بسم الله الرحمن الرحيمالموازنة بين الحسنات والسيئات(يتبع) الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.أما بعد:قال الحسن البصري رحمه الله: إن دين الله وضع على القصد فدخل الشيطان فيه بالإفراط والتقصير فهما سبيلان إلى نار جهنم، وعنه: أن دين الله تعالى وضع دون الغلو وفوق التقصير.وعليه؛ فقد يقع بين الناس من العدوان ما هو ذميم كالبغض والذم والبغي والعقوبة بغير وجه حق، أو من التفريط ببعض التأويلات التي لا تسوغ ولا برهان عليها، مما ينجم عنه ترك المحبة والدعاء والإحسان، ثم إن هذا الإفراط والتفريط قد يؤدي إلى التبديع والتفسيق وحتى إلى التكفير بالمقالات واللوازم، مما لا يجوز، وجماع ذلك ظلم في حق الرب تبارك وتعالى، وفي حق العبد، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس.إن مشايخ التبديع والتضليل وأتباعهم بمنهجهم السلفي كما يزعمون؛ هو في الحقيقة بدعي وليس بسلفي، والسلف بريئون منه، إنما هم يعارضون به الكتاب والسنة، ويصدون به عن سبيل الله الأمة، وهم إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة محتملة؛ تحتمل معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى والإجمال في اللفظ، يوجب تناولها بحق وباطل، وهذا مثل ما قالوه في قاعدتيهم: (بدعة الموازنة)، و(بدعة نصحح ولا نهدم)، فبما فيها من الحق، يقبل من لم يحط بها علما ما فيها من الباطل، لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء وأقوال السلف الصالح، وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا، وهو منشأ البدع كلها، فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لما قبلت، ولبادر كل أحد إلى ردها، وإنكارها، ولو كانت حقا محضا لم تكن بدعة، وكانت موافقة للسنة، ولكنها تشتمل على حق وباطل، يلتبس فيها الحق بالباطل، فتروج عند من يكون لديهم محل قابل، كما قال تعالى: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} [البقرة42].ولكن الأكياس النبهاء الذين هم خلاصة العالم، وهم قلة، يميزون بين الحق والباطل في مقالات الناس، مما يستدعي رسوخا في العلم، ومعرفة تامة به، وإقداما على رد الباطل المخالف للحق، ولو قاله من قاله، وأكثر الناس في غفلة عن هذا، وليس عندهم سوى رسوم تلقوها عن قوم معظمين عندهم، ثم لإحسان ظنهم بهم أو لسوء قصدهم، قد وقفوا عند أقوالهم، ولم يتجاوزوها، وجعلوها بمنزلة قول المعصوم، التي لا يجوز مخالفتها بحال، فصارت حجابا لهم وأي حجاب، ومن أنعم الله تعالى عليه، وأنقذه من ضلالات التقليد وجناياته، وفتح عليه بصيرة قلبه وإيمانه، حتى خرق تلك الحجب وجاوزها إلى مقتضى الوحي والفطرة والعقل، وعرضها على نصوص الكتاب والسنة، ولم يعرض النصوص عليها، فقد أوتي خيرا كثيرا، فإذا انضاف إلى ذلك الفتح همة عالية وشجاعة كبيرة في الصدع بالحق فذاك سيد الناس، فلا يلحق شأوه ولا يشق غباره، ولا يخاف عليه إلا من ضعف همته.وهؤلاء الذين أسقطوا المسلم بالبدعة الواحدة، وبدعوا من دعا إلى: تصحيح الأخطاء دون إسقاط الرجل وإهداره إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك مع القدرة عليه؛ لم يفهموا محل النزاع، ولا ردوا على خصومهم بما يوحي إلى ذلك، فإنا نعتقد اعتقادا جازما أن الرد على البدع و أهلها الذين هم أهلها من أعظم الجهاد في سبيل الله تعالى، فقد كان يحيى بن يحيى رحمه الله تعالى يقول: الذب عن السنة أفضل الجهاد، والمجاهد إذا سار على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم مشكور ظاهره لا محال، وهو مع حسن النية والإخلاص مشكور باطنه وظاهره، ووجه شكره نصره للسنة والدين بإخلاص واتباع، لا بسوء قصد وابتداع، والمجاهد قد يكون عدلا وقد لا يكون، بل قد يكون فيه فجور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، و بأقوام لا خلاق لهم"(البخاري في الجهاد و مسلم في الإيمان).فإذا أحسنا الظن بمشايخ التبديع وأتباعهم، جعلناهم ممن قال فيهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "إن مخالفة المسلم الصحيح الإيمان النص إنما يكون لعدم علمه به، أو لاعتقاده صحة ما عارضه، (قلت لكنهم مذمومون من الوجه التالي) لكن هو فيما ظهر من السنة وعظم أمره يقع بتفريط من المخالف وعدوان، فيستحق من الذم ما لا يستحقه في النص الخفي، وكذلك فيما يوقع الفرقة و الاختلاف، يعظم فيه أمر المخالفة للسنة".والمقصود أن وجه مخالفتنا لهؤلاء؛ أنا -على ما يقتضيه الدين والعقل والفطرة- موافقون للسلف الصالح في قبول الحق ممن قاله، أيا كان، ورد الباطل على من قاله، أيا كان، دون مراعاة لنسبه أو بلده أو طائفته، فما ليس من الدين لا يمنعنا من قبول ما هو من الدين والذب عنه، قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: "وليعلم السائل أن الغرض من هذا الجواب ذكر ألفاظ بعض الأئمة الذين نقلوا مذهب السلف في هذا الباب وليس كل من ذكرنا شيئا من قوله من المتكلمين وغيرهم يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به وكان معاذ بن جبل يقول في كلامه المشهور عنه الذي رواه أبو داود في سننه: أقبلوا الحق من كل من جاء به وإن كان كافرا أو قال فاجرا واحذروا زيغة الحكيم قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نورا، أو قال كلاما هذا معناه".ونحن على يقين أن حمد الرجل أو ذمه عند الله ورسوله وعباده المؤمنين لا يكون إلا بحسب موافقته أو مخالفته للسنة و الشريعة من جميع الأصناف، إذ الحمد مبني على الحسنات، و الذم مبني على السيئات، و الحسنات هي ما وافق طاعة الله و رسوله من التصديق بخبر الله و الطاعة لأمره، و هذا هو السنة، و السيئات هي مخالفة أمر الله و رسوله.وأما الرجل الواحد الذي تجتمع فيه حسنات وسيئات فقد بين حاله شيخ الإسلام في "قاعدة في المحبة"، وفقا للمنهج السلفي المعتمد على الكتاب والسنة والإجماع، لا على أقوال الرجال وشطحاتهم، فقال: "وهذه القاعدة قد ذكرناها غير مرة وهي اجتماع الحسنات والسيئات والثواب والعقاب في حق الشخص الواحد، كما عليه أهل جماعة المسلمين من جميع الطوائف، إلا من شذ عنهم من الخوارج والوعيدية من المعتزلة، ونحوهم، وغالب المرجئة، فإن هؤلاء ليس للشخص عندهم إلا أن يثاب أو يعاقب، محمود من كل وجه، أو مذموم من كل وجه، وقد بينا فساد هذا في غير هذا الموضع، بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وذكرنا أيضا الكلام في الفعل الواحد نوعا وشخصا".وقال أيضا رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه".وفيما يخص قبول الحق ورد الباطل، فمشايخ التبديع وطوائفهم يسقطون الرجل جملة؛ بحقه وباطله، فهم مخالفون للشريعة بردهم للحق الذي معه، وهم أيضا، وإن كانوا يزعمون أنهم أهل الجرح والتعديل والقائمين به؛ مخالفون لما عليه أئمة وجهابذة هذا العلم الشريف، من أمثال الإمام الذهبي، والإمام ابن حجر، ومن فوقهم من أمثال الإمام أحمد ابن حنبل الذي إذا كفاه غيره في الرجل لم يتكلم هو فيه، وغير هؤلاء كثير، شاهدة عليهم كتبهم فيما يخص نقذ الرجال دون بخس حقوقهم، وبما يكفي دون تعد لحدود الله فيما أوجبه من حق المسلم على المسلم، إذ هم مدركون تمام الإدراك أن من تكلم في الرجال فهو واقف على شفا حفرة من حفر النار، ذلك الإدراك الذي بعد عنه كثير من الناس ممن يدعي أنه الحامي للشريعة.قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: "عبد المجيد ابن الإمام عبد العزيز بن أبي رواد العالم القدوة الحافظ الصادق شيخ الحرم أبو عبد المجيد المكي مولى الملهب بن أبي صفرة، حدث عن ابن جريج بكتبه وعن أبيه ومعمر بن راشد وأيمن بن نابل ومروان بن سالم وعثمان بن الأسود وجماعة، حدث عنه أبو بكر الحميدي وأحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى العدني وحاجب المنبجي وأحمد بن شيبان الرملي والزبير بن بكار وحسين بن عبد الله الرقي وخلق كثير وكان من المرجئة ومع هذا فوثقه أحمد ويحيى بن معين وقال أحمد كان فيه غلو في الإرجاء يقول هؤلاء الشكاك، يريد قول العلماء أنا مؤمن إن شاء الله، قال يحيى بن معين كان أعلم الناس بحديث ابن جريج ولم يكن يبذل نفسه للحديث، ثم ذكر من نبله وهيئته وقال أيضا كان صدوقا ما كان يرفع رأسه إلى السماء وكانوا يعظمونه، وقال عبد الله بن أيوب المخرمي لو رأيت عبد المجيد لرأيت رجلا جليلا من عبادته، وقال الحسين الرقي حدثنا عبد المجيد ولم يرفع رأسه أربعين سنة إلى السماء قال وكان أبوه أعبد منه، وقال أبو داود كان عبد المجيد رأسا في الإرجاء، وقال يعقوب بن سفيان كان مبتدعا داعية، قال سلمة بن شبيب كنت ثم عبد الرزاق فجاءنا موت عبد المجيد وذلك في سنة ست ومائتين فقال الحمد لله الذي أراح أمة محمد من عبد المجيد، قال ابن عدي عامة ما أنكر عليه الإرجاء، وقال هارون بن عبد الله الحمال ما رأيت أخشع لله من وكيع وكان عبد المجيد أخشع منه، قلت خشوع وكيع مع إمامته في السنة جعله مقدما بخلاف خشوع هذا المرجئ عفا الله عنه أعاذنا الله وإياكم من مخالفة السنة".قلت: فهذا الراوي العالم القدوة الحافظ الصادق، رغم أنه كان رأسا في الإرجاء، ومبتدعا داعية، إلا أن أئمة السلف كأحمد ويحيى بن معين والذهبي لم يسقطوه، واعلم أن أمثال هذا كثير يطول المقال بذكرهم فاقتصرنا عليه.قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "طريق الهجرتين": "ولولا أن المقصود ذكر الطبقات لذكرنا ما لهذه المذاهب وما عليها وبينا تناقض أهلها وما وافقوا فيه الحق وما خالفوه بالعلم والعدل لا بالجهل والظلم، فإن كل طائفة منها معها حق وباطل، فالواجب موافقتهم فيما قالوه من الحق، ورد ما قالوه من الباطل، ومن فتح الله له بهذه الطريق فقد فتح له من العلم والدين كل باب ويسر عليه فيهما الأسباب، والله المستعان".فالعدل والإنصاف هو ميزة أهل السنة والجماعة، الذين يتحرون الابتعاد عن الجور والظلم، والذين هم أعلم الخلق بالحق وأرحم الخلق بالخلق، فقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين في معرض الكلام عن الصوفية، وانقسام الناس فيها، وما في ذلك من حق وباطل:"فيقال: هذا ونحوه من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات، ويستغرقها كمال الصدق، وصحة المعاملة، وقوة الإخلاص، وتجريد التوحيد، ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله، وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس: إحداهما حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة، ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساءوا الظن بهم مطلقا، وهذا عدوان وإسراف، فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها، والطائفة الثانية: حجبوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم، وصحة عزائمهم، وحسن معاملاتهم، عن رؤية عيوب شطحاتهم ونقصانها، فسحبوا عليها ذيل المحاسن، وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها، واستظهروا بها في سلوكهم، وهؤلاء أيضا معتدون مفرطون، والطائفة الثالثة: وهم أهل العدل والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد".وهذا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يدافع عمن عرف بانتصاره للحق ورده للباطل، لكنه زل زلة، وأخطأ، وإن كان ذلك في مسألة عظيمة من أمهات المسائل في الدين، فيقول في "درء التعارض": "وإذا رأيت الرجل قد صنف كتابا في أصول الدين، ورد فيه من أقوال أهل الباطل ما شاء الله، ونصر فيه من أقوال أهل الحق ما شاء الله، ومن عادته أنه يستوعب الأقوال في المسألة، فيبطلها إلا واحدا، ورأيته في مسألة كلام الرب تعالى وأفعاله أو نحو ذلك ترك من الأقوال ما هو معروف عن السلف والأئمة، تبين أن هذا القول لم يكن يعرفه ليقبله أو يرده، إما لأنه لم يخطر بباله، أو لم يعرف قائلا به، أو لأنه خطر له فدفعه بشبهة من الشبهات"، ثم يبن أن الحق في مسائل الخلاف كثيرا ما يكون مع كل طرف في النزاع نصيب منه، فيقول: "وكثيرا ما يكون الحق مقسوما بين المتنازعين في هذا الباب، فيكون في قول هذا حق وباطل، وفي قول هذا حق وباطل، والحق بعضه مع هذا وبعضه مع هذا، وهو مع ثالث غيرها، والعصمة إنما هي ثابتة لمجموع الأمة، ليست ثابتة لطائفة بعينها".وكذلك فيما تنازع فيه المتنازعون من أمهات المسائل؛ قال رحمه الله تعالى في "مجموع الفتاوى": "القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو لم نعرف، لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصا في الكتاب والسنة متفق عليه بين سلف الأمة، وما تنازع فيه المتأخرون نفيا وإثباتا، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحدا على إثبات لفظه أو نفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقا قبل، وإن أراد باطلا رد، وان اشتمل كلامه على حق وباطل، لم يقبل مطلقا، ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ، ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك".وعليه؛ فإن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وكثير من نزاع الناس في هذا هو من جهة القياس والألفاظ المجملة، والتي يفهم منها هذا معنى يثبته، كما فهم من فهم إن أحسنا به الظن، من كلمة "نصحح ولا نهدم" الدفاع عن المبتدعة المعروفين بالبدعة والدعوة إليها، ويفهم منها الآخر معنى ينفيه، ذلك أن هدم المبتدع الذي هو مبتدع داعية إلى بدعته نشيط في الذب عنها؛ والمتمثل في هجره؛ له شروط وضوابط على ما تقتضيه الشريعة العظيمة من مصالح ومفاسد، و من الرفق واللين، ومن اعتبار حال القوة وحال الضعف، لا ينكره من أعانه الله تعالى ووفقه.ولزيادة البيان، نذهب بعيدا من ذلك، فنلحق هذه المسألة بمسألة "هل للفاسق غيبة؟" فنقول نقلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في "مجموع الفتاوى": "وسئل عن قوله "لا غيبة لفاسق"، {.....}، فأجاب: أما الحديث فليس هو من كلام النبي، ولكنه مأثور عن الحسن البصري أنه قال: "أترغبون عن ذكر الفاجر؟ أذكروه بما فيه، يحذره الناس"، وفى حديث آخر: "من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له"، وهذان النوعان يجوز فيهما الغيبة بلا نزاع بين العلماء، أحدهما أن يكون الرجل مظهرا للفجور مثل الظلم والفواحش والبدع المخالفة للسنة، فإذا أظهر المنكر وجب الإنكار عليه بحسب القدرة، كما قال النبي: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" (رواه مسلم)، وفى المسند والسنن عن أبى بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون القرآن وتقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإني سمعت رسول الله يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه"، فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار، وأن يهجر ويذم على ذلك، فهذا معنى قولهم "من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له"، بخلاف من كان مستترا بذنبه، مستخفيا، فان هذا يستر عليه، لكن ينصح سرا، ويهجره من عرف حاله حتى يتوب، ويذكر أمره على وجه النصيحة، النوع الثاني: أن يستشار الرجل في مناكحته ومعاملته أو استشهاده، ويعلم أنه لا يصلح لذلك، فينصحه مستشاره ببيان حاله، كما ثبت في الصحيح أن النبي قالت له فاطمة بنت قيس: قد خطبني أبو جهم ومعاوية فقال لها: "أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء وأما معاوية فصعلوك لا مال له"، فبين النبي حال الخاطبين للمرأة، فهذا حجة لقول الحسن: "أترغبون عن ذكر الفاجر؟ أذكروه بما فيه يحذره الناس"، فان النصح في الدين أعظم من النصح في الدنيا، فإذا كان البني نصح المرأة في دنياها، فالنصيحة في الدين أعظم.وإذا كان الرجل يترك الصلوات ويرتكب المنكرات، وقد عاشره من يخاف أن يفسد دينه، بين أمره له لتتقى معاشرته، وإذا كان مبتدعا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقا يخالف الكتاب والسنة، ويخاف أن يضل الرجل الناس بذلك، بين أمره للناس ليتقوا ضلاله ويعلموا حاله، وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى، لا لهوى الشخص مع الإنسان، مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية، أو تحاسد، أو تباغض، أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساويه مظهرا للنصح، وقصده في الباطن الغض من الشخص واستيفاؤه منه، فهذا من عمل الشيطان، و "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، بل يكون الناصح قصده أن الله يصلح ذلك الشخص، وأن يكفي المسلمين ضرره في دينهم ودنياهم، ويسلك في هذا المقصود أيسر الطرق التي تمكنه....".وفي شرح النووي على صحيح مسلم: "باب مداراة من يتقي فحشه، قوله: إن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ائذنوا له فلبئس ابن العشيرة" أو "بئس رجل العشيرة"، فلما دخل ألان له القول فقلت: يا رسول الله قلت له الذي قلت ثم ألنت له القول قال: "يا عائشة إن شر الناس منزلة ثم الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشه"، قال القاضي: هذا الرجل هو عيينة بن حصن، ولم يكن أسلم حينئذ، وإن كان قد أظهر الإسلام، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين حاله ليعرفه الناس، ولا يغتر به من لم يعرف حاله، قال: وكان منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ما دل على ضعف إيمانه، وارتد مع المرتدين، وجئ به أسيرا إلي أبي بكر رضي الله عنه، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه بئس أخو العشيرة من أعلام النبوة، لأنه ظهر كما وصف، وإنما ألان له القول تألفا له ولأمثاله على الإسلام، وفي هذا الحديث مداراة من يتقي فحشه، وجواز غيبة الفاسق المعلن فسقه، ومن يحتاج الناس إلى التحذير منه، وقد أوضحناه قريبا في باب الغيبة، ولم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ذكر أنه أثنى عليه في وجهه ولا في قفاه، إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام، وأما بئس ابن العشيرة أو رجل العشيرة فالمراد بالعشيرة قبيلته، أي بئس هذا الرجل منها".وفي هذا النقل نقاط مهمة جدا لابد من ذكرها:أولا: قول القاضي أن هذا الرجل هو عيينة بن حصن، وأنه لم يكن أسلم حينئذ، وإن كان قد أظهر الإسلام، ثانيا: وصف النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه بئس أخو العشيرة من أعلام النبوة، ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ألان له القول تألفا له ولأمثاله على الإسلام.والنتيج التي خرج بها الإمام النووي من هذه القصة: مداراة من يتقي فحشه، وجواز غيبة الفاسق المعلن فسقه ومن يحتاج الناس إلى التحذير منه. إذن؛ فالسني إن احتاج إلى التحذير ممن كان مبتدعا وعرف بالبدعة؛ وأمكنه ذلك بالعلم والقدرة؛ وكان الغالب في ذلك التحذير المصلحة على المفسدة؛ فله أن يحذر إن كان رأسا مطاعا بين الناس، بعد قيام الحجة، والواجب عليه أن يحق الحق ويبطل الباطل في مقالات الناس، مجانبا للبغي والعدوان، بعيدا عن الهوى، ودون تعصب إلى طائفة بعينها، إذ تلك الآفات الذميمة توقعه فيما نهى الله تعالى عنه من التحزب المذموم، والتفرق في الدين، ذلك التفرق الذي شتت جمع الأمة، فذهبت ريحها، وتسلط عليها أعداؤها، وأصبح لها نصيب كبير من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لها بالقصعة التي تتداعى عليها الأكلة، هذا ورب هذه الأمة واحد ونبيها واحد وكتابها واحد ودينها واحد، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله المستعان.قال ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة: "قال المتوسطون من أهل الإثبات: ما منكم أيها الفريقان إلا من معه حق وباطل، ونحن نساعد كل فريق على حقه ونصير إليه، ونبطل ما معه من الباطل ونرده عليه، فنجعل حق الطائفتين مذهبا ثالثا يخرج من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين، من غير أن ننتسب لي ذي مقالة وطائفة معينة، انتسابا يحملنا على قبول جميع أحوالها والانتصار لها بكل غث وسمين، ورد جميع أقوال خصومها ومكابريها على ما معها من الحق، حتى لو كانت تلك الأقوال منسوبة إلى رئيسها وطائفتها لبالغت في نصرتها وتقريرها، وهذه آفة ما نجا منها إلا من أنعم الله عليه وأهله لمتابعة الحق أين كان ومع من كان، وأما من يرى أن الحق وقف مؤبد على طائفته وأهل مذهبه وحجر محجور على من سواهم ممن لعله أقرب إلى الحق والصواب منه فقد حرم خيرا كثيرا وفاته هدى عظيم، وهنا نحن نجلس مجلس الحكومة بين هاتين المقالتين؛ فمن أدلى بحجته في موضع كان المحكوم له في ذلك الموضع، وإن كان المحكوم عليه حيث يدلى خصمه بحجته، والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق والعدل بين الطوائف المختلفة، قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم وأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم}، فأخبر تعالى أنه شرع لنا دينه الذي وصى به نوحا والنبيين من بعده، وهو دين واحد، ونهانا عن التفريق فيه، ثم أخبرنا أنه ما تفرق من قبلنا في الدين إلا بعد العلم الموجب للإثبات وعدم التفرق، وأن الحامل على ذلك التفرق البغي من بعضهم على بعض، وإرادة كل طائفة أن يكون العلو والظهور لها ولقولها دون غيرها، وإذا تأملت تفرق أهل البدع والضلال رأيته صادرا عن هذا بعينه، ثم أمر سبحانه نبيه أن يدعو إلى دينه الذي شرعه لأنبيائه، وأن يستقيم كما أمره ربه، وحذره من اتباع أهواء المتفرقين، وأمره أن يؤمن بكل ما أنزله الله من الكتب، وهذه حال المحق أن يؤمن بكل ما جمعه من الحق على لسان أي طائفة كانت، ثم أمره أن يخبرهم بأنه أمر بالعدل بينهم وهذا يعم العدل في الأقوال والأفعال والآراء والمحاكمات كلها، فنصبه ربه ومرسله للعدل بين الأمم، فهكذا وارثه ينتصب للعدل بين المقالات والآراء والمذاهب، ونسبته منها إلى القدر المشترك بينهما من الحق، فهو أولى به وبتقريره وبالحكم لمن خاصم به، ثم أمره أن يخبرهم بأن الرب المعبود واحد فما الحامل للتفرق والاختلاف وهو ربنا وربكم، والدين واحد ولكل عامل عمله لا يعدوه إلى غيره".وانظر إلى الإمام الرباني ابن القيم رحمه الله تعالى كيف يقبل الحق الذي مع المبتدعة من الجبرية والقدرية، ويرد باطلهم، فيعتمد التفصيل في المقالات، ويسير وسطا بين الناس؛ فلا يقبل جملة ولا يسقط جملة، إذ يقول في "مفتاح دار السعادة": "والعقل والفطر تبطل قول الطائفتين، ولا يصح في النصوص والعقول إلا ما ذكرناه من التفصيل، وبه يتبين أن الحق مع الوسط بين الفرق في جميع المسائل، لا يستثنى من ذلك شيء، فما اختلفت الفرق إلا كان الحق مع الوسط، وكل من الطائفتين معه حق وباطل، فأصاب الجبرية في نفي المعاوضة، وأخطئوا في نفي السببية، وأصاب القدرية في إثبات السببية وأخطئوا في إثبات المعاوضة، فإذا ضممت أحد نفي الجبرية إلى أحد إثباتي القدرية ونفيت باطلهما كنت أسعد بالحق منهما".ولتقرير قاعدة "نصحح أخطاء العالم السني ولا نهدمه" نقول:لما كان الدين النصيحة، والدين المعاملة، استدعى ذلك أمورا لابد منها، كالنصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولدينه، والتنزيه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بعث الله به رسوله من الهدى والبينات، التي هي خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، وإن أدخلها فيه من أدخلها بنوع تأويل، كما استدعى ذلك معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، ولا يوجب إطراح أقوالهم جملة وهدرها وتنقصهم والوقيعة فيهم إن أخطئوا، فلا نؤثم ولا نعصم، وفي هذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "إعلام الموقعين": "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين، قال عبد الله بن المبارك: كنت بالكوفة فناظروني في النبيذ المختلف فيه فقلت: لهم تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة فإن لم يبين الرد عليه عن ذلك الرجل بسند صحت عنه فاحتجوا فما جاءوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بسند فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله ابن مسعود وليس احتجاجهم عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه إنما يصح عنه أنه لم ينتبذ له في الجر الأخضر قال ابن المبارك: فقلت للمحتج عنه في الرخصة يا أحمق عد أن ابن مسعود لو كان ههنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر وتخشى فقال قائل يا أبا عبد الرحمن فالنخعى والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهم: دعوا عند المناظرة تسمية الرجال فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن تكون منه زلة أفيجوز لأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا كانوا خيارا قلت فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد قالوا حرام فقلت إن هؤلاء رأوه حلالا أفماتوا وهم يأكلون الحرام فبهتوا وانقطعت حجتهم. قال ابن المبارك ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال يا بني لا تنشد الشعر فقلت: يا أبت كان الحسن ينشد الشعر وكان ابن سيرين ينشد فقال أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله، قال شيخ الإسلام: وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء فإنه ما من أحد من أعيان الأئمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا وله أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة، قلت وقد قال أبو عمر بن عبد البر في أول استذكاره، قال شيخ الإسلام: وهذا باب واسع لا يحصى مع أن ذلك لا يغض من أقدارهم ولا يسوغ اتباعهم فيها قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} قال مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم...".قلت: لعل في هذا المقال عظة وذكرى لمن يقلد أئمة الإسلام -بل يقلد من دونهم بدرجات تقليدا أعمى- ويتمسك بمذاهبهم وأقوالهم –صحيحها وخطئها- كما لو كانت نزلت من السماء، والله عز وجل قال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا من المتبعين لنبيه صلى الله عليه وسلم، المؤمنين به، وأن يحيينا على سنته ويتوفانا عليها، لا يفرق بيننا وبينها، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن قال فيهم: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}، إنه سميع الدعاء وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.