أهدي هذه الرسالة إلى إخواني طلبة العلم، حتى نستفيد منها في أسلوب المناقشة مع الاحترام للمخالف، والابتعاد عن أسباب الشقاق والنفرة بين المسلمين فما أحوجنا اليوم أن نقف في صف واحد كما نقف في الصلاة، فكم يعجبني منظر اجتماع النسور على الجيفة أفلا نجتمع نحن على الإسلام، فينبغي أن يكون نقاشنا وتباحثنا ومذاكرتنا مثل ما تضمنته هذه الرسالة التي أرسلها الليث بن سعد إلى الإمام مالك، وهي تعتبر درسا بليغا ونموذجا يحتذى به في أدب الحوار والخلاف، فلنلتزم به، فلا ضير أن نختلف، ولكن العيب هو في الشقاق والفرقة.
وأنقلها كتاب إعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله حيث قال:
وقال الحافظ أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي في كتاب ( التاريخ والمعرفة ) له وهو كتاب جليل غزير العلم جم الفوائد: حدثني يحيى بن عبدالله بن بكير المخزومي
قال : هذه رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس :
سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد :
عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة ، قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه .
وذكرت نظرك في الكتب التي بعثت بها إليك وإقامتك إياها وختمك عليها بخاتمك، وقد أتتنا فجزاك الله عما قدمت منها خيراً، فإنها كتب انتهت إلينا عنك فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها .
وذكرت أنه قد أنشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضعٌ ، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلاً إلا لأني لم أُذاكِرك مثل هذا .
وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم ، وأني يَحِقُّ علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتم به ، وأن الناس تبع لأهل المدينة إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن .
وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى ،ووقع مني بالموقع الذي تحب ، وما أعد أحداً قد ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفُتيا ولا أشد تفضيلاً لعلماء أهل المدينة الذين مضوا ، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له.
وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة ، ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه ، وما علمهم الله منه وأن الناس صاروا تبعاً لهم فيه فكم ذكرت.
وأما ما ذكرت من قول الله تعالى : { والسبقون الأولون من المهجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسن رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنتٍ تجرى تحتها الأنهر خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } سورة التوبه
فإن كثيراً من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله فجندوا الأجناد ، واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه ولم يكتموهم شيئاً علموه .
وكان في كل جند منهم طائفة يعلمون لله كتاب الله وسنة نبيه ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة ، ويقومهم عليه أبوبكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم .
ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم ، بل كانوا يكتبون لأجنادهم في الأمر اليسير لإقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه ، فلم يتركوا أمراً فسره القرآن أو عمل به النبي صلى الله عليه وسلم أو ائتمروا فيه بعده إلا أعلموهموه .
فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ، ولم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره ، فلا نراه يجوز لأجناد المسلمين أن يحدثوا اليوم أمراً لم يعمل به سلفهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم .
مع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا بعده في الفتيا في أشياء كثيرة ، ولولا أني قد عرفت أن قد علمتها لكتبت بها إليك، ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن المسيب ونظراؤه أشد الاختلاف .
ثم اختلف الذين كانوا بعدهم فحضرتهم بالمدينة وغيرها ورأسهم يومئذ ابن شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن .
فكان من خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى ما قد عرفت وحضرت ، وسمعت قولك فيه وقول ذوي الرأي من أهل المدينة : يحيى بن سعيد ، وعبيد الله بن عمر ،وكثير بن فرقد وغير كثير ممن هو أسن منه ، حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه .
وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت ،تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل ، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام ، ومودة صادقة لإخوانه عامة ولنا خاصة رحمة الله عليه وغفر له وجزاه بأحسن من عمله .
وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه ، وإذا كاتبه بعضنا فربما كتب إليه
في الشيء الواحد -على فضل رأيه وعلمه - بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضاً، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك ، فهذا الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه .
وقد عرفت مما عبت إنكاري إياه : أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر ،ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه إلا الله لم يجمع منهم إمام قط في ليلة مطر، وفيهم أبو عبيدة بن الجراح ،وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ) وقال: ( يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة ) وشرحبيل بن حسنة ،وأبو الدرداء، وبلال بن رباح .
وكان أبو ذر بمصر والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص ،وبحمص سبعون من أهل بدر ، وبأجناد المسلمين كلها، وبالعراق ابن مسعود ،وحذيفة بن اليمان ،وعمران بن حصين، ونزلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة سنين وكان معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط .
ومن ذلك القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق ،وقد عرفت أنه لم يزل يقضى بالمدينة به ،ولم يقض به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشام وبحمص ولا بمصر ولا بالعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون : أبو بكر وعمر وعثمان وعلى ثم ولي عمر بن عبدالعزيز وكان كما علمت في إحياء السنن ( وقطع البدع ) والجد في إقامة الدين، والإصابة في الرأي والعلم بما مضى من أمر الناس ـ فكتب إليه رُزيق بن الحكيم : إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاحب الحق ، فكتب إليه عمر بن عبدالعزيز : إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين .
ولم يجمع بين العشاء والمغرب قط ليلة المطر والسماء يسكب عليه في منزله الذي كان فيه بخناصر ساكناً .
ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنه متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت فدفع إليها ، وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك وأهل الشام وأهل مصر، ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من بعدهم لامرأة بصداقها المؤخر إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق فتقوم على حقها .
ومن ذلك قولهم في الإيلاء : إنه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف وإن مرت الأربعة الأشهر، وقد حدثني نافع عن عبدالله بن عمر وهو الذي كان يروي عنه التوقيف بعد الأشهر ـ أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر الله في كتابه : لا يحل للمولي إذا بلغ الأجل إلا أن يفيء كما أمر الله أو يعزم الطلاق ، وأنتم تقولون : إن لبث بعد الأربعة الأشهر التي سمى الله في كتابه ولم يوقف لم يكن عليه طلاق ، وقد بلغنا عن عثمان بن عفان ،وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب ، وأبا سلمة بن عبدالرحمن بن عوف أنهم قالوا في الإيلاء : إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقةٌ بائنة ، وقال سعيد بن المسيب وأبوبكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ،وابن شهاب : إذا مضت الأربعة أشهر فهي تطليقة وله الرجعة في العدة.
ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول : إذا ملك الرجل امرأته أمرها فاختارت زوجها فهي تطليقة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً فهي تطليقة، وقضى بذلك عبدالملك بن مروان ،وكان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقوله .
وقد كاد الناس يجتمعون على أنها إن اختارت زوجها لم يكن فيه طلاق، وإن اختارت نفسها واحدةً أو اثنتين كانت له عليها رجعة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً بانت منه ،ولم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، فيدخل بها ثم يموت أو يطلقها ،إلا أن يرد عليها في مجلسه فيقول : إنما ملكتك واحدة، فيستحلف ويخلى بينه وبين امرأته .
ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود كان يقول : أيما رجل تزوج أمةً ثم اشتراها زوجها فاشتراؤها إياها ثلاث تطليقات ، وكان ربيعة يقول ذلك وإن تزوجت المرأة الحرة عبداً فاشترته فمثل ذلك .
وقد بلغنا عنكم شيئاً من الفتيا مستكرهاً، وقد كنت كتبت إليك في بعضها فلم تجنبي في كتابي ،فتخوفت أن تكون استثقلت ذلك، فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكرت وفيما أوردت فيه على رأيك .
وذلك أنه بلغني أنك أمرت زُفر بن عاصم الهلالي ، حين أراد أن يستقي أن يقدم الصلاة قبل الخطبة ، فأعظمت ذلك ؛لأن الخطبة والاستسقاء كهيئة يوم الجمعة إلا أن الإمام إذا دنا فراغه من الخطبة ( حول وجهه إلى القبلة ) فدعا وحول رداءه ثم نزل فصلى، وقد استسقى عمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وغيرهما فكلهم يقدم الخطبة والدعاء قبل الصلاة . فاستهتر الناس كلهم فعل زُفر بن عاصم من ذلك واستنكروه .
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول في الخليطين في المال : إنه لا تجب عليهما الصدقة، حتى يكون لكل واحدٍ منهما ما تجب فيه الصدقة، وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة ويرادان بالسوية ، وقد كان ذلك يعمل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قبلكم وغيره، والذي حدثنا به يحيى بن سعيد ولم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه ، فرحمه الله وغفر له وجعل الجنة مصيره .
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول : إذا أفلس الرجل وقد باعه رجل سلعة ،فتقاضى طائفة من ثمنها أو أنفق المشتري طائفة منها أنه يأخذ ما وجد من متاعه، وكان الناس على أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئاً أو أنفق المشتري منها فليست بعينها .
ومن ذلك أنك تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير بن العوام إلا لفرس واحد والناس كلهم يحدثون أنه أعطاه أربعة أسهم بفرسين ومنعه الفرس الثالث، والأمة كلهم على هذا الحديث : أهل الشام، وأهل مصر، وأهل العراق ،وأهل إفريقية ،لا يتخلف فيه اثنان، فلم يكن ينبغي لك ـ وإن كنت سمعته من رجل مرضي ـ أن تخالف الأمة أجمعين .
وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا .
وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك مع استئناسي بمكانك، وإن نأت الدار . فهذه منزلتك عندي، ورأيي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إلى بخبرك ، وحالك وحال ولدك وأهلك ،وحاجة إن كانت لك أو لأحد يوصل بك، فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله ، نسأل أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليك ورحمة الله .
منقول