تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 7 من 9 الأولىالأولى 123456789 الأخيرةالأخيرة
النتائج 121 إلى 140 من 172

الموضوع: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

  1. #121
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (120)



    آثار الإيمان بالقضاء والقدر (2-2)




    5- كما أن الإيمان بالقضاء والقدر يولد في نفس صاحبه الطمأنينة والرضا، ويبعد عنها القلق والاكتئاب وسائر الأمراض النفسية، لأن ما يصيب المؤمن لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وبهذا القناعة يتولد عند المؤمن طمأنينة وراحة، لأنه عالم بأن الله الذي ابتلاه أو أنعم عليه، هو أرحم به من نفسه ومن والديه ومن في الأرض جميعًا، فما قدّره هذا الخالق هو خير وإن كان ظاهره التعب والنصب والألم، وهو ما عبّر عنه رسول الله ﷺ بقوله: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له«(1).

    فالراحة والهدوء النفسي دأب المؤمن في السراء والضراء، وفي الحل والترحال، وفي كل زمان ومكان، لأن هذه النفس قد ارتبطت بوشائج قوية وحبال متينة مع الله تعالى الذي خلق كل شيء وقدّره تقديرًا، فإذا ارتقى العبد إلى هذه الدرجة من اليقين، أزال الله تعالى عنه الكربات النفسية وجميع الاضطرابات والانفعالات والتشجنات، وأبدلها برَوْح من عنده جل وعلا، بل إنه جلّت قدرته، يحوّل نفس هذا المؤمن إلى روضة إيمانية تتجمع فيها ألوان الرياحين والزهور، وتنفث عنها خبث الشياطين من القلق والكآبة واليأس.

    6- الإيمان بالقضاء والقدر يغني الإنسان عن سؤال الناس والتعلق بهم في قضاء الحوائج وطلب المنافع ودفع الأضرار، لأن ما كتبه الله تعالى واقع لا محال، والقدر يزرع في نفس صاحبه اللجوء إلى الله وحده في الشكوى وطلب الرزق والتوفيق والسداد والهداية وغيرها، لأنها من الأمور التي تديرها الإرادة الإلهية، وليس للبشر فيها حول ولا قوة، وهذا يعني أن الإنسان لا يكلف نفسه فوق طاقتها أو يمدّ يديه في كل شيء إلى المخلوقات لقضاء حوائجه، فالله تعالى الذي خلق الخلق تكلف بأرزاقهم ومعاشهم وهدايتهم إن هم اتبعوا أوامره وأخذوا بالأسباب التي توصل إلى ذلك، ويكفي في هذا الباب ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام حين وصّى ابن عباس رضي الله عنه وهو غلام صغير: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف«(2).

    7- وأخيرًا فإن للإيمان بالقدر منفعة شاملة تعم المجتمع بكل أطيافه وشرائحه، لأن أبناءه تقبلوا أمر الله تعالى ورضوا بما كتب لهم من النعم وضدِّها، فكلُّها خير لأنها من منه جلّ وعلا، وبذلك تصفى نفوسهم وتتلاشى الأحقاد والضغائن بين فقيرهم وغنيهم وصحيحهم وسقيمهم، وهكذا.

    * * *

    هذا وإن ضعْف الإيمان بالقضاء والقدر يؤدي إلى أضرار ونتائج سلبية عظيمة بخلاف هذه الآثار الإيجابية، وعلى رأسها: القلق والاضطراب وبخاصة من المستقبل، وحال الشدائد، وعدم الراحة والطمأنينة، لأن النفس غير مستقرّة فيظهر هذا على جوارح الإنسان، ومن ثم يتعرض للأمراض النفسية والعضوية وغيرها.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ

    (1)
    أخرجه مسلم (ص1295، 7500) كتاب الزهد، باب المؤمن أمره كله خير.


    (2)
    أخرجه الترمذي (ص572، رقم 2516) كتاب صفة القيامة، باب قول النبي ﷺ: يا حنظلة، ساعة وساعة. وأحمد (1/293، رقم 2669). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #122
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (121)

    عبودية السراء والضراء



    حقيقة العبودية:

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:»العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة: فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبرّ الوالدين، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة.

    وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضى بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك: هي من العباد لله« (1).

    وأما عبودية السرّاء والضراء فهي جزء تفصيلي من العبودية الشاملة لله تعالى التي تتضمن جميع أقوال الإنسان وأفعاله، والتي أخبر الله تعالى عنها بقوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)، ويعبّر عن هذه العبودية أحيانًا بعبودية الشكر على نعم الله، وعبودية الصبر والرضى بقضاء الله وقدره.


    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ

    (1) الفتاوى (5/155).

    (2) [الذاريات: 56]





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #123
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (122)



    عبودية السرّاء (1-2)


    هي ما يقوم به العبد من أقوال وأفعال إزاء ما أنعم الله عليه من أنواع النعم والمسرات على نفسه وأهله وماله وأمته.

    أنواع السرّاء:

    لا يمكن حصر أنواع السرّاء لأن جميع نعم الله تعالى التي يتمتع بها الإنسان في الحياة هي من السرّاء، وصدق الله القائل: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).

    لذا يمكن الإشارة إلى بعض النعم التي تدخل في دائرة السرّاء، ومن أهمها:

    1- الهداية إلى دين الله تعالى:

    الهداية من أكبر نعم الله تعالى على المؤمن، ومن أعظم أنواع السرّاء التي يسعد بها في الحياة، وينال رضى الله وجناته يوم القيامة، فالهداية إلى الإسلام تعني التصور الصحيح عن الحياة والكون والإنسان، وبالتالي توحيد الله تعالى وإفراده بالعبودية ونبذ ما دونه من الآلهة والأنداد، يقول الله تعالى: {ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(2).

    فالله تعالى هو الذي يمنح الهداية لعباده المخلصين ويهيأ لهم أسبابها، كما أنه جل وعلا يختم على قلوب المفسدين ويضلهم ضلالاً بعيدًا، يقول جل ثناؤه{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}(3).

    2- الأمــن:

    إن توفر الأمن والاستقرار في النفس والمجتمع لون من ألوان السرّاء، فهو نعمة عظيمة وفضل كبير من الله تعالى يمنحه لبعض عباده ويحرم الآخرين منه، والأمن هو الاطمئنان على النفس والدين والأموال والأولاد وجميع المصالح والممتلكات وعدم الخوف عليها من المخاطر والمهلكات، والأمن يجعل الإنسان أكثر حركة وإنتاجًا في الحياة، ومن دون الأمن لا يمكن أن يقوم الإنسان بواجباته كاملة، لأن الخوف يمنعه من السعي في الأرض والعمل بحرية.

    ولأهمية هذه النعمة وأثرها على حياة الإنسان جاءت دعوة نبينا إبراهيم عليه السلام بتأمين الأمن والسلامة على البلد الحرام، فقال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ}(4). حيث قدّم عليه الصلاة والسلام في دعائه توفير الأمن على توحيد الله تعالى، لأنه لا يمكن القيام بأداء العبادات والفروض بالشكل المطلوب مع فقدان الأمن والاستقرار.

    وهذا يعني أن الأمن نعمة تحقق السعادة والحبور للإنسان، والخوف مصيبة وابتلاء يفقد معه الإنسان حرية العمل والإنتاج والإبداع، يقول تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(5).

    3-الصحة والعافية:

    إن من النعم العظيمة التي منّ الله تعالى بها على عباده نعمة الصحة والعافية في النفس والبدن، والتي يغفل عنها كثير من الناس، ولا يشعرون قيمتها ومكانتها إلا حين تنتزع منهم، أو حين تتعرض أجسامهم وحواسهم للضعف والوهن، وقد قيل في المثل: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى.

    ولا شك أن نعمة الصحة سبب رئيس لأداء العبادات والقيام بالأعمال المنوطة بالإنسان من الإنتاج والإبداع والسعي من أجل الرزق، وطلب العلم والجهاد وغير ذلك من الأعمال الصالحة التي تدخل في مفهوم العبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(6) كما أن هذه النعمة تعين على الاستمتاع بالطيبات والملذات التي أباحها الله لعباده، من الطعام والشراب والزواج والنوم وغيرها.

    وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى أهمية هذه النعمة وضرورة استغلال وجودها في العمل الصالحة والنافعة، في الوقت الذي حذّر من الإغفال عنها والإفراط فيها، فقال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ«(7).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ

    (1) [النحل: 18]

    (2) [الأنعام: 88]

    (3) [الأنعام: 125]


    (4) [إبراهيم: 35]

    (5) [البقرة: 155]

    (6)
    [الذاريات: 56]


    (7)
    أخرجه البخاري (ص1113، رقم 6412) كتاب الرقاق، باب ما جاء في الرقاق.







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #124
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (123)



    عبودية السرّاء (2-2)


    4-المال والبنون:

    يعدّ المال والبنون لونًا من ألوان السرّاء التي يتنعم بها الناس، لقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}(1). والمال يشمل العملات النقدية والعقارات والممتلكات والمصالح التجارية والصناعية والزراعية، وغيرها، كما أن البنون يشتمل الأبناء والبنات وذراريهم، وهي جميعًا من النعم والمسرّات الدنيوية التي تميل إليها النفوس لأنها من أسباب القوة في الحياة، فالذي عنده المال والأولاد يستطيع أن يحقق أهدافه ويصل إلى آماله أكثر من الذي يفتقد إليهما، يقول تبارك وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}(2) وإذا أنعم الله تعالى على العبد – إضافة إلى نعمة المال والبنون – نعمة العقل السليم والإرادة الصحيحة، فإن النعمة تكتمل وتصبح ذا مفعول أكبر.

    5- الفراغ:

    ومن النعم التي يتقلب فيها الإنسان نعمة توافر الزمن الكافي للعمل والإبداع والإنتاج، وتحقيق كل ما هو إيجابي في الحياة، والزمن أو الوقت جزء من المنظومة الكونية، وله دور كبير في تنظيم الحياة ومعرفة السنين والشهور والأيام، ولأهمية الوقت وعظم شأنه أقسم الله به في كتابه المبين فقال: {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}(3).

    ويتحكم الوقت في أعمار الناس وأعمالهم وحركتهم في الحياة، وهو ثمرة لحركة الشمس والقمر حين تتعاقبان بالليل والنهار، يقول تبارك وتعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}(4).

    فالوقت آية كونية، ونعمة عظيمة، لا بد من المحافظة عليه وعدم الإفراط فيه واستغلاله والاستفادة منه في الخير والبناء، وإن مواقف الناس مع الوقت تحدد مدى تقدمهم وتخلفهم، فمن حافظ عليه واستثمره في الإصلاح والبناء فإنه يرقى ويتقدم ويواكب ركب الحضارة، ومن أفرط فيه وضيّعه في اللهو واللعب وسفاسف الأمور فإنه يبقى متخلفًا عن ركب الحضارة ويصبح عبئًا وعالة على الآخرين.

    6- الزواج:

    ومن السرّاء أيضًا أن يوفق الله عبده في الزواج ويسهل عليه أعباءه وتكاليفه، ويرزقه الزوجة الصالحة التي تعينه على طاعة الله والعمل الصالح، وعلى تربية الأبناء وبناء الأسرة المسلمة، إضافة إلى كونه سكنًا وراحةً للنفس بالنسبة للزوجين، وسببًا لجلب الذرية الصالحة من الأولاد والبنات التي تعدّ من زينة الحياة ومتاعها، يقول تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(5).

    7- الدراسة وطلب العلم:

    إن السير في طلب العلم والحصول على الشهادات العلمية لا يتوفر لكل الناس، لأن الظروف المختلفة تقف عائقًا لبعض الناس في مواصلة الدراسة والتحصيل العلمي، وهذا ابتلاء ومصيبة، وأما في الجانب الآخر فإن القدرة على مواصلة الدراسة والتحصيل العلمي، وتحقيق الدرجات العلمية العليا تعدّ من النعم الكبير وهو نوع من أنواع السرّاء في الحياة، لأن العلم يرفع منزلة الإنسان عند الله وعند الناس، يقول تبارك وتعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}(6).

    وبالعلم يزداد إيمان العبد وقربه من الله، فضلاً عن الأجر الذي يناله عند الله إذا أخلص في علمه وسخره في سبيل الله، وكذلك الأثر الذي تتركه هذه النعمة على الأمة وتقدمها ورقيها، يقول جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(7).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــ

    (1) [الكهف: 46]

    (2) [آل عمران: 14]

    (3) [العصر: 1، 2]

    (4) [الإسراء: 12]


    (5) [الروم: 21]

    (6) [الزمر: 9]

    (7) [ فاطر: 28]



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #125
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (124)



    كيف تتحقق عبودية السراء؟ (1-3)


    بناء على الأنواع السابقة للسراء، يمكن تطبيق العبودية من خلالها وفق الآتي:

    1- عبودية الهداية إلى دين الله:

    إن عبودية الله تعالى على نعمة الهداية إلى دينه لا يمكن حصرها واختصارها في أعمال وأقوال محددة، بل إن هذه العبودية يجب أن تكون ملازمة للإنسان مدى الحياة، لأن نعمة الهداية هي نعمة السعادة والراحة في الدنيا، وهي نعمة الفوز والنجاة في الآخرة، وهما غايتا المؤمن، لذا فإن العبودية نحو هذه النعمة، أن يشكر العبد ربه سبحانه باللسان والجوارح، من خلال التمسك بأوامره وسنة نبيه ﷺ قولاً وعملاً، في الفروض والواجبات، والإحسان إلى الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر الأعمال الصالحة، وكذلك الانتهاء عما نهى الله عنه من الأقوال والأفعال، وتجنب أسبابها والطرق المؤدية إليها.

    وجسّد النبي القدوة عليه الصلاة والسلام هذه العبودية، حين كان يعبد الله حتى تتورم قدماه، وتقول له عائشة رضي الله عنها: قد غفر الله لك ما تقدم من ذلك وما تأخر، فيقول عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبدًا شكورًا.

    وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم على هذه الحال، فقد عرفوا نعمة الإسلام، وعرفوا فضل الله عليهم، لا سيما وقد كانوا على علم بالجاهلية وما فيها من المفاسد العقدية والاجتماعية والمالية وغيرها، فكانت عبوديتهم لذلك تطبيق الإسلام وترجمته إلى واقع عملي، سواء في العبادات والطاعات، أو من خلال السلوك والأخلاق مع الناس من حولهم.

    2-الأمن:

    وتتحقق العبودية لله تعالى في حالة الأمن والاستقرار الذي يتنعم به الناس، حيث يفرض الوضع الآمن والاطمئنان على النفس والأموال والمصالح واجبًا تعبديًا على الإنسان، فيشكر الله تعالى ويحمده، ويمتثل لأوامره وينتهى عن نواهيه، ويتقرب إلى الله بالعمل الصالح والدعوة إلى دينه، وكذلك فإن وجود الأمن يفرض على العبد الإخلاص بالعمل والإتقان فيه، والسعي الدؤوب على الإنتاج والنماء والإبداع، كما يفرض عليه المشاركة مع القائمين على الأمن في المحافظة عليه وإصلاح مواطن الخلل والفساد داخل المجتمع، وكل ذلك يدخل ضمن دائرة العبودية لله تعالى التي ينال من خلالها العبد رضى الله وثوابه، إضافة إلى ما يوفر لمجتمعه وأمته من مقومات القوة والتقدم والازدهار.

    وإذا ترك الناس هذه العبودية، وتغافلوا عن نعمة الأمن واستغلوها في المنكرات والمظالم والتجاوزات، فإن سنة الله تعالى قائمة في كل زمان ومكان، فقد ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه المبين عن هذه السنة فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(1).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ

    (1) [النحل: 112]





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #126
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (125)



    كيف تتحقق عبودية السراء؟ (2-3)



    3- الصحة والعافية:
    تتمثل العبودية في هذا النوع من السرّاء في الحمد والشكر لله تعالى على القوة والعافية وترجمة ذلك على الواقع وذلك بالإكثار من الطاعات والعبادات، والمحافظة على الفروض والواجبات، وأدائها في أوقاتها كما يريده الله تعالى، لذا ينبغي الاستفادة من أطوار القوة والعافية التي تمر على الإنسان وتسخيرها في سبيل الله وفي وجوه الخير المختلفة، وعدم الإفراط بها في المعصية والإفساد في الأرض، لأن غياب الصحة والعافية بعد ذلك تحرمه من بعض العبادات والأعمال الصالحة التي كان بإمكانه القيام بها وقت الصحة والنشاط، مثل أداء نسك الحج، وصيام رمضان، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها.
    وقد أوصى النبي عليه الصلاة والسلام الأمة على استثمار الصحة والعافية بالعبادة والبناء قبل زوالها فقال: «اغتنم خمسًا قبل خمس:.. وصحتك قبل سقمك«(1).
    فكم من مريض وضعيف يتمنى لو عادت له عافيته ليقدم بعض الأعمال الصالحة بين يدي الله تعالى، فيصلي صلاة الجماعة في المسجد، أو يحج ويعتمر، أو يخرج إلى الناس ليقضي حوائجهم ويعين ضعيفهم، ولكن المرض والضعف والوهن يحول دون ذلك.
    4- المال:
    وتتمثل العبودية هنا في إخراج حق الله من المال بالزكاة، لقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(2)، وكذلك الإكثار من الإنفاق والتبرعات في وجوه الخير المختلفة، كالإنفاق على المساكين والمحتاجين ودعم المؤسسات الخيرية، ودُور تحفيظ القرآن، وبناء المساجد والمدارس، وتسديد الديون عن المعسرين وغير ذلك من الأعمال المالية الخيرية، قال تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(3).
    ويُخشى من الإفراط في هذه العبودية يعني حلول غضب الله تعالى وعذابه على المفرط، يقول عليه الصلاة والسلام: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه يعني بشدقيه ثم يقول‏:‏ أنا مالك أنا كنزك‏«(4).
    5- الفراغ:
    كما تتحقق العبودية في هذا النوع من السرّاء من خلال استثماره فيما يرضي الله تعالى من العبادات والأعمال الصالحة، وإشغال الفراغ وملئه بالعمل والجدّ والإنتاج والإبداع، فهذا حق الوقت الذي كرّمه الله تعالى وجعل له شأنه عظيمًا، حيث أقسم به في سورة العصر فقال: {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(5).
    لذا؛ فإن الله تعالى يحاسب العبد على الأوقات التي قضى بها عمره وكيفيتها، هل قضاها في الخير أم في الشر؟ يقول البي عليه الصلاة والسلام: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه«(6).
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
    (1)
    أخرجه النسائي في السنن الكبرى (10/400، رقم 1183). والحاكم في المستدرك (4/341، رقم 7846). قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الذهبي.

    (2)
    [النور: 56]

    (3)
    [التوبة: 60]

    (4)
    أخرجه البخاري (ص226، رقم 1403) كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة.

    (5)
    [النساء: 103]

    (6)
    أخرجه الترمذي (ص550-551، رقم 2417) كتاب صفة القيامة، باب في القيامة. قال الترمذي: حسن صحيح.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #127
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (126)



    كيف تتحقق عبودية السراء؟ (3-3)



    6- الزواج والأسرة:
    تتمثل عبودية الله تعالى من خلال تكوين الأسرة الصالحة من خلال اختيار كل من الزوجين على أساس الدين والأخلاق، ثم القيام بواجب التربية القويمة نحو الأبناء والبنات، في المحافظة على الفروض والواجبات وغرس حب الله ورسوله ﷺ في نفوسهم، والبعد عن المعاصي والمنكرات، والبعد عن ظلم الناس والاعتداء على حقوقهم، والوقوف على مصالحهم وقضاء حوائجهم، وكل امتثال لقول الله تعالى للآباء وأولياء الأمور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(1).
    والإهمال في هذا النوع من العبودية يعرّض الأسرة إلى التفكك والضياع، ويهدد مستقبل الأبناء والبنات في الدنيا قبل الآخرة، لأن شراك الصحبة السيئة سيلاحقهم حتى يقعوا في مفاسده وأوحاله، لذا؛ حرص الشرع على تحقيق هذه العبودية حين ألزم كل فرد من أفراد الأسرة بمسؤولياته وواجباته، يقول عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته»(2).
    7- طلب العلم والتحصيل العلمي:
    للعلم وأهله شأن عظيم ومنزلة عالية عند الله تعالى، لأن العلم هو سبيل لمعرفة الله، التي هي أساس كل المعارف والعلوم، يقول الله تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(3).
    ورسالة أهل العلم عظيمة وهادفة، فهم المناهل التي تتدفق بالعلوم والمعارف على الناس، وهم المراجع في الأزمات والنوازل وفي جميع الأحوال، يقول تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(4).
    وبناء على ذلك فلا بد أن تُتوّج هذه الرسالة العظيمة بالعبودية لله تعالى من خلال المعالم الآتية:
    أ – السعي في طلب العلم وتحصيله امتثالاً لأمر الله تعالى وتقربًا إليه وطمعًا في جناته، من غير رياء أو مباهاة، يقول عليه الصلاة والسلام: «من تعلّم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة«(5).
    ب – العمل بالعلم الذي يحمله، حتى يعطي الصورة الناصعة عن الدين فلا يحدث عند الناس التناقض والتنافر، والله تعالى يقول: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}(6).
    ج – الاختلاط مع الناس وعدم الاستعلاء عليهم، لمعرفة مشكلاتهم ومعاناتهم والمستجدات التي تظهر بين الفترة والأخرى.
    د – عدم كتمان هذا العلم عن أحد، وتسخيره وبذله فيما ينفع الناس في الدنيا والآخرة.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ
    (1) [التحريم: 6]
    (2) أخرجه البخاري (ص143-144، رقم 892) كتاب الرق، باب كراهية التطاول على الرق.
    (3) [المجادلة: 11]
    (4) [النحل: 43]
    (5) أخرجه أبو داود (ص525-526، رقم 3664) كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله تعالى. والترمذي (ص603، رقم 2655) كتاب العلم، باب فيمن طلب العلم لدنيا. وابن ماجه (ص38، رقم 252) المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل. وأحمد (2/338، رقم 8438). وهو حديث صحيح.

    (6) [الصف: 3]



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #128
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (127)




    عبودية الضرّاء
    هي ما يقوم به العبد من أقوال وأفعال إزاء ما يعتريه من المصائب والابتلاءات، في نفسه أو ماله أو أهله وأبنائه.
    أنواع الضراء:
    لا يمكن أيضًا حصر صور الضرّاء التي تصيب الإنسان ويبتلى بها في حياته، ولكن يمكن الإشارة إلى بعضها وأهمها وهي:
    1- المرض:
    المرض صورة من صور الضرّاء، ويبتلى به معظم الناس بشكل متفاوت، يختلف من إنسان إلى آخر، من حيث نوعه وقوته وتأثيره على المريض، ويشمل الجانب العضوي والنفسي في الإنسان.
    يقول عليه الصلاة والسلام: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط»(1).
    2- الفقر:
    الفقر صورة أخرى للضرّاء، حيث يحرم الفقير من المال الذي يتحقق به كثير من الآمال والطموحات، فلا يجد الفقير هذه الوسيلة ويبقى بعيدًا عن ملذات كثيرة، ونعم مختلفة، جراء عوزه وفقره، رغم أن كثيرًا من الفقراء يعملون ويسعون إلا أن أرزاقهم محدودة ولا تتوسع كحال غيرهم من الناس، أو ربما يكون الفقر نتيجة مرض أو كارثة أو مصيبة حالت الفقير أن يرقى إلى حال أفضل من الناحية الاقتصادية.
    وينظر كثير من الناس إلى الفقر نظرة خاطئة، ويرونها عيبًا في الشخص أو خدشًا اجتماعيًا عنده، وهي نظرة مخالفة للكتاب والسنة، لأن رسول هذه الأمة ونبيها عليه الصلاة والسلام كان فقيرًا، حتى لم يكن توقد في بيته نار شهرًا أو شهرين.
    وقد تحدَّث القرآن عن الفقراء في مواطن عديدة، كما في قوله تبارك وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}(2)، وقوله جل شأنه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(3).
    هذا وإن معظم الصحابة كانوا فقراء، لا سيما المهاجرون الذي فرّوا بدينهم وتركوا أموالهم وديارهم ومصالحهم في مكة.
    3- الفشل في الدراسة والحرمان من الشهادات العلمية:
    تتفاوت القدرات العقلية من إنسان إلى آخر، كما تختلف ظروفهم وأحوالهم، فليس كل إنسان لديه القدرة والظروف التي تدفعه لإكمال دراسته أو السير في طلب العلم والحصول على الشهادات العلمية العليا، رغم أن كثيرًا من الناس يجتهدون ويسعون من أجل ذلك، إلا أنهم يفشلون ولا يكتب لهم تحقيق ذلك، ولا شك أن هذا نوع من الضرّاء، لأن الحرمان من العلم يعني الحرمان من نِعم كثيرة وآمال كبيرة.
    4- عدم التوفيق في الزواج:
    من أنواع الضرّاء التي يُبتلى بها كثير من الناس عدم التوفيق في الزواج، بالنسبة إلى الزوج أو الزوجة، سواء لأسباب مادية أو لعدم التفاهم والتلاقي في الأفكار والتصورات، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى الطلاق، وإما يتحمل أحدهما الآخر ويصبر على الضرّاء احتسابًا للأجر أو خشية على مستقبل الأسرة والأولاد.
    5- عدم الإنجاب:
    يبتلى بعض الناس بصورة من الضرّاء الاجتماعي وهي عدم الإنجاب مطلقًا أو إنجاب الإناث دون الذكور، وهذا الابتلاء يؤدي في الغالب إلى الخلافات الزوجية، أو إلى الطلاق، أو تعدد الزوجات، مع العلم أنه ابتلاء من الله تعالى لبعض عباده كما قال: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}(4).
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ
    (1) سبق تخريجه.

    (2) [البقرة: 273]
    (3) [الحشر: 8]
    (4) [الشورى: 50]



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #129
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (128)



    كيف تتحقق عبودية الضرّاء
    بناء على ما سبق من أنواع الضرّاء، يمكن تطبيق العبودية فيها وفق الآتي:
    1- في حال المرض:
    لقد أمر الشرع المريض بالصبر والرضى بحكم الله تعالى، وأن يجعل نبي الله أيوب عليه السلام قدوة له في محنة المرض، وكيف أنه رضي أمر الله تعالى ولم يستسلم لليأس والقنوط من رحمته ونزول الشفاء عليه، حتى قال فيه الله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ}(1).
    ثم يحتسب العبد في مرضه، لأنه بذلك يقترب من الله تعالى أكثر ويبتعد عن وساوس الشياطين وهمزاتهم، وهو المدخل إلى الشفاء والتعافي من المرض، يقول عليه الصلاة والسلام: «إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين، فيقول: انظرا ما يقوله لعوّاده، فإن هو حمد الله تعالى إذا دخلوا عليه، رفعا ذلك إلى الله تعالى وهو أعلم. فيقول: لعبدي إن أنا توفيته أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدله لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، وأن أكفِّر عنه خطاياه«(2).
    ولكي يتجنب المريض الوقوع في المحظورات الشرعية أثناء مرضه فعليه بعض الأمور التي لا بد من تصورها لتحقيق عبودية السراء، ومن أهمها:
    أ – اليقين بأن المرض قدر من الله ولا بد من القبول والرضى بهذا القدر.
    ب – اليقين بالأجر العظيم المرتب على الصبر إزاء الأمراض.
    ج – اليقين بأن الله تعالى هو الشافي، وأن كل ما يأخذه من العقاقير والعلاجات إنما هي أسباب يجب تناولها ما دامت غير محرمة.
    د – حسن الظن بالله تعالى، والتفاؤل بالشفاء والمعافاة دائمًا.
    هـ- الإكثار من ذكر الله تعالى، من الدعاء وقراءة القرآن، والمحافظة على العبادات والفروض.
    و – الإكثار من الإنفاق في وجوه الخير المختلفة، لأنها سبب من أسباب الشفاء.
    2- في حال الفقر:
    وتتحقق العبودية لله تعالى في حالة الفقر من خلال الأمور الآتية:
    أ – الصبر على الفقر وقبول أمر الله تعالى، وعدم قطع الأمل في الله تعالى في أن يزيد له في رزقه ويوسع في عيشه.
    ب – العمل والسعي من أجل طلب الرزق بالطرق المشروعة، وعدم التكاسل أو الاعتماد على الغير، أو اتباع الطرق المحرمة من أجل الكسب والحصول على المال.
    ج – الابتعاد عن التسوّل وعدم إظهار معالم الفقر، لأن الغنى الحقيقي في النفس وليس في العَرض.
    3- الفشل في الدراسة:
    أما كيف يحوّر العبد هذا الابتلاء إلى عبادة؟ فإن عليه أن يتجه نحو طريق آخر في الحياة، ويعمل في مجال آخر غير المجال العلمي، فهناك التجارة والزراعة والصناعة وغيرها من الأعمال والحرف التي يمكن أن يحقق من خلالها طموحات كبيرة كالرزق الواسع والعيش الرغيد، بحيث يعمل وفق الضوابط الشرعية ضمن حدود الحلال والحرام.
    والمتأمل في أحوال الناس سيجد أن كثيرًا من الأغنياء والأثرياء من أصحاب المعروف والمشاريع الخيرية ليس لديهم شهادات علمية، أو أن تحصيلهم العلمي محدود، ولكنهم أفادوا الأمة بأعمالهم الخيرية والدعوية.
    4- عدم التوفيق في الزواج:
    إن التعبد عبر هذه المصيبة، تكون بالصبر والحلم واتباع الحكمة في جميع الأحوال، وعدم الخوض في الجدال والنقاش الذي يؤدي إلى مزيد من الانفعالات والمشكلات، وغض النظر عما يكره كل منهما من الآخر، امتثالاً لقول النبي ﷺ: «إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر«(3).
    5- عدم الإنجاب:
    ويكون التعبد مع هذا الابتلاء بالاحتساب والصبر وقبول أمر الله الذي يهب لمن يشاء من الذكور أو الإناث، ويحرم الآخرين حرمانًا مطلقًا، وقد ابتلي رسول الأمة عليه الصلاة والسلام بالحرمان من الذكور، بل إن محنته كانت أشد حيث يوهب له الأولاد ثم يموتون في مقتبل أعمارهم
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
    (1)
    [ص: 44]


    (2)
    أخرجه مالك في الموطأ (2/940، رقم 1682) كتاب العين، باب ما جاء في أجر المريض. والبيهقي في الكبرى (3/315، رقم 6786). والحاكم في المستدرك (1/348، رقم 1290). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

    (3)
    أخرجه مسلم (ص626، رقم 1467) كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #130
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (129)



    الرسول القدوة
    لقد مرّ النبي عليه الصلاة والسلام في حياته الدعوية خلال ثلاث وعشرين سنة بمعالم كثيرة من السرّاء والضراء، وكان عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى في العبودية لله تعالى مع تلك المعالم التي من أهمها:
    - فَقَد النبي ﷺ زوجته خديجة رضي الله عنها التي كانت حضنًا دافئًا وسَكَنًا مريحًا له عليه الصلاة والسلام منذ بداية الوحي إلى أن توفاه الله، كما توفي في السنة نفسها عمه أبو طالب الذي ذبّ عن النبي ﷺ بكل قوة ودافع عنه في مواطن كثيرة، بل إن هاتين المصيبتين تزامنت مع الحصار الذي فرض عليهم في الشِّعب، فكانت مصائب متراكمة وشديدة على رسول الله ﷺ، فكان الصبر والرضى زاده وسلاحه في مواجهة هذه المحنة.
    - لقد أوذي عليه الصلاة والسلام من قومه إيذاء شديدًا، حيث اتُّهم بالجنون والسحر، ورمي بالحجارة من صبيان بني ثقيف، وشُجّ رأسه وكسرت رباعيته، كل ذلك في سبيل الدعوة إلى الله، لكنه كان صابرًا عابدًا لله تعالى لأنه عَرف أن طريق الجنة محفوفة بالمكاره والأشواك، لقوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}(1).
    - هاجر عليه الصلاة والسلام في سبيل الله فارًّا بدينه وعقيدته مع الصحابة رضوان الله عليهم، وقد تركوا خلفهم الأهل والديار، كل ذلك من منطلق تعبدي، وتنفيذًا لأمر الله تعالى بالهجرة، وقد رضي الله عنهم بعد ذلك وقال فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(2).
    - كان عليه الصلاة والسلام شاكرًا لأنعم الله عليه، فقد ثبت في الصحيح أنه قام حتى تفطرت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا«
    - وكان ﷺ ينفق في سبيل الله ولا يخش فقرًا، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: ما سُئل رسولُ الله ﷺ على الإسلام شيئاً إلا أعطاهُ، ولقد جاءه رجلٌ، فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر(3).
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
    (1)
    [البقرة: 214]

    (2)
    [التوبة: 100]

    (3)
    أخرجه مسلم (ص1021، رقم 2312) كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله ﷺ من شيء قط فقال: لا.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #131
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (130)



    آثار عبودية السرّاء والضراء
    إن من أهم الآثار والنتائج الإيجابية التي يخرج بها العبد المؤمن حال عبوديته لله سبحانه وتعالى في كلا الحالين، ما يلي:
    1- إن الله تعالى يجزي الشاكرين في السرّاء بالأجر العظيم والزيادة في الأرزاق والنِّعم المختلفة، لأنهم لم يغفلوا عن شكر الله بالقول والعمل إزاء ما أغدق عليهم من المتاع والطيبات، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ}(1)، وقال أيضًا: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}(2).
    2- إن الصبر على الضرّاء، والرضى لأمر الله تعالى من أسباب العفو والمغفرة والثواب الجزيل، لقوله تعالى: يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(3).
    ويقول عليه الصلاة والسلام: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها«(4).
    3- الشعور بالرضى والقرب من الله عز وجل، حيث يحس العبد الشاكر أن الله عز وجل خصّه بكرمه فيقبل عليه بالتوبة والاستغفار والثناء عليه سبحانه بما هو أهله، وينال راحة نفسية عظيمة، ثم إنه يبادر إلى من حوله فيحسن إليهم شكرًا لله الذي أحسن إليه ويبذل جهده في إدخال السرور إلى قلوبهم كما أدخل الله المسرة إلى قلبه فتحصل بذلك الفائدة لمجتمعه وتزداد عرى الترابط بينه وبين من أحسن إليهم، فإن فعل ذلك زاده الله من نعمه وأسبغها عليه ظاهرة وباطنة.
    4- إن عبودية السرّاء والضرّاء تدخل السكينة والطمأنينة في نفس العبد، لأنه لم يصبه الغرور والتكبر حين أنعم الله تعالى عليه بالنعم المختلفة، ولم ينس أن يرجع ذلك كله لله تعالى، فبقيت نفسه مطمئنة وسليمة من الكبر والاستعلاء.
    كما أنه لم يتأفف عند الضرّاء من حاله وما أصابه من البلاء، بل رضي بقضاء الله تعالى، وعَلِم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن الله تعالى قد أعدّ له من الأجر والثواب على صبره وثباته، وبالتالي تغتسل نفسه من آفة الحسد والحقد على الآخرين.
    5- إن عبودية السرّاء والضراء تبني شخصية الإنسان بناء متينًا، حيث يتطلع في حالتي السراء والضراء إلى الحياة بنظرة إيجابية، فلا يغريه المتاع عن العمل والإنتاج، كما لا تحبطه المصائب والشدائد عن مواصلة الطريق وتجاوز الصعاب للوصول إلى تحقيق الأهداف الممكنة بالوسائل المتاحة.
    6- إن عبودية السرّاء والضرّاء يساهم كثيرًا في توفير الأمن والاستقرار داخل المجتمع، لأن المنعم عليه بالمال والصحة والإمكانات لا يترك إخوانه الضعفاء ضحية للفقر والبطالة والجهل، بل إنه من منطلق العبودية لله تعالى يمدّهم بجميع أشكال المساعدات سواء بالإنفاق عليهم، أو إيجاد فرص العمل لهم، وغير ذلك من الأمور التي تخرج الغل والكراهية من نفوس المحرومين.
    وفي الجانب الآخر فإن المصاب بالضرّاء يؤمن بقضاء الله تعالى وقدره، ويتفاعل مع حقيقة البلاء بإيمانه بالجزاء المدّخر عند الله تعالى، فإنه لا يحمل في نفسه حقدًا أو ضغينة على أحد، إضافة إلى ما يجده من المتنعم عليه من التعاون والتكافل معه، كل ذلك يساهم في استقرار حال المجتمع وسلامته من عوامل الجريمة والفساد.
    * * *
    كانت تلك جولة سريعة مع عبودية السراء والضراء، والتي هي جزء من العبودية العامة التي أشار إليها الله جلّ وعلا بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(5).
    والكيّس العاقل من يجعل الأحوال التي يمر بها والظروف التي تعترضه في الحياة ساحة للعبادة وميدانًا لطاعة الله تعالى، ليس في حالات الشدة والرخاء فحسب، بل إنه يستطيع أن يجعل من كل عمل مباح عبادة وتقربًا إلى الله حين يحتسب ويخلص النية له جل وعلا، فيصبح تناول الطعام عبادة، والنوم عبادة، والرياضة عبادة، والدراسة عبادة وهكذا، حتى تصبح كل حركة وسكنة تصدر منه عبادة يؤجر عليها، وبذلك يؤدي العبد رسالته في الحياة، ويصل إلى الغاية التي خُلق من أجلها وهي عبادة الله وحده.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــ
    (1) [إبراهيم: 7]
    (2) [آل عمران: 145]

    (3) [الزمر: 10]
    (4) سبق تخريجه.
    (5) [الذاريات: 56]



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #132
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (131)



    يابلال أرحنا بها
    الصلاة من أعظم أركان الإسلام، وأجلّها، وأكثرها فائدة، وأوسعها آثارًا، وهي من أهم العوامل لبناء الشخصية السوية، ومن أهم أدوات الشفاء للأمراض، ومن أكبر الوسائل لمعالجة المشكلات وتجاوز العقبات.

    لذا؛ نركّز في هذا المبحث على هذه الجوانب، فنفتتح بما رواه الإمام أحمد رحمه الله قال:
    حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ وَخَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَا حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا يَعْنِي ابْنَ زَائِدَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله الدُّؤَلِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَخُو حُذَيْفَةَ قَالَ حُذَيْفَةُ: «كَانَ رَسُولُ الله ﷺ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى«(1).
    وما رواه أبو داود رحمه الله قال:حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ قَالَ رَجُلٌ قَالَ مِسْعَرٌ أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُول:ُ «يَا بِلالُ أَقِمْ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا«(2).
    مفهوم الصلاة:
    الصلاة لغة: الدعاء، قال تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}
    (3)
    أي ادع لهم، وقال النبي ﷺ: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مطراً فليطعم وإن كان صائماً فليصلّ«(4).

    الصلاة اصطلاحاً: الصلاة: أقوال وأفعال يتعبد الله بها، تفتح بالتكبير وتختتم بالتسليم.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ
    (1)
    أخرجه أبو داود (ص197، رقم 1319) كتاب الصلاة، باب تفريع صلاة السفر. وأحمد (5/ 388، رقم 23347). حديث حسن.

    (2)
    سبق تخريجه.


    (3)
    [لتوبة: 103]

    (4)
    لسان العرب ج 7 / ص 397.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #133
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (132)



    أهمية الصلاة وفضلها في الإسلام
    الصلاة عمود الدين، وثاني أركان الإسلام، تلي شهادة التوحيد، كما جاء في حديث جبريل عليه السلام حين سأل الرسول ﷺ عن الإسلام فأجابه: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً«(1).
    وقد أشار القرآن الكريم إلى فضل الصلاة ومكانتها في هذا الدين في آيات كثيرة ما بين كونها فرضًا يؤدَّى، أو كونها عبادة يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، وجاء الثناء والجزاء على الذين يحافظون على هذه الفريضة كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}(2).
    وبالمقابل جاء التهديد والعقاب على تاركها، كما في قوله تعالى حين يُسأل بعض أصحاب النار عن سبب مقامهم في النار {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ . قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}(3).
    كما أن الصلاة هي أول ما يحاسب عليها العبد يوم القيامة لقول النبي ﷺ: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته«(4).
    والصلاة تميّز أهل الإيمان عن أهل الكفر لقوله ﷺ: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر«(5) وقوله عليه الصلاة والسلام: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة«(6).
    ومن أهم المعالم التي تدل على أهمية الصلاة أيضًا أن الله تعالى أمر بها في في معظم الأحوال، في الصحة والسقم، وفي السفر والحضر، وفي السلم والحرب.
    من أجل هذه المنزلة الكبيرة والمكانة الرفيعة للصلاة في هذا الدين كان الأمر بها واضحًا في وصية النبي ﷺ قبل وفاته، عن علي رضي الله عنه قال: كان آخر كلام رسول الله ﷺ: «الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم«(7)، حتى جعل يغرغر بها وما يفصح بها لسانه.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ
    (1)
    سبق تخريجه.

    (2)
    [الأنفال: 3-4]

    (3)
    [المدثر: 42-43]

    (4)
    أخرجه أبو داود (ص133، رقم 864) كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه. والترمذي (ص111، رقم 413) كتاب الصلاة، باب أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة. والنسائي (ص64، رقم 466) كتاب الصلاة، باب المحاسبة على الصلاة. وابن ماجه (ص204-205، رقم 1426) كتاب الصلاة، باب أول ما يحاسب به العبد الصلاة.

    (5)
    أخرجه الترمذي (ص595، رقم 464) كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة. والنسائي (ص64، رقم 464) كتاب الصلاة، باب المحاسبة على الصلاة. وابن ماجه (ص151، رقم 1079) كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في ترك الصلاة. وقد حسنه الترمذي.

    (6)
    أخرجه مسلم (ص51، رقم 1079) كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة.

    (7)
    أخرجه أبو داود (ص724، رقم 5158) كتاب الآداب، باب حق المملوك. وابن ماجه (ص232، رقم 1625) كتاب الجنائز، باب ما جاء في مرض رسول الله ﷺ. وهو صحيح.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #134
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (133)



    صفة الصلاة
    وأما كيفية أداء الصلاة وصفتها، فقد بيّنها رسول الله ﷺ للصحابة بشروطها وأركانها قولاً وعملاً، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لهم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»(1)، ليس هذا فحسب، بل إنه كان ينبههم إذا وجد خللاً أو قصورًا في أدائهم للصلاة، كما جاء في حديث المسيء صلاته.
    وما جاء في صفة صلاته عليه الصلاة والسلام من أحاديث فكثيرة، ويكفي الإشارة إلى ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «أن النبي ﷺ قال: إذا قمتَ إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبِّر ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها»(2).
    وينبغي أن يرافق هذه الهيئة والأداء في الصلاة الخشوع وحضور القلب، والتأمل فيما يقوله العبد بين يدي ربه، من آي القرآن والذكر والتكبير والتحميد والتسبيح وغيرها، وقد أشاد الله تعالى بالمؤمنين الذين يخشعون في صلواتهم فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}(3).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ

    (1) أخرجه البخاري (ص123، رقم 757) كتاب الأذان، باب قراءة الإمام والمأموم في الصلوات كلها.
    (2) أخرجه البخاري (ص30، رقم 139) كتاب الوضوء، باب إسباغ الوضوء. ومسلم (ص168، رقم 397) كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
    (3) [المؤمنون: 1-2]



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #135
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (134)


    آثار الصلاة (1-3)


    للصلاة آثار إيجابية عظيمة في حياة المؤمن يلمسها حين يؤديها بأركانها وشروطها، وبالصورة التي كانت يؤديها رسول الله ﷺ، فضلاً عن الآثار الأخروية التي يلقاها المؤمن عند ربه يوم القيامة، ومن تلك الآثار:

    1-إن الصلاة من الأعمال التي ترفع درجات المصلي وتزيد من حسناته، كما تكفر عنه السيئات والذنوب التي يقترفها في حياته اليومية، يقول تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ}(1).

    وعن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « ما من امرئ مسلم تحضره صلاةٌ مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها؛ إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤتَ كبيرة، وذلك الدهر كله«(2).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « سمعت رسول الله ﷺ يقول: أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم، يغتسل منه كل يومٍ خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا«(3).

    2-إن الصلاة التي هي الصلة بين العبد وربه، تزيد من تعلق هذا العبد بربه، لأنه يقف بين يديه في اليوم خمس مرات على الأقل، يثني عليه ويحمده ويعظمه ويستعين به، ويطلب منه الفوز والنجاة، فيستجيب الله تعالى له ويمنحه ما يريد، وهذا ما يؤكده حديث أبي هريرة رضي الله عنه حيث قال: سمعت رسول الله ﷺ: «قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال مالك يوم الدين. قال: مجّدني عبدي وقال مرة: فوض إلي عبدي. فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل«(4).

    3-إن الصلاة تدفع الإنسان لفعل الخير والعمل الصالح، وتجنبه سبل الغواية والمعاصي، يقول تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}(5). ويقول جل ذكره: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}(6).

    4-إن الصلاة تحفظ المسلم وتحميه من شرور الجن والإنس بسبب ما تنزل عليه من الرحمة والمغفرة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله»(7).

    5-المحافظة على الصلاة وإقامتها عامل كبير في جلب الرزق والعيش الرغيد، لقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ}(8).

    6-الصلاة في أوقاتها الخمسة تنظم حياة المسلم في ليله ونهاره، حيث يصبح لديه برنامج واضح يسير عليه وفق التقسيمات التي حددها الشرع لأوقات الصلاة، يقول تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}(9)، فيرتب وضعه وينظم حاله وفق هذا الجدول الزمني الذي حدده الله تعالى، ما بين عمل دنيوي يساهم من خلاله في عمارة الكون وتحقيق ما ينفع نفسه ومجتمعه وأمته، وبين ما يشده إلى الآخرة من خلال هذه الصلوات التي تفصل بين الواحدة والأخرى فترة زمنية محددة، ليتخلص من أعباء الحياة وتعبها ونصبها، فيقف بين يدي خالقه مجددًا عهده وولاءه وثباته على هذا الدين، ليرجع من جديد إلى عمارة الأرض ونشر الخير بين الناس.

    وفي هذا استشعار بقيمة الزمن، الذي يُسأل عنه الإنسان يوم القيامة، لأن تركه وعدم الاستفادة منه يؤدي إلى التخلف والفساد والجريمة، بل سيكون وبالاً على صاحبه إذا لم يستغله بما أمر الله به، وهو معنى قوله ﷺ: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه«(10).

    7-الصلاة تحافظ على أمن المجتمع واستقراره، وتقلل من نسبة الجرائم والجنايات بين أبنائه، لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}(11)، وقد جاء الاقتران بين الأمر بالصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وصية لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(12). فهذه الآيات تدل صراحة أن هناك علاقة متلازمة بين إقامة الصلاة واجتناب المنكرات التي تشمل كل أنواع المعاصي والمفاسد التي تخل باستقرار الإنسان ومجتمعه.

    كما أن الصلاة تُجَمّعُ الناس في اليوم والليلة خمس مرات، وفي الأسبوع مرة في صلاة الجمعة، يقفون جميعهم بين يدي خالقهم متكاتفين متراصين، يجددون معًا العهود والمواثيق مع هذا الخالق، ويجددون العهد فيما بينهم، ويتعرفون على أحوالهم وحاجاتهم، فتزيد صلتهم ورحمة بعضهم ببعض، وغيرها من التبعات والفوائد الاجتماعية الأخرى التي تفرزها هذه الصلاة بين المسلمين، وهي من الأسباب التي ترجح كفة الأمن والاستقرار على كفة الجريمة والفساد.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ

    (1) [هود: 118]

    (2) أخرجه مسلم (ص167، رقم 878) كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة بعدها.

    (3) أخرجه البخاري (ص90، رقم 528) كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلوات الخمس كفارة.

    (4) أخرجه مسلم (ص167، رقم 395) كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة.

    (5) [العنكبوت: 45]

    (6) [الأعراف: 170]

    (7) أخرجه مسلم (ص265، رقم 1493) كتاب المساجد، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة.

    (8) [طه: 132]

    (9) [النساء: 103]

    (10) سبق تخريجه.


    (11) [العنكبوت: 45]

    (12) [لقمان: 17]





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #136
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (135)


    آثار الصلاة (2-3)



    8- وأما آثار الصلاة على المؤمن من الناحية النفسية فيمكن إجمالها فيما يلي:

    أ- إن الصلاة تجلب للنفس راحة وطمأنينة في كل أحوالها، لا سيما في النوازل والمصائب التي قد تعتري المؤمن، وهو ما عبّر عنه رسول الله ﷺ عندما يحين وقتها بقوله لبلال رضي الله عنه: «قم يا بلال فأرحنا بالصلاة»(1)، وقوله ﷺ: «وجعلت قرة عيني في الصلاة»(2)، فهي الملاذ الذي ترنو إليه النفس دائمًا، ليذهب عنها الضيق والحرج وتحل الراحة والسكينة، فحين يكبر المصلي تكبيرة الإحرام فكأنما ألقى بالدنيا وما فيها من تعب وكدر إلى الوراء، وبدأ يستقبل نوعًا آخر من المشاعر والأحاسيس التي يفتقدها قبل الدخول في هذا المقام السامي مع ربه سبحانه وتعالى.

    ب- تعد الصلاة من أهم الأسباب التي تزيل عن المؤمن القلق النفسي الناجم عن مؤثرات الحياة، فهو في صلاته يشعر عظمة خالقه حين يركع له ويسجد له بقلبه وجوارحه، فتصغر في نفسه مسببات ذلك القلق وتوابعه، لأنه يحس أن هذه النفس قد خرجت من ضيق الدنيا إلى سعة رحمة الله وعظمته التي تخشع له كل الخلائق وتسجد له طوعًا وكرهًا.

    ج- الصلاة تبعد التوتر عن نفس المؤمن، بسبب تغيير الحركة المستمرة فيها، من قيام وركوع وسجود وقعود وتحريك للسواعد وغيرها، فمثل هذه الحركات وهذه التغيرات يحدث استرخاء فسيولوجيًا مهمًا في الجسم، وهذا ما يهدأ من روع الإنسان المنفعل أو المتشنج، ويحافظ على توازنه النفسي، وقد وصى الرسول ﷺ المؤمن الغاضب أو المتوتر بالجلوس إلى الأرض ليخف عنه غضبه وتوتره، يقول عليه الصلاة والسلام: «ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء فليلصق بالأرض«(3).

    ولعل ما نجده لدى بعض الشعوب عادة السجود ووضع الرأس على الأرض عند الإرهاق أو الضيق أو الاكتئاب لها أصل من هذه الحقيقة، كما هي الحال عند اليابانيين، إلا أنهم يدرجونها ضمن التمارين الرياضية أو المعالجات النفسية، مثل اليوغا وغيرها. ونحن أغنانا الله تعالى بالصلاة، فنؤديها بخشوع ورغب ورهب.

    د – الصلاة تدفع عن المؤمن همزات الشياطين ولمزاتهم، في كل أحواله، حيث تدربه على الشكر في السراء، وعلى الصبر في الضراء، يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(4)، ويقول جل شأنه في آية أخرى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(5).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــ


    (1) سبق تخريجه.

    (2) أخرجه النسائي (ص469، رقم 3392) كتاب عشرة النساء، باب حب النساء. وأحمد (3/128، رقم 12315). والحديث صحيح.

    (3) أخرجه الترمذي (ص504، رقم 2191) كتاب الفتن، باب ما أخبر به النبي ﷺ. وأحمد (3/19، رقم 11159). والحاكم (4/506، رقم 8543). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.

    (4) [البقرة: 153]

    (5) [الأعراف: 200]





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #137
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (136)


    آثار الصلاة (3-3)



    هذا فضلاً عن بعض الفوائد البدنية والجسمية التي يمكن استنباطها من الصلاة، وهي:
    -الصلاة تعطي توازنًا للجسم، وتخفف الضغط على الدماغ، وذلك من خلال وضعيات الركوع والسجود وما يرافقها من الضغط على أطراف أصابع القدمين، مما يعطي شعورًا للمصلي بالاسترخاء والهدوء.
    -السجود الطويل يؤدي إلى عودة ضغط الدم إلى معدلاته الطبيعية في الجسم كله، ويعمل على تدفق الدم إلى كل أجهزة الجسم.
    - الصلاة تجنب المصلي بعض الأمراض، مثل الدوالي، كما أنها تقوّي العظام وعضلات البطن، وتنشط إفراز المرارة، وحركة المعدة والأمعاء، بسبب حركات الصلاة من قيام وركوع وسجود وغيرها.
    -الصلاة تعوّد المؤمن على النظافة البدنية، والعناية بالجسم وتزكيته، وإزالة كل ما يضر به من الأوساخ والروائح الكريهة، من خلال ما تسبق هذه العبادة
    من عمليات الطهارة والوضوء، إضافة إلى نظافة الثياب وحسن الهيئة، استعدادًا لأداء الصلاة، لقول الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ . وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}(1). وقوله
    جلّ وعلا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(2).
    * * *
    وأخيرًا:
    فإن الصلاة من العبادات التي جعلها الله تعالى بمثابة محطات، يقف عندها المؤمن في رحلة الحياة بين الفينة والأخرى، لتخفف عن كاهله أعباء هذه الرحلة، وتمسح ما تعلقت به من الخطايا، وتلقي على نفسه الراحة والطمأنينة وتدفع عنها نفث الشياطين ووساوسهم، ليتمكن من أداء رسالته في الحياة وفق المنهج الرباني الصحيح.
    لذا ؛ لا بد من أداء هذه الفريضة أداء حسنًا، في وقتها المحدد، ومع جماعة المسلمين في المساجد، وتبليغ الناس بأهمية هذا الركن عند الله تعالى ومدى خطورة تركه أو إهماله، وذلك منذ المراحل الأولى في حياتهم، حتى يصبح جزءًا من حياتهم، وهو الأمر الذي وصى به رسول الله ﷺ في قوله: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع«(3).
    ولنتذكر دائمًا قول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}(4)، فيستعان بها في جميع الأحوال والظروف.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ
    (1)
    [المدثر: 4]

    (2)
    [الأعراف: 31]


    (3)
    أخرجه أبو داود (ص82، رقم 495) كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة. وأحمد (2/18، رقم 6689). والحاكم (1/197، رقم 708).

    (4)
    [البقرة: 45]




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #138
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)


    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (137)

    الإنفاق في سبيل الله



    عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ رَسُولِ الله ﷺ أَنَّهُ ذَكَرَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ ثُمَّ قَال:َ «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ«(1).

    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ الله ﷺ قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ الله عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لله إِلَّا رَفَعَهُ الله«(2).

    المال في الإسلام:

    إن ما في هذا الكون كله ملك لله تعالى، الإنسان والدواب والطيور والأرض والسموات وما فيهما من الكائنات والجمادات، مخلوقات لله وملك له جل وعلا، لقوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(3)، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}(4).

    وبهذا المفهوم فإن المال وكل ما يندرج تحته من المصالح والممتلكات هي ملك لله تعالى.

    وأما موقف الإنسان من هذا المال وملكه له فلا يخرج عن أمرين بعد اعتقاده أنه مال الله تعالى وأن ما رزق منه مؤتمن عليه:

    1-ينتفع بهذا المال في المباح وضمن الضوابط الشرعية التي رسمت حدود التصرف فيه ومجالاته ومصارفه، لأنه كسائر المخلوقات التي سخرها الله تعالى للإنسان في هذا الكون، لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}(5).

    2-أن ينْفَع بالمال سائر خلق الله تعالى، لأن المال لم يخلق لفئة دون أخرى من جهة، ولأن الإنسان مستخلف في الأرض ومستعمر فيها من جهة أخرى، لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ}(6)، وقوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا}(7)

    وهذا يعني أن الإنسان موكل لصرف المال في الوجوه التي أمره الله الصرف فيها، لقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِين َ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}(8) وأما إذا تفاضل البعض على الآخر في استخلافهم لهذا المال، فهذا تقدير الله وقسمته لهم، وهم مستخلفون عليه لينفقوا في سبيله ليس من باب الاستحباب فحسب، بل هو واجب أيضًا كما هي الحال في الزكاة وصدقة الفطر، وكذلك حسب الأحوال المادية التي تمر بها الأمة، فإن النفقة تصبح واجبة في كثير من حالات الفقر والأزمات المادية التي تؤثر على حياة الناس، يقول تبارك وتعالى: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}(9) ، ويقول أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(10).

    ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد: «من احتكر فهو خاطئ«(11).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ

    (1) أخرجه البخاري (ص229، رقم 1417) كتاب الزكاة، باب الصدقة الرد. ومسلم (ص410، رقم 2350).

    (2) أخرجه مسلم (ص1131-1132) كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة.

    (3) [المائدة: 120]

    (4) [النور: 42]

    (5) [لقمان: 20]

    (6) [الأنعام: 165]

    (7) [هود: 61]

    (8) [الحديد: 7]

    (9) [النور: 33]

    (10) [البقرة: 254]

    (11) أخرجه مسلم (ص702، رقم 1605) كتاب البيوع، باب تحريم الاحتكار



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #139
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (138)



    الإنفاق سنة كونية

    إن جذور الإنفاق ودوافعه ترجع إلى الفطرة الإنسانية السوية التي أودعها الله في نفس الإنسان، المسلم وغير المسلم، فقد عرفت العرب قبل الإسلام بالإنفاق على المساكين والضعفاء، وإكرام الضيف، واشتهرت فيهم شخصيات في هذا المجال كحاتم الطائي وغيره، وهذا يعني أن الفطرة السليمة هي التي تدفع صاحبها للإنفاق على الآخرين. لذا فإن المنفق حين ينفق ويكرم على من حوله، يشعر بسعادة وراحة، لأن الجانب الإيجابي في نفسه يغلب على الجانب السلبي، وهي أصل الفطرة التي فطر الناس عليها، أما إذا خالف الإنسان هذه الفطرة، واستأثر البخل والشح، فإنه يحرم من هذه السعادة في نفسه، كما يحرم ودّ الناس وثناءهم ودعاءهم.

    هذا بالنسبة إلى الإنسان، أما إذا أُمعن النظر في سائر المخلوقات والأشياء في هذا الكون، فإن هناك إشارات كونية واضحة على حقيقة الإنفاق وعلاقتها بالحياة، ومدى تأثيرها على الكائنات المحيطة الأخرى، فالأرض مثلاً تخرج الطيبات المختلفة بأمر الله حين تلقى بركات السماء من الأمطار والهواء والشمس، يقول تبارك وتعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}(1)،وحين تحرم هذه البركات يصيبها القحط والجفاف، ويصيب الناس الفقر والجوع.

    وكذلك الحال بالنسبة للدواب والطيور، فإنها تنطلق كل صباح سعيًا وراء رزقها من أجل بقائها وإطعام صغارها، وكلها أسرار وآيات في كون الله تبارك وتعالى.


    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ

    (1) [الحج:5]





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #140
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,593

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (139)



    أنواع الإنفاق (1-2)


    الإنفاق المشروع نوعان، الإنفاق الواجب والإنفاق المستحب:

    الأول: الإنفاق الواجب:

    وفيما يلي بعض وجوه الإنفاق الواجب:

    1-الإنفاق على الوالدين: في حالات العسر واليسر، فلا يسقط هذا الواجب بيسر حالهما أو غناهما، لأن الأصل في مال الولد أنه للوالد، لقوله ﷺ لأحد الصحابة: «أنت ومالك لأبيك»(1)، كما أخبر عليه الصلاة والسلام بأولوية من يُنفق عليهم من الناس الوالدين، فعن كليب بن منفعة الحنفي عن جده أنه أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله من أبرّ قال: «أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك، حقًا واجبًا ورحمًا موصولة»(2).

    2-الإنفاق على الزوجة: حيث إن المرأة إذا خرجت من بيت أبيها فإن نفقتها تنتقل إلى زوجها، في الملبس والمأكل والمسكن، والعطايا الأخرى، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ}(3).

    وقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام أعظم النفقة أجرًا تلك التي ينفقها الرجل على أهل بيته، فقال: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك؛ أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك»(4).

    3-الإنفاق على الأولاد: في مجالات الحياة المهمة، التي تتكون من خلالها شخصية الأبناء والبنات على أسس سليمة، وتنمّي المهارات والمواهب لديهم، ليكونوا لبنات صالحة في بناء المجتمع ورقيه وتقدمه، لا سيما في هذا العصر الذي تنوعت فيه العلوم والتخصصات، وتطورت آليات التحصيل المعرفي، وتوسعت فيه آفاق الأولاد والبنات في هذا الفضاء العلمي الواسع في السنين المبكرة من أعمارهم، الأمر الذي يفرض على الآباء الإنفاق على أولادهم حتى لا يتأخروا عن الركب الحضاري، ولكن في حدود ضوابط الشرع وأحكامه، يقول عليه الصلاة والسلام: «أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله»(5).

    4-الإنفاق على من تحت ولايته: من الخدم والعمال وغيرهم، فعن عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله هل لي أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا إنما هم بني؟ فقال: «نعم لك أجر ما أنفقت عليهم»(6).

    ولا بد هنا من الإشارة إلى شناعة الفعل وعظم الإثم للذين يخالفون أمر رسول الله ﷺ ووصيته نحو الخدم والعمال وكل من يعملون تحت أيديهم، فلا يعطونهم أجورهم، أو يتأخرون فيها أو ينقصون منها، أو يبخلون عليهم بالطعام أو يسكنونهم في أماكن لا تليق بالإنسان الذي كرّمه الله، يقول عليه الصلاة والسلام: «كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته»(7).

    6-الإنفاق في الزكاة: فالزكاة هي فريضة مالية فرضها الله تعالى للفقراء في أموال الأغنياء، وهي ركن من أركان الإسلام، وهي ليست إحسانًا أو منّة يتفضل بها المؤمن على أخيه المحتاج، وقد كثرت الأدلة من الكتاب والسنة على هذه الفريضة، يقول تبارك وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(8)، ويقول جل شأنه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}(9).

    ويقول عليه الصلاة والسلام في وصيته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب«

    كما توعد الله تعالى مانعي الزكاة بالعقوبة والعذاب فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}(10)

    ويقول عليه الصلاة والسلام: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه يعني بشدقيه ثم يقول‏:‏ أنا مالك أنا كنزك‏«(11)، وأما مصارف الزكاة فقد حددتها الآية الكريمة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(12).

    7-ويلحق بالزكاة زكاة الفطر من حيث الوجوب، يقول ابن عمر رضي الله عنهما: «فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة»(13).

    كما يلحق بالإنفاق الواجب بعض المجالات الأخرى، كالأضحية والعقيقة والكفارات والنذور وغيرها.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ

    (1)
    أخرجه ابن ماجه (ص328، رقم 2291) كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده. وأحمد (2/204، رقم 6902). وابن حبان (2/1420، رقم 410). والحديث حسن بشواهده.


    (2)
    أخرجه أبو داود (ص722، رقم 5140) كتاب الأدب، باب بر الوالدين. والنسائي (ص350، رقم 33) كتاب الزكاة، باب أيتها اليد العليا. وهو حديث صحيح.


    (3)
    [البقرة: 232]


    (4)
    أخرجه مسلم (ص403، رقم 995) كتاب الزكاة، باب فضل النفقة على العيال والمملوك.


    (5)
    أخرجه مسلم (ص403، رقم 994) كتاب الزكاة، باب فضل النفقة على العيال.


    (6)
    أخرجه البخاري (ص238، رقم 1467) كتاب الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر. ومسلم (ص405، رقم 1001) كتاب الزكاة. باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين.


    (7)
    أخرجه مسلم (ص403، رقم 996) كتاب الزكاة، باب فضل النفقة على العيال والمملوكة وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم.


    (8)
    [النور: 56]


    (9)
    [البقرة: 43]


    (10)
    [التوبة: 34-35]


    (11)
    رواه البخاري، برقم، ص.



    (12)
    [التوبة: 60]


    (13)
    أخرجه البخاري (ص226، رقم 1403) كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •