د. عماد الدين خيتي
عند النظر في حركة القمر مع بقية الكواكب والنجوم، وما يترتب على ذلك من تكون الشهر القمري، يمكن النظر في الحقائق التالية:
1_ الفرق بين حركة القمر وحركة بقية الكواكب والنجوم:
سبق الحديث عن أنَّ للقمر حركة حول نفسه، لكن هذه الحركة تختلف عن حركة بقية الكواكب والنجوم حول نفسها، فبينما تدور الأرض والشمس حول محورها وباستقلالية عن بقية الكواكب والنجوم فإنَّ القمر منجذب إلى الأرض تابعٌ لها، وأثناء دوران الأرض حول محورها فإنَّه يدور معها، وبذلك يُكمل دورة كاملة حول نفسه، لكنه لا يدور حول نفسه بشكلٍ مستقل عن الأرض.
وبسبب طبيعة هذا الدوران فإنَّ للقمر وجهًا واحدًا يعرف أهل الأرض تفاصيله وهو الذي يقابل الأرض بشكلٍ دائم، أما الوجه الآخر: فلا يراه أهل الأرض إلا من خلال الصور التي تلتقطها سفن الفضاء.
2_ القمر مظلم، وهو عاكس لضوء الشمس:
القمر يختلف عن الشمس في الإضاءة:
فالشمس نجم غازيٌ مشتعلٌ مُضيءٌ بذاته، وهذا الاشتعال هو الذي يبعثُ الضوء منها.
أما القمر: فهو كوكب صلب مظلم، يستمد الضوء من الشمس، ويقوم بعكس الضوء المُنبعث منها.
لذا فإنَّ أشكال القمر التي يراها ساكن الأرض إنَّما هي بسبب انعكاس ضوء الشمس على سطح القمر، وبسبب طبيعة دوران كل من الشمس والأرض والقمر فإنَّ حجم هذا الانعكاس يختلف من يوم لآخر، وهو ما يُطلق عليه (أوجه) القمر.
ولعل هذا الاختلاف بين طبيعة القمر والشمس هو ما أشار إليه قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس: 5]، وقوله تعالى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) [نوح: 16].
وقد أورد أهل التفسير في معنى هاتين الآيتين الإشارة إلى الفرق بين الضوء والنور.
وبناءً على ذلك: فإنَّ شكل القمر ومنازله تختلف بالنسبة لمن هو خارج الأرض تختلف اختلافًا كبيرًا عمَّا يظهر لساكن الأرض.
وبالتالي: فإنَّ إثبات الشهر القمري ينبغي أن يكون من سطح الأرض، ولا يمكن أن يكون من الفضاء، سواء باستخدام الأقمار الصناعية أو نحوها، إلا فيما يتعلق بإجراء بعض القياسات والحسابات والتأكد منها؛ وذلك لاختلاف ظروف رؤية الضوء في تلك الأجواء بسبب طبيعتها الغازية، مما يؤثر في طبيعة رؤية هلال القمر.
3_ منازل القمر وأوجهه:
يسير القمر في دورته حول الأرض ببطء، وأثناء حركته تلك يقوم بعكس ضوء الشمس الواصل إليه، فيتيغر شكله المرئي بالنسبة إلينا، وأثناء حركته تلك يقطع مراحل معينة يُطلق عليها (منازل القمر)، وهي مراحل فلكية متعددة ينزلها بشكل يومي وتبلغ (28) منزلة، ثم يدخل القمر في طور (المحاق) و(الاستسرار) وهي التي يطلق عليها الفلكيون (ولادة القمر)، ثم يكون (الإهلال).
وهذه المنازل كانت معروفة عند العرب وغيرهم من الشعوب قديمًا.
أما أوجه القمر: فهي ما يظهر للرائي من شكل القمر بسبب انعكاس ضوء الشمس عليه، ويتغيَّر شكل القمر المرئي حسب كمية الضوء المنعكس، فيبدأ بـ (هلال) أول الشهر، ثم (التربيع الأول)، ثم (الأحدب المتزايد)، ثم (البدر) في منتصف الشهر، ثم (الأحدب المتناقص)، ثم (التربيع الثاني)، ثم (هلال) آخر الشهر، ثم يختفي ضوؤه، ليبدأ بعد ذلك شهر جديد.
ويُطلق على ظهور القمر في أول أيامه وفي آخر أيام الشهر اسم (هلال)، فإذا ازداد ضوؤه أطلق عليه اسم (القمر).
وهذا توضيحٌ لمراحل أوجه القمر:
http://www.aleqt.com/a/615386_192633.jpg
من اليمين: المحاق - هلال بداية الشهر - التربيع الأول - الأحدب المتزايد - البدر المكتمل - الأحدب المتناقص - التربيع الأخير - هلال نهاية الشهر
4_ الشهر القمري شهر طبيعي:
حيث إنَّ الشهر القمري يحدث بنظامٍ دقيقٍ متكررٍ كل شهر بعد (الاقتران) ثم (الإهلال)، وفق سُنةٍ كونيةٍ ثابتة لا تدخُّل للبشر في حصولها، وإنما يمكنهم مراقبة أشكال القمر المختلفة ومعرفتها وحسابها والتفريق بينها.
كما أنَّ تقسيم السنة القمرية لاثني عشر شهرًا هو تقسيم طبيعي ناتجٌ عن اكتمال (12) دورة للقمر.
وهذا ما دل عليه الشرع قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [التوبة: 36].
وعن أَبِي بَكْرَةَ _رضي الله عنه_ أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ: (السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ...) متفق عليه.
أما الشهر في التقويم الشمسي (سواء كان هجريًا شمسيًا أم ميلاديًا أم غير ذلك) فإنَّه شهرٌ اصطلاحي؛ لأنَّه لا حدَّ لأوله وآخره، فحركة الأرض حول الشمس سنوية، وإنما اصطلح على جعل شهر شمسي قياسًا على الشهر القمري لما ظهرت الحاجة إلى استخدام التقويم الشمسي، واختلفت الأمم في عدد أيامه، لكنَّها تدور قريبًا من الثلاثين يومًا بزيادة أو نقصان.
والأصل في التقاويم العالمية كما يظهر عند الأمم السابقة: التقويم القمري، وبينما اكتفت عدد من الأمم بالإبقاء على التقويم القمري، خلط البعض الآخر بين التقويمين، كما استغنت بعض الأمم عن التقويم القمري.
5_ طول الشهر القمري لا يزيد عن (30) يومًا، ولا يقل عن (29) فلكيًا وشرعيًا:
أمَّا فلكيًا: فدورة القمر حول الأرض تبلغ (27.321) يومًا، ثم يدخل القمر في طور (المحاق) و(الاستسرار) ويحدث (الاقتران)، ثم يكون (الإهلال) ويبدأ الشهر الجديد، ويستغرق ذلك ما بين يوم أو يومين، فيكون طول الشهر القمري إما (29) أو (30) يومًا، حسب وقت (الإهلال) الذي يختلف من شهرٍ لآخر لعوامل فلكية متعددة.
وأما شرعًا: فعَنْ ابْنِ عُمَرَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا_ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قال: (الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ) متفق عليه، أي هو يدور بين (29) أو (30) يومًا.
ولهذا: فإنَّ لأهل العلم كلامًا فيما يتعلق ببعض الأحكام الفقهية المتعلقة بطول الأشهر، مثل:
عدد الأيام التي يُطعم عنها من لم يستطع الصوم، عدد الأيام التي يصومها من كان عليه كفارة شهرين متتابعين، عدد الأيام التي يصومها من نذر أن يصوم شهرًا كاملاً، ونحوها.
6_ (الإهلال) لا يكون واحدًا في جميع الأرض:
فبالنظر إلى طبيعة دوران القمر حول الأرض، وقربه منها صعودًا وانخفاضًا، وارتباط حركته مع الأرض حول الشمس: فإنَّ الإهلال لا يكون واحدًا في يومٍ واحدٍ في جميع الأرض في جميع الأشهر:
أ_ فقد يحدث الاقتران أو الإهلال بالنسبة لبلدٍ ما بعد غروب الشمس.
ب_ وقد يحدث الإهلال بعد الاقتران لكن يغرب القمر قبل الشمس في بعض البلدان.
ج_ وقد يحدث الإهلال بعد الاقتران لكن يكون القمر تحت خط الأفق.
د_ وقد يحدث الإهلال بعد الاقتران لكن يكون القمر قريبًا من الشمس بالنسبة للرؤية، أو من خط الأفق: مما يجعل رؤيته متعذرة في بعض البلدان.
وغير ذلك من الاحتمالات المتعددة، مما يجعل الإهلال في بعض البلدان دون بعض، أو متفاوتًا بين البلدان، وهذا الاختلاف سبب في تعدُّد الاجتهادات في بدايات الشهر القمري، وما يتعلق بها من مسائل التقويم، وتوحيد الشهور القمرية.
7_ الشهور القمرية متشابهة فيما بينها:
ويمكن تقسيم هذا التشابه إلى:
أ_ تشابه فلكي: فجميع الشهور القمرية مُتشابهة فيما بينها بالكيفية نفسها: فسببها: دوران القمر حول الأرض، وكيفيتها: اقتران ثم إهلال.
ب_ تشابهٌ شرعي: فينبغي أن تنطبق الأحكام الشرعية نفسها على جميع الشهور من حيث ثبوت الدخول والخروج.
ويدلُّ على هذا التَّشابه ما يلي:
أولاً: أنَّ تقسيم السَّنة إلى شهورٍ مُعينةٍ، معلومة العدد، واضحة البداية والنهاية هو تقسيمٌ توقيفيٌ ربانيٌ، وأنَّ تغييره أو التلاعب به كفرٌ يستحق فاعله الذَّمَّ والعقاب، قال تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَه ُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [التوبة: 37].
والنَّسيءُ: التأخير، والمقصود به تأخير الشهر الحرام إلى ما بعده من الشهور، حيث كانت عادة العرب في الجاهلية أنَّهم يُغيرون في ترتيب الأشهر القمرية، فيستحلون الشهر الحرام، ويُحرمون الشهر الحلال بدلاً عنه، فذمهم الله تعالى بهذا الفعل.
ولا يمكن ضبط الأشهر الحُرم _بالإضافة إلى شهري رمضان وذي الحجة_ إلا بضبط بقية شهور السنة.
ثانيًا: أنَّ جميع الشهور يُتحَرَّى هلالها لإثبات دخولها:
فعَنْ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ قَالَ: (جَلَسْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَكَانَ نِعْمَ الْجَلِيسُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: عَنْ أَيِّ بَالِهِ تَسْأَلُ؟ قُلْتُ: عَنْ صِيَامِهِ، قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ مِنْ تَاسِعِهِ فَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، قُلْتُ: أَهَكَذَا كَانَ يَصُومُهُ مُحَمَّدٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ) رواه أحمد.
فابن عباس _رضي الله عنهما_ أرشد من يسأله عن كيفية صيام العاشر من شهر محرَّم إلى أن يتحرَّى هلال شهر محرم، فإن رآه فقد عَلمَ وثبتَ لديه أنَّ الشهر قد دخل، فعند ذلك يصوم اليوم العاشر منه.
وفيه دليلٌ على أنَّ الصحابة _رضي الله عنهم_ كانوا يتحرَّون دخول بقية الأشهر بناءً على أمر النبي  لهم بذلك.
ثالثًا: أنَّ جميع الشهور تتعلق بها أحكام شرعية وعباداتٌ مُعينة، وأداء هذه العبادات مُرتبطٌ بتوقيتٍ مُعين؛ لذا لا سبيل إلى القيام بها إلا بضبط دخول جميع هذه الشهور، ومن هذه العبادات:
أ / صيام الأيام البيض وهي أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر،
وتتوقف معرفتها على إثبات الشهر.
ب / الأشهر الحُرم، وتتوقف على معرفتها عددٌ من الأحكام.
د / ثبوت أشهر الحج وما يتبعه من معرفة شهر ذي الحجة ويوم عرفة.
هـ / صيام يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر المحرم.
و / صيام التطوع في شهر شعبان.
ز / صيام شهر محرم.
ح / صيام شهر رمضان.
ط / الامتناع عن صيام يوم الشك، وهو آخر يوم من شهر شعبان قبل رمضان، ولا تكون معرفة يوم الشك إلا بمعرفة دخول شهر شعبان.
رابعًا: أنَّ في معرفة الشهور وبداياتها ضبطُ الأوقات ومعرفة السنين، وهو راجعٌ إلى إدراك أهمية (التقويم) وأنَّه الغاية من معرفة علم الأهلة.
يتَّضح من جميع ما سبق أنَّ الشهور القمرية مُتشابهةٌ فيما بينها من الناحية الشرعية؛ لذا فما يصدق على أحدها يصدق على بقيتها فيما يتعلق في موضوع إثبات دخول الشهور القمرية.
لكن يظهر اقتصار بحث معظم الفقهاء والباحثين قديمًا وحديثًا على أحكام دخول وخروج شهر رمضان، وبدرجةٍ أقل شهر ذي الحِجَّة، ثم انتقل هذا الاهتمام والحصر لعموم الناس، أما بقية الأشهر وما فيها من مواسم عبادات فلا تكادُ تُذكر أو تُبحث، بل ذكر العديد من أهل العلم: أنَّ ضبط مواقيت بقية شهور السنة أمرٌ مستحب، وغير واجب.
وهنا يُطرح التساؤل التالي: لماذا انحصر النقاش في موضوع الأهلة ودخول الأشهر وإثباتها على شهر رمضان وحده؟
والذي يظهر: أنَّ لمكانة شهر رمضان _وما فيه من عبادات وأجواء روحانية فريدة_ في نفوس المسلمين أكثر من بقية الشهور، والاستعداد والترقُّب لبدايته قبل قدومه بمدةٍ من الزمن، وورود الأحاديث التي تأمر بالتَّثبُّت من بدايته، وتنهى عن الصيام قبله للاحتياط، أثر كبيرٌ في حصر الاهتمام بهذا الشهر عن غيره من بقية الشهور.
http://www.aleqt.com/2012/01/11/article_615386.html