وتَقَدَّمَ هَذَانِ الأَمْرَانِ مُقَرَّرَيْنِ لَكَ في صَدْرِ هَذَا الكِتَابِ: دِينُ المُرْسَلِينَ ودِينُ المُشْرِكِينَ. (وَعَرَفْتَ مَا أَصْبَحَ غَالِبُ النَّاسِ فيه مِن الجَهْلِ بِهَذَا) بالتَّوْحِيدِ والشِّرْكِ؛ فإِنَّ أَكْثَرَهُم مَا عَرَفَ دِينَ اللهِ الذِي بَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ؛ بَلْ أَكْثَرُ أَهْلِ البَسِيطَةِ ما عَرَفُوا الفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وهَذَا، بَلْ عَادَوا أَهْلَ التَّوْحِيدِ وعَابُوهُم وحَارَبُوهُم، واتَّبَعُوا دِينَ المُشْرِكِينَ كُلَّهُ بِسَبَبِ عَدَمِ الفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وهَذَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذِه الأُمُورَ الأَرْبَعَةَ مَعْرِفَةَ قَلْبٍ (أَفَادَكَ فَائِدَتَيْنِ) عَظِيمَتَيْنِ.
(2)(الأُولَى: الفَرَحُ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) إِحْدَاهُمَا: مَعْرِفَتُكَ دِينَ المُرْسَلِينَ واعْتِقَادُه والعَمَلُ بِهِ، ومَعْرِفَتُكَ دِينَ المُشْرِكِينَ ومُجَانَبَتُهُ والكُفْرُ بِهِ، كَوْنُ اللهِ عَلَّمَكَ دِينَ المُرْسَلِينَ ودَلَّكَ سَبِيلَهُم وعَرَّفَكَ طَرِيقَهُم.
وتَعْظُمُ النِّعْمَةُ أَنَّ الأَكْثَرَ صَارُوا مِن أَهْلِ الجَهْلِ بِهِ؛ فَإِنَّ النِّعْمَةَ تَزْدَادُ إِذَا كَانَتْ مُخْتَصَّةً بالْقَلِيلِ دونَ الكَثِيرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}الفَرَحُ مَذْمُومٌ كَمَا في آيَةِ: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}لَكِنَّهُ في الدِّينِ مَمْدُوحٌ ومَحْبُوبٌ ووَاجِبٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِه الآيَةُ؛ هو خَيْرٌ مِمَّا فَرِحَ النَّاسُ بِهِ وهو الدُّنْيَا؛ لو اجْتَمَعَتْ لأَِحَدٍ، مَعَ أَنَّها لاَ تَجْتَمِعُ لأَِحَدٍ، ولو اجْتَمَعَتْ فهي للزَّوَالِ والاضْمِحْلاَلِ ، ومَا كَانَ للهِ مَقْصُودٌ به وَجْهُ اللهِ فهو بَاقٍ لا يَزُولُ فأفاد أَنَّ الفَرَحَ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ وَاجِبٌ.
(وأَفَادَكَ أَيْضًا الخَوْفَ العَظِيمَ) هذه هي الفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ؛ يُفِيدُكَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِن الفَرَحِ العَظِيمِ الخَوْفَ عَلَى نَفْسِكَ ودِينِكَ، فَتَفْرَحُ بالدِّينِ والعَمَلِ بِهِ، وتَخَافُ عَلَى نَفْسِكَ مِن زَوالِ هَذِه النِّعْمَةِ وذَهَابِ هَذَا النُّورِ؛ وهي مَعْرِفَتُكَ دِينَ المُرْسَلِينَ واتِّبَاعُه وَمَعْرِفَتُكَ دِينَ المُشْرِكِينَ واجْتِنَابُه، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ في غَايَةِ الجَهْلِ بِهِ.
(3) (فَإِنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الإِنسانَ يَكْفُرُ بِكَلِمَةٍ) وَاحِدَةٍ (يُخْرِجُها مِنْ لِسَانِهِ) دونَ قَلْبِهِ (وَقَدْ يَقُولُها وَهُوَ جَاهِلٌ) لاَ يَدْرِي مَا تَبْلُغُ بِهِ مِن المَبْلَغِ (فَلاَ يُعْذَرُ بِالجهْلِ) وقد يَقُولُهَا وهو مُجْتَهِدٌ (يَظُنُّ أَنَّها تُقَرِّبُهُ إِلى اللهِ) زُلفَى (كَمَا ظَنَّ المُشْرِكُونَ) يَعْنِي في جِنْسِ شِرْكِهِم وتَوَسُّلِهِم إِلَى غَيْرِ اللهِ، قَصْدُهُم أَنَّهُم يُقَرِّبُونَهُم إِلَى اللهِ زُلْفَى، فَيَصْرِفُونَ لَهُم خَالِصَ العِبَادَةِ مِن أَجْلِ جَهْلِهِم، يَقُولُونَ إِنَّهُم يَسْأَلُونَ لَنَا مِن اللهِ وإِنَّهُم أَقْرَبُ مِنَّا إِلَيْهِ، ولَكِنَّ هَذَا هو عَيْنُ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ (خُصُوصًا إِنْ أَلْهَمَكَ اللهُ مَا قَصَّ عَنْ قَوْمِ مُوسَى مَعَ صَلاَحِهِم وعِلْمِهِم) لَمَّا مَرُّوا بِقَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُم (أَنَّهُم أَتَوْهُ قَائِلِينَ: {اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}) فَقَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِم:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}.(فَحِينَئذٍ) إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الرَّجُلَ يَكْفُرُ بِكَلِمَةٍ… إلخ
(يَعْظُمُ خَوْفُكَ وحِرْصُكَ عَلَى مَا يُخَلِّصُكَ مِن هَذَا وأَمْثَالِهِ) وَمِنْ أَسْبَابِ الخُلُوصِ مِن هَذَا الدَّاءِ العُضَالِ التَّفْتِيشُ عن مَبَادِئِهِ ووَسَائِلِهِ وذَرَائِعِهِ خَشْيَةَ أَنْ تَقَعَ فيه وأَنْتَ لاَ تَشْعُرُ، وكَانَ حُذَيْفَةُ بنُ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ:(كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي).
وَمِن أَسْبَابِ التَّخَلُّصِ مِن هَذَا صِدْقُ الابْتِهَالِ إِلَى اللهِ وسُؤَالُهُ التَّثْبِيتَ، وكَثِيرًا مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ:
((اللهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ وَالأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) كَمَا ابْتَهَلَ الخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلى اللهِ فَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ}وفِي الحَدِيثِ: ((مَنْ أَمِنَ اللهَ عَلَى دِينِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ سَلَبَهُ إِيَّاهُ)).
شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ