عن أبي رافع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استسلف من رجل بكرا، وقال: ( إذا جاءت إبل الصدقة قضيناك ) فلما قدمت، قال: ( يا أبا رافع، اقض هذا الرجل بكره ) فلم أجد إلا رباعيا فصاعدا فأخبرت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ( أعطه فإن خير الناس أحسنهم قضاء ) (1)

أجمل ما في الدنيا أن تألف وتؤلف، وتحب وتُحب، فإذا ألمت بك شدة وجدت القاصي والداني والقريب والغريب حولك .. حبا لا تملقا، ومشاركة لا عطفا، ومودة لا شفقة، وهذا المنهج هو ما حرص على ترسيخه الإسلام ليجعل من المجتمع نسيجا فريدا رائعا، فلما كان المعنى الجامع بين المسلمين الإسلام، فقد اكتسبوا به أخوة أصيلة ووجب عليهم بذلك حقوق لبعضهم على بعض، وكلما ازدادت المخالطة وصفا زادت الحقوق، مثل القرابة والمجاورة والضيافة والصحبة والصداقة والأخوة الخاصة في الله عز وجل.
( خير الناس أحسنهم قضاء )* أي للدين. قال بعض الأفاضل: فإذا كان لأحد عندك دين وقضيته، فأحسن القضاء وزده في الكيل والوزن وأرجح تكن بذلك من خيار العباد، وهو الكرم الخفي اللاحق بصدقة السر، فإن المعطي له لا يشعر بأنه صدقة سر في علانية، ويورث ذلك هبة ووداً في نفس المقضي له، وتخفي نعمتك عليه في ذلك ففي حسن القضاء فوائد جمة (2)
وروضة السنة الغناء طالما تحدثت حول هذا المعنى السامي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ( رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى ) (3) وهذا دعاء أو خبر وقرينة الاستقبال المستفاد من ( إذا ) تجعله دعاء ( سمحاً ) جواداً أو مساهلاً غير مضايق في الأمور، وهذا صفة مشبهة تدل على الثبوت، ولذا كرر أحوال البيع والشراء والتقاضي حيث قال: ( سمحا إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى ) أي وفى ما عليه بسهولة ( سمحاً إذا اقتضى ) أي طلب قضاء حقه، وهذا مسوق للحث على المسامحة في المعاملة، وترك المشاححة والتضييق في الطلب، والتخلق بمكارم الأخلاق، وقال القاضي : رتب الدعاء على ذلك ليدل على أن السهولة والتسامح سبب لاستحقاق الدعاء ويكون أهلاً للرحمة والاقتضاء والتقاضي وهو طلب قضاء الحق (4)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ( المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس ) (5) *قال الماوردي: بين به أن الإنسان لا يصلح حاله إلا الألفة الجامعة، فإنه مقصود بالأذية محسود بالنعمة، فإذا لم يكن ألفاً مألوفاً تختطفه أيدي حاسديه، وتحكم فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تصف له مدة، وإذا كان ألفاً مألوفاً انتصر بالألف على أعاديه وامتنع بهم من حساده فسلمت نعمته منهم وصفت مودته بينهم وإن كان صفو الزمان كدراً ويسره عسراً وسلمه خطر والعرب تقول من قل ذل (6)
وقال أبو حاتم: لا يجب على العاقل أن يكافئ الشر بمثله، وأن يتخذ اللعن والشتم على عدوه سلاحا، إذ لا يستعان على العدو بمثل إصلاح العيوب وتحصين العورات حتى لا يجد العدو إليه سبيلا (7)
ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: ( إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، من تركه الناس اتقاء فحشه ) (8) أي لأجل قبح فعله وقوله، أو لأجل اتقاء فحشه أي مجاوزة الحد الشرعي قولاً أو فعلاً، وهذا أصل في ندب المداراة إذا ترتب عليها دفع ضر أو جلب نفع، بخلاف المداهنة فحرام مطلقاً إذ هي بذل الدين لصلاح الدنيا، والمداراة بذل الدنيا لصلاح دين أو دنيا، بنحو: رفق بجاهل في تعليم، وبفاسق في نهي عن منكر، وتركه إغلاظ وتألف ونحوها مطلوبة محبوبة إن ترتب عليها نفع، فإن لم يترتب عليها نفع بأن لم يتق شره بها كما هو معروف في بعض الأنام فلا تشرع، فما كل حال يعذر ولا كل ذنب يغفر ، وقال بعضهم : أُخذ من هذا الخبر أن ملازمة الرجل الشر والفحش حتى يخشاه الناس اتقاء لشره من الكبائر (9)

الهوامش
(1) رواه ابن ماجة ــ كتاب التجارات رقم 2276 ورواه أيضا عن عرباض بن سارية بلفظ ( خير الناس خيرهم قضاء ) والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 3290 (2) فيض القدير / المناوي 2/451 (3) رواه ابن ماجه عن جابر (صحيح) انظر حديث رقم: 3495 في صحيح الجامع. (4) فيض القدير 2/462 (5) رواه الضياء في الأحاديث المختارة عن جابر (حسن) انظر حديث رقم: 6662 في صحيح الجامع (6) فيض القدير 2/897 (7) روضة العقلاء – أبي حاتم بن حبان / مكتبة السنة المحمدية ص 100 (8) رواه أبو داود والترمذي عن عائشة (صحيح) انظر حديث رقم: 2095 في صحيح الجامع. (9) فيض القدير 1/542
د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com