تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مراجعة في أشعرية موريتانيا



محمد قاسم الجكني
2012-09-09, 07:06 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى والصلاة على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اقتفى
أما بعد :
فينبغي لنا نحن طلبة العلم أن نعيد قراءة الماضي ومراجعة التاريخ الإسلامي عبر تشخيص الواقع الفكري لماله من أهمية في مسايرة الفكر الإسلامي ومستجداته المعاصرة حتى نعيد معنى جديدا يمكن من خلاله أن نستدرك بعض الحقائق أو الاستنتاجات والتي قد تكون لها أهمية بالغة في فهم الواقع من خلال مراجعة الوقائع التاريخية وتحولاتها.
وسوف أخصص هذه القراءة والتي أجعلها مناقشة لمفهوم اصطلاحي شاع تاريخا وانسحب واقعا وأصبح معاشا وفي أذهان العوام رسوخا وفي السادة تقبلا وانصياعا
إنها كلمة {أشعرية موريتانيا} {أو الشناقطة الاشاعرة} ...الخ
وأتساءل في البداية
ما هو سبب وجود هذا المصطلح في الإقليم الشنقيطي ؟ وكيف انسحب هذا الاصطلاح عليهم ؟ وكيف برأيك تم تعامل الدولة مع مفكري سادة الشناقطة ؟ وما هي أهم الأسس الفكرية التي قامت عليها الدولة الاسلامية الموريتانية ؟
وسوف أنطلق من دراستي هذه المتواضعة إلى بعض الملاحظات الاتية :
الملاحظة الاولى :
ما هي الأسس التي قامت عليها الدولة الاسلامية تاريخا وبعبارة أو ضح ما هي المراحل التي مرت بها القيادات الناشئة التي أسست الدولة وأرست قواعدها الاسلامية تاريخا وواقعا
إن الناظر في تاريخ الفكر الاسلامي القديم لموريتانيا بعد بلورة الوحدة ونشر تعاليم الاسلام الحنيف بين أقاليم القبائل والحواضر وقيام شبه دولة منعزلة إقليما وجغرافيا عن محيطها الإقليمي يلاحظ أن الدولة مرت بمراحل ثلاثة :
المرحلة الاولى :إرساء قواعد الدولة
تأسيس الدولة الاسلامية تحت قيادة الدولة المرابطية في القرن الخامس الهجري وهذه القيادة يكاد يكون الاجماع على سلفية منهجها الفكري وعدولها عن المنهج السلوكي الفلسفي المعاصر لها وتشديد النكير عليه
المرحلة الثانية :إعادة التأسيس
فبعد مدة طال انتظارها وكانت أيام حكم الموحدين كانت موريتانيا غير محكومة جغرافيا أو عسكريا أو فكرا من قبل الموحدين ولذا أيضا فإنها لم تكن تابعة لها منهجا اللهم إلا بعد مرور أعوام من انتهاء حكمها
ولذا فقد انتظرت موريتانيا طويلا من يقوم بإعادة تأسيس الدولة الموريتانية على أنقاض الدولة المرابطية منهجا وسلوكا وقيادة حتى جاء من يقوم لها بذلك فكانت تأسيس الثاني تحت قيادة الامير والامام المجدد { محمد ناصر الدين } في القرن العاشر الهجري الذي أسس الدولة وقاد الجيوش ونشر الاسلام في إفريقية السوداء وأعاد صياغة المنهج الاسلامي حتى نشر الرعب في قلوب أعداء الاسلام .
ولا شك أن هذا الامير اشتهر بإعادة صياغة منهج الوحي ونبذ البدع وتحكيم الشريعة منهجا وسلوكا .
المرحلة الثالثة : تأسيس الدولة الحديثة والمعاصرة
وفي هذه المرحلة كانت تأسيس الدولة مطلبا للجميع وقضية هيكلية طال انتظارها حتى كان للمجاهدين دور كبير في ترسيخ القيم والمبادئ والتي كانت تقوم بدور الراعي للقضية الموحدة حتى ظهر لها من يقوم بتأسيس القواعد الاولى للدولة الحديثة ولا شك أن اللمسات التأسيسية للدولة الحديثة كانت بقيادة الامام العلامة المجدد الاوحد { الشيخ باب بن الشيخ سيديا}
ومن غير المختلف فيه أن هذا الشيخ كان مؤسسا وبانيا للدولة الحديثة ذات المنهج الاسلامي الاصيل وقد أجمع الداني والقاصي على سلفية هذا الامام القائد العظيم
والناظر لكتبه ومؤلفاته لن يجد له نظيرا على الاطلاق بكل المقاييس في ترسيخ منهج السلف الصالح فقد كان مدافعا عن منهجه بلا منازع وسيفا على البدع بكل إبداع وقد توسع في تفنيد منهج أصحاب السلوك وأبدع في الرد وإبطال مذاهبهم واستحواذهم على عقول العامة واستعبادهم للأبرياء الجهلاء من دون خالقهم ومعبودهم .
فبذلك حرر العقول ووطد المناهج ونشر سياسات الوحدة والمنهج والسلوك وكلنا يعلم أو يسمع بالنشيد الذي وطد به قيام الدولة الاسلامية ذات المنهج الاسلامي الرصين
كن للاله ناصرا وأنكر المناكرا وكن مع الحق الذي يرضاه منك دائرا الخ

الملاحظة الثانية : أئمة الدولة أو سادة مفتي الجمهورية
فمن الغريب المعروف لدى كل ذي إلمام بشأن الفكر الواقع أن كل من انتصب لمنصب مفتي الجمهورية ـ والذي يدور عليه الشأن الفكري والديني وتدور عليه أمور البلاد والعباد ـ أنه سلفي بامتياز مرورا بالامام الاعظم بداه البوصيري المؤسس لجذور الدولة فكرا ومنهجا
ومرورا أيضا بالمفتي السابق الامام محمد محمود الرباني حفظه الله ومرورا أيضا بالمفتى للجمهورية حاليا الامام العلامة المفسر أحمدو بن حبيب الرحمن حفظه الله .
وهؤلاء هم النافذون فكرا ومنهجا وسلوكا أكثر من غيرهم يقر بذلك القاصي والداني وهؤلاء هم سادة البلد وجذور الفكر والكل يقر بأنهم سلفيون بامتياز.
الملاحظة الثالثة : المؤسسات التعليمية النظامية
فمن المعروف الواقع والقديم أن المؤسسات التعليمية قامت على منهج السلف وتأسست عليه في بدايتها الاولى يشهد بذلك أصحابها ويستنطق بذلك قانونها ودستورها فلم تتغير عن هذا المنهج بعد .
لكن هل يمكن القول أن موريتانيا تبنت منهج الاشاعرة ؟
إنه مما لا يدعو مجالا للشك أن الجمهورية لم تتخذ منهجا معينا يسحب البساط من فكر آخر ولم تميز أي فكر عن آخر رغم أن المؤسسين في تاريخ الدولة سلفيون .
ولكن كيف أقرت الدولة منهج السلف مع إطلاق الاشعرية على سادته ومفكريه ؟
قد يمكن لنا أن نفسر انسحاب هذا الاصطلاح الفكري على الشناقطة من عدة أسباب من أهم هذه الاسباب ما يلي :
السبب الاول : تأثير الدولة الموحدية
إنه لدى طبيعة القرب الجغرافي تأثيره وحكمه البالغ ولذا فقد ظلت موريتانيا قرونا متأثرة بفكر الدولة الموحدية منهجا وسلوكا وإن كنا نرى ضعف هذا التأثير واضحا لأسباب منها :
أ ـ أن الدولة الموحدية وإن ارست قواعد المنهج الاشعري بالسيف و ظل منتشرا فإنه لم يكن معروفا خلال قرون في موريتانيا بهذا الوصف
ب ـ أنه مما يفوق اليقين ولا يدع مجالا للشك عدم وجود دولة موحدة بعد المرابطين مما جعل موريتانيا في معزل عن هذا الفكر الجديد ولم يكن منصبا عليهم إما لعدم التبعية أوانفصال الحكم وانقطاع المراسلات العلمية والثقافية أوان بزوغ فجر الدولة الموحدية
السبب الثاني : تفوق المنهج المحظري الدراسي
من الاسباب التي نراها أساسا في ترسيخ المنهج الاشعري هو منهجية النظام التعليمي المحظري الذي يأخذ من التحرير في الدراسة منهجا قويما راسخا فلا نظام مقنن ولا هيكلية لمنجهي تعليمي موحد فمنهج نظام التعليم المحظري منهج أقرب إلى الفوضية الممنهجة والنموذجية العشوائية
فالنظام يرتسم بالتحرر من قيود فكر الشيخ أو المربي أو الامير إن صح التعبير ومن هنا كان الطالب يجد الراحة في أخذ القوامة والمسئولية اتجاه منهج دراسته فلا الاهل يتدخلون في ما يريد الولد أن يدرس أو الاستاذ أوالشيخ ولا المحظرة ترسم له منهجا متبعا أو نظاما أكاديميا بقدر ما تعطيه من الحرية والتقبل لما يراه سدادا في اختياره فكل ما هناك هو : نظام تحريري فوضي المنهج والاختيار .
فهذا يدرس فكرا أشعريا وذاك يأخذ نصا سلفيا وذلك منهجا كلاميا وهكذا .
وقد كان هذا منهجا مرضيا بين العامة والخاصة إلى الان ولهذا قد يعطي انطباعا عن وجود منهج قد لا يلائم بعض الشيوخ أو الاساتذة لكنهم لا يعترضون منهجا .
بل إنك تستغرب عندما يدرس الامام نصا في منهج معين وهو لا يرى هذا المنهج لا سلوكا ولا رأيا ومع هذا فهو يدرسه وكأنه يرغب الطالب في المواصلة في فنه وإن لم يره وقد كان هذا من مناهج دراسة المحاظر ألا يتدخل للدارس فيما يدرس ولو كان ما كان على أن يكون مصدر ذلك الفن هو اختيار الطالب أولا وآخرا .
وقد كان لهذا تأثير واضح حيث يأتي الطلاب من أنحاء العالم فمنهم من يحمل فكرا معينا ويريد دراسته فليس للشيخ إلا الإذعان والانصياع لرغبة الطالب لا غير والتسليم لما يرضيه ويطمئنه ويديم استمراره .
السبب الثاني : منهج النشر والتأليف في الغرب الاسلامي
وقد كان لهذا تأثير كبير على ساحة النشر والتأليف فقد كثرت مراجع الفكر الأشعري بسبب الجوار للحكم الموحدي وفكره فقد كثر منهج المؤلفين في هذا الفكر وانتشر في البلدان المغاربية .
فقد كان لطلاب العلم الوافدين من البلدان المجاورة دور كبير في نشر هذا المنهج وترسيخه في بعض المحاظر حتى كثر دارس هذه الكتب ومن ثم احتاجوا لشرحها وحل عويصها لكثرة الدارسين لها فألفوا في شرحها واختصارها لطلبة العلم .
وبذلك انتشر الفكر الاشعري حتى أصبح مؤلوفا للعامة بعد أن كانت مقتصرة على النصوص المعروفة الدالة على منهج السلف الصالح مثل عقيدة أبي عمرو الداني وعقيدة الرسالة لمحمد بن أبي زيد القيرواني .
لكن طالب العلم بطبعه ميال عن القديم وتائق للجديد وراغب في دراسة الفنون المستجدة ويتطلع لتحرر المنهج الدراسي المحظري وتطوره .
ويعود ذلك بالاساس في رأيي إلى اندماج هذه التآليف الوافد اليه والتي ما كانت يوما من الايام معروفة في منهجه ورأيه الذي ظل قرونا محافظا على منهج الصدر الاول
لكن انتشار المنهج الموحدي وكثرة مؤلفاته أصبح متداولا بين الفينة والاخرى لدارس الفكر في الغرب الاسلامي عموما في المحاظر خصوصا بفضل حرية الرأي والتدريس المحظري النموذجي .
فكان هذا من أسباب تأليف بعض الشناقطة في الفكر الاشعري وإلا فقد كانوا في غنى عنه ببعض النصوص القديمة والمشهورة في منهج السلف الصالح ومسايرتها كما قدمنا.

ومما سبق يمكن لنا من خلال هذه الالمامة المقتضبة أن نستخلص ما يلي :
أولا : أن الفكر الأشعري في موريتانيا لم يكن مرتبطا بالمنهج الموحدي إلا عن طريق الوافدين من العلماء الحجاج أو طلبة العلم لا غير .
ثانيا : أن الفكر الاشعري لم يكن منهجا معروفا للدولة كما أنه أيضا لم يكن إجماعا بين النخبة العلمية أو بين المحاظر والمؤسسات التعليمية لما نسجت عليه طبيعة ظروف المحاظر التي لولا فضل نظامها التعليمي التحرري لضعف هذا المنهج وقل رائده فهي وحدها تأخذ طابع الحرية في صيرورة المستجدات وترسيخها فلا تقف أمام أي جديد بقدر ما يأخذ دوره من القبول والريادة.
ثالثا : أن توالي مؤسسي الدولة المتمسكين بمنهج السلف يعطي بينة على أن هذا المنهج لم يكن محل إجماع في هذا البلد بل أحيانا قد يأخذ نصيبه من الركود والجمود وأحيانا يظهر بفضل الدارسين له لا عن قناعة به أصلا ولكن عن كثرة التنقيب والبحث في الفكر الاسلامي عموما .
وفي الاخير لا أملك إلا أن أقول بأني أرجو أن أكون قد وفقت لطروق جهة من جهات هذا المنهج ولكن هيهات أن يبلغ حد الإسهام في الموضوع بقدر ما قد يعطي تسليط الضوء على هذه التسمية التي اصطلح عليها قديما وأصبحت مثارة بشكل أو بآخر في المحافل العلمية والمنتديات الثقافية بقدر ما قد يكون أيضا إثارة لدراسة أسباب هذه التسمية وما يدور حولها من وقائع تاريخية ومستجدات فكرية وثقافية .

بن مصدق
2012-09-12, 12:53 AM
أحسن الله إليك