كتب حجاج بوخضور :
هام الفؤاد منتشياً بروضها الريان، فلا تلوموني في هواها، فكلّ لطف مجتمع فيها، يتكامل بالتمام عمن سواها، هي وجودي وكياني ومستودع تراثي، بها الحضارة نمت، وبها الفكر استنار، اصطفاها الله ورفع لواها، حرفاً خالداً وحباها، فتلألأت شمساً على الأكوان، لتَزْهو بنا عبر الأزمان، هي ابنة الأمجاد وشرف بني عدنان وقحطان، نثرتْ دُرّها الفريد يثمر عزة في الوجدان، تلقّي وحيها كلّ حين لمن يناجي طيفها كلّ آن، هي سرّ الحسن. فياضة منابع المعاني، تسقينا شهداً من رضاب فم الحسان، تبدع مزاهر الفنّ شعراً ونثراً بقوافي سحر البيان.
تعاتبنا اليوم ابنة الضاد من تجرع كؤوس مُرّ الاغتراب، وتنادينا: وهي تسمع نعيها وتحتسب، ومشرق الشمس يبكيها وينتحب، وتتساءل: لماذا يتقاذفنا الزمان بين مُرّ. الأسى وذلّ الهوان؟ ولا تجد لنا مجداً ولا حسباً؟ وهي النهر لشاربها زلالاً عذباً، وثرّ البلاغة فيها يثري وينساب في البحر أمواجاً ينسرب؟ وكل يوم تشاهد مزلقها من القبر يدنيه اعلام السخف والصخاب، بما افتروه على الرأي من نعيق الفضائيات وأسّن أقلام الكتّاب، فهم لانحطاطه سبب، بما كانوا يملؤون الفراغ لغواً وعبثاً وخلافات وشجباً، بقول غير فصيح وبمقالة ورطان متقيح خرب، يا غرائب العجب، كم يلهو بوظيفة الفكر قوم هم الآفة الكبرى على الأدب، ألا بداراً فإنّ الوقت من ذهب، وفي مناقب المعادن ما تُذه.بُ برونقه يد الصدأ، غير أن ابنة الضاد لا تصدأ وتبقى كالذهب.
خير اللغات فصاحة القرآن، تتسع الكلام فتنظمه ليتوافق لفظاً ومعاني، وتمكن الإنسان من ملكة التعبير باللسان، فدلالتها اللغوية تأخذ مكانها داخل حقل النشاطات السيكولوجية والإدراكية والحركية والثقافية بتوافق واتزان، فهي كيان وجودي، وأصل شامخ ذي إبداع متجدد‏،‏ بمرونة رحبة، وطبيعية‏ سخية.
تتأثر الحضارة بأنماط اللغة التعبيرية، واللغة العربية خير وسيلة للتعليم، فهي تنمي القدرات العقلية، وتدعم عناصر التفكير، وتعين العقل على الفهم العميق، والإدراك الواسع، وتوليد المعاني والأفكار، بينما نشر الكتابة بالعامية في وسائط الإعلام تؤدي إلى ضعف المستوى الإبداعي والجمالي بين القراء، وتفريق المجتمع بدلاً من تجميعهم، وتجهيلهم بدلاً من تثقيفهم، وإلى تدني أسلوب التخاطب، والتحجر الفكري والاتكالية.
إن التخلف اللغوي له علاقة مفصلية بالتخلف العقائدي، ويؤدي إلى اختلال الصلات العقلية بين الذات وعقيدة التوحيد، وانتشار روح الانهزامية واللامسؤولية واللامبالاة، وغياب المنهجية، والجزمية الفكرية، وعاطفية التفكير، وعدم تقبل النقد، واللجوء إلى العنف عند التعبير، والآنية والارتجال، وغياب العدل، والتمحور حول الذات وتضخم الأنا والاكتئاب، والتواكل الفكري، والاستسلام للتفكير التآمري، ولوم الآخرين، والأنانية والإمعية وقصر النظر، وإهمال الكيف والاهتمام بالكم، والتفكير التشخيصي، وهذا للأسف هو واقعنا.