بسم الله الرحمن الرحيم
هذه دراسة تحليلية لتطور مفهوم الاستحسان في المذهب الحنفي
مقدمة دأب الإمام أبو حنيفة رحمه الله على استعمال لفظ الاستحسان في مجالسه العلمية أثناء تقليب وجوه النظر في المسائل الفقهية، وتناقل عنه تلاميذه هذا الاستعمال. ولما بلغ هذا التعبير بعض الأوساط العلمية من غير الحنفية بالصورة التي نُقلت إليهم أنكروه، كما أنكر غالبية أصوليي المتكلمين فيما بعد كونه أصلا من أصول الاستنباط، وقام نقاش طويل حول مشروعيته، وحقيقته، وهل الخلاف فيه لفظي أم حقيقي؟
وهذا المقال لا يُعنى بالمباحث التقليدية للاستحسان؛ وإنما تدور إشكاليته حول تحقيق مفهوم الاستحسان عند أبي حنيفة: هل كان يستعمل هذا اللفظ بالمعنى الذي استقر عليه تعريف أتباع مذهبه؟ أم أنه كان يستعمله بمعنى آخر؟
وتكمن أهمية البحث في هذا الموضوع فيما يراه الباحث خلطا منهجيا نتج عن عدّ الاستحسان أصلا من أصول الاستنباط في المذهب الحنفي، على الرغم من عدم وجود حقيقة ظاهرة له عندهم بدليل اضطراب عباراتهم في بيان حقيقته. وتتجلى خطورة ذلك الخلط المنهجي في مظاهر: منها ما وصل إليه بعض علماء التخريج في المذهب من البحث في مسائل المذهب التي ذكر فيها قياس واستحسان: هل هي مسائل فيها رأيان: أحدهما القياس، والآخر الاستحسان، وأن العمل بالاستحسان أولى مع جواز العمل بالقياس؟ أم أنها لا يكون فيها إلا قول واحد هو ما وُصف بالاستحسان؟
ومنها ما شاع عند من كتبوا في الأصول من المعاصرين من عدّ الاستحسان مصدرا من مصادر الأحكام الشرعية (حتى وإن عدوه من الأدلة التبعية أو المختلف فيها)، وهو الأمر الذي أدى إلى لبس في فهم بعضهم إلى درجة انتقاد الأصوليين من مدرسة الجمهور واتهامهم بعدم تطوير أصل الاستحسان، وقتله في مهده، والدعوة إلى إحياء هذا الأصل لكونه من الجوانب التي ينبغي تطويرها في محاولة تجديد أصول الفقه. وليس الاعتراض هنا على المضامين التي حُمِّلت لمصطلح الاستحسان، وإنما الاعتراض على الخلط المنهجي الذي نتج عن جعل مصطلح غامض الحقيقة مصدرا من مصادر الأحكام الشرعية، مع كون ما أُدخل ضمنه أجزاء من مباحث أخرى أصيلة في علم أصول الفقه.
وتقوم فرضية هذا البحث على وجود لبس في تفسير استعمال أبي حنيفة لكلمة الاستحسان، وهو الأمر الذي أدى بالمتأخرين من أصوليي الحنفية إلى أن يذهبوا بالاستحسان إلى حدّ عدّه أصلا من أصول الاستنباط. أما المنهج المتبع في هذه الدراسة فيتمثل في النظر في التطورات التاريخية التي مرّ بها مفهوم الاستحسان، وتناولها بالتحليل والنقد بغرض استخلاص النتائج.