السنة والبدعة:

والسنة كما عرفها سلف الأمة وأئمتها هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، اعتقادًا واقتصادًا وقولًا وعملًا، فهي المرادف للشريعة المنزلة غير المبدلة ولا المحرفة، أي ما شرعه الله ورسوله من الدين من واجب ومستحب، فهي الحق دون الباطل؛ وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، لذلك كان من الواجب التفريق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: "السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله سواء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعل على زمانه أو لم يفعله ولم يفعل على زمانه لعدم المقتضي حينئذ لفعله أو وجود المانع منه"، فقد تثبت سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالدليل الشرعي إلا أنه لم تفعل إلا بعد وفاته، كأمره صلى الله عليه وسلم بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وكما فعل بعده بأمره من قتال المرتدين والخوارج المارقين وفارس والروم والترك وغير ذلك، وكجمع الصحابة القرآن في مصحف واحد، وكمداومتهم رضوان الله عليهم على قيام رمضان في المسجد جماعة، ونحو هذا كثير، فأصلها مأمور به أمر إيجاب أو استحباب لكن لم يكن مقتضاها قائما أو وجد مانع منع من فعلها.
ذلك أن كتابة القرآن مشروعة قد أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يجمعه في مصحف واحد، لأن نزوله لم يكن قد تم بعد، وكانت الآية قد تنسخ بعد نزولها، فلوجود الزيادة والنقص لم يمكن جمعه في مصحف واحد حتى مات، واستحالت الزيادة فيه أو نسخه بانقطاع الوحي، وأما كتابة الحديث فنهى عنها أولا، حيث شرع صلى الله عليه وسلم كتابة القرآن فقط فقال: "لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"، وذلك منسوخ عند جمهور العلماء بإذنه لعبد الله بن عمرو أن يكتب عنه ما سمعه في الغضب والرضا، وبإذنه لأبي شاه أن يكتب له خطبته عام الفتح، وبما كتبه لعمرو بن حزم من الكتاب الكبير الذي كتبه له لما استعمله على نجران وبغير ذلك.
وكذلك صلاة التراويح، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة"، وقام في أول الشهر بهم ليلتين، وقام في آخر الشهر ليالي، وكان الناس يصلون على عهده في المسجد فرادى وجماعات، لكن لم يداوم بهم على الجماعة خشية أن تفرض عليهم، وقد أمن ذلك بموته، وإذ قد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه الترمذي وغيره: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"، فما سنه الخلفاء الراشدون ليس بدعة شرعية ينهى عنها، وإن كان يسمى في اللغة بدعة لكونه ابتدئ، كما قال عمر: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل.
ولهذا كان عمر بن عبد العزيز يقول: " سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سننا: الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها؛ من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا".
وأما البدعة الشرعية فهي البدعة في الدين، وهي إدخال في الدين ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، ولا أمر به أحد من الخلفاء الراشدين، فسنة خلفائه الراشدين هي مما أمر الله به ورسوله، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكلّ من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله، فقد دعا إلى بدعة وضلالة، والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم؛ فإنّ الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق"، فالاعتصام بالسنة نجاة كما كان الزهري يذكر عمن مضى من سلف المؤمنين، وكان مالك يقول: السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.
ولهذا كان الأصل الذي بنى عليه سلف الأمة وأئمتها مذاهبهم أن أعمال الخلق إما عبادات يتخذونها ديناً، ينتفعون بها في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة، وإما عادات ينتفعون بها في معايشهم، والأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله.
ومن قال أو فعل بدعة في الدين فلا يجوز اتباعه فيها، مع أن صاحبها قد يكون ممن يرجى له الخير، قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم: "قد يكون متأولاً في هذا الشرع، فيغفر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهداً الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ ويثاب أيضاً على اجتهاده، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك، كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل، قولاً أو عملاً، قد علم الصواب في خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجوراً أو معذوراً".
ثم إن الله سبحانه وتعالى قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، ما عبدوهم، قال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم"، فمن أطاع أحداً في دين لم يأذن به الله في تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب، فقد أطاعه في دين مبتدع غير منزل، وله من هذا الذم نصيب، كما للآمر الناهي أيضاً نصيب، وقد يتخلف الذم عنهما لفوات شرطه، أو لوجود مانعه، وإن كان المقتضي له قائماً، وقد يكونان مثابين لاجتهادهما الاجتهاد المطلوب شرعا، ولا ريب أن الذم يلحق من تبين له الحق فتركه، أو من قصر في طلبه فلم يتبين له، أو أعرض عن طلب معرفته لهوى، أو لكسل، أو نحو ذلك.