باختصار – الإسلا م بين غربتين

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بدأ الإسلامُ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بدأ فطُوبِى للغرباءِ»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بدأ الإسلام غريبًا» يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة عامة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «وإنَّ اللَّهَ نَظَرَ إلى أَهْلِ الأرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلَّا بَقَايَا مِن أَهْلِ الكِتَابِ». وقد أُمِرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتجلية هذه الغربة ومحوها، وتحمل عبء تبليغ الرسالة، والقيام لله -تعالى- أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر دون ملل أو كلل، حتى تزول غربة الإسلام ويعود بالعرب وعامة الناس إلى الحنيفية السمحة (ملة إبراهيم -عليه السلام)، فنزل الوحي أول ما نزل آمرًا النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا البلاغ، فقال -تعالى-‏:‏ ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْربين‏}‏ ‏(‏الشعراء‏:‏21 4‏)‏، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة: 67). وقد ارتبطت غربة الإسلام الأولى بكثرة المهددات والمخاطر، فبعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - ودعوته الناس إلى الإسلام، لم يستجب له في أول الأمر، إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة، وكان المستجيب له خائفا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى، وينال منه وهو صابر لله -عزوجل. واستمر الاضطهاد والتضييق على الثُلَّة المؤمنة في مكَّة ملاحقةً وتعذيبًا وتنكيلاً، والقرآن الكريم يحثهم على الصبر والعزيمة والثبات؛ لأن زوال الغربة مرهون بذلك؛ فضربوا -رضوان الله عليهم- أروع الأمثلة في التضحية للدين مما هو مسجل في تاريخهم وسيرهم. وبعد 13 عامًا من الصبر والثبات جاء الإذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالهجرة إلى المدينة، ثم جاء لهم الأمر بالجهاد في السنة الثانية من الهجرة؛ حيث أنزل الله -تعالى-: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} (البقرة:190-191)، فقويت شوكة الإسلام وتراجعت قوة المشركين، وضعف نفوذ قريش، وبدأت معالم زوال الغربة الدينية بالكلية بظهور الدين وقيام دولته وانتشاره بين الناس. ثم ظلت دولة الإسلام قوية عزيزة قرونًا عدة، تحكم مساحات واسعة من المعمورة، وتتصدر الحضارة العالمية في المجالات كافة، إلى أن تخلت الأمَّة عن مصدر هذه القوة، وضعف الإيمان والتمسك بالدين فيها، فضعفت بعد قوة، وذلت بعد عز، وأصبح المسلمون في مؤخرة الصفوف بعد أن كانوا في مقدمتها، وأصبحوا في ذيل القافلة الحضارية بعد أن كانوا قادتها. وها هي الأمة تعيش غربة ثانية في هويتها ودينها وشريعتها لتتحقق نبوءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغربة الإسلام بين أهله ودياره. وهذه الغربة الحاصلة للإسلام وأهله في زماننا لا يمكن دفعها إلا بالمنهج ذاته الذي زالت به الغربة الأولى، وذلك بالتمسك بالكتاب والسنة والثبات على الدين بعد فهمه وتعلمه ثم نشره ودعوة الناس إليه، كما قال الإمام مالك-رحمه الله-: «لن يُصلِحَ آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلَحَ أولَها». وهذه القاعدة تُعدُّ -بحقٍّ- كلمةً جامعة من جوامع الكلم، وقاعدةً من أعظم قواعد الشرع؛ لأنها تنصُّ على أنه لن يصلح آخر هذه الأمَّة إلا إذا سلكوا منهجَ الأوائل من الصحابة، وإذا كان من المعلوم أن أولَها إنما صلَح بالكتاب والسُنَّة، فلن يصلح آخرها إلا بالكتاب والسُنَّة.


اعداد: وائل رمضان