ابو العبدين البصري
2013-02-14, 12:27 AM
سلسلة درك البصيرة للنجاة من الفتن الخطيرة (14)
عُرِيُّ الكَلِمَاتِ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد:
فإن التعري مذموم، وهو في الأبدان فسق ومجون . وفي الكلام أنواع:
فمنه: ( جهل ) إذا تجرد عن العلم .
¯ ومنه: ( سفه ) إذا تجرد عن الحكمة .
¯ ومنه: ( جور وظلم ) إذا تجرد عن العدل .
¯ ومنه: ( غلظة وقسوة ) إذا تجرد عن الرفق واللين .
¯ ومنه: ( تضييق وتشديد ) إذا تجرد عن الرحمة .
¯ ومنه: ( كذب وافتراء ) إذا تجرد عن الصدق .
¯ ومنه: ( بذاءة ) إذا تجرد عن الحياء .
وإن الداعية الحكيم هو من يراعي (عف العبارة)، (وحصانة الخطاب)، (ورصانة الأسلوب)، (ونزاهة الكلام) فالحياء شعبة من شعب الإيمان .
طابقت لفظي بالمعنى فطابقه ** خلواً من الحشو مملوءاً من العبر
إني لأنتزع المعنى الصحيح على ** عري فأكسوه لفظاً قد من درر
أما من يلقي الكلام على عواهنه دون مراعاة آداب الخطاب، والمخاطب، ودون احترام عقله وعقول المخاطبين فعنده نقص في المروءة . بل والرجولة مشين .
وتأمل حال أبي سفيان – رضي الله عنه – قبل إسلامه كيف أن كلامه لما ألبسه أردية الصدق – لحيائه - صار مضرباً للمثل في قبح الكذب، فقال – وهو عند هرقل : فَوَاللَّهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ " (رواه البخاري – واللفظ له - ومسلم) .
قال بدر الدين العيني – رحمه الله - : " ومعناه لولا الحياء من أن رفقتي يروون عني ويحكون في بلادي عني كذباً فأعاب به؛ لأن الكذب قبيح وإن كان على العدو لكذبت . ويعلم منه قبح الكذب في الجاهلية – أيضاً - . " (عمدة القاري:1/146) .
ومما لا يخفى أن العلوم والمعارف معاني ذهنية تنقل للآخرين بقوالب الألفاظ والكلمات، فإن اشتملت الكلمة على معنى صحيح، ولفظ صريح مقرونة بما يؤول إلى العلم، والحكمة، والرحمة، والرفق، ونحوها فهي من معين الرسالة الإلهية .
قال ابن القيم -رحمه الله-:" كلُّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرَّحمة إلى ضدّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشَّريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل" [إعلام الموقعين: 3/3].
ويؤخذ من قوله – تعالى - : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ }[لقمان:2-3]. أن كل اجتهاد في الشريعة يخلو من (الهدى) لعدم بيانه ووضوحه، ومناسبته، أو يخلو من (الرحمة) لشدته وقسوته وتعنته فهو أعجمي عن الأحكام الرسالية .
وقال عباد بن خواص في رسالته لأهل العلم، بعد أن بيَّن خطر البدعة : "ولا تعيبوا البدع تزينًا بعيبها؛ فإن فساد أهل البدع ليس بزائد في صلاحكم، ولا تعيبوها بغيًا على أهلها؛ فإن البغي من فساد أنفسكم، وليس ينبغي للمطبِّب أن يداوي المرضى بما يبرئهم ويمرضه، فإنه إذا مرض اشتغل بمرضه عن مداواتهم، ولكن ينبغي أن يلتمس لنفسه الصحة ليقوى بها على علاج المرضى، فليكن أمركم فيما تنكرون على إخوانكم نظرًا منكم لأنفسكم، ونصيحة منكم لربكم، وشفقة منكم على إخوانكم، وأن تكونوا مع ذلك بعيوب أنفسكم أعنى منكم بعيوب غيركم" (رواه الإمام الدارمي في "سننه"، رقم: (675)).
وفي الحقيقة إن خروج الكلمة (عارية)، (ممجوجة) ناتج عن خلو قلب قائلها من اللباس الذي يزينها ويجملها من العلم، والحكمة، والعدل، والرفق، والرحمة، ونحو ذلك .
لباسي لباسُ المتقين وإنني ** عريٌّ من التقوى إذا كنتُ كاسيا
وقد أمر الله – سبحانه – أن يكتسي كلام المؤمنين، والمتقين بالأوصاف التي تجمله وتزينه فقال :{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }، وقال:{ وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا }، وقال:{ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }،وقال:{ فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً }، وقال:{ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً }، وقال: {وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً }، وقال:{ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً }، وقال:{ وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً } . إلى غيرها من الآيات .
واعلم أن لصاحب الكلمة الحق سلطاناً على القلوب بلا عرش، وعنده قوة في الأسماع بلا بطش، وذلك لما للكلام الحق من بهاء وجلال العلم والحكمة والرحمة والصدق . ولهذا كان الداعي إلى الله – تعالى – المراعي في دِعوته ما سلف بيانه هو (أحسن الناس قولاً)، كما قال :{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33ِ].
فاللهم أسألك كلمة الحق في الرضا والغضب.
بقلم الشيخ:
ابي زيد العتيبي.
عُرِيُّ الكَلِمَاتِ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد:
فإن التعري مذموم، وهو في الأبدان فسق ومجون . وفي الكلام أنواع:
فمنه: ( جهل ) إذا تجرد عن العلم .
¯ ومنه: ( سفه ) إذا تجرد عن الحكمة .
¯ ومنه: ( جور وظلم ) إذا تجرد عن العدل .
¯ ومنه: ( غلظة وقسوة ) إذا تجرد عن الرفق واللين .
¯ ومنه: ( تضييق وتشديد ) إذا تجرد عن الرحمة .
¯ ومنه: ( كذب وافتراء ) إذا تجرد عن الصدق .
¯ ومنه: ( بذاءة ) إذا تجرد عن الحياء .
وإن الداعية الحكيم هو من يراعي (عف العبارة)، (وحصانة الخطاب)، (ورصانة الأسلوب)، (ونزاهة الكلام) فالحياء شعبة من شعب الإيمان .
طابقت لفظي بالمعنى فطابقه ** خلواً من الحشو مملوءاً من العبر
إني لأنتزع المعنى الصحيح على ** عري فأكسوه لفظاً قد من درر
أما من يلقي الكلام على عواهنه دون مراعاة آداب الخطاب، والمخاطب، ودون احترام عقله وعقول المخاطبين فعنده نقص في المروءة . بل والرجولة مشين .
وتأمل حال أبي سفيان – رضي الله عنه – قبل إسلامه كيف أن كلامه لما ألبسه أردية الصدق – لحيائه - صار مضرباً للمثل في قبح الكذب، فقال – وهو عند هرقل : فَوَاللَّهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ " (رواه البخاري – واللفظ له - ومسلم) .
قال بدر الدين العيني – رحمه الله - : " ومعناه لولا الحياء من أن رفقتي يروون عني ويحكون في بلادي عني كذباً فأعاب به؛ لأن الكذب قبيح وإن كان على العدو لكذبت . ويعلم منه قبح الكذب في الجاهلية – أيضاً - . " (عمدة القاري:1/146) .
ومما لا يخفى أن العلوم والمعارف معاني ذهنية تنقل للآخرين بقوالب الألفاظ والكلمات، فإن اشتملت الكلمة على معنى صحيح، ولفظ صريح مقرونة بما يؤول إلى العلم، والحكمة، والرحمة، والرفق، ونحوها فهي من معين الرسالة الإلهية .
قال ابن القيم -رحمه الله-:" كلُّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرَّحمة إلى ضدّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشَّريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل" [إعلام الموقعين: 3/3].
ويؤخذ من قوله – تعالى - : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ }[لقمان:2-3]. أن كل اجتهاد في الشريعة يخلو من (الهدى) لعدم بيانه ووضوحه، ومناسبته، أو يخلو من (الرحمة) لشدته وقسوته وتعنته فهو أعجمي عن الأحكام الرسالية .
وقال عباد بن خواص في رسالته لأهل العلم، بعد أن بيَّن خطر البدعة : "ولا تعيبوا البدع تزينًا بعيبها؛ فإن فساد أهل البدع ليس بزائد في صلاحكم، ولا تعيبوها بغيًا على أهلها؛ فإن البغي من فساد أنفسكم، وليس ينبغي للمطبِّب أن يداوي المرضى بما يبرئهم ويمرضه، فإنه إذا مرض اشتغل بمرضه عن مداواتهم، ولكن ينبغي أن يلتمس لنفسه الصحة ليقوى بها على علاج المرضى، فليكن أمركم فيما تنكرون على إخوانكم نظرًا منكم لأنفسكم، ونصيحة منكم لربكم، وشفقة منكم على إخوانكم، وأن تكونوا مع ذلك بعيوب أنفسكم أعنى منكم بعيوب غيركم" (رواه الإمام الدارمي في "سننه"، رقم: (675)).
وفي الحقيقة إن خروج الكلمة (عارية)، (ممجوجة) ناتج عن خلو قلب قائلها من اللباس الذي يزينها ويجملها من العلم، والحكمة، والعدل، والرفق، والرحمة، ونحو ذلك .
لباسي لباسُ المتقين وإنني ** عريٌّ من التقوى إذا كنتُ كاسيا
وقد أمر الله – سبحانه – أن يكتسي كلام المؤمنين، والمتقين بالأوصاف التي تجمله وتزينه فقال :{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }، وقال:{ وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا }، وقال:{ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }،وقال:{ فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً }، وقال:{ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً }، وقال: {وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً }، وقال:{ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً }، وقال:{ وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً } . إلى غيرها من الآيات .
واعلم أن لصاحب الكلمة الحق سلطاناً على القلوب بلا عرش، وعنده قوة في الأسماع بلا بطش، وذلك لما للكلام الحق من بهاء وجلال العلم والحكمة والرحمة والصدق . ولهذا كان الداعي إلى الله – تعالى – المراعي في دِعوته ما سلف بيانه هو (أحسن الناس قولاً)، كما قال :{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33ِ].
فاللهم أسألك كلمة الحق في الرضا والغضب.
بقلم الشيخ:
ابي زيد العتيبي.