بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى التسليم أما بعد :
فمن توفيق الله للمسلم أن يهديه إلى الصراط المستقيم ، وأن يمنَّ عليه بنعمة الإيمان ،تلكم النعمة العظيمة ، والشجرة الطيبة ، التي من حرمها فقد حُرم ، ومن إرادة الله بالمسلم خيراً أن يسلك به طريق طلب العلم ، ذلكم الطريق الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) ([1]) وقال عليه الصلاة والسلام : (من سلك طريقاً يلتمس به علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ) ([2]) نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة .
ومن النعم العظيمة أن ييسر الله للعبد مدارسة مسألة أو بحثها أو تعليمها للناس ، وقد منَّ الله علي ببحث مسألة من مسائل العلم وهي: (هل جاحد العارية يعتبر سارقاً) وعزمت على جمع أقوال أهل العلم فيها والنظر في الأدلة ، والخروج بمرجح منها ..
وقد استعنت بالله جل وعلا متبرئا من حولي وقوتي..

حكم من يأخذ العارية ([3]) ويجحدها هل يعتبر سارقاً؟
تحرير محل النزاع:
اتفق السلف والخلف بعدهم على أن ليس على خائن ولا مختلس ولا منتهب قطع. ([4])
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع . ([5])

واختلف العلماء رحمهم الله تعالى فيمن يستعير المتاع الذي يبلغ النصاب ثم يجحده هل تُقطع يده على قولين :
القول الأول:
أنه لا قطع عليه. وهذا قول : الثوري ([6]) ، و الحنفية ([7]) ، والمالكية ([8]) ، وبه قال الشافعي وأصحابه ([9]) ، ورواية عن الإمام أحمد اختارها الخرقي وابن شاقلا ، وأبو الخطاب ، وابن منجا ، وابن قدامة رحمهم الله جميعاً. ([10])
قال ابن عبد البر: جمهور الفقهاء على ما قاله مالك في المستعير الجاحد أنه لا قطع عليه وهو قول أهل الحجاز والعراق و أهل الشام ومصر. ([11])


القول الثاني:
أنه يقطع جاحد العارية . وهو مذهب سعيد بن المسيب والليث و إسحاق ([12]) ، و ابن حزم ([13]) وهو المذهب عند الحنابلة كما نقله الجماعة عن الإمام أحمد رحمه الله ([14])
وجزم به ابن هبيرة ، وصاحب الوجيز([15]) والمنور ([16])، وقال في المحرر ([17]) والزركشي([18]) هذا الأشهر.
قال في الفروع : نقله واختاره الجماعة ([19]) ،وجزم به القاضي في الجامع الصغير ([20]) وأبو الخطاب ([21]) والشريف في خلافيهما ، وابن عقيل في المفردات ، وابن البناء، وهو من مفردات المذهب. ([22]) وهو اختيار ابن القيم رحمه الله. ([23])
أدلة القول الأول :
1-قوله تعالى : ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭼ المائدة: ٣٨

وجه الاستدلال:
أن الله جل وعلا رتَّب حكم القطع على السارق، وجاحد العارية ليس بسارق .
2-ما جاء في البخاري ومسلم ([24]) من طريق ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّ ةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالَ ، وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا ، وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا.
وما جاء في صحيح مسلم قال : حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِي عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُقْطَعَ يَدُهَا فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَكَلَّمُوهُ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيهَا. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ اللَّيْثِ وَيُونُسَ.
وما جاء في البخاري : قال حدَّثَنَا عَلِي حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ ذَهَبْتُ أَسْأَلُ الزُّهْرِي عَنْ حَدِيثِ الْمَخْزُومِيَّ ةِ فَصَاحَ بِي ، قُلْتُ لِسُفْيَانَ فَلَمْ تَحْتَمِلْهُ عَنْ أَحَدٍ قَالَ وَجَدْتُهُ فِى كِتَابٍ كَانَ كَتَبَهُ أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى عَنِ الزُّهْرِي عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِى مَخْزُومٍ سَرَقَتْ ، فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَجْتَرِئْ أَحَدٌ أَنْ يُكَلِّمَهُ ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، فَقَالَ « إِنَّ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ ، لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُ يَدَهَا » ([25])

وجه الاستدلال:
هذه المرأة المخزومية اشتهرت باستعارة المتاع وجحده كما جاء في رواية مسلم ولكن دلت الأحاديث الأخرى المخرجة في الصحيحين وغيره، أنها لم تقطع على استعارتها للمتاع ، وإنما قطعت على السرقة ، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث
( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ) فارتفع الإشكال بهذا . ([26])
قال ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة هذه المرأة المخزومية هي:فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد ، هي التي قطع رسول الله صلى الله عليه و سلم يدها لأنها سرقت حليا فكلمت قريش أسامة. ([27])
وقال ابن الجوزي: أسلمت وبايعت وإنما سرقت في غزاة الفتح مرت بركب نزول فأخذت عيبة لهم فأخذوها فأوثقوها فلما أصبحوا أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاذت بحقوي أم سلمة فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فافتكت يداها من حقويها وقال والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر بها فقطعت يدها فخرجت تقطر يدها دما حتى دخلت على امرأة أسيد بن الحضير فآوتها وقد زعم قوم أن السارقة أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد ([28]).

قلت : والصحيح الأول.


قال القرطبي: قولها أي – عائشة- رضي الله عنها : (إن قريشًا أهمَّهم شأن المخزومية التي سرقت ) ؛ هذا هو الصحيح : أن هذه المرأة سرقت ، وقطعت يدها لأجل سرقتها ، لا لأجل جحد المتاع . ويدلّ على صحة ذلك أربعة أوجه :
أولها : إن رواية من روى : ( أنها سرقت ) ؛ أكثر وأشهر من رواية من قال : (إنَّها كانت تجحد المتاع).
وإنَّما انفرد معمر بذكر الجحد وحده من بين الأئمة الحفاظ ، وقد تابعه على ذلك من لا يعتد بحفظه كابن أخي ابن شهاب ونَمَطِه ، هذا قول ا لمحدِّثين. ([29])
قال الإشبيلي: اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي قِصَّةِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا: سَرَقَتْ أَكْثَرُ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا: اسْتَعَارَتْ. ([30])
وقال الزيلعي: وَذَكر بعضهمْ أَنَّ مَعْمَرَ بْنَ رَاشِد تفََّردَ بِِذكْرِ الْعارِيَّةِ في هذَا الْحدِيثِ مِنْ بَيْنِ سَائِر الروَاة، وَأَنَّ اللَّيْثَ راوي السَّرِقة تابعه عليه جماعةٌ، مِنْهمْ: يونس بْن يَزِيدَ، وَأَيُّوب بن موسى، وَسُفَيان بْن عيَيْنَة، وغيْرهم، فرووه عَنْ الزُّهْرِيِّ، كروَايةِ اللَّيْثِ، وَذكرَ أَنَّ بعضهمْ وافق مَعْمَرًا فِي رواية الْعاريَّةِ، لَكِنْ لَا يُقَاوَمُ مَنْ ذَكَرَ . ([31])

قلت : وقد نوقش : قال ابن جحر : سبقه لبعضه القاضي عياض ([32]) ، وهو يشعر بأنه لم يقف على رواية شعيب ويونس بموافقة معمر إذ لو وقف عليها لم يجزم بتفرد معمر وأن من وافقه كابن أخي الزهري ونمطه ولا زاد القرطبي نسبة ذلك للمحدثين إذ لا يعرف عن أحد من المحدثين أنه قرن شعيب بن أبي حمزة ويونس بن يزيد وأيوب بن موسى بابن أخي الزهري بل هم متفقون على أن شعيباً ويونس أرفع درجة في حديث الزهري من بن أخيه ومع ذلك فليس في هذا الاختلاف عن الزهري ترجيح بالنسبة إلى اختلاف الرواة عنه إلا لكون رواية سرقت متفقا عليها ورواية جحدت انفرد بها مسلم وهذا لا يدفع تقديم الجمع إذا أمكن بين الروايتين وقد جاء عن بعض المحدثين عكس كلام القرطبي فقال لم يختلف على معمر ولا على شعيب وهما في غاية الجلالة في الزهري وقد وافقهما ابن أخي الزهري وأما الليث ويونس وإن كانا في الزهري كذلك فقد اختلف عليهما فيه وأما إسماعيل بن أمية وإسحاق بن راشد فدون معمر وشعيب في الحفظ قلت:وكذا اختلف على أيوب بن موسى كما تقدم وعلى هذا فيتعادل الطريقان ويتعين الجمع فهو أولى من اطراح أحد الطريقين. ([33])
وسيأتي إن شاء الله الجمع بينهما في مناقشة الدليل الأول لأصحاب القول الثاني.

قال القرطبي:
ثانيها : إن معمرًا وغيره ممن روى هذه القِصَّة متفق : على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - حيث أنكر على أسامة - : (لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها) ، ثم أمر بتلك المرأة فقطعت .
وهذا يدلُّ دلالة قاطعة : على أن المرأة قطعت في السَّرِقة ؛ إذ لو كان قطعها لأجل جحد المتاع لكان ذكر السِّرِقة هنا لاغيًا ، لا فائدة له ، وإنما كان يقول : لو أن فاطمة جحدت المتاع لقطعت يدها .

وثالثها : إن جاحد المتاع خائن ، ولا قطع على خائن عند جمهور العلماء خلافًا لما ذهب إليه أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي من حديث جابر مرفوعًا : ( ليس على خائن ، ولا منتهب ، ولا مختلس قطع ). وقال : حديث حسن صحيح . وهذا نصٌّ؛ ولأنَّه لو كان في جَحْدُ المتاع قطعٌ لكان يلزم القطع كلَّ من جَحَد شيئًا من الأشياء ثمَّ ثبت عليه . وهذا لا قائل به فيما أعلم.
ورابعها : إنَّه لا تعارض بين رواية من روى : ( سرقت) ولا بين رواية من روى :
(جحدت ما استعارت )؛ إذ يمكن أن يقال : إن المرأة فعلت الأمرين ، لكن قطعت في السرقة ، لا في الجحد ، كما شهد به مساق الحديث ، فتأمله. ([34])


3- قال ابن المنذر : وقد يجوز أنها كانت تستعير المتاع وتجحده ثم سرقت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. ([35])

4-أن الشارع إنما أوجب القطع على السارق ، وجاحد العارية ليس بسارق ولدخوله في الخائن ، وقد أسقط عنه الشارع القطع. ([36])
5- أن المخزومية ذكرت بجحد العارية في الحديث لأنها كانت مشهورة بذلك وكانت صفة وعلامة عليها.
قال الخطابي: وإنما ذكرت الاستعارة والجحد في هذه القصة تعريفاً لها بخاص صفتها إذ كانت كثيرة الاستعارة حتى عرفت بذلك كما عرفت بأنها مخزومية إلاّ أنها لما استمر بها هذا الصنع ترقت إلى السرقة وتجرأت حيث سرقت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعها. ([37]) وتبع الخطابي في ذلك البيهقي ([38]) والنووي ([39]) .
وروى أبو حفص ابن شاهين في كتاب الحدود بإسناده مسعود بن الأسود قال: لما سرقت المرأة القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أعظمنا ذلك ، وكانت امرأة من قريش فجئنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمناه ، فقال : (تطهر خير لها) ([40]) وإنما ذُكرت الاسْتِعَارة والجحد في هذه القِصَّة تعريفاً لها بخاصِّ صِفَتِها إذ كانت الاستعارة والجحدُ معروفة بها ومن عادتِها كما عُرِفَت بأنَّها مَخْزُومية إلاَّ أنها لمَّا اسْتَمَرَّ بها هذا الصنيع ترقَّتْ إلى السَّرِقَة واجْتَرَأت عليها فأمرَ بها فقُطِعت. ([41])
6- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وهذا يدل على أنه إنما قطعها لسرقتها لا لأنها كانت تستعير المتاع وتجحده ، ولو كان ذلك لقال إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا استعار فيهم الشريف من المتاع وجحده تركوه. ([42])
أدلة القول الثاني:
1-ما جاء في صحيح مسلم قال : حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِي عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُقْطَعَ يَدُهَا فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَكَلَّمُوهُ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيهَا.
قال الإمام أحمد : لا أعرف شيئا يدفعه. ([43])

وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يقطع يدها إلا لأنها كانت تستعير المتاع وتجحده كما هو ظاهر الحديث.
وقد تابع معمر : ابن أخي الزهري وغيره وحسبك بمعمر في الزهري .
قالوا : وقد رواه عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد أن امرأة كانت تستعير المتاع على عهد رسول الله وتجحده ولا ترده فأمر رسول الله بقطعها.
ورواه معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال كانت امرأة مخزومية تستعير متاعا على جارتها وتجحده فأمر رسول الله بقطع يدها. ([44])




المناقشة :
حاصل النظر بين دليل أصحاب القول الأول وأصحاب القول الثاني في اختلافهم في ترجيح أحد اللفظين على الآخر فالصحيح في ذلك والله أعلم :
أن الحديث اختُلِف في لفظه على الزُّهري، فمن أصحابه من رواه عنه بلفظ: استعارت، ومنهم من رواه عنه بلفظ: سرقت.

فتابع معمراً في قوله: "استعارت" :
يونسُ بنُ يزيد، فيما أخرجه أبو داود ([45]) من طريق أبي صالح كاتب الليث، عن الليث، عن يونس. وعلَّقه البخاري بصيغة الجزم عن الليث، عن يونس بإثر الحديث (2648) ، لكن لم يسق لفظه.
وشعيبُ بن أبي حمزة، فيما أخرجه النسائي في المجتبى([46]) ، وفي الكبرى([47]) .
وابنُ أخي الزُّهري، فيما أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" ([48]) .
ورواه عن الزُّهري بلفظ: "سرقت":
الليثُ بنُ سعد، كما عند إسحاق بن راهويه ([49]) ، والبخاري ([50]) ، ومسلم ([51])، وأبي داود ([52]) ، والترمذي ([53]) ، والنسائي في "المجتبى" ([54])، وفي "الكبرى" ([55]) ، وابن ماجه ([56]) ، وابن الجارود في "المنتقى" ([57]) ، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" ([58])، وفي "شرح مشكل الآثار" ([59]) ، وابن حبان ([60]) ، والبيهقي في "السنن الكبرى" ([61])، وفي "السنن الصغير" ([62]) ، وابن عبد البر في "الاستذكار" ([63])، والبغوي في "شرح السنة" ([64]) .
ويونس بن يزيد أيضاً كما عند البخاري ([65]) ، ومسلم ([66])، والنسائي في"المجتبى"([67])، وفي "الكبرى" ([68]) من طريق ابن وهب، والبخاري ([69]) ، والنسائي في "المجتبى" ([70])، وفي "الكبرى" ([71]) من طريق ابن المبارك، كلاهما عن يونس.
وإسحاقُ بنُ راشد، كما عند النسائي في "المجتبى" ([72])، وفي "الكبرى" ([73])
وإسماعيلُ بنُ أمية، كما عند النسائي في "المجتبى" ([74]) ، وفي "الكبرى" ([75]) .
قال الحافظ ابن حجر: والذي اتَّضح لي أن الحديثين محفوظان عن الزُّهري، وأنه كان يحدِّثُ تارةً بهذا، وتارةً بهذا، فحدَّث يونس عنه بالحديثين، واقتصرت كل طائفة من أصحاب الزُّهري غير يونس على أحد الحديثين. ([76])
قلت : وبكلام ابن حجر رحمه الله يتم الجمع بين الحديثين وعدم تفضيل أحدهما على الآخر من جهة اللفظ و الإسناد ، وإنما يتوجه الكلام في توجيه هاتين الروايتين حسب الدليل الصحيح ، قال البيهقي: ويحتمل أن يكون رواية من روى العارية على تعريفها، والقطع كان سبب سرقتها التي نقلت في سائر الروايات ،فلا تكون مختلفة ويكون تقدير الخبر (أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده) كما رواه معمر
(سرقت) كما رواه غيره فقطعت يعني بالسرقة والله أعلم . ([77])

2- من أدلة القول بالقطع : ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. ([78])
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد جاحدة العارية كما دل على ذلك ظاهر الحديث.
نوقش:
قال الخطابي: وهذا الحديث مختصر وليس مستقصى لفظه وسياقه وإنما قطعت المخزومية ؛ لأنها سرقت وذلك بيِّن في حديث عائشة رحمها الله . ([79])
3- ماجاء عند أبي داود والنسائي ([80])من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : استعارت امرأة تعني حليا على ألسنة أناس يعرفون ولا تعرف هي ، فباعته ، فأخذت ، فأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر بقطع يدها ، وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد . وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال..

نوقش:
أن هذه المرأة في القصة هي: امرأة واحدة ، وقصة واحدة ، وأنها سرقت وأن من روى (استعارت) قد وهم ؛ ذلك أن في جمهور الآثار الواردة أنهم استشفعوا لها بأسامة بن زيد ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر عليه ذلك ، ونهاه أن يشفع في حد من حدود الله تعالى ، ومن المحال أن يكون أسامة بن زيد رضي الله عنه قد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يشفع في حد من حدود الله تعالى ثم يعود فيشفع في حد آخر مرة أخرى. ([81])

قال ابن القيم :أنَّ الجحد داخل في اسم السرقة ؛ لأنه هو والسارق لا يمكن الاحتراز منهما ، بخلاف المختلس والمنتهب . ([82])
نوقش:
أن الخائن لا يمكن الاحتراز عنه ؛لأنه آخذ المال خفية مع إظهار النصح ، وقد دل الدليل على أنه لا يقطع . ([83])




الترجيح :
من خلال النظر السابق لكلا القولين يترجح والعلم عند الله :
أن جاحد العارية لا يقطع ، كما هو قول الجمهور رحمهم الله تعالى ، حيث إن الناظر لأدلة القول الأول يتبن له قوة ما استدلوا به ، بخلاف أصحاب القول الثاني .
قال ابن بطال: وإذا اختلفت الآثار وجب الرجوع إلى النظر ووجب رد ما اختلف فيه إلى كتاب الله ، وإنما أوجب الله القطع على السارق لا على المستعير . ([84])
ومن تدبر تلك الأحاديث : علم أنه لم يقطع يدها إلا لأنها سرقت . ([85])
و حيث إن الجمع ممكن فلا يصار إلى الترجيح و احتمال ذكر استعارة المتاع و جحده للتعريف بها احتمال قوي فوجب المصير إلى ذلك .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه الفقير إلى عفو ربه :
عبد الله بن ناصر المشعل
محافظة حريملاء : 28/4/1433هـ


([1]) أخرجه البخاري : (71) ، ومسلم : (1037).

([2]) أخرجه مسلم : (2699).

([3])العارية : مُشَدَّدَةً وقد تُخَفَّفُ والعَارَةُ : ما تَدَاوَلُوهُ بَيْنَهُم، واصطلاحاً: عرفها الحنفية: بأنها تملك المنافع بغير عوض ، وعرفها المالكية: تمليك منفعة مؤقتة بلا عوض ، الشافعية: اسم لإباحة منفعة عين مع بقائها بشروط مخصوصة، والحنابلة:إباحة نفع العين يحل الانتفاع بها تبقى بعد استيفائها ليردها على مالكها ينظر: القاموس المحيط: (1/573) ، الهداية شرح البداية: (3/220) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: (5/142) ، المغني و الشرح الكبير: (5/354).

([4]) الإفصاح لابن هبيرة : (2/310) ، الإقناع لابن القطان الفاسي : (2/263).

([5]) أخرجه الترمذي : (1448) ، النسائي : (4971) ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم.

([6]) الإشراف على مذاهب العلماء : (7/206).

([7]) فتح القدير للكمال بن همام : (12/230).

([8]) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي لابن عبد البر: (2/1080)

([9]) مغني المحتاج : (4/171) ،الإقناع لابن المنذر : (1/331) ، الإشراف على مذاهب العلماء : (7/206).

([10]) الإنصاف :(26/470) ، الهداية : (539) ، المغني : (12/417). الشرح الكبير : (26/472) ، الممتع في شرح المقنع :( 4/285).

([11]) الاستذكار : (7/568).

([12]) الإشراف : (7/206) ، كشف المشكل : (2475 ،3172).

([13]) المحلى : (11/463).

([14]) الإنصاف : ( 26/470).

([15]) (ص375)

([16]) (ص428)

([17]) (2/156).

([18]) شرح الزركشي (3/123).

([19]) (10/153)

([20]) (ص314).

([21]) الهداية : (ص539).

([22]) الإنصاف (26/472) ، المنح الشافيات : (2/730).

([23]) إعلام الموقعين : (2/81-82)، زاد المعاد : (5/46).

([24]) البخاري : (3475) ومسلم : (4506).

([25]) (3733).

([26]) شرح البخاري لابن بطال : (8/410).

([27]) (2/112).

([28]) كشف المشكل : (4/270) (2475) (3172)

([29]) المفهم : (16/2).

([30]) الأحكام الصغرى : (2/765).

([31]) نصب الراية : (3/366).

([32]) الإكمال : (5/77)

([33]) فتح الباري : (15/560).

([34]) المفهم : (16/3).

([35]) الإشراف : (7/206).

([36]) شرح الزركشي : (3/123) ، المبدع شرح المقنع : (9/102) ، وينظر: الأم للشافعي: 6/156،

([37]) معالم السنن : ( 3/309).

([38]) المعرفة : (12/430) (17258).

([39]) في شرحه على مسلم : (11/188).

([40]) أخرجه أبو داود : (4374) ، وابن ماجه : (2548) ، والحاكم في المستدرك: (4/421)، وقد صححه الذهبي في التلخيص.

([41]) النهاية : (ص611).

([42]) الاستذكار : (7/570).

([43]) المغني : (12/417).

([44]) ينظر: الاستذكار: (7/569) ، المحلى : (11/460).

([45])(4396)

([46])8/73

([47])(7385)

([48])(2303)

([49])(861) و (1729)

([50])(3475) ، (6788)

([51])(1688) (8)

([52])(4373)

([53])(1430)

([54])8/73- 74

([55])(7386)

([56])(2547)

([57])(805)

([58])3/171

([59])(1682) و (2306)

([60])(4402)

([61])8/253-254

([62])(3316)

([63]) (7/569).

([64])(2603)

([65])(2648)

([66])(1688) (9)

([67])8/74-75

([68])(7389)

([69])(4304)

([70])8/75

([71])(7390)

([72])8/74

([73]) (7388).

([74])8/74-75

([75])(7389)

([76]) (15/599).

([77]) سنن البيهقي: (8/281).

([78]) أخرجه الإمام أحمد : (6383) ، النسائي : (4887) ، وأبوداود: (4397) والحديث أصله في مسلم من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة كما تقدم .

([79]) معالم السنن : (3/309).

([80]) أبو داود : (4374) ، النسائي : (8/72-74) ، وأصل الحديث مخرج في الصحيحين كما تقدم .

([81]) ينظر: المحلى : (11/459).

([82]) زاد المعاد : (5/46).

([83]) نيل الأوطار : (13/347).

([84]) شرح البخاري لابن بطال : (8/410).

([85]) ينظر: الاستذكار لابن عبدالبر : (7/569).