بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آل بيته وأصحابه ومن والاه ومن سار على دربه إلى مولاه .. وبعد ،
الأمر الذي نحن بصدد الحديث عنه يمثل علاجا قويما للمجتمع الإسلامي في هذا الزمان بله ووقاية ، وهذه الوقاية أو العلاج شأنهما شأن باقي أدوات الشفاء لا يتناولها إلا من يؤمن بالمرض ويؤمن بحاجته إلى معالجته أو التحصن خشية الوقوع فيه .. وحتى لا أطيل ، فإن الداء هو الترف والعلاج هو القناعة والزهد في الدنيا ، ودعونا نوضح الأمر حتى يتبين لمن يلتبس عليه .
وبداية لابد من تحرير نقطة مهمة ألا وهي أن الإنسان بعقله القاصر لا يستطيع أن يحيط بحكمة الله الإلهية إحاطة كاملة ، وكذا لا يستطيع الحكم على كل أمور الشريعة من وجهة نظره القاصرة الضعيفة مهما درس ما درس وحصل من العلوم الشرعية ما حصل ، لذا كان على الإنسان في الأصل أن يسلِّم لله تبارك وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر جاء به ولا يسعه إلا ذلك ، وألا ينسى أنه مهما بلغ من علمه بالشريعة وبمقاصدها فلن يعدو عقله قدره .
لهذا يقع الكثير ممن أحرزوا من العلم ما أحرزوا في هذا المنزلق الوعر لنظرتهم إلى ما حصلوا من أقوال أهل العلم وكثرته فيسيئون الظن بعقلهم ويحسبونه بالغا ولا يزال رضيعا .
وهذا بالضبط أحبتي ما حدث مع قضية الزهد ، فنظر القاصرون – أعني عقولهم – إلى أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم على أنها تصلح لعصر دون الآخر أو يصرفون بعضها ببعض وما هذا إلا لعجز عقولهم ، لذا كان لزاما علينا النصيحة لهم بأن نقول لهم لا تدخلوا عقولكم بالمنطق البغيض والتفكر المذموم والتدبر المؤسف ولكن أدخلوها بالتسليم المنير الذي يصل به الإنسان إلى ربه مطيعا منيبا سالما ناجيا .
وحتى يتضح هذا الذي نوهت إليه سأورد بعض الأحاديث التي يصير الأمر بها جليا :
روى الترمذي بإسناد صحيح في سننه وأحمد كذلك في مسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ (البستان والمزرعة والتجارة) فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا . وحسنه العلامة الألباني ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وصحح إسناده حسين سليم أسد .
والحديث واضح جلي في أن النبي  إنما ينهى عن ذلك نصحا للأمة ، ومعلوم أن النهي هنا للكراهة وليس للتحريم لأن النبي  في حياته كان بعضهم يتخذ الضيعة ولم يأمره  ببيعها وسكوته إقرار كما هو معلوم ، ونهي الرسول  جاء للتزهيد في الدنيا ومدحا لعدم تعلق القلوب بها ومن ثم مدح من ترك الضيعة راغبا في ذلك الزهد ، ولا يتناطح في ذلك عنزتان . فجاء القوم وصرفوا الأمر تماما وجعلوا من يتعلق بمثله فيُرَغِّبُ الناس عن الدنيا ويحثهم على ذلك ويشير إليهم بمثل هذه الأحاديث مختل عقليا ليس براجح العقل عندهم ولا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون ، وما أوتوا إلا من قبل عقولهم التي يريدون لها ما لا يُراد ، وعليه فكان لزاما أن يتضح أن الأصل هو ترك الدنيا وعدم طلبها ولو صَلُحَت النيَّة ، ومع هذا من طَلَبَها وصَلُحَت نيتُه فلا مَلام عليه لكنه ليس الأولى وليس الأرجح ، وليس لانتشار أهل الباطل وامتلاكهم من الدنيا دَخلٌ في تحرير الأمر ، لأن الرسول  كان يُزَهِّدُ أصحابه في الدنيا وهو يعلم أن الأمم الأخرى تَملِك ما تملك وما منعه ذلك أن يَزْهَد في حَثِّهِم على الزهد وتكرار هذا الأمر عليهم وتتابع التذكير به من آن إلى آخر ، لأن الزُّهدَ أصل وغيره وإن لم يُحرَّم وكان نافعا فليس أصلا ولكنه فرع ولا يمكن أن تختلَّ الموازين من أجل اختلاف الحياتين ، ولكن تُقَدَّرُ بقدْرِها .
وكذا روى الترمذي بإسناد صحيح عن خَبَّاب يقول سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ يُؤْجَرُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَتِهِ كُلِّهَا إِلَّا الْبِنَاءِ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وصححه العلامة الألباني وهو في صحيح الجامع . فأَدخَلُوا عُقولَهم في هذا فقالوا لو أَحسَنَ المرءُ النيةَ في البناءِ لكان أمراً طيباً يُؤجرُ عليه ، ويُقالُ لهم أعَلِمتُم ما لم يعلَمْه الرسولُ  وانتبهتم إلى ما لم ينتبه إليه ، ولو كان ما تقولونه صحيحاً فما مقصود التخصيصُ في الحديث على البناء إذ كل أمر مقررٌ أنه يحسُن بحسن النية ويسوء بسوئها .. فهلا نفرغ من هذا التدخل العقلي الذي لا يغني ولا يسمن من جوع ؟ ومعلوم ومقرر أن المرء عليه أن يُراعي مشاعرَ جارِه ويحافظُ عليها في الطعامِ فما بالُكم فيما فوقه . ومعلوم أن التباهي في البناء مظنةُ الحقد والضغينة والحسد وينبغي على الإنسان أن يتلاشى مثل هذه الأمور وأن يتواضع في كل شيء حتى في البناء ، ولا يقول قائل أن ما يَحسُن دفع الحسد به مذموم الحث عليه . فلماذا الحيدة ؟
هذا خاصة وقد ورد في البناء ما هو أعظم من هذا فعند الترمذي بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو  قَالَ مَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ  وَنَحْنُ نُعَالِجُ خُصًّا لَنَا فَقَالَ مَا هَذَا فَقُلْنَا قَدْ وَهَى فَنَحْنُ نُصْلِحُهُ قَالَ مَا أَرَى الْأَمْرَ إِلَّا أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وصححه العلامة الألباني عند أبي داود والترمذي وابن ماجة وهو في صحيح الجامع ، وصحح إسناده شعيب الأناؤوط عند ابن حبان . ومعلوم أن الحديث صريح قاطع الدلالة في التزهيد في البناء ، ولا يقال أبدا أن ابن عمر كان سيء النية عندما أراد أن يصلح الخص ، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم غاب عنه "أن إصلاح النية في هذا الأمر لا يضر" سبحانك هذا بهتان عظيم .
وجاء عند أحمد بإسناد صحيح عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ  أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ الْمَوْتُ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ ، وصححه العلامة الألباني في الجامع وجود إسناده شعيب الأرناؤوط في المسند . وهذا الحديث يدل قطعا على أن قلة المال ممدوحة ومذموم أن يبغضها الإنسان لأنها مظنة السلامة من طول الحساب ، فجاء القوم – وهم من أهل العلم غير أنه لا معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم – ليمدحوا من طلب الدنيا وطلب كثرة المال يبتغي بهذا رفعة الدين وضربوا صفحا على تزهيد الناس في الدنيا وحثهم على الإقلال من جمع المال فيها لينجوا من طول الحساب ، أفلا نبين القول السديد الصحيح في الأمر ؟
لهذا فإنما يؤتى المسلمون من قبل تطلعهم إلى ما يستحب تركه والتنفير عنه والتزهيد فيه ، لأن المجتمع يستقيم فعلا إذا ترفع من زاد عليه المال عن مثل هذا الذي نذكره وعن شبيهه في أمور الحياة ، وأحاطت القناعة بالمرء ، وكف عن النظر إلى غيره من أصحاب الترف المذموم نجا بهذا ونجا به المجتمع ، وإذا ما تمادينا في ذلك ، ولم يرع بعضنا بعض في ذلك وكففنا عن التنبيه عليه هلكنا وهلك المجتمع ..
وما انتشر الربا والنهب وأكل المال الحرام وانتشرت الرشوة والسرقة والمداهنة إلا بسبب الطمع في الدنيا واللهث ورائها كلهث الكلاب ، فالعودة يا مسلمين ، الرجوع إلى ما كان عليه خير المرسلين قدر الاستطاعة فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وليكن الأصل عندنا هو الأصل عندهم ، والزهد عندنا كما كان الزهد عندهم . ألا لا يوجد زاهد يرغب الناس في متاع الدنيا ويحثهم على رفع مستوى معيشتهم فيها ، ألا ساء من يفهم هذا ؟
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم