بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ... وبعد :
فهذا بحث مختصر لأشهر مسائل قنوت النوازل، قد سرت فيه على طريقتي المعتادة ، أذكر أقوال أهل العلم في المسألة، ودليل كل قول، ومأخذه، وما يرد عليه من مناقشة، ثم رجحت بعد ذلك ما أعتقده راجحا بالدليل. هذا وأسأله سبحانه أن يغفر لي ذنبي ويتجاوز عن تقصير... آمين. قنوت النوازل: القنوت في اللغة الطاعة، يقال: قنت يقنت قنوتًا إذا أطاع، وقد ورد لفظ القنوت في الشرع بمعانٍ متعدِّدة كالطاعةِ، والخُشوع، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام، والسكوت في الصلاة، فيُحمل على أحد هذه المعاني بحسب ما يقتضيه السياق. والمراد بالقنوت هنا الدعاء في الصلاة في محلٍ مخصوص من القيام. (على الخلاف هل هو قبل الركوع أم بعده؟، على ما سوف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى). أما النوازل فهي في اللغة جمع نازلة، وهي الشديدة من شدائد الدهر تحصل وتقع. حكمه : اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال: القول الأول: أنه مشروع على جهة الاستحباب، وبهذا قال الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة والظاهرية. واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها: - ما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ، ويكبر ويرفع رأسه : «سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد»، ثم يقول وهو قائم :«اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسني يوسف». وجه الاستدلال بالحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وفعله صلى الله عليه وسلم يفيد الندب والاستحباب. وأجيب عنه: بأن فعله صلى الله عليه وسلم هذا وقع في الصلاة، وقد جاء في البخاري من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه مرفوعا:«صلوا كما رأيتموني أصلي»، وهذا أمر ، والقاعدة في الأصول:[ أن الأمر المطلق للوجوب]، فكيف يقال بالاستحباب؟. ورد الجوابُ: بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وتركه على ما ثبت في الرواية، ففعله صلى الله عليه وسلم يدل على الندب، وتركه يدل على عدم الوجوب. - واستدلوا أيضا بما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لأقربنّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان أبو هريرة رضي الله عنه يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر ، وصلاة العشاء ، وصلاة الصبح ، بعد ما يقول : سمع الله لمن حمده ، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار . ويقال في تقرير وجه الاستدلال به مثلَ ما سبق. القول الثاني: أنه ممنوع، وبهذا قال والد أبي مالك الأشجعي (طارق بن أشيم رضي الله عنه) حيث صرح في الرواية عنه بأنه بدعة ومُحْدَّث، وأخرج عبد الرزاق عن الزهري رحمه الله أنه كان يقول: «من أين أخذ الناس القنوت ؟ وتعجب . ويقول: «إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما ثم ترك ذلك»، قال ابن حزم رحمه الله:« وكان يحيى بن يحيى الليثي وبقي بن مخلد لا يريان القنوت وعلى ذلك جرى أهل مسجديهما بقرطبة الآن». - واستدلوا على ذلك بما أخرجه الترمذي وابن ماجه عن أبي مالك الأشجعي أنه قال : قلت لأبي : يا أبة ، إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي بن أبي طالب ، هاهنا بالكوفة نحوا من خمس سنين ، أكانوا يقنتون ؟. قال : «أي بني محدث». وأخرج النسائي نحوه بلفظ: «يا بني إنها بدعة». [رواية النسائي هذه ضعيفة في إسنادها خلف بن خليفة الأشجعي وهو مختلطٌ، وحديثه لم يتميز]. وجه الاستدلال بالحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، وعليه ففعله تقربٌ بما لم يرد به دليل، وهذا حد البدعة، والبدعة محرمة لوصف النبي صلى الله عليه وسلم لها بالضلال، وتوعده لصاحبها بالنار، قال صلى الله عليه وسلم:«كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار». وأجيب عن الاستدلال بالحديث: بأنه معارضٌ بالأحاديث الصحيحة التي فيها فعل النبي صلى الله عليه وسلم له، والقاعدة في الأصول : [أن المثبت مقدم على النافي عند التعارض]. فكلٌ أخبر عما رأى، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. ويمكن تأويله على أن مراده القنوت لغير نازلة، والجمهور على بدعيته. - واستدل بعضهم أيضا بما أخرجه أحمد والنسائي من حديث أنس رضي الله عنه قال:«قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا بعد الركوع ، يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه». وبما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الدعاءَ بعدُ. وجه الاستدلال بهذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم تركه، وهذا دليل على نسخه. وأجيب عن هذا: بأن تركه صلى الله عليه وسلم لا يدل على نسخه، بل على عدم وجوبه، وهذا ما نقول به، والقاعدة في الأصول:[أن ترك فعل المأمور به لا يدل على نسخه]. وجوابٌ آخر: يحتمل أن تركه كان بسبب ارتفاع النازلة، ووجود الاحتمال مسقط للاستدلال كما تقرر في الأصول. وقد جاء عند مسلم عقب حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أحد الرواة قال: «فقلت: أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم ، قال : فقيل : وما تراهم قد قدموا». أي ما تراهم قد قدموا إلى المدينة وانفك حصارهم. الترجيح: الراجح عندي في هذه المسألة هو القول الأول، وذلك لقوة دليله، وعدم سلامة أدلة أصحاب القول الثاني من المعارضة. الحكمة منه : الله سبحانه وتعالى حكيم موصوف بالحكمة في أحكامه وأفعاله، فهو لا يشرع حكما إلا لمعنا يخرجه عن حيز العبث، وتلك المعاني منها ما هو منصوصٌ عليه فيجزم به لورود النص، ومنها ما هو مستنبطٌ فيذكر احتمالا مصدرا بـ لعل ، لئلا يقعَ المرءُ في قفو ما لا علم له به. ولعل الحكمة من شرعية دعاء القنوت التعريف بحال المسلمين المنكوبين في سائر البلدان لمناصرتهم، والاهتمام لأمورهم، والحزن لمصائبهم، وفي إظهاره تنبيه للغافلين والمقصرين الذين قد لا ينصرون إخوانهم ولو بالدعاء، مع ما فيه من شفاء صدور المؤمنين وإذهاب غيظ قلوبهم. الصلوات التي يقنت فيها: هذه الترجمة تحتها ثلاث مسائل: المسألة الأولى: القنوت في الصلوات الخمس: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة هل يشرع أن يقنت في الصلوات الخمس جميعها أم في بعضها دون بعض؟، وذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يشرع في جميعها، وبهذا قال الشافعية والحنابلة. [المجموع (3/506)، الإنصاف (2/125)]. ودليلهم على هذا: أنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله في جميعها. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه من فعله القنوت في الفجر والظهر والعشاء، وقال: لأقربنّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سبق ذكره. وفي صحيح الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا القنوت في الفجر من فعله صلى الله عليه وسلم صريحا. وقد سبق ذكره. وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم له في الفجر، ولفظه: سئل أنس بن مالك : أقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح؟، قال : نعم، فقيل له : أوقنت قبل الركوع ؟، قال: «بعد الركوع يسيرا». وفي مسند أحمد وسنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما القنوت في جميع الصلوات، وهذا لفظه: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح في دبر كل صلاة ، إذا قال : سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة ، يدعو على أحياء من بني سليم ، على رعل ، وذكوان ، وعصية ، ويؤمن من خلفه. وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قنت في الصبح والمغرب. وفي السنن الكبرى للبيهقي عن البراء أيضا القنوت في جميعها، ولفظه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها. وأجيب عن هذا: بأن حديثي ابن عباس والبراء رضي الله عنهم والذي فيهما فعل ذلك في جميع الصلوات كلاهما ضعيف لا يثبت، أما الأول ففي إسناده هلال بن خباب العبدي اختلط ولم يتميز حديثه، وأما الثاني ففي إسناده أبو الجهم سليمان بن الجهم الأنصاري لم يوثق من معتبر، وما جاء عن مطرف بن طريف أنه أثنى عليه خيرا لا يعد توثيقا، وكذا ذكر ابن حبان في الثقات غير معتبر، إذ الثقة عنده من لا يعرف بجرح، وهذا مما لا يوافق عليه. القول الثاني: أن القنوت مشروع الصلوات الجهرية دون السرية، وبهذا قال الحنفية، والحنابلة في رواية. [حاشية ابن عابدين (2/11)، الإنصاف (2/125)]. ودليلهم على هذا: ورود ذلك في الأحاديث السابقة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما ورد عنه أنه فعله في جميع الصلوات لا يثبت كما تقدم. وأجيب: بأنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهي ليست بالجهرية. القول الثالث: أن القنوت مشروع في صلاة الفجر فقط، وبهذا قال المالكية، والحنفية في قول، والحنابلة في رواية عندهم. [حاشية الدسوقي (1/248)، حاشية ابن عابدين (2/11)، الإنصاف (2/125)، ]. ودليلهم على هذا: ما أخرجه أحمد وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : «ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا». فهذا يدل على أن القنوت في الفجر سنة محكمة لم تنسخ، أما ما ورد في غيرها فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه تركه، وهذا يدل على نسخه. وأجيب عن هذا: بأن حديث أنس رضي الله عنه حديثٌ ضعيف في إسناده أبو جعفر الرازي سيء الحفظ يهم كثيرا، وسوء حفظ الراوي يقتضي رد خبره، وتركه صلى الله عليه وسلم أجبنا عنه فيما سبق، وأن ترك لا يدل على النسخ بل على عدم الوجوب، وهذا ما نقول، ويحتمل أنه تركه لارتفاع النازلة. ولهم دليل آخر(ذكره بعضهم): كثرة النصوص في قنوت الفجر. وأجيب عنه: بأن كثرة ورود النصوص فيه لا تدل على التخصيص بل على التأكيد. الترجيح: الذي يظهر لي في هذه المسألة أنه يشرع القنوت في جميع الصلوات الخمس عدا العصر إذ لم يرد فيها حديث صحيح. المسألة الثانية: القنوت في صلاة الجمعة: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أنه لا يشرع، وبهذا قال الجمهور(المذاهب الأربعة). [المراجع السابقة]. ودليلهم على هذا: أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبناءا على ذلك ففعله تقرب بما لم يرد به دليل، وهذا حد البدعة، وهي محرمة اتفاقا. القول الثاني: أنه مشروع، وهو قول عند الحنابلة. [الأنصاف (2/125)]. ودليلهم على هذا: أن الجمعة ظهرٌ مقصورة، فيصدق عليها حقيقة الظهر، ويثبت لها ما يثبت للظهر التامة، ومن ذلك القنوت الثابت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأجيب عنه: بأن الجمعة صلاةٌ مستقِلة بنفسها تُخالف الظهر في أشياء منها: الجهر، والخطبة، والشروط المعتبرة لها، وبناء على ذلك فحقيقة الظهر لا تصدق عليها، وحمل لفظ صلاة الظهر عليها ضرب من صرف اللفظ عن ظاهره من غير دليل، وهو ممنوع على ما تقرر في الأصول. الترجيح: الراجح في هذه المسألة القول الأول، وذلك لقوة دليله، وعدم سلامة أدلة أصحاب القول الثاني من المناقشة. المسألة الثالثة: القنوت في النوافل: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أنه غير مشروع، وبهذا قال الجمهور (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة). [المصادر السابقة]. ودليلهم على هذا: أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبناءا على ذلك ففعله تقرب بما لم يرد به دليل، وهذا حد البدعة، وهي محرمة اتفاقا. القول الثاني: أنه مشروع، نقله بعضهم عن الشافعية الذي في كتبهم على خلافه، ويمكن تخريجه على مذهب الإمام الشافعي في العيدين والاستسقاء حيث صرح بعدم كراهة القنوت فيهما للنازلة. [الأم (1/238)]. ودليلهم على هذا: القياس على ما ورد في الفرائض. وأجيب عنه: بأن القنوت في الصلاة عبادة، والعبادات لا يدخلها القياس. الترجيح: الراجح في هذه المسألة القول الأول، وذلك لقوة دليله، وعدم سلامة أدلة أصحاب القول الثاني من المناقشة. موضع القنوت (قبل الركوع أم بعده): اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه بعد الركوع، وبهذا قال الحنفية الشافعية والحنابلة. [حاشية ابن عابدين (2/11)، المجموع (3/494)، الإنصاف (2/122)]. ودليلهم على هذا: ما أخرجه الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال : «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا ، بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب». ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله بعد ما يقول سمع الله لمن حمده. وما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد في الأخيرة. وجه الاستدلال: أنه فعل منه صلى الله عليه وسلم، وفعله صلى الله عليه وسلم للمشروعية. القول الثاني: أنه قبل الركوع، وبهذا قال المالكية. [الاستذكار (1/294)]. ودليلهم على هذا: ما أخرجه الشيخان عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن القنوت، فقال :«قد كان القنوت قلت: قبل الركوع أو بعده؟، قال: قبله، قال: فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع، فقال:«كذب إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا». وجه الاستدلال بالحديث: أن أنسا رضي الله عنه أخبر بأنه كان قبل الركوع، وأنه إنما قنت بعد الركوع شهرا ثم تركه، فيكون منسوخا. وأجيب: بأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو من قنت قبل الركوع، وليس فيه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع ثم تركه إلى ما قبله حتى يقال بالنسخ، ولو ثبت ما دل عليه، بل على مشروعية الأمرين. القول الثالث: أنه مخير بينهما، وبهذا قال الحنابلة في رواية. [الإنصاف (2/122)]. عن أنس بن مالك ، قال : سئل عن القنوت في صلاة الصبح ، فقال :«كنا نقنت قبل الركوع وبعده». وجه الاستدلال بالحديث: أن أنسا رضي الله عنه أخبر بأن الصحابة رضي الله عنهم صلوا مع النبي ﷺ قبل الركوع وبعده، وهذا يدل على مشروعية الأمرين. وأجيب عنه: بأنه ليس في الحديث أنهم فعلوا ذلك معه ﷺ ، بل ليس فيه إضافة ذلك إلى زمانه، ومثله لا يكون مرفوعا على مذهب الأكثر من الأصوليين. الترجيح: الراجح في هذه المسألة القول الأول، وذلك لقوة دليله، وعدم سلامة أدلة أصحاب القول الثاني من المناقشة. رفع اليدين في القنوت: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أنه يشرع رفعهما، وبهذا قال الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة). [بدائع الصنائع (1/201)، المجموع (3/500)، الإنصاف (2/123)]. ودليلهم على هذا: ما أخرجه البيهقي عن أنس رضي الله عنه قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما صلى الغداة رفع يديه، يدعو عليهم ، يعني على الذين قتلوهم. وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ، وفعله صلى الله عليه وسلم يدل على المشروعية. وأجيب عنه: أنه حديث ضعيف في إسناده علي بن صقر السكري ليس بالقوي، وعلى ذلك فلا يصح التعويل عليه. القول الثاني: أنه لا يشرع رفعهما، وبهذا قال المالكية. [مواهب الجليل (2/245)]. ودليلهم على هذا: أنه لم يرد دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك، والعبادات مبناها على التوقيف، عليه فلا يشرع. الترجيح: الراجح في هذه المسألة القول الأول، وذلك لقوة دليله، وعدم سلامة أدلة أصحاب القول الثاني من المناقشة. دعاء القنوت هل يجهر به أم يسر؟: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أنه يشرع الجهر به، وبهذا قال الشافعية والحنابلة. [المجموع (4/16)، الإقناع (1/145)]. ودليلهم على هذا: أنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: أن النبي صلى الله عليه و سلم قال وهو قائم :«اللهم أنج الوليد بن الوليد،...». ولو لم يكن جهرا لما سمعه أبو هريرة رضي الله عنه، بل جاء في البخاري عنه بلفظ : يجهر بذلك. القول الثاني: أنه يشرع الإسرار به، وبهذا قال الحنفية والمالكية. [البحر الرائق (2/46)، مواهب الجليل (2/243)]. ودليلهم على هذا: قوله تعالى : (ادعوا ربكم تضرعا وخفية). فهذا مطلق يصدق على كل دعاء. وما أخرجه أحمد وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مرفوعا بلفظ:«خير الذكر الخفي». وهو عام يشمل الدعاء في القنوت. قالوا: وقياسا على سائر الأدعية. وأجيب عن هذا : بالنسبة للآية فهي مطلقة تقيد بغير قنوت النوازل للأحاديث الواردة بشرعية الجهر به. أما حديث سعد رضي الله عنه فضعيف في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة ضعيف كثير الإرسال فلا يعول على خبره، وعلى فرض ثبوته فهو عام مخصوص بالأحاديث الواردة في الجهر بالقنوت. وأما القياس فمنوع؛ لأنه قياس في العبادات، ولا يدخلها القياس، ثم هو معارض للأحاديث الواردة في الجهر بالقنوت، ومثل هذا القياس لا يقبل على مذهبهم لفساده. الترجيح: الراجح في هذه المسألة القول الأول، وذلك لقوة دليله، وعدم سلامة أدلة أصحاب القول الثاني من المناقشة. ما يقال في دعاء القنوت: لا يتعين في القنوت دعاء معين، فللمصلي أن يدعو بما شاء على وفق ضابط محدد وهو أن يدعو للمستضعفين من المؤمنين، ويدعو على الكافرين. من له القنوت (الإمام الأعظم أم إمام الصلاة أم كل مصلٍ): اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على أربعة أقوال: القول الأول: أنه لا يقنت إلا الإمام الأعظم، وبهذا قال الحنابلة في المشهور مذهبهم. ودليلهم على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قنت، وهذا فعل منه صلى الله عليه وسلم، والفعل لا عموم له على ما تقرر في الأصول، وعليه فننظر هل فعله ﷺ لأنه مصلٍّ فيشمل كل مصلٍّ، أم لأنه إمام جماعة، فيشمل كل إمام جماعة، أم لأنه إمام أعظم فيشمل كل إمام أعظم؟. والأرجح الأخذ بالاحتمال الثالث؛ وذلك لأنه أضيق الاحتمالات، وما كان كذلك فهو أرجح، وذلك من جهة أن الأصل في العبادات الحظر، وفي الحديث عن النبي ﷺ: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). وأجيب عنه: أنه قد ثبت عنه ﷺ قوله:«صلوا كما رأيتموني أصلي»، وهذا يفيد تعميمه في حق كل مصلٍّ. القول الثاني: أنه مشروع في حق كل إمام جماعة، وبهذا قال الجمهور ( الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة). ودليلهم على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله في الصلاة، لأنه إمام جماعة فيشرع هذا في حق كل إمام جماعة. وأجيب عنه: بأن فعله صلى الله عليه وسلم محتمل لعدة معانٍ كما سبق ولا مرجح لهذا المعنى المرجح. القول الثالث: أنه مشروع في حق كل مصلٍّ، وبهذا قال الحنابلة في رواية. ودليلهم على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله في الصلاة، وقد جاء في البخاري من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه مرفوعا: «صلوا كما رأيتموني أصلي». وهذا عام في حق كل مصلٍّ، فضمير الجمع في قوله:«صلوا» يفيد العموم. القول الرابع: أنه مشروع إذا أذن به الأمام الأعظم، وبهذا قال الحنابلة في رواية. ولا أعرف لهم دليلا يمكن أن يستدل به. الترجيح: الراجح في المسألة القول الثاني، وذلك لقوة دليله، وعدم سلامة أدلة أصحاب القول الثاني من المناقشة، مع ملاحظة أن على المأمومِ مراعاةِ واجب المتابعة، فقد قال النبي ﷺ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح: «إنما جعل الإمام ليأتم به، فلا تختلفوا عليه»، و هذا نهي، والقاعدة في الأصول: [أن النهي المطلق للتحريم]، والقاعدة في الأصول: [أن النهي يقتضي الفساد]. انتهى. كتبه : جلال بن علي السلمي .