الوجوه نفسها لم تتغير . والمكان، مبنى جريدة المنار، نفسه. والوقت نفسه .
لم يتبدل شئ ، رغم غيابك الطويل .

قلت بهدوء، وأنت تدخل إلى مكتبك: _ صباح الخير .. السلام عليكم يا جماعة.

ورسمت ابتسامة عريضة على فمك، مادَّاً يدك على طولهما ، متوقعا كلمة ترحيب حارة . لكنك فوجئت بالصمت وباللامبالاة .

وبلهجة خجول عاودت قائلا: _ قلنا السلام عليكم .. السلام لله .

الصمت نفسه . وأنت واقف بجمود واستغراب وذهول ، ويدك في الهواء لا تزال ممدودة .

وارتفع صوتك يائسا ، ثم علا ، واحتد . وكالمجنون صرخت : _ صياح ، راتب ، عصام .. ماذا جرى لكم ؟!

وأخذت تهز كلا بمفرده، وأنت تدور في كل اتجاه: _ ماذا جرى ؟! أخبروني ! أخبروني !

الصمت والسكون حليفان ملحاحان ، وأنت تعارك الهواء بمرارة وصبر . وبأسى سحبت مقعدك وجلست خلف مكتبك ، وأنت على غاية من الألم .

كان فكرك يدوي . وشئ كدبيب النمل اعترى ساعديك ، فأخذ ينتقل إلى جسمك خدر خفيف . فأحسست بالتعب وبالإرهاق ، وبالحاجة إلى الدموع .

ماذا جرى ؟! هل أنت تحلم ؟!

لقد غبت طويلا . وتوقعت بعودتك تغييرا جديدا . لكن هذا الجمود ما معناه وما غايته ؟

وهرشت رأسك المربع ، وعضضت أصبعك ، وخبطت يدك على الطاولة المهترئة ، فتطاير الورق ، والكل لا يزال صامتا لا يريم !

ماذا تفعل ؟!

ونهضت متثاقلا ، وغادرت المكتب ، والمبنى يد تضغط عليك ، وتخنقك ، وتغتال جميع أنفاسك .

كانت قدماك تجتازان الممر الطويل باتجاه غرفة رئيس التحرير . وبهدوء طرقت الباب ودخلت .

:_ السلام عليكم أستاذ محفوظ .

:_ .. .. ..

:_ عدت البارحة مساء ، وأنجزت خلال غيابي مسرحية وعدة مقالات .

:_ .. .. ..

:_ عفوا أستاذ !

:_ .. .. ..

هو الآخر صامت، يحدق بالفراغ : _ عفوا .. هل هناك شئ يشغلك !؟ كأنك لم تسمعني !

:_ .. .. ..

لم يجب .فتقدمت نحوه ، ولوَحت بيدك أمام وجهه . ثم هززت جسمه المكتنز بعنف . ولما لم يتحرك ، صفعته بقسوة ، وركلته بغيظ ، ثم بصقت عليه بقرف .. وظل جامدا لا يريم !

رباه .. لابد أن شيئا ما حدث للناس والأشياء من حولك ! بل لابد أن يكون وباء قد انتشر في أرجاء المبنى كله !

ما لهم ؟! ولم يتجاهلون وجودي فلا يلتفتون إلي ؟! هل جميعهم لا يراني !.. تبا للجريدة ورئاسة التحرير والصحافة .

ونزلت درجات المبنى مشيا متعثرا، وأنت تلعن، وتدمدم، وتبصق، وتكلم نفسك بصوت عال، وجسمك كله يرتجف .

كان الوقت صباحا، والجو خانقا ، والأرصفة تتثاءب ، وجمع من الموظفين والباعة وطلاب المدارس ينتشرون على طول الشارع وزواياه .

ومشيت دونما هدف ، وبلا غاية. وتخيلت أنك صرت صفرا، أو عدما، وأنك في حلم سخيف لا تزال.

هل يعبثون معي ؟ ورئيس التحرير ؟ والبواب ؟ وزملاء المكتب ؟ رباه ، أتراه يكون كابوسا مروعا لا يحتمل ؟

أحقا يحدث ذلك ؟ ولمن ؟ لي أنا ؟! لماذا ؟ لماذا ؟! وأغمضت عينيك للحظات، وقاومت بدء انهيار أخذ يعروك !

أريد أن أبكي . أفجر نحيبي عاليا . أصرخ عاليا . أزعق عاليا . أصيح عاليا . أولول . أئن .

نعم .. أنت تئن ، ووجعك يزداد .

مازلت تمشي دونما غاية . والوجوه والطرقات تتابع . ومنزلك يحبو من بعيد .

المنزل ؟! آه ه .. الراحة والاطمئنان والدفء.

ستخبر زوجتك بكل ما حدث. وستحدثها عن الوباء في مبنى الجريدة ، بل عن معنى الألم . وببساطة ستفتح ذراعيها وتطوقك حانية ، وتمطر وجهك بقبلات دافئة , وبصوت مشجع ستقول لك :_ يغارون منك ! لا تبتئس

يا حبيبي .. شجرة الزيتون ، يرميها الأغبياء بالحجارة .

وفتحت الباب :_ فاتن .. فاتن !

وهمست وأنت تدلف داخلا :_ ربما لا تزال نائمة .

وتوجهت إلى الصالة , وصوتك يردد :_ فاتن .. فاتن !

ثم دخلت إلى غرفة النوم ، فابتسمت بنشوة ، وقلت بابتهاج :_ ما بك ؟ ألم تسمعيني يا حبيبتي ؟!

زوجتك أمام المرآة تتزين .

:_ فاتن .. فاتن !

كنت تقولها بإحباط .

:_ حتى هي ؟! لا .. هذا مستحيل !

وبقوة اليأس ، وبخيط أمل ضئيل ، اقتربت منها وأنت تبكي : _ قولي شيئا يا حبيبتي ! أنا زوجك كامل ! ألا تشاهديني ؟ ألا تسمعين صوتي ؟! انظري إلي مليا ! يجب أن تريني ! يجب أن تشعري بي !

كانت صنما . صورة . شكلا . فأجهشت بالبكاء ، وغادرت المنزل وأنت تنتحب .

كان بكاؤك عاليا . صاخبا . وغصة قوية تدمرك وتزلزلك . وشعرت باللا جدوى والعدم .

أنا لم أبك منذ زمن .. كنت أكره البكاء وأعتبره ضعفا . لكنني الآن أجده ملاذي الوحيد ، ومسلاتي الوحيدة ، ومهنتي الوحيدة الجديدة .

لا أحد !

أشعر بالخواء وبالفراغ . الناس أمامي أطياف حالم .. والأفكار ! الأفكار ؟! ما فائدة جميع الأفكار التي آمنت بها وتمثلتها وهي عاجزة الآن ، في كل صيغها ، عن مساعدتي ؟! وما قيمة قراءاتي وصوري ورحلتي الطويلة ؟!

هل ابتعدت كثيرا ، فلم يعد أحد يراني ؟!

أين الناس ؟! أين قرائي ؟! وكيف سأستطيع العيش بمفردي ؟!

الوحدة شتي قارس ، وصقيع قاتل يوخز عظامي .. أشعر بالبرد ، وبالتعب ، وبالجوع ، وبالفراغ .

وعاودت البكاء . والطريق حية تنساب أمامك بلا نهاية .والناس والوجوه تتطلع بغباء وتتكلم بغباء وتسير بغباء ،

دون أن يراك أحد.

وتعبت .. تعبت كثيرا .

وفي حديقة عامة جلست على كرسي دون أنيس.

كان ثمة نسوة يتحادثن في الطرف المقابل ، وشاب وفتاة غارقان في حديث اللذة بركن قصي ، وطفل مع أخيه يلعبان الكرة .

ليتك بقيت طفلا .

:_ هوووب .. ارم جيدا يا باسم . ( قالها الطفل لأخيه ووجهه يتصبب عرقا وترابا وبراءة ).

ورمى أخوه الكرة ، فطاشت بعيدا .. فنهضت بعفوية ، وأمسكت الكرة : _ تفضل يا بني .

:_ شكرا يا عمي .

:_ ماذا ؟! (قلتها بدهشة وسرور).

:_ قلت شكرا يا عمي !

وبحب العالم كله ، رفعت الطفل عاليا بذراعيك ، وغمرته بقبلات الأنس : _ أنت تراني ؟!

كان الطفل مدهوشا ،.. أنيسا. .وادعا :_ نعم يا عمي .. أنا لست أعمى !

وأنزلته برفق على الأرض.. وتركت ساقيك للريح . وشعرت أن الدنيا تمطر وتبكي وتزغرد طويلا طويلا.

15 / 9 / 1986 م