نقطة على السطر!!!
د. أكرم حجازي
10/1/2012
لم تكن حرب الخليج الثانية 1992 قد وضعت أوزارها حتى نزلت القوات الأمريكية على شواطئ الصومال، في عملية احتلال استعراضي من الطراز الأول. وما أن دخلت قواتها الغازية إلى البلاد حتى فاخر الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بتصريحه الشهير قائلا: « لدينا أفضل قوات قتالية في العالم!! والقدرة على خوض حربين متزامنتين في مكانين مختلفين»!!
ومع نهاية العام 2012 جاءت الاستراتيجية الجديدة، التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في 5/1/2012، على النقيض من سابقتها. فقد أشبعها مجاهدو أفغانستان والعراق من الهزائم والإهانات ما وسع أوروبا والصين لأنْ يكون لهما منها النصيب الأوفر.
فالاستراتيجيا الجديدة ركزت على ثلاثة محاور تقضي بـ :
• تقليص عدد القوات في أوروبا، وهو ما يعني أن تتحمل عبء الحماية، وتدفع الثمن كما دفعته الولايات المتحدة.
• خفض الإنفاق الدفاعي مع التركيز على آسيا، وخاصة انتشار القوات الأمريكية جنوب شرق الصين انطلاقا من أستراليا، لمراقبة النمو الاقتصادي الصاعد لصين فضلا عن، وهو الأهم، النمو العسكري النوعي الذي تشهده تكنولوجيا التسلح الصيني.
• الحفاظ على التفوق النوعي بديلا عن استراتيجيا الغزو العسكري المباشر، عبر اعتماد استراتيجيات الحرب الأمنية القائمة على (1) الاستخبارات و (2) نظم الحرب الرقمية و (3) القتال عن بعد عبر نظام الطائرات بدون طيار. وقد بدا الاختيار الأخير واضحا في بناء ونشر المزيد من قواعد الإطلاق الجوية لهذا النوع من الطائرات.
الجدل الأمريكي حول الاستراتيجية الأمريكية، بين الجمهوريين والديمقراطيين، بلغ مداه على متن الصحف الكبرى بين مؤيد ومعارض. وكذا الأمر حصل في أوروبا، وإنْ بدرجة أقل، بسبب المخاوف من رفع الحماية الأمريكية وترك أوروبا لمصيرها في وقت عصيب. لكن ما يعنينا، في العالم الإسلامي، هو ما رأت فيه صحيفة الـ: « إندبندنت - 6/1/2012» طيا لصفحة ما يسمى « الحرب على الإرهاب» لاسيما وأن: « أمريكا لم تعد تمتلك الموارد لخوض حروب خارجية ». لكن أمريكا لم تتخلّ عن خوض الحروب الأمنية بقدر ما أكدت الاستراتيجيا الجديدة اعتمادها بديلا عما سبق.
أما الغزو المباشر؛ فقد ثبت أنه لا أمريكا ولا غيرها بات قادرا على استباحة العالم الإسلامي كما درجت عليه العادة في عقود سايكس – بيكو الذهبية. إذ طالما تفاخر الأمريكيون وحلفاؤهم بما يمتلكونه من قوات جوية وبحرية الساحقة استطاعوا بواسطتها هزيمة أقوى الجيوش، ومسح مدن وقرى وأحياء عن وجه الأرض، وقتل الملايين من البشر دون أن يتكبدوا خسارة جندي واحد!! لكنهم في القتال التلاحمي ذرفوا دموعا غزيرة، وفقدوا آلاف القتلى واحتضنوا عشرات الآلاف من المعاقين والمرضى النفسيين في أوطانهم .. وبدلا من محو عقدة فيتنام انكسرت شوكتهم، وشعروا حقا بمدى المرارة والذل والإهانة.
وعلى المستوى الاقتصادي، وعلاوة على ما خلفته 11 سبتمبر وما تلاها من حروب وحشية، فقد وقعوا ضحايا لشر قيمهم ومنظومتهم الرأسمالية المتوحشة. فارتفعت الديون الأمريكية من 2- 3 تريليون دولار إلى 15 تريليون، أي بما يوازي إجمالي الناتج القومي العام، وكذا الحال بالنسبة لأوروبا التي فاقت ديونها مجتمعة ما نسبته 80% من إجمالي الناتج القومي. فهل اليابان والصين أفضل حالا؟ أبدا. فاليابان أسوأ حالا من أمريكا وأوروبا، خاصة وأن نسبة الديون إلى الناتج القومي بلغت 229.1% !!!! أما الصين، ذات الاحتياطات الكبيرة من العملة الصعبة، فقد بلغ معدل ديونها 68%، بما يوازي ديون إسبانيا التي شهدت مئات الساحات فيها احتجاجات عاصفة خلال الصيف الماضي. وفي المحصلة ثمة من الديون ما يزيد على 65 تريليون دولار في أقوى دول العالم. وكما يقول المثل: « لا تحكيلي ولا أحكيلك .. و لا تشكيلي ولا أبكيلك .. هذا حالي وهذا حالك ».
الاستراتيجية الأمريكية الجديدة ليست مناقضة في المحتوى والخيارات فقط بل حتى في المفاهيم والمقولات السابقة التي اتسمت بغطرسة غير محدودة. ولعل أبلغ مثال ذلك الذي ورد على لسان الرئيس بوش الابن، حين قال، غداة غزو العراق سنة 2003، بأن: « العالم صار أكثر أمنا بدون صدام»!!!! أما الرد على هذه المقولة المتعجرفة فقد جاء في سياق القراءة التي قدمتها صحيفة « نيويورك تايمز - 6/1/2012 » عن الاستراتيجية الجديدة، حين قالت بأن: « العالم أصبح مكانا خطرا للغاية»!!! وهي عبارة تعكس عمق الهزيمة الأمريكية في أوضح تجلياتها .. فهي موجهة للـ « المركز» وليس للعالم الإسلامي .. نقطة على السطر.
نشر بتاريخ 10-01-2012