شذرات من السيرة النبوية المعطرة

26

بسم الله الرحمن الرحيم


لم تخمد مشاعر المسلمين في المدينة شوقاً إلى مكة التي حيل بينهم
وبينها ظلماً وعدواناً وما برحوا ينتظرون اليوم الذي تُتاح لهم فيه فرصة العودة إليها والطواف ببيتها العتيق إلى أن جاء ذلك اليوم الذي طل فيه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ليخبرهم برؤياه فقد رأى في منامه دخوله مكة وطوافه بالبيت الحرام هو واصحابه امين محلقين رؤوسهم ومقصرين فاستبشر المسلمون بهذه الرؤيا لعلمهم أن رؤيا الأنبياء حق واخبرهم انه يريد العمرة فتهيّؤوا لهذه الرحلة العظيمة والفرح يغمرهم ..

وفي يوم الإثنين غرة ربيع الاول من السنة السادسة للهجرة المباركة خرج النبي صلى الله عليه وسلم يريد العمرة ومعه ألف وأربعمائة من الصحابة وليس معهم إلا سلاح السفر فأحرموا بالعمرة من( ذي الحليفة) وذو الحليفة ميقات اهل المدينة بحرمون منه اذا رغبوا بالحج والعمرة - وقد احرمنا منها في رمضان الماضي لاداء العمرة بعد زيارتنا للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وبقائنا في المدينة المنورة خمسة ايام – بفض الله ومنته .
فلما فلما بلغوا ( عسفان ) واقتربوا من مكة بلغهم عينه أن قريشاً جمعت الجموع لمقاتلتهم وصدهم عن البيت الحرام . وكانت قريش قد تهيات للقتال وقد جمعوا الاحابيش ليعينوهم في القتال ونزلوا ب ( ذي طوى ) وارسلوا خالد بن الوليد ومعه مائتي فارس الى ( كراع الغميم ) قريبا من عسفان ليسد الطريق النافذ الى مكة عليهم .
استشار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم اصحابه في الهجوم على اهل المجتمعين لقتاله من الاحابيش ام يقصد البيت الحرام فمن صده يقاتله فاشار عليه ابو بكرالصديق قائلا :
- يارسول الله جئنا معتمرين لا مقاتلين فمن حال بيننا وبين البيت الحرام قاتلناه
- قال النبي صلى الله عليه وسلم : (هذا هو الراي)
راى خالد بن الوليد ان الملسمين اثناء صلاة الظهر وهم يقومون ويسجدون فاراد ان ياخذهم على غفلة منهم وهم في صلاتهم ساجدون . ثم قرران يباغتهم في صلاة العصر. فشرعت صلا ة الخوف بين الظهر والعصر وهي ان ينقسم المسلمون في صلاتهم قسمين فاذا ام النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين فيها يكونون باسلحتهم فيسجد قسم منهم والاخر يحرسهم ثم في الركعة الثانية يسجد الاخرون ويحرسهم الاولون وهكذا لحين تنتهي الصلاة
فيكونون في امان من العدو اثناء الصلاة .
اخذ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم طريقا غير طريقهم فيمم يمينا من اسفل مكة حتى بلغ ( ثنية المرار) وهي مهبط الحديبية فبركت ناقته القصواء فقال صلى الله عليه وسلم:
-( ما خلأت القصواء وما ذاك لها خلق ولكن حبسها حابس الفيل ) ثم قال :
-( والله لايسالوني خطة يعظمون فيها حرمات الله الا اعطيتهم اياها)
ثم زجر الناقة فوثبت وتقدم فنزل الحديبية .
فجاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة – وكانوا ناصحين للمسلمين في اقوالهم- فاخبرالنبي صلى الله عليه وسلم ان قريشا تستعد لقتالهم وصدهم عن المسجد الحرام . فاخبرو النبي صلى الله عليه وسلم انه ماجاء الا معتمرا وما جاء لقتال قريش وانه مستعد للهدنة والمصالحة الا اذا ابت قريش فانه سيقاتلهم حتى يحكم الله وهو خيرالحاكمين .
ثم ارسلوا عروة بن مسعود الثقفي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مثلما قال لبديل قبله . فرجع الى قريش ونصحهم بقبول الهدنة فلما حل الليل تسلل بعض شباب قريش فهبطوا جبل ( التنعيم) الى معسكر المسلمين وارادو القضاء على محاولات الصلح فالقى المسلمون عليهم القبض ثم اطلقهم المنبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم فكان هذا الفعل له اثره الكبير في نفوس القرشيين وتخويفهم من قوة المسلمين فمالت قلوبهم لعقد صلح بينهم قال تعالى ( وهو الذي كف ايديهم عنكم وايديكم عنهم ببطن مكة من بعد ان اظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا *) الفتح \ 24
قرر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ان يرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى قريش وقال له :
-(أخبرهم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عماراً ، وادعهم إلى الإسلام )
وأَمَرَه أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات ، فيبشرهم بالفتح ، وأن الله عز وجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان . فانطلق عثمان حتى دخل في جوار ابان بن سعيد الاموي ولماء جاء قريش قالوا له :
- إلى أين ؟
- فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام ، ويخبركم :( أنه لم يأت لقتال ، وإنما جئنا عماراً ).
- قالوا : قد سمعنا ما تقول فانفذ إلى حاجتك .
فعرضوا عليه ان يطوف بالبيت الحرام فابى ان يطوف النبي صلى الله عليه وسلم يمنع من الطواق ثم قالوا له :
- إلى أين ؟

ولكن عثمان احتبسته قريش فتأخر في الرجوع إلى المسلمين ، فخاف الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وان قتل الرسول في الاعراف معناه اعلان الحرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم
- ( لانبرح حتى نناجز القوم )
وخاصة بعد أن شاع أنه قد قتل
فدعا إلى البيعة فتبادروا إليه وهو تحت الشجرة فبايعوه على أن لا يفروا وهذه هي بيعة الرضوان وقد أنزل الله تعالى فيها قوله ) لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم مافي قلوبكم فانزل السكينة عليهم واثابهما فتحا قريبا * ) سورة الفتح\ 18 .
ثم اطلقوا عثمان وكانت قد اخذت البيعة .
وأرسلت قريش عروة بن مسعود إلى المسلمين فرجع إلى أصحابه فقال لهم :
أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك -كسرى وقيصر والنجاشي- والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً . والله إذا أمر ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على فضلة وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم وما يحدون إليه النظر تعظيماً له .
ثم قال : وقد عرض عليكم خطة رشد فا قبلوها .
ولما سمع القرشيون بامرالبيعة داخلهم رعب شديد ثم أسرعت قريش في إرسال سهيل بن عمرو لعقد الصلح فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال :
-( قد سهل لكم أمركم أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل )
فتكلم سهيل طويلاً ثم اتفقا على قواعد الصلح وهي :

الأولى : رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من عامه هذا وعدم دخول المسلمين مكة فإذا كان العام القادم دخلها المسلمون بسلاح الراكب( وهو السيف في قرابه) فيقيمون بها ثلاثة ايام .
الثانية : وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين ، يأمن فيها الناس .
الثالثة : من أراد أن يدخل في عقد مع محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد مع قريش وعهدهم دخل فيه .
الرابعة : من أتى محمداً من قريش من غير إذن وليه رده إليهم ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لا ترده إليه .
ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم :
- (هات اكتب بيننا وبينك كتاباً )
فدعا الكاتب -وهو علي بن أبي طالب – فقال :
اكتب : (بسم الله الرحمن الرحيم).
فقال سهيل : أما الرحمن فما أدري ما هو ؟ ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب .
فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم
فقال صلى الله عليه وسلم : (اكتب : باسمك اللهم ).
ثم قال : اكتب : (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله)
فقال سهيل : والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولكن اكتب محمد بن عبد الله.
فقال :( إني رسول الله ، وإن كذبتموني . اكتب محمد بن عبد الله)
ثم تمت كتابة الصحيفة ودخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في عهد قريش .

فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل ، وقد خرج من أسفل مكة يرسف-يمشي مقيداً- في قيوده حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين .
فقال سهيل : هذا يا محمد! أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( إنا لم نقض الكتاب بعد) فقال : إذاً والله لا أصالحك على شئ أبداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( فأجزه لي )
قال : ما أنا بمجيزه لك
. قال :( بلى فافعل )
قال : ما أنا بفاعل .
قال أبو جندل : يا معشر المسلمين كيف أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما لقيت ؟
وكان قد عذب في الله عذاباً شديداً
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( اصبر واحتسب فان الله جاعل لك وامن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا)
فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :
-( قوموا فانحروا ثم احلقوا)
فما قام منهم رجل حتى قالها ثلاث مرات . فلما لم يقم منهم أحد قام ولم يكلم أحداً منهم حتى نحر بدنه وقد نحر النبي صلى الله عليه وسلم جملا كان لابي جهل في انفه حلقة من فضة لبغيض المشركين ودعا حالقه فحلق .
فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا الابل عن سبعة افراد والبقرة عن سبعة ايضا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً كمدا . وقد حزن المسلمون لامرين :
الاول: رجوعهم الى المدينة منغير ان يعتمروا .
والثاني: ان صحيفة الحديبية لم تساوي بين الطرفين في احد بنودها وهو البند الرابع منها حيث ينص على ان المسلمين ملزمون برد من جاء اليهم وقريش لايردون ما جاء اليهم من المسلمين فطمانهم النبي صلى الله عليه وسلم في الاول انهم سوف يعتمرون في العام القادم فرؤيا الانبياء حقيقة وصدق وطمانهم في الثاني بان من ذهب من المسلمين الى قريش فهو مرتد وقد ابعده الله عنهم ومن جاء من من قريش فسيجعل الله فرجا ومخرجا وفي قوله هذا بعد نظر وانتظار المستقبل .لكن في ظاهر الامر كان في صالح قريش مما كان له تاثير على نفوس المسلمين ومن ذلك مادار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عمر بن الخطاب فقد جاء اليه عمر الى النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ . فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت :
- يا رسول الله ! ألست نبي الله ؟
قال :( بلى.)
قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟
قال :( بلى) .
قلت : علام نعطى الدنية في ديننا ؟ ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟
فقال : (إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه) .
قلت : ألست كنت تحدثنا : أنا نأتي البيت ونطوف به .
قال : (بلى أفاخبرتك أنك تأتيه العام ؟)
قلت : لا
قال :( فإنك آتيه ومطوف به ).
قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت له مثلما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد علي كما رد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت فوالله إنه لعلى الحق .
ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله : (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله اعلم بايمانهن فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن
الى الكفار لاهن حل لهم ولاهم يحلون لهن وآتوهم ما انفقوا ولا جناح عليكم ان تنكحوهن اذا آ تيتموهن اجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما انفقتم وليسألوا ما انفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم * ) الممتحنة\ 10 .
وعند رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة : أنزل الله سورة الفتح : (إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا*) الفتح \1-3
فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله ؟
قال :( نعم )
قال الصحابة : هذا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟
فأنزل الله : ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والارض وكان الله عليما حكيما* ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ويكفرعنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما *) الفتح \ 4-5.

ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير –رجل مسلم من قريش- فأرسلوا في طلبه رجلين الى النبي صلى الله عليه وسلم لاجل رده اليهم وقالوا :
- العهد الذي بيننا وبينك .
فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به حتى بلغا( ذا الحليفة ). فنزلوا يأكلون من تمر لهم فيه.
فقال أبو بصير لأحدهما:
- إني أرى سيفك هذا جيداً.
- فقال: أجل ، والله إنه لجيد ، لقد جربت به ثم جربت
- فقال : أرني أنظر إليه
فاخذ السيف فقتله بسيفه وانهزم الاخر
ورجع أبو بصير إلى المدينة
فقال : يا نبي الله ! قد أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم .
فقال صلى الله عليه وسلم ) ويل أمه مسعر حرب ، لو كان له أحد ) وزجره . فلما سمع ذلك عرف ابو بصير أنه سيرده إليهم خرج حتى أتى سيف البحر ثم تفلت أبو جندل من قريش فلحق بأبي بصير ثم اصبحت حالة جديد ة اي شخص يفلت من قريش يلتحق بابي بصير وابي جندل في سيف البحر حتى اصبحوا كثر واخذوا يهددون القوافل القرشية الذاهبة الى الشام والقافلة منها فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أن أتاه منهم فهو آمن .
.
فلا يخرج من قريش رجل -قد أسلم- إلا لحق به حتى اجتمعت منهم عصابة . فما سمعوا بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقاتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أن أتاه منهم فهو آمن .

وكان هذا الصلح فتحاً عظيماً ، ونصراً مبيناً للمسلمين فقد دخل في الاسلام الكثير وقد اسلم اعظم وافضل قادة قريش وكبرائها هثل خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و عثمان بن طلحة ، وذلك لما ترتب عليه من منافع عظيمة حيث اعترفت قريش بالمسلمين وقوتهم وتنازلت عن صدارتها الدنيوية وزعا متها الدينية فلا عجب إذاً أن يسمّيه الله تعالى في القران الكريم ( فتحا مبينا) .

يتبع


فالح نصيف الحجية
الكيلاني
3\4\2012

****************************** **