مناظرة بين الشافعي وإسحاق بن راهويهرضي الله عنهما
في كراء بيوت أهل مكة

قلت: ومذهب الشافعي جواز كراء وبيع بيوت أهل مكة، لأنها ملك لأهل مكة، أما إسحاق ابن راهويه فيرى أنها لا يجوز بيعها ولا كرائها لأنها مباحة لجميع المسلمين.

روي عن إسحاق بن راهويه قال: كنا بمكة والشافعي بها، وأحمد بن حنبل أيضا بها، وكان أحمد يجالس الشافعي، وكنت لا أجالسه، فقال لي أحمد: يا أبا يعقوب لم لا تجالس هذا الرجل؟ فقلت: ما أصنع به وسنه قريب من سننا، كيف أترك ابن عيينة، وسائر المشايخ لأجله، قال: ويحك إن هذا يفوت وذلك لا يفوت، قال إسحاق: فذهبت إليه وتناظرنا في كراء بيوت أهل مكة، وكان الشافعي تساهل في المناظرة، وأنا بالغت في التقرير، ولما فرغت من كلامي، وكان معي رجل من أهل مرو، فالتفت إليه وقلت مردك هكذا مردك واكمالي نيست يقول بالفارسية هذا الرجل ليس له كمال، فعلم الشافعي أني قلت فيه سوءا، فقال لي: أتناظر؟ قلت للمناظرة جئت!
قال الشافعي: قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ}([1])
فنسب الديار إلى مالكها أو إلى غير مالكها، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة «من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»([2])
فنسب الديار إلى أربابها أم إلى غير أربابها؟ واشترى عمر بن الخطاب دارا للسجن من مالك أو من غير مالك؟ ([3]) .
وقال النبي - صلى الله عليه و سلم – «وهل ترك لنا عقيل من دار»([4]).
قال إسحاق: فقلت الدليل على صحة قولي أن بعض التابعين قال به.
فقال الشافعي: لبعض الحاضرين من هذا؟
فقيل: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي.
فقال الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم!
قال إسحاق: هكذا يزعمون.
فقال الشافعي: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك، فكنت آمر بعرك أذنيه، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: قال عطاء، وطاووس والحسن، وإبراهيم، وهل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة!
فقال إسحاق: اقرأ:{سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}([5]).
فقال الشافعي: هذا في المسجد خاصة.
وعن داود بن علي الأصفهاني أنه كان يقول: إن إسحاق لم يفهم احتجاج الشافعي، فإن غرض الشافعي أن يقول لو كانت أرض مكة مباحة للناس لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: أي موضع أدركنا في دار أي شخص نزلنا فإن ذلك مباح لنا فلما لم يقل ذلك بل قال: «لم يترك لنا عقيلسكنا»([6])
دل ذلك على أن كل من ملك منها شيئا فهو مالك له منعه غيره أو لم يمنعه. ثم يحكى عن إسحاق أنه كان إذا ذكر الشافعي كان يأخذ لحيته بيده ويقول: واحيائي من محمد بن إدريس، يعنى في هذه المسألة، ولا سيما في قوله: مردك لا كما لى نيست، وفى رواية قال إسحاق لما عرفت أنى أفحمت قمت ([7]).

كلام رائع للحافظ ابن حجر في هذه المسألة:

قَوْلُهُ بَابُ تَوْرِيث دور مَكَّة وَبَيْعهَا وشرائها وَأَنَّ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ سَوَاءٌ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْآيَةَ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى تَضْعِيفِ حَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا تُدْعَى رِبَاعُ مَكَّةَ إِلَّا السَّوَائِبَ مَنِ أحتاج سكن أخرجه بن مَاجَهْ وَفِي إِسْنَادِهِ انْقِطَاعٌ وَإِرْسَالٌ وَقَالَ بِظَاهِرِهِ بن عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ بن جُرَيْجٍ كَانَ عَطَاءٌ يَنْهَى عَنِ الْكِرَاءِ فِي الْحَرَمِ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ عُمَرَ نَهَى أَنْ تُبَوَّبَ دُورُ مَكَّةَ لِأَنَّهَا يَنْزِلُ الْحَاجُّ فِي عَرَصَاتِهَا فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَوَّبَ دَارَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَاعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ لِعُمَرَ وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ مَكَّةُ مُبَاحٌ لَا يَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَلَا إِجَارَةُ بُيُوتِهَا وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَن بن عُمَرَ لَا يَحِلُّ بَيْعُ بُيُوتِ مَكَّةَ وَلَا إِجَارَتُهَا وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَخَالَفَهُ صَاحِبُهُ أَبُو يُوسُفَ وَاخْتُلِفَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَبِالْجَوَازِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ وَيُجَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلْقَمَةَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ بِحَمْلِهِ عَلَى مَا سَيُجْمَعُ بِهِ مَا اخْتُلِفَ عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فَأَضَافَ الْمِلْكُ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنِ ابْتَاعَهَا مِنْهُ وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ فَأَضَافَ الدَّار إِلَيْهِ وَاحْتج بن خُزَيْمَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ فَنَسَبَ اللَّهُ الدِّيَارَ إِلَيْهِمْ كَمَا نَسَبَ الْأَمْوَالَ إِلَيْهِمْ وَلَوْ كَانَتِ الدِّيَارُ لَيْسَتْ بِمِلْكٍ لَهُمْ لما كَانُوا مَظْلُومِينَ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ دُورٍ لَيْسَتْ بِمِلْكٍ لَهُمْ قَالَ وَلَوْ كَانَتِ الدُّورُ الَّتِي بَاعَهَا عَقِيلٌ لَا تُمَلَّكُ لَكَانَ جَعْفَرُ وَعَلِيٌّ أَوْلَى بِهَا إِذْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ دُونَهُ وَسَيَأْتِي فِي الْبُيُوعِ أَثَرُ عُمَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ وَلَا يُعَارِضُ مَا جَاءَ عَنْ نَافِع عَن بن عُمَرَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ تُغْلَقَ دُورُ مَكَّةَ فِي زَمَنِ الْحَاجِّ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ إِنَّ عُمَرَ قَالَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدُورِكُمْ أَبْوَابًا لِيَنْزِلَ الْبَادِي حَيْثُ شَاءَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِكَرَاهَة الْكِرَاءِ رِفْقًا بِالْوُفُودِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْإِمَامُ أَحْمَدَ وَآخَرُونَ وَاخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَسْجِدُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ النُّسُكُ وَالصَّلَاةُ لَا سَائِرَ دُورِ مَكَّةَ وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَاخْتَلَفُوا هَلْ مُنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا لِعِظَمِ حُرْمَتِهَا أَوْ أُقِرَّتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ الِاخْتِلَافُ فِي بَيْعِ دُورِهَا وَالْكِرَاءُ وَالرَّاجِحُ عِنْدَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا فَخَالَفَتْ حُكْمَ غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَيْسَ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ نَاشِئًا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ هُنَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هَلْ هُوَ الْحَرَمُ كُلُّهُ أَوْ مَكَانُ الصَّلَاةِ فَقَطْ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ سَوَاءً فِي الْأَمْنِ وَالِاحْتِرَامِ أَوْ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ نَشَأَ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا قَالَ بن خُزَيْمَةَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى سَوَاءً العاكف فِيهِ والباد جَمِيعَ الْحَرَمِ وَأَنَّ اسْمَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاقِعٌ عَلَى جَمِيعِ الْحَرَمِ لَمَا جَازَ حَفْرُ بِئْرٍ وَلَا قَبْرٍ وَلَا التَّغَوُّطُ وَلَا الْبَوْلُ وَلَا إِلْقَاءُ الْجِيَفِ وَالنَّتْنِ قَالَ وَلَا نَعْلَمُ عَالِمًا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا كَرِهَ لِحَائِضٍ وَلَا لِجُنُبٍ دُخُولَ الْحَرَمِ وَلَا الْجِمَاعَ فِيهِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ الِاعْتِكَافُ فِي دُورِ مَكَّةَ وَحَوَانِيتِهَا وَلَا يَقُولُ بِذَلِكَ أَحَدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قُلْتُ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ كُله ورد عَن بن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُجاهد أخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ وَالْأَسَانِيدُ بِذَلِكَ كُلُّهَا إِلَيْهِمْ ضَعِيفَةٌ وَسَنَذْكُرُ فِي بَابِ فَتْحِ مَكَّةَ مِنَ الْمَغَازِي الرَّاجِحَ مِنَ الْخِلَافِ فِي فَتْحِهَا صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى([8]).

[1]ـ سورة الحشر: 8.
[2] ـ أخرجه مسلم (1780) من حديث أبي هريرة بلفظ:" مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابهُ فَهُوَ آمِنٌ" وهو حديث طويل في فتح مكة.
[3] ـ أخرجه البخاري معلقا وقال ابن حجر في "الفتح" (5/76/ط المعرفة): وَصله عبد الرَّزَّاق وبن أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيّ ُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فَرُّوخٍ بِهِ.
[4]ـ أخرجه البخاري (3058)، ومسلم (1351) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
[5]ـ سورة الحج: 25.
[6]ـ تقدم.
[7]ـ طبقات الشافعية الكبرى لعبد الوهاب السبكي (2/89/ط هجر)
[8] ـ فتح الباري لابن حجر (3/450/ط المعرفة)