عبدالمجيد سلامة
2012-06-18, 08:42 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخوتي الكرام
أتشرف بمشاركتم هذا المنتدى الغالي ، وأزف على استحياء ، مجهود بذلته في اختصار تفسير ابن كثير رحمه الله ، أنقل بعضه إليكم ، أطلب به منكم المشورة والتوجيه ، والغرض من هذا الإختصار تقريب علم ابن كثير رحمه الله لإخواننا أهل الإسلام ، لعل الله يكتب لنا به مغفرة ، أو يصلح به شأننا ، فمن وجد منكم لي عيبا فليربت على كتفي موجها إياي لأتدارك ما كان من خطأ أو تقصير ، ومن رأى بعيني أخوته لنا في الله خيرا فليدعو لي بالتوفيق لإكماله ، لعل الله يرحمنا بجنته لنصحنا فيه
وأنقل لإحبتي في الله
اختصار سورة الكهف
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } حمد الله نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد، صلوات الله وسلامه عليه؛ فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا } لم يجعل فيه اعوجاجًا ولا زيغًا ولا ميلا بل جعله معتدلا { قَيِّمًا } مستقيمًا { لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا } لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذره عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة { مِنْ لَدُنْهُ } من عند الله الذي لا يُعَذّب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد { وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ } بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } مثوبة عند الله جميلة ،{ مَاكِثِينَ فِيهِ } في ثوابهم عند الله، وهو الجنة، خالدين فيه { أَبَدًا } دائمًا لا زوال له ولا انقضاء{ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } وهم مشركو العرب في قولهم: نحن نعبد الملائكة، وهم بنات الله.{ مَا لَهُمْ بِهِ} بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه {مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ } أسلافهم { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، { إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا } ، { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ } أي مهلك نفسك بحزنك عليهم {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ } القرآن { أَسَفًا }لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا } جعل الله الدنيا دارًا فانية مُزيَّنة بزينة زائلة{لِنَبْلُو هُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } وجعلها دار اختبار لا دار قرار { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فنجعل كل شيء عليها هالكًا { صَعِيدًا جُرُزًا } لا يُنْبِت ولا ينتفع به{ أَمْ حَسِبْتَ } يا محمد { أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } أمرهم عجيبا في قدرتنا وسلطاننا ، قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك! وأما "الكهف" فهو: الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون. وأما "الرقيم : لوح من حجارة، كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف والله أعلم { أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ } فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فَهَرَبوا منهم فَلَجَؤُوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، {فَقَالُوا} حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم { رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً } أي: هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا { وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } أي اجعل عاقبتنا رشدًا { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } من رقدتهم تلك، { لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ } المختلفين فيهم { أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } قيل: عددًا وقيل: غاية فإن الأمد الغاية { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ، الذين قد عتوا وعَسَوا في دين الباطل {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} اعترفوا له بالوحدانية، وشهدوا أنه لا إله إلا هو { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }{ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } [الفتح:4]، { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } وصَبَّرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، { إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } ذكر غير واحد من المفسرين أن ملكهم، استحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله عز وجل؛ { لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا } أي: لا يقع منا هذا أبدًا؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا؛ ولهذا قال عنهم: { لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } باطِلا وكذبًا وبهتانًا.{ هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } هَلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحًا صحيحًا؟! { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك. فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله: { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوه ُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ } أي: وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم ففارقوهم بأبدانكم { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ } أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ } الذي أنتم فيه، { مِرفَقًا } أي: أمرًا ترتفقون به. فعند ذلك خرجوا هُرابًا إلى الكهف، فأووا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتَطَلَّبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعَمَّى الله عليه خبرهم. كما فعل بنبيه صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق، حين لجأ إلى غار ثور ، فقصة هذا أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف ،{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ } تميل { ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ } أي: في متسع منه داخلا بحيث لا تمسهم؛ إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم ، { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } حيث أرشدهم تعالى إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم؛ { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } أي: هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم، فإنه من هداه الله اهتدى، ومن أضله فلا هادي له { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } قال ابن عباس: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض.{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } الفناء.{ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم، لما له في ذلك من الحجة والحكمة البالغة، والرحمة الواسعة. { وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ ) وكما أرقدناهم بعثناهم {لِيَتَسَاءَلُو بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ )كم رقدتم؟ { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تَرَدّد في كثرة نومهم، فالله أعلم، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك فقالوا: { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ } أي: فضتكم { هذه إِلَى الْمَدِينَةِ } أي: مدينتكم التي خرجتم منها { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا } أطيب طعامًا، { فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } في خروجه وذهابه، وشرائه وإيابه، وَلْيَتَخَفَّ كل ما يقدر عليه { وَلا يُشْعِرَنَّ } أي: ولا يعلمن { بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } إن علموا بمكانكم، { يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونهم إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا،{ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا } الدنيا ولا في الآخرة، { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم { فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) والظاهر أنهم أصحاب الكلمة والنفوذ { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا }. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" يحذر ما فعلوا . (رواه البخاري) . { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ } فحكى ثلاثة أقوال، فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضَعَّف القولين الأولين بقوله: { رَجْمًا بِالْغَيْبِ } أي: قولا بلا علم، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر،{ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ } إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، { مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } من الناس.قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله، عز وجل، كانوا سبعة. { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا } سهلا هينًا؛ ففي معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة { وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا } فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجما بالغيب{ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّه } هذا إرشاد من الله لرسوله الله صلوات الله وسلامه عليه، إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل، أن يرد ذلك إلى مشيئة الله، عز وجل، علام الغيوب { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } قيل: معناه إذا نسيت الاستثناء، فاستثن عند ذكرك له ، أن تقول: إن شاء الله. ويحتمل في الآية وجه آخر، وهو أن يكون الله، عز وجل، قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان، كما قال فتى موسى: { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [الكهف: 63] وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان، فذكر الله سبب للذكر { وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا }إذا سئُلت عن شيء لا تعلمه، فاسأل الله فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد ، وقيل في تفسيره غير ذلك في تفسيره، والله أعلم { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } خبَر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم ، وأنه كان مقداره ثلاثمائة وتسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله، عز وجل فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا { لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: لا يعلم ذلك إلا هو أو من أطلعه الله عليه من خَلْقه { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } أي: فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع ، { مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير، تعالى وتقدس.{ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ } يقول تعالى آمرًا رسوله عليه الصلاة والسلام بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي: لا مغير لها ولا محرف ولا مؤوّل ، { وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك، فإنه لا ملجأ لك من الله ، { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ) أي: اجلس { مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } يذكرون الله ويهللونه، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه، ويسألونه بكرة وعشيًا من عباد الله { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء ،{ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } لا تجاوزهم إلى غيرهم: يعني: تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة ، { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعًا له ولا محبًا لطريقته، ولا تغبطه بما هو فيه{ وَقُلِ } وقل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به هو { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } الذي لا مرية فيه ولا شك { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } هذا من باب التهديد والوعيد الشديد؛ ولهذا قال: { إِنَّا أَعْتَدْنَا } أرصدنا { لِلظَّالِمِينَ } وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } سورها،{ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ) ماء غليظ يجمع الأوصاف الرذيلة كلها ، فهو أسود منتن غليظ حار { يَشْوِي الْوُجُوهَ } من حره، إذا أراد الكافر أن يشربه وقَرّبه من وجهه، شواه حتى يسقط جلد وجهه فيه { بِئْسَ الشَّرَابُ }كما قال في الآية الأخرى: { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } [محمد:15] { وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } منزلا ومَقِيلا ومجتمعًا وموضعًا للارتفاق { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة، { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } والعدن: الإقامة { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ } من تحت غرفهم ومنازلهم { يُحَلَّوْنَ } من الحلية { فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ } لباس رقاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها { وَإِسْتَبْرَقٍ ) فغليظ الديباج وفيه بريق { مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ } الاتكاء قيل: الاضطجاع وقيل التربع في الجلوس{ نِعْمَ الثَّوَابُ } نعمت الجنة ثوابًا على أعمالهم { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } أي: حسنت منزلا ومقيلا ومقامًا {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا}جعل الله {لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} بستانين { مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَ ا بِنَخْلٍ } بالنخل المحدقة في جنباتهما { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا } خلالهما الزروع { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا } خرجت ثمرها { وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } أي: ولم تنقص منه شيئًا { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا } والأنهار متفرقة فيهما هاهنا وهاهنا.{ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } ثمار { فَقَالَ} صاحب هاتين الجنتين { لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } يجادله ويخاصمه، يفتخر عليه ويترأس{ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا } أكثر خدمًا وحشمًا وولدًا ، قال قتادة: تلك -والله-أمنية الفاجر: كثرة المال وعزة النفر { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد { قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا } ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } كائنة { وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا }ولئن كان معاد ورجعة وَمَرَدٌّ إلى الله، ليكونَنّ لي هناك أحسن من هذا لأني مُحظى عند ربي، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا { قَالَ لَهُ صَاحِبُه}المؤمن { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } واعظًا له وزاجرًا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا } ؟ وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه، الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين { لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي } لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالربوبية والوحدانية { وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا } بل هو الله المعبود وحده لا شريك له { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ } حمدت الله على ما أنعم به عليك و{ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده أو ماله، فليقل: مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ { إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا (39) ) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ } في الدار الآخرة { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا } أي: على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى { حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ } عذابًا من السماء { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)} ترابًا أملس، لا يثبت فيه قَدم.وقال ابن عباس: كالجُرز الذي لا ينبت شيئًا { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا } غائرًا في الأرض ، يطلب أسفلها كما قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } [الملك:30] { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } والمقصود أنه وقع به ما خَوَّفه به المؤمن على جنته، التي اغتر بها وألهته عن الله، عز وجل { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } وقال قتادة: يُصفّق كفيه متأسفًا متلهفًا على الأموال التي أذهبها عليها { وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ } عشيرة أو ولد{ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ } في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله، فلا منقذ منه { الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } هنالك الموالاة لله، أي:كل أحد من مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب، كقوله: { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } [غافر:84] { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } الأعمال التي تكون لله، عز وجل، ثوابها خير، وعاقبتها حميدة رشيدة، كلها خير{ وَاضْرِبْ } يا محمد { لَهُمْ } للناس { مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } في زوالها وفنائها وانقضائها { كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ } ما فيها من الحَبّ، فشب وحسن، وعلاه الزهر والنور والنضرة { فَأَصْبَحَ هَشِيمًا } يابسا { تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ }تفرقه وتطرحه ذات يمين وشمال { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } قادر { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } كقوله { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا } قال ابن عباس: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها. واختاره ابن جرير، رحمه الله{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } تذهب من أماكنها وتزول { وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } بادية ظاهرة ،ليس فيها مَعْلَم لأحد ، ولا بناءَ ولا شَجَر { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } وجمعناهم، الأولين والآخرين، فلم نترك منهم ، صغيرًا ولا كبيرًا { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا } جميع الخلائق يقومون بين يدي الله { لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } هذا تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد{ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا } ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ} كتاب الأعمال، الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة، { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا } أي: يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا } لا يترك ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا ولا عملا وإن صغر { إِلا أَحْصَاهَا } ضبطها، وحفظها { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } من خير أو شر { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا بقدرته وحكمته وعدله، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء:40] { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ } لجميع الملائكة { اسْجُدُوا لآدَمَ } سجود تشريف وتكريم وتعظيم { فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } فإنه خلق من مارج من نار { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } خرج عن طاعة الله؛ فإن الفسق هو الخروج { أَفَتَتَّخِذُون َهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي } أي: بدلا عني؛ { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } ولا كانوا إذ ذاك موجودين { وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) } أعوانًا { وَيَوْمَ } القيامة { يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) في دار الدنيا، ادعوهم اليوم، ينقذونكم مما أنتم فيه { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } لهؤلاء المشركين، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا } وأنه يفرق بينهم في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ } عاينوا جهنم حين جيء بها { َظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ) تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها{ وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} بينا { فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاس } ووضحنا لهم الأمور، وفصلناها، مِنْ كُلِّ مَثَلٍ (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا } المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى } الحق البين الظاهر، فما منعهم أن يؤمنوا { وَيَسْتَغْفِرُو ا رَبَّهُمْ } ما منعهم إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانًا { إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم، { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا } أي: يرونه عيانًا مواجهة { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ } من صدقهم وآمن بهم { وَمُنْذِرِينَ } مَنْ كذبهم وخالفهم { وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } ليضعفوا به الحق الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم { وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا } اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب { هُزُوًا } أي: سخروا منهم في ذلك، وهو أشد التكذيب { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} وأي عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله { فَأَعْرَضَ عَنْهَ } تناساها ولم يصغ لها، ولا ألقى إليها بالا { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة. { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أغطية وغشاوة { أَنْ يَفْقَهُوهُ } لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } أي: صمما معنويا عن الرشاد { وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ } ربك يا محمد غفور ذو رحمة واسعة { لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ }، كَمَا قَالَ: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } [فاطر:45] { بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا } ليس لهم عنه محيد ولا محيص ولا معدل { وَتِلْكَ الْقُرَى ) الأمم السالفة والقرون الخالية (أَهْلَكْنَاهُم لَمَّا ظَلَمُوا } أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا } جعلناه إلى مدة معلومة ووقت لا يزيد ولا ينقص { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ) يوشع بن نون { لا أَبْرَحُ } لا أزال سائرا { حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } المكان الذي فيه مجمع البحرين {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} أسير دهرا من الزمان ، وسبب قوله هذا الكلام: أنه ذكر له أن عبدًا من عباد الله بمجمع البحرين، عنده من العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الذهاب إليه { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا } وكان قد أمر بحمل حوت مملوح معه، وقيل له: متى فقدتَ الحوت فهو ثَمّة. فسارا حتى بلغا مجمع البحرين؛ سقط الحوت في البحر وجعل يسير فيه، والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده؛ ولهذا قال: { فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا } أي: مثل السَرَب في الأرض{ فَلَمَّا جَاوَزَا } ذهبا عن المكان الذي نسياه فيه { قَالَ } موسى { لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } تعبًا { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ } طريقه { فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } هذا الذي نطلب { فَارْتَدَّا } رجعا { عَلَى آثَارِهِمَا } طريقهما { قَصَصًا }يقصان أثر مشيهما، ويقفوان أثرهما.{ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } وهذا هو الخضر، عليه السلام { قَالَ لَهُ مُوسَى } بتلطف { هَلْ أَتَّبِعُكَ } أصحبك وأرافقك، { عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا } مما علمك الله شيئًا، أسترشد به في أمري، من علم نافع وعمل صالح { قَالَ } الخضر لموسى { إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } أنت لا تقدر على صحبتي { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } فإنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه، ولكنْ ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك { قَالَ } له موسى { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا } على ما أرى من أمورك { وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } ولا أخالفك في شيء { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ } ابتداءً { حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني { فَانْطَلَقَا } لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا } قام الخضر فخرقها { قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } منكرًا. وقال قتادة عجبًا. فعندها { قَالَ } الخضر مذكرا { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } هذا الصنيع فعلته قصدًا، وهو من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبرًا، ولها داخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت { قَالَ } موسى{ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا } أي: لا تضيق عليّ وتُشدد علىّ
{ فَانْطَلَقَا } بعد ذلك { حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ } موسى { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً } صغيرة لم تعمل الحنث ، ولا حملت إثمًا بعد، فقتلته؟! { بِغَيْرِ نَفْسٍ } بغير مستند لقتله { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا } ظاهر النكارة{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ } موسى { إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا } إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة { فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا } قد أعذرت إليّ مرة بعد مرة { فَانْطَلَقَا } بعد المرتين الأوليين { حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ }بخلاء { اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } يسقط { فَأَقَامَهُ } فردّه إلى حالة الاستقامة { قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا }لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانًا { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فهو فراق بيني وبينك { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ } بتفسير { مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا أَمَّا} هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى، عليه السلام { السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } ، فينتفع بها أصحابها المساكين { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ } صالحة جيدة { غَصْبًا } فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها { وَأَمَّا الْغُلامُ } الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا } يحملهما حبه على متابعته على الكفر { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا ) ولدا { خَيْرًا مِنْهُ زَكَاة وَأَقْرَبَ رُحْمًا } أزكى { وَأَمَّا الْجِدَارُ } إنما أصلحه { فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا } مال مدفون لهما { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } بلوغهما الحلم { وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة، إنما هو من رحمة الله { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } لكني أمرت به ووقفت عليه ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } هذا تفسير ما ضقت به ذرعًا، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء { وَيَسْأَلُونَكَ } كفار مكة، يا محمد { عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } عن خبره { قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ } أعطيناه ملكًا عظيمًا ممكنًا، فيه له من جميع ما يؤتى الملوك، من التمكين والجنود ، وآلات الحرب والحصارات؛ ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض{ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } مما يؤتى مثله الملوك، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الطرق والوسائل إلى فتح البلاد والأراضي وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك. قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببًا، والله أعلم.{ فَأَتْبَعَ سَبَبًا } قال قتادة: أي أتبع منازل الأرض ومعالمها { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه { وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا } أمة من الأمم { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا } خيره: إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ أو فدى ، فعرف عدله وإيمانه { قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ } أي: من استمر على كفره وشركه بربه { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } بالقتل { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا } شديدًا بليغًا وجيعًا أليمًا { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ } تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له { فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى } في الدار الآخرة عند الله، عز وجل، { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } معروفًا { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) ثم سلك طريقًا فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ } كلما مرّ بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل، فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم، واستباح أموالهم، وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما يستعين به مع جيوشه على أهل الإقليم المتاخم لهم { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا } ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا } مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا } أي: ثم سلك طريقًا من مشارق الأرض { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } وهما جبلان متناوحان بينهما ثُغْرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيهم فسادًا { وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا } لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس { قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا } أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالا يعطونه إياه، حتى يجعل بينهم وبينهم سدًا { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } أي: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ } ولكن ساعدوني ، بعملكم وآلات البناء{ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } والزبر: جمع زُبْرَة، وهي القطعة منه، وهي { حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ } حاذى به رءوس الجبلين طولا وعرضًا { قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا } أجج عليه النار حتى صار كله نارًا { قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } وهو النحاس المذاب { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } أن يصعدوا فوق هذا السد { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} من أسفله { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث في الأرض والفساد { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي } إذا اقترب الوعد الحق { جَعَلَهُ دَكَّاءَ } ساواه بالأرض { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا } كائنًا لا محالة { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ ) الناس {يَوْمَئِذٍ } يوم يدك هذا السد ي { يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } يخرجون على الناس، ويفسدون عليهم أموالهم ويتلفون أشياءهم، وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } قرن ينفخ فيه { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) أحضرنا الجميع للحساب { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا } يبرزها لهم ويظهرها { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي } تغافلوا وتعاموا وتصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق { وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } لا يعقلون عن الله أمره ونهيه { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } اعتقدوا أنهم يصلح لهم ذلك وينتفعون به { إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نزلا } أعد الله لهم جهنم يوم القيامة منزلا { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ } نخبركم { بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } جحدوا آيات الله في الدنيا، وبراهينه التي أقام على وحدانيته، وصدق رسله، وكذبوا بالدار الآخرة { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } لا نثقل موازينهم؛ لأنها خالية عن { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا } أي: إنما جازيناهم بهذا جهنم، بسبب كفرهم {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا } استهزءوا بهم، وكذبوهم أشد التكذيب { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ } الفردوس: ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها { نزلا } ضيافة ، فإن النزل هو الضيافة { خَالِدِينَ فِيهَا } مقيمين ساكنين فيها، لا يظعنون عنها أبدًا { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } لا يختارون غيرها، ولا يحبون سواها،ومع هذا الدوام والخلود السرمدي، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنًا ولا رحلة ولا بدلا { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي } قل يا محمد: لو كان ماء البحر مدادًا للقلم الذي تكتب به كلمات ربى وحكمه وآياته الدالة عليه { لَنَفِدَ الْبَحْرُ } لفرغ البحر قبل يفرغ من كتابة ذلك { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } بمثل البحر آخر، ثم آخر، وهلم جرا { قُلْ } لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم: { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } ، فإني لا أعلم الغيب فيما (9) أخبرتكم به من الماضي، عما سألتم { يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ } الذي أدعوكم إلى عبادته { إِلَهٌ وَاحِدٌ } لا شريك له { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ } ثوابه وجزاءه الصالح، { فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا } موافقًا لشرع الله { وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، يرويه عن ربه، عز وجل، أنه قال: "أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك". رواه مسلم .
تم بفضل الله اختصار تفسير سورة الكهف ولله الحمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخوتي الكرام
أتشرف بمشاركتم هذا المنتدى الغالي ، وأزف على استحياء ، مجهود بذلته في اختصار تفسير ابن كثير رحمه الله ، أنقل بعضه إليكم ، أطلب به منكم المشورة والتوجيه ، والغرض من هذا الإختصار تقريب علم ابن كثير رحمه الله لإخواننا أهل الإسلام ، لعل الله يكتب لنا به مغفرة ، أو يصلح به شأننا ، فمن وجد منكم لي عيبا فليربت على كتفي موجها إياي لأتدارك ما كان من خطأ أو تقصير ، ومن رأى بعيني أخوته لنا في الله خيرا فليدعو لي بالتوفيق لإكماله ، لعل الله يرحمنا بجنته لنصحنا فيه
وأنقل لإحبتي في الله
اختصار سورة الكهف
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } حمد الله نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد، صلوات الله وسلامه عليه؛ فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا } لم يجعل فيه اعوجاجًا ولا زيغًا ولا ميلا بل جعله معتدلا { قَيِّمًا } مستقيمًا { لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا } لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذره عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة { مِنْ لَدُنْهُ } من عند الله الذي لا يُعَذّب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد { وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ } بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } مثوبة عند الله جميلة ،{ مَاكِثِينَ فِيهِ } في ثوابهم عند الله، وهو الجنة، خالدين فيه { أَبَدًا } دائمًا لا زوال له ولا انقضاء{ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } وهم مشركو العرب في قولهم: نحن نعبد الملائكة، وهم بنات الله.{ مَا لَهُمْ بِهِ} بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه {مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ } أسلافهم { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، { إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا } ، { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ } أي مهلك نفسك بحزنك عليهم {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ } القرآن { أَسَفًا }لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا } جعل الله الدنيا دارًا فانية مُزيَّنة بزينة زائلة{لِنَبْلُو هُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } وجعلها دار اختبار لا دار قرار { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فنجعل كل شيء عليها هالكًا { صَعِيدًا جُرُزًا } لا يُنْبِت ولا ينتفع به{ أَمْ حَسِبْتَ } يا محمد { أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } أمرهم عجيبا في قدرتنا وسلطاننا ، قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك! وأما "الكهف" فهو: الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون. وأما "الرقيم : لوح من حجارة، كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف والله أعلم { أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ } فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فَهَرَبوا منهم فَلَجَؤُوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، {فَقَالُوا} حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم { رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً } أي: هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا { وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } أي اجعل عاقبتنا رشدًا { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } من رقدتهم تلك، { لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ } المختلفين فيهم { أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } قيل: عددًا وقيل: غاية فإن الأمد الغاية { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ، الذين قد عتوا وعَسَوا في دين الباطل {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} اعترفوا له بالوحدانية، وشهدوا أنه لا إله إلا هو { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }{ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } [الفتح:4]، { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } وصَبَّرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، { إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } ذكر غير واحد من المفسرين أن ملكهم، استحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله عز وجل؛ { لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا } أي: لا يقع منا هذا أبدًا؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا؛ ولهذا قال عنهم: { لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } باطِلا وكذبًا وبهتانًا.{ هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } هَلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحًا صحيحًا؟! { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك. فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله: { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوه ُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ } أي: وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم ففارقوهم بأبدانكم { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ } أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ } الذي أنتم فيه، { مِرفَقًا } أي: أمرًا ترتفقون به. فعند ذلك خرجوا هُرابًا إلى الكهف، فأووا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتَطَلَّبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعَمَّى الله عليه خبرهم. كما فعل بنبيه صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق، حين لجأ إلى غار ثور ، فقصة هذا أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف ،{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ } تميل { ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ } أي: في متسع منه داخلا بحيث لا تمسهم؛ إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم ، { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } حيث أرشدهم تعالى إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم؛ { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } أي: هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم، فإنه من هداه الله اهتدى، ومن أضله فلا هادي له { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } قال ابن عباس: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض.{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } الفناء.{ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم، لما له في ذلك من الحجة والحكمة البالغة، والرحمة الواسعة. { وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ ) وكما أرقدناهم بعثناهم {لِيَتَسَاءَلُو بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ )كم رقدتم؟ { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تَرَدّد في كثرة نومهم، فالله أعلم، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك فقالوا: { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ } أي: فضتكم { هذه إِلَى الْمَدِينَةِ } أي: مدينتكم التي خرجتم منها { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا } أطيب طعامًا، { فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } في خروجه وذهابه، وشرائه وإيابه، وَلْيَتَخَفَّ كل ما يقدر عليه { وَلا يُشْعِرَنَّ } أي: ولا يعلمن { بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } إن علموا بمكانكم، { يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونهم إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا،{ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا } الدنيا ولا في الآخرة، { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم { فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) والظاهر أنهم أصحاب الكلمة والنفوذ { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا }. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" يحذر ما فعلوا . (رواه البخاري) . { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ } فحكى ثلاثة أقوال، فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضَعَّف القولين الأولين بقوله: { رَجْمًا بِالْغَيْبِ } أي: قولا بلا علم، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر،{ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ } إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، { مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } من الناس.قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله، عز وجل، كانوا سبعة. { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا } سهلا هينًا؛ ففي معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة { وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا } فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجما بالغيب{ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّه } هذا إرشاد من الله لرسوله الله صلوات الله وسلامه عليه، إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل، أن يرد ذلك إلى مشيئة الله، عز وجل، علام الغيوب { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } قيل: معناه إذا نسيت الاستثناء، فاستثن عند ذكرك له ، أن تقول: إن شاء الله. ويحتمل في الآية وجه آخر، وهو أن يكون الله، عز وجل، قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان، كما قال فتى موسى: { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [الكهف: 63] وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان، فذكر الله سبب للذكر { وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا }إذا سئُلت عن شيء لا تعلمه، فاسأل الله فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد ، وقيل في تفسيره غير ذلك في تفسيره، والله أعلم { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } خبَر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم ، وأنه كان مقداره ثلاثمائة وتسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله، عز وجل فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا { لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: لا يعلم ذلك إلا هو أو من أطلعه الله عليه من خَلْقه { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } أي: فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع ، { مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير، تعالى وتقدس.{ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ } يقول تعالى آمرًا رسوله عليه الصلاة والسلام بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي: لا مغير لها ولا محرف ولا مؤوّل ، { وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك، فإنه لا ملجأ لك من الله ، { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ) أي: اجلس { مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } يذكرون الله ويهللونه، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه، ويسألونه بكرة وعشيًا من عباد الله { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء ،{ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } لا تجاوزهم إلى غيرهم: يعني: تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة ، { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعًا له ولا محبًا لطريقته، ولا تغبطه بما هو فيه{ وَقُلِ } وقل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به هو { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } الذي لا مرية فيه ولا شك { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } هذا من باب التهديد والوعيد الشديد؛ ولهذا قال: { إِنَّا أَعْتَدْنَا } أرصدنا { لِلظَّالِمِينَ } وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } سورها،{ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ) ماء غليظ يجمع الأوصاف الرذيلة كلها ، فهو أسود منتن غليظ حار { يَشْوِي الْوُجُوهَ } من حره، إذا أراد الكافر أن يشربه وقَرّبه من وجهه، شواه حتى يسقط جلد وجهه فيه { بِئْسَ الشَّرَابُ }كما قال في الآية الأخرى: { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } [محمد:15] { وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } منزلا ومَقِيلا ومجتمعًا وموضعًا للارتفاق { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة، { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } والعدن: الإقامة { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ } من تحت غرفهم ومنازلهم { يُحَلَّوْنَ } من الحلية { فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ } لباس رقاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها { وَإِسْتَبْرَقٍ ) فغليظ الديباج وفيه بريق { مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ } الاتكاء قيل: الاضطجاع وقيل التربع في الجلوس{ نِعْمَ الثَّوَابُ } نعمت الجنة ثوابًا على أعمالهم { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } أي: حسنت منزلا ومقيلا ومقامًا {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا}جعل الله {لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} بستانين { مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَ ا بِنَخْلٍ } بالنخل المحدقة في جنباتهما { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا } خلالهما الزروع { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا } خرجت ثمرها { وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } أي: ولم تنقص منه شيئًا { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا } والأنهار متفرقة فيهما هاهنا وهاهنا.{ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } ثمار { فَقَالَ} صاحب هاتين الجنتين { لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } يجادله ويخاصمه، يفتخر عليه ويترأس{ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا } أكثر خدمًا وحشمًا وولدًا ، قال قتادة: تلك -والله-أمنية الفاجر: كثرة المال وعزة النفر { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد { قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا } ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } كائنة { وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا }ولئن كان معاد ورجعة وَمَرَدٌّ إلى الله، ليكونَنّ لي هناك أحسن من هذا لأني مُحظى عند ربي، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا { قَالَ لَهُ صَاحِبُه}المؤمن { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } واعظًا له وزاجرًا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا } ؟ وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه، الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين { لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي } لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالربوبية والوحدانية { وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا } بل هو الله المعبود وحده لا شريك له { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ } حمدت الله على ما أنعم به عليك و{ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده أو ماله، فليقل: مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ { إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا (39) ) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ } في الدار الآخرة { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا } أي: على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى { حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ } عذابًا من السماء { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)} ترابًا أملس، لا يثبت فيه قَدم.وقال ابن عباس: كالجُرز الذي لا ينبت شيئًا { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا } غائرًا في الأرض ، يطلب أسفلها كما قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } [الملك:30] { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } والمقصود أنه وقع به ما خَوَّفه به المؤمن على جنته، التي اغتر بها وألهته عن الله، عز وجل { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } وقال قتادة: يُصفّق كفيه متأسفًا متلهفًا على الأموال التي أذهبها عليها { وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ } عشيرة أو ولد{ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ } في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله، فلا منقذ منه { الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } هنالك الموالاة لله، أي:كل أحد من مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب، كقوله: { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } [غافر:84] { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } الأعمال التي تكون لله، عز وجل، ثوابها خير، وعاقبتها حميدة رشيدة، كلها خير{ وَاضْرِبْ } يا محمد { لَهُمْ } للناس { مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } في زوالها وفنائها وانقضائها { كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ } ما فيها من الحَبّ، فشب وحسن، وعلاه الزهر والنور والنضرة { فَأَصْبَحَ هَشِيمًا } يابسا { تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ }تفرقه وتطرحه ذات يمين وشمال { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } قادر { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } كقوله { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا } قال ابن عباس: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها. واختاره ابن جرير، رحمه الله{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } تذهب من أماكنها وتزول { وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } بادية ظاهرة ،ليس فيها مَعْلَم لأحد ، ولا بناءَ ولا شَجَر { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } وجمعناهم، الأولين والآخرين، فلم نترك منهم ، صغيرًا ولا كبيرًا { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا } جميع الخلائق يقومون بين يدي الله { لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } هذا تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد{ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا } ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ} كتاب الأعمال، الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة، { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا } أي: يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا } لا يترك ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا ولا عملا وإن صغر { إِلا أَحْصَاهَا } ضبطها، وحفظها { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } من خير أو شر { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا بقدرته وحكمته وعدله، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء:40] { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ } لجميع الملائكة { اسْجُدُوا لآدَمَ } سجود تشريف وتكريم وتعظيم { فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } فإنه خلق من مارج من نار { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } خرج عن طاعة الله؛ فإن الفسق هو الخروج { أَفَتَتَّخِذُون َهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي } أي: بدلا عني؛ { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } ولا كانوا إذ ذاك موجودين { وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) } أعوانًا { وَيَوْمَ } القيامة { يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) في دار الدنيا، ادعوهم اليوم، ينقذونكم مما أنتم فيه { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } لهؤلاء المشركين، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا } وأنه يفرق بينهم في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ } عاينوا جهنم حين جيء بها { َظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ) تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها{ وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} بينا { فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاس } ووضحنا لهم الأمور، وفصلناها، مِنْ كُلِّ مَثَلٍ (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا } المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى } الحق البين الظاهر، فما منعهم أن يؤمنوا { وَيَسْتَغْفِرُو ا رَبَّهُمْ } ما منعهم إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانًا { إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم، { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا } أي: يرونه عيانًا مواجهة { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ } من صدقهم وآمن بهم { وَمُنْذِرِينَ } مَنْ كذبهم وخالفهم { وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } ليضعفوا به الحق الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم { وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا } اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب { هُزُوًا } أي: سخروا منهم في ذلك، وهو أشد التكذيب { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} وأي عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله { فَأَعْرَضَ عَنْهَ } تناساها ولم يصغ لها، ولا ألقى إليها بالا { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة. { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أغطية وغشاوة { أَنْ يَفْقَهُوهُ } لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } أي: صمما معنويا عن الرشاد { وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ } ربك يا محمد غفور ذو رحمة واسعة { لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ }، كَمَا قَالَ: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } [فاطر:45] { بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا } ليس لهم عنه محيد ولا محيص ولا معدل { وَتِلْكَ الْقُرَى ) الأمم السالفة والقرون الخالية (أَهْلَكْنَاهُم لَمَّا ظَلَمُوا } أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا } جعلناه إلى مدة معلومة ووقت لا يزيد ولا ينقص { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ) يوشع بن نون { لا أَبْرَحُ } لا أزال سائرا { حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } المكان الذي فيه مجمع البحرين {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} أسير دهرا من الزمان ، وسبب قوله هذا الكلام: أنه ذكر له أن عبدًا من عباد الله بمجمع البحرين، عنده من العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الذهاب إليه { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا } وكان قد أمر بحمل حوت مملوح معه، وقيل له: متى فقدتَ الحوت فهو ثَمّة. فسارا حتى بلغا مجمع البحرين؛ سقط الحوت في البحر وجعل يسير فيه، والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده؛ ولهذا قال: { فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا } أي: مثل السَرَب في الأرض{ فَلَمَّا جَاوَزَا } ذهبا عن المكان الذي نسياه فيه { قَالَ } موسى { لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } تعبًا { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ } طريقه { فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } هذا الذي نطلب { فَارْتَدَّا } رجعا { عَلَى آثَارِهِمَا } طريقهما { قَصَصًا }يقصان أثر مشيهما، ويقفوان أثرهما.{ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } وهذا هو الخضر، عليه السلام { قَالَ لَهُ مُوسَى } بتلطف { هَلْ أَتَّبِعُكَ } أصحبك وأرافقك، { عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا } مما علمك الله شيئًا، أسترشد به في أمري، من علم نافع وعمل صالح { قَالَ } الخضر لموسى { إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } أنت لا تقدر على صحبتي { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } فإنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه، ولكنْ ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك { قَالَ } له موسى { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا } على ما أرى من أمورك { وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } ولا أخالفك في شيء { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ } ابتداءً { حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني { فَانْطَلَقَا } لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا } قام الخضر فخرقها { قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } منكرًا. وقال قتادة عجبًا. فعندها { قَالَ } الخضر مذكرا { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } هذا الصنيع فعلته قصدًا، وهو من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبرًا، ولها داخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت { قَالَ } موسى{ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا } أي: لا تضيق عليّ وتُشدد علىّ
{ فَانْطَلَقَا } بعد ذلك { حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ } موسى { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً } صغيرة لم تعمل الحنث ، ولا حملت إثمًا بعد، فقتلته؟! { بِغَيْرِ نَفْسٍ } بغير مستند لقتله { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا } ظاهر النكارة{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ } موسى { إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا } إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة { فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا } قد أعذرت إليّ مرة بعد مرة { فَانْطَلَقَا } بعد المرتين الأوليين { حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ }بخلاء { اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } يسقط { فَأَقَامَهُ } فردّه إلى حالة الاستقامة { قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا }لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانًا { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فهو فراق بيني وبينك { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ } بتفسير { مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا أَمَّا} هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى، عليه السلام { السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } ، فينتفع بها أصحابها المساكين { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ } صالحة جيدة { غَصْبًا } فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها { وَأَمَّا الْغُلامُ } الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا } يحملهما حبه على متابعته على الكفر { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا ) ولدا { خَيْرًا مِنْهُ زَكَاة وَأَقْرَبَ رُحْمًا } أزكى { وَأَمَّا الْجِدَارُ } إنما أصلحه { فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا } مال مدفون لهما { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } بلوغهما الحلم { وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة، إنما هو من رحمة الله { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } لكني أمرت به ووقفت عليه ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } هذا تفسير ما ضقت به ذرعًا، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء { وَيَسْأَلُونَكَ } كفار مكة، يا محمد { عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } عن خبره { قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ } أعطيناه ملكًا عظيمًا ممكنًا، فيه له من جميع ما يؤتى الملوك، من التمكين والجنود ، وآلات الحرب والحصارات؛ ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض{ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } مما يؤتى مثله الملوك، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الطرق والوسائل إلى فتح البلاد والأراضي وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك. قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببًا، والله أعلم.{ فَأَتْبَعَ سَبَبًا } قال قتادة: أي أتبع منازل الأرض ومعالمها { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه { وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا } أمة من الأمم { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا } خيره: إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ أو فدى ، فعرف عدله وإيمانه { قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ } أي: من استمر على كفره وشركه بربه { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } بالقتل { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا } شديدًا بليغًا وجيعًا أليمًا { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ } تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له { فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى } في الدار الآخرة عند الله، عز وجل، { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } معروفًا { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) ثم سلك طريقًا فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ } كلما مرّ بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل، فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم، واستباح أموالهم، وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما يستعين به مع جيوشه على أهل الإقليم المتاخم لهم { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا } ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا } مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا } أي: ثم سلك طريقًا من مشارق الأرض { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } وهما جبلان متناوحان بينهما ثُغْرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيهم فسادًا { وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا } لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس { قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا } أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالا يعطونه إياه، حتى يجعل بينهم وبينهم سدًا { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } أي: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ } ولكن ساعدوني ، بعملكم وآلات البناء{ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } والزبر: جمع زُبْرَة، وهي القطعة منه، وهي { حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ } حاذى به رءوس الجبلين طولا وعرضًا { قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا } أجج عليه النار حتى صار كله نارًا { قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } وهو النحاس المذاب { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } أن يصعدوا فوق هذا السد { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} من أسفله { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث في الأرض والفساد { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي } إذا اقترب الوعد الحق { جَعَلَهُ دَكَّاءَ } ساواه بالأرض { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا } كائنًا لا محالة { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ ) الناس {يَوْمَئِذٍ } يوم يدك هذا السد ي { يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } يخرجون على الناس، ويفسدون عليهم أموالهم ويتلفون أشياءهم، وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } قرن ينفخ فيه { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) أحضرنا الجميع للحساب { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا } يبرزها لهم ويظهرها { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي } تغافلوا وتعاموا وتصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق { وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } لا يعقلون عن الله أمره ونهيه { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } اعتقدوا أنهم يصلح لهم ذلك وينتفعون به { إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نزلا } أعد الله لهم جهنم يوم القيامة منزلا { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ } نخبركم { بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } جحدوا آيات الله في الدنيا، وبراهينه التي أقام على وحدانيته، وصدق رسله، وكذبوا بالدار الآخرة { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } لا نثقل موازينهم؛ لأنها خالية عن { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا } أي: إنما جازيناهم بهذا جهنم، بسبب كفرهم {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا } استهزءوا بهم، وكذبوهم أشد التكذيب { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ } الفردوس: ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها { نزلا } ضيافة ، فإن النزل هو الضيافة { خَالِدِينَ فِيهَا } مقيمين ساكنين فيها، لا يظعنون عنها أبدًا { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } لا يختارون غيرها، ولا يحبون سواها،ومع هذا الدوام والخلود السرمدي، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنًا ولا رحلة ولا بدلا { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي } قل يا محمد: لو كان ماء البحر مدادًا للقلم الذي تكتب به كلمات ربى وحكمه وآياته الدالة عليه { لَنَفِدَ الْبَحْرُ } لفرغ البحر قبل يفرغ من كتابة ذلك { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } بمثل البحر آخر، ثم آخر، وهلم جرا { قُلْ } لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم: { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } ، فإني لا أعلم الغيب فيما (9) أخبرتكم به من الماضي، عما سألتم { يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ } الذي أدعوكم إلى عبادته { إِلَهٌ وَاحِدٌ } لا شريك له { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ } ثوابه وجزاءه الصالح، { فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا } موافقًا لشرع الله { وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، يرويه عن ربه، عز وجل، أنه قال: "أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك". رواه مسلم .
تم بفضل الله اختصار تفسير سورة الكهف ولله الحمد