خاطرة (21) : قال رحمه الله 6/261 مسألة (768) : (وَالْمُتَابَعَة ُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَيَقْضِيهَا مُتَفَرِّقَةً وَتُجْزِئُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلَمْ يَحُدَّ تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَقْتًا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ بِخُرُوجِهِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ - نَعْنِي أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ قَضَائِهَا مُتَفَرِّقَةً ... )
أقول : أما قوله سبحانه : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فهو عام يشمل جميع الطاعات ، والنوافل لا تجب المسارعة إليها ، والعامل واحد فعلمنا أنه حض على المبادرة لا إلزم بها. وقال الإسنوي رحمه الله : "فالمقتضى أن المضمر لصحة الكلام لا عموم له كما سنعرفه في العموم، فيختص ذلك بما اتفق على وجوب تعجيله ولا يعم كل مأمور" (نهاية السول) ص 176 ، وفي نفسي من استدلاله هذا. والعمدة في رد الاستدلال بالآية حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قالت: «كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
ولو كانت المبادرة واجبة ما شغلها عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدل شغله صلى الله عليه وسلم لها عن البدار على عدم وجوبه.
فإن قيل : فما وجه الدلالة على جواز التفريق.
قلنا : لو جاز تأخير القضاء كله جاز تأخير بعضه من بابِ أولى ، وهذا بالنظر إلى أن سبب وجوب التتابع هو الأمر بالمسارعة في الآية السابقة.
أما قراءة {متتابعات} فلم يحتج بها ابن حزم ، بل أنكر الإستدلال بها ، فلا حاجة معه إلى الكلام عليها ، وإن كان أقوى من استدلاله ولا يرد عليه ما قدمناه في حديث عائشة.
خاطرة (22) قال رحمه الله 6/ 261 مسألة (769) : (وَالْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنْ عَرَفَ رَمَضَانَ لَزِمَهُ صِيَامُهُ إنْ كَانَ مُقِيمًا ... فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّهْرَ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ صِيَامُهُ وَلَزِمَتْهُ أَيَّامٌ أُخَرُ إنْ كَانَ مُسَافِرًا ، وَإِلَّا فَلَا. ... وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا -: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَهُ إلَّا عَلَى مَنْ شَهِدَهُ، وَبِالضَّرُورَة ِ نَدْرِي أَنَّ مَنْ جَهِلَ وَقْتَهُ فَلَمْ يَشْهَدْهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ مَعْرِفَةُ دُخُولِ رَمَضَانَ فَلَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ صَوْمُ الشَّهْرِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَوْمُ غَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
فَإِنْ صَحَّ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَعَلَيْهِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَرِيضِ فِيهِ وَالْمُسَافِرِ فِيهِ وَهُوَ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَيَقْضِي الْأَيَّامَ الَّتِي سَافَرَ، وَاَلَّتِي مَرِضَ فَقَطْ وَلَا بُدَّ؛ وَإِنْ لَمْ يُوقِنْ بِأَنَّهُ مَرِضَ فِيهِ أَوْ سَافَرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ)
أقول : في كلامه رحمه الله تناقض ، فإنه استدل على سقوط الصيام بعدم الشهود وأن الله لم يفرضه إلا على من شهد ، وقال (وبالضرورة ندري أن من جهل وقته فلم يشهده) وأن من كان هذا حاله فليس مكلفاً بصيامه ومن ثم ليس مكلفاً بقضاءه.
ولو صح هذا فكان يجب على من كان مريضاً أو على سفر أن لا يقضي ، فإنه لا يجب عليه صيام عدة من أيام أخر إلا إذا شهد الشهر لقوله سبحانه {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فإذا لم تجب على المريض أو المسافر عدة من أيام أخر إلا بشهود الشهر ؛ فلم يجب عليه شيء ، ومن لم يجب عليه شيء لم يجب عليه قضاؤه.
أما استدلاله بقوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ} فإن أراد بالشهود الرؤيا ، رددنا عليه بأن السنة أثبتت الصيام على من لم يرَ الهلال بشهادة العدول وبإكمال شهر شعبان ثلاثين ، وكلاهما لا رؤية فيه.
فإن قال : الآية عامة والسنة مخصصة.
قلنا : هذا لا يكون إلا بمفهوم المخالفة وهو مردود عندك.
وبيانه أن الآية دلت ـ على هذا القول ـ بأن كل من لم يشهد الشهر لم يصمه بمفهومها ، أما منطوقها فمختص بمن شهد ، والسنة لم تخصص بع من شهد بوجوب الصيام ، فإن هذا حاصل بالمنطوق لكل من شهد ، ولكنها خصصت بعض من لم يشهد بوجوب الصيام متى حصل له العلم بالحساب أو بإخبار العدول.
وعلى مذهبكم فالآية لم تدل على عدم وجب الصوم على من لم يشهد أصلاً ، إلا أن يكون ذلك عملاً بالأصل من عدم الوجوب حتى يأتِ الدليل.
وحينئذٍ نقول : قد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم على الناس الصيام حين شهد عنده أعرابي ومرة حين شهد ابن عمر ولم يعلل ذلك بكونه خبر ثقة ، والتعليل عندكم باطل ، فلا يعلل بذلك ، ولو جوزتموه وقلتم إنما أمر بذلك لكون الأعرابي وابن عمر ثقتان ، جاز لغيركم أن يعلل ويقول : إنما قبل خبر الثقتان لأن الظن بحصل بخبرهم دون غيرهم ، وعليه فكل طريق يحصل به الظن كافٍ لمن لا يقدر على أكثر منه .
وعليه فإن الأسير إن اجتهد وحصل له الظن بأنه شهد الشهر فقد دخل في قوله سبحانه {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وسقط عنه اعتبار الرؤيا والبحث عن خبر الثقة لقوله سبحانه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، ولا تكون هذه الآيات دالة على سقوط فرضِ الصيام ، بل على سقوط اعتبار الرؤيا والبحث عن خبر الثقة وإكمال عدة شعبان ، لأن المعسور وما ليس في الوسع المذكور في الآيات ليس هو الصيام ، بل هذا مقدور ، وإنما المعسور الطرق المذكورة في تحصيل الوقت ، فتسقط وليس عليه سوى التحري بما أمكن.
والله أعلم