرحلة في شارع الملكة نور؛ وهو الشارع المؤدي إلى رئاسة الوزراء، بين دوارالداخلية ـ ميدان جمال عبد الناصر ـ والدوار الرابع ـ ميدان الأمير غازي بن محمد.
وصلتُ نقطة التجمع في الوقت المحدد الساعة 8.30 صباحاً، وانتظرنا حتى 8.45، وكان المفترض الانتظار حتى الساعة التاسعة إلا أن جميع الذين قرروا المشاركة في الرحلة كانوا قد تواجدوا في المكان المحدد قبل الوقت الأقصى للانتظار، فانطلقنا على بركة الله من نقطة التجمع إلى نهاية شارع الملكة نور، ثم انعطفنا إلى شارع زهران عند التقاء الشارعين في الدوار الرابع ـ ميدان الأمير غازي بن محمد ـ.
سارت بنا الحافلة في جو ربيعي هادئ جميل، وشوارع يوم جمعة شبه فارغة مُغَرِّبَةً نحو الدوار الثامن، وتمثلت بقول القائل:
سارت مُشَرِّقَةً وسرتُ مُغَرِّبَاً شتان بين مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ!!
مستذكرا تشريقنا مساءالخامس من حزيران سنة النكسة؛ 1967م، حين سرنا من نفس هذا الطريق ـ وكان ضيقاً وباتجاه واحد فقط ـ من منطقة عراق الأمير غرب وادي السير باتجاه وسط العاصمة عمان لاجئين للمرة الثانية بعد المرة الأولى في نكبة سنة 1948م وما تبعها.
ها أنا أعود مرة أخرى إلى فلسطين ومن نفس الطريق التي أُخرجتُ منها قبل نحو ست وأربعين سنة من الآن، رغم أن الطرق الموصلة إلى فلسطين من العاصمة الأردنية عمان كثيرة ومتعددة ولكن شاء الله تعالى أن يعيدني من نفس الطريق تقريبا، فاستبشرت بذلك خيراً.
انعطفت بنا الحافلة قبيل الدوار الثامن باتجاه شارع المدينة الطبية المؤدي إلى منطقة صويلح، ولي على طول هذه الطريق وجانبيها وما حولها ذكريات جميلة وحميمية تعود إلى سنة 1967م وما قبلها بسنوات حيث كنا في كل سنة؛ وفي العطلة الصيفة نأتي إلى هذه المناطق للحصاد، وجني محاصيل القطاني؛ (تقليع) العدس والحمص، وكنت على صغر سني دؤوب الحركة، كثير النشاط بين مضاربنا في الحصيدة والعمل، ومضارب أصحاب الأرض أودكاكين بيادر وادي السير لتزويد الأسرة الحاصدة العاملة الكادحة بالتموينات الضرورية.
فيض من الذكريات تدفقت على رأسي وأنا أمر عبر ربيع بلادنا الأخضر، مستذكرا حين كنا ننطلق من محافظة القدس إلى محافظة العاصمة في المملكةالأردنية الهاشمية، أو العكس، دون أن يكون هناك معوقات، أو تأشيرات، أو احتلال بغيض مقيت يحول بن جناحي الوطن الواحد الموحد، وضفتي النهر الخالد في البلد الواحد!!
انعطفت بنا الحافلة قبيل بلدة صويلح مصعدة في طريق متلويٍ نحو منطقة الإرسال المشرفة على منطقة صويلح وما حولها، ثم بعد أن وصلنا قرب القمة تقريبا بدأنا بالانحدار التدريجي في السفح الغربي من جبل الإرسال في صويلح نحو حي الكمالية غرب صويلح وعلى طريق السلط، والذي له مكانة مميزة في قلبي لأسباب عديدة يطول ذكرها!!
قبيل دخولنا حدود مدينة السلط الكبرى، وعلى إحدى محطات الوقود المعروفة على يمين الطريق صعد مندوب الشركة الناقلة وأخذ يتفقد أسماء المشاركين في الرحلة، وكان أكثر من نصفهم من النساء، وأكثرهن بغير محارم!!
سارت بنا الحافلة من طريق العارضة نحو غور الأردن وأنا أذكر الله وأدعوه أن يُسَلِّمَ بسبب صعوبة الطريق، مستذكرا الحادث الأليم الذي وقع قريبا؛ وقبل نحو شهر في تلك الطريق وراح ضحيته العديد من الناس.
وصلنا غور الأردن وقد لفت انتباهي خلو الطريق من نقطة التفتيش العسكرية الوحيدة التابعة للفرقة المدرعة الرابعة والتي كانت قريبا من طرف الغور وقبل مثلث العارضة، إلى عهد قريب، في حين أن كل معسكرات الجيش والدرك والأمن في البلد محصنة!!
سرنا في غور الأردن متجهين من مثلث العارضة نحو الشمال، إلى معبر بيسان؛ أو معبر وادي الأردن، أو جسرالشيخ حسين.. سموه ما شئتم!!
دخلنا المعبر الأردني المؤدي إلى المعبر الصهيوني، وكانت الإجراءات في المعبر الأردني سلسة وسهلة، وإن كان فيها بعض الطول حتى امتلأت الحافلة الأردنية التي ستنقلنا إلى الطرف الآخر من المعبر، والتي تبين لنا ـ فيما بعد عند عودتنا ـ أن أجرتها تزيد بنسبة 60% عن أجرة مثيلتها في الجانب الصهيوني، فأجرة الحفلة الأردنية من الجانب الأردني إلى الجانب الصهيوني (160) قرشاً أردنياً، والحافلة الصهيونية أجرتها ديناراً أردنياً، أو (5) شواقل صهيونية.
توقفت الحافلة الأردنية على المعبر الآخر وقتا طويلاً نسبياً مع الوقوف في المعبر الأردني حتى سُمح لها الدخول إلى الجانب الآخر من المعبر، بينما لم تتأخر الحافلة الصهيونية ـ كما سيتبين لنا في العودة ـ على المعبر الأردني شيئاً .
دخلنا المعبر الآخر إلى الأراضي الفلسطينية التاريخية، وهذه المرة الأولى في حياتي التي أضطر فيها للتعامل مع الصهاينة المحتلين الغاصبين، وتم تفتيش أمتعتي إلكترونيا بسهولة وسلاسة، ولم يسألني أحد من الصهاينة عن شيء، وصرت في الطرف الآخر من المعبر، وانتظرنا ساعات حتى بدأوا بإجراءات دخولنا، والتدقيق في هوياتنا وجوازات سفرنا وتأشيرتنا الجماعية، بسبب تأخر مندوب الشركة الناقلة لنا، والذي معه تأشيرتنا الجماعية ـ كما أخبرونا على المعبر معتذرين عن تأخيرنا ـ بالوصول من القدس.
لاحظت تأخير الصهاينة للعرب الذين يحملون جنسيات أمريكية على المعبر أكثر من غيرهم، حتى قال بعض الفضلاء: الأمريكي لا يجد إذلالاً على الحدود والمعابر إلا في هذا الكيان!!
قبيل العصر بقليل انتهت الاجراءات، وسلمونا ورقة بيضاء عليها ختم المعبر كوثيقة، مع صورة جواز السفر لنتمكن من الحركة بها داخل وطننا المحتل، وتجاوزنا نقطة الحدود على المعبر إلى داخل الاستراحة الملاصقة للانتقال بالحافلة بعد ذلك من الاستراحة إلى داخل فلسطين التاريخية.
توضأت في الاستراحة، وخرجت إلى ساحة عشبية مزروعة بشجرات نخيل بيسانية حديثة!!.
أذَّنْتُ بصوت يسمعه من حولي ومنظري يوحي بالأذان أيضاً، وأقمت الصلاة لصلاة الظهر، فلم يشاركني الصلاة إلا رجل واحد فقط من نحو خمسين راكباً رجالا ونساء معي على نفس الحافلة غير سائقي الحافلات الأخرى المسلمين المتواجدين في الاستراحة.
سجدت للمرة الأولى في حياتي بعد بلوغي سن التكليف على أرض فلسطين التاريخية، فوالله لقد شممت للأرض عبقاً خاصاً لم أشمه لغيرها، ولا أدري أهو شعور نفسي، أم هو حقيقة بيولوجية طبيعية، وكان لسجودي وصلاتي الأولى على أرض فلسطين خشوع خاص، وطعم خاص، ورائحة خاصة.
صليت الظهر والعصر جمعا وقصرا على أرض بيسان التاريخية، وتحت شجرها التاريخي، بعد أن توضأت من مياهها لأول مرة في حياتي بعد أن جاوزت نصف قرن من عمري ولم أنعم بوضوء من ماء بلدي، أو صلاة ـ بعد بلوغي ـ على ثراها!!
ذكرني عبق وريح العشب البيساني الذي صليت عليه بقول حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قبل الإسلام، وربما بعده كما يوحي بذلك البيت الثاني إن صحت نسبته إليه:
مِن خَمْرِ بَيْسَانَ تَخَيّرْتُها دِرْياقَةً تُوشِكُ فَتْرَ العِظامْ
وهي حرامٌ طَيِّبٌ شُرْبُها يا ربّ ماأَطْيَبَ شُرْبَ الحرامْ
فقلت لنفسي معارضا ولست بشاعر:
من عشب بيسان تشممتها أرضَ فلسطين رغم الرغام
وهي أرضي من عقود فقدتُها فيا رب رُدَّ أرض الكرام
اتصلت ـ كعادتي ـ بعد انتهاء إجراءات الدخول إلى فلسطين ببعض من يهمني أمرهم، ويهمهم أمري، في الأردن وغيرها، وأخبرتهم بسفري ووجهتي، وفترة غيبتي المقررة مسبقاً، وعلى الشرائح الهاتفية الأردنية والتي بقيت عاملة طيلة الوقت على جانبي النهر وضفتيه إلى ما بعد مدينة أريحا!!.
خرجت بنا الحافلة المقدسية، والتي يقودها سائقان عربيان من مدينة الخليل أو من مدينة القدس كما توحي بذلك أسماء عشيرتيهما ولهجتهما، لأن كثيرا من عشائر الخليل لها فروع في مدينة القدس لأسباب تاريخية ونضالية معروفة بدأب مدينة الخليل وعشائرها على مساندة القدس والمقدسيين في فترات الجهاد والنضال على مدى التاريخ، مما حدا بكثير من أهل الخليل على الاستقرار في مدينة القدس على مدى التاريخ، وهو سر اشتراك كثير من أسماء العشائر في القدس والخليل بنفس الاسم.
توجهت بنا الحافلة من المعبر الشمالي القريب من بيسان نحو الغرب، ثم سرعان ما واجهتنا لوحة طريق إرشادية ترشد إلى القدس جنوباً، وإلى طبريا شمالاً، فاتجهنا جنوبا في طريق الغور الغربي نحو بيت المقدس.
وتمثلت بقول أبي نواس:
وقاسَيْنَ لَيْلاً دونَ بَيْسانَ لم يكَدْ سنَا صُبْحِهِ للناظرينَ يُنِيرُ
وأصْبحنَ قد فوّزْنَ من نهرِ فُطرُسٍ وهُنّ عنِ البيْتِ المقدّسِ زُورُ
طوالبَ بالرّكْبانِ غزة َ هاشمٍ وفي الفَرَمَا من حاجِهِنّ شُقُورُ
هالني منظر السهول الخضراء التي تموج بسنابل القمح في هذا الوقت الربيعي من السنة، وكذلك مزارعا لأبقار الحافلة بالأبقار السمينة الحلوب، ولأول مرة في حياتي أشاهد من يُطلق عليهم اسم ووصف (المتدينين) الصهاينة بلحاهم الكثة، وملابسهم السوداء، وقبعاتهم الأمريكية التي تشبه قبعات رعاة البقر الأمريكان.
ولفت انتباهي كثرة استخدام المحتلين الصهاينة للطاقة الشمسية بكثرة لافتة للنظر وللانتباه، وكأنهم يريدون سرقة الطاقة الشمسية من بلادنا قبل أن يرحلوا عنها قريبا إن شاء الله تعالى.
تذكرت ـ وأنا أنظر إلى إشجار النخيل من نوع (مجهول) ـ والذي أخبرنا سائق الحافلة أن فسائله قد استُورِدَت أو نُهبت من العراق ـ على جانبي الطريق وخاصة الأيسر منه ـ ونحن متجهون جنوبا نحو أريحا وبيت المقدس ـ بمحاذاة نهر الأردن ـ حديث تميم بن أوس الداري الذي في «صحيح مسلم» (7573) والذي ترويه فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أُخْتَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ عن صفة الجساسة، والدجال، وسؤاله عن نخل بيسان ـ وبيسان صارت خلفنا في الشمال ـ فَقَالَ [الدجال]:
«أَخْبِرُونِى عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ؟! قُلْنَاعَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟! قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ. قَالَ أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لاَ تُثْمِرَ. قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ؟ !. قُلْنَا عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟! قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ. قَالَ أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ...».
تذكرت هذا الحديث بتمامه، وكنت سمعت به أول مرة في نحو سنة1973م، قبيل حرب العاشر من رمضان سنة 1393هـ، (تشرين، أكتوبر) سنة 1973م، ورجعت إلى كتاب «رياض الصالحين» ـ حينها ـ حيث الحديث فيه، أردد النظر وأقلبه، وأسأل عن طبريا وبيسان ونخلها، وما يتعلق بهما، وحين كنت أردده على مسامع بعض أصحابي لا يصدقون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرف طبريا وماءها، وبيسان ونخلها.
سرحت في أفكاري بعيدا إلى القرن الأول، والعصر النبوي الأزهر، والمسجد النبوي الأنور، وتصورت النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وحوله أصحابه الكرام مجتمعين، وفي أول صفوف النساء فاطمة بنت قيس تسمع وترى، وتحفظ، لتروي بعد ذلك وتُخبر، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم جالسٌ على المنبر في مسجده المطهر، جَذلاً فَرِحاً بخبر تميم ابن أوس الداري الذي صَدَّقَ قولَه الذي أخبر به أصحابه من قبل عن خبر الدجال، ثم ها هو تمبم يأتي مسلما مبايعا مخبرا عن عجيبة رآها، وحادثة معينة خَبِرَها ووعاها، وها نحن الآن نسير في أرض عرفها الدجال قبلنا بقرون عديدة، ويعرف خبرها ومستقبلها أكثر مما نعرفه نحن، ولولا خبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لما عرفنا عنها شيئاً؛ بل لولا الحديث النبوي الشريف واهتمامنا به لما عرفنا من هذه الأخبار شيئا، ولكان حالنا كحال كثير ممن معنا الآن في هذه الراحلة!! الحافلة.
سرحت وأنا أنظر يمينا ويسارا مبهورا بخصوبة بلادنا وبخضرتها، وأمدُّ النظر أحيانا هناك شرقي النهر على بعد مئات الأمتار أحيانا وبضع كيلو مترات أحيانا أخرى لأرى ما يحاذي هذه البلاد من الشق الآخر من الوطن، وأتصور الطائر بجناحيه وأنا على جناح من جناحيه، وقبل ساعات كنت على الجناح الآخر، وطن واحد كان وسيبقى على مدى التاريخ يفصل بين شقيه نهر وشريان الحياة الخالد لا حدا فاصلا بل شريانا واصلا لضفتيه وشقيه.
تذكرت الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وهم يتنقلون بين ضفتي الوطن، وبين ربوع الشام من دمشق وبيروت وعمان إلى بيت المقدس مرورا بهذه الأرض التي نسير عليها لا يخشون مستوطنا مغتصبا، ولا حاجز احتلال وتفتيش، ولا كاميرات مراقبة ترقب الصغير والكبيرالمتحرك على هذه الضفة أو تلك!!.
لفت نظري أيضا كثرة (المناحل)؛ ـ صناديق خلايا النحل ـ على جانبي الطريق مما أكد في نفسي ما أخبرني به أحد الأخوة الفضلاء بعد ذلك وهو يتجول بي في أرض فلسطين التاريخية مؤكدا لي أن اليهود ـ عموما والصهاينة خصوصا ـ مبدعون في الزراعة دون غيرها، وأنهم مزارعون بامتياز، وليسوا صناعيين، ولا أكاديميين ولا علميين، ولا طبيعيين، مما ذكرني بما رواه البخاري رحمه الله تعالى برقم (2720) عن عَبْدِ اللهِ بن مسعود، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:
«أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا».
لأنهم لما افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ «وَاشْتَرَطَ أَنَّ لَهُ الأَرْضَ، وَكُلَّ صَفْرَاءَ، وَبَيْضَاءَ، قَالَ أَهْلُ خَيْبَرَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِالأَرْضِ مِنْكُمْ، فَأَعْطِنَاهَا عَلَى أَنَّ لَكُمْ نِصْفَ الثَّمَرَةِ، وَلَنَا نِصْفٌ». فَزَعَمَ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ حِينَ يُصْرَمُ النَّخْلُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَحَزَرَعَلَيْه ِمُ النَّخْلَ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْخَرْصَ،فَقَا لَ: فِي ذِهْ كَذَا وَكَذَا. قَالُوا: أَكْثَرْتَ عَلَيْنَا يَا ابْنَ رَوَاحَةَ، فَقَالَ: فَأَنَا أَلِي حَزْرَ النَّخْلِ، وَأُعْطِيكُمْ نِصْفَ الَّذِي قُلْتُ: قَالُوا: هَذَا الْحَقُّ، وَبِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ،قَدْ رَضِينَا أَنْ نَأْخُذَهُ بِالَّذِي قُلْتَ».
رواه أبو داود (3410)، وابن ماجه (1820) ـ كلاهما، وغيرهما ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وحسنه شيخنا فيهما، وفي العديد من كتبه.
سرحت في أفكاري تلك، وأغلقت المصحف في يدي أرقب وأكتب بعض ما أمر به من ملاحظات ستعينني ـ إن شاء الله ـ على كتابتي هذه، حتى تنبهت على صوت السائق يشير بيده يسارا نحو حاجز تفتيش كأنه معبر حدودي، وعليه لوحة إرشادية تشير غربا إلى حيفا والعفولة، قائلا:
هذا حاجز بيسان، ونحن خارجون الآن إلى أراضي السلطة الفلسطينية، وليس هنا ما يُشَكِّلُ مُشْكِلَةً، ولكن عندما تدخلون من الجهة الأخرى فسوف تقفون للتفتيش وكأنكم على معبر حدودي، تُنزلون الأغراض، وتُفَتَّشون، فتنبهوا لمثل هذا.
ها أنا الآن أتمثل قول عبد الرحمن بارود:
تابعواالَكشفَ يا زَعاماتِ قَومي فبِكم تَفْخَرُ الكشوفُ العِظامُ
أيهوديةٌ فلسطيُن أيضاً ؟ وأخونا ذو الغِبْطةِ الحاخامُ ؟
أَوَ هذا وَعْدٌ لبلفورَ ثانِ ؟ فامضِ بِلْفورُ.. ما عليكَ مَلامُ
أيهاالبائعونَ حيفا ويافا أهجومٌ هذا أمِ استسلامُ ؟
قد جَلَبْتُمْ عارَ الزمان .. ولكنْ عَضَّ فَكَّ المعارضينَ اللِّجامُ
ومن الناسِ- يا جميلُ - .. قرودٌ ومِنَ الناسِ - إي وربي - نَعامُ
تجاوزنا الحاجز، وإن شئت فقل: المعبر الحدودي، فتغيرت رصفة الطريق وتعبيدها مباشرة من الحسن إلى الأسوأ، ولكن الخضرة لا زالت كثيرة، والزروع وفيرة، وعلم فلسطين يرفرف هنا وهناك في بعض المواقع، واختلفت لوحات السيارات من الأصفر البرتقالي، إلى الأبيض والأخضرالفاتح، ففهمت أنها أرقام سيارات الضفة الغربية، والسلطة الفلسطينية، ولكن الطريق الأمني الرملي الممهد المحاذي للشبك الحدودي والطريق لا زال مرافقا لطريقنا.. مساجد ومآذن هنا وهناك.. دحنون أحمر.. زهر أصفر..(براكيات) وخرابيش.. مضارب وبيوت شَعَر.. عمال وعاملات فلسطينيون بائسون يعملون في الأرض بكد.. الحاجز الحدودي..الأسلاك الشائكةالحديدية المزدوجة غرب النهر.
لفت انتباهي تلك اللوحة المستطيلة العمودية الحمراء المنصوبة على عمودين قائمين ـ والتي سأراها بعد ذلك بكثرة عند تداخل حدود الأراضي الفلسطينية تحت حكم السلطةالوطنية الفلسطينية والأراضي المغتصبة تحت الاحتلال الصهيوني الغاشم ـ والمكتوبة بخطوط بيضاء عربية وعبرية وإنجليزية تحذر المستوطنين خصوصاً، والصهاينة عموماً من دخول مناطق السلطة الفلسطينية الخطرة تحت طائلة المسؤولية الجنائية لما يشكله دخولهم إليها من مخاطر على سلامتهم وأمنهم، فقلت لنفسي:
لا يردع هؤلاء المحتلين الغاصبين إلا الخوف والرعب.
قال سائق الحافلة ـ مشيرا إلى بعض الحقول والأراضي المزروعةـ: هذه أراضي أردنية، وبعضها فلسطيني، واليهود الآن يستأجرونها ويزرعونها بموجب اتفاقيات (أوسلو)، ومعاهدة وادي عربة.. الأرض المحتلة المغتصبة أيضا يعمل فيها العمال الفلسطينيون أجراء!!.
نظرت إلى الطرق الرملية الممهدة بمحاذاة الأسلاك الشائكة الحدودية، وتذكرت الفدائيين الفلسطينيين من مختلف الفصائل قبل أيلول سنة 1970م، وبياناتهم الكثيرة والمتضاربة حول العمليات اليومية والليلية عبر النهر على المواقع والمستوطنات والدوريات الصهيونية المحتلة.
تذكرت حرب الاستنزاف بين حزيران سنة 1967م، وشباط سنة 1968م قبيل معركة الكرامة في 21/3/1968م حين كنا في مخيم غور النمرين، ثم في مخيم دامية، قرب جسر (اللنبي)، ثم في مخيم غور النمرين مرة أخرى قبل الرحيل إلى الفحيص، ثم مخيم ماركا الذي صار بعد ذلك مخيم (شنلر) فمخيم حطين.
تذكرت كيف كنا نرى وهج الرصاص ينطلق من بنادق المقاتلين المهاجمين، وبنادق المدافعين المحتلين يُتَبَادَلُ ليليا في جبال القدس وأريحا ونابلس قبالة المخيمين.
تذكرت أولئك المقاتلين حين كانوا يمرون عن المخيمات أو ينطلقوا منها أو يعودوا إليها مساء أو صباحا نحو أهدافهم غرب النهر أو شرقه..
تذكرت الرياح والزوابع التي كانت تقتلع الخيام في أواخر فصل الصيف وأوائل فصل الخريف في رمضان في مخيم غور النمرين..
ثم تذكرت المطر والطين والخيام الغير مانعة من الماء في فصل الشتاء الذي حلَّ مبكراسنة 1967 و1968م بعد النكسة..
تذكرت وتخيلت كم من رجل مغوار حمل روحه على راحته وعبر هذه الحدود في تلك السنوات
الثلاث قبل أيلول الأسود سنة 1970م.
يتبع