صدر وشيكاً ( نهاية سنة 2011 م) عن مؤسّسة الفرْقان للتّراث الإسلامي بلندن، كتاب من نوادر المكتبة القرائيّة بالأندلس، لشيخِ قرَّائها قيْد حياتِه، أبي الحسن عليّ بن محمّد بن إسماعيل بن بِشْر التميميّ الأنطاكي (ت 377 هـ)، وهو:
كتابُ عدَدِ آيِ القُرْآن
للمكِّي والمدنيّيْن والكوفيّ والبصْريّ والشّاميّ
المتّفَق عليْه والمخْتَلف فِيه
وقد قام على قراءة أصوله وتعليق حواشيه والتقديم له الدكتور محمد الطبراني بعد أن نقّب عن مخطوطاته لسنواتٍ عدّة في زوايا الخزائن، وأماط اللثامَ منها على ثلاثةِ أصولٍ تُعرفُ لأوَّل مرّة، واستعان مع ذلك بنسخٍ مختصَرةٍ للكتاب معلومةٍ هي كلُّ ما كان يُعرف منه[1]، وقد ذَكَر تفصيلَ رحلته مع الكتاب بما لا مزيد عليه في تقدمتِه الموسومة بـ"ـنوبة الاستهلال: حكاية الكشْف عن هذا الكتاب" (و-س)، وهو التفاتٌ إلى أمرٍ يُغفِل الكثيرُ تبيانَه مع ما فيه من إمداد وإسعادٍ لطالب العلم بسبُلِ تذليل العقباتِ المعترضة، وقد ختمها بقوله: " وأخيرا...فهذه فصولٌ من رحلتي مع هذا الكتاب الذي نَجَمَ بعد ألف سنة، قُيِّضَ له فيها أن يظَلَّ مكنونا لا تنالُه الأوهام، فضلا عن أن تحوزَه الأيدي؛ وإنَّ الدهشةَ التي علتْ أساريرَ بعضِ كبارِ العارفينَ بالمكتبة التراثية يومَ حدّثتُهم عن وجودِ الكتاب، لَمَا تزالُ عالقةً بذهني إلى اليوم، فعسَى أن لا أكونَ قد سررْتُهم أوّلا، ثم خيبتُ ظنَّهم آخراً!. وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل".
وقد جاء الكتاب تقديما ونصا وفهارس في مجلد من 754 صفحة، وشغلت مصادره المخطوطة والمطبوعة 38 صفحة، من 710 إلى 748، ناهيك عن أن المحقق استنفد الجهد في التوثيق والتحقيق، فحاذى كلام المؤلف بما يوضحه ويجليه. وتبقى معاينة الكتاب، السبيل الأوحد للوقوف على مدى العناية التي لقيها تقديما وتحقيقا، ولا بدع، فهو أهلٌ لأكثر من ذلك.
ونوردُ لإضاءة الكتاب وتقديمه للقراء مقتضبا من تقديم رئيس مؤسسة الفرقان له، يقول فيه:"وأبو الحسن الأنطاكيِّ (ت 377 هـ) ممن لا تخفى إمامتُه في علُوم القِراءات، وريادتُه في تنشيطِ حرَكتِها بصُقْع الأندلس، لا جرمَ أنْ لقِّب بشيخ القُرّاءِ فيها. وكتابُه هذا الذي نَزُفُّه إلى القُرّاء، معدودٌ بلا ريب مِن نوادر المخطوطات القديمةِ التي يُكْشَفُ عنها اللِّثامُ لأوّل مرّة، بعدَ أن ظلَّ مناطَ جهالةٍ، فقيَّضَ الله كشْفَه لمحقّقٍ مغربيّ هو الدكتور محمّد الطّبَراني.
والكتابُ بهذا الاعتبار، مِنْ أقدم ما وصلَنا من تراث الأندلس في علوم القرآن، بل هو الأقدمُ بلا ريبٍ فيما بلغَنا من كتب العدِّ الأندلسية التي تجعلُ سَرْدَ الفواصِلِ على مقتضى عدِّ المدنيِّ الأخير مراعاةً لما عليه العمَلُ في الأندلس، بالإضافة طبعا لذِكْرِه نوعَ السُّورة أمكية هي أم أمدنيّة، وعدد الكلمات وعدد الحروف، وعدد الآيات واتّفاقهم عليها أواختلافهم فيها.
وتظهرُ نفاستُه من حيث إن المؤلِّفين الأندلسيّين بعدَه يدينون له بمنهج التَّأليف، لأنَّ بنيةَ كتابه هي البنيةُ التي ستتكرَّرُ عند التَّالِينَ، بلْ إنَّ أثره ليبدو واضحاً على كتاب البيان لأبي عمرو الدّانيّ (ت 444 هـ)، وليس ذلك ببعيدٍ إذا علمْنا أنّ عِلمَ الأنطاكي قد أفْضى إلى أبي عمْرو، عن طريق خَالِه أبي الفرج محمد بن يوسف بن محمد النَّجَّاد ( بعد 350- 429 هـ)، وكثيرٍ من الآخذين.
وشأنَ غالبِ كتبِ القرن الرابع، يأتي كتابُ العدد وضْعاً مُسْنَداً، إضافةً إلى أن الأنطاكيَّ تغيّى أنْ يذكر خلال الفواصل رؤوسَ الأحزاب والأنصاف والأرباع؛ وهو عملٌ لم يُسبقْ إليه بحسب ما تَأَدَّى إلينا من كُتُب الأقدمين، زَيِّداً على أنه حفِظَ لنا مادَّةَ كتابيْن متقدِّميْن في العَدِّ طُوِيَ ذكرُهما إلاّ من إشارةِ المؤلِّف إليهما، وهما كتاب العدد، لأبي سهْل صالح بن إدْريس بن صالح بن شُعيب البغداديّ الورَّاق (ت 345 هـ)، وكتاب العدد، لأبي بكر محمّد بن الحسيْن بن محمّد الدَّبِيلِيِّ (...-...؟). وما من جدال في أنّ هذا الكتاب، سيجدُ له مكانا باذخاً في خزانةِ الكتب القرائية في القرن الرابع، لتقدُّم زمنه، وجلالةِ صاحبِه، وجودةِ مبانيه، وإحكامِ معانيه".
[1] - انظر وصف الأصول والمختصرات في الكتاب: 156-167.