بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو الوفاء ابن عقيل:"قال الله سبحانه:(واجعلوا بيوتكم قبلة)، قبلة: جهة للطاعات، ومستقبَلا لله سبحانه وتعالى في العبادات. ومن كان مأمورا أن يجعل بيته قبلة-وهو موضع الغفلة ومناخ البطالة-أولى أن يعقل عن الله أن يجعل مواطن العبادة محترمة عن تبديلها بأمور الدنيا، وأرى أهل زماننا جعلوا مساجدهم متاجر وأسواقا، وجعلوا بيوتهم قبورا"[1].
أنزل الله سبحانه كتابه العظيم على نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، ليكون للناس ميزانا يزنون به أعمالهم ومرآة تريهم على الحقيقة أحوالهم، ذلك أنهم لو نظروا إلى أحوالهم بأعين أهوائهم لصورت لهم سيئاتهم حسنات ومعاصيهم قربات، ولو استأمنوا على صور أحوالهم خلانهم ونظراءهم لزين بعضهم بعضا، كما قال شاعر فطن للمؤامرة:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم***والمنك ون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم***بعضا، ليسكت معور عن معور
فمن رحمة الله بالخلق أن جعل لهم القرآن الكريم ميزانا لا يختل، ومرآة لا تكذب، فأسعدُهم من عرض نفسه على كتاب الله فأراه من نفسه عاجل بشراه من صلاح النفس والعمل، وأخوفُهم من أراه من نفسه سيء عقباه إن استمر على فساد الحال، وأشقاهم من أراه نفسه على حقيقتها صورة شوهاء من فطرة الله التي فطر الناس عليها، فأخذته العزة بالإثم فكذَّب المرآة في صدق ما أرته.
فلما كان أكثر الخلق سادرا في ضلاله، مصدِّقا لمحكم التنزيل بحاله: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك) ساءهم أن يبقى الكتاب كاشفا لأحوالهم بأنواره، باسطا لها بعموم أخباره، وعلموا إلى ذلك أنه كتاب محفوظ لا سبيل إلى نسخ ألفاظه، فاحتالوا بأن قلبوا ميزان الحكم فجعلوا من أنفسهم المريضة حاكمة عليه في أعين أمثالهم من المخدوعين.
تلك هي خديعة انقلاب الموازين، على ما يجري عليه حال الناس في هذا الزمان، فأساطين الفساد وأئمة الضلال لا يقولون ما يقولون في الكتاب الكريم لفضل عقل فيهم ولا لزيادة فهم عندهم، وإنما يصنعون ذلك خداعا ومكرا، مع علمهم بحقيقة ما يحاكمون، فقامت عليهم الحجة قبل اقترافهم منكرهم هذا، قال الله عز وجل مبينا أمرهم: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهو يعلمون)، فأثبت الله عز وجل لهم أمرين: عقل ما سمعوا، وعلم ما اقترفوا، فلم يبق لهم في ادعاء الجهل مستمسك، وإنما صنعوا ما صنعوا لعلمهم بأنهم لا يخفون حالهم على أتباعهم وعُبّادهم إلا بأن يدَّعوا الحكم على ما هم به في الحقيقة محكومون، وأن يخفوا ما هم تحت أنوار أخباره مكشوفون.
وذهب أولئك القوم السابقون، وبقي الكتاب من بعدهم يجلي للناس فضائحهم ويقبح في عيون المعتبرين قبائحهم، فيهتدي به أقوام ويضل به آخرون، ثم نبتت من بعدهم نابتة على أشكالهم زادت عليهم في خبث الصنيع، فلم تبادر بالتكذيب جهارا، ولم تصر على الرد إصرارا، بل زعمت أنها إنما تسائل وتناقش، وتباحث وتفاتش، وأن الحياد العلمي يفرض عليها أن تقرأ القرآن كما تقرأ كلام البشر، وأنها إن وصلت بأدوات القراءة التي وضعتها إلى رد القرآن إلى مصدر غير بشري آمنت بذلك إيمان علم لا إيمان دين، وأن المسلمين إن كانوا حقا موقنين بأن القرآن كلام الله فلا ينبغي أن يخشوا من ممارسة القراءة الحرة-زعموا-عليه.
فاغتر من عامة العميان بهذا الخطاب التخييلي من اغتر، وحسب أنه على سبيل من العلم الحديث لاحب، وأن هذه الأدوات والمساطر ستفتح من أبواب معاني القرآن ما لم يهتد إليه الأوائل، وأنه حان أوان أن نرد علم أصول الفقه وقواعد التفسير إلى أدراج التاريخ وأن نحنطها في مدافن التراث، ولم يعلم المساكين أن أدوات القراءة المعاصرة قد صنعت على عين من الكفر لا تنام، وأن أربابها الذين أسسوها إنما أرادوا منها أن تبرهن على أن نصوصهم المقدسة ما هي إلا صنيع يد بشرية أرادت أن تبلغ سلطان النفوس من باب الديانة-وقد صدقت في ذلك أحكامهم وإن خبثت نياتهم، فلم يكن غرض القوم كشف زيوف التحريف لرد النص إلى أصله، وإنما كان المقصد أن يبنوا على إثبات التحريف أنه لا أصل إلهي للكتب المقدسة، وأن الله لم يخاطب العباد بكلمات مكتوبة، أو أنه لا إله أصالة، وأن الألوهية فكرة أوجدها من يريد السيطرة على نفوس الضعفاء من البشر.
وجاء أذناب أولئك الصانعين فأخذوا الأدوات ولم يعلموا لم صُنِعت ولا ما تَصنَع، وراحوا بها كجراح ذي عُصاب يُشرِّح كل بدن أمامه، وها هي ذي الجامعات العربية تطالعنا كل يوم ببحثٍ مُجاز يتهوك فيه صاحبه ما شاء أن يتهوك تطاولا على كتاب الله العزيز، حتى بلغت الصفاقة ببعضهم إلى أن يصرح بأنه سيتعامل مع النص تحت إطار نظري هو نظرية موت المؤلف، وكأن هذا الكتاب لا قائل له، ولا يصح الحكم عليه من ناحية أدبية مع البقاء تحت سلطان الألوهية، في حين أن القرآن الكريم يوجه قارئه كل حين إلى أن لا يغفل طرفة عين عن أن مخاطبه هو رب العزة سبحانه، قال تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين)، وقال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد)، وقال سبحانه: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا)، والمتكلم به عز شأنه حاضر بالخطاب في ثناياه بما لا يدع مجالا للغفلة عنه سبحانه، قال تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري)، وقال جل وعلا: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)، وقال: (وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).
إن القرآن الكريم كتاب بيان وهداية، وليس من كتب المتعة التي تنتهي مقاصدها عند حدود ألفاظها، حتى إذا جاءها المعتبر لم يجدها شيئا. بل تكلم به الحكيم سبحانه وقد سبق في علمه حال كل فؤاد يتلقاه، فجعله لأهل الصلاح هداية، ولأهل الشرور فتنة، وليس هو بقصيدة قالها شاعر عربيد، ولا خطبة صاغها متصنع، وإنما هو كلام اللطيف الخبير الذي يخاطب من الإنسان جوهر إنسانيته مقيما عليه الدلائل بما خلقه عليه من سوي فطرته دافعا فؤاده إلى أن يخفق بتوحيده سبحانه وإن نازعته أهواء النفس الردية عن الإقرار به.
فأبلغ ما غلط فيه الغالطون أن ينظر الإنسان إلى كلام الرب تعالى نظرته إلى عين مثيله، وأن يحسب أن في وسعه أن يحكم على الكتاب العزيز حكمه على ما ينشئه البشر في حال الغضب والرضا والحزن والفرح والقوة والضعف والشجاعة والخور، والله سبحانه قد مدح حكما واحدا على كتابه الكريم، هو حكم التصديق لا حكم التحقيق، قال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون . وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين . أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) أي بما صبروا على أهواء أنفسهم من مدافعة حكم الكتاب وصدقه كبرا وحسدا واستنكافا عن أمر الله تعالى. وقال سبحانه في شأن بعض من شرح للحق صدره من أهل الكتاب: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين).
فأسعد الناس بالكتاب الكريم من أيقن بمقدمات الصحة إيمانا ويقينا، وصرف الهمة والجهد في تدبره والفهم عن الله فيه، وأضلهم صنيعا من أضاع الليالي والأيام، بل الشهور والأعوام، يناقش صدق المخبر غافلا عن نور الخبر، ضالا في متاهات نظرية من صناعة العقول المظلمة، صدق فيه قول الله تعالى: (كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين)
فما أجمل أن نكون وإياك أخي المسلم ممن يستعملهم الله تعالى في رد الأمر إلى نصابه، ونصب الميزان بالقسط ليقرأ الكتاب الكريم ويعقل فيه عن رب العالمين كما أحب ربنا لعباده ورضي: قراءة قبول وسمع وطاعة واتعاظ واعتبار، نعلم محكمه ونؤمن بمتشابهه، ونصدق أخباره ونطبق أحكامه، ونتخذه مرآة ترينا من أنفسنا عاجل بشرانا فنفرح برحمة الله، أو ترينا أخطاءنا فنسارع بالتوبة منها وإصلاح ما اختل من أعمالنا.
ولنا بعدُ-إن شاء الله-جولة نصاول فيها أصحاب نظريات القراءة، ونقف فيها على صور من فساد النيات والأنظار في معاملة كلام الواحد القهار، ونبين فيها المؤامرة التي تحاك على كتاب الله بتحريف معانيه وصرف القلوب عن مقاصده.
وفقنا الله وإياك إلى أن نكون ممن تلقى كتابه الكريم بالقبول والسمع والطاعة، ومتع عيوننا وأفئدتنا بنا يتجلى من جواهر كنزه المكنون، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه سبحانه ولي إجابة السائلين، والمنعم عليهم بالفضل المبين، والحمد لله رب العالمين.


[1]-كتاب الفنون، أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي، (1/283).