مشاهدة النسخة كاملة : منزلة التوبة ( متجدد )
ابو العبدين البصري
2013-03-13, 09:56 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الموحدين وعلى آله وصحبه الكرام .أفضل التائبين والأوابين والراجعين. وبعد: فهذا كلام مقتبس من بديع ما سطره الإمام ابن القيم حول : ( منزلة التوبة ) في كتابه العجاب مدارج السالكين أسأل الله تعالى أن ينفع به أخواني.
قال العلامة ابن القيم _ رحمه الله تعالى_:" فَإِذَا صَحَّ هَذَا الْمَقَامُ، وَنَزَلَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، أَشْرَفَ مِنْهَا عَلَى مَقَامِ التَّوْبَةِ لِأَنَّهُ بِالْمُحَاسَبَة ِ قَدْ تَمَيَّزَ عِنْدَهُ مَا لَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، فَلْيَجْمَعْ هِمَّتَهُ وَعَزْمَهُ عَلَى النُّزُولِ فِيهِ وَالتَّشْمِيرِ إِلَيْهِ إِلَى الْمَمَاتِ. وَمَنْزِلُ التَّوْبَةِ أَوَّلُ الْمَنَازِلِ، وَأَوْسَطُهَا، وَآخِرُهَا، فَلَا يُفَارِقُهُ الْعَبْدُ السَّالِكُ، وَلَا يَزَالُ فِيهِ إِلَى الْمَمَاتِ، وَإِنِ ارْتَحَلَ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ ارْتَحَلَ بِهِ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ وَنَزَلَ بِهِ، فَالتَّوْبَةُ هِيَ بِدَايَةُ الْعَبْدِ وَنِهَايَتُهُ، وَحَاجَتُهُ إِلَيْهَا فِي النِّهَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ، كَمَا أَنَّ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا فِي الْبِدَايَةِ كَذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَتُوب ُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور: 31].
وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ، خَاطَبَ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ الْإِيمَانِ وَخِيَارَ خَلْقِهِ أَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ، بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، وَهِجْرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَّقَ الْفَلَاحَ بِالتَّوْبَةِ تَعْلِيقَ الْمُسَبَّبِ بِسَبَبِهِ، وَأَتَى بِأَدَاةِ لَعَلَّ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّرَجِّي،إ ِيذَانًا بِأَنَّكُمْ إِذَا تُبْتُمْ كُنْتُمْ عَلَى رَجَاءِ الْفَلَاحِ، فَلَا يَرْجُو الْفَلَاحَ إِلَّا التَّائِبُونَ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ. قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]. قَسَّمَ الْعِبَادَ إِلَى تَائِبٍ وَظَالِمٍ، وَمَا ثَمَّ قَسْمٌ ثَالِثٌ الْبَتَّةَ، وَأَوْقَعَ اسْمَ الظَّالِمِ عَلَى مَنْ لَمْ يَتُبْ، وَلَا أَظْلَمَ مِنْهُ، لِجَهْلِهِ بِرَبِّهِ وَبِحَقِّهِ، وَبِعَيْبِ نَفْسِهِ وَآفَاتِ أَعْمَالِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»(1 ).
وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَعُدُّونَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ»( 2) وَمَا صَلَّى صَلَاةً قَطُّ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]. إِلَى آخِرِهَا، إِلَّا قَالَ فِيهَا «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»(3 ) وَصَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ»(4 ).
فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى أَعْلَمِ الْخَلْقِ بِاللَّهِ وَحُقُوقِهِ وَعَظْمَتِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ جَلَالُهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ ، وَأَعْرَفِهِمْ بِالْعُبُودِيَّ ةِ وَحُقُوقِهَا وَأَقْوَمِهِمْ بِهَا.
يتبع
__________________
( 1) رواه مسلم : (2702) , وأبو داود : (1515).
( 2) رواه الإمام أحمد : (4726), ورواه الترمذي : (3434) وغيرهم وصححه الألباني .
(3 ) انظر البخاري : ( 4969).
( 4) رواه البخاري : (5773).
ابو العبدين البصري
2013-03-13, 11:37 PM
وَلَمَّا كَانَتِ التَّوْبَةُ هِيَ رُجُوعُ الْعَبْدِ إِلَى اللَّهِ، وَمُفَارَقَتُهُ لِصِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِدَايَةِ اللَّهِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا تَحْصُلُ هِدَايَتُهُ إِلَّا بِإِعَانَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَقَدِ انْتَظَمَتْهَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ أَحْسَنَ انْتِظَامٍ، وَتَضَمَّنَتْهَ ا أَبْلَغَ تَضَمُّنٍ، فَمَنْ أَعْطَى الْفَاتِحَةَ حَقَّهَا - عِلْمًا وَشُهُودًا وَحَالًا مَعْرِفَةً - عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ لَهُ قِرَاءَتُهَا عَلَى الْعُبُودِيَّةِ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ التَّامَّةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لَا تَكُونُ مَعَ الْجَهْلِ بِالذُّنُوبِ، وَلَا مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ جَهْلٌ يُنَافِي مَعْرِفَةَ الْهُدَى، وَالثَّانِيَ غَيٌّ يُنَافِي قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ، فَلِذَلِكَ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الذَّنْبِ، وَالِاعْتِرَافِ بِهِ، وَطَلَبِ التَّخَلُّصِ مِنْ سُوءِ عَوَاقِبِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا([1] (http://majles.alukah.net/#_ftn1)).
([1]) مدارج السالكين : (ج1_ص333).
أبو عبد الأكرم الجزائري
2013-03-14, 12:55 AM
التوبة وظيفة العمر
قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). قال السعدي: لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفلاح، فقال: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهه الله، ظاهرا وباطنا، إلى: ما يحبه ظاهرا وباطنا، ودل هذا، أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة، لأن الله خاطب المؤمنين جميعا، وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة في قوله: (وَتُوبُوا إِلَى الله) أي: لا لمقصد غير وجهه، من سلامة من آفات الدنيا، أو رياء وسمعة، أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة. ا. هـ
ابو العبدين البصري
2013-03-14, 10:57 AM
(احذر الفرح بالمعصية)
الْفَرَحُ بِالْمَعْصِيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ الرَّغْبَةِ فِيهَا، وَالْجَهْلِ بِقَدْرِ مَنْ عَصَاهُ، وَالْجَهْلِ بِسُوءِ عَاقِبَتِهَا وَعِظَمِ خَطَرِهَا، فَفَرَحُهُ بِهَا غَطَّى عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَفَرَحُهُ بِهَا أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِنْ مُوَاقَعَتِهَا، وَالْمُؤْمِنُ لَا تَتِمُّ لَهُ لَذَّةٌ بِمَعْصِيَةٍ أَبَدًا، وَلَا يَكْمُلُ بِهَا فَرَحُهُ، بَلْ لَا يُبَاشِرُهَا إِلَّا وَالْحُزْنُ مُخَالِطٌ لِقَلْبِهِ، وَلَكِنَّ سُكْرَ الشَّهْوَةِ يَحْجُبُهُ عَنِ الشُّعُورِ بِهِ، وَمَتَى خَلَّى قَلْبَهُ مِنْ هَذَا الْحُزْنِ، وَاشْتَدَّتْ غِبْطَتُهُ وَسُرُورُهُ فَلْيَتَّهِمْ إِيمَانَهُ، وَلْيَبْكِ عَلَى مَوْتِ قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَأَحْزَنَهُ ارْتِكَابُهُ لِلذَّنْبِ، وَغَاظَهُ وَصَعُبَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحِسُّ الْقَلْبُ بِذَلِكَ، فَحَيْثُ لَمْ يُحِسَّ بِهِ فَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ.
وَهَذِهِ النُّكْتَةُ فِي الذَّنْبِ قَلَّ مَنْ يَهْتَدِي إِلَيْهَا أَوْ يَنْتَبِهُ لَهَا، وَهِيَ مَوْضِعٌ مَخُوفٌ جِدًّا، مُتَرَامٍ إِلَى هَلَاكٍ إِنْ لَمْ يُتَدَارَكْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: خَوْفٍ مِنَ الْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَنَدَمٍ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ اللَّهِ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَتَشْمِيرٍ لِلْجِدِّ فِي اسْتِدْرَاكِهِ.
(الإصرار على الذنب أكبر من الذنب)
الْإِصْرَارُ: هُوَ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، وَالْعَزْمُ عَلَى الْمُعَاوَدَةِ، وَذَلِكَ ذَنْبٌ آخَرُ، لَعَلَّهُ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الْأَوَّلِ بِكَثِيرٍ، وَهَذَا مِنْ عُقُوبَةِ الذَّنْبِ أَنَّهُ يُوجِبُ ذَنْبًا أَكْبَرَ مِنْهُ، ثُمَّ الثَّانِي كَذَلِكَ، ثُمَّ الثَّالِثُ كَذَلِكَ، حَتَّى يَسْتَحْكِمَ الْهَلَاكُ.
فَالْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى، وَالْقُعُودُ عَنْ تَدَارُكِ الْفَارِطِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِصْرَارٌ وَرِضًا بِهَا، وَطُمَأْنِينَةٌ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْهَلَاكِ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْمُجَاهَرَةُ بِالذَّنْبِ مَعَ تَيَقُّنِ نَظَرِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ آمَنَ بِنَظَرِهِ إِلَيْهِ وَأَقْدَمَ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ فَعَظِيمٌ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِنَظَرِهِ إِلَيْهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ فَكُفْرٌ، وَانْسِلَاخٌ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: بَيْنَ قِلَّةِ الْحَيَاءِ وَمُجَاهَرَةِ نَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَبَيْنَ الْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخِ مِنَ الدِّينِ، فَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ تَيَقُّنُهُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ نَاظِرًا - وَلَا يَزَالُ - إِلَيْهِ مُطَّلِعًا عَلَيْهِ، يَرَاهُ جَهْرَةً عِنْدَ مُوَاقَعَةِ الذَّنْبِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنْ مُسْلِمٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِنَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهِ جَاحِدًا لَهُ، فَتَوْبَتُهُ دُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِقْرَارُهُ بِصِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ.
ابو العبدين البصري
2013-03-15, 12:26 AM
فَحَقِيقَةُ التَّوْبَةِ هِيَ:
1_ النَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي.
2_ وَالْإِقْلَاعُ عَنْهُ فِي الْحَالِ.
3_ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَالثَّلَاثَةُ تَجْتَمِعُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ التَّوْبَةُ، فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَنْدَمُ، وَيُقْلِعُ، وَيَعْزِمُ.
وَلَمَّا كَانَ مُتَوَقِّفًا عَلَى تِلْكَ الثَّلَاثَةِ جُعِلَتْ شَرَائِطَ لَهُ.
فَأَمَّا النَّدَمُ: فَإِنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ إِلَّا بِهِ، إِذْ مَنْ لَمْ يَنْدَمْ عَلَى الْقَبِيحِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِهِ، وَإِصْرَارِهِ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُسْنَدِ " النَّدَمُ تَوْبَةٌ "(1 ).
وَأَمَّا الْإِقْلَاعُ: فَتَسْتَحِيلُ التَّوْبَةُ مَعَ مُبَاشَرَةِ الذَّنْبِ.
وَأَمَّا الِاعْتِذَارُ: فَفِيهِ إِشْكَالٌ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ تَرْكُ الِاعْتِذَارِ، فَإِنَّ الِاعْتِذَارَ مُحَاجَّةٌ عَنِ الْجِنَايَةِ، وَتَرْكُ الِاعْتِذَارِ اعْتِرَافٌ بِهَا، وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إِلَّا بَعْدَ الِاعْتِرَافِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ لِرَئِيسِهِ وَقَدْ عَتَبَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ:
وَمَا قَابَلْتَ عَتْبَكَ بِاعْتِذَارٍ ... وَلَكِنِّي أَقُولُ كَمَا تَقُولُ
وَأَطْرُقُ بَابَ عَفْوِكَ بِانْكِسَارٍ ... وَيَحْكُمُ بَيْنَنَا الْخُلُقُ الْجَمِيلُ
فَلَمَّا سَمِعَ الرَّئِيسُ مَقَالَتَهُ قَامَ وَرَكِبَ إِلَيْهِ مِنْ فَوْرِهِ، وَأَزَالَ عَتْبَهُ عَلَيْهِ، فَتَمَامُ الِاعْتِرَافِ تَرْكُ الِاعْتِذَارِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ: اللَّهُمَّ لَا بَرَاءَةَ لِي مِنْ ذَنْبٍ فَأَعْتَذِرُ، وَلَا قُوَّةَ لِي فَأَنْتَصِرُ، وَلَكِنِّي مُذْنِبٌ مُسْتَغْفِرٌ، اللَّهُمَّ لَا عُذْرَ لِي، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ حَقِّكَ، وَمَحْضُ جِنَايَتِي، فَإِنْ عَفَوْتَ وَإِلَّا فَالْحَقُّ لَكَ"(2 ).
_____________
( 1) رواه أحمد : (1/376), وابن ماجه : ( 4252) , وصححه الألباني .
( 2) المدارج : ( ج1_ص337_ص339).
ابو العبدين البصري
2013-03-15, 10:18 AM
[
حَقَائِقُ التَّوْبَةِ وَعَلَامَةُ قَبُولِهَا]
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَحَقَائِقُ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: ( تَعْظِيمُ الْجِنَايَةِ، وَاتِّهَامُ التَّوْبَةِ، وَطَلَبُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ).
يُرِيدُ بِالْحَقَائِقِ: مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الشَّيْءُ، وَتَتَبَيَّنُ بِهِ صِحَّتُهُ وَثُبُوتُهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَارِثَةَ «إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟»( 1).
فَأَمَّا تَعْظِيمُ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ إِذَا اسْتَهَانَ بِهَا لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهَا، وَعَلَى قَدْرِ تَعْظِيمِهَا يَكُونُ نَدَمُهُ عَلَى ارْتِكَابِهَا، فَإِنَّ مَنِ اسْتَهَانَ بِإِضَاعَةِ فِلْسٍ - مَثَلًا - لَمْ يَنْدَمْ عَلَى إِضَاعَتِهِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ دِينَارٌ اشْتَدَّ نَدَمُهُ، وَعَظُمَتْ إِضَاعَتُهُ عِنْدَهُ.
وَتَعْظِيمُ الْجِنَايَةِ يَصْدُرُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
1_تَعْظِيمُ الْأَمْرِ.
2_ وَتَعْظِيمُ الْآمِرِ.
3_ وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَزَاءِ.
وَأَمَّا اتِّهَامُ التَّوْبَةِ: فَلِأَنَّهَا حَقٌّ عَلَيْهِ، لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ أَدَّى هَذَا الْحَقَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَيْهِ، فَيَخَافُ أَنَّهُ مَا وَفَّاهَا حَقَّهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ جُهْدَهُ فِي صِحَّتِهَا، وَأَنَّهَا تَوْبَةُ عِلَّةٍ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهَا، كَتَوْبَةِ أَرْبَابِ الْحَوَائِجِ وَالْإِفْلَاسِ، وَالْمُحَافِظِي نَ عَلَى حَاجَاتِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ بَيْنَ النَّاسِ.
أَوْ أَنَّهُ تَابَ مُحَافَظَةً عَلَى حَالِهِ، فَتَابَ لِلْحَالِ لَا خَوْفًا مِنْ ذِي الْجَلَالِ، أَوْ أَنَّهُ تَابَ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ مِنَ الْكَدِّ فِي تَحْصِيلِ الذَّنْبِ، أَوِ اتِّقَاءَ مَا يَخَافُهُ عَلَى عِرْضِهِ وَمَالِهِ وَمَنْصِبِهِ، أَوْ لِضَعْفِ دَاعِي الْمَعْصِيَةِ فِي قَلْبِهِ، وَخُمُودِ نَارِ شَهْوَتِهِ، أَوْ لِمُنَافَاةِ الْمَعْصِيَةِ لِمَا يَطْلُبُهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالرِّزْقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي تَقْدَحُ فِي كَوْنِ التَّوْبَةِ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَتَعْظِيمًا لَهُ وَلِحُرُمَاتِهِ ، وَإِجْلَالًا لَهُ، وَخَشْيَةً مِنْ سُقُوطِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ، وَعَنِ الْبُعْدِ وَالطَّرْدِ عَنْهُ، وَالْحِجَابِ عَنْ رُؤْيَةِ وَجْهِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَهَذِهِ التَّوْبَةُ لَوْنٌ، وَتَوْبَةُ أَصْحَابِ الْعِلَلِ لَوْنٌ.
_:وَمِنَ اتِّهَامِ التَّوْبَةِ أَيْضًا: ضَعْفُ الْعَزِيمَةِ، وَالْتِفَاتُ الْقَلْبِ إِلَى الذَّنْبِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، وَتَذَكُّرُ حَلَاوَةِ مُوَاقَعَتِهِ، فَرُبَّمَا تَنَفَّسَ، وَرُبَّمَا هَاجَ هَائِجُهُ.
_:وَمِنَ اتِّهَامِ التَّوْبَةِ: طُمَأْنِينَتُهُ وَوُثُوقُهُ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ تَابَ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ مَنْشُورًا بِالْأَمَانِ، فَهَذَا مِنْ عَلَامَاتِ التُّهْمَةِ.
_:وَمِنْ عَلَامَاتِهَا: جُمُودُ الْعَيْنِ، وَاسْتِمْرَارُ الْغَفْلَةِ، وَأَنْ لَا يَسْتَحْدِثَ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْمَالًا صَالِحَةً لَمْ تَكُنْ لَهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ.
وأما وَطَلَبُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ:أَ ْ يَكُونَ مُرَادُهُ إِقَامَةَ أَعْذَارِهِمْ فِي إِسَاءَتِهِمْ إِلَيْكَ، وَجِنَايَتِهِمْ عَلَيْكَ، وَالنَّظَرَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْأَقْدَارِ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُمْ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، فَتَعْذِرَهُمْ بِالْقَدَرِ فِي حَقِّكَ، لَا فِي حَقِّ رَبِّكَ، فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ مِنْ شَأْنِ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ، وَخَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْكُمَّلِ، يَفْنَى أَحَدُهُمْ عَنْ حَقِّهِ، وَيَسْتَوْفِي حَقَّ رَبِّهِ، يَنْظُرُ فِي التَّفْرِيطِ فِي حَقِّهِ، وَفِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ إِلَى الْقَدَرِ، وَيَنْظُرُ فِي حَقِّ اللَّهِ إِلَى الْأَمْرِ، فَيَطْلُبُ لَهُمُ الْعُذْرَ فِي حَقِّهِ، وَيَمْحُو عَنْهُمُ الْعُذْرَ وَيَطْلُبُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ. فَهَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي - وَإِنْ كَانَ حَقًّا - لَكَانَ لَيْسَ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ التَّوْبَةِ، وَلَا مِنْ أَرْكَانِهَا، وَلَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِهَا، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِمْ أَعْذَارَهُمْ فِي إِسَاءَتِهِمْ إِلَيْهِ لَمَا نَقَصَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ تَوْبَتِهِ( 2).
_____________
(1 ) أورده الهيثمي في المجمع : ( 1/57) والطبراني في الكبير : (3367) وضعفه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء : (5/2450).
( 2) ينظر المدارج : (ج1_ص362_ص365).
ابو العبدين البصري
2013-03-15, 06:10 PM
( علامات قبول التوبة )
فَالتَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ الصَّحِيحَةُ لَهَا عَلَامَاتٌ.
مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَزَالُ الْخَوْفُ مُصَاحِبًا لَهُ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَخَوْفُهُ مُسْتَمِرٌّ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَ الرُّسُلِ لِقَبْضِ رُوحِهِ:{أَنْ لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] فَهُنَاكَ يَزُولُ الْخَوْفُ.
وَمِنْهَا: انْخِلَاعُ قَلْبِهِ، وَتَقَطُّعُهُ نَدَمًا وَخَوْفًا، وَهَذَا عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجِنَايَةِ وَصِغَرِهَا، وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110].
قَالَ: تَقَطُّعُهَا بِالتَّوْبَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْعَظِيمَةِ يُوجِبُ انْصِدَاعَ الْقَلْبِ وَانْخِلَاعَهُ، وَهَذَا هُوَ تَقَطُّعُهُ، وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، لِأَنَّهُ يَتَقَطَّعُ قَلْبُهُ حَسْرَةً عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ،وَخَوْفً ا مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَتَقَطَّعْ قَلْبُهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا فَرَّطَ حَسْرَةً وَخَوْفًا، تَقَطَّعَ فِي الْآخِرَةِ إِذَا حَقَّتِ الْحَقَائِقُ، وَعَايَنَ ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ، وَعِقَابَ الْعَاصِينَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَطُّعِ الْقَلْبِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ.
وَمِنْ مُوجِبَاتِ التَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ أَيْضًا: كَسْرَةٌ خَاصَّةٌ تَحْصُلُ لِلْقَلْبِ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ، وَلَا تَكُونُ لِغَيْرِ الْمُذْنِبِ،لَا تَحْصُلُ بِجُوعٍ، وَلَا رِيَاضَةٍ، وَلَا حُبٍّ مُجَرَّدٍ، وَإِنَّمَا هِيَ أَمَرٌّ وَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ، تَكْسِرُ الْقَلْبَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ كَسْرَةً تَامَّةً، قَدْ أَحَاطَتْ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَأَلْقَتْهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ طَرِيحًا ذَلِيلًا خَاشِعًا، كَحَالِ: عَبْدٍ جَانٍ آبِقٍ مِنْ سَيِّدِهِ، فَأُخِذَ فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُنْجِيهِ مِنْ سَطْوَتِهِ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا وَلَا عَنْهُ غَنَاءً، وَلَا مِنْهُ مَهْرَبًا، وَعَلِمَ أَنَّ حَيَاتَهُ وَسَعَادَتَهُ وَفَلَاحَهُ وَنَجَاحَهُ فِي رِضَاهُ عَنْهُ، وَقَدْ عَلِمَ إِحَاطَةَ سَيِّدِهِ بِتَفَاصِيلِ جِنَايَاتِهِ، هَذَا مَعَ حُبِّهِ لِسَيِّدِهِ، وَشِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَعِلْمِهِ بِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ وَقُوَّةِ سَيِّدِهِ، وَذُلِّهِ وَعِزِّ سَيِّدِهِ.
فَيَجْتَمِعُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَسْرَةٌ وَذِلَّةٌ وَخُضُوعٌ، مَا أَنْفَعَهَا لِلْعَبْدِ وَمَا أَجْدَى عَائِدَتَهَا عَلَيْهِ؟!
وَمَا أَعْظَمَ جَبْرَهُ بِهَا؟!
وَمَا أَقْرَبَهُ بِهَا مِنْ سَيِّدِهِ؟!
فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى سَيِّدِهِ مِنْ هَذِهِ الْكَسْرَةِ، وَالْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَالْإِخْبَاتِ، وَالِانْطِرَاحِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالِاسْتِسْلَا مِ لَهُ، فَلَلَّهِ مَا أَحْلَى قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ: ( أَسْأَلُكَ بِعِزِّكَ وَذُلِّي إِلَّا رَحِمْتَنِي، أَسْأَلُكَ بِقُوَّتِكَ وَضَعْفِي، وَبِغِنَاكَ عَنِّي وَفَقْرِي إِلَيْكَ، هَذِهِ نَاصِيَتِي الْكَاذِبَةُ الْخَاطِئَةُ بَيْنَ يَدَيْكَ، عَبِيدُكَ سِوَايَ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ لِي سَيِّدٌ سِوَاكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْخَاضِعِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ، سُؤَالَ مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وَرَغِمَ لَكَ أَنْفُهُ، وَفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وَذَلَّ لَكَ قَلْبُهُ).
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ ... وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ ... وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ آثَارِ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَلْيَتَّهِمْ تَوْبَتَهُ وَلْيَرْجِعْ إِلَى تَصْحِيحِهَا، فَمَا أَصْعَبَ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ بِالْحَقِيقَةِ، وَمَا أَسْهَلَهَا بِاللِّسَانِ وَالدَّعْوَى!
وَمَا عَالَجَ الصَّادِقُ بِشَيْءٍ أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْبَةِ الْخَالِصَةِ الصَّادِقَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَأَكْثَرُ النَّاسِ مِنَ الْمُتَنَزِّهِي نَ عَنِ الْكَبَائِرِ الْحِسِّيَّةِ وَالْقَاذُورَات ِ فِي كَبَائِرَ مِثْلِهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا أَوْ دُونَهَا، وَلَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ أَنَّهَا ذُنُوبٌ لِيَتُوبُوا مِنْهَا، فَعِنْدَهُمْ - مِنَ الْإِزْرَاءِ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَاحْتِقَارِهِم ْ، وَصَوْلَةِ طَاعَاتِهِمْ، وَمِنَّتِهِمْ عَلَى الْخَلْقِ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَاقْتِضَاءِ بَوَاطِنِهِمْ لِتَعْظِيمِ الْخَلْقِ لَهُمْ عَلَى طَاعَاتِهِمْ، اقْتِضَاءً لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ غَيْرِهِمْ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ - مَا هُوَ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ، وَأَبْعَدُ لَهُمْ عَنْ بَابِهِ مِنْ كَبَائِرِ أُولَئِكَ، فَإِنْ تَدَارَكَ اللَّهُ أَحَدَهُمْ بِقَاذُورَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ يُوقِعُهُ فِيهَا لِيَكْسِرَ بِهَا نَفْسَهُ، وَيُعَرِّفَهُ قَدْرَهُ، وَيُذِلَّهُ بِهَا، وَيُخْرِجَ بِهَا صَوْلَةَ الطَّاعَةِ مَنْ قَلْبِهِ، فَهِيَ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا تَدَارَكَ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ، وَإِقْبَالٍ بِقُلُوبِهِمْ إِلَيْهِ، فَهُوَ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِمْ، وَإِلَّا فَكِلَاهُمَا عَلَى خَطَرٍ"( 1).
_____________
(1 ) المدارج ( ج1_ص344_ص349).
ابو العبدين البصري
2013-03-16, 11:30 AM
(بعض أسرار التوبة وحقيقتها)
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَسَرَائِرُ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:( تَمْيِيزُ التَّقِيَّةِ مِنَ الْعِزَّةِ، وَنِسْيَانُ الْجِنَايَةِ، وَالتَّوْبَةُ مِنَ التَّوْبَةِ). لِأَنَّ التَّائِبَ دَاخِلٌ فِي الْجَمِيعِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَتُوب ُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] فَأَمَرَ التَّائِبَ بِالتَّوْبَةِ.
قال العلامة ابن القيم:"تَمْيِيزُ التَّقِيَّةِ مِنَ الْعِزَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْبَةِ تَقْوَى اللَّهِ وَهُوَ خَوْفُهُ وَخَشْيَتُهُ، وَالْقِيَامُ بِأَمْرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ، فَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ يَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ،وَيَتْر ُكُ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ،يَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ،لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ عِزَّ الطَّاعَةِ،فَإِ نَّ لِلطَّاعَةِ وَلِلتَّوْبَةِ عِزًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا،فَلَ ا يَكُونُ مَقْصُودُهُ الْعِزَّةَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا تَحْصُلُ لَهُ بِالطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ،ف َمَنْ تَابَ لِأَجْلِ الْعِزَّةِ فَتَوْبَتُهُ مَدْخُولَةٌ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ:" أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: قُلْ لِفُلَانٍ الزَّاهِدِ: أَمَّا زُهْدُكَ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ تَعَجَّلْتَ بِهِ الرَّاحَةَ، وَأَمَّا انْقِطَاعُكَ إِلَيَّ فَقَدِ اكْتَسَبْتَ بِهِ الْعِزَّةَ، وَلَكِنْ مَا عَمِلْتَ فِيمَا لِي عَلَيْكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا لَكَ عَلَيَّ بَعْدَ هَذَا؟
قَالَ: هَلْ وَالَيْتَ فِيَّ وَلِيًّا، أَوْ عَادَيْتَ فِيَّ عَدُوًّا؟ ". يَعْنِي أَنَّ الرَّاحَةَ وَالْعِزَّ حَظُّكَ،وَقَدْ نُلْتَهُمَا بِالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْقِيَامُ بِحَقِّي، وَهُوَ الْمُوَالَاةُ فِيَّ وَالْمُعَادَاةُ فِيَّ؟
فَالشَّأْنُ فِي التَّفْرِيقِ فِي الْأَوَامِرِ بَيْنَ حَظِّكَ وَحَقِّ رَبِّكَ عِلْمًا وَحَالًا.
وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّادِقِينَ قَدْ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ حَالُ نُفُوسِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَمِيزُهُ إِلَّا أُولُو الْبَصَائِرِ مِنْهُمْ، وَهُمْ فِي الصَّادِقِينَ كَالصَّادِقِينَ فِي النَّاسِ.
وَأَمَّا نِسْيَانُ الْجِنَايَةِ: فَهَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَرْبَابُ الطَّرِيقِ.
فَمِنْهُمْ: مَنْ رَأَى الِاشْتِغَالَ عَنْ ذِكْرِ الذَّنْبِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ صَفْحًا، فَصَفَاءُ الْوَقْتِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِالتَّائِبِ وَأَنْفَعُ لَهُ، وَلِهَذَا قِيلَ: ذِكْرُ الْجَفَا فِي وَقْتِ الصَّفَا جَفَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْسَى ذَنْبَهُ، بَلْ لَا يَزَالُ جَاعِلًا لَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ يُلَاحِظُهُ كُلَّ وَقْتٍ، فَيُحْدِثُ لَهُ ذَلِكَ انْكِسَارًا وَذُلًّا وَخُضُوعًا، أَنْفَعَ لَهُ مِنْ جَمْعِيَّتِهِ وَصَفَاءِ وَقْتِهِ. قَالُوا: وَلِهَذَا نَقَشَ دَاوُدُ الْخَطِيئَةَ فِي كَفِّهِ، وَكَانَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَبْكِي. قَالُوا: وَمَتَى تُهْتَ عَنِ الطَّرِيقِ فَارْجِعْ إِلَى ذَنْبِكَ تَجِدِ الطَّرِيقَ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّكَ إِذَا رَجَعْتَ إِلَى ذَنْبِكَ انْكَسَرْتَ وَذَلَلْتَ، وَأَطْرَقْتَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَاشِعًا ذَلِيلًا خَائِفًا، وَهَذِهِ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ .
وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أَحَسَّ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ حَالَ الصَّفَاءِ غَيْمًا مِنَ الدَّعْوَى، وَرَقِيقَةً مِنَ الْعَجَبِ وَنِسْيَانِ الْمِنَّةِ،وَخَ طَفَتْهُ نَفْسُهُ عَنْ حَقِيقَةِ فَقْرِهِ وَنَقْصِهِ، فَذِكْرُ الذَّنْبِ أَنْفَعُ لَهُ.
وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ مُشَاهَدَتِهِ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ،وَكَمَ الَ افْتِقَارِهِ إِلَيْهِ، وَفَنَائِهِ بِهِ، وَعَدَمَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ فِي ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ، وَقَدْ خَالَطَ قَلْبَهُ حَالُ الْمَحَبَّةِ، وَالْفَرَحِ بِاللَّهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، وَشُهُودِ سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَحِلْمِهِ وَعَفْوِهِ، وَقَدْ أَشْرَقَتْ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَنِسْيَانُ الْجِنَايَةِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الذَّنْبِ أَوْلَى بِهِ وَأَنْفَعُ، فَإِنَّهُ مَتَى رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ الْجِنَايَةِ تَوَارَى عَنْهُ ذَلِكَ، وَنَزَلَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا مِنْ حَسَدِ الشَّيْطَانِ لَهُ، أَرَادَ أَنْ يَحُطَّهُ عَنْ مَقَامِهِ، وَسَيَّرَ قَلْبَهُ فِي مَيَادِينِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالشَّوْقِ إِلَى وَحْشَةِ الْإِسَاءَةِ، وَحَصْرِ الْجِنَايَةِ.
وَالْأَوَّلُ يَكُونُ شُهُودُهُ لِجِنَايَتِهِ مِنَّةً مِنَ اللَّهِ، مَنَّ بِهَا عَلَيْهِ، لِيُؤَمِّنَهُ بِهَا مِنْ مَقْتِ الدَّعْوَى، وَحِجَابِ الْكِبْرِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَهَذَا لَوْنٌ. وَهَذَا الْمَحَلُّ فِيهِ أَمْرٌ وَرَاءَ الْعِبَارَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ.
وأما التوبة من التوبة: فمُرَادَهُمْ أَنْ يَتُوبَ مِنْ رُؤْيَةِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا حَصَلَتْ لَهُ بِمِنَّةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَوْ خُلِّيَ وَنَفْسَهُ لَمْ تُسْمَحْ بِهَا الْبَتَّةَ، فَإِذَا رَآهَا وَشَهِدَ صُدُورَهَا مِنْهُ وَوُقُوعَهَا بِهِ، وَغَفَلَ عَنْ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ تَابَ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَالْغَفْلَةِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ وَالْغَفْلَةَ لَيْسَتَ هِيَ التَّوْبَةَ، وَلَا جُزْءًا مِنْهَا، وَلَا شَرْطًا لَهَا، بَلْ هِيَ جِنَايَةٌ أُخْرَى عَرَضَتْ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَيَتُوبُ مِنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، كَمَا تَابَ مِنَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، فَمَا تَابَ إِلَّا مِنْ ذَنْبٍ، أَوَّلًا وَآخِرًا، فَكَيْفَ يُقَالُ: يَتُوبُ مِنَ التَّوْبَةِ؟
هَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَا هُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي التَّوْبَةِ عِلَّةٌ وَنَقْصٌ، وَآفَةٌ تَمْنَعُ كَمَالَهَا، وَقَدْ يَشْعُرُ صَاحِبُهَا بِذَلِكَ وَقَدْ لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَيَتُوبُ مِنْ نُقْصَانِ التَّوْبَةِ، وَعَدَمِ تَوْفِيَتِهَا حَقَّهَا.
وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْبَةٌ مِنْ عَدَمِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْهَا طَاعَةٌ لَا يُتَابُ مِنْهَا، وَالْقَدْرَ الْمَفْقُودَ هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ.
فَالتَّوْبَةُ مِنَ التَّوْبَةِ إِنَّمَا تُعْقَلُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
نَعَمْ، هَاهُنَا وَجْهٌ ثَالِثٌ لَطِيفٌ جِدًّا، وَهُوَ أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ مَقَامُ أُنْسٍ بِاللَّهِ، وَصَفَا وَقْتُهُ مَعَ اللَّهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ إِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ، وَاشْتِغَالُهُ بِذِكْرِ آلَائِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَنْفَعَ شَيْءٍ لَهُ، حَتَّى نَزَلَ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَاشْتَغَلَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ جِنَايَةٍ سَالِفَةٍ قَدْ تَابَ مِنْهَا، وَطَالَعَ الْجِنَايَةَ وَاشْتَغَلَ بِهَا عَنِ اللَّهِ، فَهَذَا نَقْصٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ، وَهُوَ تَوْبَةٌ مِنْ هَذِهِ التَّوْبَةِ، لِأَنَّهُ نُزُولٌ مِنَ الصَّفَاءِ إِلَى الْجَفَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ(1 ).
____________
( 1) ينظر المدارج : (ج1_ص372_ص376).
ابو العبدين البصري
2013-03-16, 11:25 PM
فَصْلٌ:
[لِطَائِفُ أَسْرَارِ التَّوْبَةِ]
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:وَ َطَائِفُ أَسْرَارِ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ،أَوَّ لُهَا:( أَنْ يَنْظُرَ الْجِنَايَةَ وَالْقَضِيَّةَ، فَيَعْرِفَ مُرَادَ اللَّهِ فِيهَا، إِذْ خَلَّاكَ وَإِتْيَانَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا خَلَّى الْعَبْدَ وَالذَّنَبَ لِأَجْلِ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْرِفَ عِزَّتَهُ فِي قَضَائِهِ، وَبِرَّهُ فِي سَتْرِهِ، وَحِلْمَهُ فِي إِمْهَالِ رَاكِبِهِ، وَكَرَمَهُ فِي قَبُولِ الْعُذْرِ مِنْهُ، وَفَضْلَهُ فِي مَغْفِرَتِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يُقِيمَ عَلَى عَبْدِهِ حُجَّةَ عَدْلِهِ، فَيُعَاقِبَهُ عَلَى ذَنْبِهِ بِحُجَّتِهِ).
قال ابن القيم:اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْبَصِيرَةِ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الْخَطِيئَةُ فَلَهُ نَظَرٌ إِلَى خَمْسَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، فَيُحَدِثَ لَهُ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ بِكَوْنِهَا خَطِيئَةً، وَالْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ بِالذَّنْبِ.
الثَّانِي: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَيُحْدِثَ لَهُ ذَلِكَ خَوْفًا وَخَشْيَةً، تَحْمِلُهُ عَلَى التَّوْبَةِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تَمْكِينِ اللَّهِ لَهُ مِنْهَا، وَتَخْلِيَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَتَقْدِيرِهَا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَعَصَمَهُ مِنْهَا، فَيُحَدِثُ لَهُ ذَلِكَ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَمَغْفِرَتِهِ وَعَفْوِهِ، وَحِلْمِهِ وَكَرَمِهِ، وَتُوجِبُ لَهُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ عُبُودِيَّةً بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ، لَا تَحْصُلُ بِدُونِ لَوَازِمِهَا الْبَتَّةَ، وَيَعْلَمُ ارْتِبَاطَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْجَزَاءِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُوجَبُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَأَثَرُهَا فِي الْوُجُودِ، وَأَنَّ كُلَّ اسْمٍ وَصِفَةٍ مُقْتَضٍ لِأَثَرِهِ وَمُوجَبِهِ، مُتَعَلِّقٌ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ.
وَهَذَا الْمَشْهَدُ يُطْلِعُهُ عَلَى رِيَاضٍ مُونِقَةٍ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْإِيمَانِ، وَأَسْرَارُ الْقَدَرِ وَالْحِكْمَةِ يَضِيقُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهَا نِطَاقُ الْكَلِمِ.
_ فَمِنْ بَعْضِهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَنْ يَعْرِفَ الْعَبْدُ عِزَّتَهُ فِي قَضَائِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَزِيزُ الَّذِي يَقْضِي بِمَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لِكَمَالِ عِزَّتِهِ حَكَمَ عَلَى الْعَبْدِ وَقَضَى عَلَيْهِ،بِأَنْ قَلَّبَ قَلْبَهُ وَصَرَّفَ إِرَادَتَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ،وَحَالَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَقَلْبِهِ،وَجَ عَلَهُ مُرِيدًا شَائِيًا لِمَا شَاءَ مِنْهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْعِزَّةِ، إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ، وَغَايَةُ الْمَخْلُوقِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي بَدَنِكَ وَظَاهِرِكَ، وَأَمَّا جَعْلُكَ مُرِيدًا شَائِيًا لِمَا يَشَاؤُهُ مِنْكَ وَيُرِيدُهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا ذُو الْعِزَّةِ الْبَاهِرَةِ.
فَإِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ عِزَّ سَيِّدِهِ وَلَاحَظَهُ بِقَلْبِهِ، وَتَمَكَّنَ شُهُودَهُ مِنْهُ، كَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى بِهِ وَأَنْفَعَ لَهُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ اللَّهِ لَا مَعَ نَفْسِهِ.
_ وَمِنْ مَعْرِفَةِ عِزَّتِهِ فِي قَضَائِهِ: أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ مَقْهُورٌ، نَاصِيَتُهُ بِيَدِ غَيْرِهِ، لَا عِصْمَةَ لَهُ إِلَّا بِعِصْمَتِهِ، وَلَا تَوْفِيقَ لَهُ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ، فَهُوَ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ، فِي قَبْضَةِ عَزِيزٍ حَمِيدٍ.
_ وَمِنْ شُهُودِ عِزَّتِهِ أَيْضًا فِي قَضَائِهِ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ الْكَمَالَ وَالْحَمْدَ، وَالْغَنَاءَ التَّامَّ، وَالْعِزَّةَ كُلَّهَا لِلَّهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ نَفْسَهُ أَوْلَى بِالتَّقْصِيرِ وَالذَّمِّ، وَالْعَيْبِ وَالظُّلْمِ وَالْحَاجَةِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ شُهُودُهُ لِذُلِّهِ وَنَقْصِهِ وَعَيْبِهِ وَفَقْرِهِ، ازْدَادَ شُهُودُهُ لِعِزَّةِ اللَّهِ وَكَمَالِهِ، وَحَمْدِهِ وَغِنَاهُ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، فَنَقْصُ الذَّنْبِ وَذِلَّتُهُ يُطْلِعُهُ عَلَى مَشْهَدِ الْعِزَّةِ.
_ وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُرِيدُ مَعْصِيَةَ مَوْلَاهُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْصِيَةٌ، فَإِذَا شَهِدَ جَرَيَانَ الْحُكْمِ،وَجَع ْلَهُ فَاعِلًا لِمَا هُوَ غَيْرُ مُخْتَارٍ لَهُ(1 )، مُرِيدٌ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَكَأَنَّهُ مُخْتَارٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ، مُرِيدٌ غَيْرُ مُرِيدٍ، شَاءٍ غَيْرُ شَاءٍ، فَهَذَا يَشْهَدُ عِزَّةَ اللَّهِ وَعَظَمَتَهُ، وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ.
_ وَمِنْهَا: أَنْ يَعْرِفَ بِرَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سَتْرِهِ عَلَيْهِ حَالَ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ، مَعَ كَمَالِ رُؤْيَتِهِ لَهُ، وَلَوْ شَاءَ لَفَضَحَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ فَحَذِرُوهُ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ بِرِّهِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ: ( الْبَرُّ )، وَهَذَا الْبِرُّ مِنْ سَيِّدِهِ كَانَ عَنْ بِهِ كَمَالُ غِنَاهُ عَنْهُ،وَكَمَال ُ فَقَرِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ، فَيَشْتَغِلُ بِمُطَالَعَةِ هَذِهِ الْمِنَّةِ، وَمُشَاهَدَةِ هَذَا الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ، فَيَذْهَلُ عَنْ ذِكْرِ الْخَطِيئَةِ، فَيَبْقَى مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ،وَذ َلِكَ أَنْفَعُ لَهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِجِنَايَتِهِ،و َشُهُودِ ذُلِّ مَعْصِيَتِهِ،فَ إِنَّ الِاشْتِغَالَ بِاللَّهِ وَالْغَفْلَةَ عَمَّا سِوَاهُ هُوَ الْمَطْلَبُ الْأَعْلَى،وَال ْمَقْصِدُ الْأَسْنَى.
وَلَا يُوجِبُ هَذَا نِسْيَانَ الْخَطِيئَةِ مُطْلَقًا،بَلْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَإِذَا فَقَدَهَا فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُطَالَعَةِ الْخَطِيئَةِ، وَذِكْرِ الْجِنَايَةِ، وَلِكُلِّ وَقْتٍ وَمَقَامٍ عُبُودِيَّةٌ تَلِيقُ بِهِ.
_ وَمِنْهَا: شُهُودُ حِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي إِمْهَالِ رَاكِبِ الْخَطِيئَةِ، وَلَوْ شَاءَ لَعَاجَلَهُ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّهُ الْحَلِيمُ الَّذِي لَا يُعَجِّلُ،فَيُح َدِثُ لَهُ ذَلِكَ مَعْرِفَةَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ بِاسْمِهِ:( الْحَلِيمِ)، وَمُشَاهَدَةَ صِفَةِ الْحِلْمِ، وَالتَّعَبُّدَ بِهَذَا الِاسْمِ، وَالْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ ذَلِكَ بِتَوَسُّطِ الذَّنْبِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَأَصْلَحُ لِلْعَبْدِ، وَأَنْفَعُ مِنْ فَوْتِهَا، وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازَمِهِ مُمْتَنِعٌ.
_ وَمِنْهَا:مَعْر فَةُ الْعَبْدِ كَرَمَ رَبِّهِ فِي قَبُولِ الْعُذْرِ مِنْهُ إِذَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاعْتِذَارِ،ل َا بِالْقَدَرِ، فَإِنَّهُ مُخَاصَمَةٌ وَمُحَاجَّةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَقْبَلُ عُذْرَهُ بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ، فَيُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ اشْتِغَالًا بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَمَحَبَّةً أُخْرَى لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَحَبَّتَكَ لِمَنْ شَكَرَكَ عَلَى إِحْسَانِكَ وَجَازَاكَ بِهِ، ثُمَّ غَفَرَ لَكَ إِسَاءَتَكَ وَلَمْ يُؤَاخِذْكَ بِهَا أَضْعَافُ مَحَبَّتِكَ عَلَى شُكْرِ الْإِحْسَانِ وَحْدَهُ، وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، فَعُبُودِيَّةُ التَّوْبَةِ بَعْدَ الذَّنْبِ لَوْنٌ، وَهَذَا لَوْنٌ آخَرُ.
_ وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدَ فَضْلَهُ فِي مَغْفِرَتِهِ،فَ إِنَّ الْمَغْفِرَةَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِلَّا فَلَوْ أَخَذَكَ بِمَحْضِ حَقِّهِ،كَانَ عَادِلًا مَحْمُودًا، وَإِنَّمَا عَفْوُهُ بِفَضْلِهِ لَا بِاسْتِحْقَاقِك َ، فَيُوجِبُ لَكَ ذَلِكَ أَيْضًا شُكْرًا لَهُ وَمَحَبَّةً،وَإ ِنَابَةً إِلَيْهِ،وَفَرَ حًا وَابْتِهَاجًا بِهِ،وَمَعْرِفَ ةً لَهُ بِاسْمِهِ: ( الْغَفَّارِ ) وَمُشَاهَدَةً لِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَتَعَبُّدًا بِمُقْتَضَاهَا، وَذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الْعُبُودِيَّةِ ، وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ .
_ وَمِنْهَا: أَنْ يُكَمِّلَ لِعَبْدِهِ مَرَاتِبَ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ النَّفْسَ فِيهَا مُضَاهَاةٌ لِلرُّبُوبِيَّة ِ،وَلَوْ قَدَرَتْ لَقَالَتْ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ، وَلَكِنَّهُ قَدَرَ فَأَظْهَرَ، وَغَيْرُهُ عَجَزَ فَأَضْمَرَ، وَإِنَّمَا يُخَلِّصُهَا مِنْ هَذِهِ الْمُضَاهَاةِ ذُلُّ الْعُبُودِيَّةِ ، وَهُوَ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَهِيَ ذُلُّ الْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ إِلَى اللَّهِ، فَأَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَمِيعًا مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فُقَرَاءُ إِلَيْهِ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ عَنْهُمْ، وَكُلُّ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ، وَهُوَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا.
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: ذُلُّ الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّ ةِ، وَهُوَ ذُلُّ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا خَاصٌّ بِأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَهُوَ سِرُّ الْعُبُودِيَّةِ .
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: ذُلُّ الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّ الْمُحِبَّ ذَلِيلٌ بِالذَّاتِ، وَعَلَى قَدْرِ مَحَبَّتِهِ لَهُ يَكُونُ ذُلُّهُ، فَالْمَحَبَّةُ أُسِّسَتْ عَلَى الذِّلَّةِ لِلْمَحْبُوبِ، كَمَا قِيلَ:
اخْضَعْ وَذُلَّ لِمَنْ تُحِبُّ فَلَيْسَ فِي ... حُكْمِ الْهَوَى أَنَفٌ يُشَالُ وَيُعْقَدُ
وَقَالَ آخَرُ:
مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ ... عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِرِ
الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: ذُلُّ الْمَعْصِيَةِ وَالْجِنَايَةِ.
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ الْأَرْبَعُ كَانَ الذُّلُّ لِلَّهِ وَالْخُضُوعُ لَهُ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، إِذْ يَذِلُّ لَهُ خَوْفًا وَخَشْيَةً، وَمَحَبَّةً وَإِنَابَةً، وَطَاعَةً، وَفَقْرًا وَفَاقَةً.
وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُسَمَّى بِالْفَقْرِ، بَلْ هُوَ لُبُّ الْعُبُودِيَّةِ وَسِرُّهَا، وَحُصُولُهُ أَنْفَعُ شَيْءٍ لِلْعَبْدِ، وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى اللَّهِ.
فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ لَوَازِمِهِ مِنْ أَسْبَابِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَأَسْبَابِ الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَسْبَابِ الْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ، وَأَسْبَابِ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَة ِ، إِذْ وُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازَمِهِ مُمْتَنِعٌ، وَالْغَايَةُ مِنْ تَقْدِيرِ عَدَمِ هَذَا الْمَلْزُومِ وَلَازَمِهِ، مَصْلَحَةُ وُجُودِهِ خَيْرٌ مِنْ مَصْلَحَةِ فَوْتِهِ، وَمَفْسَدَةُ فَوْتِهِ أَكْبَرُ مِنْ مَفْسَدَةِ وُجُودهِ، وَالْحِكْمَةُ مَبْنَاهَا عَلَى دَفْعِ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْ نِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا، وَتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْ نِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا، وَقَدْ فَتَحَ لَكَ الْبَابَ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فَادْخُلْ، وَإِلَّا فَرُدَّ الْبَابَ وَارْجِعْ بِسَلَامٍ.
_ وَمِنْهَا:أَنَّ أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى تَقْتَضِي آثَارُهَا اقْتِضَاءَ الْأَسْبَابِ التَّامَّةِ لِمُسَبِّبَاتِه َا،فَاسْمُ السَّمِيعِ، الْبَصِيرِ يَقْتَضِي مَسْمُوعًا وَمُبْصَرًا، وَاسْمُ الرَّزَّاقِ يَقْتَضِي مَرْزُوقًا، وَاسْمُ الرَّحِيمِ يَقْتَضِي مَرْحُومًا، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْغَفُورِ، وَالْعَفُوِّ، وَالتَّوَّابِ، وَالْحَلِيمِ يَقْتَضِي مَنْ يَغْفِرُ لَهُ، وَيَتُوبُ عَلَيْهِ، وَيَعْفُو عَنْهُ، وَيَحْلُمُ، وَيَسْتَحِيلُ تَعْطِيلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، إِذْ هِيَ أَسْمَاءٌ حُسْنَى وَصِفَاتُ كَمَالٍ، وَنُعُوتُ جَلَالٍ، وَأَفْعَالُ حِكْمَةٍ وَإِحْسَانٍ وَجُودٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ آثَارِهَا فِي الْعَالَمِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِاللَّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، حَيْثُ يَقُولُ:«لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»( 2).
وَأَنْتَ إِذَا فَرَضْتَ الْحَيَوَانَ بِجُمْلَتِهِ مَعْدُومًا، فَمَنْ يَرْزُقُ الرَّزَّاقُ سُبْحَانَهُ؟ وَإِذَا فَرَضْتَ الْمَعْصِيَةَ وَالْخَطِيئَةَ مُنْتَفِيَةً مِنَ الْعَالَمِ، فَلِمَنْ يَغْفِرُ؟ وَعَمَّنْ يَعْفُو؟ وَعَلَى مَنْ يَتُوبُ وَيَحْلُمُ؟ وَإِذَا فَرَضْتَ الْفَاقَاتِ كُلَّهَا قَدْ سُدَّتْ، وَالْعَبِيدُ أَغْنِيَاءُ مُعَافَوْنَ، فَأَيْنَ السُّؤَالُ وَالتَّضَرُّعُ وَالِابْتِهَالُ ؟ وَالْإِجَابَةُ وَشُهُودُ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْإِنْعَامِ وَالْإِكْرَامِ؟
فَسُبْحَانَ مَنْ تَعَرَّفَ إِلَى خَلْقِهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّعَرُّفَاتِ ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الدَّلَالَاتِ، وَفَتَحَ لَهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعَ الطُّرُقَاتِ، ثُمَّ نَصَبَ إِلَيْهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَعَرَّفَهُمْ بِهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ:{لِيَهْ لِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].
_ وَمِنْهَا: السِّرُّ الْأَعْظَمُ، الَّذِي لَا تَقْتَحِمُهُ الْعِبَارَةُ، وَلَا تَجْسُرُ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ، وَلَا يُنَادِي عَلَيْهِ مُنَادِي الْإِيمَانِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، بَلْ شَهِدَتْهُ قُلُوبُ خَوَاصِّ الْعِبَادِ، فَازْدَادَتْ بِهِ مَعْرِفَةً لِرَبِّهَا وَمَحَبَّةً لَهُ، وَطُمَأْنِينَةً بِهِ وَشَوْقًا إِلَيْهِ، وَلَهَجًا بِذِكْرِهِ، وَشُهُودًا لِبِرِّهِ، وَلُطْفِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ،و َمُطَالَعَةً لِسِرِّ الْعُبُودِيَّةِ ،وَإِشْرَافًا عَلَى حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَلَ هُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ - حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ - مِنْ أَحَدِكُمْ، كَانَ عَلَى رَاحِلَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ - مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ - اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ»( 3) هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعِلْمِ: أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ خَطَأً مِنْ فَرَحٍ شَدِيدٍ، أَوْ غَيْظٍ شَدِيدٍ، وَنَحْوِهِ، لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا كَافِرًا بِقَوْلِهِ: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَأْثِيرَ الْغَضَبِ فِي عَدَمِ الْقَصْدِ يَصِلُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا، فَلَا يَنْبَغِي مُؤَاخَذَةُ الْغَضْبَانِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ فِي حَالِ شِدَّةِ غَضَبِهِ مِنْ نَحْوِ هَذَا الْكَلَامِ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِذَلِكَ، وَلَا رِدَّتُهُ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى تَفْسِيرِ الْإِغْلَاقِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ»( 4). بِأَنَّهُ الْغَضَبُ، وَفَسَّرَهُ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَفَسَّرُوهُ بِالْإِكْرَاهِ وَالْجُنُونِ.
قَالَ شَيْخُنَا:وَهُو يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ، وَهُوَ مِنَ الْغَلَقِ، لِانْغِلَاقِ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْفَتِحْ قَلْبُهُ لِمَعْنًى مَا قَالَهُ.
وَالْقَصْدُ: أَنَّ هَذَا الْفَرَحَ لَهُ شَأْنٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ إِهْمَالُهُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَلِيقُ بِعِزِّ جَلَالِهِ.
وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى بِنَا طَيُّ الْكَلَامِ فِيهِ إِلَى مَا هُوَ اللَّائِقُ بِأَفْهَامِ بَنِي الزَّمَانِ وَعُلُومِهِمْ، وَنِهَايَةِ أَقْدَامِهِمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ عَنِ احْتِمَالِهِ. غَيْرَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيَسُوقُ هَذِهِ الْبِضَاعَةَ إِلَى تُجَّارِهَا،وَم َنْ هُوَ عَارِفٌ بِقَدْرِهَا، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الطَّرِيقِ بِيَدِ مَنْ لَيْسَ عَارِفًا بِهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ.
___________
( 1) ليس مراد الشيخ ما تقوله : _الجبرية_ فله اليد الطولى في الرد عليهم لكن يريد والله اعلم : أن المسلم حين يفعل المعصية انه غير مختار لفعله هذا بمعنى أنه لا يراه حسنا ويتألم من فعله لكن داعي الشهوة جعله يفعل ذلك كما بينه الشيخ رحمه الله في مواضع.
(2) رواه مسلم : ( 2749) وغيره.
(3 ) رواه البخاري : (6309), ومسلم : (2747).
( 4) رواه أبو داود: (2193) , وابن ماجه : (2046) وحسنه الألباني .
ابو العبدين البصري
2013-03-17, 10:35 PM
نُبَذٌ تَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ التَّوْبَةِ
وَنَذْكُرُ نُبَذًا تَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ التَّوْبَةِ، تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا، وَلَا يَلِيقُ بِالْعَبْدِ جَهْلُهَا.
1_مِنْهَا: أَنَّ الْمُبَادَرَةَ إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ فَرْضٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا، فَمَتَى أَخَّرَهَا عَصَى بِالتَّأْخِيرِ، فَإِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ بَقِيَ عَلَيْهِ تَوْبَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ تَوْبَتُهُ مِنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ، وَقَلَّ أَنْ تَخْطُرَ هَذِهِ بِبَالِ التَّائِبِ، بَلْ عِنْدَهُ أَنَّهُ إِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ، وَلَا يُنْجِي مِنْ هَذَا إِلَّا تَوْبَةٌ عَامَّةٌ، مِمَّا يَعْلَمُ مِنْ ذُنُوبِهِ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُ، فَإِنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْعَبْدُ مِنْ ذُنُوبِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَعْلَمُهُ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا جَهْلُهُ إِذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ عَاصٍ بِتَرْكِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَالْمَعْصِيَةُ فِي حَقِّهِ أَشَدُّ، وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَيْفَ الْخَلَاصُ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُك َ لِمَا لَا أَعْلَمُ» .
فَهَذَا طَلَبُ الِاسْتِغْفَارِ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ أَنَّهُ ذَنْبٌ، وَلَا يَعْلَمُهُ الْعَبْدُ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو فِي صِلَاتِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَأِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ إِلَهِيٌّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ».
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، خَطَأَهُ وَعَمْدَهُ، سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» .
فَهَذَا التَّعْمِيمُ وَهَذَا الشُّمُولُ لِتَأْتِيَ التَّوْبَةُ عَلَى مَا عَلِمَهُ الْعَبْدُ مِنْ ذُنُوبِهِ وَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ.
2_: وَمِنْ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ أَنَّهُ: هَلْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ أَبَدًا، أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ؟
فَشَرَطَ بَعْضُ النَّاسِ عَدَمَ مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ، وَقَالَ: مَتَى عَادَ إِلَيْهِ تَبَيَّنَّا أَنَّ التَّوْبَةَ كَانَتْ بَاطِلَةً غَيْرَ صَحِيحَةٍ.
وَالْأَكْثَرُون َ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا صِحَّةُ التَّوْبَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَالْعَزْمِ الْجَازِمِ عَلَى تَرْكِ مُعَاوَدَتِهِ.
3_: وَمِنْ أَحْكَامِهَا أَنَّ الْعَاصِيَ إِذَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسْبَابِ الْمَعْصِيَةِ، وَعَجَزَ عَنْهَا بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ وُقُوعُهَا مِنْهُ، هَلْ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ؟ وَهَذَا كَالْكَاذِبِ وَالْقَاذِفِ، وَشَاهِدِ الزُّورِ إِذَا قُطِعَ لِسَانُهُ، وَالزَّانِي إِذَا جُبَّ، وَالسَّارِقِ إِذَا أُتِيَ عَلَى أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْمُزَوِّرِ إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَى حَدٍّ بَطَلَتْ مَعَهُ دَوَاعِيهِ إِلَى مَعْصِيَةٍ كَانَ يَرْتَكِبُهَا.
فَفِي هَذَا قَوْلَانِ لِلنَّاسِ:
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، فَالتَّوْبَةُ مِنَ الْمُمْكِنِ، لَا مِنَ الْمُسْتَحِيلِ، وَلِهَذَا لَا تُتَصَوَّرُ التَّوْبَةُ مِنْ نَقْلِ الْجِبَالِ عَنْ أَمَاكِنِهَا، وَتَنْشِيفِ الْبِحَارِ، وَالطَّيَرَانِ إِلَى السَّمَاءِ، وَنَحْوِهِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ مُخَالَفَةُ دَاعِي النَّفْسِ، وَإِجَابَةُ دَاعِي الْحَقِّ، وَلَا دَاعِيَ لِلنَّفْسِ هُنَا، إِذْ يُعْلَمُ اسْتِحَالَةُ الْفِعْلِ مِنْهَا.
قَالُوا: وَلِأَنَّ هَذَا كَالْمُكْرَهِ عَلَى التَّرْكِ، الْمَحْمُولِ عَلَيْهِ قَهْرًا، وَمِثْلُ هَذَا لَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ.
قَالُوا: وَمِنَ الْمُسْتَقِرِّ فِي فِطَرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ أَنَّ تَوْبَةَ الْمَفَالِيسِ وَأَصْحَابِ الْجَوَائِحِ تَوْبَةٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَلَا يُحْمَدُونَ عَلَيْهَا، بَلْ يُسَمُّونَهَا تَوْبَةَ إِفْلَاسٍ، وَتَوْبَةَ جَائِحَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَرُحْتُ عَنْ تَوْبَةٍ سَائِلًا ... وَجَدْتُهَا تَوْبَةَ إِفْلَاسِ.
والصَّوَابُ - أَنَّ تَوْبَتَهُ صَحِيحَةٌ مُمْكِنَةٌ، بَلْ وَاقِعَةٌ، فَإِنَّ أَرْكَانَ التَّوْبَةِ مُجْتَمِعَةٌ فِيهِ، وَالْمَقْدُورُ لَهُ مِنْهَا النَّدَمُ، وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا «النَّدَمُ تَوْبَةٌ،» فَإِذَا تَحَقَّقَ نَدَمُهُ عَلَى الذَّنْبِ وَلَوْمُهُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ تَوْبَةٌ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تُسْلَبَ التَّوْبَةُ عَنْهُ، مَعَ شِدَّةِ نَدَمِهِ عَلَى الذَّنْبِ، وَلَوْمِهِ نَفْسَهُ عَلَيْهِ؟ وَلَا سِيَّمَا مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ بُكَائِهِ وَحُزْنِهِ وَخَوْفِهِ، وَعَزْمِهِ الْجَازِمِ، وَنِيَّتِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا وَالْفِعْلُ مَقْدُورًا لَهُ لَمَا فَعَلَهُ.
4_: وَمِنْ أَحْكَامِهَا أَنَّ مَنْ تَوَغَّلَ فِي ذَنْبٍ، وَعَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِارْتِكَابِ بَعْضِهِ، كَمَنْ أَوْلَجَ فِي فَرْجٍ حَرَامٍ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ قَبْلَ النَّزْعِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ الْوَطْءِ، وَكَمَنَ تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ، وَلَا يُمْكِنُهُ إِلَّا بِالْخُرُوجِ، الَّذِي هُوَ مَشْيٌ فِيهَا وَتَصَرُّفٌ، فَكَيْفَ يَتُوبُ مِنَ الْحَرَامِ بِحَرَامٍ مِثْلِهِ؟ وَهَلْ تُعْقَلُ التَّوْبَةُ مِنَ الْحَرَامِ بِحَرَامٍ؟
فَهَذَا مِمَّا أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، حَتَّى دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالَ بِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنَ الْحَرَامِ.
وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا النَّزْعَ وَالْخُرُوجَ مِنَ الْأَرْضِ تَوْبَةٌ لَيْسَ بِحَرَامٍ، إِذْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَمُحَالٌ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْحَرَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّزْعُ - الَّذِي هُوَ جُزْءُ الْوَطْءِ - حَرَامًا بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ بِهِ، وَتَكْمِيلِ الْوَطْءِ، وَأَمَّا النَّزْعُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مُفَارَقَةُ الْحَرَامِ، وَقَطْعُ لَذَّةِ الْمَعْصِيَةِ، فَلَا دَلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، لَا مِنْ نَصٍّ وَلَا إِجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ.
وَمُحَالٌ خُلُوُّ هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ فِيهَا، وَحُكْمُهُ فِيهَا الْأَمْرُ بِالنَّزْعِ قَطْعًا، وَإِلَّا كَانَتِ الِاسْتِدَامَةُ مُبَاحَةً، وَذَلِكَ عَيْنُ الْمُحَالِ، وَكَذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنَ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْحَرَكَةُ وَالتَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ حَرَامًا إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، الْمُتَضَمِّنِ لِإِضْرَارِ مَالِكِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ تَرْكَ الِانْتِفَاعِ، وَإِزَالَةَ الضَّرَرِ عَنِ الْمَالِكِ، فَلَمْ يُحَرِمِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ ذَلِكَ، وَلَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ نَظَرٌ صَحِيحٌ، وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ.
5 _: وَمِنْ أَحْكَامِهَا: أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً لِحَقِّ آدَمِيٍّ أَنْ يَخْرُجَ التَّائِبُ إِلَيْهِ مِنْهُ، إِمَّا بِأَدَائِهِ وَإِمَّا بِاسْتِحْلَالِه ِ مِنْهُ بَعْدَ إِعْلَامِهِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا مَالِيًّا أَوْ جِنَايَةً عَلَى بَدَنِهِ أَوْ بَدَنِ مَوْرُوثِهِ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ كَانَ لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ مِنْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ،فَلْيَتَ حَلَّلْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِلَّا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ » .
وَإِنْ كَانَتِ الْمَظْلَمَةُ بِقَدْحٍ فِيهِ، بِغِيبَةٍ أَوْ قَذْفٍ فَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي تَوْبَتِهِ مِنْهَا إِعْلَامُهُ بِذَلِكَ بِعَيْنِهِ وَالتَّحَلُّلُ مِنْهُ؟ أَوْ إِعْلَامُهُ بِأَنَّهُ قَدْ نَالَ مِنْ عِرْضِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ، أَوْ لَا يُشْتَرَطُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَلْ يَكْفِي فِي تَوْبَتِهِ أَنْ يَتُوبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ إِعْلَامِ مَنْ قَذَفَهُ وَإِعْتَابِهِ؟
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، هَلْ يُشْتَرَطُ فِي تَوْبَةِ الْقَاذِفِ إِعْلَامُ الْمَقْذُوفِ، وَالتَّحَلُّلُ مِنْهُ أَمْ لَا؟ وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِمَا تَوْبَةُ الْمُغْتَابِ وَالشَّاتِمِ.
وَالْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ اشْتِرَاطُ الْإِعْلَامِ وَالتَّحَلُّلِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُهُمْ فِي كُتُبِهِمْ.
وَالَّذِينَ اشْتَرَطُوا ذَلِكَ احْتَجُّوا بِأَنَّ الذَّنْبَ حَقُّ آدَمِيٍّ فَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِإِحْلَالِهِ مِنْهُ وَإِبْرَائِهِ.
ثُمَّ مَنْ لَمْ يُصَحِّحِ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْحَقِّ الْمَجْهُولِ شَرَطَ إِعْلَامَهُ بِعَيْنِهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ عَارِفًا بِقَدْرِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِعْلَامِ مُسْتَحِقِّهِ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِالْإِبْرَاءِ مِنْهُ إِذَا عَرَفَ قَدْرَهُ.
وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ - مِنْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ - فَلْيَتَحَلَّلْ هُ الْيَوْمَ» .
قَالُوا: وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ حَقَّيْنِ: حَقًّا لِلَّهِ، وَحَقًّا لِلْآدَمِيِّ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا بِتَحَلُّلِ الْآدَمِيِّ لِأَجْلِ حَقِّهِ، وَالنَّدَمُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لِأَجْلِ حَقِّهِ.
قَالُوا: وَلِهَذَا كَانَتْ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِتَمْكِينِ وَلِيِّ الدَّمِ مِنْ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَكَذَلِكَ تَوْبَةُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِعْلَامُ بِمَا نَالَ مِنْ عِرْضِهِ وَقَذْفِهِ وَاغْتِيَابِهِ، بَلْ يَكْفِي تَوْبَتُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَأَنْ يَذْكُرَ الْمُغْتَابَ وَالْمَقْذُوفَ فِي مَوَاضِعِ غِيبَتِهِ وَقَذْفِهِ بِضِدِّ مَا ذَكَرَهُ بِهِ مِنَ الْغِيبَةِ، فَيُبَدِّلَ غِيبَتَهُ بِمَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَذِكْرِ مَحَاسِنِهِ، وَقَذْفَهُ بِذِكْرِ عِفَّتِهِ وَإِحْصَانِهِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ بِقَدْرِ مَا اغْتَابَهُ.
وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنَّ إِعْلَامَهُ مَفْسَدَةٌ مَحْضَةٌ لَا تَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا أَذًى وَحَنَقًا وَغَمًّا، وَقَدْ كَانَ مُسْتَرِيحًا قَبْلَ سَمَاعِهِ، فَإِذَا سَمِعَهُ رُبَّمَا لَمْ يَصْبِرْ عَلَى حَمْلِهِ، وَأَوْرَثَتْهُ ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّ الَّذِي يُؤْذِيكَ مِنْهُ سَمَاعُهُ ... وَإِنَّ الَّذِي قَالُوا وَرَاءَكَ لَمْ يُقَلْ
وَمَا كَانَ هَكَذَا فَإِنَّ الشَّارِعَ لَا يُبِيحُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبَهُ وَيَأْمُرَ بِهِ.
قَالُوا: وَرُبَّمَا كَانَ إِعْلَامُهُ بِهِ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَائِلِ، فَلَا يَصْفُو لَهُ أَبَدًا، وَيُورِثُهُ عِلْمُهُ بِهِ عَدَاوَةً وَبَغْضَاءَ مُوَلِّدَةً لِشَرٍّ أَكْبَرَ مِنْ شَرِّ الْغِيبَةِ وَالْقَذْفِ، وَهَذَا ضِدُّ مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ، وَالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ وَالتَّحَابُبِ.
قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَجِنَايَاتِ الْأَبْدَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَنْتَفِعُ بِهَا إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ إِخْفَاؤُهَا عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَحْضُ حَقِّهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ الْغِيبَةِ وَالْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يَنْفَعُهُ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ إِلَّا إِضْرَارُهُ وَتَهْيِيجُهُ فَقَطْ، فَقِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا أَعْلَمَهُ بِهَا لَمْ تُؤْذِهِ، وَلَمْ تُهِجْ مِنْهُ غَضَبًا وَلَا عَدَاوَةً، بَلْ رُبَّمَا سَرَّهُ ذَلِكَ وَفَرِحَ بِهِ، بِخِلَافِ إِعْلَامِهِ بِمَا مَزَّقَ بِهِ عِرْضَهُ طُولَ عُمُرِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، مِنْ أَنْوَاعِ الْقَذْفِ وَالْغِيبَةِ وَالْهَجْوِ، فَاعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ اعْتِبَارٌ فَاسِدٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْقَوْلَيْنِ كَمَا رَأَيْتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 _: وَمِنْ أَحْكَامِهَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ فَهَلْ يَرْجِعُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الذَّنْبِ مِنَ الدَّرَجَةِ الَّتِي حَطَّهُ عَنْهَا الذَّنْبُ، أَوْ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا؟ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَرْجِعُ إِلَى دَرَجَتِهِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ الذَّنْبَ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَتُصَيِّرُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَالْمُقْتَضِي لِدَرَجَتِهِ مَا مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَعَادَ إِلَيْهَا بِالتَّوْبَةِ.
قَالُوا: لِأَنَّ التَّوْبَةَ حَسَنَةٌ عَظِيمَةٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ، فَإِذَا كَانَ ذَنْبُهُ قَدْ حَطَّهُ عَنْ دَرَجَتِهِ، فَحَسَنَتُهُ بِالتَّوْبَةِ رَقَّتْهُ إِلَيْهَا، وَهَذَا كَمَنْ سَقَطَ فِي بِئْرٍ، وَلَهُ صَاحِبٌ شَفِيقٌ، أَدْلَى إِلَيْهِ حَبْلًا تَمَسَّكَ بِهِ حَتَّى رَقِيَ مِنْهُ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَهَكَذَا التَّوْبَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مِثْلُ هَذَا الْقَرِينِ الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الشَّفِيقِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ وَحَالِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وُقُوفٍ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي صُعُودٍ، فَبِالذَّنْبِ صَارَ فِي نُزُولٍ وَهُبُوطٍ، فَإِذَا تَابَ نَقَصَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ الَّذِي كَانَ مُسْتَعِدًّا بِهِ لِلتَّرَقِّي.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي هَذَا الْخِلَافَ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِنَ التَّائِبِينَ مَنْ لَا يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُودُ إِلَيْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُودُ إِلَى أَعْلَى مِنْهَا، فَيَصِيرُ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَ الذَّنْبِ، وَكَانَ دَاوُدُ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ.
قَالَ: وَهَذَا بِحَسَبِ حَالِ التَّائِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، وَجِدِّهِ وَعَزْمِهِ، وَحَذَرِهِ وَتَشْمِيرِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ لَهُ قَبْلَ الذَّنْبِ عَادَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ وَأَعْلَى دَرَجَةً، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ عَادَ إِلَى مِثْلِ حَالِهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَمْ يَعُدْ إِلَى دَرَجَتِهِ، وَكَانَ مُنْحَطًّا عَنْهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فَصْلُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ( 1).
_______________
( 1) ينظر مدارج السالكين : (ج1_ص487_ص493_ص505_ص511_ 515_ص118) بتصرف .
ابو العبدين البصري
2013-03-18, 05:59 PM
حقيقة التوبة هي ترك المحظور وفعل المأمور
فَصْلٌ:
( التوبة هي ترك المحظور وفعل المأمور )
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِنَّمَا يُفَسِّرُ التَّوْبَةَ بِالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَ الذَّنْبَ، وَبِالْإِقْلَاع ِ عَنْهُ فِي الْحَالِ، وَبِالنَّدَمِ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ رَابِعٍ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ مِنْهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ بَعْضُ مُسَمَّى التَّوْبَةِ بَلْ شَرْطُهَا، وَإِلَّا فَالتَّوْبَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - كَمَا تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ - تَتَضَمَّنُ الْعَزْمَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالْتِزَامِهِ فَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الْإِقْلَاعِ وَالْعَزْمِ وَالنَّدَمِ تَائِبًا، حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَالْإِتْيَانِ بِهِ، هَذَا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، لَكِنَّهَا إِذَا قُرِنَتْ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَتْ عِبَارَةً عَمَّا ذَكَرُوهُ، فَإِذَا أُفْرِدَتْ تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَيْنِ، وَهِيَ كَلَفْظَةِ التَّقْوَى الَّتِي تَقْتَضِي عِنْدَ إِفْرَادِهَا فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَقْتَضِي عِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ الِانْتِهَاءَ عَنِ الْمَحْظُورِ.
فَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّوْبَةِ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ بِالْتِزَامِ فَعْلِ مَا يُحِبُّ، وَتَرْكِ مَا يَكْرَهُ، فَهِيَ رُجُوعٌ مِنْ مَكْرُوهٍ إِلَى مَحْبُوبٍ، فَالرُّجُوعُ إِلَى الْمَحْبُوبِ جُزْءُ مُسَمَّاهَا، وَالرُّجُوعُ عَنِ الْمَكْرُوهِ الْجُزْءُ الْآخَرُ، وَلِهَذَا عَلَّقَ سُبْحَانَهُ الْفَلَاحَ الْمُطْلَقَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ بِهَا، فَقَالَ {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. فَكُلُّ تَائِبٍ مُفْلِحٌ، وَلَا يَكُونُ مُفْلِحًا إِلَّا مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَتَرَكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. وَتَارِكُ الْمَأْمُورِ ظَالِمٌ، كَمَا أَنَّ فَاعِلَ الْمَحْظُورِ ظَالِمٌ، وَزَوَالُ اسْمِ الظُّلْمِ عَنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّوْبَةِ الْجَامِعَةِ لِلْأَمْرَيْنِ، فَالنَّاسُ قِسْمَانِ: تَائِبٌ وَظَالِمٌ لَيْسَ إِلَّا، فَالتَّائِبُونَ هُمُ {الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112]. فَحِفْظُ حُدُودِ اللَّهِ جُزْءُ التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ هِيَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَائِبًا لِرُجُوعِهِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ مِنْ نَهْيِهِ، وَإِلَى طَاعَتِهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
فَإِذًا التَّوْبَةُ هِيَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى التَّوْبَةِ وَبِهَذَا اسْتَحَقَّ التَّائِبُ أَنْ يَكُونَ حَبِيبَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ، وَتَرَكَ مَا نَهَى عَنْهُ.
فَإِذًا التَّوْبَةُ هِيَ الرُّجُوعُ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِلَى مَا يُحِبُّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا الْإِسْلَامُ، وَالْإِيمَانُ، وَالْإِحْسَانُ، وَتَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَقَامَاتِ، وَلِهَذَا كَانَتْ غَايَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَبِدَايَةَ الْأَمْرِ وَخَاتِمَتَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي وُجِدَ لِأَجْلِهَا الْخَلْقُ، وَالْأَمْرُ وَالتَّوْحِيدُ جُزْءٌ مِنْهَا، بَلْ هُوَ جُزْؤُهَا الْأَعْظَمُ الَّذِي عَلَيْهِ بِنَاؤُهَا.
وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَ التَّوْبَةِ وَلَا حَقِيقَتَهَا، فَضْلًا عَنِ الْقِيَامِ بِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا وَحَالًا، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّتَهُ لِلتَّوَّابِينَ إِلَّا وَهُمْ خَوَاصُّ الْخَلْقِ لَدَيْهِ.
وَلَوْلَا أَنَّ التَّوْبَةَ اسْمٌ جَامِعٌ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنِ الرَّبُّ تَعَالَى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ذَلِكَ الْفَرَحَ الْعَظِيمَ، فَجَمِيعُ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ هُوَ تَفَاصِيلُ التَّوْبَةِ وَآثَارُهَا( 1).
__________
(1 ) انظر مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين : (ج1_ص540).
ابو العبدين البصري
2013-03-19, 03:38 PM
توبة العبد مسبوقة بتوبة الله عليه
وَتَوْبَةُ الْعَبْدِ إِلَى اللَّهِ مَحْفُوفَةٌ بِتَوْبَةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ قَبْلَهَا، وَتَوْبَةٍ مِنْهُ بَعْدَهَا، فَتَوْبَتُهُ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنْ رَبِّهِ، سَابِقَةٍ وَلَاحِقَةٍ، فَإِنَّهُ تَابَ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِذْنًا وَتَوْفِيقًا وَإِلْهَامًا، فَتَابَ الْعَبْدُ، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ثَانِيًا، قَبُولًا وَإِثَابَةً، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:{لَقَ دْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِي نَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ - وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 117 - 118].
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ سَبَقَتْ تَوْبَتَهُمْ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي جَعَلَتْهُمْ تَائِبِينَ، فَكَانَتْ سَبَبًا مُقْتَضِيًا لِتَوْبَتِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا تَابُوا حَتَّى تَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَالْحُكْمُ يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ.
وَنَظِيرُ هَذَا هِدَايَتُهُ لِعَبْدِهِ قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ، فَيَهْتَدِي بِهِدَايَتِهِ، فَتُوجِبُ لَهُ تِلْكَ الْهِدَايَةُ هِدَايَةً أُخْرَى يُثِيبُهُ اللَّهُ بِهَا هِدَايَةً عَلَى هِدَايَتِهِ، فَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْهُدَى الْهُدَى بَعْدَهُ، كَمَا أَنَّ مِنْ عُقُوبَةِ الضَّلَالَةِ الضَّلَالَةُ بَعْدَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17].
فَهَدَاهُمْ أَوْلًا فَاهْتَدَوْا، فَزَادَهُمْ هُدًى ثَانِيًا، وَعَكْسُهُ فِي أَهْلِ الزَّيْغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]. فَهَذِهِ الْإِزَاغَةُ الثَّانِيَةُ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى زَيْغِهِمْ.
وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ سِرِّ اسْمَيْهِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، فَهُوَ الْمُعِدُّ، وَهُوَ الْمُمِدُّ، وَمِنْهُ السَّبَبُ وَالْمُسَبَّبُ، وَهُوَ الَّذِي يُعِيذُ مِنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِهِ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ،» وَالْعَبْدُ تَوَّابٌ، وَاللَّهُ تَوَّابٌ، فَتَوْبَةُ الْعَبْدِ رُجُوعُهُ إِلَى سَيِّدِهِ بَعْدَ الْإِبَاقِ، وَتَوْبَةُ اللَّهِ نَوْعَانِ: إِذْنٌ وَتَوْفِيقٌ، وَقَبُولٌ وَإِمْدَادٌ( 1).
___________
(1 ) المدارج : ( ج1_ص549).
ابو العبدين البصري
2013-03-20, 09:43 PM
مسألة : وَهَلْ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ؟
فِيهِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْخِلَافِ مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى صِحَّتِهَا، كَالنَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ، وَلَهَا غَوْرٌ، وَيَحْتَاجُ الْجَزْمُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَى دَلِيلٍ يَحْصُلُ بِهِ الْجَزْمُ، وَالَّذِينَ صَحَّحُوهَا احْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ الْإِسْلَامُ - وَهُوَ تَوْبَةٌ مِنَ الْكُفْرِ - مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، فَهَكَذَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى آخَرَ.
وَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَهُ شَأْنٌ لَيْسَ لِغَيْرِهِ، لِقُوَّتِهِ وَنَفَاذِهِ، وَحُصُولِهِ - تَبَعًا بِإِسْلَامِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا - لِلطِّفْلِ، وَكَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ نَسَبِ الطِّفْلِ مِنْ أَبِيهِ، أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ بِكَوْنِ سَابِيهِ وَمَالِكِهِ مُسْلِمًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِقُوَّتِهِ، وَتَشَوُّفِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ، حَتَّى حَصَلَ بِغَيْرِ الْقَصْدِ بَلْ بِالتَّبَعِيَّة ِ.
وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَيُّ رُجُوعٍ لِمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَاحِدٍ، وَأَصَرَّ عَلَى أَلْفِ ذَنْبٍ؟
قَالُوا: وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا لَمْ يُؤَاخِذِ التَّائِبَ، لِأَنَّهُ قَدْ رَجَعَ إِلَى طَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِه ِ، وَتَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَالْمُصِرُّ عَلَى مِثْلِ مَا تَابَ مِنْهُ - أَوْ أَعْظَمَ - لَمْ يُرَاجِعِ الطَّاعَةَ وَلَمْ يَتُبْ تَوْبَةً نَصُوحًا.
قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّائِبَ إِذَا تَابَ إِلَى اللَّهِ، فَقَدْ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْعَاصِي كَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْكَافِرِ وَأَمَّا إِذَا أَصَرَّ عَلَى غَيْرِ الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ فَاسْمُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفَارِقُهُ، فَلَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّ التَّوْبَةَ هَلْ تَتَبَعَّضُ، كَالْمَعْصِيَةِ ، فَيَكُونُ تَائِبًا مَنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، كَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؟
وَالرَّاجِحُ تَبَعُّضُهَا، فَإِنَّهَا كَمَا تَتَفَاضَلُ فِي كَيْفِيَّتِهَا كَذَلِكَ تَفَاضَلُ فِي كَمِّيَّتِهَا، وَلَوْ أَتَى الْعَبْدُ بِفَرْضٍ وَتَرَكَ فَرْضًا آخَرَ لَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى مَا تَرَكَهُ دُونَ مَا فَعَلَهُ، فَهَكَذَا إِذَا تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَأَصَرَّ عَلَى آخَرَ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ مِنَ الذَّنْبَيْنِ، فَقَدْ أَدَّى أَحَدَ الْفَرْضَيْنِ وَتَرَكَ الْآخَرَ، فَلَا يَكُونُ مَا تَرَكَ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ مَا فَعَلَ، كَمَنْ تَرَكَ الْحَجَّ وَأَتَى بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ.
وَالْآخَرُونَ يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّوْبَةَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، مَعْنَاهُ الْإِقْلَاعُ عَمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، وَالنَّدَمُ عَلَيْهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى طَاعَتِهِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بِكَمَالِهَا لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً، إِذْ هِيَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ، فَالْإِتْيَانُ بِبَعْضِهَا وَتَرْكُ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا كَالْإِتْيَانِ بِبَعْضِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ وَتَرْكِ بَعْضِهَا، فَإِنَّ ارْتِبَاطَ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ أَشَدُّ مِنَ ارْتِبَاطِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَنَوِّعَا تِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.
وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُونَ: كُلُّ ذَنْبٍ لَهُ تَوْبَةٌ تَخُصُّهُ، وَهِيَ فَرْضٌ مِنْهُ، لَا تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا لَا يَتَعَلَّقُ أَحَدُ الذَّنْبَيْنِ بِالْآخَرِ.
وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ، مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى آخَرَ مِنْ نَوْعِهِ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ، مَعَ مُبَاشَرَةِ آخَرَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ، وَلَا هُوَ مِنْ نَوْعِهِ فَتَصِحُّ، كَمَا إِذَا تَابَ مِنَ الرِّبَا، وَلَمْ يَتُبْ مَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا، فَإِنَّ تَوْبَتَهُ مِنَ الرِّبَا صَحِيحَةٌ، وَأَمَّا إِذَا تَابَ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ، وَلَمْ يَتُبْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ تَابَ مِنْ تَنَاوُلِ الْحَشِيشَةِ وَأَصَرَّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ بِالْعَكْسِ فَهَذَا لَا تَصِحُّ تَوْبَتَهُ، وَهُوَ كَمَنْ يَتُوبُ عَنِ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الزِّنَا بِغَيْرِهَا غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهَا، أَوْ تَابَ مِنْ شُرْبِ عَصِيرِ الْعِنَبِ الْمُسْكِرِ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى شُرْبِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَتُبْ مِنَ الذَّنْبِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ نَوْعٍ مِنْهُ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ، بِخِلَافِ مَنْ عَدَلَ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَى مَعْصِيَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا فِي الْجِنْسِ، إِمَّا لِأَنَّ وِزْرَهَا أَخَفُّ، وَإِمَّا لِغَلَبَةِ دَوَاعِي الطَّبْعِ إِلَيْهَا، وَقَهْرِ سُلْطَانِ شَهْوَتِهَا لَهُ، وَإِمَّا لِأَنَّ أَسْبَابَهَا حَاضِرَةٌ لَدَيْهِ عَتِيدَةٌ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِدْعَائِهَا ، بِخِلَافِ مَعْصِيَةٍ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِدْعَاءِ أَسْبَابِهَا، وَإِمَّا لِاسْتِحْوَاذِ قُرَنَائِهِ وَخُلَطَائِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَدَعُونَهُ يَتُوبُ مِنْهَا، وَلَهُ بَيْنَهُمْ حَظْوَةٌ بِهَا وَجَاهٌ، فَلَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ عَلَى إِفْسَادِ جَاهِهِ بِالتَّوْبَةِ، كَمَا قَالَ أَبُو نُوَاسٍ لِ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ وَقَدْ لَامَهُ عَلَى تَهَتُّكِهِ فِي الْمَعَاصِي:
أَتُرَانِي يَا عَتَاهِيُّ ... تَارِكًا تِلْكَ الْمَلَاهِي
أَتُرَانِي مُفْسِدًا بِالنُّ ... سْكِ عِنْدَ الْقَوْمِ جَاهِي
فَمِثْلُ هَذَا إِذَا تَابَ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ، وَسَرِقَةِ أَمْوَالِ الْمَعْصُومِينَ ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَلَمْ يَتُبْ مَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْفَاحِشَةِ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ مِمَّا تَابَ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَبَقِيَ مُؤَاخَذًا بِمَا هُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ( 1).
_________________
( 1) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين : (ج1_ص489).
أم علي طويلبة علم
2013-03-21, 12:19 AM
فَالتَّوْبَةُ هِيَ بِدَايَةُ الْعَبْدِ وَنِهَايَتُهُ، وَحَاجَتُهُ إِلَيْهَا فِي النِّهَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ، كَمَا أَنَّ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا فِي الْبِدَايَةِ كَذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَتُوب ُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور: 31].
وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ، خَاطَبَ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ الْإِيمَانِ وَخِيَارَ خَلْقِهِ أَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ، بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، وَهِجْرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَّقَ الْفَلَاحَ بِالتَّوْبَةِ تَعْلِيقَ الْمُسَبَّبِ بِسَبَبِهِ، وَأَتَى بِأَدَاةِ لَعَلَّ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّرَجِّي،إ ِيذَانًا بِأَنَّكُمْ إِذَا تُبْتُمْ كُنْتُمْ عَلَى رَجَاءِ الْفَلَاحِ، فَلَا يَرْجُو الْفَلَاحَ إِلَّا التَّائِبُونَ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ. قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]. قَسَّمَ الْعِبَادَ إِلَى تَائِبٍ وَظَالِمٍ، وَمَا ثَمَّ قَسْمٌ ثَالِثٌ الْبَتَّةَ، وَأَوْقَعَ اسْمَ الظَّالِمِ عَلَى مَنْ لَمْ يَتُبْ، وَلَا أَظْلَمَ مِنْهُ، لِجَهْلِهِ بِرَبِّهِ وَبِحَقِّهِ، وَبِعَيْبِ نَفْسِهِ وَآفَاتِ أَعْمَالِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»(1 ).
بارك الله فيكم ،، رحم الله العلامة أبي عبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية [ 691 / 1293م - 751 هـ / 1350م]
أم علي طويلبة علم
2013-03-21, 12:33 AM
وأما وَطَلَبُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ:أَ ْ يَكُونَ مُرَادُهُ إِقَامَةَ أَعْذَارِهِمْ فِي إِسَاءَتِهِمْ إِلَيْكَ، وَجِنَايَتِهِمْ عَلَيْكَ، وَالنَّظَرَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْأَقْدَارِ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُمْ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، فَتَعْذِرَهُمْ بِالْقَدَرِ فِي حَقِّكَ، لَا فِي حَقِّ رَبِّكَ، فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ مِنْ شَأْنِ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ، وَخَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْكُمَّلِ، يَفْنَى أَحَدُهُمْ عَنْ حَقِّهِ، وَيَسْتَوْفِي حَقَّ رَبِّهِ، يَنْظُرُ فِي التَّفْرِيطِ فِي حَقِّهِ، وَفِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ إِلَى الْقَدَرِ، وَيَنْظُرُ فِي حَقِّ اللَّهِ إِلَى الْأَمْرِ، فَيَطْلُبُ لَهُمُ الْعُذْرَ فِي حَقِّهِ، وَيَمْحُو عَنْهُمُ الْعُذْرَ وَيَطْلُبُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ. فَهَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي - وَإِنْ كَانَ حَقًّا - لَكَانَ لَيْسَ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ التَّوْبَةِ، وَلَا مِنْ أَرْكَانِهَا، وَلَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِهَا، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِمْ أَعْذَارَهُمْ فِي إِسَاءَتِهِمْ إِلَيْهِ لَمَا نَقَصَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ تَوْبَتِهِ( 2)
هل من شرح مفصل لطلب أعذار الخليقة ؟
ابو العبدين البصري
2013-03-21, 10:05 AM
هل من شرح مفصل لطلب أعذار الخليقة ؟
بارك الله فيك وزادك الله حرصا أختي الكريمة:
وجوابا سؤلك.
أولا: هذا كلام الإمام الهروي _ رحمه الله تعالى_ وكلامه يحتمل حقا وباطلاً فأما الحق فهو على ما وجهه ابن القيم وهو أن يعذر الخلق إن أخطئوا في حقه ويوضحه هذا المثال الذي ذكره ابن القيم:" وَهَذِهِ كَانَتْ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالْتَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَإِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ، حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ» .
وَقَالْتَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْضًا: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا، وَلَا دَابَّةً، وَلَا شَيْئًا قَطُّ، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .
وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْهُ؟ وَكَانَ إِذَا عَاتَبَنِي بَعْضُ أَهْلِهِ يَقُولُ: دَعُوهُ، فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ» .
فَانْظُرْ إِلَى نَظَرِهِ إِلَى الْقَدَرِ عِنْدَ حَقِّهِ، وَقِيَامِهِ بِالْأَمْرِ، وَقَطَعَ يَدَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ حَقِّ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ هُنَاكَ: الْقَدَرُ حَكَمَ عَلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ عَزْمُهُ عَلَى تَحْرِيقِ الْمُتَخَلِّفِي نَ عَنِ الصَّلَاةِ مَعَهُ فِي الْجَمَاعَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: لَوْ قُضِيَ لَهُمُ الصَّلَاةُ لَكَانَتْ.
وَكَذَلِكَ رَجْمُهُ الْمَرْأَةَ وَالرَّجُلَ لَمَّا زَنَيَا، وَلَمْ يَحْتَجَّ فِي ذَلِكَ لَهُمَا بِالْقَدَرِ.
وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ فِي الْعُرَنِيِّينَ الَّذِينَ قَتَلُوا رَاعِيَهُ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ: قُدِّرَ عَلَيْهِمْ، بَلْ أَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَتُرِكُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ، حَتَّى مَاتُوا عَطَشًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ بَسْطُهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَفَ بِاللَّهِ وَبِحَقِّهِ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى تَرْكِ أَمْرِهِ، وَيَقْبَلَ الِاحْتِجَاجَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ، وَمَعَ هَذَا فَعَذَرَ أَنَسًا بِالْقَدَرِ فِي حَقِّهِ، وَقَالَ «لَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ» فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وإما المعنى الثاني: وهو أن القدر حجة لهم في الوقوع في الذنب وعدم التوبة منه وهذا باطل بِلا شك لكن الإمام ابن القيم يحمل كلام الهروي على أحسن المحامل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وإذا أردت مزيد بيان حول المسألة فراجعي كلام ابن القيم في _منزلة التوبة_ في المدارج لعلك يتضح لك الأمر أكثر فتنفعينا.
وأنا لم أذكر كل كلام ابن القيم طلبا للأختصار ومرعاة لحال كثير من القراء الذين يصعب عليهم كلامه.
أم علي طويلبة علم
2013-03-21, 04:00 PM
بارك الله فيكم .. راجعت كتاب المدارج ارجو ان يكون ما تم تلخيصه صحيحا ومفيدا فهذا هو :
" وأما طلب أعذار الخليقة فهذا له وجهان : وجه محمود ، ووجه مذموم حرام .
فالمذموم : أن تطلب أعذارهم ، نظرا إلى الحكم القدري ، وجريانه عليهم شاؤوا أم أبوا ، فتعذرهم بالقدر ..... ومعلوم أن طالب عذرهم ومصححه مقيم لحجة قد أبطلها الله من جميع الوجوه فلله الحجة البالغة ....
... فهذا أحد المعنيين في قوله (( إن من حقائق التوبة : طلب أعذار الخليقة )).
وقد ظهر لك بهذا : أن طلب أعذارهم في الجناية عائد على التوبة بالنقص والإبطال .
المعنى الثاني ؛ أن يكون مراده : إقامة أعذارهم في إساءتهم إليك ، وجنايتهم عليك ، والنظر في ذلك إلى الأقدار .
وأن أفعالهم بمنزلة حركات الأشجار ، فتعذرهم بالقدر في حقك ، لا في حق ربك فهذا حق ...
.... فهذا المعنى الثاني - وإن كان حقا - لكان ليس هو من شرائط التوبة . ولا من أركانها . ولا له تعلق بها . فإنه لو لم يقم أعذارهم في إساءتهم إليه لما نقص ذلك شيئا من توبته ...."
ابو العبدين البصري
2013-03-21, 04:54 PM
بارك الله فيكم .
وهذا ما ذكرته في المشاركة الاخيرة .
جزاكم الله خيرا ونفع بكم.
ابو العبدين البصري
2013-03-21, 07:31 PM
[فَصْلٌ في التَّوْبَةُ النَّصُوحُ]
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَاأَي ُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}[التحريم: 8].
وَالنَّصُوحُ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ الْمَعْدُولِ بِهِ عَنْ فَاعِلٍ قَصْدًا لِلْمُبَالَغَةِ ، كَالشَّكُورِ وَالصَّبُورِ، وَأَصْلُ مَادَّةِ (ن ص ح) لِخَلَاصِ الشَّيْءِ مِنَ الْغِشِّ وَالشَّوَائِبِ الْغَرِيبَةِ، وَهُوَ مُلَاقٍ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ لِنَصَحَ إِذَا خَلَصَ.
فَالنُّصْحُ فِي التَّوْبَةِ: وَالْعِبَادَةِ وَالْمَشُورَةِ تَخْلِيصُهَا مِنْ كُلِّ غِشٍّ وَنَقْصٍ وَفَسَادٍ، وَإِيقَاعُهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالنُّصْحُ ضِدُّ الْغِشِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ عَنْهَا، وَمَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:"التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ، كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضِّرْعِ".
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:" هِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ نَادِمًا عَلَى مَا مَضَى، مُجْمِعًا عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فِيهِ".
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:"أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِاللِّسَانِ، وَيَنْدَمَ بِالْقَلْبِ، وَيُمْسِكَ بِالْبَدَنِ".
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ:"تَوْبَةً نَصُوحًا، تَنْصَحُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: يَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
• الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ.
• وَالْإِقْلَاعُ بِالْأَبْدَانِ.
• وَإِضْمَارُ تَرْكِ الْعَوْدِ بِالْجِنَانِ.
• وَمُهَاجَرَةُ سَيْءِ الْإِخْوَانِ.
قُلْتُ: النُّصْحُ فِي التَّوْبَةِ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ: تَعْمِيمُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَاسْتِغْرَاقُه َا بِهَا بِحَيْثُ لَا تَدَعُ ذَنْبًا إِلَّا تَنَاوَلَتْهُ.
وَالثَّانِي: إِجْمَاعُ الْعَزْمِ وَالصِّدْقِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى عِنْدَهُ تَرَدُّدٌ، وَلَا تَلَوُّمٌ وَلَا انْتِظَارٌ، بَلْ يَجْمَعُ عَلَيْهَا كُلَّ إِرَادَتِهِ وَعَزِيمَتِهِ مُبَادِرًا بِهَا.
الثَّالِثُ: تَخْلِيصُهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَالْعِلَلِ الْقَادِحَةِ فِي إِخْلَاصِهَا، وَوُقُوعُهَا لِمَحْضِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا لَدَيْهِ، وَالرَّهْبَةِ مِمَّا عِنْدَهُ،لَا كَمَنْ يَتُوبُ لِحِفْظِ جَاهِهِ وَحُرْمَتِهِ، وَمَنْصِبِهِ وَرِيَاسَتِهِ، وَلِحِفْظِ حَالِهِ، أَوْ لِحِفْظِ قُوَّتِهِ وَمَالِهِ،أَوِ اسْتِدْعَاءِ حَمْدِ النَّاسِ، أَوِ الْهَرَبِ مِنْ ذَمِّهِمْ، أَوْ لِئَلَّا يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ السُّفَهَاءُ، أَوْ لِقَضَاءِ نَهْمَتِهِ مِنَ الدُّنْيَا، أَوْ لِإِفْلَاسِهِ وَعَجْزِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي تَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا وَخُلُوصِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَالْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِمَا يَتُوبُ مِنْهُ.( وهو الذنب ).
وَالثَّالِثُ يَتَعَلَّقُ بِمَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ.( وهو الله جل جلاله ).
وَالْأَوْسَطُ يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ التَّائِبِ وَنَفْسِهِ، فَنُصْحُ التَّوْبَةِ الصِّدْقُ فِيهَا، وَالْإِخْلَاصُ، وَتَعْمِيمُ الذُّنُوبِ بِهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ تَسْتَلْزِمُ الِاسْتِغْفَارَ وَتَتَضَمَّنُهُ ، وَتَمْحُو جَمِيعَ الذُّنُوبِ، وَهِيَ أَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّوْبَةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ( 1).
__________
( 1) ينظر المدارج : ( ج1_ص545) بتصرف.
ابو العبدين البصري
2013-03-23, 07:12 PM
اعلم : أن الذنوب حجاب عن المحبوب، والانصراف عما يبعد عن المحبوب واجب.
وإنما يتم ذلك بالعلم والندم والعزم، فإنه متى لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب، لم يندم على الذنوب، ولم يتوجع بسبب سلوكه طريق البعد، وإذا لم يتوجع لم يرجع .
وقد أمر الله تعالى بالتوبة فقال:{ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَميعاً أَيُّها المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفْلِحُونِ } [ النور:31 ] وقال سبحانه:{ يَا أَيُّها الذينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلى الله تَوْبَةً نَصُوحاً } الآية [ التحريم:8 ]. وقال:{ إِنَّ الله يُحِبُّ التَوَّابينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ } [ البقرة:222 ].
وقال النبى صلى الله عليه وسلم:" يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله فى اليوم مائة مرَّة".
وفى " الصحيحين " من حديث ابن مسعود رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:" لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل فى أرض دَوِّيةٍ " مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال:أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته، عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته".
والأحاديث فى هذا كثيرة، والإجماع منعقد على وجوب التوبة، لأن الذنوب مهلكات مبعدات عن الله تعالى، فيجب الهرب منها على الفور.
والتوبة واجبة على الدوام، فإن الإنسان لا يخلو عن معصية، لو خلا عن معصية بالجوارح لم يخل عن الهم بالذنب بقلبه، وإن خلا عن ذلك، لم يخل عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله تعالى، لو خلا عنه لم يخل عن غفلة وقصور فى العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص، ولا يسلم أحد من هذا النقص، وإنما الخلق يتفاوتون فى المقادير، وأما أصل ذلك، فلا بد منه.
ولهذا قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم:" إنه ليغان على قلبي، فأستغفر الله فى اليوم والليلة سبعين مرة". ولذلك أكرمه الله تعالى بقوله:{ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر }[ الفتح:2]. فأما غيره فكيف يكون حاله؟
ومتى اجتمعت شروط التوبة كانت صحيحة مقبولة، قال الله تعالى:{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } [ الشورى : 25 ] وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : " إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر ". والأحاديث فى ذلك كثيرة( 1).
________________
( 1) مختصر منهاج القاصدين : (ص293).
ابو العبدين البصري
2013-04-19, 10:18 AM
فصل: ( في بيان أقسام الذنوب )
أعلم:أن للإنسان أخلاقاً وأوصافاً كثيرة، لكن تنحصر مثارات الذنوب فى أربع صفات:
أحدها:صفات ربوبية، ومنها يحدث الكبر والفخر، وحب المدح والثناء، والعز وطلب الاستعلاء ونحو ذلك،وهذه ذنوب مهلكات، وبعض الناس يغفل عنها، فلا يعدها ذنوباً.
الثانية:صفات شيطانية، ومنها يتشعب الحسد، والبغي والحيل والخداع والمكر والغش والنفاق والأمر بالفساد ونحو ذلك.
الثالثة:الصفات البهيمية،ومنها يتشعب الشر والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، فيتشعب من ذلك الزنى واللواطة والسرقة، وأخذ الحطام لأجل الشهوات.
الرابعة:الصفات السبعية، ومنها يتشعب الغضب والحقد، والتهجم على الناس بالقتل والضرب، وأخذ الأموال، وهذه الصفات لها تدرج فى الفطرة.
فالصفة البهيمية هي التي تغلب أولاً ثم تتلوها الصفة السبعية ثانياً فإذا اجتمعت هاتان،استعملتا العقل فى الصفات الشيطانية، من المكر والخداع والحيل، ثم تغلب الصفات الربوبية.
فهذه أمهات الذنوب ومنابعها ثم تتفجر الذنوب من هذه المنابع إلى الجوارح، فبعضها فى القلب كالفكر، والبدعة والنفاق وإضمار السوء وبعضها في العين وبعضها في السمع،وبعضها فى اللسان وبعضها في البطن والفرج وبعضها في اليدين والرجلين، وبعضها على جميع البدن، ولا حاجة إلى تفاصيل ذلك فإنه واضح.
ثم الذنوب تنقسم إلى ما يتعلق بحقوق الآدميين، وإلى ما بين العبد وبين ربه.
فما يتعلق بحقوق العباد، فالأمر فيه أغلظ، والذي بين العبد وبين ربه، فالعفو فيه أرجى وأقرب، إلا أن يكون شركاً والعياذ بالله ، فذلك الذي لا يغفر. وقد روى عن عائشة رضى الله عنها قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:" الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة:ديوان لا يعبأ الله به، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله. فأما الديوان الذي لا يغفره الله تعالى، فالشرك. قال الله تعالى:{ إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة }. وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً ، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله عز وجل، يغفر ذلك، ويتجاوز إن شاء. وأما الديوان الذي لا يترك منه شيئاً، فظلم العباد بعضهم بعض، فالقصاص لا محالة"( 1).
______________
(1 ) أخرجه أحمد: (26031), قال محقق المسند إسناده ضيف.
ابو العبدين البصري
2013-04-20, 08:03 PM
قسمة أخرى:
اعلم:أن الذنوب تنقسم إلى: صغائر وكبائر، وقد كثر الاختلاف فيها واختلفت الأحاديث فى عدد الكبائر. والأحاديث الصحاح فى ذكرها خمسة .
الأول:حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا يا رسول الله: وما هن ؟ قال:الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات"
الثاني:حديث ابن مسعود رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم سئل أي الذنب أكبر ؟ قال:"أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال:ثم أي ؟ قال:أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك ".
الثالث:حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم: قال:" الكبائر:الإشراك بالله وعقوق الوالدين".
الرابع:" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: قول الزور - أو قال - شهادة الزور".
الخامس:حديث أبى بكرة أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت عنده الكبائر قال:" الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال:ألا وقول الزور، وشهادة الزور". فما زال يكررها حتى قلنا:ليته سكت.
وقت اختلفت العلماء فيها على أقوال كثيرة، والأحاديث فى الكبائر لا تدل على حصرها فيها ولعل الشارع قصد الإبهام ليكون الناس على وجل من الذنوب،لكن يعرف من الأحاديث أجناس الكبائر، ويعرف أيضاً الكبائر.
فأما أصغر الصغائر، فلا سبيل إلى معرفته، وقد تكلم العلماء فى عدد الكبائر، فروى عن ابن مسعود رضى الله عن:وهي أربع: وروى عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه قال:هي سبع. وكان ابن عباس رضى الله عنهما إذا بلغه قول عمر: إنها سبع قال:هي إلى سبعين أقرب منها إلى سبع. وقال أبو صالح عن ابن عباس:هي ما أوجب الحد فى الدنيا. وعن ابن مسعود أن الكبائر من فاتحة النساء إلى قولة:{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه }[ النساء:31].
وقال سعيد بن جبير وغيره:هي كل ذنب أوعد الله عليه النار .
وقال أبو طالب المكي الكبائر سبع عشرة جمعتها من جملة الأخبار. أربعة فى القلب:
1_ الشرك. / 2_ والإصرار على المعصية./ 3_ والقنوط من رحمة الله. / 4_ والأمن من مكر الله تعالى.
وأربعة في اللسان :
1_ شهادة الزور. / 2_ وقذف المحصنات./ 3_ واليمين الغموس. / 4_ والسحر.
وثلاثة فى البطن: 1_ شرب الخمر. 2 /_ وأكل مال اليتيم ظلماً. / 3_ وأكل الربا.
واثنتان فى الفرج: الزنا_ واللواطة.
وواحدة فى الرجلين: الفرار من الزحف.
واحدة فى جميع البدن،وهى عقوق الوالدين . وهذا يمكن أن يزاد عليه وينقص منه، فإن ضرب اليتيم وتعذيبه أكبر من أكل ماله، والله أعلم( 1).
__________
( 1)ينظر مختصر منهاج القاصدين : (ص291) ط.دار الفيحاء.
أم علي طويلبة علم
2013-04-20, 11:03 PM
قال ابن القيم في الجواب الكافي ص 111 فصل المعاصي في سجن الشيطان :
"وإذا قيد القلب طرقته الآفات من كل جانب بحسب قيوده ، ومثل القلب مثل الطائر ، كلما علا بعد عن الآفات ، وكلما نزل استوحشته الآفات . "
وقال أيضا :
والبعد من الله مراتب ، بعضها أشد من بعض ، فالغفلة تبعد القلب عن الله ، وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة ، وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية ، وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله .
ابو العبدين البصري
2013-04-21, 11:20 AM
قال ابن القيم في الجواب الكافي:( ص 111). فصل المعاصي في سجن الشيطان :
"وإذا قيد القلب طرقته الآفات من كل جانب بحسب قيوده ، ومثل القلب مثل الطائر ، كلما علا بعد عن الآفات ، وكلما نزل استوحشته الآفات . "
وقال أيضا :
والبعد من الله مراتب ، بعضها أشد من بعض ، فالغفلة تبعد القلب عن الله ، وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة ، وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية ، وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله .
بارك الله فيك أختي الفاضلة.
فصل:( في بيان ما تعظم به الصغائر من الذنوب )
اعلم:أن الصغيرة تكبر بأسباب:منها الإصرار والمواظبة. وفى الحديث من رواية ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:" لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار"(1 ).
واعلم:أن العفو عن كبيرة قد انقضت ولم يتبعها مثلها، أرجى من العفو عن صغيرة يواظب عليها العبد. ومثال ذلك قطرات من الماء تقع على حجر متواليات، فإنها تؤثر فيه، ولو جمعت تلك القطرات فى مرة وصبت عليه لم تؤثر، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:" أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"(2).
ومن الأسباب التي تعظم الصغائر أن يستصغر الذنب، فإن الذنب كلما استعظمه العبد، صغر عند الله تعالى، وكلما استصغره العبد، كبر عند الله تعالى، فإن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهيته له. قال ابن مسعود رضى الله عنه:"إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه فى أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا"( 3). أخرجاه فى الصحيحين. وإنما يعظم الذنب فى قلب المؤمن لعلمه بجلال الله تعالى، فإذا نظر إلى عظمة من عصى رأى الصغيرة كبيرة.
وفى البخاري من حديث أنس رضى الله عنه:" إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الموبقات"( 4).
وقال بلال بن سعد رحمه الله:لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.
_:ومن الأسباب أن يفرح بالصغيرة ويتمدح بها، كما يقول:أما رأيتني كيف مزَّقت عرض فلان، وذكرت مساويه حتى خجلته.أو يقول التاجر:أما رأيت كيف روجت عليه الزائف، وكيف خدعته وغبنته، فهذا وأمثاله تكبر به الصغيرة.
_:ومنها أن يتهاون بستر الله تعالى وحلمه عنه وإمهاله إياه ولا يدرى أن ذلك قد يكون مقتاً ليزداد بالإهمال إثماً.
_:ومنها أن يأتى الذنب ثم يذكره بمحضر من غيره، وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله عنه،أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال:"كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول:يا فلان: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله عليه، ويصبح يكشف ستر الله عنه"( 5).
_:ومنها أن يكون المذنب عالماً يُقتدي به، فإذا علم منه الذنب، كبر ذنبه، كلبسه الحرير، ودخوله على الظلمة مع ترك الإنكار عليهم، وإطلاق اللسان فى الأعراض، واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه، كعلم الجدل، فهذه ذنوب يتبع العالم عليها، فيموت ويبقى شره مستطيراً فى العالم، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه. وفى الحديث:"ومن سن فى الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ "( 6).
فعلى العالم وظيفتان:
إحداهما: ترك الذنب. والثانية:إخفاؤه إذا أتاه. وكما تتضاعف أوزار العلماء إذا أُتبعوا على الذنوب، كذلك تتضاعف حسناتهم إذا أُتبعوا على الخير. وينبغى للعالم أن يتوسط فى ملبسه ونفقته، وليكن إلى التقلل أميل، فإن الناس ينظرون إليه.
وينبغى له الاحتراز مما يقتدي به فيه، فإنه متى ترخص فى الدخول على السلاطين وجمع الحطام، فاقتدى به غيره، كان الإثم عليه، وربما سلم هو فى دخوله، ولم يفهموا كيفية سلامته.
وقد روينا أن ملكاً كان يُكْرِهُ الناس على أكل لحم الخنزير، فجيء برجل عالم، فقال له حاجب الملك:قد ذبحت له جدياً فكل منه، فلما دخل قرب إليه فلم يأكل، فأمر بقتله، فقال له الحاجب:ألم أقل لك إنه جدى، فقال:ومن أين يعلم حالي من يقتدي بى(7 ).
__________
( 1) رواه الديلمي في الفردوس: (7944) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع: (6308).
(2 ) أخرجه أحمد: (25317),والبخاري: (6464),ومسلم: (783).
( 3) أخرجه أحمد: (3627),والبخاري: (6308),ومسلم: (2744),والترمذي: (2497).
( 4) أخرجه أحمد: (12604),والبخاري: (6492).
(5 ) البخاري: (6096),ومسلم: (2990).
(6 ) أخرجه أحمد: (19174),ومسلم: (1017) وغيرهم.
( 7) انظر مختصر منهاج القاصدين: (ص300_ص303).
أم علي طويلبة علم
2013-04-21, 11:08 PM
قال ابن القيم في الجواب الكافي ص 87 :
فصل
الذنوب تطبع على القلوب
ومنها : أن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها ،فكان من الغافلين .
كما قال بعض السلف في قوله تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } قال : هو الذنب بعد الذنب .
وقال الحسن : هو الذنب على الذنب ، حتى يعمي القلب .
وقال غيره : لما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم .
وأصل هذا أن القلبي صدأ من المعصية ،فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير رانا ، ثم يغلب حتى يصير طبعا وقفلا وختما ، فيصير القلب في غشاوة وغلاف ، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انعكس فصار أعلاه أسفله ، فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد .
ابو العبدين البصري
2013-04-22, 01:51 PM
بارك الله فيكِ.
فصل: ( في شروط التوبة )
واعلم:أن التوبة عبارة عن ندم يورث عزماً وقصداً، وذلك الندم يورث العلم بأن تكون المعاصي حائلا بين الإنسان وبين محبوبه. والندم هو توجع القلب عنده شعوره بفراق المحبوب،وعلامته طول الحزن والبكاء، فإن من استشعر عقوبة نازلة بولده أو من يعزُّ عليه، طال بكاؤه، واشتدت مصيبته، وأي عزيز أعز عليه من نفسه ؟ وأي عقوبة أشد من النار ؟ وأي سبب أدل على نزول العقوبة من المعاصي ؟ وأي خبر أصدق من رسول الله ؟ ولو أخبره طبيب أن ولده لا يبرأ من مرضه لاشتد في الحال حزنه، وليس ولده بأعز من نفسه، ولا الطبيب أعلم من الله ورسوله، ولا الموت بأشد من النار، ولا المرضى أدل على الموت من المعاصي على سخط الله، والتعرض بها للنار.
وينبغي للتائب أن يتفقد ما عليه من صلاة فائتة،أو بغير شرطها ؟ مثل أن يكون صلاها في ثوب نجس،أو بنية غير صحيحة،لجهله بذلك،فيقضيها كلها. وكذلك إن كان عليه صوم، أو زكاة، أو حج، أو غير ذلك من الموجبات، يقضيها كلها، ويفتش على ذلك ويتداركه.
وأما المعاصي، فينبغي أن يفتش من أول بلوغه عن معصية صدرت منه، وينظر فيها، فما كان من ذلك فيما بينه وبين الله تعالى، فالتوبة منه الندم والاستغفار.
ثم ينظر إلى مقادير ذنوبه، فيطلب لكل معصية منه حسنة تناسبها، فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات. قال الله تعالى:{إن الحسنات يذهبن السيئات}[هود:144]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:" أتبع السيئة الحسنة تمحها"( 1). مثال ما ذكرنا:أن يكفِّر سماع الملاهي بسماع القرآن ومجالس الذكر، ويكفر مسح المصحف بغير طهارة بإكرامه وكثرة القراءة فيه، وإن أمكنه أن يكتب مصحفاً ويقفه فليفعل، ويكفِّر شرب الخمر بالتصدق بالشراب الحلال وعلى هذا فاسلك سبيل المضادة، فإن الأمراض إنما تعالج بضدها، فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى.
وأما مظالم العباد، ففيها أيضاً معصية الله تعالى، لأنه نهى عن ظلم العباد، فالظالم لهم قد ارتكب نهيه تعالى، فيتدارك ذلك بالندم والعزم على ترك مثل ذلك فى المستقبل،والإتي ان بالحسنات المضادة لتلك المظالم كما تقدم فى القسم الأول. فيقابل إيذاء الناس بالإحسان إليهم، ويكفر غصب الأموال بالتصدق بماله الحلال، ويكفر تناول أعراضهم بالثناء على أهل الدين، ويكفر قتل النفوس بالعتق. هذا فيما يتعلق بحق الله تعالى، فإذا فعل ذلك، لم يكفه حتى يخرج من مظالم العباد. ومظالمهم إما في النفوس، أو الأموال، أو الأعراض، أو إيذاء القلوب.
أما الأول:فإنه إذا قتل خطأ أو أوصل الدية إلى مستحقيها، إما منه أو من عاقلته، وإن قتل عمداً وجب عليه القصاص بشروطه، فعليه أن يبذل نفسه لولى الدم، إن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه، ولا يجوز له إخفاء أمره، بخلاف ما لو زنا، أو سرق، أو شرب الخمر، أو باشر ما يجب فيه حد لله تعالى، فإنه لا يلزمه فى التوبة أن يفضح نفسه، بل عليه أن يستر نفسه، فإن رفع أمره إلى الولي حتى أقام عليه الحد،وقد ذلك موقعه وكانت توبته صحيحة مقبولة عند الله تعالى، بدليل قصة ماعز والغامدية. وكذلك حد القذف، لابد فيه من تحكيم المستحق فيه.
الثاني:المظالم المتعلقة بالأموال،نحو الغضب والخيانة،والتلب يس فى المعاملات،فيجب عليه رد ذلك إلى أصحابه والخروج منه. وليكتب إلى أصحاب المظالم،وليؤدِّ إليهم حقوقهم، ويستحلهم، فإن كثر ظلمه بحيث لا يقدر على أدائه،فليفعل ما يقدر عليه من ذلك، ولم يبق له طريق إلا الاستكثار من الحسنات، لتؤخذ منه في القصاص يوم القيامة فتوضع في موازين أرباب المظالم، فإنها إن تفي بذلك أخذ من سيئاتهم، فتوضع فوق سيئاته. هذا حكم المظالم الثابتة في الذمة والأموال الحاضرة، فإن كان عنده أموال من شيء من ذلك لم يعرف مالكه ولا ورثته تصدق به عنه، وإن اختلط الحلال بالحرام، عرف قدر الحرام بالاجتهاد، وتصدق بمقداره.
الثالث:الجناية على الأعراض،وإيذاء القلوب،فعليه أن يطلب كل واحد منهم، وليستحله وليعرفه قدر الجناية، فإن الاستحلال المبهم لا يكفى، وربما لو عرف ذلك لم تطب نفسه بالإحلال، إلا أن تكون تلك الجناية إذا ذكرت كثر الأذى، كسبته إلى عيب من خفايا عيوبه، أو كزنى بجارته، فليجتهد فى اللطف به والإحسان إليه، ثم ليستحله مبهماً، ولابد أن يبقى في مثل ذلك مظلمة تجبر بالحسنات يوم القيامة، وكذلك من مات من هؤلاء فإنه يفوت أمره، ولا يتدارك إلا بكثير الحسنات، لتؤخذ منه عوضاً يوم القيامة، ولا خلاص إلا برجحان الحسنات( 2).
___________
( 1) أخرجه أحمد: (21354),والترمذي: (1987).
(2 ) مختصر منهاج القاصدين: (ص303_305).
ابو العبدين البصري
2013-04-23, 10:25 PM
بيان ( أقسام العباد في دوام التوبة )
الناس فى التوبة أربع طبقات:
الطبقة الأولى:تائب يستقيم على التوبة إلى آخر عمره، ويتدارك ما فرّط من أمره، ولا يحدِّث نفسه بالعودة إلى ذنوبه، إلا الزلات التي لا ينفك عنها البشر فى العادات، فهذه هي الاستقامة في التوبة، وصاحبها هو السابق بالخيرات. وتسمى هذه التوبة:النصوح، وتسمى هذه النفس:المطمئنة وهؤلاء يختلفون منهم من سكنت شهوته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها، ومنهم من تنازعه نفسه وهو ملئ بمجاهدتها.
الطبقة الثانية:تائب قد سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات وكبائر الفواحش، إلا أنه لا ينفك عن ذنوب تعتريه،لا عن عمد،ولكنه يبتلى بها فى مجارى أحواله من غير أن يقدم عزماً على الإقدام عليها، وكلما أتى شيئاً منها لام نفسه،وندم وعزم على الاحتراز من أسبابها، فهذه هي النفس اللوامة لأنها تلوم صاحبها على ما يستهدف له من الأحوال الذميمة، فهذه رتبة عالية أيضاً، وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى، وهى أغلب أحوال التائبين،لأن الشر معجون بطينة الآدمي، فقلما ينفك عنه، وإنما غاية سعيه أن يغلب خيره شره، حتى يثقل ميزانه، فترجح حسناته، فأما إن تخلو كفة السيئات، فبعيد. وهؤلاء لهم حسن الوعد من الله سبحانه وتعالى إذ قال:{ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة } [ النجم:32 ] والى هذه الرتبة الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:" إن الله يحب المؤمن المُفتّن التواب"(1 ).
الطبقة الثالثة:أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة، ثم تغلبه شهوته فى بعض الذنوب، فيقدم عليها لعجزه عن قهر الشهوة، إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات، وترك جملة من الذنوب مع القدرة عليها والشهوة لها، وإنما قهرته شهوة واحدة أو شهوتان، وهو يود لو أقدره الله على قمعها، وكفاه شرها، فإذا انتهت ندم، لكنه يعد نفسه بالتوبة عن ذلك الذنب، فهذه هي النفس المسوَّلة،وصاحب ها من الذين قال الله تعالى فيهم:{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً}. فأمر هذا من حيث مواظبته على الطاعات وكراهيته لما يتعاطاه مرجو لقوله تعالى:{ عسى الله أن يتوب عليهم }[ التوبة : 103 ]. وعاقبته خطرة من حيث تأخيره وتسويفه، فربما يختطف قبل التوبة، فإن الأعمال بالخواتيم، فعلى هذا يكون الخوف من الخاتمة، وكل نفس يمكن أن يتصل به الموت، فتكون الخاتمة، فليراقب الأنفاس، وليحذر وقوع المحذور.
الطبقة الرابعة: أن يتوب ويجرى مدة على الاستقامة، ثم يعود إلى الذنوب منهمكاً من غير أن يحدث نفسه بالتوبة، ومن غير أن يتأسف على فعله، فهذا من المصرين، وهذه النفس هي الأمارة بالسوء، ويخاف على هذا سوء الخاتمة. فإن مات هذا على التوحيد، فإنه يرجى له الخلاص من النار، ولو بعد حين، ولا يستحيل أن يشمله عموم العفو بسبب خفي لا يطلع عليه، إلا أن التعويل على هذا لا يصلح، فإن من قال:إن الله تعالى كريم، وخزائنه واسعة، ومعصيتي لا تضره، ثم تراه يركب البحار فى طلب الدينار، فلو قيل له: فإذا كان الحق كريماً فاجلس فى بيتك لعله يرزقك، استجهل قائل هذا وقال:إنما الأرزاق بالكسب فيقال له:هكذا النجاة بالتقوى(2 ).
___________
( 1) أخرجه أحمد: (605), قال محققوا المسند :إسناده ضعيف جداً شبه موضوع.
( 2) مختصر منهاج القاصدين: (ص306).
ابو العبدين البصري
2013-04-25, 01:26 PM
فصل [ فيما ينبغي للتائب فعله ]
وقد ذكرنا أن التائب ينبغي له أن يأتى بحسنات تضاد ما عمل من السيئات لتمحوها وتكفرها، والحسنات المكفرة تكون بالقلب واللسان والجوارح على حسب السيئات، فما كان بالقلب، فنحو التضرع والتذلل، وأما اللسان، الاعتراف بالظلم والاستغفار، مثل أن يقول:رب ظلمت نفسي فاغفر لي. روي في الحديث،أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" ما من رجل يذنب ذنباً، فيتوضأ ويحسن الوضوء، ثم يصلى ركعتين، ويستغفر الله عز وجل، إلا غفر له "( 1). وأما الجوارح فبالطاعات، والصدقات، وأنواع العبادات.
__________
( 1) أخرجه أحمد: (2),وأبو داود : (1521),والترمذي: (3006),وابن ماجه: (1395) وصححه الألباني.
أم علي طويلبة علم
2013-04-26, 02:21 PM
.
فصل: ( في شروط التوبة )
واعلم:أن التوبة عبارة عن ندم يورث عزماً وقصداً، وذلك الندم يورث العلم بأن تكون المعاصي حائلا بين الإنسان وبين محبوبه. والندم هو توجع القلب عنده شعوره بفراق المحبوب،وعلامته طول الحزن والبكاء، فإن من استشعر عقوبة نازلة بولده أو من يعزُّ عليه، طال بكاؤه، واشتدت مصيبته، وأي عزيز أعز عليه من نفسه ؟ وأي عقوبة أشد من النار ؟ وأي سبب أدل على نزول العقوبة من المعاصي ؟ وأي خبر أصدق من رسول الله ؟ ولو أخبره طبيب أن ولده لا يبرأ من مرضه لاشتد في الحال حزنه، وليس ولده بأعز من نفسه، ولا الطبيب أعلم من الله ورسوله، ولا الموت بأشد من النار، ولا المرضى أدل على الموت من المعاصي على سخط الله، والتعرض بها للنار.
وينبغي للتائب أن يتفقد ما عليه من صلاة فائتة،أو بغير شرطها ؟ مثل أن يكون صلاها في ثوب نجس،أو بنية غير صحيحة،لجهله بذلك،فيقضيها كلها. وكذلك إن كان عليه صوم، أو زكاة، أو حج، أو غير ذلك من الموجبات، يقضيها كلها، ويفتش على ذلك ويتداركه.
وأما المعاصي، فينبغي أن يفتش من أول بلوغه عن معصية صدرت منه، وينظر فيها، فما كان من ذلك فيما بينه وبين الله تعالى، فالتوبة منه الندم والاستغفار.
.
للرفع
أم علي طويلبة علم
2013-04-26, 02:26 PM
الطبقة الثالثة:أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة، ثم تغلبه شهوته فى بعض الذنوب، فيقدم عليها لعجزه عن قهر الشهوة، إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات، وترك جملة من الذنوب مع القدرة عليها والشهوة لها، وإنما قهرته شهوة واحدة أو شهوتان، وهو يود لو أقدره الله على قمعها، وكفاه شرها، فإذا انتهت ندم، لكنه يعد نفسه بالتوبة عن ذلك الذنب، فهذه هي النفس المسوَّلة،وصاحب ها من الذين قال الله تعالى فيهم:{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً}. فأمر هذا من حيث مواظبته على الطاعات وكراهيته لما يتعاطاه مرجو لقوله تعالى:{ عسى الله أن يتوب عليهم }[ التوبة : 103 ]. وعاقبته خطرة من حيث تأخيره وتسويفه، فربما يختطف قبل التوبة، فإن الأعمال بالخواتيم، فعلى هذا يكون الخوف من الخاتمة، وكل نفس يمكن أن يتصل به الموت، فتكون الخاتمة، فليراقب الأنفاس، وليحذر وقوع المحذور.
جزاكم الله خيرا
ابو العبدين البصري
2013-04-26, 10:24 PM
فصل ( في دواء التوبة وطريق علاج حل عقد الإصرار )
اعلم:أنه لا يقف على الدواء من لا يقف على الداء، إذ لا معنى بالدواء إلا مناقضة أسباب الداء، ولا يبطل الشيء إلا بضده، وسبب الإصرار الغفلة والشهوة، ولا تضاد الغفلة إلا بالعلم، ولا تضاد الشهوة إلا بالصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة. الغفلة رأس الخطايا، فلا دواء إذاً للتوبة إلا بمعجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر،كما يجمع فى السكنجبين حلاوة السكر وحموضة الخل، فيحصل بمجموعهما قمع الصفراء. والأطباء لهذا المرض هم العلماء، لأنه مرض القلوب ومرض القلوب أكثر من مرض الأبدان، وإنما صار مرضها أكثر لأمور:
أحدها:أن المريض لا يدرى أنه مريض.
الثاني:أن عاقبته غير مشاهدة فى هذا العالم، بخلاف مرض الأبدان، فإن عاقبته مشاهد ينفر الطبع عنه، وما بعد الموت غير مشاهد، فقلّت النفرة عن الذنوب وإن علمها مرتكبها فلذلك تراه يتكل على فضل الله في مرض القلب، ويجتهد في علاج البدن من غير اتكال.
الأمر الثالث:وهو الداء العضال فقد الطبيب، فإن الأطباء هم العلماء، وقد مرضوا في هذه الأعصار، لأن الداء المهلك هو حب الدنيا، وقد غلب هذا الداء على الأطباء، فلم يقدروا على تحذير الخلق استنكافاً من أن يقال لهم: فما لكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم ؟ فبهذا السبب عم الداء وانقطع الدواء(1 ).
___________
(1 ) مختصر منهاج القاصدين: (305_308).
ابو العبدين البصري
2013-04-26, 10:27 PM
للرفع
رفع الله قدركم.
ابو العبدين البصري
2013-04-29, 10:25 PM
والخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط.
قال أبو عثمان: "صدق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهرا وباطنا".
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية _قدس الله روحه_ يقول: "الخوف المحمود: ما حجزك عن محارم الله".
______
المدارج: (ج2_ص141).
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.