من المعلوم أن الرجل لا يخرج من دائرة أهل السنة إلا إذا خالف أهل السنة في أصل من الأصول التي أجمعوا على تبديع من خالفها، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "...والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة" (الفتاوى الكبرى 4/194).
وقال رحمه الله: "فالمبتدع هو من خالف أصلا من أصول أهل السنة رحمهم الله )) الفتاوي 12/485-486.
ولهذا لما سئل الإمام أحمد: من قال أبو بكر وعمر (يعني ولم يقدم عثمان على علي رضي الله عنهم جميعا) هو عندك من أهل السنة؟ قال لا توقفني هكذا كيف نصنع بأهل الكوفة (يعني سفيان الثوري ويحيى بن سعيد القطان)؟ و قال:"إخراج الناس من السنة شديد" (أخرج ذلك عنه الخلال في "السنة": ح513 بإسناد صحيح).
فانظر أخي كيف تورع الإمام أحمد عن تبديع من لم يثلث بعثمان رضي الله عنه ووقف عند عمر؛ لحصول خلاف بين أهل السنة في ذلك، وإن كان خلافا ضعيفا، مع أن جماهيرهم يقولون: ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين. فتأمل أخي حرص الإمام أحمد على بيضة أهل السنة، وقارن صنيعه بمن لا يتورع عن تبديع إخوانه وإخراجهم من السنة، لمجرد خلاف معهم في شخص أو في مسألة اجتهادية.
وقد انقسم السلفيون باعتبار موقفهم ممن يخالفهم إلى ثلاث فئات:
1. متشددون.
2. متساهلون.
3. معتدلون.
ولكل فئة ما يميزها عن غيرها:
*فالفئة الأولى: (المتشددون): هؤلاء يبدعون من خالفهم في المسائل الاجتهادية مثل مسألة حمل المجمل من كلام العلماء على المفصل، ومسألة إفادة خبر الواحد للظن الغالب مع الأخذ به في العقائد والأحكام، ومسألة الجرح والتعديل هل هو من باب خبر الثقة أو من باب الاجتهاد... ومن هذا الباب تبديعهم لمن خالفهم في الحكم على الأشخاص.
ومن مميزات هذه الفئة من السلفيين بالإضافة لما تقدم من تبديعهم من خالفهم في مسائل الاجتهاد:
- الغلظة والجفاء مع من خالفهم من إخوانهم السلفيين قد تتجاوز أحيانا التضليل والتبديع إلى التلميح بالتكفير
- التسرع وعدم التورع في الإخراج من السنة.
- رميهم لإخوانهم السلفيين بالعظائم التي لم تخطر لهم يوما على بال، مثل: القول بوحدة الإديان، وسب الصحابة، والتكفير بالكبيرة... مع علمهم ببراءتهم، ولكن يقولون نحن نحكم على ما فهمناه من ظاهر الكلام.
- تتبع زلات ألسن وأقلام إخوانهم السلفيين وتَطَلُّب سقطاتهم، فإن لم يجدوا تكلفوا لذلك التأويلات البعيدة، واستمسكوا بالظنون والقرائن التي قد تتخلف، ولم يلتفتوا إلى كلامهم الصريح بدعوى عدم جواز حمل المجمل على المفصل إلا في كلام المعصوم.
- عدم قبولهم تراجع متراجع عن خطإ في عبارة قالها، بدعوى كونه مخادعا، فلا أعلم أن هذه الفئة تراجعت يوما عن تبديع وتضليل داعية من الدعاة إلى الله، وإن اعترف بزلات لسانه.
- انشغالهم بتتبع زلات إخوانهم عن دعوة عوام الناس إلى الكتاب والسنة، فجهودهم غي هذا الباب ضعيفة، وثمارهم قليلة.
وقد ترتب عن منهج هذه الفئة من السلفيين مفاسد عظيمة، من تفريق للكلمة وتشتيت الصف، وإهدار الجهود في الخصومات، بدل الانشغال بالدعوة إلى الكتاب والسنة في وقت بلغت فيه الأمة الإسلامية غاية الضعف والهوان.
* الفئة الثانية: (المتساهلون): هؤلاء عندهم تساهل مع المخالفين للمنهج السلفي، يتجلى في السكوت عن مخالفاتهم، وعدم بيانها لهم وللناس حتى يحذروها، وقد تجد عند هذه الفئة من السلفيين ثناء على بعض رموز الحركيين، وتزكية لهم صراحة أو ضمنا، مع غض الطرف عن أخطائهم، متعذرين بالحفاظ على وحدة الصف الإسلامي في مواجهة التحدي، أو بحساسية المرحلة... غافلين عن أن التناصح الأخوي بين المسلمين يقويهم ولا يضعفهم، وأن الأخوة الإيمانية تستدعي بذل النصيحة التي تجمع بين العلم والحلم، فأهل السنة أعلم الناس بالحق وأرحمهم بالخلق- كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في مناهج السنة 5/158- ولا يلزم من النصيحة الغلظة والجفاء، بل الأصل فيها الرفق واللين، ولا يُخرج عن هذا الأصل إلا لمصلحة راجحة. ولا شك أن هذا التساهل مع المخالفين للمنهج السلفي تترتب عليه مفاسد عظيمة، منها تغرير عوام الناس بأصحاب المناهج المنحرفة عن السنة، كما فيه تغرير بأصحاب المناهج المنحرفة أنفسهم، فيظنون أنهم على صواب، وفي ذلك خيانة لهم قبل غيرهم. ولهذا قال يوسف بن أسباط حين أنكر عليه تحذيره من أهل البدع: " أنا خيرٌ لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزارهم، ومن أَطْرَاهُم كان أضرَّ عليهم"(سير أعلام النبلاء7/364).
* الفئة الثالثة: (المعتدلون): ، فهؤلاء ليس عندهم ما عند الفئة الأولى من التبديع المنفلت، ولا عندهم ما عند الفئة الثانية من التساهل المفرط. هؤلاء لا يبدعون السلفيين من الفئة الأولى ولا من الفئة الثانية، وإن كانوا لا يرتضون تشدد هؤلاء و لا تساهل أولئك، بل إنهم يخطئونهم ولا يبدعونهم. كما أنهم لا يزكون أصحاب المنهج الحركي بل إنهم يردون عليهم ويبينون خطأهم، ويُغَلِّبون الرفق على الشدة، لأن قصدهم الإصلاح لا الإتلاف. ومع أنهم يحكمون على مناهجهم بالبدعة والانحراف، فإنهم لا يحكمون على أعيانهم إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع.
ومن سمات هذه الفئة:
- التورع عن التبديع والإخراج من السنة.
- بذل النصيحة لأصحاب المناهج المخالفة وعدم السكوت عن انحرافهم.
- الحرص الشديد على بيضة أهل السنة.
- الرفق بالمخالف قبل الموافق وتغليب جانب الرحمة والحرص على نفع المنصوح له.
- الانشغال بالدعوة إلى الله وبنشر الكتاب والسنة في الأمة.
هذا هو منهج الشيخ الألباني رحمه الله، والشيخ ابن باز رحمهما الله تعالى، وغيرهما من علمائنا الكبار الكبار، وقد تفيأنا ظلال هذا المنهج وعشنا أيامه في حياتهم الطيبة المباركة، فعشنا أيام الأخوة والوداد بين السلفيين من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وكنا نشعر أننا جسد واحد، ونفخر بعلمائنا في الحجاز، واليمن، والشام كما نفخر بعلمائنا في المغرب بل أشد, فقد كانت أيامهم عصرا ذهبيا للدعوة السلفية، ودخل فيها الناس أفواجا في مشارق الأرض ومغاربها، فقد كانت دعوتهم تجمع ولا تفرق، تبشر ولا تنفر، ولكن ما إن غربت شمسهم أو كادت حتى أطل علينا منهج بعكس منهجهم يفرق ولا يجمع، ينفر ولا يبشر، فتمزقت دعوتنا، وتفرقت كلمتنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ونحمد الله تعالى أنْ قد بقيت بقية من السلفيين على منهج الأئمة الكبار، فهي تصبر على إفراط وظلم الفئة الباغية المتشددة، وتحلم على تفريط الفئة المتساهلة، ولا تألو جهدا في بذل النصيحة لهؤلاء ولأولئك، حتى يأذن الله بجمع الكلمة، ولا شك أن المستقبل لهذه الفئة، وأن الإسلام سترجع إليه قوته ومكانته على هذا المنهج القويم، الذي يجمع بين بيان الحق والرفق بالخلق، بخلاف المنهج الأول الذي يتمزق به الخلق، وكذا بخلاف المنهج الثاني الذي يضيع به الحق.
كتبه الاستاذ ابو الفتح محمد حفظه الله