ساذجة (قصة قصيرة)
فاديا رمضاني
دخل بيتَه في قمة الأناقة والهدوء، واتَّجه نحو غرفة الاستقبال حيث وجدها مستلقيةً على الأريكة تشاهد التلفاز، أخذ يتأمَّلها عن بُعْد بإمعان، فلما داعبَتْها نسماتُ عطرِه، أيقنَتْ وجودَه، ومن دون أن تلتفت إليه، قالت: عدتَ مبكرًا اليوم! ماذا حدث معك؟
قال: هيا، قومي بسرعة واجمعي أغراضَك: ثيابك، أحذيتك، عطورك، فرشاة أسنانك ومستحضرات تجميلك...، أسرِعي دون أن تنسي كُتبك الموضوعة على رفِّ مكتبي.
قالت: لكن، لماذا؟ إلى أين نحن ذاهبان؟
التقط مِعْصَمها، وتأمَّلها بعيون تنقط السرور، قال - بنبرة ملؤها الحماس -: كُفِّي عن طرح الأسئلة، وافعَلي ما طلبت منك، لاحقًا ستفهمين.
أذعنَتْ له وانطلقَتْ بسرعةِ البرق لضبِّ أغراضها، وعندما أنهت مهمتها أتَتْه تجرُّ تلك الحقيبة الثقيلة، قالت - بنبرة يرهقها الفضول -: والآن؟!
قال - بنبرة متغيرة -: والآن! ارحلي.
قالت - مندهشة -: أرحلُ! بمفردي! لكن، إلى أين؟
قال - وهو يهزُّ كتفيه -: حيثما تشائين، المهم أن تترُكي حياتي، من فضلك غادري ولا تفكري ألبتةَ في العودة.
قالت: والسبب؟
قال - وهو يدير ظهره لها -: لا أريدك بعد اليوم في حياتي.
قالت - وقد زادت نبرتها حدة -: بربِّك! هكذا! فجأة! ومِن دون أن أذنب بحقك! أأدركتَ الآن، وبعد هذه العشرة الطويلة، وبين ليلة وضحاها، بأنك لا تريدني؟
قال - متذمرًا -: أفٍّ! كُفِّي عن طرحِ هذه التساؤلات العقيمة، ارحلي، هيا، كُفِّي عن إزعاجي.
قالت: انظر إليَّ، لِمَ تُدير ظهرك؟ واجِهْني، أخبرني بالحقيقة، اكشفْ أوراقَك ولا تكن جبانًا، كن صريحًا ولو لمرة - وهي تدمدم بصوت خائف - لعلك لن تحظَى بفرصة لقائي مرة أخرى، ما السبب؟!
قال - وهو يصرخ، وكأن عروقه ستنفجر من الغضب -: أيُرضيك البقاء مع رجل مختنق؛ لأنه يستنشق هواءً تُلوِّثه أنفاسُك؟ أترضين لنفسِك البقاء مع رجل لا يُطيق حضورك؟!
اسمَعي - وهو يقضُّ على ذراعيها بشدة، ويتأملها بعيون حاقدة - لقد تعبتُ مِن تصنعي الدائم أمام نفسيَّتك الهشة، ما عدتُ أرغب في انتقاء ألفاظي، فقط كيلا أجرحك!
يضحك بتهكم: هأنا أرفع لك الستار عن تلقائيَّتي.
قالت: ومَن طلب منك التصنع؟ أنا لم أبحث فيك يومًا عن الرجل المثالي الذي تحلم به أية فتاة، أحببتُك بما أنت عليه.
قال - متصديًا لها -: سذاجتك السبب.
طأطأت رأسَها وانحنت للخيبة التي عصفَتْ بوجدانها، ونثرت أمامها قصاصات الذكريات والوعود الكاذبة، ثم قالت: طيب، وبما أنني جمعتُ أغراضي، لم يبقَ لي سوى أن أطالبك بحريَّتي كي أواصل ما تبقى من دربي.
قال: أنت حرة.
قالت: ليس صحيحًا، بل أنا عالقة.
قال: وما عساي أفعل يا ترى كي أحررك؟
قالت - بنبرة ملؤها الثأر -: ردَّ عليَّ ممتلكاتي التي كتبت باسمك.
قال - مستغربًا -: أية ممتلكات؟
قالت - بنبرة يخنقها دمعٌ مقهور -: لهيب أحاسيسي الذي أخمدَتْه عِشرتُك، وَمِيض الأمل الذي يسعفني في حين نوبة الوحدة التي ستصيبني من بعدك!
رُدَّ عليَّ عطر غروري، براءتي، بسمتي، إيماني بالبشر!
رُدَّ عليَّ عكازَيِ الثقة والثبات؛ كي أرتكز عليهما لمواصلة سبيلي!
خلِّصني من الإعاقة التي ضربَت وجداني.
فجأة التقط مِعْصَمها وأخذ يجرُّها بعنف، ثم قذفها خارجًا، وأوصد الباب دون أن يتفوَّه بكلمة، وانصرف إلى مشاغله.
بعد ثلاث ساعات، قُرع الباب من جديد، فقام ليفتح، فإذا بها تقف أمامه من جديد مبللة الخصلات، مقضبة التقاطيع، دامعة العيون، قال - ساخرًا -: أَوَلَا تزالين هنا؟ أَوَلَم أسألك الرحيل؟
قالت: بلى، لكنني عدتُ؛ لأنني نسيت أن أسألك أمرًا.
قال: ما الأمر؟ خلصينا.
قالت - والشهقة تنقض على أنفاسها -: متى أعود؟!