إذاً:من المهمات في هذا الباب قبل الدخول في الكتاب
ما قدم به الشيخ هذه الرسالة بهذه المقدمات المهمة.
أن تعلم أولاً:حقيقة شرك المشركين، تعلم حقيقة عبادة، أولئك وأنهم كانوا يتعبدون، لم يكونوا خالين من التعبد، كما ذكر في أول الكتاب: أنهم كانوا يصلون ويتصدقون ويحجون ويتفاخرون بالمعروف، لكن لم يكونوا موحدين.
وصاروا مشركين من جهة أنهم اعتقدوا في غير الله جل جلاله ، وأنهم تقربوا إلى تلك الآلهة بأنواع القرابين والعبادات، واعتقادهم في الآلهة كان من جهة الاعتقاد في الأرواح، الاعتقاد في أسماء تلك الآلهة، وتمثيل تلك الأسماء بأرواح طاهرة لها عند الله -جلّ وعلا- المقام الأعظم.
فإذا كان كذلك فمن أشرك بالله -جل وعلا- بأي نوع من أنواع الشرك الأكبر فإنه حابط عمله، ولو كان مصليًا صائمًا؛ لأنه كما قال جلّ وعلا: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وهو النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف بمن دونه؟
قال -رحمه الله- بعد ذلك: (ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله؛ ليشفعوا له) من المشركين من يدعو الملائكة كما قال جلّ وعلا في سورة سبأ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} لأنهم عبدوهم، فهل كانوا يعبدون الملائكة في الحقيقة؟
أجابت الملائكة بما أخبر الله -جلّ وعلا- به في قوله: {قَالُوا} يعني الملائكة {سُبْحَانَكَ}يعني: تنـزيهاً لك عن أن يكون معك معبود بحقٍّ، تنـزيهاً لك أن نستحق العبادة، تنزيهًا لك عن ذلك الظلم الذي وقع من الناس بإشراكهم الملائكة مع الله في الدعاء والعبادة {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} .
فحقيقة أولئك أنهم في اعتقادهم أنهم سألوا الملائكة، في اعتقادهم أنهم توسلوا بالملائكة، في اعتقادهم أنهم استغاثوا بالملائكة، لكن حقيقة الأمر أنهم استغاثوا بالجن، أنهم عبدوا الجن؛ لأن الجن تأتي وتتكلم عند ذلك الوثن، تتكلم عند القبر، تتكلم عند الصنم، فيظنّون أن الذي كلمهم الملك، يظنون أن الذي خاطبهم وخاطبوه وأجابهم وسألوه إنما هم الملائكة، وفي الحقيقة إنما هم شياطين الجن؛ لأن الجن مهمتهم أن يغووا الإنس؛ لأن إبليس قال لربنا جلّ وعلا: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} .
وقال -جلّ وعلا- عنه في آية أخرى: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} .فدل على أن الذين استثنى الله -جلّ وعلا- من أن يقعوا في حبائل إبليس إنما هم عباد الله المخلَصون، وهم الذين أخلصوا لله -جلّ وعلا- دينهم، فخلصوا لله سبحانه وتعالى، وأخلصهم الله -جلّ وعلا- من الشركة في العبادة والتوجه.
قال: (منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله) هذه مقدمات مهمة، يعني: لم عبدوا الملائكة؟هل رأى الناس الملائكة ؟ ما رأوا الملائكة.
هل اعتقدوا في الملائكة اعتقادًا وهم لا يعرفون حقيقة الملائكة ؟ لا، وإنما اعتقدوا في الملائكة لأنهم يعلمون أن الملائكة:
أولاً: أرواح طاهرة، صالحة، لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم لم يعصوا الله -جلّ وعلا- ولم يرتكبوا خطيئة.
والثاني: أنهم مقربون عند الله جلّ وعلا.
فإذاً:شرك المشركين بالملائكة كان من جهة شبهتين:
الشبهة الأولى: أنهم أرواح طاهرة صالحة لم تعص، وبذلك كانت أرفع من البشر، أرفع من المخطئين من العصاة، فإذا أراد العاصي أن يتقرب إلى الله ضعفت نفسه، فذهب يتقرب بأرواح طاهرة إلى الله، لظنه أنه لأجل معصيته لا يستطيع أن يصل إلى الله جلّ جلاله، هذا واحد.الثاني: لأجل قرب الملائكة من الله جلّ وعلا.
فتعلق المشركون بالملائكة لأجل هاتين العلتين: صلاح الملائكة، وطهرة أرواحهم، ثم لأجل قربهم من الله جل وعلا.
إذا تأملت وجدت أن هذه الحقيقة هي الموجودة في المشركين في كل زمان، ومع تغير الأحوال، وتغير المتعلَّقات.
إذا سألت النصارى: لِـمَ دعوا مريم، لِـمَ يستغيثون بمريم عليها السلام ؟ لِـمَ يستغيثون بالرسل، رسل المسيح؟
لِـمَ يستغيثون ببطارقتهم الأموات والأحياء؟
لِـمَ يصوّرون التصاوير ويجعلونها في كنائسهم، تصاوير الرجال الصالحين، أو مريم وعيسى؟
لِـمَ يعبد اليهود بعض البشر، ويتعلقون بأرواحهم؟
لِـمَ عبد قوم نوح تلك الأرواح؟
لِـمَ عبد قوم إبراهيم تلك الأصنام والأوثان؟
وهكذا إلى زمن المشركين في الجاهلية - جاهلية العرب- إلى زمننا هذا.
وجدت أن الشبهة هي الشبهة في الملائكة:
أولاً: أرواح طاهرة.
ثانيًا: قربها من الله جلّ وعلا.
فمن أراد أن يجعل لله -جلّ وعلا- شريكًا في العبادة يتوجه إليه بأي نوع من أنواع العبادة، فنقول له: الملائكة أحق بأن تكون آلهة؛ لأن الملائكة أرواح طاهرة بالاتفاق، وهي مقربة عند الله -جل وعلا- بالاتفاق:
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} .
الله -جلّ وعلا- يخبرنا عن الملائكة بأنهم صالحون لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم مقربون عنده، وأنهم يستغفرون للذين آمنوا، فسؤال الملائكة أولى من سؤال غيرهم؛ لأن طهرة أرواحهم متفق عليها، ولأن صلاحهم متفق عليه، ولأن قربهم من الله -جلّ وعلا- متفق عليه، ولأنهم يستغفرون عند الله للذين آمنوا باتفاق.
وهذا معناه إذا كان ذانك الشيئان صحيحين فمعنى ذلك: أن الشرك بالملائكة جائز، إذا كان التعلق بأرواح الصالحين واعتقاد أنه لقربهم من الله يكون لهم بعض العبادة، فمعنى ذلك: أن سؤال الملائكة والشرك بالملائكة جائز، والله -جلّ وعلا- أخبرنا في القرآن بأنه يقول للملائكة يوم القيامة: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}فتقول الملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}.
فمن أجاز الاستغاثة بالأولياء أو بالصالحين فقل له: أليست الملائكة أرواحاً طاهرة صالحة ؟ أليست الملائكة مقربة عند الله جلّ وعلا؟.
فإذا قال: بلى، هي كذلك.
فقل: فلِـمَ لا تقول بجواز الاستغاثة بالملائكة؟ لم لا تقول بأن الملائكة لها الأحقية في أن يطلب منها؛ لأن السبب الذي من أجله توجه للموتى من الصالحين والرسل والأنبياء متحقق في الملائكة؟
والعرب ومن قبلهم لأجل قوة أذهانهم في مسائل العبادة وحرصهم عليها جعلوا المسألة واحدة بدون تفريق، عبدوا الملائكة وعبدوا الصالحين وعبدوا الأنبياء؛ لأن القدر المشترك بين هؤلاء موجود، وهو أنهم صالحون وأرواح طاهرة ومقربون عند الله جلّ جلاله، لكن المشركون من هذه الأمة لم يعبدوا الملائكة، وإنما عبدوا من زعموهم صالحين، أو من هم صالحون في نفس الأمر.
وبهذا نعلم أن حقيقة شرك المشركين في كل زمان إنما هو راجع إلى هاتين الشبهتين:
-شبهة صلاح المستغاث به، صلاح المعبود.
- والشبهة الثانية: قربه من الله جلّ جلاله.
قال هنا: (لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له) هذه الغاية، ذاك سبب: لِـمَ ألّهوا الملائكة ؟
للسببين اللذين ذكرنا.
ما الغاية من سؤال الملائكة ؟ ما الغاية من عبادة الملائكة ؟ غايتها أن يشفع الملك عند الله للسائل.
نفهم من ذلك: أن سؤال أولئك للملائكة لم يكن عن اعتقاد بأن الملك يعطيه مباشرة، وأنه يستقل بالإعطاء، ويستقل بالإمضاء، وإنما هو اعتقاد في الملك بأنه لأجل صلاحه وقربه يملك أن يشفع عند الله، ولأجل قربه وجاهه لا يرد الله -جلّ وعلا- طلبه.
إذا تقرر ذلك؛ فبه تعلم أنّ ليس من شرط الشرك أن يكون السائل لتلك الأرواح وللأموات وللملائكة أن يعتقد أنها تنفع استقلالاً؛ كما زعم أكثر مشركي هذا العصر، أنهم - يعني عباد القبور وعباد الأوثان - لا يسألون الموتى باعتقاد أنهم ينفعون استقلالاً، وإنما يقولون: نسألهم لما لهم من المقام عند الله حتّى يشفعوا لنا.إذا كان هذا الأمر واقعًا من أهل العصر، ومن عصر الشيخ، ومن قرون، فالملائكة أشركت العرب بها وأشرك المشركون بالملائكة لأجل الشفاعة فقط، ومع ذلك قال الله جلّ وعلا: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}.فالغاية وإن كانت ربما تكون يعذر بها المرء، لكن الوسيلة كانت بالشرك، فالطمع في رضا الله -جلّ وعلا- هذه غاية طيبة، وكل العباد يطمعون في رضا الله جلّ وعلا، لكن لا بد أن يكون طلب رضا الله -جلّ وعلا- بوسيلة مشروعة، وعبادة الملائكة وعبادة الصالحين لا يحصل بها رضا الله جلّ وعلا، ولو كان الذي عبد قال: (ما عبدتهم إلا لأجل أن يعفو الله عني، وإلا فالله -جلّ وعلا- هو الذي يعفو، وهؤلاء وسائط).
نقول: هذا هو الذي من أجله حكم على أهل الإشراك بالشرك، كما قال -جلّ وعلا- في أول سورة الزمر: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}فإذاً: الغاية أن يقرب المسؤول السائل إلى الله زلفى، ليست غاية المشرك في الزمن الأول أن يعبد المسؤول لقصد أن يعبده، هذا غير موجود.
يعبد الصنم لغاية أن يعبد الصنم في ذاته، أو يعبد الملك لغاية أن يعبد الملك في ذاته، لا، وإنما يتقرب بالقرابين حتى يعطف عليه الملك ويرفع حاجته إلى الله، يتقرب بالقرابين للميت حتى يعطف عليه الميت بروحه، وكلما تقرب أكثر ازدلف منه وقرب منه، فيرفع حاجته إلى الله جلّ وعلا.
فإذاً: غاية المشركين في عبادتهم غير الله -جلّ وعلا- أن يصلوا إلى الله جلّ جلاله.
وهذه هي الغاية الموجودة في أهل هذا الزمان: يقولون ما نعبد هذه، ما نتوجه هذه التوجهات لأننا نعتقد في هذه الأموات، أو في الأرواح أنها تملك الأشياء استقلالاً - حاشا وكلا - وإنما لأجل أن تتوسّط عند الله جلّ وعلا، فهي أرواح طاهرة، وهم مقربون عند الله.
نقول: هذا هو عين شرك الأولين، هو عين الإشراك الذي وقع في كل أمة بُعث إليها رسول ينهاهم عن الشرك، ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.
مهم أن تفهم الحقائق؛ لأن تغير الصور وتلبيس الأمور وتسمية الأشياء بغير اسمها هذا لا يغير الحقائق في الشرع، وما جاء التلبيس إلا من جهة الألفاظ: أن تُسمى الأشياء بغير اسمها. قال بعد ذلك في صورة ثانية، مثل آخر: قال: (أو يدعو رجلاً صالحًا مثل اللات) قال جلّ وعلا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} وفي قراءة {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى} .واللاتَّ: رجل - كما قال ابن عباس- كان يلتُّ السويق، رجل صالح كان يلت السويق ويطعمه الحاج، وكان يجلس يفرِّق ذلك عند صخرة، فلما مات جعلوا قبره في ذلك المكان، وصاروا يتناوبون عليه لصلاحه، ويستغيثون به ويسألونه؛ لأجل أنه أمضى حياته في صلاحٍ، وفي نفعٍ للناس، فاعتقدوا فيه.
فهذا اللاتّ أشرك به العرب؛ لأجل أن روحه طاهرة، وأن أعماله في الدنيا صالحة، فقالوا: هو إذاً مقرب عند الله جلّ وعلا، فإذا كان كذلك فلنتقرب إليه بالقرابين بالذبح والنذر، فلنستغث به، فلندعوه ليرفع الحاجات إلى الله جلّ وعلا.
وهذا هو عينُ شرك المشركين بالآلهة المختلفة، بالموتى، بالأنبياء، بالحسين، وبزينب، وبالبدوي، وبالعيدروس، وبعبد القادر، وأنواع الموتى من الأنبياء والصالحين لأجل هذه الشبهة: الصلاح، والقرب من الله جلّ وعلا.
قال: (أو نبيًّا مثل عيسى) مثّل الشيخ -رحمه الله- بثلاثة أمثلة:
الأول:الملائكة.
الثاني: رجل صالح (اللاتّ).
الثالث: الأنبياء (عيسى).
وعيسى اتُّخذ إلهًا يُسأل ويُطلب منه، ويُستغاث به، وتنـزل الحاجات به، النصارى مختلفون في عيسى: إمَّا أنه يرفع الحاجات إلى الله جل وعلا، ولا يردُّ الله -جلّ وعلا- طلبه، كما هو اعتقاد طائفة من النصارى، أو لأنه تشخُّصٌ للإله، أو كما يقولون أحد الأقانيم الثلاثة، يعني صفة وصورة من صور الإله في بعض أحواله حيث اتّحد - كما يقولون - اللاهوت في الناسوت في هذه الصورة.
فصورة حلول الإله في البشر متمثلة في عيسى عند طائفة من النصارى، فالنصارى يستغيثون ويسألون عيسى: إما على أنه بعض الإله، أو على أنه مقرب عند الله الواحد، ويُسأل لأجل قرب مقامه عند الله.
فهذه ثلاثة أمثلة:
1-استغاثة، أو تأليه للملائكة، بسؤالهم ودعائهم والاستغاثة بهم، وإنزال الحاجات بهم، والتعلق بهم، ورفع ما يريده العباد عن طريقهم، يعني: أن يكونوا وسطاء.
الثاني:بالرجال الصالحين، مثل:اللاتَّ.
والثالث: بعيسى.
فهذه الأمثلة الثلاثة إذا تأملتها وتدبرت وفهمت: لِمَ أشرك من توجه إلى الملائكة؟
وبم، وكيف أشرك من توجه إلى الرجل الصالح (اللاتَّ)؟
وبم أشرك من توجّه إلى عيسى؟علمت حقيقة الشرك، ولم يلبس عليك بعد ذلك ملبس، أو يقول قائل: هذا الذي يمارَس اليوم ليس بشرك، وإنما من سماه شركًا أكبرَ مخرجًا من الملة تشديد من المتشددين، أو من الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- ودعوته ومن اتبعه على ذلك؛ لأن حقائق الأشياء هي التي تفصح لك عن الأمور.
وعرفت قوله: (أو نبيًّا مثل عيسى) دليله: قول الله -جلّ وعلا- في سورة المائدة، في آخرها: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} مع قول عيسى عليه السلام: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} قال بعد ذلك: (وعرفت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتلهم على هذا الشرك).
لم قاتل النبي -عليه الصلاة والسلام- قريشًا والعرب؟
لأنهم كانوا مشركين . بم كانوا مشركين؟ بما ذكرنا سالفًا، بعبادة غير الله.
هل كانوا يعبدون غير الله لقصد ذلك الغير؟ أم لأجل الوساطة والتوسّل؟
لأجل الوساطة والتوسل، بنص القرآن: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}لم يكونوا يتوجهون للاتّ وهو الرجل الصالح، أو للأنبياء؛ لقصد أن يتوجهوا إليهم استقلالاً، لا؛ إنما كان لأجل التقرب إلى الله جلّ وعلا. فكلٌ يريد التقرب إلى الله، وهذا التقرب كان عن طريق الواسطة، ولأجل هذه الواسطة صاروا مشركين لمّا توجّهوا إلى الموتى، وإلى الغائبين، وإلى الملائكة، بأنواع العبادات. قال: (وعرفت أن رسول الله -صلى عليه وسلم- قاتلهم على هذا الشرك) قاتلهم واستحل دماءهم وأموالهم، وجعل من يقاتل أولئك شهيدًا إن مات في قتالهم، وجعله موحّدًا، وأولئك جعلهم مشركين، ومن قُتل من أولئك شهد عليه بالنار، ومن قتل من المسلمين شهد له بالجنة، إن كان قتاله لله، وهكذا.
لم قوتلوا؟ وبم استُحِلَّت أموالهم ودماؤهم؟لأجل أنهم مشركون ذلك الشرك.ولهذا الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- قال في رسالة له: (وعرضت ما عندي من التوحيد على علماء الأمصار، فوافقني طائفة، والأكثرون وافقوني على التوحيد، لكن عظم عليهم التكفير والقتال).وهاتان المسألتان ترتيب حتمي لما قدمناه، يعني: إذا ثبت أنَّهم مشركون فلا بد أن تترتب أحكام المشركين، لابد أن يقاتلوا مع القدرة على ذلك، وإذا قوتلوا لا بد أن يكون هناك تميُّز: هؤلاء موحّدون، وهؤلاء مشركون، ولا بدّ أن يكون هناك نشر للتوحيد، ودحض للشرك، وإقرار لما يحب الله جلّ وعلا، ويرضى من الإخلاص، وعبادته وحده لا شريك له في القتال. قال: (خالَفوني في القتال والتكفير) لأن التخلص من تأثير الناس في حقائق الأشياء يحتاج إلى علم راسخ، وإلى تجرد من علائق الناس وشبهاتهم.الشيخ رحمه الله في هذه الرسالة يريد منها أن يكشف الشبهات، ويبيّن أن التوحيد هو حق الله جلّ وعلا، وأن ما يمارسه الناس في هذه الأزمنة بما يسمونه الاعتقاد، والتعلق بالأرواح، ونحو ذلك، والاعتقاد في الميت، ويسمونه (السيد) أن هذا هو عين الشرك، يترتب على ذلك بقية الأحكام من التكفير أولاً، ثم قتالهم على أنهم كفار ومشركون.وشرح الله -جل وعلا- صدر الشيخ، وصدر أئمة الدعوة في أول هذا الزمان، حتّى انتشرت دعوة التوحيد - ولله الحمد - بهذه الدعوة المباركة، وبتأييد مَنْ نصرها وأيّدها بالسيف والسنان، وهو الإمام المجاهد محمد بن سعود رحمه الله تعالى، وكذلك أبناؤه من بعده، وبقيت هذه الدعوة في الناس إلى اليوم لتساند السنان مع القرآن في ذلك، وهذا لا بد منه؛ لأن الدعوة لا يمكن أن تنتشر إلا بقوة تحميها.شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- دعوته وعلمه كان واسعاً ونشر التوحيد، ودعا إلى ذلك، وصنّف المصنّفات، لكن لم يكن له سيف يحميه فسجن، ولم يتمكن من نشر التوحيد في الناس، لكن الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- أيده الله -جلّ وعلا- بالأئمة من بيت آل سعود المبارك، ونشروا هذه الدعوة في الناس، وبقيت إلى هذا الزمان.
الناس الذين اعترضوا على هذه الدعوة قالوا: هذه الدعوة قاتلت الناس، وتجد في كتب تواريخ نجد يقولون: قاتل المسلمون المشركين، ويستعظم الناس كيف يسمى أتباع الدعوة مسلمين؟وكيف يسمى الآخرون مشركين؟
نقول:هذه حتمية؛ لأن توحيد الله ليس فيه مجاملة، إنما هو حق وباطل {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ}.فلا بد من ترتب أحكام التوحيد والشرك في الأرض، فإذا وجد الشرك فلا بد أن توجد الأحكام المناطة بذلك، وهو أن يوصف أولئك بأنهم مشركون، وأنهم كفار، ولا بد من قتالهم مع القدرة، حتى يكون الدين كله لله جلّ وعلا.
قال الشيخ رحمه الله هنا: (وعرفت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده؛ كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}). قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، يعني: إلى التوحيد، إلى ألا يعبد إلا الله، ألا يتوجهوا بشيء من أنواع العبادة إلا لله -جل وعلا- وحده.وهذه الرسالة موضوعة لبيان حقيقة التوحيد، وكشف كل شبهة أدلى بها خصوم الدعوة في مسائل التوحيد، وبيان أن هذا الأمر حق لا لبس فيه.ومن درس التوحيد حق الدراسة انشرح صدره لهذا الأمر أعظم انشراح، وصار في قلبه من تعظيم الله جل وعلا، وتعظيم دعوة التوحيد ما به يستطيع أن يرد على أي مبطل في هذا الأمر.
ولهذا يُذكر أن أحد العامة من أتباع الدعوة، قال له بعض المشككين: أنتم متعصبون للشيخ محمد بن عبد الوهاب تعصباً؛ لأنه من نجد وعالم، وكذا، تتعصبون له.
قال هذا العامي لذلك المدلي بهذا الكلام: قال: لو خرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب من قبره وقال: ما دعوتكم إليه، وما ذكرته لكم غير صحيح، ما قبلنا كلامه، واستمررنا على التوحيد؛ لأنهم ما أخذوا به تقليداً، وإنما أخذوا به عن حجة بينة واضحة.
فلو أتى آتٍ وقال: هذا غير صحيح، مثلاً: ضلّ ضالٌّ كان من الموحدين، كان من أتباع السلف، كان من السلفيين، ثم بعد ذلك انقلب إلى شيءِ آخر، انقلب إلى طائفة المشركين أو المبتدعة، فهل يشكُّ الموحّد فيما عنده من الحقّ؟
لا؛ لِمَ؟ لأنه عرف الحق بدليله، عرف الحق بالنص من الكتاب والسنة وفعل سلف الأمة، والعلماء في هذه الأمة ليسوا كعلماء النصارى، يُقبل ما يقولون هكذا مطلقًا، بل هم أدوات لفهم نصوص الكتاب والسنة، ليسوا مستقلين، ما يقال: يطاع فيه دون نظر، إن قال الشيء وبين الحق قبلت به الأمة - والأمة لا تقر أحدًا على ضلالة - فإذا ضلّ ضالٌّ بينت الأمة ضلاله - ولله الحمد - لأنه لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله.
هذه المقدمات من المهم أن تراجعها مرة تلو الأخرى؛ لأن بها بيان ما في هذه الرسالة، نسأل الله -جلّ وعلا- لي ولكم الانتفاع بما سمعنا والانتفاع بما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.