28- فَاعْذِرِ الْحَاسِدِينَ فِيهَا إِذَا لَامُوا *(م)* فَصَعْـبٌ عَلَى الْحَسُودِ الثَّنَاءُ
اللغة:
(فاعْذِرْ): عَذَرْتُهُ فِيمَا صَنَعَ عَذْرًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ: رَفَعْتُ عَنْهُ اللَّوْمَ، فَهُوَ مَعْذُورٌ، أَيْ: غَيْرُ مَلُومٍ، وَالِاسْمُ الْعُذْرُ، وَتُضَمُّ الذَّالُ لِلِاتِّبَاعِ (الْعُذُر) وَتُسَكَّنُ (الْعُذْر)، وَالْجَمْعُ أَعْذَارٌ.
المعنى:
إذا علمت ما سبق وهو أن الفراعين صنعوا المعجزات وشادُوا ما لم يَشِدْ زمانٌ ولا أَنْشَأَ عَصْرٌ ولا بَنَى بَنَّاءُ، وعلمت أن هذا يدعوا إلى الثناء والمدح لمن قاموا بهذه الأشياء التى أبهرت الدنيا ثم رأيت من يَعْدِلُ عن الثناء إلى الذم واللوم فيها فاعلم أنه حاسد فاعذِرْه؛ لأن الحسود الذى يتمنى زوال النعمة عن غيره صعب عليه الثناء.
ثم بيَّنَ هذا الذمَّ الذي ذهبوا إليه في الأبيات التالية فقال.
______________________________ ___________
29- زَعَمُــوا أَنَّهَـــا دَعَائِـــمُ شِيــدَتْ *** بِيَــدِ البَغْيِ مِلْـــؤُها ظَلْمَـــاءُ
اللغة:
(زعموا): الزّعْمُ مثلثة الزاي: القول مطلقا ومنه قولهم: زعم سيبويه كذا: أي قال، والزعم: الظن تقول: في زعمي كذا: أي في ظني، ولكنه أكثر ما يستعمل فيما يُشَكُّ فيه ولا يتحقق. قال الليث: سمعت أهل العربية يقولون: إذا قيل ذَكَرَ فلان كذا وكذا، فإنما يقال ذلك لأمر يُستيقَن أنه حق، وإذا شك فيه فلم يدر لعله كذب أو باطل قيل: زعم فلان. وقال بعضهم: هو كناية عن الكذب. وقال السيوطي: أكثر ما يستعمل فيما كان باطلا أو فيه ارتياب. وقال ابن القوطية: زعم زعما قال خبرا لا يُدْرَى أحق هو أو باطل. قال الخطابي: ولهذا قيل زعم مطية الكذب.
(دعائم) جمع دِعامَة: ما يستند به الحائط إذا مال يمنعه السقوط، ودعمت الحائطَ دَعْمًا من باب نفع، ومنه قيل للسيد في قومه: هو دعامة القوم، كما يقال: هو عمادهم. والدِّعامة: عماد البيت، والدعائم: الخشب المصنوع المنصوب للتعريش.
المعنى:
زعم هؤلاء الحاسدون أن هذه الآثار الخالدة التى أنشأها الفراعين، ليست إلا دعائم للمُلْك شِيدتْ بيد البغي والظلم تملؤها الظلماء، أي: أنهم بغَوْا على الرعية وظلموهم واستعبدوهم حتى شادوا لهم هذه الآثار الخالدة فهى شاهدة على بغي الحاكم وظلمه للرعية لا على عظمة مَنْ بناها.
قلت: ولله در الشاعر أحمد محرم فقد عبر أبلغ تعبير عن هذه النظرة الأخرى إلى الأهرام وبُنَاتُها، وأنها شاهد على ظلم الراعي للرعية ... الخ في قصيدته البديعة (رحلة عابسة) والتي يقول في مطلعها:
عَصَفَ الْهَوَى بِجَوَانِحِ المشتاقِ .... وَهَفَا الحَنِينُ بقلبِهِ الخَفَّاقِ
ما يَصْنَعُ الصَّبُّ الطَّرُوبُ إذا الهوى .... بَلَغَ القَرَارَ وَجَالَ في الأعْمَاقِ
وفيها يقول:
مَا هذِهِ (الأهرامُ)؟ مَا لِبُناَتِهَا؟ ... سَاقُوا أُمُورَ المُلْك شَرَّ مَسَاقِ
هَدَمُوا الْقُوَي فِيها يُشَدُّ بِنَاؤُها ... وَيُقَامُ أَطْبَاقاً عَلَى أَطْبَاق
هيَ إِنْ أَرَدْتَ الْحقَّ شَاهِدُ قَسْوَةٍ ... يُخْزِي الوُجُوهَ وَآيةُ اسْتِرْقاَق
أَفَمَا تَرَاها، كُلَّمَا اسْتَنْطَقَتهَا ... زَادَتْكَ مِنْ صَمْتٍ وَمِنْ إِطرَاق؟
خُرْسٌ يُجَّللُهَا الَحْيَاءُ، وَمَا بها ... إِلاّ ضَلاَلُ السَّاسَةِ الحُذَّاق
قالَ الأُلي فُتنِوُا بها: مُسْتَوْدَعٌ ... لِلسّرَّ، غَودِرَ مُحْكَمَ الإغْلاَق
دَعْ مَا يُريبُكَ مِنْ وَسَاوِسِ مَعْشَرٍ ... عَكَفُوا عَلَى التهَّوِْيلِ وَالإغرَاق
دَارٌ تُجيِرُ مِنَ الزمَانِ وَصَرْفِهِ ... وَتَصُونُ مَا أَبقَى مِنَ الأرْمَاق
خَيْرٌ مِنَ الصَّرْحِ المُقَامِ لِظاَلمٍ ... جَافيِ الطَّبَاعِ إِلي الأذَى تَوَّاق
... فيا أخي الحبيب لا يفوتنك قراءة باقي هذه القصيدة الفريدة، وافقتَ الشاعر فيما ذهب إليه أم لم توافقه؛ فإنها جياشة بالمشاعر التي ينبغي أو يحسُن الاعتناءُ بها.
والله الموفق لكل خير