تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : عقيدة الإمام أبو الحسن الأشعري كما أقرها الحافظ ابن عساكر



عادل سليمان القطاوي
2012-07-03, 10:06 PM
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك .
أما بعد :
فكثيرا ما يحتج الأشاعرة برد كتاب الابانة الذي ألفه الإمام أبو الحسن الأشعري، فيدعون وضعه أو تلاعب الأيدي به أو ما هو من قبيل هذا التخرص ..
وهم في نفس الوقت كادوا أن يقدسوا كتاب تبيين كذب المفتري لمؤلفه الحافظ ابن عساكر ..
ونحن من الكتابين على التصديق، ولمؤلفيهما على التبجيل .. فلماذا تضربوا كتاب بكتاب ؟
ونحن نرضى بما ورد في كتاب التبيين للحافظ ابن عساكر رحمه الله لتقرير عقيدة أبي الحسن الأشعري ..
وهذا عرض يسير لأهم النقاط التي وقع فيها الخلاف بيننا وبين الأشاعرة ..
قال الحافظ ابن عساكر :
فلا بد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة ونجتنب ان نزيد فيه أو ننقص منه تركا للخيانة ليعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سماه بالإبانة فإنه قال :
ثم ذكر المقدمة ، ثم مجمل معتقد أبي الحسن رحمه الله في أمور الاعتقاد كلها تقريبا ..
ثم ختم الحافظ فصله بقوله :
فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه واعترفوا بفضل هذا الإمام العالم الذي شرحه وبينه وانظروا سهولة لفظه فما أفصحه وأحسنه وكونوا مما قال الله فيهم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وتبينوا فضل أبي الحسن وأعرفوا أنصافه واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل واعترافه لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين. الخ كلامه

إذا: تبين لنا من هذه الجمل أن الذي عرضه الحافظ ابن عساكر هو عين عقيدة أبي الحسن الاشعري نقله بأمانة ولم يزيد فيه ولم ينقص .. وهذا حقيقة لا شك فيها .. ولكن قد يكون هناك جمع لما تفرق ليكون الكلام على عقيدته كله على نسق واحد .. إذ إن هذا المنقول ليس بترتيب ما وجد في كتاب الابانة وان كان هو عين ما نقل بلفظه في كل مسألة من مسائل الاعتقاد ..
وأمر آخر وهو: أن غالب الاعتقاد هو عين معتقد أهل السنة أتباع السلف الصالح الذين يبدعونهم ويكفرونهم الاشاعرة من قديم ..
فلا خلاف بيننا في اثبات الرؤية في الآخرة ومسائل الجنة والنار وعذاب القبر والشفاعة وزيادة الايمان ونقصانه والقضاء والقدر وعلم الله وقدرته وتفضيل الخلفاء والعشرة المبشرون والكلام في الصحابة وووو كثير من الأمور التي يتفق عليها الطرفان ..
وقد عرضها أبو الحسن بنفس أهل الحديث والأثر متبعا فيها الامام احمد رحمه الله تعالى .
لكن أحاديث الصفات هي المحك الذي يخالف فيه الاشاعرة شيخهم ويدعون بالباطل على أهل الحديث أنهم مشبهة، ولو أصغوا الى شيخهم الأشعري فيما نقله الحافظ ابن عساكر لعلموا أنهم أبعد الناس عنه إذ خالفوه صراحة في تقريره الآتي ..
وهاهي فقرات مما نقله الحافظ ابن عساكر عن معتقد الأشعري ..
قال ابو الحسن بعد أن حث على التمسك بالكتاب والسنة وحط على الجهمية والمعتزلة وزيف تأويلهم:
ودفعوا – أي المعتزلة - أن يكون لله وجه مع قوله ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله ( لما خلقت بيدي ) وأنكروا أن يكون له عين مع قوله ( تجري بأعيننا ) ولقوله ( ولتصنع على عيني ) ونفوا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله ( إن الله ينزل إلى سماء الدنيا ) وأنا ذاكر ذلك أن شاء الله بابا بابا وبه المهونة والتأييد ومنه التوفيق والتسديد..
ثم قال : قولنا الذي به تقول وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولمن خالف قوله قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين وجملة قولنا :
أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا نرد من ذلك شيئا وأن الله إله واحد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله استوى على عرشه كما قال ( الرحمن على العرش استوى ) وأن له وجها كما قال ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) وأن له يدا كما قال ( بل يداه مبسوطتان ) وقال ( لما خلقت بيدي ) وأن له عينا بلا كيف كما قال ( تجري بأعيننا ) وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالا .....
وقال: وندين بأنه يقلب القلوب وأن القلوب بين اصبعين من أصابعه ...
وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم للروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وندين بحب السلف الذين اختارهم لصحبة نبيه ونثني عليهم بما أثنى الله عليهم ونتولاهم..
ونصدق بجميع الروايات التي ثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب يقول هل من سائل هل من مستغفر وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل ..
ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) وأن الله تعالى يقرب من عباده كيف يشاء كما قال ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) وكما قال ( ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) ..
ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام ونقول أن لذلك تفسيرا..
ثم قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقى منه وما لم نذكره بابا بابا وشيئا شيئا . اهـ

فهذه النقول أعلاه والتي نقلناها من نص كتاب تبيين كذب المفتري للحافظ ابن عساكر، وهو الكتاب الذي يحث الأشاعرة عليه وينادون عند الاختلاف الى الرجوع إليه ...
فهل تأول الأشعري فيما نقل أعلاه صفة اليد أو الوجه أو العين أو الاستواء أو النزول أو المجيء ؟
كما أنه أثبت صفة الأصابع لله عزوجل وقال [ وأن القلوب بين اصبعين من أصابعه ] على ظاهره بلا تأويل أو تعطيل ..
فما بال هؤلاء الأتباع عاقين لإمامهم ؟
لماذا يتأولون هذه الصفات ويخالفون شيخهم ثم يدعون أنهم له أتباع ؟
فالرجل رحمه الله متبع لأهل الحديث والأثر، واعترف بأن إمامه في هذا الباب هو الإمام أحمد رحمه الله تعالى ..
فما هي حجة الاشاعرة في تعطيل هذه الصفات الواضحات ؟
ومع هذا العرض المجمل فقد ارتأينا أن نكمل شرح وبيان هذه الصفات المذكورة من كتاب الابانة الذي نقل عنه الحافظ ابن عساكر، لنرى كيف يحتج الاشعري على هؤلاء المؤولة الذين يتمسحون به، وهم مكذبين حقيقة للكتاب والسنة إذ ادعوا أن ظاهرهما كفر، وأن صفات الله الواردة فيهما ليست على ظاهرها !!!

قال أبو الحسن الأشعري - رحمه الله - في الابانة الباب الخامس:
إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟
قيل له : نقول : إن الله عز وجل يستوي على عرشه استواء يليق به من غير طول استقرار كما قال ( الرحمن على العرش استوى ) وقد قال تعالى : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) وقال تعالى : ( بل رفعه الله إليه ) وقال تعالى : ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ) وقال تعالى حاكيا عن فرعون لعنه الله : ( يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ) كذب موسى عليه السلام في قوله : إن الله سبحانه فوق السماوات وقال تعالى : ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض )
فالسماوات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السماوات قال : ( أأمنتم من في السماء ) لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى السماوات وليس إذا قال : ( أأمنتم من في السماء ) يعني جميع السماوات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات ألا ترى الله تعالى ذكر السماوات فقال تعالى : ( وجعل القمر فيهن نورا ) ولم يرد أن القمر يملأهن جميعا وأنه فيهن جميعا ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماوات فلولا أن الله عز و جل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض.
وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية : إن معنى قول الله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) أنه استولى وملك وقهر وأن الله تعالى في كل مكان وجحدوا أن يكون الله عز و جل مستو على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة .
ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة لأن الله تعالى قادر على كل شيء والأرض لله سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء وهو تعالى مستو على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقدار لأنه قادر على الأشياء مستول عليها وإذا كان قادرا على الأشياء كلها لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله تعالى مستو على الحشوش والأخلية تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها
وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله تعالى في كل مكان فلزمهم أنه في بطن مريم وفي الحشوش والأخلية وهذا خلاف الدين . تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا
ويقال لهم : إذا لم يكن مستويا على العرش بمعنى يختص العرش دون غيره كما قال ذلك أهل العلم ونقله الأخبار وحملة الآثار وكان الله عز و جل في كل مكان فهو تحت الأرض التي السماء فوقها وإذا كان تحت الأرض والأرض فوقه والسماء فوق الأرض وفي هذا ما يلزمكم أن تقولوا إن الله تحت التحت والأشياء فوقه وأنه فوق الفوق والأشياء تحته وفي هذا ما يجب أنه تحت ما هو فوقه وفوق ما هو تحته وهذا هو المحال المتناقض تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
دليل آخر :
ومما يؤكد أن الله عز و جل مستو على عرشه دون الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
روى عفان قال : ثنا حماد بن سلمة قال : حدثنا عمرو بن دينار عن نافع عن جبير عن أبيه رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( ينزل ربنا عز و جل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول : هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ حتى يطلع الفجر )
روى عبيد الله بن بكر قال : ثنا هشام بن أبي عبد الله عن يحيى بن كثير عن أبي جعفر أنه سمع أبا حفص يحدث أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إذا بقى ثلث الليل ينزل الله تبارك وتعالى فيقول : من ذا الذي يدعوني فأستجيب له ؟ من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه ؟ من ذا الذي يسترزقني فأرزقه ؟ حتى ينفجر الفجر ) .
وروى عبد الله بن بكر السهمي قال : ثنا هشام بن أبي عبد الله عن يحيى بن كثير عن هلال بن أبي ميمونة قال : ثنا عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال : فكنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كفا بالكديد - أو قال بقديد - حمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( إذا مضى ثلث الليل - أو قال ثلثا الليل - نزل الله عز و جل إلى السماء فيقول : من ذا الذي يدعوني أستجيب له ؟ من ذا الذي يستغفرني أغفر له ؟ من ذا الذي يسألني أعطيه ؟ حتى ينفجر الفجر ) نزولا يليق بذاته من غير حركة وانتقال تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
دليل آخر :
قال الله تعالى ( يخافون ربهم من فوقهم ) وقال تعالى : ( تعرج الملائكة والروح إليه ) وقال تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) وقال تعالى : ( ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا ) وقال تعالى : ( ثم استوى على العرش مالكم من ولي ولا شفيع ) فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه والسماء بإجماع الناس ليست الأرض فدل على أنه تعالى منفرد بوحدانيته مستو على عرشه استواء منزها عن الحلول والاتحاد .
دليل آخر :
قال الله تعالى : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) وقال تعالى : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ) وقال : ( ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى ) إلى قوله : ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) وقال تعالى لعيسى ابن مريم عليه السلام : ( إني متوفيك ورافعك إلي ) وقال تعالى : ( وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه ) وأجمعت الأمة على أن الله سبحانه رفع عيسى صلى الله عليه و سلم إلى السماء ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى الله تعالى في الأمر النازل بهم يقولون جميعا : يا ساكن السماء ومن حلفهم جميعا : لا والذي احتجب بسبع سماوات
دليل آخر :
قال الله عز و جل : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) وقد خصت الآية الشريفة البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم كان أبعد من الشبهة وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول : ما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول : ما كان لجنس من الأجناس أن أكلمه إلا وحيا أو من وراء حجاب أو أرسل رسولا وننزل أجناسا لم يعمهم بالآية فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم
دليل آخر :
قال الله تعالى : ( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ) وقال : ( ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ) وقال : ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ) وقال عز و جل : ( وعرضوا على ربك صفا )
كل ذلك يدل على أنه تعالى ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه مستو على عرشه سبحانه بلا كيف ولا استقرار تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا فلم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كل كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي يريدون بذلك التنزيه ونفي التشبيه على زعمهم فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل .
دليل آخر :
قال الله تعالى ( الله نور السماوات والأرض ) من الآية فسمى نفسه نورا والنور عند الأمة لا يخلو من أن يكون أحد معنيين :
إما أن يكون نورا يسمع أو نورا يرى ..
فمن زعم أن الله يسمع ولا يرى فقد أخطأ في نفيه رؤية ربه وتكذيبه بكتابه وقول نبيه صلى الله عليه و سلم
وروت العلماء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ( تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله عز و جل فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام والله عز و جل فوق ذلك )
دليل آخر :
وروت العلماء رحمهم الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( إن العبد لا تزول قدماه من بين يدي الله عز و جل حتى يسأله عن عمله )
وروت العلماء أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم بأمة سوداء فقال : يا رسول الله إني أريد أن أعتقها في كفارة فهل يجوز عتقها ؟
فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم : أين الله ؟ قالت : في السماء قال فمن أنا ؟ قالت : أنت رسول الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أعتقها فإنها مؤمنة
وهذا يدل على أن الله تعالى على عرشه فوق السماء فوقية لا تزيده قربا من العرش . انتهى من الابانة

ونرى بوضوح من كلامه رحمه الله في موضوع الاستواء :
أنه أخذ جميع الآيات على ظاهرها لم يؤول ولم يعطل وأقر بأن الله في السماء واستدل بحديث الجارية وبالآيات البينات الواضحات. ورد تفسير استوى باستولى وقهر ورد على المعتزلة، وفي الحقيقة هو رد على من يدعي اتباعه .
كما أن طريقة حواره مع المخالف تبين أن المؤولين الذين يتمسحون به، هم في الحقيقة أتباع الجهمية والمعتزلة ، كما أنه يقرر منهج أهل السنة بوضوح، اللهم غير بعض الألفاظ التي قد توجد عند بعض السلف نفيا أو ايجابا ، والخلاف فيها سهل، إذ إنه ليس ممن يعطل صفات الله ويكذب بحقيقتها .

ثم قال في الباب السادس عن صفة الوجه واليدين :
فمن سألنا فقال : أتقولون إن لله سبحانه وجها ؟
قيل له : نقول ذلك خلافا لما قاله المبتدعون وقد دل على ذلك قوله تعالى : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )
وقد سئلنا أتقولون إن لله يدين ؟
قيل : نقول ذلك بلا كيف وقد دل عليه قوله تعالى : ( يد الله فوق أيديهم ) وقوله تعالى : ( لما خلقت بيدي )
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته ) فثبتت اليد بلا كيف .
وجاء في الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه و سلم ( أن الله تعالى خلق آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده ) أي بيد قدرته سبحانه
وقال تعالى : ( بل يداه مبسوطتان )
وجاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( كلتا يديه يمين )
وقال تعالى : ( لأخذنا منه باليمين )
وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل : عملت كذا بيدي ويعني به النعمة وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوما في كلامها ومعقولا في خطابها وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل : فعلت بيدي ويعني النعمة بطل أن يكون معنى قوله تعالى : ( بيدي ) النعمة وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل : لي عليه يدي بمعنى لي عليه نعمتي ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها دوفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد النعمة إلا من جهة اللغة فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يفسر القرآن من جهتها وأن لا يثبت اليد نعمة من قبلها لأنه إن روجع في تفسير قوله تعالى : ( بيدي ) نعمتي فليس المسلمون على ما ادعى متفقين وإن روجع إلى اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل : بيدي يعني نعمتي وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه ولن يجد له سبيلا
ويقال لأهل البدع : ولم زعمتم أن معنى قوله : ( بيدي ) نعمتي أزعمتم ذلك إجماعا أو لغة ؟
فلا يجدون ذلك إجماعا ولا في اللغة .
وإن قالوا : قلنا ذلك من القياس
قيل لهم : ومن أين وجدتم في القياس أن قوله تعالى : ( بيدي ) لا يكون معناه إلا نعمتي ؟ ومن أين يمكن أن يعلم بالعقل أن تفسير كذا وكذا مع أنا رأينا الله عز وجل قد قال في كتابه العزيز الناطق على لسان نبيه الصادق: ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) وقال تعالى : ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) وقال تعالى : ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) وقال تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله ) ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره ولا أن نعرف معانيه إذا سمعناه فلما كان من لا يحسن لسان العرب لا يحسنه وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه على أنهم إنما علموه لأنه بلسانهم نزل وليس في لسانهم ما ادعوه .
وقد اعتل معتل بقول الله تعالى : ( والسماء بنيناها بأيد ) قالوا : الأيد القوة فوجب أن يكون معنى قوله تعالى : ( بيدي ) بقدرتي قيل لهم : هذا التأويل فاسد من وجوه :
أحدها : أن الأيد ليس جمع لليد لأن جمع يد أيدي وجمع اليد التي هي نعمة أيادي وإنما قال تعالى : ( لما خلقت بيدي ) فبطل بذلك أن يكون معنى قوله : ( بيدي ) معنى قوله : ( بنيناها بأيد )
وأيضا فلو كان أراد القوة لكان معنى ذلك بقدرتي وهذا ناقض لقول مخالفنا وكاسر لمذهبهم لأنهم لا يثبتون قدرة واحدة فكيف يثبتون قدرتين .
وأيضا فلو كان الله تعالى عنى بقوله : ( لما خلقت بيدي ) القدرة لم يكن لآدم صلى الله عليه وسلم على إبليس مزية في ذلك والله تعالى أراد أن يرى فضل آدم صلى الله عليه و سلم عليه إذ خلقه بيديه دونه ولو كان خالقا لإبليس بيده كما خلق آدم صلى الله عليه و سلم بيده لم يكن لتفضيله عليه بذلك وجه وكان إبليس يقول محتجا على ربه : فقد خلقتني بيديك كما خلقت آدم صلى الله عليه و سلم بهما فلما أراد الله تعالى تفضيله عليه بذلك وقال الله تعالى موبخا له على استكباره على آدم صلى الله عليه و سلم أن يسجد له : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت ؟ ) دل على أنه ليس معنى الآية القدرة إذ كان الله تعالى خلق الأشياء جميعا بقدرته وإنما أراد إثبات يدين ولم يشارك إبليس آدم صلى الله عليه و سلم في أن خلق بهما .
وليس يخلو قوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) أن يكون معنى ذلك إثبات يدين نعمتين أو يكون معنى ذلك إثبات يدين جارحتين . تعالى الله عن ذلك أو يكون معنى ذلك إثبات يدين قدرتين أو يكون معنى ذلك إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين لا توصفان إلا كما وصف الله تعالى فلا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين لأنه لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول القائل : عملت بيدي وهو نعمتي
ولا يجوز عندنا ولا عند خصومنا أن نعني جارحتين ولا يجوز عند خصومنا أن يعني قدرتين .
وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله تعالى : ( بيدي ) إثبات يدين ليستا جارحتين ولا قدرتين ولا نعمتين لا يوصفان إلا بأن يقال : إنهما يدان ليستا كالأيدي خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت
وأيضا فلو كان معنى قوله تعالى : ( بيدي ) نعمتي لكان لا فضيلة لآدم صلى الله عليه و سلم على إبليس في ذلك على مذاهب مخالفينا لأن الله تعالى قد ابتدأ إبليس على قولهم كما ابتدأ آدم صلى الله عليه و سلم وليس تخلو النعمتان أن يكونا هما بدن آدم صلى الله عليه و سلم أو يكونا عرضين خلقا في بدن آدم عليه الصلاة و السلام فلو كان عنى بدن آدم عليه السلام فلأبدان عند مخالفينا من المعتزلة جنس واحد وإذا كانت الأبدان عندهم جنسا واحدا فقد حصل في جسد إبليس على مذاهبهم من النعمة ما حصل في جسد آدم صلى الله عليه و سلم وكذلك إن عنى عرضين فليس من عرض فعله في بدن آدم صلى الله عليه و سلم من لون أو حياة أو قوة أو غير ذلك إلا وقد فعل من جنسه عندهم في بدن إبليس وهذا يوجب أنه لا فضيلة لآدم صلى الله عليه و سلم على إبليس في ذلك والله تعالى إنما احتج على إبليس بذلك ليريه أن لآدم صلى الله عليه و سلم في ذلك الفضيلة فدل ما قلناه على أن الله عز و جل لما قال : ( خلقت بيدي ) لم يعن نعمتي.
ويقال لهم : لم أنكرتم أن يكون الله تعالى عنى بقوله : ( بيدي ) يدين ليستا نعمتين ؟
فإن قالوا : لأن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة
قيل لهم : ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة ؟ وإن رجعونا إلى شاهدنا أو إلى ما نجده فيما بيننا من الخلق فقالوا : اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إلا جارحة
قيل لهم : إن عملتم على الشاهد وقضيتم به على الله تعالى فكذلك لم نجد حيا من الخلق إلا جسما لحما ودما فاقضوا بذلك على الله - تعالى عن ذلك - وإلا كنتم لقولكم تاركين و لاعتلالكم ناقضين
وإن أثبتم حيا لا كالأحياء منا فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله تعالى عنهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا كالأيدي ؟
وكذلك يقال لهم : لم تجدوا مدبرا حكيما إلا إنسانا ثم أثبتم أن للدنيا مدبرا حكيما ليس كالإنسان وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف الشاهد
فإن قالوا إذا أثبتم لله عز و جل يدين لقوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) فلم لا أثبتم له أيدي لقوله تعالى : ( مما عملت أيدينا ) ؟
قيل لهم : قد أجمعوا على بطلان قول من أثبت لله أيدي فلما أجمعوا على بطلان قول من قال ذلك وجب أن يكون الله تعالى ذكر أيدي ورجع إلى إثبات يدين لأن الدليل عنده دل على صحة الإجماع وإذا كان الإجماع صحيحا وجب أن يرجع من قوله أيدي إلى يدين لأن القرآن على ظاهره ولا يزول عن ظاهره إلا بحجة فوجدنا حجة أزلنا بها ذكر الأيدي عن الظاهر إلى ظاهر آخر ووجب أن يكون الظاهر الآخر على حقيقته لا يزول عنها إلا بحجة
فإن قال قائل : إذا ذكر الله عز و جل الأيدي وأراد يدين فما أنكرتم أن يذكر الأيدي ويريد يدا واحدة ؟
قيل له : ذكر تعالى أيدي وأراد يدين لأنهم أجمعوا على بطلان قول من قال أيدي كثيرة وقول من قال يدا واحدة فقلنا يدان لأن القرآن على ظاهره إلا أن تقوم حجة بأن يكون على خلاف الظاهر .
فإن قال قائل : ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى : ( مما عملت أيدينا ) وقوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) على المجاز ؟
قيل له : حكم كلام الله تعالى أن يكون على ظاهره وحقيقته ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا بحجة .
ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس هو على حقيقة الظاهر وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة كذلك قوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) من الآية على ظاهره أو حقيقته من إثبات اليدين ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا إلا بحجة ، ولو جاز ذلك لجاز لمدع أن يدعي أن ما ظاهره العموم فهو على الخصوص وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه أنه مجاز أن يكون مجازا بغير حجة بل واجب أن يكون قوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم : فعلت بيدي وهو يعني النعمتين.
انتهى من الابانة

وبعد هذا العرض نقول لمن يدعي تقليد الإمام الأشعري :
هاهو إمامك يثبت لله صفتي الوجه واليدين بالحجة الواضحة ويقلب عليكم استدلالكم باللغة ويبطل تأويلكم ويحكي الآيات على ظاهرها ، بالحقيقة دون المجاز ..
فهل أنتم له متبعون ؟
والحمد لله أولا وآخرا .

وادي الذكريات
2012-07-04, 02:44 PM
رحم الله تبارك وتعالى سبحانه الأشعري وغفر له ونحن معه وكل المسلمين آمين .